المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شهادتي في الشاعر شوقي بغدادي و شعره - د.شاكر مطلق



الدكتور شاكر مطلق
23/04/2008, 01:43 PM
" شهادتي في الشاعر شوقي بغدادي و شعره "
د . شاكر مطلق

كيف للمريد أن ينظر إلى المعشوق إلاَّ بعين الرّضى و الحب ؟ و كيف للشاعر المشتاق أن يلامس مَنْ يتشوَّقُ إليه إلاَّ بشوقٍ ، وأن يُعبِّر إلاَّ من خلالِ " ترجُمان الأشواق" ؟
جميلاً كانَ ، ولا يزال ، هذا " البغـدادي " الجميل . جميلٌ حتى اسمه ، أنيقٌ حتى إيقاعُه ، منذ أن قرأتُ أو سمعتُ قصائده الباكرة في مطلع الخمسينيَّات من القرن العشرين ، وهو يلقي منها ما أراد جيلٌ كاملٌ منَّا أن يسمعَ ، من يومها و أنا معجبٌ به محبٌ له .
قصائدُ تحملُ تطلُّعاتٍ واعـدةً بمستقبلٍ أفضلَ ، تنهالُ كالنَّيازكَ على قلوبنا حاملةً الرفضَ والنَّقدَ والكثيرَ من الضجيجِ الـلازمِ – آنذاكَ _ لأرواحِنا الطَّموحـةِ كي تبقى يقظـةً مستيقظةً ، وكي لا يعبرَ
" الغاشمون " ولا يلمسَ كِياننا " المعتدون " .
يقولُ البغدادي شوقي ، في تلكَ المرحلة ، وبكثير من التفاؤل اللازم والمطلوب يومها في مجموعته الأولى ( أكثر من قلب واحد ) – دار الفكر الجديد / بيروت 1955 - :
( من قصيدة : شتاء 1954 _ ص 117 _ وكان شتاءً قاسياً جداً في البلادْ السورية :

" … كحبةِ القمحِ ما استطالتْ
لكنَّ أحشاءَها نَماءُ
فلتَقصفْ الريحُ ما استطاعتْ
وليَقْسُ في أرضنا الشتاءُ
لأنَّهُ في الصقيعِ ينمو
يَظلُّ بالدِّفءِ لي رجاءُ "

ومن قصيدة ( لأنَّ غيري ) – ص 143 - يصلنا هدير صوتِ ( الرجال) المناضلين المتفائلين، بوضوحٍ تامْ حيثُ يقولْ :

" لأنِّي أعيشُ زمانَ الرجالْ
لأنَّ حياتي نضالْ
فإنَّ غدي
لهُ كل هذا الجمالْ "
هذا التفاؤل لا يعبأ بالشقاء الذي لا يخفى على عين الشاعر وبصيرته ، فهو يعرفُ ما معنى أن تكون دوماً مُراقَباً بل ومطارداً أيضاً فيكتب ( النوافذ المغلقة – ص 76 ) داعياً إلى اليقظةَ و الحذر ، فالجلاَّد في كل مكانْ :

" أغلِقِ الشُّباكَ إني
موشكٌ أن أتكلَّمْ
إنَّ للنسمةِ أذْناً
تسمعُ الصَّوتَ وتفهمْ
في عيونِ الناسِ رعبٌ
وظنونٌ تتوهمْ … إلخ
ويصلُ في النهاية إلى التفاؤل المعهود مرة أخرى ويختتم متحدياً :
" في غدٍ أفتحُ شباكيَ
لمَّا أتكلَّمْ "
ونسمعه يقول ، متجاهلاً المتاعبَ و المصاعبَ وحتى الموت ، أنَّ الحياةَ لنا و البقاءَ ، نحنُ الشباب التقدمي طبعاً ، في قصيدته ( الحياة أقوى ) ص 151 ، التي أنشدها ( في مهرجان أنصار السلم الكبير ، بدمشق في الذكرى الخامسة لتأسيس مجلس السلم العالمي ) :

" لا تدَّعوا .. فالموتُ لن يقوى .. وما يُجدي ادِّعاءُ
عيشوا كما نحيا .. ففي يدنا الشقاءُ .. أو الهناءُ
ولأنتمُو الطُّـلَـقاءُ .. فانتشروا .. فنحنُ الأقوياءُ "
ويختتمُ فيقول :
" فَرحٌ مَطَلُّ الصيفِ ، فامرح يا شبابُ لكَ البقاءُ "

