سعيد نويضي
25/04/2008, 01:15 PM
بسم الله الرحمن الرحيم...
سلام الله عليكم و رحمته و بركاته...
بعد التحية و السلام هذه كلمات تذكرني و تذكر الغافلين من بني آدم
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }العنكبوت41...
رسائل إلى عالم يسكن بيت العنكبوت...
1 ـ رسالة من سطور الخلل
جميل جدا أن يخاطب الإنسان هذا العالم من خلال الرسائل...لأن الرسالة هي مهمة الإنسان فوق هذه الأرض شاء أم أبى...ففي كل حرف ينفلت من بين الشفاه و يقومه اللسان يحمل خطابا معينا إيجابيا إلى حد الانشراح أو سلبيا إلى تخمة المرارة و الانقباض...
ففي كل يوم تجد سيلا من الرسائل...أنهارا من القول تصب في هاته الأذن و تخرج من أخرى...اللهم ما ينفع الناس فيمكث يرن في الأعماق...كثروات باطن الأرض تمد الجذور بالأسمدة أو تجلب العملة الصعبة من غير جهد و لا تعب...التي يصرفها البعض فيما يعده العقلاء سفها...بحثا عن اللذة و المتعة و فرارا من الألم والحزن...تلك اللذة و المتعة التي تتبخر مع أول خيوط الفجر...
كثيرة هي بحار الحبر التي تهيج على صفحات المجلات و الجرائد و المؤلفات و المصنفات...أمواج من التيارات تأتينا من هنا و هناك محملة بكل غث و سمين...أفكار كوابل من المطر يصب على رؤوسنا مع مطلع كل فجر...عواصف و أعاصير من التصورات التي تعصف بنا داخل بيوتنا كل مساء على شاشة جمعت العالم في قرية امتدت أطرافها امتداد البصر في التلسكوبات و الأقمار بكل أنواعها و أشكالها...
و رغم ذلك لا زلنا في وطننا العربي و الإسلامي لم تنبث لنا الأرض من علمائها و مفكريها و فلاسفتها و منظريها ما يجمعهم على كلمة الحق...؟ و حتى إن اجتمعوا كان ذلك على مستوى القول و لم يرتق بعد لمستوى الفعل... فهل هناك فرق بيننا و بين الآخر الذي جمع شتات جسده الفكري و أطراف عقله المتناثرة و صنع "حضارة اليوم"...؟
الرغبة في المعرفة هي المحرك الأساسي للإنتاج العلمي...و هذا الأخير يشكل العلاقة الموجودة من القديم بين المعرفة ك"علم" و الواقع ك"مجال لتطبيق العلم" بهدف إشباع الرغبات و الحاجيات التي من شأنها أن تسهل ظروف العيش و تحقق شروط العيش في سلم و كرامة و طمأنينة...و عليه نجد المفكر جي.جي.كلارك في كتاب له تحت عنوان" التنوير الآتي من الشرق" ترجمة شوقي جلال في سلسلة عالم المعرفة العدد346 من سنة2007...بحيث يطرح تساؤلا محوريا في علاقة الشرق بالغرب..." يزعمون بوجود فوارق أساسية بين التكوين النفسي لشعوب الشرق و نظيرها في الغرب...و احتج به التواقين لتأكيد الخصال المميزة للغرب في صورة من الديناميكية و الاندفاع بقوة في الأداء و إنجاز المشروعات على نقيض الشرق الكسول القانع بنفسه، وفق زعمهم، إذ يكشف عن فضول معرفي محدود بالقياس إلى الغرب. مثال على ذلك ما يحدثنا به إم.كوليس عن أوروبا، إذ يرى أنها " تفيض فضولا معرفيا " و أنها كذلك " بلغت من الذكاء أوجه، بحيث تدرك أنها بحاجة إلى الكثير الذي تتعلمه من الصين" . و صرح دنيس دو رجمونت خلال نوبة من السخرية بالذات بأن "الإنسان الغربي هو من دأب دائما على المضي قدما و تجاوز الحدود التي تفرضها الطبيعة، و كذا التقاليد التي غرسها السلف، بل تجاوز ذاته قدما على طريق المغامرات"...
