المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حداثة التماسات...تماس الحداثات قراءة في رواية " شبابيك منتصف الليل " لابراهيم درغوثي



ابراهيم درغوثي
29/04/2008, 08:19 PM
حداثة التماسات...تماس الحداثات
قراءة في رواية " شبابيك منتصف الليل "
لابراهيم درغوثي

د. محمد القاضي
كلية الآداب بمنوبة
جامعة تونس الأولى



ننطلق في هذه القراءة من هاجسين أساسيين: أولهما كيفية اشتغال النص عامة و النص الروائي خاصة ، و قدرته على توليد الدلالة من اللغة ، بإنشاء نظام يتخذ له موقعا ضمن جملة من الأنساق المحيطة به . إن النص – هذا المصنوع – لا يفتأ يتشكل و يتحول و يبعث على الحيرة و التسآل ، و هو في حالاته كلها ما إن يوجد حتى يعني ، و إذا بنا لا نمسك به في حال نشأته حتى نتسلل إليه لحظة تقبله . فهل هو دال بغيره ؟ و هل النظام الذي يتراءى لنا فيه وضعه المؤلف قصدا أم استبطنه القارئ استنباطا ؟
و أما الهاجس الثاني فمداره على منظومة القيم الفكرية و الإجتماعية و السياسية التي نعيش في خضمها . فما موقعنا من حركة التاريخ ؟ و ما موقفنا من هذه التحولات التي تهز عالمنا هزا ؟ و هل في امكاننا أن نعيش في قوقعتنا بمعزل عما يحدث حولنا ؟ ز ماذا يتعين علينا أن نفعل إذا أردنا ألا نعيش على فتات الحضارة و زبدها ؟ و الحق أننا لا نوجه هذه الأسئلة في منفسح من الفضاء ، و إنما نواجهها في ركم محدد هو الإبداع و علاقاته بهذه القيم الكونية التي أخذت تؤسس المجال الثقافي الإنساني الجديد.
من خلال هذين الهاجسين حاولنا أن ندخل عالم ابراهيم درغوثي في عمله الروائي " شبابيك منتصف الليل " . و قد رأينا أن نمر في حديثنا عن مرحلتين : وسمنا أولاهما بحداثة التماسات ووسمنا الثانية بتماس الحداثات.

1 - حداثة التماسات:
حين ندخل هذه الرواية يشدنا إليها هذا التداخل بين الأشكال و الرؤى و الأساليب و النصوص. و من هذا التداخل تتسلل إلينا فكرة الحداثة بما هي تجسيد للتحول المستمر و بحث دؤوب لا يني عن مثل أعلى لا يتحقق في حيز زمني أو مكاني محدد و مساءلة لا تتوقف. فالحداثة إذن نقيض السكون و التسليم و الأحدية .

الجنس الأدبي:
قبل أن ندخل في هذا النص تطالعنا منذ الغلاف الخارجي كلمة " رواية " و هي مصطلح قرائي يدفعنا إلى أن نخضع مكونات النص إلى جنس من أجناس الإبداع المخصوص قوامه سرد أحداث تنتمي إلى عالم المتخيل : ( fiction ) و لكننا نفاجأ و نحن نتوغل في مضايق النص بأن صاحبه يقسمه فصولا بلغ عددها اثنين وثلاثين . و هو يجعل لكل نص عنوانا . و لا يكتفي بذلك و إنما يبني كل فصل على نحو يكاد يكون مستقلا عن غيره من الفصول . إن الرواية تغدو بهذه الصورة مجموعة من القصص التي ينطوي كل منها على معنى في ذاته و على معنى آخر حين ينظم إلى أمثاله . فالوحدة الظاهرة تنهض على التعدد الخفي .