كلماتٌ ربَّما كانتْ تخرجُ من الصَّميمِ ، ولكنها قطعاً كانتْ تصلُ إلى الصميمِ ، في جوٍّ عَكِرٍ مضطربٍ يبحثُ عنِ البطلِ أو المخلًص، ولو في القصيدةِ التي لا بدَّ من حضورِها في كل مهرجان وبعدَ وإبَّانَ المظاهراتِ ، ملبَّبةً مدجَّجةً توحي لأحفادِ " داحسَ والغبراء " أنها قادرةٌ على أن تخلقَ للمعتدينَ وللرجعيَّين ألف " داحـسَ " أخرى ، وأنها ستكونُ المعْبَر الحسيَّ لهم لاقتحامِ الحواجز والقفز وراءَ الأسلاكِ الشائكةِ التي تحولُ بينَ رؤاهم وبينَ الاقتراب مـنْ وردةِ الحريَّةِ والعدالةِ الاجتماعيَّةِ وحتى الاشتراكيَّةِ ، عروسُ الأحلامِ ، مزركشةُ الثوب الأحمر، سيدةُ الرُّوح.
مَنْ ينظرُ عندها إلى بقعةِ ظلالٍ هنا وهناكْ ، على صدرِ ثوبِها الجميلْ أو إلى شقٍّ صغيرٍ في أطرافه ؟ .
منْ ينظرُ _آنَئذٍ _ إلى أنَّ بعضَ خيوطِ ثوبها قد لا تنسجمُ وتتوافقُ ألوانُه مع خيوطٍ زاهيةٍ أخرى ، وربما تقلِّل منْ روعتها وألقِها ؟ .
لنقرأ من قصيدة (النَّوافذ المغلقة) ص 76 ، المقطع التالي:

" كلَّ يومٍ قطرةٌ .. تملأُ
أحواضي وتُفعَمْ
وغداً تُدلَقُ فالأرضُ
سيولٌ تتقدَّمْ …

مثالٌ آخر من قصيدة ( الجلاء الآخر ) ص 122 ، التي ألقاها شوقي في الجامعة السورية بذكرى الجلاء المجيد عام 1954 ، وهي قصيدة طويلة لم تخلُ ، برغم نبل المناسبة ، من بعض تلكَ الخيوط النافرة :

" ألا هبَّةً يا همومَ الشبابِ
تُعيد الزمانَ الذي يغبرُ
تعيدُ الهمومَ المصفَّاةَ حتى
كأن جداولَها الكوثرُ … "

أو ، كما في( الثائر والهراوة ) ص42 :

" في كلِّ كوخ " قبضةٌ
تهتزُّ لليومِ المحتَّمْ
وبكلِّ حقلٍ صرخةٌ
هيهاتَ لنْ تطوى وتُكتَمْ … الخ

أو مثالٌ من قصيدة ( تونُس ) ص 70 :

" ليكنْ ليلٌ كما يبغونَ ساج ٍ أسحَمُ
وليكسِّرْ شجرَ الزيتون فأسٌ مجرمُ
وليَقعْ بيتٌ ، وينهدَّ جدارٌ هدَّموا … إلخ
ثم يختمُ متوعداً :

يومُنا نحنُ غداً …
وغداً .. ننتقمُ

ومع ذلك منْ يستطيعُ عندها أنْ يرى غيرَ ألقٍ على ألقٍ ، والفكرةُ سيِّدةُ الموقفٍ ، والشعارُ نبراسُها "والأيديولوجيا " تقودُ الجوقَةَ وتحدِّدُ أشكالَ النَّشيدِ وإيقاعَهِ أيضاً ؟ .
كثيرة هي الاستشهادات التي يمكن لنا إدراجُها في هذا السياق ، ومن أكثر من مجموعةٍ واحدةٍ ، حيث تنوءُ القصيدةُ ، بناءً ولغةً ، هنا وهناك ، بحِمْلِ مضمونها الإيديولوجي ، غير الطيِّع دوماً لمِزاجها ولميزانها الذهبيِّ ، وإن كانت لا تخلو ، بالطبع ، من ذلك الشعور الإنساني الذي يجِدُ ، حتى لمن يضربه بالهَراوة ، العذرَ على جهلهِ فيما يفعل :
( من ضربك على خدكَ الأيمن … ) .
في قصيدة ( الثائر والهراوة ) ص38 يقول شوقي بغدادي :