حقيقة هي الحضارة ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب...و لكن لو وضعت مقارنة بسيطة على المستوى العلمي و التقني و مستويات البحث العلمي و المنجزات التي حققها الآخر لو وقفت مذهولا مشدوها متسائلا كم من الزمن نحتاج لنستوعب ما وصل إليه؟ و إذا ما تم استيعابه ماذا يمكن أن نضيف إليه..؟ و من هذا المنطلق تجد الشهادة التي تقدم بها جي. جي.كلارك تصب في أن الكل يتعلم من الكل بالرغم من وجود الشعور إما بالسخرية من الذات أو من الآخر...
و هذا التفاعل الحضاري ليس وليد اليوم بل هو مند أن وعى الإنسان ذاته و قدراته و علاقته بالمحيط الخارجي و الإنساني في الظروف المختلفة من السلم و العلم و البحث عن الحقيقة...و من الحرب و الاقتتال و التدافع...
أما الوضع الحالي في ظل المؤشرات الحالية فهناك الصحوة و النهضة و هناك الأزمة المتعددة الأوجه و التبعية المتجددة بأساليبها الحديثة و التي لا تخلو من صراع مع الذات و الهوية من أجل إثبات الحق في الوجود كمعطى لا يختلف عليه العدو و الصديق...
و السؤال الذي يتجدد مع مطلع كل يوم أين يكمن العيب أو الخلل في تكويننا النفسي أم في تركيبتنا العقلية أم في طريقة تفكيرنا؟ أفي الهرمون و الكرمزوم؟ أم في العوامل الوراثية و البيولوجية؟ أم في سيطرة النفس الأمارة بالسوء وغياب النفس اللوامة و قلق النفس المطمئنة؟
لا يمكن بتاتا أن تشتغل النفس بطبقاتها الثلاث خارج الهرمون و الكرمزوم و الوراثي و البيولوجي...لأن الجسم مادة و روح...و لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك إلا إذا أصاب عقله التلف و لم يعد صالح للاستعمال...فكل العلوم الإنسانية تقر بوجود هذه الثنائية...مع اختلاف في درجات التركيز على هذا العنصر أو ذاك...أي وجود المادة و الروح في جل الكائنات الحية...و يأتي الإنسان على رأس هذه الكائنات...كمخلوق خضع بحكم شروط وجوده لعمليات من المد و الجزر في سلم التمدن و التحضر للتطور على مستوى البناء السلوكي و ليس البناء البيولوجي...فأين يكمن الخلل؟
فإذا ما وجدنا في وقتنا الحالي قبائل لم تصل بعد في بناء سلوكها المتمدن و المتحضر و لا زالت تعيش درجات معينة من السلوك الذي يقترب من سلوك الحيوان في المأكل و الملبس و المشرب و المبيت و المعاشرة و أنها بالرغم من ذلك تمارس طقوس "تعبدية" تعتقد في قواها الخفية...فهذا يحيل كل عاقل إلى التساؤل في الخلل الموجود بالمقارنة مع ما وصل إليه "الإنسان " المتمدن في وقتنا الحاضر عن طريق الملاحظة و المشاهدة و المقارنة و الخلاصة إلى المفارقة الواقعة في الوضع الحالي...و من هنا تكون المشاهدة عن طريق "البصر" و الوصول إلى نتيجة واقعية لا يمكن بحال الشك في صدق وجودها عن طريق "البصيرة" يطرح العديد من الأسئلة في وجود الخلل...
فهل يلعب البصر و البصيرة دور في توضيح مكامن الخلل إذا أحسنا في استعمالهما؟ فهل أصابنا شيء في أداة من أدوات التفكير جعلنا لا نرى و لا نسمع و لا نعقل؟ هل تغيرت التركيبة البيولوجية لحاسة من حواسنا الخمس فأصبحنا لا ندرك ما نرى و لا نفقه ما نسمع و لا نعلم ما نعقل؟
هل تنطبق الآية الكريمة على العرب و فيهم نزل أعظم كتاب عرفته البشرية...؟
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته....[التفسير الميسر].
