المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كمال عارف ....تراتيل وداع في معارج الرحيل



د.محمد شادي كسكين
30/04/2008, 05:07 PM
كمال عارف ....تراتيل وداع في معارج الرحيل

*د.محمد شادي كسكين- السويد
مدير المركز الإفتراضي لإبداع الراحلين

ما زلت شغوفاً بقراءة الموت مدرسة وطريقاً مدرسة تضم في مناهجها المتجددة يومياً علوماً جديدة , وطريقاً نحو عالم جديد مجهول أو معلومٍ ربما على نحو ما , يعمل له ويسير إليه كل منا على طريقه الخاصة.
في مدرسة رحيل العزيز الكاتب المصري الأستاذ كمال عارف رحمه الله توقفت عند نصوص قصيرة من نصوصه كتبهما الراحل في فترة متقاربة تسبق رحيله المفاجئ, ورغم أن أياً من النصوص لا يحمل في ظاهره أي إشارة أو إرتباط بالنص الأخر إلا أنني أدركت أن على الباحث في مدرسة الرحيل والمنقب في إرث الراحلين أن يتجاوز ظاهر النص وباطنه إلى أفق قد يقرب أو يبعد يعثر فيه الباحث بعد طول عناءٍ على نقطة إلتقاء خفية تجمع رائحة النصوص وروحها.
في نصه المعنون بـ " غايات مُـطمـْسَة" يقول الراحل كمال عارف في فبراير 2007م:
"عند مفترق الطرق تتعدد دوما الإتجاهات .. وعندما تكون اللافتات مـُطمسة ؛ فإجتياز الطريق قد يكون أشبه بالمقامرة . أو بالمخاطرة ..
أحدهم فعل هذا !
ولم يكن هو الطريق المنشود ، ولكنه وصل لغاية أسمى!!
فقد تآلف مع الطريق المعكوس !!
ــــ؛؛ــــ
وتوقفت عند هذا النص طويلاً رغم أن عدد كلماته لا يتجاوز ستة وثلاثين كلمة لأشعر أن وراء كل كلمة عمراً وقاموساً ! أيختزل الكاتب في كلمة عمراً و يجعل في كلمة قاموساً! كيف لا وبداية العمر أو إنتهاؤه تبدأ من العنوان الذي يوحي لقارئه بتشتت وقلق وإضطراب في ليل دامس تكثر فيه الطرق لتائه لا يعرف وجهته!,
" غايات مطمسة " .. كيف تطمس الغاية! وكيف يسير إنسان إلى غاية مطمسة لا ملامح لها !! وإذا كانت الوسيلة تقود إلى الغاية فأي وسيلة واي طريق تقود إلى غاية مطمسة !
أيقنت على نحو كبير أن الكاتب لا يريدنا أن نتوقف عند حدود الكلمة خاصة وأنه يسجل لحالة إنسانية المارون فيها كثر وكثر, ليقول " عند مفترق الطرق تتعدد دوما الإتجاهات " وهذا بديهي في مفترق الطرق إذ تتعدد الإتجاهات وربما تعددت المسالك أحياناً في ذات الإتجاه الواحد , والبديهي أن يكون لكل طريق لافتة تدل عليه... ! لكن الطرق التي نتوقف عندها أحياناً وربما كثيراً هي طرق ذات " لافتات مطمسة" ! واللافتات المطمسة تدل على غايات مبهمة ومتاهات غير منتهية وهنا أخال الكريم " كمال عارف " رحمه الله يسجل لحالتين :
الأولى أن تكون اللافتات مطمسة حقيقة فلا تنبئ للناظر إليها عن ملامحها أو الثانية وهي أن يكون الناظر إليها لا يميز ملامحها لعلةٍ في نظره فتكون في هذه الحالة بالنسبة لما يراه فيها مطمسة!
" وعندما تكون اللافتات مـُطمسة ؛ فإجتياز الطريق قد يكون أشبه بالمقامرة . أو بالمخاطرة"
وعندما قرأت هذا المقطع من النص توقفت عند حالات الإنسان في مجمل حياته فوجدته لا يخرج عن ثلاث حالات أمام مفترق الطرق: فإما أن يقف ويتسمر في مكانه أو يخاطر أو يقامر بالمضي قدماً ! وكم توقف منا الكثير متسمراً وكم خاطر! لكن المخاطرة ليست كالمقامرة! فالمخاطر وإن تغلب على نفسه وخوفه ورضي بعواقب سيره تجده مؤملاً بالوصول إلى الغاية أكثر أما المقامر فأخاله يخترق الطريق وغالب ظنه أنه لن يصل ! ولئن كانت غاية المخاطر الوصول فغاية المقامر الوثوب " غلب الواثب أم لم يغلب "!
أحدهم فعل هذا ! وسألت نفسي من يكون !
أيكون هو كمال عارف !! لا, كيف وهو الذي يتحدث في ذات الشهر قبل رحيله في " طـُرُق غير مـُعـَبـَدة !! قائلاً: " نحن البشر نجد كل ما نريده في الله " " الله وحده هو الذي يحدد المصير" ولكن دوما يخطئ بعضنا الطريق الإلهي ! فيختـارون طرقا أرضية تـتـعدد فيها الألهة . والمصائر !!ولأن الطريق الإلهي طريق مستقيم ذو لافتات واضحة بيّنة مشرقة لم يكن حديث كمال عارف عن طريقه الذي سار فيه موقناً لا تفرق به السبل عن سبيل الله ! انما كان الحديث هاهنا عن طرق ذي لافتات مطمسة كالوالج الباحث في متاهات الغنى المفرط الفاحش فتألف مع القناعة وكالوالج في ضجيج الكراهية العائد متألفاً مع عبق المحبة وكالغارق في طريق الشك العائد بغنيمة اليقين ...... " لكنه وصل لغاية أسمى!! فقد تآلف مع الطريق المعكوس !!"

اللافتات المطمسة التي تحجب الغايات أو تموهها عن مبتغيها قد تكون أيضاً في فكر الراحل كمال عارف " لوحاً من الزجاج العريض الشفاف " " يفصل بينه وبين الأشياء" بحيث يراها ولا يلسمها فإذا ما إعترى الزجاج ضباب إنقطعت الرؤية كأنها إنمحت من الوجود .. ولكنها ما زالت قابعة خلف الزجاج "!وإذن فنحن هنا أمام حالة ثالثة تضاف إلى ما ذكرناه سابقاً فلا اللافتات مطمسة حقيقة بحيث لا تنبئ للناظر إليها عن ملامحها ولا في الناظر إليها علة تمنعه من أن يميز ملامحها لتبدو إليه في هذه الحالة مطمسة وإنما حال بينه وبينها حائل لايمنع الرؤية بضبابه فحسب بل يمنع من ملامسة الأشياء ومقاربة مداراتها وهو في أحسن حالاته إن إنقشع الضباب يسمح بالرؤية دون اللمس!
في أيار 2007م وقبل رحيله بشهرين فقط كتب " العارف " أنه لا يقنع بالرؤية بل يتوق إلى إختراق الحجب وتجاوز الفضاءات إلى عين الحقيقة ولذا قرركسر الزجاج " حتى أتحسس الأشياء "! وفي أشد لحظات الشوق إلى مقاربة عين الحقيقة وفي أبهى صورالمخاطرة وشيء من متعة المقامرة " جرحت يداى وتورمت الأطراف " لكنه لم يزد عن رؤية الأشياء من خلال الزجاح المحطم وما زال عاجزاً عن لمسها فقد بترت الأطراف " وعاد لوح جديد قاتم من اليأس يحجب عنى الأشياء ولم أعي بعد كيف أحطم هذا اللوح!".

قبل رحيله بثلاث اسابيع وفي الخامس من يوليو وهو الشهر الذي غادر فيه باح " الكمال العارف" الذي تحضرت كلماته للإنبعاث وروحه للتحليق وجسده للغياب أن الرجل " "ما زال ينتظر الحدث ، أو يرتقب الحدث "!

إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقا نعم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى
أما تنظر الطير المقفص ....يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى
يفرج بالتغريد ما بفوائده فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى تهزهزها الأشواق للعالم الأسنى
أنلزمها بالصبر وهي مشوقة وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى

لقد ودعنا " كمال عارف " دون أن نشعر .. وكنا ربما نعالج جروح عشقنا التائه , وفي 29 يوليو 2007م سمعنا راحلاً يترنم بتراتيل وداع في معارج الرحيل , ووقتها فقط سمعناه يقول " نعش العشق تحمله الذكريات "!
المركز الإفتراضي لابداع الراحلين