" … واستقبلِ الرَّجلَ المُلوِّحَ
بالهَراوةِ إذْ تقدَّمْ
هذا أخٌ غُرٌ وإنْ
أهوى بآلته وأجرمْ
المجرمونَ سواهُ وهو
مسيَّرٌ يا ليتَ يعلمْ "

ومن " بكين - بيجين " يكتب الشاعر بتاريخ 5 / 10 / 1953 قصيدةَ : ( الحصَاد الرابع ) -ص 86 -يهديها إلى الرفيق (ماو تسي تونغ) في عيد الجمهورية الصينية الشعبية الرابع _ ويقول :

أوَ ليسَ أنتَ الزارعُ
وجناكَ جيلٌ طالعُ
هذا الحصادُ الرابعُ
ويتابع قائلاً:
إنَّا معكَ
أبداً نسيرُ إلى الأمامْ
فابنِ السلامْ
وابذرْ فزرعُكَ يانعُ
ولأنتَ نعْمَ الزَّارعُ
هذا الحصادُ الرابعُ
جيلٌ أمامكَ طالعُ …

ربما كنتُ كتبتُ مثلَ هذا الشعر ، لو وقفتُ مثل شوقي يومها –شاباً- في ساحةِ (تْيِنْ أنْ مِنْ ) - بوابة " الهدوء السّماوي - الواقعة أمام قصور(المدينة المحرمة) ، ولكنني كتبتُ بعدها بربع قرنٍ ، وأنا أقفُ هناك أمامَ ضريح المعلمِ ( ماو ) ، قصيدةَ ( حزينةٌ سطوحُ بكين في المساء )، ولا تخلو مجموعتي الشعرية الأولى ( نبأ ٌجديدٌ) الصادرة عام 1957 – مكتبة الروضة / حمص - من مثل هذه الأشعار السياسية ، الخفيفة فنيَّاً ، الثقيلة _ في حينها _ سياسياً ، وربما فكرياً أيضاً .
يكتب شوقي من موسكو قصيدةَ رثاءٍ في ستالين بعنوان ( مع ستالين ) ص 102 :

فاستعدِّي يا جُموعْ
ليس إلاَّ لفتة نحو اليمينْ
فإذا نحنُ إلى جنْبِ ستالينْ…..
خرجَ الجمعُ الحزينْ
يا ستالينْ
فانهضِ الآن إلى جنبِ لينينْ
مثل ما كنتَ وإياهُ قديماً تفعلانْ
تجلسانْ
تستعيدانِ أحاديثَ الزَّمانْ
وتخطَّانِ لأجيالٍ تجيءْ
خطَّةَ العيشِ الهَنيءْ … الخ

يجب ألا ننسى أنَّ شوقي كانَ يومها من فرسانِ المنابرِ ، وبخاصةٍ في المناسبات الوطنية والتقدّمية، فلم يكن من المعقول ، عندها على الأقل ، أن لا يكتب شاعرُنا قصيدةً متأججةَ العواطفِ ، ملهبةً للمشاعرِ ليلقيها في المهرجان الشعبي الضخم الذي ضمّ َنحو عشرين ألف مواطن ، المنعقد في مساء يوم الجمعة في العاشر من أيلول عام 1954 احتفالاً بظهور قائد الحزب الشيوعي السوري ( خالد بكداش ) إلى العَلن ، بعد احتجابه في العمل السري لمدة سبعة أعوام ، بعنوان ( خالد بكداش .. بيننا ) ص 171 ، يقول في نهايتها :

عدتَ .. لأن الشمسَ لا تنطفي
لأنّ شعبي صاح .. يا مرحبا
كما أنشد للجلاء أيضاً ، وأنشد لطهران ( فجر طهران الحزين ) ص 183 ، متعاطفاً مع عشرات القتلى من الرفاق المناضلين الذين سقطوا هناكَ بنار زبانية الشَّاه ،بلغةٍ شفيفةٍ حزينةٍ :

" لم تكنْ طهرانُ قدْ
ألقتْ غطاءَ النائمينْ
عندما دوّى مع
الفجر رصاصُ القاتلينْ
وأفاقتْ بعدُ طهرانُ
على .. فجرٍ .. حزينْ

