المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( الزِّن في الشعر الياباني ) د. شاكر مطلق



الدكتور شاكر مطلق
09/04/2008, 10:29 AM
الزِّنُّ
ZEN
في الشّعر الياباني
الزِّن – التّانْكا – الهايْكو
ZEN- TANKA - HAIKU




د. شاكر مطلق
دراسة وترجمة ( عن الألمانية )

لوحة الغلاف :


( شعر " هايكو " بريشة الشاعر الكبير " ماتسو باشو " ) يقول النصُّ :

في " كيوتو " أنا ( الآن )
ولكن عندما أَسمع صُراخَ طائر الليل
أحِنُّ إلى " كيوتو " .





مدخَل إلى الشعر الياباني

على الرغم من حب الشعب الياباني بشكل واضح للشعر وبخاصة الغنائي منه ( Lyrik ) وحفظه أجيالاُ عديدة عن طريق السمع أو الكتابة ، إلاّ أنه لم يبق من أشكال النظم ، التي هي في اليابانية قليلة في الأصل ،ما عدا شكل
( التانكا ) الشعري – وهو يتألف من واحد وثلاثين مقطعاً صوتياً في أبيات خمسة . وشكل (الهايكو) الذي تطور منه – ويحتوي على سبعة عشر مقطعاً صوتياً – في ثلاثة سطور فقط .
وكما هو معروف عن الفن الياباني ، بشكل عام ، الذي هو تكثيف عجيب في الرسم والنحت على الخشب أو العاج أو البرونز ويحتوي ، برغم صِغَره ، على أعلى القيم الجمالية ، وكما هو معروف أيضاً من طريقة ترتيب الأزهار والأشجار المُقزّمة ( (Bonsai كذلك هو الحال في الشعر الياباني الغنائي المكثف الذي يجد هنا وهناك : على زاوية لوحة أو غمد سيف مكاناً متواضعاً لينقش عليه .
قليلة هي القصائد الطويلة المسماة بـ ( ناغوتا – Naguta ) التي لا مكان لها في زاوية لوحة على الإطلاق ، لكِبر المساحة التي تشغلها . وكما ارتكزت الحضارة الأوروبية على دعائم ثلاث وهي :
1- التراث الشعبي من جرماني – كِلْتي – روماني - سلافي
2- التراث القديم : فكر إغريقي – قانون روماني .
3- المسيحية .
كذلك تستند الحضارة اليابانية إلى دعائم ثلاث وهي :
1- شِينتو (Shinto )
2- الكُنفوشية : ( Konfuzianismus )
3- البوذية : ( Buddhismus
من الشِّنـتوئيّة تأتي العلاقة الوثيقة مع الطبيعة والانصهار فيها، بجبالها وأنهارها وبحارها ، بآلهتها – بالبيت القيصري – الأجداد – الحيوان والنبات في الوطن .
( الشينتوئية ) ، هي أول وأقدم الطقوس ( الدينية ) اليابانية ، وتشكل نوعاً من أنواع الطقوس الشعبية التي تُضفي أهمية خاصة على قوى الطبيعة ، بدون أن تقدم تفسيراً فلسفياً للكون وإنما تدعو وتشجع على الامتزاج بالطبيعة .
ومن الكنفوشية : تستمد الارتباط العائلي والواجب في الوفاء والطاعة حيال ذو ي الأمر، وبالتـحديد من
( الطَّاويّـة ) – Tau - التي تأتي بالأهمية بعد الكنفوشية – في المعتقدات الصينية القديمة – وتعني ( الطريق ) أي طريق الطبيعة والاتزان بين عناصر الكون المتصارعة ، عدا عنصرين أساسيين غير متصارعين متفاعلين في جدلية أزلية وهما ( اليِن ) – العنصر الأنثوي الإيجابي – وعنصر ( اليانغ ) – العنصر الذُّكوري السّلبي الرافض . والوئام الذي يسود بينهما ، والذي يمكن الوصول إليه عبر الطريق ( طريقة طبيعية ) ، تأتي بالسلام والاتزان والتناسق ، ولا يجب التحدث عنه كثيراً .
وقد فصّلتُ شرح هذه النقطة بالذات ، في دراسة نشرتها الآداب الأجنبية ( العدد 43 – 44 تاريخ 1985 / 12دمشق ) حول شعر ( ماوتسي– تونغ ) وقصيدتي ( تسو و الشّي ) الصينيتين القديمتين .
أما البوذية : وبالتحديد بوذية ( الزّن ) – Zen – التأملية ، التي تتمثل في تجربة الاستنارة ( بودي ) التي أوصلها ( بوذا ) ، فهي تهدف إلى إيقاظ ( بوذا ) المتواجد في النفس البشرية ، الأمر الذي يؤدي إلى تحقيق الذات من خلال الحياة والعمل اليومي عن طريق ضبط النفس والولوج إلى جوهر الأشياء بالحدْس وليس بالعقل ، حيث تُفضي هناك إلى الكون الكامن في الأشياء . وهو التعبير الصادق عن الرؤية العميقة ، ومنها يأتي شعور التّوحد مع كل شيء حي : العطف على المخلوقات الوَضيعة ، المعرفة بالفناء والديمومة في آن واحد معاً .
هذه العناصر الثلاثة ، إلى جانب عوامل شتى ، غالباً غير منطوقة ، كالتبسيط في الأشكال ، الذي يصل إلى حالة متقدمة في الفن والقصيدة والبناء ، والتي تَزامَن ظهورُها في القرن السادس عشر مع ظهور قصيدة ( الهايكو ) ، تجد التعبير عنها في الشعر الياباني .... ولكن ... لا تبَحْ بسرّكَ للرّيح !

الحقيقةُ العليا لا شكل لها .
فلو لم يكن لها شكل البتّـةَ
لا توجد عندها إمكانيةٌُُ
لتُظهِر نفسَها كحقيقةٍ .

المبدأ الأعلى لا كلام له
فلو لم يكن هناك كلماتٌ البتّةَ
مِن خلال ماذا يمكن لهُ
أنْ يتجلّى كمبدأٍ ؟

هذه القصيدة ،المكتوبة على طريقة ( الزِّن ) منقوشةٌ على تمثال حجري " لبوذا "من العام 746 م .
قد يقول البعض : حسناً لقد فهمنا النصَّ هذا ولكن ماذا يمكن أن تقدم أو تؤخر كلمة (الزّن ) تلك لي وللقصيدة ؟
الواقع أن إدراج كلمة ( زِنْ ) لم يكن اعتباطياً ولا ( فذلكة) كما قد يتبدَّى للبعض ، وإنما هي شارةٌ - رمزٌ ( كود) أقدّمها للعارف لأنه حتماً سيقرأ ، من خلال هذا المفتاح المعرفي ، النصَّ بشكل مغاير وبأكثر عمقاً وأشملَ أفقاً . كما أنني أعتقد أن علينا بذل جهد أكبر لفهم أدب الشعوب الأخرى وفلسفاتهم وبخاصة فلسفة الشرق الأقصى والمتوسط ونحن أقرب إليهم تاريخياً وفكرياً من فلسفة الغرب ، إن صحّت التسمية الآن ، بعد ما بات يسمى : " النظام العالمي الجديد" .
لو أنني ذكَرتُ طريقةَ ( السّريالية ) _ أندريه بريتون _ أو الوجودية ( ج .باول سارتر ) ... إلخ لفَهِم الجميع فوراً ماذا يعني ذلك ، ولكنهم يتهمونك بالغموض إن تحدثت عن رمز ومعتقد يعيشه ، حتى الآن مئات الملايين من البشر الذين هم جيراننا أيضاً بل و يأخذون عليك، ربما ، استعمالك كلمة ( إنكيدو) وهو من صميم تراثنا الرَّافدي القريب جغرافياً ونفسياً منا وإن كان ينتمي إلى الزمن القديم.
ولكن ماذا عن ( الزِّن ) هذا ؟
يمكن أن أتحدث وأن أكتب الكثير حوله بالطبع ، ولكنني سأكتفي بتقديم شرحٍ بسيطٍ وسريعٍ ، لنرى كيف يخدم هذا الشرحُ فهمنا للنص المذكور أعلاه بشكلٍ أفضل :
كلمة الزن ( Zen ) هي اختصار لكلمة " زينَّا " ( Zenna ) وهي القراءة اليابانية للكلمة الصينية
( شا ، أن )(an ، Ch) التي هي بدورها تعبير عن كلمة ( دْهيانا ) ( Dhyana ) وهي من اللغة السَّنسكريتية ( الهندية ) المعبرة عم جمع الأفكار والغوص في التأمل .
وقد نشأت فلسفة الزن _ وهي في جوهرها درب الكشف ، الإشراق أو التنوير وتعلُّم ممارسة الجلوس في هدوء كامل والغوص في التأمل ، وهي ليست في الواقع ( دين ) أو عبادة ، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك .
نشأت هذه الفلسفة أو المدرسة القائمة على مبادئ بوذية _ ماهايانا ( Mahayana ) في الصين في القرن السادس والسابع الميلادي ، من خلال وصول بوذية ( دْهيانا _ Dhyana ) عن طريق بودي _ هارما ( قادمة من الهند ) وتفاعلها مـع ( التاوية - الطّاوية ) - ( Taoismus ، وإذا تساءلتَ الآن عن( التَّاوية ) هذه فعليك أن تعرف أنها أقدم كتب فلسفة الصين المكتوبة بقالب شعري في واحد وثمانين فصلاً ، من القرن السادس قبل الميلاد ، من قِبَل ( لاوتان ) ولقبه ( لاوتز ) ، وهي مترجمة ومشروحة بالعديد مِن لغات العالم منذ القرن التاسع عشر ، وحتى باللغة العربية هناك ترجمة بعنوان ( التَّاو _ نصوص مِن الفلسفة الصينية القديمة ) ترجمها المرحوم " هادي العلوي " وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1981 عن ( دار ابن رشد ) في بيروت . وتستطيع هناك أن تقرأ ، وبالعربية ، كيف انتقلت التَّاوية مِن مبدأ فلسفي خالص إلى(ديناً طقوسياً مشوباً بالفلسفة والتَّصوف ) وأنها ديانة الخلاص للفرد الصيني الرازح تحت ثقل ( نفقات ) طقوس الكنفوشية ، باهظة التكاليف ، وأنها تعني ( الصِّراط ) وتصبح ( المبدأ والمآل ) .
عليك الآن أنْ تعود إلى آخر كلمة ترجمتُها للقصيدة أعلاه ، فتجد أمامك ( المبدأ ) وقد اتخذت بعداً آخر وعندما تعرف أنّ ( التَّاو ) يشكّل ( القانون الطبيعي أو الكيان الذاتي للأشياء ) ويشبه اللَّوحة، غير المنقوشة على حد قول( لاوتان )، وأن(التَّاو ) مقابلٌ لمفهوم ( الباري ) والعقل الأول والمحرك الأول وطاقة فيضٍ ( أفلوطين الأول _ أرسطو _ فلاسفة الإشراق المسلمين ) _ وذلك على الرغم مِن عدم تعامل ( التَّاو ) مع الألوهية _ عندها سينفتح أمامك أفقٌ أبعد لفهم أشملَ ، وبما أن مبدأ الشيء _ حسب الفلسفة الإسلامية _ هو طبيعته ، فإن( التَّاو ) يستقر في صميم الكون ، داخل المجرّات وليس خارجها تستجيب له الأشياء تلقائياً ولكن ليس في ذات ( التَّاو ) بل في الاتجاه الذاتي إلى الحركة مِن خلال المبدأ _ المبدأ مرة أخرى _ وبالتالي ... فإن بقاء ( التَّاو ) وسط المتغيرات مرهون بدأبه الأزلي على التغيير وليس في الثَّبات _ كماهِيَّاتِ أرسطو _ وبالتالي أيضاً فإن الكائنات هي استطالات للمبدأ(! ) وهي لا تُنقِص منه شيئاً . ومِن هذا التناوب في قوة استطالة المبدأ ( ! ) مِن هذا الفعل المتناوب الخفي تنشأ السماء والأرض والهواء الأوسط ( تْشي ) وعندها يتدخل مبدأ هام في الفلسفة الصينية القائمة على التوازن الكوني مبدأ ( اليِن ) و( اليانغ ) _ السالب والموجب _ الذكر والأنثى ... إلخ .
إذن ( فالمبدأ ) ليس روحياً بقدر ما هو مادي لا يُدرك ، بسبب صِغَره المفرط ، وهو الكائن المادي السابق للمادة الأولى وقد أحسَّ الأستاذ المرحوم " هادي العلوي " عندما شبهه ( بصفة البسيط ) عند الشيرازي .
طبعاً لن يتيح لي المكان الآن الاستطراد في شروحات أكثر حول هذا الموضوع ، بل حول كلمة واحدة في القصيدة ، وإنما أردت من خلال ذلك _ كما فعلت ذات مرة عندما قدمت في عدد خاص بالأدب الصيني مِن الآداب الأجنبية العدد 43 _ 44 / 1985 ص201 شرحاً مطولاً لكلمة تعني( السلام ) وهي في الواقع أبعد بكثير ، لأن لها علاقة بمفهوم( التوازن ) _ أردت أن أعطي مثالاً للمتعة والمعرفة التي يمكن لنا أن نستمدها مِن قراءة مثل هذا الشعر الغريب علينا .
وقد صدر في أواخر العام 1991 كتابي ، عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق ، ( فصول السنة اليابانية ) _ قصيدة الهايكو والتََّانكا _ وفيه مدخلاً موسَّعاً حول الموضوع ، قد يفيد قارئ هذا الشعر الممتع والمثير للدهشة أيضاً ، إلى جانب كتب أخرى تتعلق بالموضوع .

لمحة عن العهود الثقافية في تاريخ اليابان :
1 – عهد ( نارا ) - Nara - :
حمَلة الثقافة فيه هم نبلاء البلاط وكبار الرهبان . أسطورة كوجيكي ( Kojiki )- من العام 712 م . ( الأعوام بالتاريخ الميلادي) مجموعة الشعر القيصرية المسماة مانيوشو(Manyoshu ) عام – 759 وتحتوي على ( 4171 ) قصيدة ( تانكا ) وهي مختارات شعرية لـ ( 631 ) شاعراً ، وتكون غالباً أناشيد غزلية .
2- عهد ( هييان ) – Heian - :
العاصمة هييان – المسماة اليوم كيوتو ( Kyoto ) بين ( 794 – 1184 ) ، وهي مدينة ساحرة الجمال بين الغابات ، كما رأيتها .
حمَلة الثقافة : نبلاء البلاط وكبار الرهبان – تأثيرات ثقافية صينية _ مجموعة الشعر القيصرية المسماة كوكينشو ( Kokinshu ) وتقع في عشرين مؤلفاً – متابعة انتشار الأفكار البوذية في اليابان .
3 – عهد ( كاماكورا ) – Kamakura - :
المركز السياسي للإمبراطورية في ( كاماكورا ) ( 1186 – 1332 ) . انتقال السلطة إلى أيدي طبقة المحاربين ( ساموراي ) والإقطاع – شعر الفروسية .
ظهور مجموعة شن كوكينشو ( Shin Kokinshu ) الشعرية وتحتوي على 1980قصيدة – ظهور اتجاه بوذي جديد .
4 – عهد ( موروماشي - موموياما ) Muromachi -Momoyama ( 1332 – 1603 ) - حروب أهلية بين النبلاء – حركة إصلاح في المعتقد البوذي .
5 – عهد ( إييدو ) – Eyedo :
العاصمة السياسية في ( إييدو ) ، وهي ( طوكيو ) اليوم – توحيد الإمبراطورية من خلال سلالة بيت توكوغافا ( Tokugawa) بشخصية شوغون (Shogun ) وهو الحاكم العسكري العام.
صدر كتاب للمؤلف الأمريكي ( جيمس كلافل ) ( James Clewell ) بعنوان (شوغون ) يتحدث عن دور الحاكم العسكري هذا ، وصوّرت الأحداث في مسلسل تلفزيوني شيق، شبه تاريخي .
القيصر أمسى الآن شخصية اعتبارية فقط ورئيساً روحياً للإمبراطورية – حكم بوليسي – سيطرة طبقة المحاربين – نشوء الطبقات الشعبية في المدن – إغلاق البلاد – ظهور امتدادا الشعر على طريقة
( الهايكو ) وظهور مسرح كابوكي ( Kabuki ) الشهير – والرسم بطريقة أوكيـيو ( Ukiyoe ) – شعر ( جديد ) باللغة الشعبية .
6 – عهد ( طوكيو ) – Tokyo- :
منذ العام 1868 – العاصمة طوكيو – ( إريدو سابقاً ) - انفتاح البلاد – إصلاحات في الإمبراطورية ، من خلال القيصر ميجي ( Meiji ) ( 1868 – 1912 ) - شاعر الـ ( تانكا ) الشهير ، وبطل الحرب اليابانية الروسية 1905 أيضاً– دخول البلاد تحت تأثيرات أوروبية – التصنيع – زيادة التأثيرات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية ، ومنذ العام 1946 ، أي بعد انكسار اليابان في الحرب العالمية الثانية، وإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي .

حول أسماء الأشخاص :
بعكس ما هو عليه الأمر عندنا ، يوضع اسم العائلة قبل الاسم الشخصي ، كما عليه الأمر في البلاد الأوروبية .
اسم الشاعر الذي يذكر هو اسمه الشخصي وليس اسمه العائلي وعليه فاسم الشاعر ( عيسى ) Issa هو اسمه الشخصي واسم العائلة هو : كوباياشي ( Kobayashi ) ويوضع قبل اسمه الشخصي، والشاعر شيكي ( Shki ) اسمه العائلي مازا أوكا (Masaoka ) والشخصي شيكي .
إذا انتهت الأسماء بالمقاطع التالية :
( Jo,- Mi,-ko ) الخ فإنها تعني أسماء نساء مثل Akiko – Chiyo-Mi \ Sono- Jo .