إن هذا العالم المتخيل الذي ينشد من خلال اندراجه في الجنس الروائي إلى سنة ابداعية مستحدثة ، يتجاذبه قطبان على طرفي نقيض : هما التاريخ و الخرافة . فالتاريخ يفسر الرواية على أن تخضع للمرجع و تتقيد بقيوده . ففي الفصل الرابع يتحدث درغوثي عن الاكتفاء بزوجة واحدة : " في كل المنازل كان الرجال يعاشرون امرأة و احدة ، زوجة أحلها القانون و الشرع ، و لا يتعدون لثانية إلا بوفاة أو طلاق . فقد حرم سيادة رئيس الجمهورية السابق المجاهد الأكبر فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة تعدد الزوجات في تونس بمرسوم رئاسي صدر بالرائد الرسمي للجمهورية و صادق عليه مجلس الأمة الموقر بإجماع أعضائه( 2).
و قد يرد هذا التاريخ في صورة هامش يفسر المتن و يشد أزره . و من ذلك أن الفصل الثامن يبتدئ بهذه الجملة " مرت أيامنا في القرية رتيبة هادئة إلى أن زارنا وباء التيفوس" و نقرأ في أسفل الصفحة " التيفوس : مرض وبائي ضرب جنوب البلاد التونسية خلال الحرب العالمية الثانية فأهلك خلقا كثيرا " ( 3 ) .
إن هذه الإحالات و ما يجري مجراها تشد الرواية من رسنها و تحكم عليها أن تحذو التاريخ حذو النعل بالنعل ، و أن تكون ظلا له باهتا .
على أن القطب الثاني هو الخرافة يأتي كاسرا لهذه الصورة الامتثالية ف " شبابيك منتصف الليل " ليست تاريخا ، و لا هي رواية تاريخية ، و لا حتى رواية واقعية تستند إلى خلفية تاريخية . ذلك أنها تفتح شبابيبكها على عالم عجيب ، و تقطع الصلة مع مبدإ المشاكلة ( la vraisemblable ) الذي هو قوام الواقعية في الفن . على هذا النحو نلحظ كيف غادر حصان الجد القرية حين وصلها أبو البركات فمشى الحصان وراءه . ذهبا سويا إلى الخلاء . نبت للحصان جناحان بديعان بهما ألف لون و لون ، فطار باتجاه الشمس إلى أن مالت نحو الغروب
( 4 ) . و على هذا النحو أيضا ننتقل من حديث الواقع و التاريخ مع إبي اللعنات حين حل بالمناجم ، و ما كان يرويه له أحد أصدقائه من قصص تؤكد أن سكان الجبل من الجن لم يكونوا راضين عن تحفير بيوتهم لاستخراج الفسفاط ، إلى مغامرة عجيبة عاشها أبو اللعنات و هو داخل الداموس ، إذ بلغت سمعه زغاريد نسوة و غناء أطفال صغار ، كان الضجيج يقترب منه شيئا فشيئا ، فاختبأ في ركن من أركان النفق إلى أن مر جمع من نساء الجان بقربه . كن يحملن عروسا فوق هودج مطرز بخيوط الذهب و سمع جنية تحدث صاحبتها عن العروس التي ستزف هذه الليلة إلى أمير الجان في هذا الجبل . بعد أن مر الجمع تخلفت واحدة من الجنيات و همست في أذن عمي " أبي اللعنات" :
لا تعد مرة أخرى إلى هذا المكان أيها الإنسي ، فلو كان معنا رجال لأطعموا لحمك كلاب الجن ( 5 ) . و بعد هذه الحادثة اختفى العم ثلاثين سنة حتى تساءل الفتى : " هل اختطفت جنية منجم الفسفاط عمي ؟"( 6 )
و يبلغ الأمر مداه حين يقتحم المجال الخرافي المجال التاريخي . فمرض التيفوس الذي ضرب الجنوب التونسي خلال الحرب العالمية الثانية قد أخرج في هيئة آدمية . فهو يركب حمارا و يقف أمام باب السور و حين يجن الليل ينسلل إلى القرية و يحادث حامل المصباح و يتجول في الأزقة و يمر بالبيوت و يلبس وجه ملك الموت و " يقف أمام الواحد من سكان القرية يشير له بإصبعه و يقول : " حياتك انتهت و لا يزيد . فيدخل بيته ، يسلم على أهله و أصحابه ثم يغتسل و يلبس كفنه و يذهب إلى المقبرة على رجليه ، يدق بحجر صغير على قبر يختاره بنفسه . بعد مدة يفتح الراقد في القبر كوة يدخل منها الطارق و ينغلق القبر من جديد " ( 7 ) و يظل الأمر كذلك سبعة أيام إلى أن يهوي الجد بهراوته على التيفوس صاحب الحمار فيرديه قتيلا.