وأنشدَ حتى للمناجم وعمالها ، تلكَ المناجم غير الموجودة أصلاً لدينا ،على الأقل تلك العميقة منها الضاربة في باطن الأرض ،منطلِقاً من ضرورة أن يشمل التعبيرُ الشّعريُّ مُجملَ الطَّيف السياسي - الأيديولوجي ، حتى لو كان هذا الجانب مجهولاً في حياتنا .
لنستمع إليه يقول في مقتطفاتٍ من قصيدة " هدير المناجم " ص 18 :

سنحملُ هذي الفؤوسْ
ونلهثُ في المنجَمِ
وسوفَ نجرُّ الحديدْ
ونرفض أنْ نرتمي …..
سنرفعُ أصَواتَنا
كزمجرةِ الضَّيغَمِ …..
غداً بمعاولنا
وفانوسنا الملهِمِ
سنمحي سوادَ الدَّياجيرِ
منْ عالمٍ مظلمِ .

إن مثل هذه القصائد الأيديولوجية التي كُتبَ بعضُها ، ضمن الانبهار الأيديولوجي بتواجد الشاعر، أحياناً ، في مَواطنِ تلكَ الأفكار وقريباً من قادتها - سواءٌ الأحياءُ منهم أو الأموات _ لا تخلو من مشاعر رقيقة ، عندما تطال المشهدَ اليوميَّ وحياةَ النَّاس العادييَّن ، كما في قصيدة ( أغنية من موسكو ) _ التي كتبها هناك _ ص 94 :

" إلى يميني طفلةٌ في فِراءٍ
تركضُ حول بركةٍ تستديرُ
كأنها فيه طابةٌ دحْرجَوها
شيءٌ على الأرض .. كبيرٌ .. صغيرُ
وبعضُ أترابٍ لها في مِراحٍ
كأنهم .. أرانبٌ أو طيورُ … الخ

غير أنه لا يستمر طويلاً بذلك ، فنراه يعود من جديدٍ إلى النَّبرةِ السياسية المعهودة ، وفي نفس القصيدة ، حيث يقول :

ونهضَتْ معاملُ .. واستطالتْ
مداخنٌ .. وفارَ بالصُّلبِ كيرُ …
وانسرحَ التراكتورُ في كلِّ أرضٍ
تغرفُ كفَّاهُ ويغنِّي الهَديرُ .

ثمَّ يتذكر الوطنَ فيهتف :
يا بلدي .. يا سوريا .. من مكاني
يهزني إليكِ شوقٌ مريرُ
فيا بلادي .. هبةً ثمَّ نمضي
في الصَّفِ .. لا شوطٌ علينا عسيرُ

ويختتمُ ببيتٍ لم أفهم معناه حتى اليوم، وفاتني أن أسأله عنه في لقاءاتنا العديدة ، وعما تعنيه كلمة
" الأخت " هنا حيث يقول :

من هاهنا يهزُُّني الشَّوقُ حتى
كأنما أختيَ حولي تسيرُ

حنينٌ شفيفٌ يصِلنا الآن من كتاباته الجديدة ، تُؤطِّرهُ " النُّوستالجي " - الحنين إلى الماضي -الرّقيقةُ ، إلى تلكَ الحِقبةِ منْ تاريخِ وطنٍ عريقٍ مائجٍ ، ومنْ تاريخِ جيل " زمنِ الحلم الأول " - عنوان إحدى مجموعاتي الشعرية -الذي لا يزالُ يسري كنسيمٍ رقيقٍ في غاباتِ روحنا الشعريَّةِ العذراءِ ، التي لم يصلْها اليـَباسُ بَعدُ ، والتي لم تدركْها ، حتى الآنَ ، رياحُ السُّـمومِ القاتلةِ .
غابةٌ منَ الظِّلالِ والكلماتِ المُلـوّنةِ والفراشاتِ والعناكب والطيور طبعاً ، تمتدُّ فينا وحولنا وأمامنا عندما يصلنا الآنَ غناءُ هذا " الشوقي الجميل " ، مفعماً بالوجدانيَّاتِ الرقيقةِ كجداول الجبال الصافية ، وبالمشاعر الإنسانية الواعية تماماً لمأساة الوجود والعدمية ، تتلوى وتعاني في مسيرها لتوصل زهرةَ أرواح جيلٍ منسيَّة إلى الوادي والنَّهر وربما إلى المحيط أيضاً وإلى فضاء المجرَّةِ ربما .
تغيَّر إيقاعُ الكلمات الآن _ إذن _ وتغير أيضاً توزيع النُّوطات على ألواح المغني ، بعد أن أفسحتْ سيدةُ الأيديولوجيا المكانَ قليلاً ، لتتركَ أمورَ الحياةِ الصغيرة- الكبيرة ، في آنٍ واحدٍ معاً،تصعدُ في الذاكرة لتحتل مكانها ، ولتقفَ على منبر قائد "الأوركسترا" لتقودَ ، حسب نواميسها ، النّشيدَ الجديدَ ولتعزفَ لنا ، برقَّةٍ ماكرةٍ مخاتلةٍ ، ما أرادت الأخرى أنْ تقوله ، ولكن بكثيرٍ من المهارةِ والتألق الشعريِّ والعذوبةِ اللفظيَّة ، لنفهم منها أنَّ " ليلى _ ( صارتْ ) _ بلا عشاق " ، من خلال لغةٍ " مدجَّنةٍ تنقصها الشراسةُ والصَّفاقة " … لغةٌ لم تكن يوماً مدجَّنةً بل اقتربتْ من الإكسير في الكثير من خطاباتها ولامست أو كادت ، المطلقَ أو اقتربت منه .
لنستمع إليه الآن يبوح في قصيدته " ليلى بلا عشَّاق " ، ص 126 _ وهي القصيدة التي أعطت اسمها للمجموعة الصادرة عام 1979 عن دار الكلمة للنشر في بيروت :

" أوَّاهُ سيدتي
لو اَنَّ العشقَ يشفعُ
غير أنَّ العشقَ محتاجٌ إلى لغةِ جديدهْ
لغتي مدجَّنةٌ
وهاأنذا أكرِّرُ
ما تردِّدهُ الإذاعةُ والجريدهْ
أوَّاه سيدتي
صعبٌ رضاكِ عليَّ
أعرفُ مِحنتي
لغتي مهذَّبةٌ
وتنقصني الشَّراسةُ والصَّفاقهْ
وتعَقٌّلي في الحبِّ تعوزُهُ الحماقهْ … الخ.

هنا تأخذ النصوص المركبة الشاملة بالظهور والتبلور المتألق كما في مجموعته (شيءٌ يخص الروح ) ، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب " 1996 " .
يبهرنا هنا هذا العالم الداخلي الغني ، واسع الطيف الذي يعبِّر من خلال أشياء تبدو صغيرةً عن عالمٍ وسيعٍ ، وعن حبٍ للحياة وتفاعلٍ صميميٍّ مع بشَرها وكائناتها وحتى مع حجارتها وأسواقها من خلال اتساعٍ لطيفٍ للرؤيةِ وللرؤيا .
هي لغةٌ مفعمةٌ بالبراءة وبالوجدانيات العذبة تحدثنا وتبهرنا بصفاء جوهرها ، دون حاجة للصراخ ، وطبعاً دون حاجة للبَذاءة التي قد يريد البعض منا ، أحياناً ، من خلالها أن يوحي بأنه الرافض الفحل الجريء المقتحم ، وسِيان سِيَّان بين لغة بذيئة سوقيَّةٍ وبين نظرةِ ازدراءٍ صامتةٍ تطِلُّ ، في جلال ، لتقول ما يقال وما لا يقال ، وتصلُ كالسهم الحارق إلى ما تريد أن تصل إليه أو توصله إلينا .
لنستمع إليه يقول في قصيدته ( عبد الله في غرناطة ) – ص 14 – من مجموعته ( بين الوسادة والعنق ) الصادرة عام 1974 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق :

رأيتُ عبد الله في غِرناطهْ
منزوياً في ساحة المدينهْ
عرفتُه في البِزَّة الحزينهْ
وهو ينادي جاهداً على الصُّحفْ …
………..
رأيتُه جاءَ على استحياءْ
يحمل صندوقاً من الطِّلاءْ
يسألُ باستخذاءْ
أيسمحُ السيدُ أن أجلو له الحذاءْ ؟

في مجموعته الشعرية (رؤيا يوحنا الدمشقي) الصادرة عام 19991 بدمشق،يخلُق شوقي نبوءَته الجديدة َعن خراب الروح القادم ، وعن لا جدوى الثقافي في حضورِ وامتداد التّشوًّه الروحي الذي طال الإنسان . لنستمع إليه يقول :

" ليست نبوءةً ولا كابوساً
هاأنذا أحرق كتبي وأوراقي
وأتأمل اللهبَ بنشوةٍ ، ما بعدها نشوةٌ .

وإذا سألنا الشاعر عن سبب كل هذا السواد ، ولماذا ؟ نسمعه يقول :

كتبي مكبَّلةٌ وقافيتي
خَرقاءُ والأزهارُ تُحتَضرُ
سقطتْ حصوني ، وانتهى زمنٌ
تُجدي به الكلماتُ فانتظروا ….

إنَّ شاعرنا( شوقي ) ، شأنه شأن العديد من الشعراء المبدعين الحقيقيين ، لا يزال يعمل بجدٍّ على نصِّه ولا يزال ينشغل على أمور الحياة ، بكافة تجلياتها ببراعةٍ واتساعٍ في الرؤيا ،ولا يزال يحلمُ أيضاً ،حتى أنه أطلقَ في عام 1986 على مجموعة قصصيَّة له عنوان " مهنةٌ اسمها الحلُم " ، وهي لا تبتعد عن همِّه الشعري المعروف ، تتحدث عن الطوفان والهزيمة وعن الصراخ والحب ، وتظلُّ تحلُم بغدٍ أفضلَ للناس البسطاءُ ، وهو _ كما هو معروف _ من كتَّاب القصة القصيرة المرموقين ،وله روايتان ومجوعتان للأطفال _ على حدِّ علمي _ إلى جانب مجموعاته الشعرية العديدة .
منذ أكثر من عقدين من الزمن تعرفتُ شخصياً ، الشاعر " البغدادي " وأحببته أكثر فاكثر .
أنشدنا معاً في" البصرة " وفي "دار السلام " شعراً من أجل نصرة العراق العظيم وإنسانه الشامخ ،مباشرة قبل هجمة المغول الجديدة على أرضنا .، ولم يستطع الشعر كالعادة أن يردَّ الطاغوت .
ثمَّة شيءٌ من الحلم ومن خطورة المياه الهادئة يَشعُّ من ناظريه فيشدُّك بوداعة لأن توغل أكثر وأكثرَ في الحوار معه وفي المحبة أيضاً. هدوءٌ رزينٌ يحيطُ _ بتواضع أنيقٍ _ روحاً متأججةً طموحةً ، فلا ترى _ برغم ذلك _ إلاَّ السماء الصافية ولا تشعر إلاَّ بالنسيم العذب الشفيف يلفُّ غموضها النَّحيل .
مضتْ بنا الحياة إلى تخوم الخريف ، أيها البغدادي الجميل ، وتسلَّلتْ إلى كلماتنا مفردات الصقيع والوحشة والموت … إليك - من شعري - أحيل تساؤلي :

قافلةُ الزَّمانْ
تَعبرُ الحدودْ
لكنَّنا لمْ نكتشفْ
محطَّةَ العبورْ…

نعم …متى حصل كلُّ هذا ؟ . الروح لم تزل ، في تجلياتها تطل على الحياة وتعبث وتلهو ببراءة كالطفل الصغير يحمل تاريخ َالروح والجسد ومأساة الكائن والكَينونة ، في كلمات اشتعلت فوق رؤوسنا وأعطتها لون الرَّماد ، ولكنها لا تنطفئ .
هو " الثور البري " يتجلّى فينا- اسم إحدى مجموعاتي الشعرية - يقطَّعُ ويُلحَّبُ ويباعُ ، ولكنه لا يستسلم ولا يموت …
هو عالم لنا يغدر بنا ونظلُّ له أوفياءَ …
دعني _ إذن _ يا صديقي ، في خاتِمة بَوحيَ المتواضع هذا المسمَّى " شهادة " فيكَ ، أن أقبِّلَكَ
وأهديك من بستان أرواح الشعراء الجوالين المتعبين العاشقين ، آخرَ وردةٍ لمْ يصلْها اليَباسُ ، ولنْ يصلَها أبداً ، لتكون تعبيراً عن حبِّنا جميعاً لك ولشعركَ الجميل أيضاً .
وردة الشعر الخالد الذي لولاه لما بقينا أحياءً حتى الآن ، في زمن الموت العبثي وكينونة الظِّلال ، ولكن هل نحن أحياءٌ حقّاً ؟!…
------------------------------
حمص _ سورية 20 / 11 / 1999
( نشرت في مجلة " المعرفة السورية " الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق بتاريخ حزيران 2006 / رقم العدد 513 ) .
E-Mail : mutlak@scs-net.org