المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفرد بين التنمية والانتماء.. تحليل يتقبل الرد



الدكتور نوفل قاسم علي الشهوان
15/04/2008, 11:09 PM
((خلاصة ورقة عمل مقدمة إلى الندوة العلمية الأولى لكلية العلوم السياسية بجامعة الموصل حول المواطنة والديمقراطية والتنمية للمدة بين 15-16 نيسان 2008))nawfal057@yahoo.com

الفرد بين التنمية والانتماء .. تحليل يتقبل الرد
الدكتور نوفل قاسم علي الشهوان
nawfal057@yahoo.com
مدخل
يتمحور الكلام في هذا المجال حول الإنسان العراقي في مشواره الطويل بين الوطنية والتنمية منذ قرن من الزمان وحتى الوقت الحاضر، ومن الطبيعي أن يمر تحليل هذه العلاقة الشائكة في العراق على العديد من المفاهيم التي تركت آثارها بشكل أو بآخر على العلاقة قيد الدراسة من جانب وعلى الفرد العراقي ذاته من جانب آخر، وأهمها: الإنتاجية بمسمياتها التي كانت سائدة آنئذٍ وحتى أحدث تعاريفها اليوم؛ والإخلاص في العمل بكل مضامينه؛ والولاء والبراء في العمل؛ والحقوق والواجبات المترتبة على شتى أشكال العمل؛ وأخيرا التطور البشري المتسارع مع تطور الحياة. وتجدر الإشارة إلى ان كل من هذه المفاهيم قد طرأ عليها تغير مداً وجزراً مع تطور مفهوم المواطنة في العراق عبر ما ينيف على قرن من الزمان.
يمكن القول أن مفهوم المواطنة في العراق قد مرّ بأربعة مراحل، هي: (1) المرحلة اللأولى وهي مرحلة النشوء والصياغة مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921؛ (2) المرحلة الثانية وهي مرحلة التبلور والعنفوان مع حركة مايس/1941؛ (3) مرحلة التقهقر والإنكفاء منذ سنة 1958 مع بدء التحول من الانتماء إلى الوطن إلى الانتماء إلى الدولة ولاحقا الإنتماء إلى سلطة الدولة بدلاً من الوطن؛ (4) مرحلة تفتت الوطنية وتشرذم فئات المجتمع العراقي على أيدي الإحتلال والميليشيات.
إن مفهوم الوطن والمواطنة يعبر عن إحساس وانتماء أكثر منه فكر وثقافة وهو من المفاهيم الحساسة التي اذا كثر الكلام فيها فقدت جزءً كبيراً من معانيها فكيف وفقدت مغزاها كلاً اذا تواردت عليها الانشائيات وغلبت عليها لغة الخطاب!
والاحساس بالوطن وبالانتماء اليه مسألة فطرية بالمقام الأول ثم تأتي المناهج التربوية لترسيخ اتجاهها بالإتجاه المرسوم. فجميع العراقيين ومنذ المراحل الابتدائية الأولى للدراسة درسوا الوطنية وتشبعوا بجذوتها وشربوا من فيوضها. فيتذكر جيل الثلاثينات والأربعينات وكذلك جيل الخمسينات والستينات دوي الوطنية والأناشيد الوطنية التي لازالت مؤثرة في الأسماع الى اليوم، مثل: نحن الشباب لنا الغد وجده المخلّد...؛ أنا ابن الصحاري أنا ابن القفار...؛ الله أكبر الله أكبر فوق كيد المعتدي.. الله أكبر يا بلادي رددي...؛ موطني.. موطني...؛ والعلم الذي اريد له ان يعيش في علو لكي يعتصموا به بعد الله، وغيرها الكثير.
وتتذكر الأجيال أسما لامعة في سماء الوطن، مثل: ساطع الحصري صاحب القراءة الخلدونية؛ وجميل صدقي الزهاوي؛ وشيخ الشعراء أمجد الزهاوي؛ ومعروف الرصافي؛ ومن الشعراء العرب: محمد أحمد الفيتوري وأبي القاسم الشابّي وسيد درويش وتسترجع الذكريات اشعار أبي الأسود الدؤلي وقائمة تطول.