إن حداثة " شبابيك منتصف الليل " تنبجس من التماس بين الواقعي و التاريخي و العجيب ، فكل مجال من المجالات يأتي موقفا للمجالين الآخرين . و في هذه المتابعة المحمومة لتنقل الكتاب بين المصطلحات يولد النص من الحركة و الفعل .
و بإمكاننا أن نذهب في هذا المسلك مذاهب أخرى. فدرغوثي لا يسجن روايته في قالب شكلي واحد ، و إنما يراوح فيها بين أشكال متعددة من أهمها شكل الخبر – فهو يعمد في مناسبات شتى إلى قطع كلام شخصية و إحلال كلام غيرها محله باستخدام أسلوب شبيه بالإسناد ، فيقول مثلا : " قال صاحب الفانوس " (8) أو " قالت عجوز مازالت تعيش إلى الآن " (9) كما يستخدم الشعر بطريقتين إحداهما موغلة في التقليد ، تتجلى في ترصيع النثر بالشعر : عوى كلب فجاوبته كلاب . فقلت كما قال رجل من بني غطفان :
" أخاف كلاب الأبعدين و نبحها * إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب "(10)
و الأخرى متقحمة غمار التجديد ، تظهر في ملابسة الشعرية للنص النثري : كانت الساعة حوالي منتصف الليل . و المدينة التي تعج بالحياة طوال النهار تنام باكرا. الشوارع خالية من المارة . وظلال الجدران تهبط ثقيلة على الأرض و كأنها الأشباح الفارة من قبورها(...) كان القمر يملأ المكان ، و القبور تنام في هدوء ، و ظلال الشواهد تتراقص في خبث ، و الليل داهم العالم فعم السكون و ملأت الجو رهبة المكان"
( 11) كما يظهر ذلك في كتابة النثر كما يكتب الشعر.
إن هذا التماس المتنوع الأشكال يصدم الحساسية التقليدية التي تتخذ فيها الأشياء حدودا مضبوطة لا تعدوها. ومن ثم فإن التقلب المستمر و التنقل المتواصل بين الأجناس و المذاهب يستفز في القارئ رغبته في تدجين هذا النص النفور و الوقوف على كنهه أهو نثر أم شعر ، رواية أم تاريخ ، واقعي أم عجيب؟ فلا يكاد يستقر من ذلك على رأي.

الرؤية :
يأتينا هذا النص من خلال أصوات متعددة أهمها صوت الحفيد الذي لا اسم له. و أكثر فصول الرواية على لسان هذا الفتى الذي يحدثنا عن جده . و يهتم في الكتاب الأول بالحديث عن أبيه خليفة أبي الشامات و في الكتاب الثاني عن عمه خليفة أبي اللعنات، و في الكتاب الثالث عن عمه خليفة أبي البركات. إلا أن هذا الراوي كثيرا ما يسلم الرواية إلى غيره من الشخصيات، فنجد ضمير المتكلم يتلبس الجد أو العم أبا الشامات أو عجوزا ، لا بل إنما نجد هذا الضمير في الفصل التاسع فلا نعرف من المتكلم به. فبعد أن قتل الجد التيفوس طالعنا هذا الصوت :
" صارت أيامي معدودات
و لم يبق لي إلا أن أترقب ملك الموت
و أن أراقب الأبواب
فلست أدري من وراء أي باب سوف يأتي
لست أدري "( 12)
هذا بالإضافة إلى القص بضمير الغائب حيث يكون الراوي عليما بما ظهر و ما خفي . و في هذه الحالة يصبح الراوي خارجا عن الأحداث لا يشارك فيها ، و إنما كان بها أعلم من أية شخصية من شخصيات الرواية.
إن هذا التعدد في أصوات الرواة يدخل بعض الارتباك على مقروئية النص. فلا نكاد نحقق هوية المتكلم حتى يأتينا غيره أو يأتينا هو نفسه في صورة أخرى جديدة . فالعم أبو الشامات مثلا كان في الفصل الخامس متحدثا عنه ، إلا أنه يتحول في الفصل العاشر متحدثا عن نفسه ، و كذلك الشأن بالنسبة إلى الجد الذي تغير دوره في الفصل الثامن ، فانتقل من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم . إن هذه الطريقة حاضرة في كثير من مواضع الرواية. ففي الفصل الخامس حين يتسلل أبو الشامات إلى بيت حبيبته المجنونة نجد هذا التردد بين الضميرين بالنسبة إلى الشخصية عينها : " سمع طفلا يبكي من وراء الباب المفتوح . سمع هدهدة أم . و نبح جرو صغير أمام باب آخر . نبح وهر ثم عاد إلى نومه . أي الأبواب سأطرق ؟ هذا الذي على يميني ؟ قد يكون بيت أحد إخوتها؟
( ...) بعد أن رفض إخوته تزويجها منه حاولت الهروب من المنزل فما قدرت ( ... ) و عاد ينظر إلى الأبواب. أي الأبواب سأدفع ؟ و عاد الطفل إلى البكاء . سألغي هذا الباب قال . و عاد الشخير يقرع أذنيه بعنف. سألغي هذا الباب أيضا " ( 13 ) . إن هذه المراوحة بين السرد و المونولوج بدون وسائط لفظية ، ليست وليدة الأدب و إنما هي مستعارة من تقنيات السينما . وهي تنهض على ضرب من اللعب على حبال متعددة يتقدم النص من خلال تظافرها.
و يقودنا هذا إلى مسألة الروية في هذه الرواية . فإبراهيم درغوثي لا يريد أن يقدم لنا منظورا واحدا نكتشف منه هذا العالم ، بل يحرص على أن يصطحبنا معه لنطل على العالم من زوايا متعددة و من خلال أصوات متنوعة ، إنه لا يقف في موقع واحد و إنما يتحرك و يتنقل ، و لهذا جعل عنوان روايته " شبابيك منتصف الليل " . و هذه الرغبة في التنقل هي التي تفسر لنا أن الشخصية المتكلمة ترى نفسها أحيانا ، فهذا الفتى الذي يخطط لشنق الكلب و يحدثنا عن مغامرته بضمير المتكلم يبتعد عن المشهد راويا و إن ظل ماثلا فيه شخصية ، يقول : " و تستمر المسرحية أمامي .أبطالها كلاب شبقة ورجل مجنون يشاركهم فصول اللعبة "(14)
فكيف يكون ممثلا و شاهدا في آن واحد ؟ و كيف يكون راويا عاقلا و بطلا مجنونا في الوقت نفسه ؟
إن هذا الانشطار صورة من الرواية مختزلة . إذ هي لا تطلب البساطة و الوضوح ، و إنما تسعى إلى التقنع و المداورة . و لذلك كان التبئير في هذا النص متحولا، بين خارجي و داخلي ، و بين فردي و جماعي ، و بين هذه الشخصية و تلك . و من خلال هذه التماسات تسن الرواية طريقها إلى الحداثة.

