المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأب د. يوسف حتي .. سبع رؤى جديدة



وديع العبيدي
03/12/2006, 06:50 PM
الأب د. يوسف حتي

سبع رؤى جديدة

(1) أرى ما لا يُرى
الرؤية أكثر من نظر وتطلع وتحديق وانبهار. " لهم عيون ولا يرون...". أنهم كثيرون.
انها الاستبصار، والرويّة، والغور في الأعماق، وانفساح الأفق، والولوج في رحاب عوالم جديدة.
انها الماضي والحاضر والمستقبل في عين باصرة موحّدة تبعث فيك مطلقية وجود.
الرائي والمرئي والرؤى واحد. من لا يرى، يفرق، يجزئ، يبعثر. أما من يرى، فيجمع، ويلمّ، ويوحد، والمطلق واحد، وكل مطلقيات الوجود توحيد في الواحد.
" هو الذي رأى..." (ملحمة كلكامش10)، أنا وأنت، بل نحن. قد رأينا، وآمنا، وصرنا واحداً.
لا أرى في الماضي وحسب، انما في الحاضر، وأكشف المستقبل. أزاء الرؤية لا يستحيل شيء.
أرى في ثلب الحجر مرونة النسيم، وفي نسغ النبات جوهر الحياة، وفي لون الزهر بهاء الوجود، وفي غور البحر خفايا الطبيعة، وفي قمم الجبال أفق الحقيقة، وفي زقزقة الطيور لحن الخلود، وفي وفاء الحيوان نقاء القيم، وفي عين الطفل بسمة الأمل، وفي قلب المحبين خلود الفرح، وأرى في وجه الله كمال الحق والخير والجمال والفرح والحبّ.
واليوم إذ تتفتح مجالات كبرى للرؤية، ونرى من مواقعنا المحدودة وسع كون لا تحدّه أسيجة ومسافات وإشارات، ونرى في الأرقام والرموز والمعادلات مجالات علم لا يقاس وابتكارات جديدة لا حدود لها. ونرى في المادة طاقات لا عهد لنا بها، علينا أن نستثمر هذه الأبعاد الرحبة والمديات الفسيحة، فنعرف، ونتبصّر، ونتعمّق، ونهضم، ونحوّل الكل مصل دم في شريان الذات المنفتحة والمتحدة بالواحد الجوهري والضروري. والا فلا أخطر من التشتت والتشرذم والتفكك. سوف ينقلب انسان الألف الثالث دمية تتلاعب بها وسائل التقنية الحديثة، أقدار الأزمنة المعاصرة. أما أن عرف أن يرى، فستولد عوالم جديدة في الكون، وسيكون هو سيد الموقف، وسينعم برؤى لم ترها بشر من قبل.....

(2) شجرة حياة
كان العماء في الكون.... كل شيء كان ضباباً، كل شيء جفاف، كل شيء مواتا، لكنه الروح المرفرف أخصب الدنيا نوراً، ماء، وحياة.
شجرة الحياة ! ما هي ؟ قيل وكتب الكثير، نخلة، أرزة، تفاحة؟ ستظل غير مشخصة، لأنها لو شخصت لأنتفت قيمتها أو خفّ وزنها. قيمتها في رمزيتها، ورمزيتها نضارتها، اشراقها، خصوبتها، ثمارها، مذاقها، خلودها، شجرة حياة.
ألهذا أغوت حواء وبها آدم؟.... شجرة معرفة ورؤية.
أرادا أن يصيرا إلهين ويزيحا الله الذي وحده خالق كل شيء. فالشجرة أبوّة وأمومة، ولا شيء من العدم، والوجود من مصدر الوجود. والخلق أسمى الابداع. ولا أعظم من الأبـوّة، لذا كان الله أبا، ولا أروع من الأم، لذا كانت البلاد أما، واللغة ، والحضارة، الأبوّة والأمومة أكثر من لحم ودم وتراب وحرف، الأب والأم أكثر من والدي ولد أو ثلاثة أو خمسة. كلنا أبناء كثيرين. وكل ناضج أب وأم لكثيرين، وكل مبدع أب وأم.
ورأيت، فاذا بالفنان يبدع ما يجعلنا ننشدّ الى الجمال والروعة، وبالباحث الى الحقيقة والقيم، وبالأم الى الحياة والحبّ..... واذا بكل من يفعل ويعمل انسانياً يشارك في عملية الخلق والابداع. وفهمت معنى التراث والحضارة بالشكل الأعمق والأبلغ. لم يعد التجميع والترداد والاجترار مقبولاً، ولا إحياء الدفين وتجديد العتيق. لأننا للإنماء والتعميق والخلود.
ورأيت فاذا بي أمتدّ شجرة حياة.

(3) التنين يلازمنا
" ان الغابة تمتد مسافة عشرة آلاف ساعة في كل جهة
فمن يجرؤ على الايغال في داخلها
و " خمبابا" زئيره عباب الطوفان
تنبعث من فمه النار، ونفسه الموت الزؤام"
ومع ذلك فأن كلكامش يقول لأنكيدو غريمه ثم خلّه:
" لنقتله كلانا، أنا وأنت
لكي نزيل الشرّ من البلاد" (ملحة كلكامش، الفصل 2- العمود 3)
" وظهرت في السماء آية أخرى:
تنين عظيم أشقر له سبعة أرؤس وعشرة قرون
على كل رأس تاج
وذنبه يجرّ ثلث كواكب السماء، فألقاها الى الأرض
ووقف التنين قبالة المرأة الماخض ليبتلع ولدها حين تضعه " (رؤيا 12:3-4)

للشرّ رؤوس وأذناب وقرون وتيجان.. أنه متفشّ في الدنيا، متأصّل في التأريخ، ملازم الانسان كالظل. مسافاته واسعة ومساحاته فسيحة وقواته غفيرة مؤثرة ومؤذية.
والانسان الرائي يسعى لاستئصال الشرّ من جذوره وتقصي أبعاده في أدق التفاصيل. بدءا بالذات يعمل من يرى على تجنب الشرّ، ومقاومته، حتى القضاء عليه لإراحة الناس جميعاً، انها رسالة لن يكون الانسان انساناً إلا إذا حملها، عاشها، وأنماها، مستخدماً كل الطاقات والقوى والوسائل.
أيكون التقدم على حساب الشرّ وقواه؟ أم في الكون طاقة خير يمكن أن نفجرها لتحرق كل الزوان فتتنقى الحنطة وتتحول خبزاً للجائعين، ليأكل فقراء الحق والحبّ والخير، ويشبعوا ، ويبدعوا.
كلنا معاً للقضاء على تنين الدنيا، وإلا فلم نحن؟..

(4) نوم أهل الكهف
تحكي لنا الأساطير حقائق، نام أهل الكهف سنين طوالاً، ثم قاموا... فاذا العالم مختلف.
أننفض عنا سبات السنين؟
أعجب لأناس ما يزالون يؤكدون على القديم، وأغرب ما في الأمر أنهم يرفضون الجديد. ولعلّهم معذورون لو رفضوا الجديد كله وتمسّكوا بالقديم كله....
لكنه لا القديم قديم ولا الجديد جديد. انها سنّة الحياة. التطور والتقدم. الانطلاق في أجواء عصرنة يحيا الانسان بفضلها يومه، واقعه، ومنجزات عالمه، أو يكون الانسان ابن زمانه لو فعل غير ذلك؟
أما التشبث بالقديم ورفض الجديد، بحجة الحفاظ على الموروث والقيم والحقيقة، فعدم تفهم للقديم والجديد، وتزمت بذهنية أحادية التفكير، ونزعة كسول تبعث على التخلف في مسيرة الانماء الانساني وركاب التقدم الحضاري.
وتمعّنت في الكون فإذا طيفه ألوان سبعة، وإذا بالأبيض والأسود تجميع الألوان أو انعدامها، وحاورت ربّي: لماذا أردته ألواناً مختلفة، وليس لوناً واحداً؟ حكمتك عظيمة، ويا للبهاء والروعة !
الوجود عينه ليس ساكناً وجامداً، أنه متحرك، الحيّ منه ينبض شعوراً، وعـياً وسناء.
ورأيت، فإذا الجديد يسري في ذاتي كلها، دماً وفكراً ومشاعر، وإذا به ينقّي كل ما عتق فيَّ، ويذكي ما فسد، ويحيي ما هو ميت، وإذا بي أنبعث ثلجاً، ناراً، بخوراً، وسنبلة ذهبية فياضة العطاء.