مع ذلك كان العراقيون منذ المرحلة الثانية وحتى الوقت الحاضر يصبحون في كل مرة على ما يفتك بالوطن وبالمواطن باسم الوطنية لا باسم غيرها والى أن حدث الزلزال الأكبر وهو زلزال الاحتلال وانكشف العراق على أكبر عملية بيع للوطن وارخص عملية بيع للوطنية، العملية التي عصفت بما تبقى من احساس بالوطن. فهل يسعفنا التاريخ بكل محاريبه هذه المرة؟ أم ستسعفنا الجغرافية بعولمتها المزعومة من التيهان اليوم؟
هذه الورقة ترى أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ومع كل ذلك تبقى العقول العراقية وأقلامها ساعية لابتداع المسوغات تلو الإبداعات لإعادة توطين الحس الاجتماعي العام للمكونات المجتمع وللأفراد، وتبقى البلاد كعهدها "يخفق قلبها بنبض هو احلام الهاجعين من ابنائها وترنو عيناها ببريق الغد الى القادمين يدقون على ابوابها ويسألون عن الطريق". فأي الطريق يبغ العراقيون عظة ودليل في التغيير: عظة التاريخ أم عبرة المصير؟
فيما يأتي استذكار لأبرز ملامح الصفحتين: التي سبقت وتلك التي تلت زلزال الاحتلال الأميركي للعراق الأبيّ.
حصاد المواطنة
يفترض بحصيلة المواطنة الصالحة التي سادت في العراق وبحسب النظريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن تكون ثمارها في جميع الأحوال التنمية والتطور والرخاء ويسر الحياة، ولكنها في العراق حصاد الهشيم في ضوء الوقائع والحقائق التي سترسمها المضامين القادمة، وقد صدم من كان حياً من التربويون والمصلحون والمجددون بالنتائج التي حلت في البلاد وهم يعلمون حقاً أنها لم تأت من فراغ ولم تجر الاتجاه المتوقع، وأنها قد مرت بدلا من ذلك بمرحلتين، هما:
أولاً: قبل الزلزال
جرت في العقود المتأخرة من القرن الماضي تغذية متواصلة لكل ما يخالف مبادئ المواطنة في طريق التنمية وأن تلك المبادئ خدرت الجماهير للغايات التي كان يعقوب يخفيها دوما. ولولا الرخاء الاقتصادي الذي عم العالم أجمع تقريباً والتي ظهرت بعض آثار النعمة معه في العراق ومعها استوعب افراد المجتمع صحوة المفاهيم والمسميات واكتسبوا المهارات ورصنوا القيم والاتجاهات ولكن الموج كان عالياً.
نفذ المواطن خلال تلك العقود واجباته تجاه وطنه وعرف حقوقه ومنها المساواة وادرك حقوق المواطن وإنسانيته مع التدجين الذي رسمته له سلطة الدولة، وادرك متأخراً تفاوت الحقوق وتوزيعها بحسب الميول والانحرافات لا بحسب الاستحقاقات. قدم أعظم مؤشرات الانتاجية والإخلاص في العمل وطبق ترشيد الاستهلاك ووفر وادخر قرشه الأبيض ليومه الأسود، وجرب الحرمان والبذل والعطاء والتضحية وجرب كل شئ على أمل الا يخسر الوطن، وصمد الى الرمق الأخير ولكنه مع ذلك خسر الوطن وخيل له أنه فقد الوطنية وأضاع معهما التاريخ والجغرافية وكل العلوم الاجتماعية والانسانية.. لا لشئ الاّ بسبب غلبة الأقدار!! فضاعت قيمة المواطنة على الأقل.
وقد سادت العهد فكرتان قويتان تصارعتا الحقائق وتقاسمتاها، الأولى: أفادت بوجود الترابط بين الفرد والوطن وأنه لم يزل هناك انتماء قابل للنماء؛ والثانية: حاولت تقديم الوطن والمواطن فداء على مذابح الحرية، وحاولت ترجيح الأهداف مهما عظمت التكلفة ومهما غلت التضحية، وبقي كل ما تبقى من انتماء تحت المساومة بين أمرين، هما:
إما قبول الغالبية بالتضحية في مقارعة الظلم والطغيان وازدواجية المعايير، والرضا بالفقر والحرمان من أجل صدق المبادئ ونبلها اللذان لا وجود لهما على الأرض؛ أو أن الأقدار ستفتك بمن يعارضها وستفني ما قد يتبقى من أشلاء الوطن. وهكذا بقي الخيار الأول يعمل إلى حين ثم فرض الخيار الثاني نفسه من الخارج وليس من الداخل.