التناص :

إن ما أشرنا إليه من أمر السرد و الرؤية في هذا النص يؤكد لنا أن القطيعة القديمة بين أساليب القص لم يعد لها مكان هاهنا ، بل أنها أفسحت المجال وسيعا لضرب من التداخل بين الأساليب محير حقا ، إلا أنه تداخل منتج للمعنى و معدد لوجوه القراءات. و هذا التداخل هو الذي يبيح للراوي أن ينقل لنا أقوال الشخصيات في لغة عربية فصيحة لا غبار عليها فيجعل هماما يقول : " أخرجي العاهرة و صاحبها من الدار يا أمي " و تنطق الأم العجوز بهذا الجواب : " لن أسامحك في قطرة واحدة من حليب الثدي الذي رضعته يا همام ". (15) و في الوقت ينقل كلام المومس البذيء بالعامية التونسية.(16) و يبلغ به الأمر أن يورد في نص الرواية العربي كلام صاحبة الماخور بالفرنسية مع المومسات و حوارها بالفرنسية أيضا مع رئيس شركة الفوسفاط (17) دون أن يعنى بترجمته. إننا هنا إزاء نقل لكلام الشخصيات ، إلا أن يمر تارة بمصفاة الراوي فيفصحه ، و يصلنا تارة أخرى بشكل يوهم أنه مباشر، فيكسر النسق و يحدث الإشكال.
و من هذا القبيل ما تحفل به الرواية من تناص . فالقسم الأكبر من الفصل السادس مأخوذ من كتاب " الحيوان " للجاحظ ، و الفصل السابع خبر قصير عن بختيار البويهي مستمد من مسكويه و ابن الأثير . وقد ذكرت الصفحتان و غفل عن ذكر المصدرين ، و لعلهما " تجارب الأمم " و " الكامل " . و في الفصلين العشرين و الواحد و العشرين مقاطع من " الروض العاطر " للشيخ النفزاوي جاءت على لسان السائح الأمريكي ، و هذا دون اعتبار ما حفلت به الهوامش من مشاهد مستمدة من " الحلل السندسية " للسراج ، و قد نسب الكتاب خطأ للتيجاني ، ومن " المسالك و الممالك " للبكري ومن رحلة التيجاني، مع إحالات على " وفيات الأعيان " و " فوات الوفيات " و " معجم البلدان ".
ليست الرواية حينئذ نصا واحدا ، و إنما هي مجموعة من النصوص وضعها رجال مختلفون في أعصر متنوعة و أمكنة متعددة و في أجناس متباعدة و قد كان بإمكان درغوثي أن لا ينقل ما نقل ، و ألا يحدد مصادره ، و لكنه أرادج أن يجعل روايته كشكولا تلتقي فيه شذرات بعضها طارف و بعضها تليد ، فجمع فيه الأخبار التاريخية و الرحلات و التراجم و المعاجم . و الطريف في هذا كله أن هذه الكثرة من النصوص تضامت و ألفت نصا فذا لا يمكن أن يخلط المرء بينه و بين أي من النصوص الأخرى التي دخلت في نسيجه .
إن هذا الذي انكشف لنا في رواية " شبابيك منتصف الليل " جنسا ورؤى و تناصا لشاهد على أن ظاهرة التماس فيها هي التي تشدها إلى الحداثة. إن الأصالة و التوحد و البساطة قد تراجعت فيها و حل محلها الهجنة و التعدد و التعقيد ، ذلك أنها لا تخاطب القارئ لترسيخ ما استقر لديه من سائد القيم ، و لكنها تستفزه و تستفز فيه حساسية جديدة ، و تطرح عليه أسئلة عليه أن يواجهها ، و تغريه بمغامرات عليه أن يخوضها .

2 – تماس الحداثات :

هل إن الكون الممثل بكل ما فيه من أحداث و شخصيات محاكاة لواقع محدد أم أنه صورة من حلم يراد له أن يغدو واقعا ؟ واجهني هذا السؤال فكنت كلما توهمت أنني اكتشفت الجواب عنه تملص مني و تفلت من بين أصابعي .لذلك رأيت أن أقسم الشعرة ثلاثة أقسام علي أدرك ما تحجب عني و توارى.