(5) التجلي
ورأيت، فإذا بنافذة تفتحني على أفق لم أعهدها من قبل. وإذا بخطاي تقودني الى باب ألج منه الى عالم جديد رائع. وإذا بجبل شاهق، متوج بالأبيض، مشعّ بالنور، طافح بالشجر، تسحرني ألحان طيوره، وتبهرني أشكال حيواناته، وتنشر في سفوحه بيوت يشتهي المرء أن يسكن فيها مدى الأبد. وإذا بي في قلب الجبل، ووجه بهيّ جميل مكتمل يومئ إليَّ لأدنو، فأرتعد، وأنطرح أرضاً، ولا أجسر على التطلع إليه إلا بعد حين، ومن زاوية العين، وأنا أخبئ وجهي بكفي، وأنحني أقصى الانحناء، وهو يرنو إليَّ بهدوء، وحنان، ورحمة، ويتقدم نحوي، فأغور في الأرض، ويقترب أكثر وأكثر، حتى يلمسني، فتسري في عروقي شرارة تلهب الكيان، ويمدّ يده، يقيمني، فأنهض بتؤدة متجنباً التفرّس في وجهه، لكنه يسرع فيضمّني الى قلبه، فـنصير جمر حبّ.
من هو؟ لا تسألوني، وماذا يريد؟ اني أعلم ، ولِمَ لَمْ أمضِ معه؟ لأنكم هنا، وتظلّ الرؤيا حيّة في الأعماق، وهنيئاً لمن يحظى بها.

(6) نحن أكثر
مترامية الأطراف، تظنها سراباً وهي حقيقة، تقطعها على غير هدى، فالطرقات كلها دروب، وليس من درب أكيد سوى ما يعرفه الخبير ااحاذق، أبن الصحراء.
وخشية المتاهة، وشبح المجهول المرعب المؤذي، يتلفت الوقت كله/ يخاف الظل والعفاريت، وتكثر الآعداء، فيحتمي، ويتسلّح، ويحارب، ولا يعود إلا خاسراً، يجرّ أذيال الخيبة والمرارة.
يتسلق الجبال العالية، يسقط مراراً لوعورة الصخور، تؤذيه المفارز والمتعرجات، يستفيء في الكهوف. يحترس من الريح والثلج والوحوش، يلبث حبيساً سنين طوالاً، وإذ يتحرك، يهجم على أخيه، ويقتله ويهيم على وجهه في العراء، مدى الحياة.
يركب البحر، يمخر عبابه نحو مصير مجهول، تلاطمه أمواج عاتية، تنهك قواه، لا هم له سوى النجاة، ولا ملاذ سوى حنين يتذكر به ماضياً لم يعشْه.
القارب مهشّم، والميناء سراب، فالشرقيّ يحنّ الى ماضيه بحزن، ويحلم بمستقبل أوهاماً، أما حاضره فلا يحياه ألبتة، والغربي يبتزّ ماضيه ليهدر حاضره سعياً نحو مستقبل أفضل.
وإذا بالصحراء غابة أشجار وورود وغلات، وبالجبل مدينة العصر الجديد، وبالبحر رحلة عمر هانئ جميل، وإذا بإنساننا ينشر الضياء، يسفح البهاء، يفتح السماء.
كنا نظن أننا..... واكتشفنا أننا أكثر بكثير، ادعاء واعتداد وافتخار؟ مسؤولية اختيار للصيرورة أكبر، في ألفنا الثالث؟

(7) حروف نور نار
وقال " إقرأ ".
كانت حروفاً ثلاثة، فتساءلت: " أهي كلمات، حقائق، كيانات، كمالات، أم عوالم جديدة؟".
وهبّت عاصفة هوجاء عكّرت الأجواء. انقلب الكون واسودّت الأفُق. فاض الزبد والوحل والدود. الأحرف غريبة، والألوان متنافرة، واللحن عويل. خشبة صغيرة لم ألقَ، وخيط نور لم أرَ، يداً واحدة لم أحظَ بها لأخرج من دوّامة متاهة الزمن.
" من ينتشلني؟ من يساعدني؟ من يحبّني؟ .... أخشى الجميع، كرهت الكلّ، يئست من ذاتي...."
بريق عجيب، قوس قزح، عمود نار، انفتحت عيناي، فرأيت الحروف الثلاثة كلمات، حقائق، كيانات، كمالات، وعوالم لم تخطر على بال بشر.
للوجود أوجه وألوان ومذاق، للحقائق عيون واجنحة وقلب.
ح حق يطال وجه السماء وينتشر شموساً.
ح حياة تبعث الطاقة والدماء في السبات والموات وتلد حكماء.
ح حبّ يحوّل الجلمود جمرة والأجزاء وحدة والشرنقة فراشة عطاء.
وإذا بالكلمة تصير جسداً، بشراً فداء.
وإذا بخبزة نقية نقسمها معاً، بفرح وشموع وبخور، يشبع الجميع ويهللون.
انه رجاء الكون في الألف الجديد. آمين.