بعد الزلزال
وقع الزلزال وحط ليل الدائرة القطبية البارد وهو ليل طويل التهم كل المواسم واختزل كل النهارات. ولكي يستشعر العراقيون طعم المواطنة العراقية التي فقدوها مع الاحتلال أضحوا يعيشون مواطنة الأعراق لا مواطنة العراق وذلك في ليل بهيم أليل لا قمر فيه ولا اهتداء ولا استنارة. وأمسوا بظلام دامس وبتخبط رافس لا ضياء فيه ولا نور سوى بصيص الأنجم الذابلة. وذهبوا يستذكرون من جرب هذا الطعم قبلهم فلم يجدوا، ومرت صورة أهل الكنانة الذين ظلوا بعد النكسة يغصون أشهراً من الألم والتساؤل عما إذا كانوا قد قصروا بحق أمهم وبلدهم التي مرّ بها نهار صعب عجز عن دفع مهرها، وعرفوا بشجبهم الليل الحزين لأن بلدهم لا تحب سوى موال النهار، بينما.. بينما ليل العراقيين ليل مليئ بالآثام والآلام ومصاصي الدماء، فتذكروا أن حبات العقد المنفرط لا يغسلها ماء الصباح ولا ينفع معها مارد المصباح. وكأن العراقيين يؤكدون عدم انتمائهم للعراق، واذا ما وجد انتماء فهو انتماء السلب والسرقة لكل من يتولى الأمر في القطاع العام، مسجلين الأرقام القياسية في مؤشرات الفساد والإفساد وتربع العراق بسببها على قائمة الفساد العالمي لهيئة الشفافية العالمية، ومن ورائها تسجيل أكثر مقاييس الحكم سلبية منذ تاريخ أول احتساب علمي لها على المستوى العالمي عام 1994 وحتى تاريخ كتابة هذه السطور. فكل من نال.. نال بلا عفاف ولا كفاف، ملخصين مقولة قديمة: كل من حكم ظلم في بلد ضاع فيه المخلصون وساد فيه المبطلون.
لا حلم للعراقيين بمستقبل ولا تفاؤل لهم بعمل ولا طعم عندهم للعمل الجماعي أو للنشاط الاجتماعي ولا بريق لغدهم ولا سؤال لهم عن طريق ما دام ليل القطب البارد جاثما على صدورهم. لا يتوقعون أي شئ سوى أمراً واحداً وهو ربما يطل خطر أكبر اذا ما رحل ليل الإحتلال وهو خطر الإدمان على الدم. عندها تتمكن لعنة الموزائيك من رقاب البشر وتظهر الحقيقة كاملة. فلا شكل معها ولا مضمون للفسيفساء لا في العراق ولا في غيره، ولا وجود لها إلا عند قطع النجارين ورسومات الوراقين وفي صفحات الكتب فقط.
حاصل ما تقدم يمكن تلخيصه بطائفة من الحقائق وأخرى من الوقائع التي تحدد أبعاد العلاقة التي يعيشها المواطن العراقي بين الانتماء التي حط عند محطته الأخيرة من مراحل التكوين والترابط وبين التنمية المنشودة المحتملة التجدد.

الحقائق
1. المجتمع العراقي نسيج غير متجانس انثروبولوجيا ويتركب من أعراق وانتماءات متباينة.
2. طالما شبه هذا النسيج بمفاهيم أجمل مما هو في الواقع مثل الفسيفساء والموزائيك وغير ذلك.
3. قادة البلاد، من غير النخب والمفكرين والمثقفين على موائد الوطنية الأصيلة لا يعبرون عن العراق وانما يعبرون عن الأعراق التي ينتمون اليها.
وبهذا اضحى التنوع عبئا لم يلبث أن تحول الى قيد كبير في طريق الحياة الطبيعية.

الوقائع
1. منذ خمس سنوات انفرط العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع بعد مراحل متعددة من تآكل العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وحيث ان هذا العقد هو احساس اجتماعي وهو مسألة نفسية أكثر منه معنى أو مبنى فانه لن ياتئم ولن يلتحم تماما وقد انهار كما ينهار البنيان فانهار بأهله في نار الدنيا. ولا تكتب له اعادة البناء للا بالانتماء الوطن والى علمه بفتح اللام وليس الى اي مسمى آخر غيره
2. ان انهيار العقد الاجتماعي بين الافراد لم ينته الا بالتشرذم والتصارع وضياع الحقوق والمقاييس.