- الزمن : ظاهر هذه الرواية أنها تتحدث عن فترة زمنية وثيقة الاتصال بالحرب العالمية الثانية و ما تلاها من فترات . و لكننا نعثر فيها عن إشارات إلى زمن البويهيين( 19) و إلى عهد الحماية ( 20 ) و إلى عهد الاستقلال من خلال الحديث عن رئيس الجمهورية السابق المجاهد الأكبر فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة (21) و عن النزل السياحية.(22)
و لكن الغريب أن الخليفة الأول و الخليفة الثاني يقع لهما ما يقع ثم يغيبان ثلاثين سنة ثم يظهران و قد بلغ كل منهما السبعين. أما الخليفة الأول أبو الشامات والد الفتى فقد قضى تلك المدة في السجن ثم عاد الى القرية . و أما الخليفة الثاني أبو اللعنات عم الفتى فقد قضاها غائبا عن الأنظار و قيل إن جنية المنجم اختطفته.
و الناظر في الزمن يلاحظ هيمنة الليل عليه. فالختان تم بعد أن أحضر الأب الطهار " و الشمس تودع الكون " (23)، وحادثة زيارة الأب للمجنونة بدأت في " الساعة العاشرة ليلا " ، و كان قدوم التيفوس وزيارته القرية و مقتله في الليل . و كذلك كانت عودة الأب إلى مجنونته ليلا. و كانت زيارة العم أبي اللعنات للمأخور عندما انتصف الليل ، و شهد عرس الجان ليلا ، و التقى به الفتى في أحد النزل السياحية خلال سهرة ليلية .و أم الفتى الزاوية مع السائح الأمريكي في منتصف الليل ، و قبض الجد قبل طلوع الشمس.(24)
إن هذه الاشارات إلى الليل ، و غيرها في الرواية كثير، هي التي تفسر لنا اختيار درغوثي عنوانا لكتابه " شبابيك منتصف الليل " و تؤكد الفاتحة ذلك ، إذ جاء فيها :
" فتحت شباكا يطل على قلبي
فماذا رأيت ؟
ليلا
و ماذا رأيت ؟
ليلا
و ماذا رأيت ؟
رأيت ليلا أيضا(25)
على أن هذا الظلام الذي يمد أجنحته على الرواية ينجلي في نهايتها . فحين وصل أبو البركات و من معه إلى شط الجريد " كانت الشمس قد وصلت لتوها من سفر البارحة كبيرة و حمراء " و تنتهي الرواية بمشهد أخاذ فالشيخ وحصانه يغوصان في الوحل و الشمس ترتفع : " إلى أن ابتلعت الأرض الحصان وراكبه ، وعادت كما كانت تلمع تحت أشعة الشمس التي بدأت ترتفع رويدا رويدا عن سطح السبخة. كانت الشمس حمراء في لون الدم..."(26). إن موت أبي البركات بعد أبي الشامات و أبي الشامات إيذان ببدء زمن جديد تسوده قيم جديدة.
- المكان : في هذه الرواية علامات مكانية صريحة تحدثنا عن قفصة و شط الجريد و تونس (27) و لكن الأغلب الأعم أن يترك المكان ملفوفا في إهاب الغموض . فالفتى يحدثنا عن القرية ، و عن المدينة – المنجم ، و عن البادية و عن البلاد (28) . و هذا النزوع إلى التعميم يطالعنا منذ بداية الرواية حين قدم لنا الفتى أهم الشخصيات : " أنجب جدي ثلاثة أولاد (...) حفظوا القرآن الكريم في بيوت الله العامرة ، و تفقهوا في علوم الدنيا و الدين ، و لم يترك لهم عنان أنفسهم إلى أن شبوا و صاروا يفرقون بين الحق و الباطل فأطلقهم في الأرض و قال لهم : هي الدنيا أمامكم فاختاروا من الطرق الأقرب إلى قلوبكم " (29) إن كلمتي " الأرض " و " الدنيا " تشيران إلى أن المكان المعني في الرواية لا ينحصر في حيز زمني محدد ، و إنما هو هنا و هناك ، كما كان الزمان أمس و اليوم و غدا . و على هذا النحو نجد أنفسنا في البادية و القرية و المدينة ، في الجنوب و الوسط و الشمال ، في الأمكنة القديمة ( الزاوية ، الكتاب ، الجامع ) و في الأماكن الحديثة ( المنجم ، النزل ، المعهد الصادقي).
و بهذا فإن المكان يتعدد و يتنوع و لكنه في أغلب الأحيان يتأبى على التحنيط ، و يرفض كل أشكال التقييد. و هنا تتألق نهاية الرواية ‘ذ نجد شط الجريد : باطنه وحل يبتلع البشر و الحيوان ، و سطحه جمال بهيج تنعكس عليه أشعة الشمس الصباحية فتكسوه غلالة من نور
الشخصيات : تحدثنا الرواية عن ثلاث شخصيات . و تقف على أهم ملامح كل منها، و أبرز مآتيها – و تختم بالحديث عن نهايتها . و إذ كانت هذه الشخصيات الثلاث تحمل اسما واحدا هو " خليفة " فإنها تختلف في الكنى : أبو الشامات ، أبو اللعنات و أبو البركات. و الرواية ثلاثة كتب ، لكل خليفة كتاب . و لكل خليفة مغامرة . تنزلت هذه الشخصيات من أصل واحد هو الجد الذي ظل محاطا طيلة الرواية بهالة مهيبة قدسية ، فهو القوة و الحق و الصفاء ، إنه منقذ القرية من التيفوس و صائم الدهر وولي الله الذي تشرق من قبره الشمس.
أما خليفة الأول أبو الشامات والد الفتى فإن له وجها لا يخلو من غموض . فهو عاشق للنساء جماع لهن مطلاق مزواج ، و لكنه عاشق للمجنونة هائم بها يقتحم بيتها ليلا و يتحدى إخوتها السبعة ، فينتهي به الأمر إلى الإهانة و يسجن ، و بعد ثلاثين سنة يعود ليدفن نفسه في قبر المجنونة التي وجد جسدها دافئا و كأنها خرجت للتو من فراشها.
أما خليفة الثاني أبو اللعنات فهو متهالك عن اللذات ، ظل في السبعين من عمره يرتزق من عضوه الجنسي ، و انتهى به الأمر إلى الانتحار في أحد النزل السياحية الفاخرة .
و أما خليفة الثالث أبو البركات فهو مثال الورع و التقوى و البر. أسس زاوية و حرم على مريديه مشاهدة التلفزيون و الاغتسال في الحمام و امتنع عن أكل اللحم و عن ملامسة نسائه. و لما أخذ القوم ينفضون عنه ركب حصانه و قصد شط الجريد فمات غرقا في السبخة.
ما الذي يجمع بين هذه الشخصيات و ما الذي يفرق بينها ؟ إن هذه الشخصيات أحدية فكل منها يمثل موقفا و يمضي قدما إلى نهايته فيه . خليفة الأول مسكون بالتراث ووهم الماضي ، لا يرى إلا القلب ، و لا يقيم للتاريخ وزنا . و هذا العناد هو الذي دفعه إلى بيت الحبيبة دون استعداد ، و هو الذي أدخل في وهمه أن المجنونة التي ماتت منذ ثلاثين سنة لا تزال في قبره حية تنتظره . على أنه بدل أن يأخذها معه إلى الحياة ذهب معها إلى الموت .
و خليفة الثاني مسكون بالجنس ووهم الفحولة و المادة يصبح مومسا له غرفة في الماخور و يأتيه المصورون من الخارج و تهذي باسمه السائحات. و هذا الهوس يقطع ما بينه و بين عالمه فلا يزور موطنه و لا يعرف ما يعانيه أهله . إنها عيشة البوهيمي بلا مبدإ و لا قضية . و حين يدرك خواء حياته ينتحر ، و يقطع حارس بيت الأموات عضوه و يبيعه إلى المصور الأمريكي .
و خليفة الثالث مسكون بالدين ووهم الروحانية ، يقتفي خطى أبيه و يؤسس زاوية ، يذوق لذائذ الدنيا حين يتزوج قصيرة سمينة ، و هيفاء بعيدة مرمى القرط ، و سمراء حوراء و بيضاء مكسالا. ثم لا يلبث أن يضرب عن أكل اللحم و لبس الحرير و ينصرف عن نسائه . إن الحياة تنتفي معه فلا يبقى للوجود من معنى إلا التعبد و التجهد ، و حين تفر عنه ثلاثا من نسائه و يبدأ مريدوه في مخالفة أوامره لا يبقى أمامه إلا الموت فيسير إلى شط الجريد و تسيخ به الأرض.
إن هذا الاختلاف في المسار الذي اتبعه الإخوة الثلاثة يتضاءل حين نرى مآل كل منهم. فقد انتهوا جميعا إلى الموت ، لا بل إلى شكل مخصوص من أشكال الموت هو الانتحار. و لم يكن اختيار درغوثي أن يجعل لهم أبا واحدا و اسما واحدا أمرا اعتباطيا. و لقد أفصح عن مقصده في بداية الكتاب على لسان الراوي الفتى حين قال :
" خليفة الأول
خليفة الثاني
خليفة الثالث
ثلاثة وجوه في وجه واحد
هو وجهي أنا
وجهك أنت
وجه رجل مازلت لم أره بعد " (30)
فهذه الشخصيات ليست في الحقيقة إلا أفكارا و مواقف. و هي ببد مما يعشش فينا من آراء و مذاهب و نظريات و مفاهيم و أنماط سلوك و أخلاقيات. و تكمن حداثة الكتابة عنها في خرق المقدس .
إن درغوثي لا يصف بل يحكم . و هو لا يروي تاريخا بل يبشر بمستقبل .
إن هذه الرواية رفض للموقف الانكفائي سواء أتوكأ على التراث أم ضرب في مهامه الاستلاب أم تقوقع في محارة الصفوية الروحانية . و لم يكن هذا الرفض ليظهر لولا تماس الحداثات . فهذا النص وليد عصره ، و لكنه ليس سجين مصره . و هذه القيم التي تتخلله ليس إقليمية و إنما هي كونية . بهذا نفهم موقف الكاتب من المرأة و عداه للحرب ، و إيمانه بالمساواة و دفاعه عن البيئة ، ورفضه للتطرف ، و احتفاءه بالعلم . و هي قيم لم يفصح عنها ، و إنما ألقاها في ثنايا الرواية إلقاء . و بهذا يخرج النقيض في هذا النص من نقيضه : فموت الخلفاء إيذان بحياة الأخلاف ، و " شبابيك منتصف الليل " تبشر بأنوار النهار، و حداثة التماسات معبر لتماس الحداثات.

المصادر:
1 – ابراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ط 1 دار سحر للنشر تونس 1996
2 – م. ن . ص 17
3 – م . ن . ص 32
4 – م . ن . ص 82
5 – م . ن . ص 55
6 – م . ن. ص 56
7 – م . ن . ص 34
8 – م . ن . ص 33
9 – م . ن . ص 60
10 – م . ن . ص 38
11 – م . ن . ص 70
12 – م . ن . ص 33/ 37/ 60
13 – م . ن . ص 36
14 – م . ن . ص 22
15 – م . ن . ص 14
16 – م . ن . ص 24
17 – م . ن . ص 50
18 – م . ن . ص 51/54
19 – م . ن . ص 27/ 28/ 31/ 65/ 67/ 68/ 76/77/79
20 م . ن . ص 31
21 – م . ن . ص 42
22 – م . ن . ص 17
23 – م . ن . ص 57
24 – م . ن . ص 11
25 – م . ن . ص 17
26 – م . ن . ص 57
27 – م . ن . ص 98
28 – م . ن . ص 17/36/97
29 – مك . ن . ص 32/43/45/ 59
30 – م . ن ص 4