-------------------
ملاحظات
حول بعض خصائص اللغة اليابانية وطريقة لفظها وترجمتها :

اللغة اليابانية القديمة لم تعرف إلاّ الحروف الصائتة القصيرة (Vokale ) والمقاطع المطلقة . وليس فيها تشديد على الحروف ، أو تبادل بين المقاطع القصيرة والطويلة وكذلك لا توجد في الشعر قافية ووزن. لذلك كان لا بد من وضع فواصل بعد عدد معين من الحركات الصوتية ، لتمييزها من اللغة المحكية العادية في حالة كتابة الشعر .
وإنّ كلمة ( أوتا – Uta ) التي تعني القصيدة فهي تعني أيضاً النشيد ( الأغنية ) مما يدل على أنها كانت ، كما هو الحال اليوم ، تُلقى مغناة كالترتيل وكالـتجويد عندنا . اللغة اليابانية لا تعرف الجمع ( Plural ) إعرابياً أو اسم الجنس ( Genus ) . وبخلاف اللغات الأوروبية التي تَسند الفعل إلى الفاعل ( Subgektiv ) فإن اللغة اليابانية هي لغة سياقية (Praedikat ) حيث تنشأ الجملة من الفعل ، لأن المهم فيها هو ماذا يحصل وليس من الذي يفعل شيئاً ما . وفي الشعر وبخاصة في قصيدة ( الهايكو ) يشتد التوجه نحو الّـلامحدودية والإشارة السطحية العابرة ،و إن مميزات اللغة هذه تُستعمل بشكل مقصود كعنصر فني في بناء القصيدة ، وهذا مايجعل صعوبة الترجمة إلى اللغات الأخرى تصل إلى حدود قد لا تسمح أبداً بالترجمة الدقيقة لعدم وجود كلمات رديفة أو متقاربة للتعبير عن الرمز المقصود ، دون أن تغير الكثير من معالمه طبعاً ، كلوحة الحبر الصيني اليابانية الشفافة ، نريدها أن تنقل إلى لوحة زيتية مثلاً ، ناهيك عن الصعوبات الأخرى الكامنة بخاصة في قصيدة (الهايكو ) الوثيقة الارتباط بالطبيعة وفصولها وعناصرها حيث لا يوجد مثلاً اسم رديف لنوع ما من الطير أو الزهر المحصور وجوده هناك ، وإن كان يوجد طبعاً ، في القواميس العلمية ، أسماء لها باللغة ( اللاتينية ) ، إلا أنها ، لا يمكن استعمالها في ترجمة قصيدة شعرية ، مما حدا بالكثيرين ، ممن عملوا في ترجمة الشعر الياباني ، إلى اختيار ما يمكن له أن يترجم ويفهم فقط ، والاستغناء عن الكثير غيره بسبب الصعوبات المذكورة .
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود الملايين من قصائد ( التانكا ) و( الهايكو ) التي تضمها آلاف المجموعات العشرية في اليابان ومنذ القديم .
وكانت هذه الترجمات لا تخلو من الشرح المطوّل غالباً ، حتى يتمكن القارئ أن يفهم على الأقل ما فهمه المترجم من هذا الشعر الشفاف كثيف المحتوى بشكل مدهش.
إن الطريقة المعتَمدة في الترجمة واللفظ المسماة بطريقة هيبورن ( Hepburn ) استطاعت أن تيسّر على المترجمين الأوروبيين خاصة ، أعمالهم في ترجماتهم عن اللغة اليابانية ، وذلك بلفظ الحروف الصائتة ( Vokale ) كما في اللغة الألمانية أو الإيطالية والحروف الصامتة (Konsonanthen ) كما في الإنجليزية، الصامتة المزدوجة تلفظ دائماً منفصلة عن بعضها البعض Je = j – e , ue =u –e ,oe = o – e الخ ...
حرف ( Y ) هو دائماً ساكن مثل ( يوكوهاما – Yokohama ) .
حرف ( J ) مثل ( جاز – Jazz ) .
حرف ( Ch ) مثل ( شيكاغو - Chicago ) .

=================
ملاحظات من المترجم حول الترجمة :
- تمت الترجمة عن اللغة الألمانية ، وكما في كل ترجماتي السابقة عنها ، سواءً ما يتعلق منها بالأدب بعامة أو بالشعر الألماني بخاصة ٍ أو الشعر الصيني أو الياباني، فقد عمدت إلى الالتزام الكامل ليس بالمعنى فحسب وإنما أيضاً بتوزيع الكلمات على الأسطر ، إلاّ فيما ندر ، وهو أمر هام _ كما _ أرى في ترجمة شعر " الهايكو " أو " الـتّانكا "، وكذلك بعلامات التنقيط كما وردت في الأصل .
- أضفت إلى النص الأصل – وفي أضيق نطاق - ضمن هلالين ( ) كلمات لا بد منها لفهم النص الأصل أو لصياغة الجملة استناداً إلى البيان العربي .
- الكلمات والعبارات الواردة في النص بلون أسود مثل أسماء الشعراء والمجموعات الشعرية والمدارس الشعرية وبعض الأماكن والأحداث والتواريخ ، وضعت من قبلي لتسهيل البحث في الموضوع ولإبداء أهميتها أيضاً .
- الشروحات التي وضعتها في أسفل الصفحات مقتضبة ، ويمكن للمهتم متابعتها .
- الكتاب موجه أصلاً من المؤلف الياباني للقارئ الأوروبي الذي يعرف غالباً ما يكفي عن اليابان وأدبها ولهذا مهدت للقارئ العربي بتقديم ما يلزم من المعلومات مثل العصور الثقافية وخصوصية اللغة وترتيب أسماء الشعراء مع التواريخ ...الخ آملاً أن أسهل عليه الأمر .
- لعل الصعوبة التي واجهتني في ترجمة هذا الكتاب كانت في صياغة الجمل والمفهومات الفلسفية وما وراء الفلسفية والتأمُّلية الفكرية ولهذا عمدت إلى الاستعانة بالمصطلح الصوفي ، كما نعرفه ، كمعادل شبه موضوعي للفكرة الأصل التي تنبثق من ينابيع ثقافية قصيّة عنا ، ومنغلقة مغلَّقة ، بطبيعتها ، آملاً أن أكون بذلك قد أوصلتُ أقصى ما يمكن من الفكرة الأصل .




مدخل إلى :
قصيدة التّانكا ( Tanka )

( التانكا ) – أي القصيدة القصيرة – أو المسماة بـ ( واكا - Waka ) المستمدة من الشِّي ( Shi ) ، أي القصيدة الصينية – هي الأقدم من الشكلين الذين نحن بصدد الحديث عنهما ، إلى جانب قصيدة الـ ( هايكو ).
نعثر عليها في الوثائق المسماة بـ ( كوجيكي – Kojiki ) – وهي وثائق النصب التذكارية القديمة في اليابان – من العام 1712 ، وكذلك في ( مجموعة العشرة آلاف صفحة ) المسماة بـ (مانيوشو – Manyoshu ) من العام 760 م . هذا النط الشعري كان سائداً في بلاط القياصرة ، حيث الحاشية والرهبان المتمكنون من اللغة . وقد حافظ الطابع البلاطي في قصيدة (التانكا ) على تأثيره حتى اليوم ، حيث يوجد الآن ، في البلاط الإمبراطوري ، دائرة تُعنى بفن الشعر ، وحيث كان الإمبراطور الراحل هيرو – هيتو ، هو عالم وشاعر كان يقيم في مطلع كل عام جديد ، مسابقة للشعر على طريقة ( التانكا) ، يعطي هو موضوعها ، ويمكن لأفراد العائلة الملكية المشاركة فيها . وتعطى الجوائز للفائزين، وتلقى القصائد الفائزة في حضرة الإمبراطور.
لاقت قصيدة ( التانكا ) رواجاً هائلاً ، حتى أنه يوجد منها الملايين ، التي كانت تحفظ في القصر الملكي ، وفيما بعد جمعت في مجموعات خاصة لدى المثقفين ويوجد منها آلاف المجموعات. وما تزال الصحف الأدبية المختصة تنشر قصائد ( التانكا) يومياً .
من الطريف الإشارة إلى مدى انتشار هذا اللون من الشعر ، حيث ترك القيصر (ميجي – Meiji ) الذي حكم ما بين 1868 – 1912 أكثر من مئة ألف قصيدة من نمط " التانكا ".
في مطلع القرن الرابع عشر انتشرت عادةٌ اجتماعية بين أوساط الشعراء والمثقفين وهي نظم قصيدة الرِّنجا ( Renga ) – أي قصيدة السلسلة المترابطة – وهي عبارة عن صياغة(بناء علوي ) جديد لبناء سفلي معروف الموضوع ، وتم وضع بناء سفلي ( أي موضوع جديد مقفل ) له وهكذا دواليك ، ومن هذا التطور والتلاعب (العروضي)– إن صح التعبير – تطورت قصيدة ( الهايكو ) .
مدخل إلى :
قصيدة الهايْـكو ( Haiku )
هذا النمط من الشعر الياباني تطور من قصيدة ( التانكا ) وذلك بأن حذف منها البناء السفلي – أي السطرين الأخيرين الذين يحتوي كل منهما على سبعة مقاطع صوتية – وبقي البناء العلوي – أي الأسطر الثلاثة الأولى،ذات السبعة عشر مقطعاً صوتياً .
في بادئ الأمر كانت المحاولة هي تكثيف القصيدة عن طريق تقصيرها والسعي نحو دقة التعبير . وفي القرن الخامس عشر ، وتحت تأثير التعليمات الفكرية لمذهب : - زن ( Zen ) سعت القصيدة لتحقيق تأثيرات أدبية – فنية معينة : اللاّمتناهي – اللامحدود – اللامنطوق – المستثنى والرمز .
كانت فترة ازدهار قصيدة ( الهايكو ) الكلاسيكية في القرن السابع عشر حيث ازدهرت أيضاً أفكار الزن – البوذية واللوحات المرسومة بالحبر الصيني .
كان بعض شعراء ( الهايكو ) رسامين في ذات الوقت مثل (بوزون – Boson ) (1715- 1783) أو رهباناً ، كراهب مذهب (الزن ) كبير شعراء الهايكو ، ماتسو باشو ( Matsu Basho ) (1644- 1694) . ونظراً للمكانة المرموقة التي يحتلها ( باشو ) في الشعر الياباني ، وبخاصة في شعر ( الهايكو ) ، فقد يكون من المفيد الاستفاضة ، بعض الشيء في الحديث عنه .
ولد ( باشو ) عام ( 1644 ) في قرية ( أوينو ) من مقاطعة (إيجا ) في اليابان .
ومع أن اهتماماته الشعرية كانت مبكرة ، إلاّ أنه دخل في خدمة أحد السادة الأغنياء المحليين كمحارب ( ساموراي ) : وبعد موت سيده ترك طبقة المحاربين هذه ، ذات الامتيازات العديدة ، ليدخل طبقة الشعراء . سافر إلى ( إييدو ) العاصمة ( حالاً طوكيو ) حيث لقي شهرةً واسعةً . وابتدأ عام 1679 بكتابة شعر ( الهايكو ) , في عام 1684 قام بأولى رحلاته العديدة إلى شمال اليابان وكتب عملاً أدبياً هاماً ( الطريق الضيّق إلى الشمال العميق ) والذي يحوي انطباعاته الشعرية التي صاغها على نمط ( الهايكو ) وعلى نثر فني جميل زوّد فيه القارئ بخلفية تلك القصائد . عاش ( باشو ) حياة بسيطة في صومعة عارية , وفي كوخ مصنوع من أوراق موز الجنة المسماة ( باشو ) , ومنها أستمد اسمه الأدبي وكان اسمه الحقيقي ( ماتسو ميونيوفوزا ) . وتوفي في العام 1694 م .
وكما كانت مدرسة مذهب ( الزن ) Zen البوذية تُعلّم بأن كل شيء في العالم الخارجي , هو شكل زائد للحقيقة الوحيدة , أي ( لبوذا ) فإن كل شيء مهما صغر , وكان بسيطاً , _ في العالم الخارجي _ وزائلاً ويبدو بدون أهمية ما , فإنه يجب أن يُنظر من خلاله إلى عمق طبيعة الكون . وهكذا كان على الرسام ببضع لمسات متقنة , وعلى الشاعر من خلال ثلاثة سطور بسبعة عشر مقطعاً صوتياً فقط , أن يُظهر من خلال عمله هذا , المقطع الصغير من العالم المرئي أي الشيء المراد إظهاره نفسه , وكذلك الشيء الأكبر بكثير وهو الحقيقة الكامنة خلفه والتي ستنجلي أمام من يستطيع استيعابها .
وهكذا كان على قصيدة ( الهايكو ) الجيدة ، غالباً ، أن تقدم ، إلى جانب الصورة المثيرة الظاهرة للعيان ، معنى خفياً عميقاً أو أكثر وراء السطور ،كما هو الحال في الضوء الذي يعطي انعكاسات شتى مغايرة للأصل ، عندما تخترق من زوايا عديدة ، قطعة الماس . ولا بد للكشف عن هذه الجوانب الخفية في القصيدة من معرفة دقيقة للرمز وللعادات وللتاريخ الياباني ، وهنا تكمن صعوبة ترجمة قصيدة ( الهايكو ) إلى اللغات الأخرى . وربما استدعى الأمر شرحاً لخلفيات القصيدة لا بد منه أحياناً .
إن ( الهايكو ) بالتحديد ، هي القصيدة ذات الأسطر الثلاثة والمقاطع الصوتية السبعة عشر التي تحتوي على صور من الطبيعة أو انطباعات عنها في المركز الأول ، وبذلك فإن موضوعها ، بخلاف قصيدة ( التانكا ) ، محصور بدقة بالطبيعة بفصولها الخمسة وما تضمنه من طقوس ، وعادات ونبات وحيوان وغيره والتي لا بد من تسميتها أو الإشارة إليها على الأقل ، حتى يستطيع القارئ أو السامع أن يتآلف مع المناخ المطلوب .
لا بد هنا من الإشارة إلى نمط شعري نشأ في القرن السابع عشر يتقيد شكلاً بقصيدة ( الهايكو ) ولكن محتواه هو العلاقات الإنسانية في محيط المدينة وهو محتوى هزلي – ساخر ، غير أنه لايصنّف في ديوان الشعر الياباني ضمن نطاق الأدب ( الأصيل) هذا النمط يعرف باسم سينريو ( Senryu ).


نظراً لأهمية ( مطلع العام ) في الشعر الياباني سأورد حوله بعض المعلومات حوله :
مطلع العام
مطلع العام يشكل مناسبة مهمة للشاعر الياباني . ويقع تقريباً في مطلع شباط – فبراير من التقويم الغربي المعاصر بعد أن ألغي التقويم الياباني القديم في العام ( 1878 م ) .
في الأماكن المحمية ، أحياناً تحت الثلوج تبدأ بعض أشجار الخوخ بالإزهار .
يوم مطلع العام هو كل العام تقريباً :
يوم ذكرى الطبيعة – والأمة – والوطن – حيث يتجدد الوعي عند الإنسان بطيبة البشر ودعم آلهة الأجداد له ورحمة ( بوذا ) المنقذ .
الوحدة بين الماضي والحاضر والمستقبل هي القاعدة التي تقوم عليها كل أشعار مطلع العام .

كل ما سيتلو الآن من كلام وأفكار واستشهادات شعرية يعود إلى المؤلف ( هاسومي ) وليس من دراستي ( د. شاكر مطلق ) .

شكل وموضوعات الشّعر الياباني:
حتى أعطي انطباعاً عن الشعر الياباني ، يجب عليّ بدءاً أن أتحدث قليلاً عن اللغة اليابانية . إنها ( لغة ) متعددة المقاطع تحتوي على 47 صوتاً ، خمسة منها صائـتة – ( حروف المَد ) ( vokal ). نحن لا نتحدث عن أبجدية ، إنما عن نظام مقطعي ، يسمى في لغتنا ( أي – رو- ها I_ro_ha ) ، ( ينجم عنه ) بعد المقاطع الثلاثة الأولى ترتيب المقاطع ( التالية ) مما يؤدي إلى نشوء ( بيت ) مقطَعٍ للتذكر يتعلمه ( يحفظه) كل طفل ياباني عن ظهر قلب . إذا كتبَ المرءُ (النظامَ ) في ثمانية صفوف ، بشكل تتناوب فيه المقاطع السباعية مع المقاطع الخماسية فيستطيع (عندها ) أن يقرأه ( ببساطة ) هكذا .
(Silben- مقاطع - 7= ) 1. I-ro ha ni-ho-he do
( Silben5 = ) . chi-ri nu ru wo ,2
( Silben 6 = ) re zo – 3. wa-ga yo ta
( Silben 5 = ) 4. tsu-ne na-ra mu ,
( Silben 7 = ) 5.wu-wi no o-ku-ya-ma
( Silben 5 = ) 6. ke-fu ko-e te ,
( Silben 7 = ) 7. A-sa-ki yu-me mi shi
( Silben 5 = ) 8. E-hi mo se zu .

الترجمة كلمةً كلمةً ( وليس حرفياً لعدم وجود الحروف كما رأينا أعلاه ( في اليابانية ) :

1 . سطوةُ الألوانِ تجعلني أُعاني .
2 . كيفَ تَشْحُبُ !
3 . في عالمنا
4 . ما هو الدائم ؟
5 . جبالُ وجودٍ عميقةٌ
6 .عبرتُها اليومَ
7 . وأحلامها المجوَّفةُ لا تبعثُ النشوةَ أبداً في روحي .
أرغبُ هنا تقديم ترجمتين ( للنص أعلاه ) :

الترجمة الأولى :
ما يزهرُ بعبيرٍ قويٍّ
عليه أن يتلاشى قريباً
ما الذي يمكن له ، في هذا العالم ،
أن يكونَ ثابتاً ؟
خَلْفَ آخرِ جبالِ هذا العالمِ
لا يوجدُ حلُمٌ عابرٌ
ولا ( توجد ) نشوةٌ .
الترجمة الثانية :
هذا العالم الظّاهريُّ
ليسَ ثابتاً
هذه الحياةُ( هي ) مقدّمةٌ
للآشيء .
حيث تتوقّفُ تماماً
في البدءِ هدوءٌ كاملٌ
يضمنُ وحدَهُ
السعادةَ الأصيلةَ .
أتركُ لقرائي أن يقوموا بتقييم الترجمات الثلاث .
لقد قمت بترجمة هذا البناء المقطَعي سطراً فسطراً وآسف أنني لم أستطع ترجمته كلمة فكلمة . مسحة الحزن في هذه الأبيات تأتي من كون القصيدة تَستمد ( أفكارها ) من جزء من العقيدة البوذية المسماة " سوتْرا – Sutra) " التي تتحدث عن عدم ديمومة الحياة . الشاعر المعروف لدى الشعب باسم " كوبودايْشي - Kobo Daishi " ، المتوفى عام 835 م هو الذي استطاع أن ينجز بطريقة عبقرية استعمال المقاطع 47 ( التي تتشكل منها اللغة اليابانية ) دون أن يكرّر استعمالَ واحدٍ منها .
قواعد فن ( البيت) الشعري الياباني هي في منتهى البساطة، لا تتطلب قافية ولا قدراً ( معيناً ) من المقاطع
( الصوتية ) . المميّزُ فيها يكمن في كون السطور تضم بالتتالي سبعة أو خمسة مقاطع . كيف لهذا التتالي وحيد الإيقاع ( المملّ ) أن يبدو ( برغم ذلك ) موسيقياً لآذاننا ؟ ، هو سؤال يحتاج إلى بحث علمي . برغم ذلك أريد أن أفترض وجود إمكانية لتبريرٍ علميٍّ لكيفية تأثير هذا النظام غير المتغير من زمن ما قبل التأريخ وحتى اليوم ، حول كيفية تأثيره الموسيقي ( علينا ) .
المطلب الثاني الهام يُلزم المرءَ ( الشاعر ) بعدم استعمال الكلمات الغريبة إلاّ في مجالٍ ضيقٍ وبعدم استعمال الكلمات النابية ( السّوقية ) في الكنز اللغوي . إن اختيار الكلمات مرتبط بتلك الكلمات المتفق على جودتها منذ القديم ، لأن الأمر هنا يتعلق بشكل خاص بالتعبير عن الشعور الياباني ( المتميّز من غيره ). إذا كان المرء – إذن - راغباً في كتابة قصيدة عن اختراع حديث لم يكن موجوداً في القديم ، يترتب عليه أن يخلق تعابير جديدة من الكلمات البسيطة القديمة . إن ّالتقدّمَ الحديث وضعَ صفاء لغة الشاعر الياباني على مِحكّ التجربة بقسوة ، ويروى أن الشعراء في الزمن القديم كانوا يتذمّرون من عدم وجود اسم ياباني أصيل لزهرة الفـتنة" كريزانتيم - Chrysantheme " .
القوانين التّقنية التي يَستند إليها صُنع القصيدة هي إذن في منتهىالبساطة : يختار المرءُ كلمات تقليدية
( قديمة ) يكتبها في سطور متناوبة الطول ، سبعة مقاطع يتلوها خمسة (وهكذا دواليك ) ويستطيع بذلك أن يكتب قصائد متفاوتة الطول حسب ما يرغب . لكن منذ البدء امتازت القصيدة ذات السطور الخمسة بتتالي المقاطع على الشكل التالي خمسة ، سبعة ، سبعة ، سبعة مما يشكل 31 مقطعاً . هذه القصيدة المميزة اليابانية المسماة " أوتا – Uta " أو " تانكا – Tanka " تتشكل إذن من 31 مقطعاً ، تشكّلُ بدورها – ربما - دزّينة ًواحدة فقط من الكلمات ، من هذه السطور الخمسة تشكِّلُ السّطورُ الثلاثةُ القسمَ العلويَّ من نصْف( البيت) ، بينما يشكّل السطرانُ الأخيران الجزءَ السُّفليّ منه .
إن لقِصَر القصيدة اليابانية معنىً كبيراً . يوجد هناك أيضاً قصائد طويلة غير أنها نادرة جداً . ملحمة ٌمن الأبيات
( الشعرية ) التي تستحق هذا الاسم لا وجود لها . المشاعر المميَّزة تسمح بالتعبير عنها بشكل أفضل من خلال كلمات قليلة ، ثمّة كلمات تُقول من خلال التّداعي والرّبط ( Assoziatiom ) ومن خلال اللّحن ( Klang ) أكثرَ مما هو موجود في المعجم . هكذا يمكن لنا على سبيل المثال من خلال أسماء مماثلة وكلمات ذات لحن مماثل ومعنى مغاير أن نعبّر عن حالات شعورية داخلية فينا ،في الوقت الذي لا تمتلك ( هذه ) الكلمات المستعملة معنى نفسياً خاصاً بها .
استناداً إلى قصَر ( النص الشعري ) لا بد من خيار في المادة ( المنتقاة للقصيدة ) . يكاد المرء لا يتصور وجود قصيدة يابانية تتحدث عن نجم عملاق يدور في السماء ويملأ الفضاء اللآمحدود بشعاعه ، بينما يوجد ألاف ( الأبيات المكتوبة ) حول القمر . أحياناً يتم وصف مشاعر رقيقة .
في ( مجموعات ) المختارات الشعرية ( أنطولوجيا ) Antologie - - تتصدَّر " قصائدُ فصول السنة اليابانية " مركزَ الصّدارة ( ) تليها قصائد الحب والعطف ( على الآخرين ) . في الأشعار العديدة حول الطبيعة ، حول الأزاهير والطيور في الربيع ، حول القمر والحشرات في الخريف ، حول الثلوج والجبال في الشتاء ، حول الأنهار والغيوم في الصيف ، يستطيع المرء أن يرى أن ما يهم ( الشاعر ) الياباني الإمساك بالأمور الصغيرة وبالتفاصيل ، من خلال وصف الأمور الخارجية تتبدى الأفكار الداخلية ، التي يتحدثون عنها نادراً في الشعر . أحياناً تكون " القصيدة " مجرد شارة بالإصبع إلى جسم ما ، أو مجرد زفرة فقط . على المرء أن يفكر ضرورة بذلك الذي لم يُكتب في " القصيدة " وأن يقرأ ( ما هو كامنٌ ) بين السطور .
" القصيدة " اليابانية ، التي كانت في الأصل تغـنّى ، أصبحت مع مرور الزمن تكتب وتتوجه نحو الذوق الأدبي . طبعاً ظلت( القصيدة ) تنال الرعاية في أوساط الطبقة المثقفة ، لتحتل مكان رسائل الحب .
بإمكان الياباني ، بحق ، أن يكون فخوراً بقوة تعبير لغته . كم من الكلمات والمقاطع تلزم للتعبير عن فكرة يُعبَّر عنها في اللغة اليابانية بواحد وثلاثين مقطعاً ( صوتياً ) وربما باثنتي عشرة كلمة، ( فقط ) ، وكم يلزم من ( كلمات ) لذلك في الألمانية ، الإنكليزية أو الفرنسية ؟! . إذا كان الشعر بعامة ليس دوماً المؤشر للقيمة الأعلى للثقافة ( كذا ! ) ، غير أنه مما لا شك فيه أنه الممثل للثقافة الشعبية . نستطيع كأفضل مثال على ذلك أن نأخذ فن الشعر الياباني
مثل كل شعب مثقف يكون في بداءاته أكثر شاعرية من الأزمان اللاحقة - على ما يبدو - وكذلك أجدادنا الأوائل في اليابان لا يشكلون الاستثناء .
من خلال ما وصلنا من قديم الزمان يبدو أنهم عبّروا عن كل الأفكار والعواطف في شعرهم .كثيرة هي القصائد القديمة التي وصلتنا ، أقدمها يمكن أن نعيده إلى الزمن الأسطوري ، بينما الشعر القديم الذي أخذ يصلنا منذ القرن السابع ( الميلادي ) لا يمكن لنا أن نراه كشعر ملحمي ، لأنه غالباً ما وصلنا نثراً شعرياً .
رواياتٌ بكلام مُقـتَضبٍ ظهرت في وقت متأخر جداً ونادر ، بخلاف ذلك كان القسم الأكبر من الشعر الدرامي موزوناً .
نستطيع ، من خلال قصائدنا الصغيرة ( القصيرة ) الملتصقة بالطبيعة ، أن نرى الشعور الحياتي للشعب . نجد هذا في(هذه ) القصيدة الموجودة في أقدم مجموعة أشعار يابانية من القرن السابع م. ( المسماة ) " مانيوشو -Manyoshu " إنها ( القصيدة ) ،( مثال ) أنموذجي عن معرفة الشعب في زمن مبكر بشعر الطبيعة . القصيدة تقول بترجمتها الحرة ما يلي :
جبل " أُنيبي - Unebi " نهاراً
يحاورُ الغيومَ
أوراق الشجرِ
تتابعُ الهمسَ :
هُـبّي ( أيتها الرّيحُ ) مع حلول المساء .
شاعر مجهول
من الشاعر المعروف جداً " يامابه نو أكاهيتو -Yamabe no akahito " ( عاش ) في أواخر القرن السابع م . أقدّم القصيدة التالية :