فهل مصيبتنا أننا غافلون عن الآخرة لذلك لم نعد نمسك بزمام دنيانا...مع العلم أن العرب المسلمين يدركون حق الإدراك أكثر من غيرهم أن الحياة الآخرة هي امتداد للحياة الدنيا؟
فأين البصر و أين البصيرة؟
يقول الحق تباعا في ثلاث آيات كريمات...
1 ـ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }القصص72
قل لهم: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائمًا إلى يوم القيامة, مَن إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون وتهدؤون فيه؟ أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار؟...[التفسير الميسر].
2 ـ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الزخرف51
و نادى فرعون في عظماء قومه متبجحًا مفتخرًا بمُلْك "مصر": أليس لي مُلْك "مصر" وهذه الأنهار تجري مِن تحتي؟ أفلا تبصرون عظمتي وقوتي, وضعف موسى وفقره؟...[التفسير الميسر].
3 ـ {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات21
وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغَفَلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟[التفسير الميسر].
ففي سورة القصص إشارة إلى الزمن و من يتحكم في قوانينه و صيرورته...و في سورة الزخرف إشارة لمن يتأله على الناس و هو محكوم بالفناء و الموت كباقي المخلوقات...و في سورة الذاريات إشارة إلى طرح السؤال على أنفسكم و قراءة ما فيها من إعجاز للخالق جل و علا...
فهل نحن مبصرون؟
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }الأعراف201
إن الذين اتقوا الله مِن خلقه, فخافوا عقابه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه, إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكَّروا ما أوجب الله عليهم من طاعته, والتوبة إليه, فإذا هم منتهون عن معصية الله على بصيرة, آخذون بأمر الله, عاصون للشيطان...[التفسير الميسر].
فلا يعقل بتاتا أن يكون طائف من الشيطان قد أصاب صغيرنا و كبيرنا بالمس فأصبحنا لا نبصر الحقيقة و الحق إلا على الشكل الذي يزينه لنا الشيطان أو من قام مقامه...فيبدو لنا الباطل حقا و الحق باطلا...و نحن مغلوبون من أنفسنا...فهلا أبصرنا و ثبنا وعدنا لرشدنا...؟
فما جدوى النظر إذا لم ينظر إلى ما وراء ما يرى...؟ و يدرك مغزى و معنى و حكمة ما يرى...؟
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته...[التفسير الميسر].
فالإنسان ميزه خالقه عن غيره من المخلوقات بالعقل بالفهم بالإدراك بالوعي...و سيبله لكل هذه الخصائص هي الحواس التي زود بها كل المخلوقات بدرجات متفاوتة...فهل أحسن استعمالها و وصل بها لما وجدت من أجلها...أليست حاسة البصر ليرى بها آيات الله عز و جل في عالمه الداخلي و عالمه الخارجي؟ أليست حاسة السمع ليكون بها ذاكرة و تاريخ و يتواصل بمفردات اللغة التي يختزنها و يغرف منها معلومات ينقلها الخلف إلى السلف...؟
كما باقي الحواس كل خلق لغاية ما و وظيفة محددة...
فكيف نقرأ الآية الكريمة {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36
ولا تتبع -أيها الإنسان- ما لا تعلم، بل تأكَّد وتثبَّت. إن الإنسان مسؤول عما استعمَل فيه سمعه وبصره وفؤاده، فإذا استعمَلها في الخير نال الثواب، وإذا استعملها في الشر نال العقاب...[التفسير الميسر].
فهل إذا استعملنا البصر والبصيرة على الوجه الصحيح قومنا الخلل في جهاز من أجهزتنا الإدراكية...؟
فالعالم يزخر بالعديد من المعلومات و الأفكار الصحيح منها و الخاطئ، الصادق منها و الكاذب، الحقيقي و المزيف، اليقيني منها و الخرافي...و غير ذلك فلا نقبل و نصدق إلا بما هو يقيني...؟
فكيف نفصل بين ما هو يقيني و ما هو خرافي و يبن ما يتراوح بينهما من حقائق؟
و للحديث بقية إن كان في العمر بقية...
فاللهم اغفر لنا إن أخطأنا أو نسينا...