3. اذا كان الدم لا يرجع ماء فالعراقيون بنوا قاعدة خاصة بهم تخلصهم من ذلك القيد وهو هدر الدم نفسه.
منذ بدء رسالة الإسلام قال نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم: لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها. وفي كل مفاصل حياة الدولة العربية ومراحل كبواتها كانت هذه المقولة تظهر لتؤكد قانون الحياة الذي دل عليه هادي البشرية. ومقولة عمر بن الخطاب لم تكن بحاج إلى كل تلك العبر لتنطق بالقول: نحن أمة أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. ولكن الإنسان خلق ظلوما وأول ما يظلم فانه يظلم نفسه، عندما يردد البدع والابتداع باسم التقدم والحضارة والتجدد دون هدي أو اهتداء والشيطان جاهز ومتربص والخير عندها يخص واشر يعم.
وعليه، وإزاء تلك الملامح هناك شيئان فقط لا ثالث لهما يمكن لهما ان يعيدوا النصاب كما كان بدرجة اكبر أو اقل، وهما: الزمن (بإرادة الله) بعدما يفعل فعله ويأتي على الأخضر واليابس وتكون التجربة المرة هي الواعظ والدليل، أو قوة قاهرة تفعل فعلها (بإذن الله) في إعادة بودقة الانصهار الى اتونها وتعمل على تجاوز ما مضى بكل ما فيه من تصدعات.

خاتمة
قد يُرى في هذا الكلام مجرد تشاؤم وتطير من خطوب الدنيا واهوالها والحقيقة أمر من ذلك والحقيقة تقول ان هذا صحيح ولكنه الواقع، فالمد الاجتماعي قد انحسر في العراق الى ادنى حدوده وطغت كل الاوهام العصرية عليه. وقد يشهد المجتمع العراقي جميع المجتمعات الأخرى وهي تنهض الواحد تلو الاخر الا هو فهو باقٍ وجاثٍ في مكانه، فلا تغيير نحو الاحسن ولا تغير في الانفس ولا تبدل فيها والله لا يغير من ليس به تغيير.
من هنا ولسنوات عديدة مقبلة لا تنمية ولا تطور الا في الاهداب والشكليات ولا تحرر ولا تقدم الا بسبل الالتفاف على الحقوق وبتزييف الوقائع وباستهجان اية ارضٍ تفيق على خير طالما بقي الانسان كما هو.. لا يريد أن يستفيد من النور ومن العلوم ومن تجارب الاخرين ويحاول ان يجرب كل شئ وكل جديد بنفسه وطالما بقي هناك عساس وعنف يجهدون كل صحوة وتغيير.
واذا كان لابد من حل وسبيل للتغير الصحيح فلا سبيل الا بقوة مفروضة، حيث لا يفل الحديد الا الحديد ولا يمكن للانفس والارادات التطويع الا بها وهي قوة القانون وبدولة القانون وبحكم القانون وعندها سلام على كل الاجتماعيات وعلى كل الفيضانات وعلى كل القوانين مالم تستند الى اساس متين من الحق والحقوق المفروضة بقوة القانون الركيزة الاولى بين ركائز ما عرف بالحكم الراشد المفقود، فضلاُ عن ضبط الفساد والسيطرة عليه؛ والحكم الفاعل أو بالأصح فاعلية الحكومة (الحوكمة مجازاً)؛ وحق المساءلة والتعبير لكل مواطن؛ ونوعية التنظيم وأوضاع الضبط والسيطرة؛ والاستقرار السياسي بكل عوامله ومسوغاته، وغيرها من المبادئ الأخرى التي تندرج جميعاً تحت مضامين المساءلة والتضمينية في الحكم.
ومصدر هذه القوة يأتي من بناء السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) بسند صحيح يمتد الى كل المكونات التي يضمها المجتمع وربما قبلها السلطة الدستورية كلما شابها اشتباه في التفسير وتأخر عن مواكبة تفاصيل الحياة، وليست نابعة من جزء معين ومحدد من اجزاء المجتمع دون غيره او من الاعراف او من الذات الطوعية. وحذار إذا ما سنحت الفرصة أن تنبع تلك القوة من الصميم في يوم من الايام ولا يستفيد المجتمع من التجربة فسوف لن يتسن لها أن تنبع مرة أخرى بعدما حصل ما حصل، فالتاريخ في العراق لا يعود للوراء ولا يعيد نفسه كما قد يحصل في غيره من المجتمعات.