شاطئ " واكا - Waka " يفقد خليجَه عند المدِّ .
" مالك الحزين " - صارخاً " يطير إلى شاطئ القصب هناك .
بينما أنظرُ إلى شاطئ " تاغو - Tago "
تُـثلِج على جبل " فوجي - Fuji " ( المقدس )
إنه يبدو أبيضَ .
من المميِّز أيضاً للقصيدة اليابانية ، أن يضم الشاعر الطبيعة في مشاعره العاطفية :
هل لدموع حبّي
علاقةٌ مشتَـركةٌ
مع مِـزاج الخريف الحزينِ ؟.
الهواءُ يغدو رَطْباً
كالدموع على كُمِّ ( ردائي ) .
الشاعر مجهول
ما يثير الانتباه في هذه القصائد هو شكلها القصير ، بالرغم من كونها أصبحت ، بعد الترجمة الواصفة ، أطول بكثير من الأصل . وفوق هذا فإن هذه الأشعار تنتمي إلى الشكل الطويل للقصيدة المسماة في اليابانية " واكا - Waka " أو " أوتا - Uta " ، هذه القصيدة التي لا يجوز أن تكون أطول أو أقصر من (31) مقطعاً (صوتياً ).
أريد الآن أن أصِف الشكل لقصيدة " واكا " أو " تانكا " " الواكا " التي لا يستطيع التعرّف على ماهيّتها وخطوات نشوئها أحدٌ سوانا . " الواكا " التي تضم كما قلنا ( 31 ) مقطعاً تنشطر إلى جزئين اثنين ، يضم أولهما (17) مقطعاً والثاني (14) مقطعاً . لكن هذا لا يعني أن مثل هذه القصيدة تضم جملتين منفصلتين ، ولكنها تَضمّ غالباً جملة واحدة ونادراً ( ما تَضمّ ) نصفَ جملة ( فقط ) .
إنّ التقسيم الثنائي - إذن – ليس منطقياً ولكنه ( مقبول ) إيقاعياً . بشكل أدق فإن النصف الأول يحتوي على مفاصل ( أجزاء ) ثلاثة ، يضم أولها خمسة والثاني سبعة والثالث خمسة مقاطع ، ويضم النصف الثاني مِـفْـصَلين ( جزئين ) كل منهما يحتوي على سبعة مقاطع ( صوتية ) .
إنّ شَـكلانية التنسيق الكلامي ( هنا ) لا يتعلق بشكل منطقي ولا بقانون نحوي ، ولكن بالإيقاع التنفسيّ . يقرأ المرء السطر الأول المكوّن من خمسة مقاطع في ( حالة ) الزّفير ، وبعد الشّهيق يقرأ المرء بشكل أبطأ السطر الثاني المكوّن من سبعة مقاطع ، بينما يقرأ السطر الثالث كما في الأول . كل الشعر الياباني يتعلق بهذه القاعدة الأساس .
إنه لمن الغريب أن تجد في تاريخ الأدب الياباني هذا العدد الكبير من الشعراء المجهولين . يوجد ، على سبيل المثال ، في( مجموعات المختارات الشعرية التالية ) : " مانيو – شو Manyo - shu " ، " كوكِن – شو Kokin - shu " ، " شين - كوكن – شوshu – kokin – Shin " العديد من الشعراء المجهولين فعلاً ، وأولئك الذين لم يضَعوا أسماءهم ( تحت قصائدهم ) عمْداً ، ويستغنون عن مجدهم الشعري . الياباني لايؤكد على الفرديّة كالأوروبي ، وهو يسعى لأن يبقى في الخَفاء . إننا نحترم الأسماء ، ونحترم أكثر من لا أسماء لهم .
كفنٍّ ( شعري ) مُـسَلٍّ طَـوّرت ( قصيدة ) الـ " واكا -Waka " نفسَها إلى شكل شعري جديد . بما أن قصيدتين لشاعرين مختلفين توصفان كزوج ( إحداهما مقابل الأخرى ) ، فإنه من السهل فهم إمكانية نشوء نوع من اللعب الشعري ( الجديد ) ، حيث تخلق القصيدة ( الواحدة ) من شاعرين مختلفين ، لأنه من الممكن – كما قلنا سابقاً – تقسيمها إلى قسمين . منذ القرن الثاني أو الثالث عشر أصبحت طريقة الشعر هذه تدريجياً أعلى شكل للإنجاز الشعري، وأطلق عليها اسم " " رينغا - Renga " – القصيدة السِّلسلة – في ( هذا النمط – رينغا ) لم يعد نصفا قصيدة " الواكا " يشكلان وحدة إنما أصبح ( النصف ) الأول والثاني يتكرران بشكل متناوب ، حتى أصبحت قصيدة الـ ( رينغا ) تضم ، أحياناً ، مئةَ مقطع شعري (متناوبة مثل السِّلسِلة ) غير أنها لا تشكل ، بالضرورة ، وحدةً(شعرية – فكرية ) كبيرة .
على الرغم من استمرار لعبة " رينغا " ( الشعرية ) لقرون عديدة غير أنها لا تستحق أن تحتل مكانة ممَيّزة في تاريخ الأدب الياباني، فهي تشكل مرحلة عبور إلى ( ظهور قصيدة ) " الهايكو " لا حقاً .
القسم الأول من ( التانكا ) مؤهَّلٌ أكثر من القسم الثاني لأن يصبح قصيدة ( مستقلة ) ، لأنه يحتوي على ثلاثة مفاصل ( مقاطع ) ولهذا فهو(مؤهل ) بشكل أسهل للتعبير عن أفكار عديدة . بهذه الطريقة نشأ أقصر شكل للتعبير الشعري وهو ( قصيدة ) الـ " هايكو – Haiku " . مع ذلك فإن خصوصية محتواها لم تكن قد حُددت بشكل نهائي .
بينما كانت ( لقصيدة ) الـ " واكا " سماتٌ مُغايرة ( لسمات قصيدة ) الـ " رينغا " ، كان ( لقصيدة ) " الهايكو " التي جاءت من الـ " رينغا " نفس سماتها المورثة – بالطبع –. إنها لظاهرة مشوقة جداً ، أن يتحول شكل الـ " رينغا " الشعري المتواصل إلى شكل الـ " هايكو " القصير .
بإمكاننا أن نورد لذلك العديد من الأسباب التاريخية . لكن السبب الأكثر أهمية ( لهذا التحول ) هو تبدل الحامل الثقافي في ذلك الزمن ، وبخاصة ، وبشكل حاسم كان (هو ) تأثير بوذية الزن .
كان على القصيدة الجديدة ( هايكو ) ، حتى تبني خصوصيتها، أن يُعنى بها من قبل العديد من شعراء الطبقة الشعبية. وقع ذلك في القرن السادس عشر . ، بَدءُ العناية بالشعر والثقافة شعبياً . في البدء كان صعباً خلعُ رداء ملامح اللعبة ( التسلية ) الاجتماعية عن( جسد ) القصيدة . ( برغم ذلك ) أصبحت الـ " هايكو " ، تقريباً ، مربيةً للشعب ، ونبعاً لـتـثـقفيه ، وطال انتشارها سريعاً كلَّ الطبقة الشعبية بسبب بساطة شكلها . في حين ظل الشعب محافظاً على الشكل الشعري للطبقات الراقية والدوائر المثقفة ، صعدت الـ " هايكو " – في نفس الوقت مع صعود (الطبقات ) الشعبية – إلى ذروة ثقافية . ولم يكد يمضي قرنٌ حتى خرج من الشعب شعراءُ مشهورون . إن طريقة التواصل الجماهيري لقصيدة الهايكو انتشر سريعاً في كل ( أوساط ) الشعب . الشاعر الأكثر أهمية هو ( ما تسو ) – " باشو " ( 1*) وهو الذي رفع الهايكو إلى قيمة شعرية عالية ، وهو الذي نفح شكل شعر الهايكو ( المحدد ) بصرامةٍ الروحَ من مشهد طبيعته الكاشفة ( النّيرة ) . إنه – ( باشو ) – يفهم الطبيعة من الداخل ، يستشعر حياكة ونمو حياتها في تَبدّلات القمر , ويجد لأجل ذلك ،التعبيرَ المناسب في الهايكو .
---------------------------------------------------------
*- نظراً للأهمية البالغة والمكانة المرموقة التي يشغلها " باشو " في شعر الهايكو وهو كبير شعرائه سأورد حوله بعض المعلومات :
على الرغم من اهتمامه المبكر في الشعر ، فقد انضم إلى طبقة المحاربين " ساموراي " وتعني حرفياً " أن أخدم " وهم يتشبهون بزهرة الكرز النقية البيضاء التي تسقط فتية قبل أن تذبُل ، وهم على استعداد دائم لممارسة طقوس الانتحار – عند الخطأ الجسيم أو الهزيمة ... إلخ – على طريقة " هاراكيري " أي شق البطن من اليمين إلى اليسار بالخنجر أو بالسيف القصير وعادة بعد إنشاد "
هايكو " .بعد موت سيده ترك الساموراي ودخل طبقة الشعراء – في " إييدو " العاصمة السابقة " طوكيو " حالياً وجد شهرة واسعة . ارتحل مرات عديدةً إلى شمال اليابان وكتب عملاً أدبياً هاماً هناك :" الطريق الضيق إلى الشمال العميق " يحوي انطباعاته عما كتَب من هايكو وعن خلفية القصائد . عاش حياة بسيطة في صومعة عارية في كوخٍ ، مصنوع من أوراق موز الجنة المسماة " باشو " .اسمه الحقيقي " ماتسنو ميو نيو فوزا " . كان راهباً على نمط مذهب الزن.
المترجم


لقد جعل الشاعر " باشو " من الهايكو فصيلةً خاصة في الشعر الغنائي ، خلفيتها ( المشهد ) الطبيعي الذي لا يكاد إلاّ الروح ( قادراً ) على ابتهال حضوره ( فيها ) ، وهو الأمر الذي يشكل الموضوع الرئيس في القصيدة . الهايكو _ إذن _ هو في الواقع شعر الطبيعة في الروح اليابانية .
أترجم هنا أشهر قصيدة هايكو لـ " باشو " :
بِركةٌ عتيقـةٌ
الضّفدَع الصّغير يقفزُ فيها
الماءُ يطِنّ بهدوءٍ .

هذه القصيدة ، التي يكاد كلُّ ياباني يحفظها عن ظهر قلب، كتبها الشاعر " باشو " في وقت ، كان بالنسبة إليه كما بالنسبة للهايكو ، يشكل نقطة تحوّل هامة جداً . حتى ذلك الوقت كان " باشو " مجرد تابعٍ لمدرسة " دانرين – Danrin " ، التي عرّفته على وسائط فن اللغة .
كلمة " ماتسو –Matsu " على سبيل المثال تعني في حالة الاسم ( الشجرة ) " السَّروة " عند استعمالها في حالة الفعل تعني "الانتظار " فإذا كان عاشق يتجول تحت ( شجر )"السَّرو " فهذا يعني أنه ينتظر حبيبته في الغابة الصغيرة . الأسماء المتشابهة لفظاً تحمل دوماً وجهين ومعنيين تشرح بطريقة المجانسة والمشابهة والقياس – Analog وبشكل تكميلي Komplementaer هذه الشارات( الموحية ) هي سرّ الشاعر الياباني .
استناداً إلى الشكل أرغب الآن بإيضاح الأشياء الأكثر محبة في شعرنا . استناداً إلى قصر ( النص الشعري ) لا بد من خيار في المادة ( المنتقاة للقصيدة ) . يكاد المرء لا يتصور وجود قصيدة يابانية تتحدث عن نجم عملاق يدور في السماء ويملأ الفضاء اللآمحدود بشعاعه ، بينما يوجد ألاف ( الأبيات المكتوبة ) حول القمر . أحياناً يتم وصْف مشاعرَ رقيقـةً .
في ( مجموعات ) المختارات الشعرية ( أنطولوجيا ) Antologie - - تتصدَّر " قصائدُ فصول السنة اليابانية " مركزَ الصّدارة ( ) تليها قصائد الحب والعطف ( على الآخرين ) . في الأشعار العديدة حول الطبيعة ، حول الأزاهير والطيور في الربيع ، حول القمر والحشرات في الخريف ، حول الثلوج والجبال في الشتاء ، حول الأنهار والغيوم في الصيف ، يستطيع المرء أن يرى أن ما يهم ( الشاعر ) الياباني الإمساك بالأمور الصغيرة وبالتفاصيل ، من خلال وصف الأمور الخارجية تتبدى الأفكار الداخلية ، التي يتحدثون عنها نادراً في الشعر . أحياناً تكون " القصيدة " مجرد شارة بالإصبع إلى جسم ما ، أو مجرد زفرة فقط . على المرء أن يفكر ضرورة بذلك الذي لم يُكتب في " القصيدة " وأن يقرأ ( ما هو كامنٌ ) بين السطور .
" القصيدة " اليابانية ، التي كانت في الأصل تغـنّى ، أصبحت مع مرور الزمن تكتب وتتوجه نحو الذوق الأدبي . طبعاً ظلت( القصيدة ) تنال الرعاية في أوساط الطبقة المثقفة ، لتحتل مكان رسائل الحب . بإمكان الياباني
، بحق ، أن يكون فخوراً بقوة تعبير لغته . كم من الكلمات والمقاطع تلزم للتعبير عن فكرة يُعبَّر عنها في اللغة اليابانية بواحد وثلاثين مقطعاً ( صوتياً ) وربما باثنتي عشرة كلمة، ( فقط ) ، وكم يلزم من ( كلمات ) لذلك في الألمانية ،
الإنكليزية أو الفرنسية ؟! .
إذا كان الشعر بعامة ليس دوماً المؤشر للقيمة الأعلى للثقافة ( كذا ! ) ، غير أنه مما لا شك فيه أنه الممثل للثقافة الشعبية . نستطيع كأفضل مثال على ذلك أن نأخذ فن الشعر الياباني
مثل كل شعب مثقف يكون في بداءاته أكثر شاعرية من الأزمان اللاحقة - على ما يبدو - وكذلك أجدادنا الأوائل في اليابان لا يشكلون الاستثناء .
من خلال ما وصلنا من قديم الزمان يبدو أنهم عبّروا عن كل الأفكار والعواطف في شعرهم( ). كثيرة هي القصائد القديمة التي وصلتنا ، أقدمها يمكن أن نعيده إلى الزمن الأسطوري ، بينما الشعر القديم الذي أخذ يصلنا منذ القرن السابع ( الميلادي ) لايمكن لنا أن نراه كشعر ملحمي ، لأنه غالباً ما وصلنا نثراً شعرياً .
رواياتٌ بكلام مُقـتَضبٍ ظهرت في وقت متأخر جداً ونادر ، بخلاف ذلك كان القسم الأكبر من الشعر الدرامي موزوناً .
هل لدموع حبي
علاقة مشتركة
مع مزاج الخريف الحزين ؟.
الهواء يغدو رطباً
كالدموع على كُمِّ ( ردائي ) .
الشاعر مجهول
ما يثير الانتباه في هذه القصائد هو شكلها القصير ، بالرغم من كونها أصبحت ، بعد الترجمة الواصفة ، أطول بكثير من الأصل . وفوق هذا فإن هذه الأشعار تنتمي إلى الشكل الطويل للقصيدة المسماة في اليابانية " واكا - Waka " أو " أوتا - Uta " ، هذه القصيدة التي لا يجوز أن تكون أطول أو أقصر من (31) مقطعاً (صوتياً ) ( ).
هذه القصيدة ( أعلاه ) أقدمها الآن بشكلها الأصلي الذي يُسمع (!) هكذا :
Ki - mi Ko - u - ru
Na - mi - do wo a - Ki - mi
Ka - yo- e ba ya
So - ra mo ma - mi - da mo / To - mo ni shi - gu - ru - ru .
شكل الشعر الأقصر ( من قصيدة أوتا أو واكا ( تانكا ) تسمى "هايكو " وتحتوي على 17 مقطعاً فقط التي تشكل نصف قصيدة( الواكا ) . لقد قدمت أولاً نماذج من شعر ( الواكا ) من الزمن القديم ، لأن قصيدة " الهايكو " لم تكن قد وجدت بعد ( وتولدت منها لاحقاً ) . إن السبب في محبة هذا الشكل القصير ، يجب البحث عنه بشكل أساس في الشعبية ، في مبدأ التعبير الأساس للفن الياباني : في " التكميلية المجامِلةِ " التي ترى في التعبير الجزئي للقول فعالية أكبر ، حيث يتم تكميل الباقي ( من القول ) بإضافته من خلال التخمين ، القناعة الرائية ، أو ( من خلال ) التجارب الروحية الخاصة التي يُترك ( شأنُها ) للقارئ . هنا يجب أن أبين سبباً آخر ، وحالة خاصة جداً ، لا مثيل لها في تاريخ الشعر العالمي وهي النزعة المحببة إلى الاقتصاد (في الـتّعـبـير ) عند ( صياغة ) الشعر .
من حيث المبدأ إن الشعر الياباني ، سواء في الزمن المبكر أو المتأخر لا يشكل خَلقاً ( إبداعاً ) ، لا يستطيع سوى الإنسان الموهوب تقديمه للجمهور ، ولكنه حوارٌ ، ومتعة فنية يستطيع كل إنسان ، موهوباً كان أم لم يكن ، المشاركةَ فيه . يقول المرء أن الشعر هو محادثة روحية ، غير أن هذا تعبير شكلي ، لأنه ، في الواقع ، لا يوجد هناك محادثة يتكلم فيها واحد فقط ، بينما لا ينطق الآخر ولا كلمة واحدة .
ولكن في الشعر الياباني ، يجري الأمر فعلاً ، كما في المحادثة، ( حيث ) يتلو ردُّ الآخرِ على قصيدة المتكلم . نستمع الآن ، من خلال القصيدتين التاليتين إلى محادثة بين حبيبين :
تقول ( القصيدة ) الأولى :
الشائعةُ القائلةُ بأنني عاشقٌ
انتشرت منذ وقت :
مع أنني أحبُّ سِرّاً ، منذ زمن طويل .
الجواب يقول : مهما تظاهرتُ بالَّلا اهتمامٍ
فالحب يشعّ في وجهي
حتى إنّ المرء يسألني
لماذا أنا مهموم هكذا ؟ .
شاعران مجهولان
في الزمن المُغرق في القِدَم ، ربما لم يكن هناك أحرفٌ ، وكان لزاماً أن تُتبادل القصائد شفهياً ، الأمر الذي استمر غالباً ، حتى في الزمن اللاحق . لقد نشأ حتى نمطٌ من ( قصائد ) لعبة الحب الشعرية ( المسماة ) " أوتاغاكي - Utagaki " حيث يتبادل المحبون من خلال هذا الشكل الشعري عواطفهم الناعمة .
هذه الحالة تفسّر القِصَرَ الاستثنائي للقصائد . في القصائد التي تتطلب المحادثة فيها ( استعمال ) تعابير شعرية رفيعة المستوى ، يكون من المستحيل التحدث طويلاً دون استراحات . عندما تتجاوز مشاعرنا ، بطريقة ما ، حداً تفقد لغتُنا المحكية إمكانياتها في التعبير ( ).
في الأوقات المبكرة كان الأمر استثنائياً عندما يقوم الشاعر بجمع قصائده ( فقط ) في مجموعة ، لأنه ، في العادة ، كان على المجموعة أن تضم شعراً لشعراء عديدين ( أيضاً ) حيث يتم ترتيب
( الأبيات ) بطريقة خاصة توضع فيها قصيدتان لشاعرين مختلفين إحداهما مقابل الأخرى ، بحيث تكون القصيدة الثانية الجواب ( على القصيدة الأولى ) ، ويسمى ( هذا الشكل الشعري ) : " كاشي - أوتا – Kaeshi - uta " .
أريد الآن أن أصِف الشكل لقصيدة " واكا " أو " تانكا " " الواكا " التي لا يستطيع التعرّف على ماهيّتها وخطوات نشوئها أحدٌ سوانا . " الواكا " التي تضم كما قلنا ( 31 ) مقطعاً تنشطر إلى جزئين اثنين ، يضم أولهما (17) مقطعاً والثاني (14) مقطعاً . لكن هذا لا يعني أن مثل هذه القصيدة تضم جملتين منفصلتين ، ولكنها تَضمّ غالباً جملة واحدة ونادراً ( ما تَضمّ ) نصفَ جملة ( فقط ) .
إنّ التقسيم الثنائي - إذن – ليس منطقياً ولكنه ( مقبول ) إيقاعياً . بشكل أدق فإن النصف الأول يحتوي على مفاصل ( أجزاء ) ثلاثة ، يضم أولها خمسة والثاني سبعة والثالث خمسة مقاطع ، ويضم النصف الثاني مِـفْـصَلين ( جزئين ) كل منهما يحتوي على سبعة مقاطع ( صوتية ) .
سأبيّن في هذا المثال ( التالي ) شكلانية ( بناء ) " الواكا " :
su - mi – ru go – Ha
ki to – so – tsu ya o– Ta
wa no – ma ka – Ya
ru – gu – ma o ku – wa – I
na ri yo – ko–to ki – O

الترجمة الحرفية تقول :
ضبابٌ ربيعيٌّ
يأتون متأخرين
لقد كان الجبلُ والنهرُ .
أَسمع الصوتَ
حيث المياه تجري إلى الوادي .
إن شكلانية التنسيق الكلامي ( هنا ) لا يتعلق بشكل منطقي ولا بقانون نحوي ، ولكن بالإيقاع التنفسيّ . يقرأ المرء السطر الأول المكوّن من خمسة مقاطع في ( حالة ) الزّفير ، وبعد الشّهيق يقرأ المرء بشكل أبطأ السطر الثاني المكوّن من سبعة مقاطع ، بينما يقرأ السطر الثالث كما في الأول . كل الشعر الياباني يتعلق بهذه القاعدة الأساس .







مختارات شعرية من كتابي " لا تبح بسرك للريح !* " شعر ياباني - ترجمتة ( عن الألمانية ) .

ثلجٌ عميقٌ حوْل البيتِ .
لماذا لا يَـشقُّ أحدٌ درباً
لزيارة قلبي الوحيد ؟ .
الشاعر مجهول

جذورُ الكلماتِ ستبر عم وتنمو
ولكنّ الذي اخترعها
ليخفِّف آلامـَه
الإنسانُ ... أين هو ؟ .
غو _ نوزي _ مي

تريد أن تعرف مدى حبِّي ؟
اِهبطْ إلى الخليج
وعَُّ الأمواجَ العاليةَ هناكَ
تتلاشى بزبدٍ مضيءٍ ! .
فوجي فارا نو أوكيكازي

الملاَّح الواعي لواجباتهِ
لا يترُكُ
حتّى في البحر الهادئِ
دفّـةَ القيادة مِن يدهِ .
القيصر ميجي
وردةُ الرَّغباتِ
خاليةٌ مِن الذَّنبْ .
الشاعر مجهول
لا شيء أنقى مِن " اللَّوتس " تزهر بعمق
لماذا إذن يتظاهر قطرُ الندى
الذي يتوهَّج في قلب الزهرة
بأنه حجَرٌ كريمٌ ؟ .
هينيو
تعالَ ! اخرجْ معي أمام البوَّابةِ !
كلِّـياً تُغطّـينا الثُّلوجُ
نريد أن نضربَ الخُطا في اللَّيلِ
لا تدعْنا ننتظر الصباحَ
مَن يدري
ربَّما تكون كلُّ النُّجوم قد ذابتْ ؟
أتسو مِمارو

سقوطُ مطرٍ هادئٍ
معكَ ، وحيداً في العرَبةِ ،
المحادثةُ . أيُّ ربيع ( هذا ) ! .
بوزون

العَـتمة تهبط فوق البراري
امنحْني يا ظِلَّ الشجرة الباردَ
اليومَ ، ملجَـأً
كنْ مُـضيفي هذه اللَّيلةَ !
زهرةٌ تتفتَّحُ على الطريقِ .
تانا نوري

ضريبةُ الدَّمِ للقيصر والوطنِ
لا أحد يستطيع إرغامي عليها
لكنْ عندما تستَـحقّ الضحيةُ ذلكَ
أقدّمْـها دون تَـذمُّرٍ .
الأمير مونيناغا
نظرتُ عالياً إلى السماءِ .
في العين حنينٌ إليكِ
انظرْ ! سُلـَّمٌ مِن خيوط مطر القلب الفِـضية ِ
فوق المكانِ
حيث تقـفينَ . توشيناري


دون حَراكٍ
يلمع البطّيخ مِن بين الأوراقِ .
هل يلمحُـه السّارق أيضاً ؟ .
عيسى
لو استطعتُ ما أريدُ
لرغبتُ أن أكونَ قطرةَ ندى
على نهاية غصنِ تلك الشجرةِ
التي خضَّبَـتْـكَ مرةً بالنَّدى
عندما كنتَ تنتظرني بإصرارٍ .
السيدة إيشيغافا

لو استطعت أنْ أترك العالمَ
ورقةَ كلماتٍ واحدة فقط
تشبه ورقة القصَب على ضفاف البركةِ
ممتدَّة في السماءِ .
++++++++++++++++++++++++++++
( * ) صدر كتابُ " لا تبح بسرك للريح ! " عن " دار الذّاكرة " حمص – سورية ط1 ، عام 1991- ترجمة ( عن الألمانية ) د.شاكر مطلق ، تقديم الصديق الأستاذ " حنّا عبّود " .

حمص – سورية 24 / 3 / 2007 E-Mail:mutlak@scs-net.org
ألقي البحث في فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب بتاريخ 11/3/2008 .
صدر كتابي : " الزِّن في فن الشعر ( الياباني ) "عن وزارة الثقافية في الجمهورية العربية السورية ، ضمن سلسلة آفاق ثقافية ، العدد 51 عام 2007 .

عامر العظم
09/04/2008, 11:07 AM
العطاء المعرفي سلاح لمكافحة التخلف!

الدكتور شاكر مطلق،
أشكرك وأحييك وأحيي جميع الكبار معك على هذه المساهمات النوعية. عندما أرى رجلا فوق السبعين بهمتك وحيويتك وعطائك أشعر بفخر واعتزاز وعنفوان لا يباريه أحد!
لقد طلبت قبل يومين من الأخ بسام نزال إنشاء منتدى خاص بك "منتدى الدكتور شاكر مطلق" تقديرا واحترام وإكبار ا لك.

وأغتنم هذه المناسبة لأحيي الدكتور إبراهيم عوض وجميع كبار وأساتذة الجمعية المعطائين.

في هذه الأثناء، سنغطي دائما مساهماتك القيمة لنشر العلم والمعرفة على أوسع نطاق.

أحييك مرة أخرى.

عزيز العرباوي
09/04/2008, 05:19 PM
نشكر الدكتور مطلق شاكر على هذه المجهودات الرائعة في تقريب الشعر والأدب الياباني الجميل إلى القاريء ....

نشكر كل الأعضاء في الجمعية التي دأبت على خدمة الأدب والثقافة العربيين ...

تحياتي للجميع

//
//

الدكتور شاكر مطلق
10/04/2008, 10:27 AM
الأستاذ الفاضل عامر العظم الموقر
أطيب التحيات لمن قدم لنا منبر واتا الحضاري الحر لنسهم ، من خلال أفكارنا وأبحاثنا ، ولو قليلاً في نشر المعرفة والتصدي للغزو الثقافي للوطن العربي المستَلب - للأسف - حتى الآن .
إن إنشاء منتدى يحمل اسمي هو أكبر مني على ما أعتقد ، ومع ذلك أشكركم جداً على هذه اللفتة الكريمة ، آملاً في تقديم ما يفيد المجتمع وأسرة واتا على الأقل .
مع تحياتي وفائق احترامي د. شاكر مطلق
حمص - سورية 10/4/2008

حنان الأغا
13/04/2008, 02:58 AM
تحياتي دكتور مطلق

جهد عظيم
وقد سعدت حقيقة بهذه الدراسة ، لأني كنت من مدة أبحث عن الشعر الياباني وبخاصة قصيدة الهايكو .

احترامي