:fl::emo_m1::fl::emo_m1::emo_m16:
سلام الله عليكم و رحمته و بركاته...
بعد التحية و السلام هذه كلمات تذكرني و تذكر الغافلين من بني آدم
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }العنكبوت41...
رسائل إلى عالم يسكن بيت العنكبوت...
1 ـ رسالة من سطور الخلل
جميل جدا أن يخاطب الإنسان هذا العالم من خلال الرسائل...لأن الرسالة هي مهمة الإنسان فوق هذه الأرض شاء أم أبى...ففي كل حرف ينفلت من بين الشفاه و يقومه اللسان يحمل خطابا معينا إيجابيا إلى حد الانشراح أو سلبيا إلى تخمة المرارة و الانقباض...
ففي كل يوم تجد سيلا من الرسائل...أنهارا من القول تصب في هاته الأذن و تخرج من أخرى...اللهم ما ينفع الناس فيمكث يرن في الأعماق...كثروات باطن الأرض تمد الجذور بالأسمدة أو تجلب العملة الصعبة من غير جهد و لا تعب...التي يصرفها البعض فيما يعده العقلاء سفها...بحثا عن اللذة و المتعة و فرارا من الألم والحزن...تلك اللذة و المتعة التي تتبخر مع أول خيوط الفجر...
كثيرة هي بحار الحبر التي تهيج على صفحات المجلات و الجرائد و المؤلفات و المصنفات...أمواج من التيارات تأتينا من هنا و هناك محملة بكل غث و سمين...أفكار كوابل من المطر يصب على رؤوسنا مع مطلع كل فجر...عواصف و أعاصير من التصورات التي تعصف بنا داخل بيوتنا كل مساء على شاشة جمعت العالم في قرية امتدت أطرافها امتداد البصر في التلسكوبات و الأقمار بكل أنواعها و أشكالها...
و رغم ذلك لا زلنا في وطننا العربي و الإسلامي لم تنبث لنا الأرض من علمائها و مفكريها و فلاسفتها و منظريها ما يجمعهم على كلمة الحق...؟ و حتى إن اجتمعوا كان ذلك على مستوى القول و لم يرتق بعد لمستوى الفعل... فهل هناك فرق بيننا و بين الآخر الذي جمع شتات جسده الفكري و أطراف عقله المتناثرة و صنع "حضارة اليوم"...؟
الرغبة في المعرفة هي المحرك الأساسي للإنتاج العلمي...و هذا الأخير يشكل العلاقة الموجودة من القديم بين المعرفة ك"علم" و الواقع ك"مجال لتطبيق العلم" بهدف إشباع الرغبات و الحاجيات التي من شأنها أن تسهل ظروف العيش و تحقق شروط العيش في سلم و كرامة و طمأنينة...و عليه نجد المفكر جي.جي.كلارك في كتاب له تحت عنوان" التنوير الآتي من الشرق" ترجمة شوقي جلال في سلسلة عالم المعرفة العدد346 من سنة2007...بحيث يطرح تساؤلا محوريا في علاقة الشرق بالغرب..." يزعمون بوجود فوارق أساسية بين التكوين النفسي لشعوب الشرق و نظيرها في الغرب...و احتج به التواقين لتأكيد الخصال المميزة للغرب في صورة من الديناميكية و الاندفاع بقوة في الأداء و إنجاز المشروعات على نقيض الشرق الكسول القانع بنفسه، وفق زعمهم، إذ يكشف عن فضول معرفي محدود بالقياس إلى الغرب. مثال على ذلك ما يحدثنا به إم.كوليس عن أوروبا، إذ يرى أنها " تفيض فضولا معرفيا " و أنها كذلك " بلغت من الذكاء أوجه، بحيث تدرك أنها بحاجة إلى الكثير الذي تتعلمه من الصين" . و صرح دنيس دو رجمونت خلال نوبة من السخرية بالذات بأن "الإنسان الغربي هو من دأب دائما على المضي قدما و تجاوز الحدود التي تفرضها الطبيعة، و كذا التقاليد التي غرسها السلف، بل تجاوز ذاته قدما على طريق المغامرات"...
حقيقة هي الحضارة ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب...و لكن لو وضعت مقارنة بسيطة على المستوى العلمي و التقني و مستويات البحث العلمي و المنجزات التي حققها الآخر لو وقفت مذهولا مشدوها متسائلا كم من الزمن نحتاج لنستوعب ما وصل إليه؟ و إذا ما تم استيعابه ماذا يمكن أن نضيف إليه..؟ و من هذا المنطلق تجد الشهادة التي تقدم بها جي. جي.كلارك تصب في أن الكل يتعلم من الكل بالرغم من وجود الشعور إما بالسخرية من الذات أو من الآخر...
و هذا التفاعل الحضاري ليس وليد اليوم بل هو مند أن وعى الإنسان ذاته و قدراته و علاقته بالمحيط الخارجي و الإنساني في الظروف المختلفة من السلم و العلم و البحث عن الحقيقة...و من الحرب و الاقتتال و التدافع...
أما الوضع الحالي في ظل المؤشرات الحالية فهناك الصحوة و النهضة و هناك الأزمة المتعددة الأوجه و التبعية المتجددة بأساليبها الحديثة و التي لا تخلو من صراع مع الذات و الهوية من أجل إثبات الحق في الوجود كمعطى لا يختلف عليه العدو و الصديق...
و السؤال الذي يتجدد مع مطلع كل يوم أين يكمن العيب أو الخلل في تكويننا النفسي أم في تركيبتنا العقلية أم في طريقة تفكيرنا؟ أفي الهرمون و الكرمزوم؟ أم في العوامل الوراثية و البيولوجية؟ أم في سيطرة النفس الأمارة بالسوء وغياب النفس اللوامة و قلق النفس المطمئنة؟
لا يمكن بتاتا أن تشتغل النفس بطبقاتها الثلاث خارج الهرمون و الكرمزوم و الوراثي و البيولوجي...لأن الجسم مادة و روح...و لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك إلا إذا أصاب عقله التلف و لم يعد صالح للاستعمال...فكل العلوم الإنسانية تقر بوجود هذه الثنائية...مع اختلاف في درجات التركيز على هذا العنصر أو ذاك...أي وجود المادة و الروح في جل الكائنات الحية...و يأتي الإنسان على رأس هذه الكائنات...كمخلوق خضع بحكم شروط وجوده لعمليات من المد و الجزر في سلم التمدن و التحضر للتطور على مستوى البناء السلوكي و ليس البناء البيولوجي...فأين يكمن الخلل؟
فإذا ما وجدنا في وقتنا الحالي قبائل لم تصل بعد في بناء سلوكها المتمدن و المتحضر و لا زالت تعيش درجات معينة من السلوك الذي يقترب من سلوك الحيوان في المأكل و الملبس و المشرب و المبيت و المعاشرة و أنها بالرغم من ذلك تمارس طقوس "تعبدية" تعتقد في قواها الخفية...فهذا يحيل كل عاقل إلى التساؤل في الخلل الموجود بالمقارنة مع ما وصل إليه "الإنسان " المتمدن في وقتنا الحاضر عن طريق الملاحظة و المشاهدة و المقارنة و الخلاصة إلى المفارقة الواقعة في الوضع الحالي...و من هنا تكون المشاهدة عن طريق "البصر" و الوصول إلى نتيجة واقعية لا يمكن بحال الشك في صدق وجودها عن طريق "البصيرة" يطرح العديد من الأسئلة في وجود الخلل...
فهل يلعب البصر و البصيرة دور في توضيح مكامن الخلل إذا أحسنا في استعمالهما؟ فهل أصابنا شيء في أداة من أدوات التفكير جعلنا لا نرى و لا نسمع و لا نعقل؟ هل تغيرت التركيبة البيولوجية لحاسة من حواسنا الخمس فأصبحنا لا ندرك ما نرى و لا نفقه ما نسمع و لا نعلم ما نعقل؟
هل تنطبق الآية الكريمة على العرب و فيهم نزل أعظم كتاب عرفته البشرية...؟
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته....[التفسير الميسر].
فهل مصيبتنا أننا غافلون عن الآخرة لذلك لم نعد نمسك بزمام دنيانا...مع العلم أن العرب المسلمين يدركون حق الإدراك أكثر من غيرهم أن الحياة الآخرة هي امتداد للحياة الدنيا؟
فأين البصر و أين البصيرة؟
يقول الحق تباعا في ثلاث آيات كريمات...
1 ـ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }القصص72
قل لهم: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائمًا إلى يوم القيامة, مَن إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون وتهدؤون فيه؟ أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار؟...[التفسير الميسر].
2 ـ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الزخرف51
و نادى فرعون في عظماء قومه متبجحًا مفتخرًا بمُلْك "مصر": أليس لي مُلْك "مصر" وهذه الأنهار تجري مِن تحتي؟ أفلا تبصرون عظمتي وقوتي, وضعف موسى وفقره؟...[التفسير الميسر].
3 ـ {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات21
وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغَفَلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟[التفسير الميسر].
ففي سورة القصص إشارة إلى الزمن و من يتحكم في قوانينه و صيرورته...و في سورة الزخرف إشارة لمن يتأله على الناس و هو محكوم بالفناء و الموت كباقي المخلوقات...و في سورة الذاريات إشارة إلى طرح السؤال على أنفسكم و قراءة ما فيها من إعجاز للخالق جل و علا...
فهل نحن مبصرون؟
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }الأعراف201
إن الذين اتقوا الله مِن خلقه, فخافوا عقابه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه, إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكَّروا ما أوجب الله عليهم من طاعته, والتوبة إليه, فإذا هم منتهون عن معصية الله على بصيرة, آخذون بأمر الله, عاصون للشيطان...[التفسير الميسر].
فلا يعقل بتاتا أن يكون طائف من الشيطان قد أصاب صغيرنا و كبيرنا بالمس فأصبحنا لا نبصر الحقيقة و الحق إلا على الشكل الذي يزينه لنا الشيطان أو من قام مقامه...فيبدو لنا الباطل حقا و الحق باطلا...و نحن مغلوبون من أنفسنا...فهلا أبصرنا و ثبنا وعدنا لرشدنا...؟
فما جدوى النظر إذا لم ينظر إلى ما وراء ما يرى...؟ و يدرك مغزى و معنى و حكمة ما يرى...؟
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته...[التفسير الميسر].
فالإنسان ميزه خالقه عن غيره من المخلوقات بالعقل بالفهم بالإدراك بالوعي...و سيبله لكل هذه الخصائص هي الحواس التي زود بها كل المخلوقات بدرجات متفاوتة...فهل أحسن استعمالها و وصل بها لما وجدت من أجلها...أليست حاسة البصر ليرى بها آيات الله عز و جل في عالمه الداخلي و عالمه الخارجي؟ أليست حاسة السمع ليكون بها ذاكرة و تاريخ و يتواصل بمفردات اللغة التي يختزنها و يغرف منها معلومات ينقلها الخلف إلى السلف...؟
كما باقي الحواس كل خلق لغاية ما و وظيفة محددة...
فكيف نقرأ الآية الكريمة {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36
ولا تتبع -أيها الإنسان- ما لا تعلم، بل تأكَّد وتثبَّت. إن الإنسان مسؤول عما استعمَل فيه سمعه وبصره وفؤاده، فإذا استعمَلها في الخير نال الثواب، وإذا استعملها في الشر نال العقاب...[التفسير الميسر].
فهل إذا استعملنا البصر والبصيرة على الوجه الصحيح قومنا الخلل في جهاز من أجهزتنا الإدراكية...؟
فالعالم يزخر بالعديد من المعلومات و الأفكار الصحيح منها و الخاطئ، الصادق منها و الكاذب، الحقيقي و المزيف، اليقيني منها و الخرافي...و غير ذلك فلا نقبل و نصدق إلا بما هو يقيني...؟
فكيف نفصل بين ما هو يقيني و ما هو خرافي و يبن ما يتراوح بينهما من حقائق؟
و للحديث بقية إن كان في العمر بقية...
فاللهم اغفر لنا إن أخطأنا أو نسينا...
:fl::emo_m1::fl::emo_m1::emo_m16: