المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة نقدية شعرية - د . شاكر مطلق



الدكتور شاكر مطلق
03/05/2008, 01:18 PM
قراءة في المجموعة الشعرية (*)
" الصعود إلى عرش فاطمة "
شعر د. خالد محيي الدين البرادعي
الناشر : دار الذاكرة _ حمص / سورية
ط1 : 1 / 1997
( القطع 25 / 17 سم ، عدد الصفحات 234 )
( الطبعة الثانية - " المبدعون " يبرود- سورية 2008 )
=============
* - نشرت الدراسة في كتب ومنشورات عدّة ، وفي بلدان عديدة.











د.شاكر مطلق


دراسة للمجموعة الشعرية: د. شاكر مطلق
مدخل :
تربطني بالشـاعر الدكتور خالـد محيي الدين البرادعـي ، صداقة قديمة أتاحَت لي التّعرفَ على نتاجه الأدبي المتنوع عن قربٍ وملامسةَ أجواءِ وخلفيّاتِ العديدِ من نصوصه الإبداعية ، وبخاصّةٍ الشّعريّة منها ، وإلى الاستماع إلى بعضها ، وهو لا يزال مخطوطاً وربما مناقشة هذا النص أو ذاك مع الشاعر، في جلسات خاصّةٍ حَميمية وصريحة ، وإلىالتّعرف أحياناً على الدّوافع التي دفعته إلى كتابة عمل ما، والاطلاع منه على خفايا الكواليس ، الأمر الذي يُوسّع من مَنظور الرّؤية إلى وفي النّص ، وهذا غير متاحٍ طبعاً للقارئ البعيد ، وغير ممكنٍ أو مطلوب على ما أظن ، إنما هي مجرد شارات إلى معرفتي بتجربته الإبداعية ، وبخاصّة النّصوص الشعرية ، كما ذكرتُ ، مستثنِياً منها الجانب الآخر ، من نتاجه المتنوّع ، وأعني به مسرح البرادعي الشعري ، الذي يحتوي على كمٍّ غزير ونوعيّة ، تتفاوت طبعاً في أهميتها وتألّقها ، شأنُها شأن كل الأعمال الإبداعية في الأدب والفن والموسيقى وغير ذلك .
ومع ذلك فأنا لا أدعي أن ما سأقدمه حول ديوانه الموسوم بـ : " الصعود إلى عرش فاطمة " _ الذي أصدَرته له عن دار الذاكرة بحمص ، التي أملك امتيازها ، عام 1997 _ سيكون قراءة نقدية منهجيّة ، إنّما هي قراءة انطباعية تحاول أن تتقَرّى جماليات النص وتقترب من أفقه ومضمونه وطروحاته وعثراته أيضاً ، إنْ وجدت وحيثما وجدت ، بروحٍ من المحبّة غير الُمحابية ، وبقراءةٍ ناقدة غير متحاملة أو خادشة ناموس اللياقة الرقيقة في التعامل مع العمل الإبداعي والمبدع ، مع كل عمل إبداعي وكل مبدع ، أملاً أن أقدّم ما يستحق القراءة ،ومعتذراً _ سلفاً _ عن عدم إمكاناتي النقدية الإحاطةَ بهذا العمل الإبداعي الهام ، من كل جوانبه ، لقصور في أدواتي ، وليس في العمل ذاته .

حمص _ سورية د . شاكر مطلق
10 / ‏2002‏‏

منذ أن تُمسِكَ بديوان د . خالد محيي الدين البرادعي " الصعود إلى عرش فاطمة " قد يفجؤك شكل الديوان المستطيل ، وقطْعه غير المعهود ، وربما تساءلت عن السبب الذي دفع الشاعر لأن يكتب الديوان بخط يده ، وهو خطٌّ مميَّز ولافتٌ ، فنياً ، كما هو الحال لدى خطّ الصديق الشاعر عبد الكريم الناعم ، على سبيل المثال .
وكنتُ قد أصدرت أكثر من مجموعة شعرية من كتاباتي بخط اليد ، ولكن بيد الخطاط الخبيرة بخفايا الحروف وأشكالها ، فلماذا أراد البرادعي أن يكون الأمر هكذا ، وكان بإمكانه طبعاً ، أن يعهد به إلى خطاط محترف ، قد يضفي جمالية أكثر على إخراج النصوص ؟
ربما يزداد تعجّبنا عندما نأخذ بتصفح الديوان ، لنجد أن الشاعر لم يكتف بكتابته بخط يده فحسب ، وإنما زيّنهُ برسوم من "ريشته" تحمل زخارف نباتية وأشكال تشبه ( الأرابيسك ) ووضعَ في بعضها " لوحات " لامرأةٍ عارية ، ذات شعر طويل ، في وضعيّات جريئة ، يستر عريَها الوردُ تارة ، وتارة شعرُها الطويل ، نراها تجلس أو تقف أو تستلقي تقرأ ( قصائد الشاعر ؟) أو تتأمل شجرة عارية ، تنظر إلى الهدهد ، أو إلى أسماء مدن عربية عديدة مخطوطةً على صفحات كتاب مفتوح أمامها ، مدن عرفها الشاعر ، بل وعاش فيها أو عايشها إبان فترة ما من تنقّله بين بلدته الجميلة ( يبرود ) القابعة في سلسلة جبلية مُذهلة الأشكال والألوان ، إبان اليوم الواحد وعبْر الفصول ( جبال القـَلَمون ) ،هذه البلدة التي تقع على مقربةٍ من مدينة ( النبك ) وسط الطريق الحديث الواصل ما بين (حمص ) و ( الشّام ) –دمشق - ، والمُطلة على واد خصب وسيع وعريق عرف الإنسان الاستفادة منه ومن السّكن في مغائر جباله العديدة منذ أكثر من مئة وخمسين ألف عام ، كما عرف البرادعي الاستفادة من موقعه الموحي الجميل في صياغة العديد من أعماله الإبداعية ، مثل ديوانه المُميّز المعروف " حكايات إلى امرأة من يبرود " الصادر في الكويت عن دار الرسالة عام 1974 .

الحسناء الغامضة :
عودة إلى " لوحات " الديوان التزيينية . لماذا وما هي الرسالة التي تحملها للقارئ ؟
الرّسومُ _ فنيّا _ هي في منتهى البساطة ، تنتمي إلى النوع المسمّى : " الفن البدائي " وأُفضِّل عليه تسمية "الفن العَفوي "، هذا إذا كان بالإمكان حقاً إطلاق كلمة ( الفن ) على مثل هذه الأعمال البسيطة ، وكنت ، قبل نشر المجموعة ، قد أَعلمتُ الصديق البرادعي ، عن تحفظي على مثل هذه الأشكال والزخارف ونصحته باستبدالها بلوحاتٍ فنيةٍ حقيقيةٍ ، إلاَّ أنني لمستُ لديه رغبة حقيقية بتركها في المجموعة ، لا سيما وأن الكتابة وحروفها تتداخل ، في كثير من المواضع ، مع الأشكال ، الأمر الذي يجعل الفصل بينهما غير ممكن دون إعادة كتابة المخطوط من جديد.
أعود لأتساءل مرّة أخرى: لماذا هذا الإلحاح على إظهار مفاتن هذه الحسناء ، ومن تكون يا تَرى ؟ : _ أهيَ فاطمة المعاصرة –المرأة الأنثى المُشتَهاة _ في المطلق ؟ ربما ...
_ أهيَ حبيبته المُتخفِّية خلف رمز عربي - إسلاميّ عريق ؟ ربما ...
_ أهيَ ملهمته ، التي أطلق عليها الأوروبيون لقب ( موزِه _ Muse ) التي تلهم الشاعرَ قصائدَه على غرار شياطين عبقر عندنا ؟ ربما ...
أسئلة وتساؤلات عديدة يمكن طرحها هنا ، وأخالها ذات دلالة هامة للولوج إلى جوّا نيات النصوص من خلال دهاليز نفس عاشقة حائرة تعاني وتأمل تارة ، تثور وتصمت تارة أخرى ،لكنها تحاول دوماً أن لا تبوح إلا من وراء قناع وَقور لا يجوز له أن يَسقط ليصرخ :
... وبُح باسم من أهوى ودَعني من الكُنى ...الخ
ولكن هل يمكن أن تكون هذه الرّسومات محاولةً لتجسيد حلم المرأة -الأنثى ، كما يريد لها البرادعي أن تكون : جسداً نارياً جميلاً في حالة عري تام وسقوط الأقنعة عن شيطان الرّغاب الحارقة ؟ ، نراها تنتعل تارة حذاء نِسوياً عصرياً ، ولكننا نرى فوقه ( خلخالاً ) من الزمن القديم ، ودوماً نرى جديلةً طويلة من الشَّعر الأملس تتدلى على ظهرها ، وفي آخرها شريط مربوط بعناية ، ولكنها تظلُّ ضبابيةً هذه المرأةُ فلا نرى لها ، على الغالبِ ، وجهاً يفصحُ عنها ، كما لا نرى ، في معظمِ الأشكال المرسومةِ للأجساد العارية ، حذاءً إلاَّ وفوقهُ الخلخالُ وكأنه لازمةٌ لاكتمالِ صورةِ الأنوثةِ لديه .
في ( لوحةٍ ) لوجه أنثوىّ أماميٍّ – بورتريه - ، مرسوم على الطراز الفرعوني ( ص 18 ) نرى مقاطع لوجه امرأة شابة ذات عيون واسعة جداً ، لا يمكن لها أن تكون وجه المرأة المرسومة في موضع آخـر من الديوان ( ص 107 ) ، يشكل شعرُها المتطايرِ وشاحاً للرأس ، على الطراز العربي المعهود ، أو نرى وجهاً متخفّياً تماماً وراء الخُمار ، ولا نرى منه إلاَّ عينين واسعتين فقط ( ص 102 ) .

من تكون ؟ :
هل تكونُ هذه الوجوه تنويعاتٍ لوجهٍ واحدٍ ووحيدٍ ، يدعى فاطمة ؟
وهل يختزلُ هذا الوجهُ :المرأةَ / الأنثى / الحلمَ / الغموضَ / الشَّهوةَ / ليصبحَ ، برغم ذلك ، الرَّمزَ الذي يتسامى ، في جُلِّ النصوص ، إلى آفاق روحانية عالية نجدُ ( فاطمةَ ) فيها :

" تستريح على كبدي ، لحظةً ، لحظةً
وتعمُرُ في فُسْحةِ القلب مقصورةَ الأمنياتْ
ووِديان عبْقَرَ ... " ( ص 15 ).

أيّا كانت الدلالات لهذه الرسومات وللكتابة بخط يد المبدع نفسه ، فهي – حسب ما أرى – ليست ثانوية لقراءة ما بين الكالمات أو خلْفها ، الأمر الذي دفع بي إلى تقديمها للقارئ الذي لا يستطيع رؤيتها – دون الديوان بين يديه بالطبع – وأكاد أقول :في عُجالةٍ ،غير أننا لسنا الآن
في مَهمة قراءة نقدية تشكيلية أو نفسية تحليلية وإنما في رحاب غابة الشِّعر الساحر المسحور لنحاول معاً أن نتقرّى الدربَ المُفضي إلى ينابيع الإبداع والدّهَش والجمال .

في مطلع ما أسماه البرادعي " الكشف الثالث " _ (ص 30) نراه يلمِحُ ، بخلاف مواقع أخرى من المجموعةِ ، إلى هذا الجانب الروحاني من خلال غنائية عذبة فيقول :

" أَستغفِر الطُّهرَ
إنْ ناديتكِ : أْتَزري
بسابغٍ من صبوح المجد مُنهَمرِ
ولا أقول : صباحاً عِمْتِ . بلْ أبداً
على الدهور عِمي ، في الصَّحو والسَّكَرِ ( ص 30 )

ويتابع في نفس القصيدة قائلاً :

... فدوحةُ العشق مِن قُدسيَّكِ العَطِرِ
وأفقُ عينيكِ نهَّادٌ إلى الكبَرِ
فغالبي كبرياءَ الحسن آونةً
وخاطبينا بإيماءٍ من الحَوَرِ ( ص 31 )

هذه المُناخات الروحانية تتسامى في مواقع أخرى عن الحسّيّ القريب، حيث يقول مثلاً :

محيَّرةٌ رِحلتي في الدّوائرِ يا فاطمةْ
فلا تبعُدي عن حوافر مُهري
لكي لا يخوض بيَ الجاهليهْ ... ( ص 26 )

أقول يتسامى ويشف حتى يخلق مناخاً صوفياً عذب اللغة ، عمق الدلالة :

فُطيمةُ يملؤني الصَّحوُ حتى التَّمزقِ قهراً
وأمشي على شَفرةِ الَّضّوْءِ منذ استقالتْ
جسورُ الحِوار ( ص27 )
خُطىً ... وبعضُ الخُطى
وتسيرُ المناماتُ مثقلةً بالجَنى
فقلتُ : سنعبُرها يا فِطام وأنتِ معي
إلى العَدْوة السَّرمديَّهْ ( ص21 )

يقول الشيخ الأكبر " محيي الدين ، أبي عبد الله العربي الحاتمي( المتوفى سنة 638 هـ.) في رسالته الموسومة بـ ( كتاب الجلالة ) (*) :
( ثُمَّ إنَّ المعرفة بالله ابتداءَ علمٍ وغايتها عين ، وعين اليقين أشرف من علم اليقين والعلم للعقل والعين للبصر فالحسّ أشرف من العقل فإن العقل إليه يسعى ومن أجل العين ينظر فصار عالم الشهادة غيب الغيب ولهذا ظهر في الدنيا من أجل الدائرة فإنه ينعطف آخرها على أولها فصار عالم الشهادة أولاً وهو مقيد عما يجب له من الإطلاق فلا يبصر البصر إلاَّ في جهةٍ ولا تسمع الأذن إلاّ في قرب ) أهـ . ص4
ويقول أيضاً : ( ... فإن الاستقراء الإلهي في نقطة الدائرة وهو قوله تعالى : " ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " ولاستواء الرحماني محيط للدائرة وهو قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) فالعرش في الاستواء الرحماني بمنزلة الحق في الاستواء الإنساني ) أ هـ . ص12
يستوقفني في الشواهد السابقة ويثير مشاعري قوله ( رِحلتي في الدوائر ) و ( العَدْوةُ السَّرمدية ) . هذه المصطلحات ، عميقة الدلالة ، أكبر من أن تفَسّرَ هنا ، بكلمات سريعة ، ولكن لا بأس من نظرة سريعة إليها ، فيها ، وعليها .
في مجموعتي الشعرية الموسومة بـ : يا أبانا / يا أبانا ( مكاشفات العارف ) _ دار الذاكرة ط1 عام 1996 _ كنت قد قسمت المجموعةَ إلى ثلاثة كشوف : وهْمُ المُريد / شكُّ العارف / عدَميّة الرَّائي . في هذه المجموعة حاورت مثل هذه المفاهيم في نصوصي القصيرة ( الومَضات ) ولم أخرج بعد من الحوار ، برغم مرور الأعوام ، ولهذا لا أعجب أن يحار البرادعي في رحلته في الدوائر ماشياً على شفرة الضوء بخطى مُثقلة ليعبر ( مع رمزه المحبب إلى روحه وربما إلى جسده أيضاً ) العـَدْوة السّرمدية .
لا أعتقد أن هذا التّأمّل الفلسفيّ - الصّوفيّ يضير النص وهو لا يرفع من شأن نص يتكئُ على مثل هذه الرموز فقط ،من دون أن يكون أهلاً للعبور إلى العَدْوةِ الصُّغرى وربما الكبرى أيضاً :
( فطريق الكشف والشهود لا تحتمل المجادلة والرَّد على قائله ... ) كتاب الفناء _ ابن العربي _ ص8 ويقول : ( تأبى الحقائق أن تقبل المماثلة في صفة المعاني ... ) ص 6
أما ما يتعلق ( بالعَدْوة ) أعلاه فنكتفي بعبارة بسيطة حول هذا المصطلح الصوفي تقول : ( المسافر : هو الذي سافر بفكره في المعقولات وهو الاعتبار فعبرَ من العَدْوة الدّنيا إلى ( العَدْوة القصوى ) ص2 من اصطلاح الصوفية .
أعتقد أن هذه الملامسة السريعة لبعض المصطلحات الواردة في النص وفي أكثر من موقع تكفي لأننا لسنا بصدد تحليل دقيق لنص صوفي أو شعري يقارب الصوفية عامداً متعمداً, إنما نحن بصدد قراءة مجموعة شعرية تستلهم التراث العربي – غزلَها في نسيج شعري متقن يصل هنا أو هناك إلى حدِّ الدّهَش والإدهاش ، شاعرٌ خَبرَ الكلامَ ومتاهات المعاني من خلال رحلة إبداع طويلة ، لا تزال مستمرّة فوق رمال المعرفة المُتحرّكة أو بين سَديم المَجرّة ... سِيّانْ .

استلهام التّراثِ حَجرُ الزّاوية :
يشكل التعامل مع التراث حجر الزاوية بل " المِدْماك " الأساس في البناء الدرامي الشعري عند البرادعي ، ليس في " فاطمة " فحسب وإنما في العديد من أعماله الشعرية ، والشعرية المسرحية على وجه الخصوص .
ديوان البرادعي " الصعود إلى عرش فاطمة " ، الذي سيرد ذكره ، اختصاراً ، تحت اسم ( فاطمة ) هو _ حسب ما أرى _ أحد أجمل نصوص البرادعي الشعرية و هو يشكل ، في مجمله، قصيدة واحدة طويلة ، ملحمة شعرية تحاور موروث الأمة العظيم ، جانبه المشرق ، ونصف المشرق ، وحتى غير المشرق تماماً ، من خلال إسقاطاته على الواقع المعاش و من خلال العبور إليه عبر جسر (الحُبّ ) بمفهومه المعروف ، والواسع ، والمُرمََّّز أيضاً ، وهو عبور في الغابة المسحورة ،وفي صلاة خاشعة تقول :
أسلمتها روحي و فُضلةَ راحي
و كسرتُ عند دنانها أقداحي
وبدأت منها رحلتي نحو الذُّرا ... ( ص 9 )

الشاعر ، عندما أصبح في الحَضرة ، لمْ يعد بحاجة إلى النشوة الخارجية وإلى الأمور العادية ليكسر أقداحه ولا ليسأل الدنان المَزيد ، فاللحظة الآن تبدو وكأنها لحظة الاستعداد للتطهّر والنقاء ، قبل الانطلاق إلى الهدف الأسمى ، إلى العبور نحو الذُّرا حيث الكشف والبُروق اللامعة ولحظة التجربة الحاسمة .
إنه يتوضّؤ ، الآن ، بالصّحو ، يرثي الصباحَ ، و : ... يدخل في الظّلمات وحيداً :
و شاهدت طيرَ قريش يرش النجومَ
على الليل ... ( ص 13 )

وهو يمتطي ( صَهوة الضوْء ) ليعبر بقافلته ( نحو التُّخوم القَصيّة ) و ( حمولتُها الشِّعرُ والطّيبُ و الأغنياتْ ) ... هنا تستيقظ الذاكرةُ ويأخذ الحدَث الدرامي في التصاعد ، حيث يروي لنا الشاعر ، بتُؤدةٍ ووقارٍ ، المُجرَيات :

... و أدركتُ مروانَ يركض في نبض ذكرياتي
و يبارك سير قافلتي
و تحت مسامات جلدي يقيم الصلاة .( ص 15 )

فالشّاعرُ يوقِظ إذن مروانَ الذاكرة لتستعد إلى خوض تجربة الوصول ، ولو بعد عذاب وسفر طويل ، وهو يبارك الرحلة ويصلي لأجل حاديها ، وأما " فاطمة " فهي :

تستريح على كبدي ، لحظةً ، لحظةً
وتَعمُرُ في فُسحَة القلبِ مقصورةَ الأمنياتْ
ووديانَ عبقرَ .

نتساءلُ لماذا ؟ فنجدَ بأنها مَعنيّة بالقلب وبأحوال العشق والعاشقين :
ساهرةٌ حنيناً إلى العاشقين ( ص 15 )
ومن خلال رمزيّةِ الحروف القرآنيّةِ ، الخفيّة العَصِيّة على الفهم أو التأويل : [ ك / هـ / ي / ع / ص ] ، نراها تدفع الرياحَ :
محمّلةً بالشّذا العربيّ / تسوق الغيومَ ارتحالاً إلى البلد الميت ... / وتهطل حتى اخضرار الرؤى / وتنهَلُّ حتى يفكَّ المريدونَ عن جوهري عقدةَ أسراره . ( ص 17 )

حلُمٌ جميل أنْ ينهمرَ الغيثُ والبروقُ على الجوهر ، كاتم الأسرار ،والرِّحلة ما زالت على تخوم الكشوفات تسعى وهل يقدر الراحلون ، أصلاً ، على هذا العمل الجليل ؟ لا أظن ذلك ، فنحن نشهد _ على مسرح الأحداث المتنامي _ الشاعرَ يقترب من ( فاطمة )، يوقظها من المنام ، ويسألها :

فاطمةٌُ ... اسبحي في غناء البوادي
ورشي بِتربةِ عَبْقرَ بذرَ الخُزامى
وردّي القرنفل بالبْسمةِ الأُمويّة
وهزّي إليك بجذع القصيدةِ يَسَّاقطُ العشقُ
بين الأمير وفاطمةٍ ... ( ص 18 – 19 )

هنا يَسقط الرِّتاجُ عن بوابة عقدة الأسرار ، يَسقطُ القناعُ عن رغبةٍ " تمّوزيّة " تريد أن تلقِّحَ : الأرضَ ، الروحَ ، الوطنَ ، الواقعَ ... والعاقِرَ ، من أجل الخِصْبِ وعودة الحياة :

إنها لمحةُ الخِصبِ جاءت
لتنشر فوق الجزيرة أسرارَها
اُنظري .. فُتِحتْ كُوةٌ في السماء
لترسل كالغيث أطيارها
والطريق طويلٌ ... طويل .ْ( ص 19 )

وهنا نشاهد :
كيف تحِنُّ فصولُ النّماء
إلى شهوة الخِصبِ
و نشاهد أيضاً :
ما تبقى من ( موسِمِ الليل )
يتساقط الورق ( من تعب القحطِ
تحرقه الشُّعلةُ القَرَشِيهْ )
ونرى :
... البيوت التي شادها الفاتحون
تلقّح ستَّ جهاتٍ بخضرتها السُّندسيّةْ
... وتسيرُ المنامات مثقلةً بالجَنى (ص 20 – 21 )

ونرى الشاعر قد ( سافر بفكره في المَعقولات وهو الاعتبار فعبر إلى العُدْوَة ... )
ومن له - في حالة العبور هذه - رفيقاً أو معيناً غير الحبيب :
فقلتُ : سنعبرها يا فِطامُ وأنت معي
إلى العَدْوةِ السّرمديّةْ
وإن حمولة أهلي إلى الحِقبةِ القادمةَ
هيَ الخُضرةُ الدائمةْ
و كانت أصابع أمي
تحوكُ جناحين للأبجديّةْ (ص 21 – 22 )

هنا يختم الشاعر كشفَه الأول ، و يسقط الستار عن المشهد الفاتح ، عن المقدمة الفاتحة المسماة ( أوفيرتوره ) الممهّدة للعمل السيمفوني القادم إلينا بزخم إيقاعي و بصري – سمعي يعلو تارة حتى الصّخب ثم يهدأ و يشف في حوارياته مع الذات أو الحبيب أو الكون الوَسيع .

في الكشف الثاني :
تتسارع وتيرة الأحداث وضربات القلب وحَيْرةُ العقل ... الخَديعةُ محكمةٌ والحقيقةُ قاسية :
فلا طيور قريش أَنبأتْ الشاعرَ وحذَّرتهُ ، ولا صحفُ الغيبِ أعلمتهُ شيئاً عن المأساةِ القادمةِ :
... سأُطرَحُ في الجُبِّ حتى يمرّ بي الغُرباءْ
فآكلُ في العتمِ كِسرةَ خُبزٍ وأشربُ صمتي (ص 22 )
ويعجبُ الشاعر كيف يهبطُ الدَّربُ ( فينا ) : به وبحبيبتهِ وبحلمهِ أيضاً ، بعد أنْ بشَّرهم قائلاً : وإن حمولة أهلي إلىالحِقبةُ القادمةُ هي الخُضرة الدائمة : (ص 21 )
ولكن – واحسرتاه – الواقع العربيّ المعاصر المَهزوم يدفعه ليتساءل صارخاً :
وغاصتْ قوائم مُهري برملٍ ثنيّةْ
وكيف يبدّل أبناءُ عمّي قِبلتهم في الصلاةْ
ويزوّر شيخ القبيلةِ قرآنَها ... ( ص 22 – 23 )
الشاعر البرادعي ، خبير بالبناء الدرامي المشَخَّص مسرحياً ، يرفع ستار المشهد الثاني (الكشف الثاني ) فجأة عن حدَث مريع : إنها الخديعةُ و ظلم ذوي القربى ، و أبناء العم و شيخ القبيلة تسود المشهد ، مشهد الواقع المعاش ، بعد أن كان الحلم يحدو القافلة بالسير نحو (الخضرة الدائمة ) ، و إذا به يسقط في بلْقعٍ مرير ،ٍ فيكاد يتوسّل كالحُطَيئة الذي قال من سجنه :
( ماذا تقول لأفْراخٍ بذي مَرخٍ
زُغْب الحَواصلِ لا ماء و لا شجرُ ؟! )
وماذا ينفعُ ، بعد هذا ، الحديثُ عن : فرخ الحُبارى / عن القرنفل / والبنفسج ... و قد ابتدأت الرحلة بالصعود أو من أجل الصعود ، وها هي الآن تقوده إلى السقوط في الرمال ؟
يقول الشاعر الصوفي الكبير حافظ الشيرازي :
حبّى نسيمُ الرّبيع
قادني إلى الصحراء ...
فإلى أين أنت ذاهب أيُّها الشاعر المسكون بالحلُم ، المكبّل بتراث أمّة عريقة ، لا تدرك اليوم أن إرثها العظيم كان ( مهد الحضارات ) ومنطلق الرحلة نحو تقدم الإنسانية على طريق الفكر والإبداع والعلم والعيش النّبيل والكرامة المُفرِطة ؟ وماذا أنت فاعل الآن أمام المشهد الحزين المألوف للذاكرة الجَمعية والفردية فينا اليوم ؟ فيجيبنا منكسراً حزيناً:
... وتعود المصاحِف ثانية لتغطى الّرّماح
تحسّستُ في جسدي ألف جرحٍ من الغرباءِ
وجرحينِ من داخل القافلةْ
فَخِنجَرُ من غَمسوهُ بظهري
وغابوا احتجاجاً على الطّعنة القاتلة ؟ ( ص 24-25 )
يتلفّّت الشاعرُ ، في دهَشٍ ، ليشتمَّ ( غير رائحة الغَدرِ – رائحة العائلة ) و يشهد المأساة – المَهزلة تسيل كالجرح أمامَه :

فجرحٌ يَنزُّ على دفتر الأهل يطّمسُ بصمَتَهُ
لتضيع خطوطُ الهُويّةْ (ص 23 – 24 )
الموضوع – إذن – أكبر من الغنائم التي يُمنّي شيخُ القبيلة نفسَه بها :

لتظلَّ الغنائمُ دفّاقةً من جميع الجهات ْ ( ص 23 )
وأكبر من مجرد فقدان حمولة القافلة أيّة قيمة كانت لحُمولتها :

أكانت نِياقُ القَبيل محمَّلةً بالغُبارِ إذا ؟
... وتحت عمامةِ كلِّ إمامٍ
مُسَيْلمةً يدّعي أنه قرَشِيُّ النّسب ( ص 29 )
المأزق حاصل ، والشَّرَكُ تمّ إعداده بمهارة خسيسة و بتعاون من أهل البيت الواحد :

... و كلُّ خناجر أبناء عمي مُعرِّشةً في طريقي
والرُّجوعُ إلى الخلف هاويةٌُ و الأمامُ عَماءْ ( ص 28 )

الجوهر في هذا المشهد الثاني ، وبعد انطلاق رحلة الحُلم في المشهد الأول نحو الذرا ونحو الاخضرار في " تموزيّة " متفائلة ، هو انقطاعُ ( جسور الحوار / وفراغ بَوْصَلة القلب / و فوضى الحُداة / إن الجميع حُداة ... ) كل هذا من أجل شيء واحد ووحيد يفضي بالقافلة و بالقوم إلى التَّهلكُة والضَّياع...إنه مَحوُ الهُوية ، كما نعرفه من تاريخ الأمم والشعوب .
هنا ينسدل الستار عن المشهد الثاني،عن الكشف المحزن الأليم لندخل فضاء مشهد ،نأمل أن يكون أقلّ وَطأةٍ وقَتامةٍ من المشهد الساّبق .
الكشف الثالث:

كما أشرنا سابقاً ، فإن الشاعر، د. خالد محيي الدين البرادعي ، شاعرٌ مسرحي أيضاً ، متمرسٌ في تقنيات بناء المشهد المسرحي الشعري ، وبخاصة تقنيات وآليّات بناء اللحظة الدرامية في مجريات الأحداث التي تتأرجح بين العادي واللاعادي ، بين العابر والثابت ، بين اللهو والجد.
كنت قد أصدرتُ للأديبة المغربية الشابة ( فطيمة وهّابي ) في عام 1992 – عن دار الذاكرة – حمص / سورية – كتاباً نقدياً وهو مشروع لنيل درجة أكاديمية من إحدى جامعات المغرب الشقيق – وذلك ضمن سِلسلة الدراسات الأدبية والّّلغوية يحمل الرقم 6 - وعنوانه : صورة المرأة في المسرح العربي " تطرقتْ فيه ، من خلال دراسة أكاديمية جادّة ، إلى العديد من الجوانب المميِّزة لتجربة البرادعي في المسرح الشعري ، ولهذا فإن التطرّق إلى هذا الجانب ، لن يكون ضمن دراستي لديوان ( الصعود …) ، ولكنني أردت أن أفتتح قراءتي للكشف الثالث ، بالإشارة إلى هذه اللحظة الدرامية في هذا المشهد الكاشف ، لأنك تقرأه بل وتستمع إلى الشاعر ، وتكاد تراه واقفاً على خشبة المسرح ، بوجهه الحزين وبشعر رأسه الكثيف الأبيض مُطرقاً ، على غرار أبطال " شكسبير " في " الملك لير " أو " هاملت " يصرخ فجأة مستغفراً الطهر – محيياً صاحبة القلب والعقل على مر الدهور ، و(في الصحو والسَّكر ) يسائلها المخاطبة ولو (بإيحاءٍ من الحَوَر ) ، طالباً منها الرضى ، وربما الغفران ... متسائلاً عن الصمت يلفّها ، وكيف يصحّ هذا ، وهو الذي غنّى لها ومن أجلها مجداً أو شوقاً ، ونقَشها حروفاً وكلمات مشتعلة بالوجد المتسامي ، أو صور تفصح عن رغبات أخرى ، تعود به إلى حضارة الطين والأم الأولى ، إلى زمن ( أوروك ) وعِشـتار المقدسة – " إنّـانـا " : ربة الحب والحرب – إلى عشترْوت البابلية ذات الوجوه المتعددة ومع ذلك ، وبرغم كل هذا فهي سادِرة عنه وعن أناشيده ، فيصرخ متألماً – مرة أخرى وأخرى – قائلاً لها :

أَتسمَعينَ غنائي إنّني شبحٌ
يزور عرشَكِ
في أمْدائكِ الخُضُر (ص 32 )
.........
وذبتُ في العشق حتّى بتُّ مُنجَرداً
كشفرةِ السيف أو عُسْلوجةِ القمرِ
رُدّي على منشدِ السَّارين والنّذُرِ ... ( ص 33)

كل هذا من أجل أن تأتي له بما يريد أن يرى ويسمع : بأن تزف إليه البُشرى ( بأن يومَ غدٍ مُخضَوضِرُ الصَّوّرِ ) وإن الخلاف حلَّ بين أهل العشق فأصابهم الجفاء واليباس :

من قال إنَّ جيادَ العاشقين كبَتْ
وأنَّ فرسانها ملُّوا من السّفَرِ ؟ (ص34)

الشاعر يأبى أن يصدق ذلك ، وهو يرافِعُ من أجل أن تتماسك مواقف العشّاق والباحثين عن الغد الأفضل ، ولا تنهار أو تستسلم ، برغم كل الإرهاصات ، وبخاصة تلك التي تضرب روحكَ من الدخل :

فإنَّ كلَّ سيوفِ الغَزْوِ منِ قُبُلٍ / نِصالُها
وسيوفُ الأهلِ من دُبُرِ
ومن أجلِ الحدَثِ الجلل ، المبشِّرِ بالخلاص يقول:
فيولدَ العاشق الفادي مع السَّحَر . (ص36)

البرادعي يبشِّر إذنْ في خاتمة كشوفاتهِ الثلاثة بقيامة ( المخلّص ) ، بعودة ( تموز ) من العالم السفلي ليعمَّ الخيرُ والربيعُ الأرضَ والنفوسَ معاً ، وهو ما بشَّر به العديدُ من الشعراء المعاصرين من أمثال المرحوم الشاعر الناقد ( جبرا إبراهيم جبرا ) في ( تموز في المدينة ) ، وكذالك د.حبيب ثابت في ( عشتروت وأدونيس : ملحمة شعرية _ دار مجلة الآداب 1948 _ ولدى الكثيرين من شعراء الحداثة المُعاصِرة – وأنا أقول بوجود حداثة شعرية مُختَرِقة الزمان والمكان ، منذ (سومر ) وحتى الآن من خلال النص الخالد ، وذلك منذ مطلع الثّمانينيات في مخطوط طويل عن الموضوع لم أنشره بعد لشعوري بعدم اكتماله ، يحاول أن يَرصد هذه الظاهرة ،ظاهرة النّص الشعريّ الخالد وحداثته الدّائمة ، مدعَّماً بشواهد نصوص أدبية وصلتنا عن طريق البحث الأثري من وطننا العربيّ الكبير ، منذ سومر وحتى (هوميروس ) وإغريق القرن الثامن ق.م. - وهذاما ورد أيضاً في العديد من مجموعاتي الشعرية ( معلقة كلكامش على أبواب أوروك ) _( تجليات عشتار )... إلخ وغير ذلك الكثير.
نعود الآن ، بعد هذا الاستطراد ، إلى مشهد البرادعي أعلاه لنتابع ونقول بأن الخاتمة كانت موفقة إيقاعاً وصوراً وبناءاً لغوياً ، لولا ورود بعض الكلمات الجافة أو الجافية _ إن صحَّ التعبير _ في مواقع ، هي غاية في العذوبة والرقة ، لا تتحمل _ حسب رأيي _ مثل هذه الألفاظ القاسية ، وعلى سبيل المثال نقدم شاهداً قولَه :

وذبتُ في العشقِ حتى بِتُّ منجرِّداً
كشفرةِ السيفِ أو عُسْلوجَهِ القمَر .

هذه العُسلوجة ، لا تصلح لهذا المقام، والشاعر البرادعي قادر ، بالتأكيد ، على وضع ما هو أخفْ وأشفْ ، غير أن مثل هذه الأمور تحصل إبَّان الدُّفقة الإبداعية ، فلا نراها تماما ولا نرى مدى نفورها ، ومثل هذا نجده لِماماً في بعض مواضع أخرى ، وهو قليل على كل حال،
كما أنه لا تخفى أو تفوت بصيرة القارئ المرهف ولا بصره ، بعض المواقع التي سَها الشاعرُ فيها عن ضبط التشكيل الصّحيح مثل:القُرنفُل ( وهي بالفتح طبعاً ) ، الهَوية ( بالضّم ) ، الخَصبُ ( وهي بالكسرة ) ، وغيرها القليل .

نمنمات على عرش فاطمة :
يسدل الشاعر البرادعي الستار عن العرض الدرامي ، الذي شاهدناه في الكشوفات ، والمتحور حول موضوعاتٍ ( جادة ) ثقيلة تتعلق بمصير الأمة وتاريخها وبأحوال العشق السامي ( !! ) وحالات العشاق الروحانيين ، لينتقل بنا في القـسم التالي الذي علوَنه بعلوان :
( نمنمات على عرش فاطمة ) ، والممتد على ما يقارب الثلاثين صفحة من قطع المجموعة ، إلى موضوعاتٍ ، تتمحور أكثر حول العشق الأرضي ، من خلال نموذجٍ كتابيٍ مكثّفٍ وقصيرٍ ، أطلقتُ عليه منذ أكثر من ربع قرنٍ اسم (الومضة ) ، وهو ضربٌ من الكتابة ، لا يُعنى بقصر المادة أو بطولها ، ولا برهافة كلماتها أوعدد سطورها فحسب _ كما أزعم _ بل وعلى وجه الخصوص بالقفلة الوامضة التي قد ترتفع بالومضة إلى فضاءاتٍ واسعة ومستمرة التأثير أو قد تكون مقتلاً للنص من خلال شرَك القفلة غير المُحكمة , وقد نجح البرادعي ، في بعض ما قدمه لنا هنا من نماذج جميلة ، على خلق مثل هذه الحالة الوامضة ، وعلى سبيل المثال أختار المقطع الأخير من نصه (منام ) حيث يقول :

قَدْ يلمَسُها البرْدُ فيؤذيها
أَبغيرِ جناحـيكَ أغطّيها ؟
ونَسيتُ
إذا عادَ جناحا قلبي
أمْ ظَلاّ . فوقَ فَطيمةَ حتى الآن (؟!) ( ص 49 )

حبذا لو كانت النقطةُ بعد ( ظَلاّ ) فاصلةً أو مساحة فارغة وجاء الشطر بعدها مستقلاً على سطر خاص ، وبآخره شارة استفهام وتعجب ، كما وضعنا ضمن قوسين ، وحبذا لو دقق الشاعرُ وتمهّل أكثر في عملية توزيع الكلمات والتّفعيلات على السّطور ،في بعض المواقع ،حتى يأخذ الإيقاع مداه النَغميّ ولحنه المحبب . يقول الألمانُ ما معناه: (النَغَمُ يخلق الموسيقى)
وهذا النّغم موجود في معظم قصائد المجموعة ، تؤطّره غنائيّةٌ عذبةٌ رائقة الإيقاع ويستحق من الشاعر المزيد من الجهد في توزيع ( نوطاته )على السّطور والصّفحات من أجل الجمال .
البرادعي يتحول الآن إلى فنان ماهر ، إلى حِرَفيّ يريد أن يُنمِنمَ على العرش ، أن يُرقّشُه ويُزخرفه ، معترفاً في ( الومضة ) الفاتحة (حُداء ) بأنه ليس إلاّ ( حادياً / زرع الصحارى بالنجوم / وهيّج الأحلامَ قافلةً ... ص 39 ) وفي ( وسام ) نراه يتسلل ( إلى عرشها في المنام ) ليرى في الصباح على صفحة القلب جرحاً ؟ وبما أنّ فاطمة قد طرزته –أي الجرح _ فهو وسام – كما يراه – .
يا لها من قفلة متواضعة لم تستطع أن تحمل إلينا أكثر من قطعة معدنٍ على الصدر ، لا الشاعرُ بحاجة إليه ولا القارئ أيضاً ، وهو قادر على قفلة أعمق ، لو لم يكن تحت تأثير مد عاطفي حسيٍّ ، باح به في نص ( الطائر ) جهراً وباح حتى بالمكان ، حيث نجد ( وجدةَ ) ونجد أرض ( الشام ) ، التي فيها يعيش و يكتب ، فلا يأتي إليه طائرُ ( وَجْدة ) المُرفرفُ ( في عرش مَملكةٍ اسمها : فاطمة ) ولا يأتي طائرُ العرش إليه ليزرع ( زيزفونة عشق / بأرض الشآم ) ( ص 41 )
في نص ( العرش ) يلعب الشاعر ، باللغة ، لعبة الموروث التراثي وحتى الديني بإتقان فني يحمل من ألَقِ التقنية أكثر مما يحمل من ألق المشاعر الحقيقية المنفلتةِ السابحة كالهيولى ، دون ضجيج ، لتختَرق مشاعرنا وتترك في نفوسنا أثراً أكثر عمقاً ، ولأنه لا يستوي أن يتعامل هنا بمعول اللغة وأدوات التقنية _ التي يُمسك بإحكامٍ بناصيتها –كما يقال - فقط ، ولكن يلزم مشرِط النور المصفى ، اللائق بالحَدَث الاحتفالي الكبير الذي يُرينا امرأة النور تتجسّد على عرش النور :
جاذَبني ضَوْءً ، الضّوْءُ توقّد في مِصباحٍ ،
المباحُ تأنّقَ في مِشكاةٍ
المشكاةُ بأعلى بَوّابَةِ مكّةَ ، في مكّة
تحتَ المِشكاةِ العَرشُ ، العرشُ امرأةٌ من نورٍ
النّور يسمّى : فاطمةً
فاطمةٌ يَحرسها مَلكان ... إلخ .
.......
ويختم قائلاً :
من شاهدَ رجلاً في رَجُلينِ ، وهل
يعرفني أحدٌ
وأنا في ألَقِ الكشف النورانيّ اثنانْ ؟ ( ص 44 )
قفلة جميلة تدفع إلى تداعيات فكريّة ووجدانيّةٍ شتّى .

شهوة الطينُ :
هل يصِحّ ويتوافقُ هذا معَ ما جاء في ( الملكة ) حيث يقول :

... فحَذارِ حَذارْ
من إيقاظ الشهوةِ في قيثار الملكةْ ( ص 45 )

أو ما ورد في نص ( منام ) حيث يتساءل مندهشاً :

كيف اعتنَقَ الطُّهرُ غِوىً
والجْنّةُ تورق في البُركان ؟ ( ص 47)

النصوص القصيرة للنمنمات أو( المنمنمات ) تفصح ، رويداً رويداً ، عن رغبات حسية تريد أن تتجسّد ، لا حلماً وخيالاً ولا نوراً فحسب ، وإنما حسّاً بشرياً ، في كينونة عابرة ، وواقع يدفع إلى البوح من خلال القلم أو الكلمة الشعرية ليُفصح عن إرهاصات العواطف المتأججة في النفس وفي الجسد أيضاً،لنستمع إليه يقول في ( القصيدة ) :

... فارسُمني يا قلَمُ إذنْ
وتلمَّسْني جزءاً جزءاً
حتى الأمكنةِ المخُتَنِقةْ (...) ( ص 55)
ولأن الحبيبة :
( هي النّسمة ) وكذلك الغيمة والرعدُ ومَدّ الصحراءِ ، وسِعةُ الوِديان ، و:

وهي الخُضرةُ
وهي الخَصب ( الصحيح بالكسرة ) ووجه الأُفقِ .... ( ص 54 )

.... حتى يروي شَبَقه ( ص 53 )

وهذا بعد أن يكون قد أطلق صرخته في ( كشف ) ، على لسان ( الغاليةْ ) – وهي في أعلى مراقي عرشها

في أي درب نلتقي ؟
والطرقات كلُّها مُغلقَةٌ
والحب ممنوع . ( ص 50 )

وبعد أن تربَّعتْ ( فاطمة ) فوق الورقة :
تُمسكُ عنقَ القلمِ وتسألُهُ :
من يرسم صورةَ جسدي ، ويترِجمُ أعماقي المُحتَرمةْ ؟
من صَوّرني قامةَ أنثى
عاشقةً أو مَعشوقةْ ؟
يتشهّاها الشعرُ
ويقطِفُ منها ألَقهْ ؟ ( ص 52)

اللغة هنا ، كشفت الأقنعة ، وأفصحت ، دون مواربة ، عن مراميها ، هي تريد أن ( يتشهاها الشعر ) أي ثمة شهوة هناك والشعر لا يكون بدون شاعر أي كائن ذكوريٍّ ، هنا ، له جسد يريد أن ( يروي شبعه ) ، ولهذا فهو لن يصغي إلى نصيحة ابن العم ، في نص ( الجار ) الذي يذكّره بأسفاره العديدة ،وبالغربة وبما فعله فيه وعليه الزمان :

يا أنتَ ، بَعدَ أن تغّضنَ الجبينْ
وحفرَ الدّهرُ بوجْنتيكَ عددَ السنين
ونسَج الزّمانُ فوق رأسكَ المُتعَبِ
إكليلينِ من ثلجٍ ، ومن غبارْ
تعشق من ؟ فاطمةً ؟؟ ( ص59)

ولكنّه يأبى من حبّها تنصُّلاً ولا فَكاكاً :
فَفُوَيْطمُ رقصةُ الفراشة السّكرى ... وهي :
رجفةُ السيف اليَماني / وومضة المَسبوكِ
و( فطَامُ زِقّ خَمرٍ عشقتها مُضَرٌ ) ( ص 61)
فاطمةُ اندياحُ بسمةٍ
في الأفق المحروم من لطافة الأنثى
وغنجُ أقحوانةٍ / بتاجِ أُرجُوانْ ( ص 60 )

كثيرة هي الألفاظ المشابهةُ ، هنا ، المكرورة ، والمعروفة لنا جيداً من خلال إبداع قديم وحديث يتحدث عن ( العشق ) – غالباً – بكلمات حسية مادية تريد أن تجسد شيئاً ، وقد تفلح ، غير أنها تُخفق في أن توصل إلينا مفهوم ( العشق ) المتسامي ، ولو كان جسدياً ، وهذه نقطةٌ نأخذها على صديقنا الشاعر الذي تألق في معظم ما ورد في ( الكشـوفات ) وفي بعض ( المنمنمات ) أيضاً .
يختم الشاعر حواريّته مع ( الجار ) – ابن العم – الذي يحذره للمرة الأخيرةِ :

قالَ : فحبُّكُ الجنونُ أو بدايةُ الدرب للانتحارْ ، ولكن الشاعر يجيب بحكمة سطحية عَرفنا طويلاً :

فقلتُ : هذا العشقُ قدرٌ
وليس لي من قدري فِرارْ ( ص 63 ) .

ويختم الشاعر هذا الفصل من نمنماته ، بالحديث عن حلُم اللقاء معها ، وكأنّه يَئِسَ من الانتظار ومن الأمل فيهِ أيضاً :

... الرّيحُ تَطوِيهِ والأشواقُ تَفْرُدُهُ
وعرشُ فاطمةٍ في الحلم مأواه
كلُّ الدروبِ إليها وهي غائبةٌ
فلا تُتَرجمُ إلاّ الغَيبَ رؤياه
....
فهلْ تَراه بعين الحبّ فاطمةٌ
قَبْل الرَّحيلِ إلى أعماق مَثْواهُ ؟ ( ص 65 )

الشاعر الدكتور خالد محيي الدين البرادعي ، يقودنا الآن إلى خشبة مسرحه الشعري ، حيث يقدم لنا ( فاطمة في ثلاث صور ) لماذا ؟
لأنه يريد أن يقودنا ، معهما ، لـ ( نتسكَّعَ في أرْوِقة التاريخ ) ولكننا لا نرى إلاَّ فاطمة أمامنا فهي :

" ... ومفاجأةٌ ظهرت فاطمةٌ
تطفَحُ بالفرحِ ... "
ثمَّ : ( جلستْ فاطمةٌ في المشكاةِ ... ) (ص71)

... وتوزعُ ضوْءاً عْذرياً ...
فتشكلت غمامة خِصبٍ ...
نادت ...
فأعادتْ تشكيلي ثانيةً ( ص72 )
الخِصبُ يظهرُ لنا من جديدٍ ... ولكن أين ( التسكُّعَ في أرْوقةِ التاريخ ) ؟
وهل يكفي طرحُ العشقِ بديلاً له :
( ... فأنا الرَّاهبُ
وأنا العاشقُ
وأنا الساري في ليلٍ منسيٍّ مغلقٍ ... إلخ ) .

وبرغمِ ذلك أين التاريـخ يا ( أبو محيي الدين ) ؟ ولو من خلالِ طرحٍ فلسفيٍّ ، كما نجدهُ عند
( شـكسبير ) في شخصية ( أوفيليا ) أو عند المفكر الشـاعر الفيلسوف العالمي ( يـوهـان وولفـغانغ فون غوتِه ) ، بالتَّاء المخفّفة ، في " فاوست " الذي درَسَ الفلسفة والطب والقانون لكنه لم يصبح أكثر حكمة من ذي قبل ، وإن أصبح أكثر براعةٍ فباع روحه للشيطان ...
حتى أوسـْفاكد شبِنْغلَرْ ، المفكر المتوفى عام 1936_ في عمله الهام (تدهور الغرب) _ طبعَ بعد صعوباتٍ جمة عام 1918 _ كان قد قسَّمَ التاريخ إلى حضاراتٍ وليس إلى مراحل ، ووردَ عنده الحديث عن حضارة أبوللو ، حضارة السحر ، حضارة فاوست .
وهو يعترفُ أنه مدين بكل فلسفته في ( تدهور الغرب ) إلى العظيم ( غوته ) وكان ذلك في مدينةِ هامبورغ _ شمالي ألمانيا _ حيث أمضيت ست سنواتٍ في الدراسة هناك ، وأعرف الأجواء المُناخية والفكرية التي عمل تحتها هذا المفكر الكبير الذي قام بثورةٍ ضد " الفلسفةِ التجريدية " والمادية أيضاً _ كما فعل " نيتشه " تقريباً _ للتأكيد على أهمية الإرادةِ ، في عالم غربيٍّ " منهوكٌ ميتافيزيقيَّاً " بعد حرب كونيَّةٍ أولى مدمرةً وطاحنة للجسد وللفكر أيضاً تقود إلى تشاؤمٍ وإلى شكّ عميق .
هنا ، وفي حالة ( تَدهور الشّرق ) وانكسارات الأمة ، افتقدتُ عدم الاستفادة من فرصة التَّجوال أو التّسكّع في التاريخ لطرح موقف فكري يبحث في مأساة غياب أو ضَياع الحسّ التاريخيّ لدينا ومحاورة الموضوع ولو بعبثية ساخرة ،كما في بعض المواضع الأخرى .
لن أستطرد أكثر من ذلك في هذا الموقع وتعليقاً على ( التسكع في التاريخ ) _ كما ورد عند البرادعي _غير أنني أريد ببساطةٍ أن أقول أننا لا نعرف أو نتجنّب _ لسبب أو لآخر _ أن نلج إلى جوَّانياتِ مثل هذه الطروحات الفكرية الخطِرة والخطيرةِ لأننا ببساطة ( لا نموت كفاية ) كما قلت في إحدى قصائدي ،ونخشى أن نصعد مع الحلاج الصّليبَ لنصلي (رَكعتين لا يجوز الوضوء فيهما إلاّ بالدّم ) .

يتلو كل هذا عرض لـ ( فصول من سيرة فاطمة ) حيث :
كلّ الدروب إليها
ولا نلتقي
فإن الرَّحيلُ إليها فِراقْ ص80
هذا على الرغم من تجواُل الشاعر :
( بين برِّ الشام وبحر العراق ) ص81
ولكن لماذا ؟ لأنّ الكسارات تترى ، فلا يجد مَناصاً من العودة إليها :

وحاوَرَ عصرَ الفِتوحِ لتصحو فاطمُ من نومها ص83
وهلْ صَحَتْ حقاً ؟
لقد صحا الشاعر ، مأزوماً متوتراً ، منكسراً ، وهو العربي العروبي حتى النخاع ، فيرى أمامه المهزلة مستمرة :
( فشيخٌ يساوِمْ
وشيخٌ يسالمْ
... وشيخٌ يهرِّبُ تاريخَهُ في ثيابِ الأعاجمِ ... إلخ ص84
وعلى الرغم من أن ( فاطمة ) :
تحاور في الشام بصَمتها
وتزرع في القدسِ زَفرتها
وتسكبُ في النيلِ دمعَتها ... ص87
فلا هو ، ولا هيَ ، يروْنَ الجيادَ أو يسمعونَ صهيل خيول التحرير . إذن ، لا بدَّ للشاعر من أن يترحل في جهاتِ الوطنِ الكبيرِ :
( ترحَّلتُ بين الخليجِ وبينَ المحيطِ ) ص87
لكي يرتِّل سيرةَ أهلهِ ، ويحمي راياتِ قومه من السقوط ، لكنَّ أبناءَ عمِّه يتفرَّقونَ ويتشرذَمونَ ، فيتشاكلُ عليه الأمرُ ، فلم يَعُد يعرفُ :
( أيُّ المَواميلِ
يخترقُ العَتْمَ
صوت المحبينَ
أمْ تشابُكُ أوجاعي المُزمنهْ ؟! ( ص89 )
إنه يحلمُ بالمخلِّصِ ويتساءل :
( فمَن ينصبُ الضَّوءَ جسراً لهذا الهوى
ويقرأ فاتحةَ الإنعتاقْ ) (ص91 ).

ولكنه ينطوي في انكسارٍ ( في هامش آخر ) بنهايةِ القصيدةِ ليعلمنا عن حالةِ الروح:

فِطامُ يا حاديةَ المطايا
أعبرُ من عينيك للفرح
خِلسةً وهرباً
وعندما تُحَمْلقينَ فيَّ
( أوَّاهُ من هذه الحَمْلَقة )
غضباً أو عبثاً
أَلِبسُ جلدَ تعبي
وأَختفي في دفترِ الحكايا
بهيئةِ الشَّبحْ
أبحثُ عن قصيدةٍ
في آخرِ القدحْ . ( ص 96 )

لاشكَّ أن القَفلةَ موفقة شعرياً وبلاغياً ولغوياً وإيقاعياً و ... ولكن أين هو الكوني فيها، المتسائلُ عن النِّيهيليَّةِ - العبثيَّةِ وعن ( الدَّازايْن ) _ الكينونة _ حسب تعبير فيلسوفِ وناقدِ القرن العشرين ( مارتن هايدغر ) الذي درّسَ هناك ، حيث درَستُ ، في جامعة ( ماربورغ ) على نهرِ الَّلان الجميل ؟
تحت عنوان ( مدخل إلى الجرح ) ، الذي يتشكّل من ستة جراح ، يعرض لنا الشاعر صوراً من تشتت الأمة وضياعها في المهاترات والتّشَرذم ، ويحدثنا عن الشهيد وأمه المُزغردة ، وعن روضة العشق أيضا ، في بناءٍ دراميّ مسرحيّ أثقل جناحي القصيدة الشّفيفين ، دونما قصد طبعاً ، ولكنه فعل ذلك :

خالدٌ أو عليٌّ ، ليس مهمٌ هو الاسمُ
لحظةَ جُنَّتْ سيوفُ القبيلةِ
والتحَمَ الأهلُ بالأهلِ
والأهلُ بالقاتلين (ص101 )
وفاطمةُ تسألُ وتتساءلُ عن :
( الطَّعنةِ السَّابعةِ ) ( ص102 ) .

وعن هودج اللغةِ المبدعهْ . يتلو ذلك عرضٌ للجراحِ العديدةِ التي تحدِّثنا عن العاشقين ال ، عن (فاطمةُ ) التي ضيَّعتْ دربَ حياتها ، عن ( سيِّدةِ العاشقينَ التي يعانقها الصَّمتُ من ألفِ عام ) ، عن الهروب ِ من الجنون ، عن كيف ( توارى العذابُ القديمُ أمامَ منامٍ جميلْ ) – (ص 110 )
ويحدِّثنا _ في الجرحِ الخامس ِ _ عن :

( خالدٌ أو عليٌّ يرى الدَّمَ يركضُ نحو المآذنِ
والصَّمتُ يغشي القبائلَ ) ( ص 112 )
وفي الجرح السَّادسِ يحدِّثنا عن ارتقاءِ سادسِ الدَّرجاتِ وعن الذي :

( وتوَّجَ بالعشقِ أضلاعَهُ ) ( ص114 )
( وبالعشقِ تُستقبل ُالحِقبةُ الطَّالِعَهْ ) ( ص 115 ) .

وبأنها نامت على الموجِ ، أحلامُهُ ، وبأن سيفَ الخليفةِ يَسكبُ بين الحروفِ هَمسةً مُبهمة ليوصلنا إلى :

( مساحة غَدْرٍ جديدٍ
يَستقبلُ ( فيها ) الطَّعنةَ السَّابعه ...

آهٍ من الجراحِ كم هي مخاتلةٌ ومخادعةٌ . ليت ( البرادعي ) عَرَف عن المثل الألماني القائل ( مجداً لكل ما يزيدنا صلابةً ) وليته تعمَّق أكثر في شخصية ( السوبرمان ) لنيتشه ليعرف كم هي كاذبة النَّازية التي شغلت فكره المتألِّق والمريض لاحقاً لخلق شخصِه ( الجرماني ) المتفوق ، من خلاله ، ومن خلال أعماله التي لم تكن تطرح الأمر هكذا : ساذجاً _ عرقيّاً _ ورخيصاً ، إنما هو الإنسان الذي يرى في الصِّعاب تحدِّياتٍ تدفعهُ إلى العمل الخارق ، الذي نفتقده الآن ، والذي يرى ( أنَّ العظيم يجب أن يكون عظيماً في كل شيء _ سقوط الحضارة ( كولن ولسون ص137 ط1 1959 ( دار العلم للملايين / بيروت ترجمة أنيـس زكـي حسـن _ ، هذا ( السـوبرمان ) الذي دفـع ( بركهاردت ) _ صديق ( نيتشه ) في جامعة بازل - إلى الابتعادِ عنه لأنه _ ربما _ لم يفهم _ كما أرى _ أبعاد طرح ( نيتشه ) في هذا الموضوع ، تماماً كما فعل ( هتلر ) ذلك ، لا عنده ولا عند الفنان العظيم ( ريشارد فاغنر ) في ( حلقة النِّيبيلونغِن ) وفي شخصية ( زيغفريد ) المأساوية .
هكذا تتدهور الحضارات وتسقط ( لأنَّ النوابغ يتخلّون عنها ) والطَّبقات الحاكمة تُصابُ بحالة الـ ( هيبريس ) _ Hybris _ هذه الكلمة الإغريقية التي تعني ، فيما تعنيه : الزّهد الغرور / التَّكبر / والأنانية _ ، كما نراه اليوم لدى الولايات المتحدة الأمريكية و ( دولة ) الشر العنصرية ( إسرائيل ) _ ونظل هنا ضمن أبعاد النص السياسية وإسقاطاته المُعَاصرة.
الشاعر د. البرادعي لم يعط _ حسب ما أرى _ البعد الفكري لهذه الجراح ما يستحق من بحثٍ وحفرٍ ، واكتفى _ كما هو واقع الحال في شعرنا ، وحتى في القصيدة المعاصرة _ بالسباحة على الشاطئ الآمن المعهود ، وزخرفته بما ورثنا من قدرات تعبير جمالية _ لغوية قد ترتاح لها ، الأذن ، ولكنها لا تكفي لتقدّمَ للروحِ المشاكس والظَّامئ ، وأكاد أقول اللامنتمي إلاّ إلي الذّاكرة الإنسانية والجمال المطلق ولذّة المعرفة ، ما يكفي من عصارة الفكر ومن مدامةِ الرؤيا ، لاختراقِ أبعادٍ جديدةٍ في أسلوب التَّعبير والإيصالِ أو عدمِ الإيصالِ ولأن :
( الحضارة التي تقضي على لامنتميها _ حسب تعبير كولن ويلسون _ تتحطَّمُ ... ) ، وبدون مجدٍ أو جلالٍ _ كما أرى _ .
نحن مع الشاعر ، الآن ( في دروب فاطمة ) . هو يسلِّمها بَوْصلة القيادةِ ، ويريعه تشابك الشعاب :
مغترباً وحيداً ، وعاشقاً مطروداً
لا البلد الغائبُ يَحتويني
ولا إنسان مُضَرٍ يقيني
ولا مقامَ فاطمٍ يُؤويني ( ص 125 )
ولكن إلى أين ؟ :
إلى العَتمِ من جديد ، ليحدو العيـسَ ، وليسـافر في خرائب التاريـخ ، حيث نَسِيت فاطمـة ( طريقها القديم ) ثمَّ يكتشفَ :

( كأنَّ كوْنَ الحُسنَ وهمٌ شادَهُ الخيالُ والظُّنونْ )
ويكتشفَ أنَّ الذَّاكرةَ مثقوبةً ويتمنَّى :

( لو أنني ماردٌ في خاتمكِ القديمِ
يخرجُ من قُمقُمهِ
لكي أصوغَ الكونَ من جديدْ
طفلاً تُدلِّلينهُ ) ( ص 134 )
جميلٌ هذا النُّزوع لإعادةِ صياغةِ الكونِ من جديدٍ ولكن : لماذا الطفلُ ، ولماذا الدَّلالْ ؟، هذه الكلماتُ الموروثة لا يمكنُ لنا من خلالها أن نخلقَ أيَّ جديدٍ ، ( الدَّلال ) بدلاً من الاحتراقِ ومن
( العَوْدِ الأبديِّ ) ؟ .
ننتقلُ الآنَ إلى ( ثلاثِ مراحلَ للرؤيا ) فماذا نجدْ ؟
يكتبُ الشاعر اسم حبيبتهِ / رمزهِ / مثَلَهُ الأرضيَّ والروحيَّ ، على شاكلةِ حروفٍ مستقلَّةٍ تضعُ وتصوغُ اسم فاطمة ، مع ما يلزم من بيان عربي عريقٍ ، يتقنهُ الشاعر ، أيَّما إتقان ، ويصولُ ويجولُ فيهِ .
يتلاعبُ باللُّغةِ حيث تتعدَّد الشَّارات لاسمٍ واحدٍ هو ( فاطمة ) وحيث تصبحُ عندهُ :
فطمٌ ، وفُويطم ، وفاطـمُ ، وفطمة ، في تجلِّيات أو حسبَ قولهِ ( نكهاتٌ ) ، وهو يصلِّي بالعشاقِ إماماً ، غير أنَّ له ذاكرةً كالبلُّورِ تجعلهُ يعودُ رضيعاًً يرى الأحرفَ ( من اسم فاطمة ) في أبهى صورها وتجلِّياتها ، ويصِلَ ، من خلالِ (المرحلةِ الثانية) فيها ، إلى تمزيـق السِّـتارِ ، وجنيِ الـوردِ و ...والكثير من الأمنياتِ الذَّاتيـةِ ، ليفاجئنا في ( المرحلةِ الثالثةِ ) بأن : غابتْ فاطمة ، فسألَ عنها طيور العشقِ ، وكتب ( بلهيبِ أصابعه فوقَ الجدرانِ / هلْ ترجعُ فاطمةُ من رحلتها لتراني عَبْداً مفتوحَ الأجفانِ ؟(ص147)
لكنه للأسف لا يعلمنا ، ولا يومي إلينا ، عن سببِ وجهةِ رحلة فاطمة ولماذا ؟ غنائية عربية تقليدية ، مع مزخرفاتٍ تشكيليةٍ قد تنجحُ حيناً في دغدغةِ خيالنا وتخفقُ أحيانَ أخرى .
في مطلعِ عام 1993 يبعثُ الشاعر ( بطاقات إلى فاطمة ) _ عددها ثماني بطاقات _ ليعلمها عن :


( عامٌ تحطَّمَ كالبلُّورِ فاطمةٌ ؟ ) ( ص 151 )
( عامٌ تكسَّرَ كالبلُّورِ فاطمةٌ ؟ ) ( ص 154 )
يتساءلُ عن العالَمِ وما أكذبهُ ، وعن أن القصة ( قصة حبهما ) حدثتْ في الألف الثاني والتسعين ( وبضعِ مئاتِ سنينٍ من قبلِ الطّوفانِ ) ( ص 159 )
ليسألَ ( صُوَيحِبتهُ ) .

( هلْ يعقلُ أن يحدثَ هذا
في عصرِ حقوقِ الإنسان ؟ ) ( ص 158 )

يتحدَّثُ بعدها عن غزَّةَ / عن القدس / عن ( سراييفو ) وصواريخ الغرب ، عن حيفا والجولان والجنرالات ، ليختتمَ ، في البطاقة الثامنةِ ، بتساؤلٍ عاديّ وساذجٍ :

( كيف يموتُ الطفلُ ومعهُ حجرٌ
أيهما أسرَعْ
الحجرُ أم المدفعْ ؟ ) ( ص 171 )
الشاعر يجثو الآن أمام عرش فاطمة ليعترف . ولكن بماذا سوف يعترفُ لها يا تَرى ؟ يعترف ببلوغه الخمسين وما يرافق ذلك من بكاءٍ على شبابٍ ولَّى :

( لكنْ أتيتُ وما في العمرِ مُتَّسعٌ
لحَملِ عرشكِ بين الصَّحوِ والوَسن ) ( ص 17 ) .

ينتقلُ الشاعر بنا الآن ، من ( الغربة ) إلى الضَّيفِ الذي يقول فيه :

( يُكرمُ اللهُ من تلطَّفَ بالضَّيفِ
فهلاَّ
فتحتِ للضَّيفِ بابا ؟ ) ( ص 181 )
ينتقلُ بنا إلى ( الهم ) ويتساءلُ :

( أيخيفُ حبُّ مُغتَربٍ )
( وهواهُ عذريٌّ )
ولكن :
( وبنو العمومةِ في مضاجعهم
غنوا الهوى برطانةِ العجمِ ) .

فلماذا إذن _ لا تفكُّ فاطمةُ ( وشاحَ الخوفِ ) فالشاعر ما زال فحلاً بحقٍّ :

( ما زال بي
تَوْقٌ لمرحلةٍ
تُرَجَّى
وحلْم ٌمُرْجَأٌ بدمي
وفصاحةٌ تغلي مراجلُها
نَسِيتْ قُرَيْشٌ بعضَها بفمي ) ( ص 186 ) .

لا شكَّ أن في هذا بيانٌ عربيٌّ لغويٌّ تشكيليٌّ أصيلٌ ، يُطربُ له القارئ التقليدي وحتى الناقد الخارج من مدرسةِ ( ابن طباطبا ) و( الجَرجاني ) وما شابَههما ، لماله من فخامةٍ وجزالةٍ في التَّعبير الموروثِ ، وفي الكلامِ ( الفاخر ، النَّبيل ) ، غير أنه يبقى _ حسب رأيي _ بحاجةٍ إلى عمليةِ احتراقٍ أعمقَ ، ليصلَ إلى مدلولاتِ معاناةِ التَّساؤلِ الكوني ، شأنه هنا شأن معظمِ شعر وشعراءِ عصرنا المعاصرِ اسماً ، وغير المعاصرِ روحانياً .
أعترفُ ، برغمِ كلِّ هذا ، بوجودِ حِرفةٍ ماهرةٍ في الصّياغةِ تصل به إلى حدِّ الإتقان الرّفيع وذلك بأسلوبٍ مبدعٍ في الرَّبطِ بين الشكلِ والمحتوى و ببيانٍ عربيٍّ متقَنٍ يصلُ به إلى تُخومِ الانعتاقِ الرُّوحاني ، والفوضى الجميلةِ المُخترِقةِ ، ولكنه بحاجة إلى المَزيد .
وصلنا الآن ، مع الشاعر د. خالد محيي الدين البرادعي ، إلى مقاربة نصوص الثُّلث الأخير من مجموعته الموسومة بـ " الصُّعود إلى عرش فاطمة " وبعد أن عايشنا معه رحلة التيه الروحية والجسدية ، رحلة الاغتراب في الأهل والوطن ، رحلة انكسارِ حسٍّ قوميٍّ متَّقدٍ تحت نخلة الحلم التي صارت شَرَكاً للعقلِ والمشاعر ، رحلة الشَّوقِ الروحي والجسديِّ إلى فاطمة الرَّمز والجسد الحيِّ النَّابض بالرَّغباتِ ... فماذا عساه سيقدِّمُ لنا الشاعر الآن بعد هذا الفيض الشعري الذي قدمه لنا ، كما على خشبة مسرحٍ إغريقيٍّ مُقامٍ على رمالٍ عربيةٍ ، دخلته ( الجوقة ) لتعلن افتتاح المأساة _ المَهاة بأناشيد الخِصب التي تستحضر المطرَ ، ولمَّا يأتي بعد ، وأناشيد ( تمـُّوز ) الغائب ، بَعْدُ ، في ظلامِ " العالمِ السُّفليِّ " بانتظار أن تهبط إليه " إنَّانا " لتخرجه إلى الضِّياءِ وليعمَّ الخير والرَّبيع ، وما تزال ( الجوقة ) ترقص وتنشدُ ، مجداً من أجلِ " اللاَّةِ " أو " العُزَّى " أو من أجل " هُبَلٍ " أو "بعل " أو " مردوخ " بعد أن انتَزعت الذكورةُ الأبوية الصَّولجانَ من الأمومةِ وأعلنت العِصيان وحملت السيفَ لتخطَّ درب المدنية والقانون والقسوة بديلاً عن مبدأ قرابةِ الدَّم والمحبة والتَّساوي . وبما أنها _ الجوقة _ لم تخرج من " التَّياترو " بعد ، فالعرض ما زال مستمراً يدعونا إلى الانتباه واليقظة ومتابعة الحدث ، الذي لم يَصل ، حتى الآن ، إلى ذروته - درامياً - فماذا سيحصل بعد هذا ؟ .
تحت عنوان " أصوات قديمة تحت عرش فاطمة " ص187 يقودنا الشاعر لمقابلة شعراء تركوا بصمات أرواحهم ومشاعرهم ، على خارطة وجدان أمةٍ أحبت الشعر وتماهت فيه حتى التَّطرف في مشاعرها من أجل بيتِ شعرٍ واحدٍ ، أو من أجل " أنف النَّاقةِ - وذيل البعير " .
من بعد أن يأتينا صوت " الفاضل المتهتِّكِ " _ كما نعته د. حريتاني في كتاب له عن النُّواسي _ أي
( صوت أبي نؤاس ) كما يكتب البرادعي ، ليسأله وهو من هو في أمور العشق والغزل وربَّاتِ الكرومِ ، يسأله بحَيرةٍ عن الدَّرب الموصلِ إلى فاطمة لأن :

" دروبَ العشقِ غا مضة " ( ص188 )
فيجيبه ، من قرارةِ الكأسِ ، صوت الشيخ العارف ، ليقول :

" سُنَّة العشَّاقِ واحدةٌ
فإذا أحببتَ فاستكنِ " (ص 188 ) .

ولكن لماذا اختار " البرادعي " من أقوال هذا الشاعر الحكيمة ، وما أكثرها ! ، هذا البيت على وجه التَّحديد ؟ ألأنه تاهَ طويلاً في البحث عن حلمه ، آملاً ، صارخاً ، صاخباً ، منكسراً ، نائماً ... ليريهِ أن كل هذا لن يقود إلى الدرب إلاَّ من خلالِ " الاستكانةِ " ؟
في بحثهِ عن الحقيقة ، حقيقة الوجود والألوهةِ ، منذ بضع قرون ، كان (توما الإكويني ) _ المفكر اللاهوتي _ الملقَّب " بدكتور الكنيسة الكاثوليكية " / يتجوَّل على شاطئ البحر عندما رأى طفلاً يحفر حفرةً في الرِّمال ، فسأله " توما " عن السبب ولماذا ؟ فأجابه ببراءةٍ :
لكي أدفن فيها البحر .هنا أدرك الرجل أنه يبحث عن سراب وأنَّ الحقيقة لن يجدها في التِّجوالِ ، وربما تكون في داخله ، دون أن يدري ، فعاد أدراجه . غير أنَّ الصُّوفي الكبير" أبو يزيد البسطامي " يعلّمنا شيئاً آخر ، حيث يقول لنا " الاستكانة حجاب... ومن استكان إلى شيء فهو مَحجوبْ " .
فأين الصَّوابُ يا تَرى ؟ هل كلّ هذا صوابٌ أم حجابٌ ، وبصرف النَّظر عن المحتوى؟! .
صوت أبي تمام :
هذا الصوت يوظِّفه " البرادعي " _ برغم مروره أو صعودهِ إلى عرش فاطمة " الثاني " يوظِّفه ، وبمهارة ، سياسيَّاً ، عندما يقول :

" كأنها سنَّةٌ للقهرِ ... أَبَّدها
وحشٌ تأنَّقَ في تاريخِ إنسان " .
ويختمه بقول الشاعر :

" بالشَّامِ أهلي ، وبغداد الهوى . وأنا
بالرِّقتينِ . وبالفُسْطاطِ إخواني " ( ص191 ) .

الغربة إذن مرَّة آخر وأخرى . أو لم يقل لنا البرادعي ، سابقاً :

" وجناحاكِ فِطامُ
تُسِدَّان الأفُقَ عَليْ
بين المغربِ والمَشرِقْ ؟ " (ص 75 )

"... ترحَّلتَ بين الخليجِ وبينَ المحيطْ

" ... عاصرتُ في غربتي خمسينَ جائحةً
" وجئتَ أنت لأحيا الغربيتين معاً
فهل هما وطني في قُرَّةِ الوطنِ ؟ " (ص179 ) .

صوتُ المتنبِّي :
على الرغم من توقُّعنا أن يهدرَ صوت المتنبِّي لشاعرنا المعاصرِ ، يحدِّثهُ عن " الخيل واللَّيل ... " عن " أنام ملئ جفوني ... " أوعن " ... الظّلمُ من شيمِ النُّفوسِ " ... إلخ . إلاَّ أن البرادعي يصغي ويختار من صوت المتنبي :

" زوِّد ينا بحسنِ وجهكِ ما دامَ ... "
فالحسن لن يدوم ، وكذلك الحياة ، ونسمع البرادعي يبوح بقولٍ رقيقٍ وشفيفٍ :

" قُبةُ العشقِ أُغْلقتْ من عصورٍ
وكِلانا مُكبَّلٌ ... مَغلولُ " ( ص193 ) .

والكلمات ، تتضمَّنُ الكثير َ وتفصحُ عن الكثير أيضاً ، ويختتم لقاءه ، بقفلةِ حكمةٍ حزينةٍ يخاطبه فيها المتنبي قائلاً:

" نحن يا خالداً
غريبٌ كِلانا
عن كِلانا
ونام عناَّ الدَّليلُ " ( ص194 )
لم يكن الحسنُ ، في هذا اللِّقاءِ ، هو المحوَر المفرِحَ ، ولكن الخاتمة الحزينة والحديث عن الاغتراب مرَّةً أخرى وأخرى كانت غُصَّةَ الختامِ في هذا المشهدِ الحزين .
صوتُ أبي العلاء :
في غنائيَّةٍ عذبةٍ ، يبوح الشاعر البرادعي لنا عن حُلُمهِ المُحرِقِ وعن جرح قلبه فيقول :

" لكأني عن مقلتيَّ غريبٌ وكِياني مُغرَّبٌ عن كِياني " ( ص196 )
وتردّدُّ ( الجوقة ) _ غير المرئيَّةِ _ في عَتمةِ المشهد التي تليق ب " رهين المحبسين " حكمته الخالدة :

" علّلاَّني فإنّ بيضَ الأماني
فانياتٌ والدهر ليس بفانِ " ( ص197 )
وتسدل ، بهذا ، الستارة عن المشهد .

من ذاكرةِ الرَّملِ والنَّخيل ، ومن " زمنِ الحلم الأول " _ عنوان إحدى مجموعاتي الشعرية _ ومن عالم الفروسية ، والصِّراعِ مع الموروث الجائر الذي يدفع بالبعض إلى أعماق رمال الغربة والاغتراب لألف سببٍ وسببٍ ، ويدفعه حتى إلى أحضان الموت الشاعري النَّبيل ، على الطريق الملكي إلى عرش الشعر الخالد ... من هناك يصلنا :
صوتُ طَرَفة :
يوظفُ الشاعر البرادعي ، في هذا المشهد _ بخاصةٍ _ اللُّغة التُّراثيةَ المألوفةَ لديهِ ، التي يعرفُ شِعابها ودَلالاتها جيداً ، وإن كانت بين حينٍ وآخر شِعاباً وَعِرةً وغريبةً أحياناً ، ضمنَ بنائيَّةٍ متماسكةٍ لُغوياً وتراثياً لكنها تريدُ أن تفصحَ عن ذاتها من خلال إسقاطِ أو الإيحاءِ بإسقاط دلالةً معاصرة لذلك الزمن القديم ، زمنِ الأصالةِ والبداوةِ والفروسيةِ ونقاءِ الصَّحراءِ وما عُرفَ به لسانُ العربِ القديمِ من إبداعٍ مدهشٍ ، دعا الباحثَ السّويسريّ ( آرنولد فون هوتِنغَر ) إلى أن يكتبَ _ ذاتَ يومٍ _ في " صحيفةِ زوريخ الجديدة " في مطلع الستّينيات _على ما أذكر _ :
" إنَّ ما أبدعهُ الإغريقُ في المَرمرِ أبدعهُ العربُ في اللّغةِ "
ذلك الزمن الغابرَ الذي لم تكن فيه مثل هذه الكلماتِ _ بالطبع _ غريبةً ولا وَعِرةً أيضاً .
غير أنَّ الشاعر البرادعي من خلال استعماله مثلَ هذه الكلمات يحاولُ أن يعطي المشهدَ مصداقيةً مكانيَّةً ومصداقيّة المزامنةِ أيضاً :
إثْمُدْ _ عسْجَد _ لَعْسٌ _ عَرارٌ _ مِروَد _ خِدرٌ _ هَوْدجٌ... إلخ . ونسمعه يحدثنا عن :
الأعشى ، وعن أمِّ خويْلد وهُذَيل إلخ ... ولنا الحق في أن نتساءل إذا ما أفلح الشاعر في محاولته هذه ، يا تَرى ؟
لا شك أن البرادعي ، كشاعر متمكنٍ من أدواته الشعرية متمرس في بناء المشهد الدَّرامي ، من خلال مسرحياته العديدة ، وفي بناء المشهد الشعري ، ومن خلال لغة عربية ومخزون لغوي وسيع يضم الحديث الشائع كما يضم معجمه الغريب التُّراثي وحتى المندثر أيضاً ، كان قادراً على صياغة ما يريد أن يقوله لنا في مشهد طرفة ، برغم أنه يعترف لنا :

" تعبتُ من الإنشاء وحدي
ولم تُجبْ ( فاطمة بالطبع )
وسَالتْ جراحُ الصَّبرِ بَعْدَ التًّجلُّدِ " (ص 201 ) .

وكان قادراً على توظيف قول طَرَفة ببراعةٍ أيضاَ ، ليختتم المشهدَ هكذا :

" ومِنْ فَجوةِ اللَّيلِ الذي أنا قائمٌ
بأركانه العمياءِ ،
شَدَّ على يدي
شهيدٌ . ونادى
_ كان صحبيَ مرةً
" يقولونَ :
لا تهلِكْ أسىً وتجلَّدِ " .

ولكنني أتساءل ، بعد كل هذا الجهد الذي تجسَّدَ على مدى صفحاتٍ ستٍّ ، وهو أطول المشاهدِ ، حيث مشهد صوت ( أبو نواس ) أخذ صفحةً واحدةً فقط ، ومشهد ( أبو تمام ) صفحتين ، و(المتنبي) وكذلك المعري ، كلٌّ أخذَ ثلاث صفحات فقط ، و( شاعر اليتيمةِ ) _ اللاحق _ أربع صفحات ... بعد هذا المدى الواسع الذي احتله ( صوت طرفه ) ، أتساءل إذا كان كل هذا الجهد يستحقُّ أن يخرج الشاعر منه بكلمة واحدةٍ وحكمةٍ عاديَّةٍ تقول له ( تجلَّدِ ) ؟
أين التساؤل الفلسفي الوجودي ، وأين العبثية والطموح القاتل والرفض ، والفروسية والاغتراب عن الأهلِ فيهم وبَينهم ؟
سؤال لا بدَّ من طرحهِ ، والإجابة تبقى ( في قلب الشاعر ) .
النص الأخير في هذه العودة إلى شعراء الماضي لا تحمل عنوان ( صوت ) إنما هي :
حوارٌ مع شاعر اليتيمة :
يسأل البرادعي في هذا النص صاحبه المقتول الذي سمى حبيبته ( دعداً ) وخلَّدها ، أن يصفها له ليصل ، من خلال ذلك ، إلى حبيبته هو ، إلى ( فاطمتهِ ) التي :

" ... نَهبت مني الهمومَ لتصبحَ الهَمَّا " ( ص 205 )
ويتساءل :

" دعدٌ غَوَتْ ، وأنا بفاطمةٍ
لُصْقَ الجنونِ أعَمِّرُ الوَهْما
أتراهما خَلقين في نَسَقٍ
فرْدٍ نبيلِ النَّبعِ إن يُنمى ؟
أمْ تَوأمينِ لِسِفْرِ مَلْحمةٍ
للعشقِ ... "
وهناك يفصح الشاعر تماماً عن الجانب الحسيِّ في عشقهِ الصوفي ليقول :

" إنْ شُمَّا ( دعدٌ وفاطمة ) وإن ضُمَّا
.........
أتظنني
أحظى بمَلمسها
وأنالَ ضمَّ قوامِها يوماً ؟
فأنا هوىً . متوهِّجٌ
ورُؤىً خُضرٌ
تحنُّ لتبدِعَ الأسمى .

لعلَّ أجمل ما في هذا الحوار ، القفلة بكلمة ( الأسمى ) وليس ، كما عند صاحبه المقتول ، الذي سمَّى دعداً وخلَّدَ ذلك الاسما ، وبرغم ذلك فالحوارُ يُسقِطُ الأقنعةَ الروحيةَ التي قد تكون صادقةً ، هنا وهناك ، ولكنها شفافة لا تخفي الرَّغبات الحسيَّة في قلب الشاعر وروحهِ وفي جسدهِ أيضاً .
خلاصة الأمر :
ماذا أفادتنا هذه الأصوات والحواريَّات ، بل ماذا أفادت مجموع مَشاهد الديوان ؟
للشاعر ، أي شاعر كان ، تمام وكامل الحق في أن يوظف ما يشاء من المأثور والموروث والمَرْموز في نصِّه ، وبأيةِ طريقةٍ وأسلوبٍ يشاء ، ولكن المطلوب منه ، أيضاً ، أن يقدم لنا بهذا التَّوظيف صورة مفارِقَة للمألوفِ ، مخترقةً لتصوّرنا البدئي ليفجأنا بالمُغايرِ وبالدَّهَشِ والإثارةِ والنَّشوة . فماذا قدَّمت لنا هذه الأصوات وما رافقها من توظيفٍ ؟
في الصوت الأول _ صوت أبي نؤاس _ : نجد دعوة إلى الاستكانة .
في الثاني _ صوت أبي تمام _ : الغربة والاغتراب .
في الثالث _ صوت المتنبي _ : اغتنام لذَّةِ الحب فالحِسِّ .
في الرابع _ صوت المعري _ : فناء الأماني بخلاف دوام الدهر .
في الخامس _ صوت طَرَفه _ : لا تهلِك ، وتجلَّدِ .
والسَّادس والأخير _ شاعر اليتيمة _ : الدعوة إلى الحس المُمَوَّه بالسموِّ .
إذن قدَّمت لنا النصوص شيئاً من :
الغربة / اللَّذة والجمال / فناء الأماني / الدعوة إلى التَّجلد / والدعوة إلى الجسد .
كل هذا جميل ومقبول ، ولكنني أعود لأتساءل :
لماذا أغفل الشاعر هنا تساؤله _ هو _ الفلسفي الوجودي ، والفرصة كانت مواتية لهذا ؟

يختتم الشاعر ، د. خالد محيي الدين البرادعي ، مجموعته ( الصعود إلـى عرش فـاطمـة بــ " حكاية عن الملك المهزوم لتنام فاطمـة " ( ص209 _ 228 ) _ وهي آخر صفحات المجموعة _ .
في نصٍ شعري طويل لي ، كتبتُه منذ أعوام ، ونشر في مجلة " المعرفة السورية " بدمشق ... بعنوان " مرافعة ديك الجن " خَلصتُ إلى نتيجة أن " ديك الجن " ليس القاتل ، إنما هو الضحية في صراع الآلهة ، بما يشابه (أوديب) عند سوفوكليس " أو في ثلاثية (آيخيلوس ) ( أوريستا ) التراجيدية .
في هذا النص " حكاية الملك المهزوم " _ وليت العنوان توقف هنا _ يقدم لنا البرادعي مرافعة رائعة قوية البيان والتعبير والصياغة ، مرتكزةٍ إلى قراءة التاريخ والواقع من منظار الهزيمة بعد أن :
" كان الحاكمُ يخشى غضب الله ،
وأمسى يخشى غضب الروم " (ص 226 )

" كيف دفعتم
فِدية عرشٍ يحرسهُ من لا يحكمهُ " ( ص 224 )

كان العدلُ أساسَ المُلْكِ
وصار القهرُ أساسَ الحُكْمِ
وسكتّمْ " ( ص225 ) .

ويتحدثُ عن سِفْر هزائمهم ، وعن فتح شُباك العرب على بحر الروم ، وعن انسلاخ المهزومين من سيرتهم ، عن مملكة الرِّدة وأحجار الرَّجم ، عن الملوك الطغاةِ والكهنة الزّناةِ ، عن عصر التنوير الذي تلد فيه النساء سِفاحاً ، وعن الحاكم الذي يحرسه القَتَلةُ ، وعن رجالِ الشورى الذين حَلُّوا في سهلِ مواردهم ( والشورى سيف ولجام ) _ ص 219 _وعند اعترافات الملك المخلوع بأسرار الحكم وبِحتمية الهزيمة بعد أن أمسى القمر الأموي جريحاً ، وصارت الأسلحة للزينة فحسب و :
" بنو عمي فلَحوا مقبرة الخلفاءِ لنهبِ ملابسهم " ( ص 223 ) .
"ووجوهٌ لاصقةٌ بزجاج العصرِ
بلا شكلٍ أو لونْ
وكأن المشهدَ لا يعنيكُمْ " ( ص 227 ) .
يتحدث عن الكثير الذي يضيءُ لنا قَتامة المشهد المعاصر لأمةٍ نسيت تاريخَها وأمجادها ونسيت أين تقعُ حدود الروح والوطن ، ليختتم بذلك ، فعلاً ، ذُروة هذا العمل الشعري ،الذي أعتبرهُ إلى جانب ديوانه ( عبد الله والعالم ) من أجمل وأهم ما كتب البرادعي من قصائد ، طبعاً إلى جانب أعمال هامة أخرى ( ملحمة مَـيْسلون ) وكذلك ديوان ( حكايات إلى امرأةٍ من يبرود ) الصادر عام 1974عن دار الرسالة في الكويت ، وبعض أعماله الأخرى .

إذن ، وبعدَ هذه المقاربةِ السَّريعةِ لهذا العملِ الشِّعريِّ المميَّزِ من أعمالِ الشاعر الدكتور خالد محيي الدين البرادعي ، نستطيع القول أنَّ الشاعر قدَّمَ لنا أفكارَهُ ورؤاهُ وانكساراته أيضاً مِن خلال مشاهد شعريةٍ درامية البناءِ وكأننا أمامَ لوحاتٍ تترى على مسرحِ اللُّغةِ التي يتمكَّنُ الشاعر مِن التَّعاملِ الأنيقِ الحُرِّ معها ، وإن كانَ قادنا في بعضِ المواضعِ إلى مفرداتها هي مِن صميم لغتنا ولكنها الآنَ أمستْ ثقيلةً وربما غريبةً على أسماعِنا .
أنْ نتحدَّثَ عن الأسلوبِ والتراكيبِ وغيرِ ذلك مِن الأمور التَّقنيةِ اللاِّزمةِ لدراسةٍ نقديةٍ منهجيَّةٍ فهذا أمرٌ يطولُ ويمكنُ البحثُ عنهُ في قراءاتٍ أخرى لدارسينَ كثر درسوا بهذا الأسلوب الشاعر الدكتور البرادعي ، غير أنني أردتُ أن أعبِّرَ عن انطباعاتي حول هذا الدِّيوانِ ، المُميَّزِ كما ذكرت ، والذي يستحقُّ قراءاتٍ نقديةٍ أخرى .
________________________________________
حمص _ سورية د. شاكر مطلق

الدكتور شاكر مطلق
03/05/2008, 01:18 PM
قراءة في المجموعة الشعرية (*)
" الصعود إلى عرش فاطمة "
شعر د. خالد محيي الدين البرادعي
الناشر : دار الذاكرة _ حمص / سورية
ط1 : 1 / 1997
( القطع 25 / 17 سم ، عدد الصفحات 234 )
( الطبعة الثانية - " المبدعون " يبرود- سورية 2008 )
=============
* - نشرت الدراسة في كتب ومنشورات عدّة ، وفي بلدان عديدة.











د.شاكر مطلق


دراسة للمجموعة الشعرية: د. شاكر مطلق
مدخل :
تربطني بالشـاعر الدكتور خالـد محيي الدين البرادعـي ، صداقة قديمة أتاحَت لي التّعرفَ على نتاجه الأدبي المتنوع عن قربٍ وملامسةَ أجواءِ وخلفيّاتِ العديدِ من نصوصه الإبداعية ، وبخاصّةٍ الشّعريّة منها ، وإلى الاستماع إلى بعضها ، وهو لا يزال مخطوطاً وربما مناقشة هذا النص أو ذاك مع الشاعر، في جلسات خاصّةٍ حَميمية وصريحة ، وإلىالتّعرف أحياناً على الدّوافع التي دفعته إلى كتابة عمل ما، والاطلاع منه على خفايا الكواليس ، الأمر الذي يُوسّع من مَنظور الرّؤية إلى وفي النّص ، وهذا غير متاحٍ طبعاً للقارئ البعيد ، وغير ممكنٍ أو مطلوب على ما أظن ، إنما هي مجرد شارات إلى معرفتي بتجربته الإبداعية ، وبخاصّة النّصوص الشعرية ، كما ذكرتُ ، مستثنِياً منها الجانب الآخر ، من نتاجه المتنوّع ، وأعني به مسرح البرادعي الشعري ، الذي يحتوي على كمٍّ غزير ونوعيّة ، تتفاوت طبعاً في أهميتها وتألّقها ، شأنُها شأن كل الأعمال الإبداعية في الأدب والفن والموسيقى وغير ذلك .
ومع ذلك فأنا لا أدعي أن ما سأقدمه حول ديوانه الموسوم بـ : " الصعود إلى عرش فاطمة " _ الذي أصدَرته له عن دار الذاكرة بحمص ، التي أملك امتيازها ، عام 1997 _ سيكون قراءة نقدية منهجيّة ، إنّما هي قراءة انطباعية تحاول أن تتقَرّى جماليات النص وتقترب من أفقه ومضمونه وطروحاته وعثراته أيضاً ، إنْ وجدت وحيثما وجدت ، بروحٍ من المحبّة غير الُمحابية ، وبقراءةٍ ناقدة غير متحاملة أو خادشة ناموس اللياقة الرقيقة في التعامل مع العمل الإبداعي والمبدع ، مع كل عمل إبداعي وكل مبدع ، أملاً أن أقدّم ما يستحق القراءة ،ومعتذراً _ سلفاً _ عن عدم إمكاناتي النقدية الإحاطةَ بهذا العمل الإبداعي الهام ، من كل جوانبه ، لقصور في أدواتي ، وليس في العمل ذاته .

حمص _ سورية د . شاكر مطلق
10 / ‏2002‏‏

منذ أن تُمسِكَ بديوان د . خالد محيي الدين البرادعي " الصعود إلى عرش فاطمة " قد يفجؤك شكل الديوان المستطيل ، وقطْعه غير المعهود ، وربما تساءلت عن السبب الذي دفع الشاعر لأن يكتب الديوان بخط يده ، وهو خطٌّ مميَّز ولافتٌ ، فنياً ، كما هو الحال لدى خطّ الصديق الشاعر عبد الكريم الناعم ، على سبيل المثال .
وكنتُ قد أصدرت أكثر من مجموعة شعرية من كتاباتي بخط اليد ، ولكن بيد الخطاط الخبيرة بخفايا الحروف وأشكالها ، فلماذا أراد البرادعي أن يكون الأمر هكذا ، وكان بإمكانه طبعاً ، أن يعهد به إلى خطاط محترف ، قد يضفي جمالية أكثر على إخراج النصوص ؟
ربما يزداد تعجّبنا عندما نأخذ بتصفح الديوان ، لنجد أن الشاعر لم يكتف بكتابته بخط يده فحسب ، وإنما زيّنهُ برسوم من "ريشته" تحمل زخارف نباتية وأشكال تشبه ( الأرابيسك ) ووضعَ في بعضها " لوحات " لامرأةٍ عارية ، ذات شعر طويل ، في وضعيّات جريئة ، يستر عريَها الوردُ تارة ، وتارة شعرُها الطويل ، نراها تجلس أو تقف أو تستلقي تقرأ ( قصائد الشاعر ؟) أو تتأمل شجرة عارية ، تنظر إلى الهدهد ، أو إلى أسماء مدن عربية عديدة مخطوطةً على صفحات كتاب مفتوح أمامها ، مدن عرفها الشاعر ، بل وعاش فيها أو عايشها إبان فترة ما من تنقّله بين بلدته الجميلة ( يبرود ) القابعة في سلسلة جبلية مُذهلة الأشكال والألوان ، إبان اليوم الواحد وعبْر الفصول ( جبال القـَلَمون ) ،هذه البلدة التي تقع على مقربةٍ من مدينة ( النبك ) وسط الطريق الحديث الواصل ما بين (حمص ) و ( الشّام ) –دمشق - ، والمُطلة على واد خصب وسيع وعريق عرف الإنسان الاستفادة منه ومن السّكن في مغائر جباله العديدة منذ أكثر من مئة وخمسين ألف عام ، كما عرف البرادعي الاستفادة من موقعه الموحي الجميل في صياغة العديد من أعماله الإبداعية ، مثل ديوانه المُميّز المعروف " حكايات إلى امرأة من يبرود " الصادر في الكويت عن دار الرسالة عام 1974 .

الحسناء الغامضة :
عودة إلى " لوحات " الديوان التزيينية . لماذا وما هي الرسالة التي تحملها للقارئ ؟
الرّسومُ _ فنيّا _ هي في منتهى البساطة ، تنتمي إلى النوع المسمّى : " الفن البدائي " وأُفضِّل عليه تسمية "الفن العَفوي "، هذا إذا كان بالإمكان حقاً إطلاق كلمة ( الفن ) على مثل هذه الأعمال البسيطة ، وكنت ، قبل نشر المجموعة ، قد أَعلمتُ الصديق البرادعي ، عن تحفظي على مثل هذه الأشكال والزخارف ونصحته باستبدالها بلوحاتٍ فنيةٍ حقيقيةٍ ، إلاَّ أنني لمستُ لديه رغبة حقيقية بتركها في المجموعة ، لا سيما وأن الكتابة وحروفها تتداخل ، في كثير من المواضع ، مع الأشكال ، الأمر الذي يجعل الفصل بينهما غير ممكن دون إعادة كتابة المخطوط من جديد.
أعود لأتساءل مرّة أخرى: لماذا هذا الإلحاح على إظهار مفاتن هذه الحسناء ، ومن تكون يا تَرى ؟ : _ أهيَ فاطمة المعاصرة –المرأة الأنثى المُشتَهاة _ في المطلق ؟ ربما ...
_ أهيَ حبيبته المُتخفِّية خلف رمز عربي - إسلاميّ عريق ؟ ربما ...
_ أهيَ ملهمته ، التي أطلق عليها الأوروبيون لقب ( موزِه _ Muse ) التي تلهم الشاعرَ قصائدَه على غرار شياطين عبقر عندنا ؟ ربما ...
أسئلة وتساؤلات عديدة يمكن طرحها هنا ، وأخالها ذات دلالة هامة للولوج إلى جوّا نيات النصوص من خلال دهاليز نفس عاشقة حائرة تعاني وتأمل تارة ، تثور وتصمت تارة أخرى ،لكنها تحاول دوماً أن لا تبوح إلا من وراء قناع وَقور لا يجوز له أن يَسقط ليصرخ :
... وبُح باسم من أهوى ودَعني من الكُنى ...الخ
ولكن هل يمكن أن تكون هذه الرّسومات محاولةً لتجسيد حلم المرأة -الأنثى ، كما يريد لها البرادعي أن تكون : جسداً نارياً جميلاً في حالة عري تام وسقوط الأقنعة عن شيطان الرّغاب الحارقة ؟ ، نراها تنتعل تارة حذاء نِسوياً عصرياً ، ولكننا نرى فوقه ( خلخالاً ) من الزمن القديم ، ودوماً نرى جديلةً طويلة من الشَّعر الأملس تتدلى على ظهرها ، وفي آخرها شريط مربوط بعناية ، ولكنها تظلُّ ضبابيةً هذه المرأةُ فلا نرى لها ، على الغالبِ ، وجهاً يفصحُ عنها ، كما لا نرى ، في معظمِ الأشكال المرسومةِ للأجساد العارية ، حذاءً إلاَّ وفوقهُ الخلخالُ وكأنه لازمةٌ لاكتمالِ صورةِ الأنوثةِ لديه .
في ( لوحةٍ ) لوجه أنثوىّ أماميٍّ – بورتريه - ، مرسوم على الطراز الفرعوني ( ص 18 ) نرى مقاطع لوجه امرأة شابة ذات عيون واسعة جداً ، لا يمكن لها أن تكون وجه المرأة المرسومة في موضع آخـر من الديوان ( ص 107 ) ، يشكل شعرُها المتطايرِ وشاحاً للرأس ، على الطراز العربي المعهود ، أو نرى وجهاً متخفّياً تماماً وراء الخُمار ، ولا نرى منه إلاَّ عينين واسعتين فقط ( ص 102 ) .

من تكون ؟ :
هل تكونُ هذه الوجوه تنويعاتٍ لوجهٍ واحدٍ ووحيدٍ ، يدعى فاطمة ؟
وهل يختزلُ هذا الوجهُ :المرأةَ / الأنثى / الحلمَ / الغموضَ / الشَّهوةَ / ليصبحَ ، برغم ذلك ، الرَّمزَ الذي يتسامى ، في جُلِّ النصوص ، إلى آفاق روحانية عالية نجدُ ( فاطمةَ ) فيها :

" تستريح على كبدي ، لحظةً ، لحظةً
وتعمُرُ في فُسْحةِ القلب مقصورةَ الأمنياتْ
ووِديان عبْقَرَ ... " ( ص 15 ).

أيّا كانت الدلالات لهذه الرسومات وللكتابة بخط يد المبدع نفسه ، فهي – حسب ما أرى – ليست ثانوية لقراءة ما بين الكالمات أو خلْفها ، الأمر الذي دفع بي إلى تقديمها للقارئ الذي لا يستطيع رؤيتها – دون الديوان بين يديه بالطبع – وأكاد أقول :في عُجالةٍ ،غير أننا لسنا الآن
في مَهمة قراءة نقدية تشكيلية أو نفسية تحليلية وإنما في رحاب غابة الشِّعر الساحر المسحور لنحاول معاً أن نتقرّى الدربَ المُفضي إلى ينابيع الإبداع والدّهَش والجمال .

في مطلع ما أسماه البرادعي " الكشف الثالث " _ (ص 30) نراه يلمِحُ ، بخلاف مواقع أخرى من المجموعةِ ، إلى هذا الجانب الروحاني من خلال غنائية عذبة فيقول :

" أَستغفِر الطُّهرَ
إنْ ناديتكِ : أْتَزري
بسابغٍ من صبوح المجد مُنهَمرِ
ولا أقول : صباحاً عِمْتِ . بلْ أبداً
على الدهور عِمي ، في الصَّحو والسَّكَرِ ( ص 30 )

ويتابع في نفس القصيدة قائلاً :

... فدوحةُ العشق مِن قُدسيَّكِ العَطِرِ
وأفقُ عينيكِ نهَّادٌ إلى الكبَرِ
فغالبي كبرياءَ الحسن آونةً
وخاطبينا بإيماءٍ من الحَوَرِ ( ص 31 )

هذه المُناخات الروحانية تتسامى في مواقع أخرى عن الحسّيّ القريب، حيث يقول مثلاً :

محيَّرةٌ رِحلتي في الدّوائرِ يا فاطمةْ
فلا تبعُدي عن حوافر مُهري
لكي لا يخوض بيَ الجاهليهْ ... ( ص 26 )

أقول يتسامى ويشف حتى يخلق مناخاً صوفياً عذب اللغة ، عمق الدلالة :

فُطيمةُ يملؤني الصَّحوُ حتى التَّمزقِ قهراً
وأمشي على شَفرةِ الَّضّوْءِ منذ استقالتْ
جسورُ الحِوار ( ص27 )
خُطىً ... وبعضُ الخُطى
وتسيرُ المناماتُ مثقلةً بالجَنى
فقلتُ : سنعبُرها يا فِطام وأنتِ معي
إلى العَدْوة السَّرمديَّهْ ( ص21 )

يقول الشيخ الأكبر " محيي الدين ، أبي عبد الله العربي الحاتمي( المتوفى سنة 638 هـ.) في رسالته الموسومة بـ ( كتاب الجلالة ) (*) :
( ثُمَّ إنَّ المعرفة بالله ابتداءَ علمٍ وغايتها عين ، وعين اليقين أشرف من علم اليقين والعلم للعقل والعين للبصر فالحسّ أشرف من العقل فإن العقل إليه يسعى ومن أجل العين ينظر فصار عالم الشهادة غيب الغيب ولهذا ظهر في الدنيا من أجل الدائرة فإنه ينعطف آخرها على أولها فصار عالم الشهادة أولاً وهو مقيد عما يجب له من الإطلاق فلا يبصر البصر إلاَّ في جهةٍ ولا تسمع الأذن إلاّ في قرب ) أهـ . ص4
ويقول أيضاً : ( ... فإن الاستقراء الإلهي في نقطة الدائرة وهو قوله تعالى : " ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " ولاستواء الرحماني محيط للدائرة وهو قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) فالعرش في الاستواء الرحماني بمنزلة الحق في الاستواء الإنساني ) أ هـ . ص12
يستوقفني في الشواهد السابقة ويثير مشاعري قوله ( رِحلتي في الدوائر ) و ( العَدْوةُ السَّرمدية ) . هذه المصطلحات ، عميقة الدلالة ، أكبر من أن تفَسّرَ هنا ، بكلمات سريعة ، ولكن لا بأس من نظرة سريعة إليها ، فيها ، وعليها .
في مجموعتي الشعرية الموسومة بـ : يا أبانا / يا أبانا ( مكاشفات العارف ) _ دار الذاكرة ط1 عام 1996 _ كنت قد قسمت المجموعةَ إلى ثلاثة كشوف : وهْمُ المُريد / شكُّ العارف / عدَميّة الرَّائي . في هذه المجموعة حاورت مثل هذه المفاهيم في نصوصي القصيرة ( الومَضات ) ولم أخرج بعد من الحوار ، برغم مرور الأعوام ، ولهذا لا أعجب أن يحار البرادعي في رحلته في الدوائر ماشياً على شفرة الضوء بخطى مُثقلة ليعبر ( مع رمزه المحبب إلى روحه وربما إلى جسده أيضاً ) العـَدْوة السّرمدية .
لا أعتقد أن هذا التّأمّل الفلسفيّ - الصّوفيّ يضير النص وهو لا يرفع من شأن نص يتكئُ على مثل هذه الرموز فقط ،من دون أن يكون أهلاً للعبور إلى العَدْوةِ الصُّغرى وربما الكبرى أيضاً :
( فطريق الكشف والشهود لا تحتمل المجادلة والرَّد على قائله ... ) كتاب الفناء _ ابن العربي _ ص8 ويقول : ( تأبى الحقائق أن تقبل المماثلة في صفة المعاني ... ) ص 6
أما ما يتعلق ( بالعَدْوة ) أعلاه فنكتفي بعبارة بسيطة حول هذا المصطلح الصوفي تقول : ( المسافر : هو الذي سافر بفكره في المعقولات وهو الاعتبار فعبرَ من العَدْوة الدّنيا إلى ( العَدْوة القصوى ) ص2 من اصطلاح الصوفية .
أعتقد أن هذه الملامسة السريعة لبعض المصطلحات الواردة في النص وفي أكثر من موقع تكفي لأننا لسنا بصدد تحليل دقيق لنص صوفي أو شعري يقارب الصوفية عامداً متعمداً, إنما نحن بصدد قراءة مجموعة شعرية تستلهم التراث العربي – غزلَها في نسيج شعري متقن يصل هنا أو هناك إلى حدِّ الدّهَش والإدهاش ، شاعرٌ خَبرَ الكلامَ ومتاهات المعاني من خلال رحلة إبداع طويلة ، لا تزال مستمرّة فوق رمال المعرفة المُتحرّكة أو بين سَديم المَجرّة ... سِيّانْ .

استلهام التّراثِ حَجرُ الزّاوية :
يشكل التعامل مع التراث حجر الزاوية بل " المِدْماك " الأساس في البناء الدرامي الشعري عند البرادعي ، ليس في " فاطمة " فحسب وإنما في العديد من أعماله الشعرية ، والشعرية المسرحية على وجه الخصوص .
ديوان البرادعي " الصعود إلى عرش فاطمة " ، الذي سيرد ذكره ، اختصاراً ، تحت اسم ( فاطمة ) هو _ حسب ما أرى _ أحد أجمل نصوص البرادعي الشعرية و هو يشكل ، في مجمله، قصيدة واحدة طويلة ، ملحمة شعرية تحاور موروث الأمة العظيم ، جانبه المشرق ، ونصف المشرق ، وحتى غير المشرق تماماً ، من خلال إسقاطاته على الواقع المعاش و من خلال العبور إليه عبر جسر (الحُبّ ) بمفهومه المعروف ، والواسع ، والمُرمََّّز أيضاً ، وهو عبور في الغابة المسحورة ،وفي صلاة خاشعة تقول :
أسلمتها روحي و فُضلةَ راحي
و كسرتُ عند دنانها أقداحي
وبدأت منها رحلتي نحو الذُّرا ... ( ص 9 )

الشاعر ، عندما أصبح في الحَضرة ، لمْ يعد بحاجة إلى النشوة الخارجية وإلى الأمور العادية ليكسر أقداحه ولا ليسأل الدنان المَزيد ، فاللحظة الآن تبدو وكأنها لحظة الاستعداد للتطهّر والنقاء ، قبل الانطلاق إلى الهدف الأسمى ، إلى العبور نحو الذُّرا حيث الكشف والبُروق اللامعة ولحظة التجربة الحاسمة .
إنه يتوضّؤ ، الآن ، بالصّحو ، يرثي الصباحَ ، و : ... يدخل في الظّلمات وحيداً :
و شاهدت طيرَ قريش يرش النجومَ
على الليل ... ( ص 13 )

وهو يمتطي ( صَهوة الضوْء ) ليعبر بقافلته ( نحو التُّخوم القَصيّة ) و ( حمولتُها الشِّعرُ والطّيبُ و الأغنياتْ ) ... هنا تستيقظ الذاكرةُ ويأخذ الحدَث الدرامي في التصاعد ، حيث يروي لنا الشاعر ، بتُؤدةٍ ووقارٍ ، المُجرَيات :

... و أدركتُ مروانَ يركض في نبض ذكرياتي
و يبارك سير قافلتي
و تحت مسامات جلدي يقيم الصلاة .( ص 15 )

فالشّاعرُ يوقِظ إذن مروانَ الذاكرة لتستعد إلى خوض تجربة الوصول ، ولو بعد عذاب وسفر طويل ، وهو يبارك الرحلة ويصلي لأجل حاديها ، وأما " فاطمة " فهي :

تستريح على كبدي ، لحظةً ، لحظةً
وتَعمُرُ في فُسحَة القلبِ مقصورةَ الأمنياتْ
ووديانَ عبقرَ .

نتساءلُ لماذا ؟ فنجدَ بأنها مَعنيّة بالقلب وبأحوال العشق والعاشقين :
ساهرةٌ حنيناً إلى العاشقين ( ص 15 )
ومن خلال رمزيّةِ الحروف القرآنيّةِ ، الخفيّة العَصِيّة على الفهم أو التأويل : [ ك / هـ / ي / ع / ص ] ، نراها تدفع الرياحَ :
محمّلةً بالشّذا العربيّ / تسوق الغيومَ ارتحالاً إلى البلد الميت ... / وتهطل حتى اخضرار الرؤى / وتنهَلُّ حتى يفكَّ المريدونَ عن جوهري عقدةَ أسراره . ( ص 17 )

حلُمٌ جميل أنْ ينهمرَ الغيثُ والبروقُ على الجوهر ، كاتم الأسرار ،والرِّحلة ما زالت على تخوم الكشوفات تسعى وهل يقدر الراحلون ، أصلاً ، على هذا العمل الجليل ؟ لا أظن ذلك ، فنحن نشهد _ على مسرح الأحداث المتنامي _ الشاعرَ يقترب من ( فاطمة )، يوقظها من المنام ، ويسألها :

فاطمةٌُ ... اسبحي في غناء البوادي
ورشي بِتربةِ عَبْقرَ بذرَ الخُزامى
وردّي القرنفل بالبْسمةِ الأُمويّة
وهزّي إليك بجذع القصيدةِ يَسَّاقطُ العشقُ
بين الأمير وفاطمةٍ ... ( ص 18 – 19 )

هنا يَسقط الرِّتاجُ عن بوابة عقدة الأسرار ، يَسقطُ القناعُ عن رغبةٍ " تمّوزيّة " تريد أن تلقِّحَ : الأرضَ ، الروحَ ، الوطنَ ، الواقعَ ... والعاقِرَ ، من أجل الخِصْبِ وعودة الحياة :

إنها لمحةُ الخِصبِ جاءت
لتنشر فوق الجزيرة أسرارَها
اُنظري .. فُتِحتْ كُوةٌ في السماء
لترسل كالغيث أطيارها
والطريق طويلٌ ... طويل .ْ( ص 19 )

وهنا نشاهد :
كيف تحِنُّ فصولُ النّماء
إلى شهوة الخِصبِ
و نشاهد أيضاً :
ما تبقى من ( موسِمِ الليل )
يتساقط الورق ( من تعب القحطِ
تحرقه الشُّعلةُ القَرَشِيهْ )
ونرى :
... البيوت التي شادها الفاتحون
تلقّح ستَّ جهاتٍ بخضرتها السُّندسيّةْ
... وتسيرُ المنامات مثقلةً بالجَنى (ص 20 – 21 )

ونرى الشاعر قد ( سافر بفكره في المَعقولات وهو الاعتبار فعبر إلى العُدْوَة ... )
ومن له - في حالة العبور هذه - رفيقاً أو معيناً غير الحبيب :
فقلتُ : سنعبرها يا فِطامُ وأنت معي
إلى العَدْوةِ السّرمديّةْ
وإن حمولة أهلي إلى الحِقبةِ القادمةَ
هيَ الخُضرةُ الدائمةْ
و كانت أصابع أمي
تحوكُ جناحين للأبجديّةْ (ص 21 – 22 )

هنا يختم الشاعر كشفَه الأول ، و يسقط الستار عن المشهد الفاتح ، عن المقدمة الفاتحة المسماة ( أوفيرتوره ) الممهّدة للعمل السيمفوني القادم إلينا بزخم إيقاعي و بصري – سمعي يعلو تارة حتى الصّخب ثم يهدأ و يشف في حوارياته مع الذات أو الحبيب أو الكون الوَسيع .

في الكشف الثاني :
تتسارع وتيرة الأحداث وضربات القلب وحَيْرةُ العقل ... الخَديعةُ محكمةٌ والحقيقةُ قاسية :
فلا طيور قريش أَنبأتْ الشاعرَ وحذَّرتهُ ، ولا صحفُ الغيبِ أعلمتهُ شيئاً عن المأساةِ القادمةِ :
... سأُطرَحُ في الجُبِّ حتى يمرّ بي الغُرباءْ
فآكلُ في العتمِ كِسرةَ خُبزٍ وأشربُ صمتي (ص 22 )
ويعجبُ الشاعر كيف يهبطُ الدَّربُ ( فينا ) : به وبحبيبتهِ وبحلمهِ أيضاً ، بعد أنْ بشَّرهم قائلاً : وإن حمولة أهلي إلىالحِقبةُ القادمةُ هي الخُضرة الدائمة : (ص 21 )
ولكن – واحسرتاه – الواقع العربيّ المعاصر المَهزوم يدفعه ليتساءل صارخاً :
وغاصتْ قوائم مُهري برملٍ ثنيّةْ
وكيف يبدّل أبناءُ عمّي قِبلتهم في الصلاةْ
ويزوّر شيخ القبيلةِ قرآنَها ... ( ص 22 – 23 )
الشاعر البرادعي ، خبير بالبناء الدرامي المشَخَّص مسرحياً ، يرفع ستار المشهد الثاني (الكشف الثاني ) فجأة عن حدَث مريع : إنها الخديعةُ و ظلم ذوي القربى ، و أبناء العم و شيخ القبيلة تسود المشهد ، مشهد الواقع المعاش ، بعد أن كان الحلم يحدو القافلة بالسير نحو (الخضرة الدائمة ) ، و إذا به يسقط في بلْقعٍ مرير ،ٍ فيكاد يتوسّل كالحُطَيئة الذي قال من سجنه :
( ماذا تقول لأفْراخٍ بذي مَرخٍ
زُغْب الحَواصلِ لا ماء و لا شجرُ ؟! )
وماذا ينفعُ ، بعد هذا ، الحديثُ عن : فرخ الحُبارى / عن القرنفل / والبنفسج ... و قد ابتدأت الرحلة بالصعود أو من أجل الصعود ، وها هي الآن تقوده إلى السقوط في الرمال ؟
يقول الشاعر الصوفي الكبير حافظ الشيرازي :
حبّى نسيمُ الرّبيع
قادني إلى الصحراء ...
فإلى أين أنت ذاهب أيُّها الشاعر المسكون بالحلُم ، المكبّل بتراث أمّة عريقة ، لا تدرك اليوم أن إرثها العظيم كان ( مهد الحضارات ) ومنطلق الرحلة نحو تقدم الإنسانية على طريق الفكر والإبداع والعلم والعيش النّبيل والكرامة المُفرِطة ؟ وماذا أنت فاعل الآن أمام المشهد الحزين المألوف للذاكرة الجَمعية والفردية فينا اليوم ؟ فيجيبنا منكسراً حزيناً:
... وتعود المصاحِف ثانية لتغطى الّرّماح
تحسّستُ في جسدي ألف جرحٍ من الغرباءِ
وجرحينِ من داخل القافلةْ
فَخِنجَرُ من غَمسوهُ بظهري
وغابوا احتجاجاً على الطّعنة القاتلة ؟ ( ص 24-25 )
يتلفّّت الشاعرُ ، في دهَشٍ ، ليشتمَّ ( غير رائحة الغَدرِ – رائحة العائلة ) و يشهد المأساة – المَهزلة تسيل كالجرح أمامَه :

فجرحٌ يَنزُّ على دفتر الأهل يطّمسُ بصمَتَهُ
لتضيع خطوطُ الهُويّةْ (ص 23 – 24 )
الموضوع – إذن – أكبر من الغنائم التي يُمنّي شيخُ القبيلة نفسَه بها :

لتظلَّ الغنائمُ دفّاقةً من جميع الجهات ْ ( ص 23 )
وأكبر من مجرد فقدان حمولة القافلة أيّة قيمة كانت لحُمولتها :

أكانت نِياقُ القَبيل محمَّلةً بالغُبارِ إذا ؟
... وتحت عمامةِ كلِّ إمامٍ
مُسَيْلمةً يدّعي أنه قرَشِيُّ النّسب ( ص 29 )
المأزق حاصل ، والشَّرَكُ تمّ إعداده بمهارة خسيسة و بتعاون من أهل البيت الواحد :

... و كلُّ خناجر أبناء عمي مُعرِّشةً في طريقي
والرُّجوعُ إلى الخلف هاويةٌُ و الأمامُ عَماءْ ( ص 28 )

الجوهر في هذا المشهد الثاني ، وبعد انطلاق رحلة الحُلم في المشهد الأول نحو الذرا ونحو الاخضرار في " تموزيّة " متفائلة ، هو انقطاعُ ( جسور الحوار / وفراغ بَوْصَلة القلب / و فوضى الحُداة / إن الجميع حُداة ... ) كل هذا من أجل شيء واحد ووحيد يفضي بالقافلة و بالقوم إلى التَّهلكُة والضَّياع...إنه مَحوُ الهُوية ، كما نعرفه من تاريخ الأمم والشعوب .
هنا ينسدل الستار عن المشهد الثاني،عن الكشف المحزن الأليم لندخل فضاء مشهد ،نأمل أن يكون أقلّ وَطأةٍ وقَتامةٍ من المشهد الساّبق .
الكشف الثالث:

كما أشرنا سابقاً ، فإن الشاعر، د. خالد محيي الدين البرادعي ، شاعرٌ مسرحي أيضاً ، متمرسٌ في تقنيات بناء المشهد المسرحي الشعري ، وبخاصة تقنيات وآليّات بناء اللحظة الدرامية في مجريات الأحداث التي تتأرجح بين العادي واللاعادي ، بين العابر والثابت ، بين اللهو والجد.
كنت قد أصدرتُ للأديبة المغربية الشابة ( فطيمة وهّابي ) في عام 1992 – عن دار الذاكرة – حمص / سورية – كتاباً نقدياً وهو مشروع لنيل درجة أكاديمية من إحدى جامعات المغرب الشقيق – وذلك ضمن سِلسلة الدراسات الأدبية والّّلغوية يحمل الرقم 6 - وعنوانه : صورة المرأة في المسرح العربي " تطرقتْ فيه ، من خلال دراسة أكاديمية جادّة ، إلى العديد من الجوانب المميِّزة لتجربة البرادعي في المسرح الشعري ، ولهذا فإن التطرّق إلى هذا الجانب ، لن يكون ضمن دراستي لديوان ( الصعود …) ، ولكنني أردت أن أفتتح قراءتي للكشف الثالث ، بالإشارة إلى هذه اللحظة الدرامية في هذا المشهد الكاشف ، لأنك تقرأه بل وتستمع إلى الشاعر ، وتكاد تراه واقفاً على خشبة المسرح ، بوجهه الحزين وبشعر رأسه الكثيف الأبيض مُطرقاً ، على غرار أبطال " شكسبير " في " الملك لير " أو " هاملت " يصرخ فجأة مستغفراً الطهر – محيياً صاحبة القلب والعقل على مر الدهور ، و(في الصحو والسَّكر ) يسائلها المخاطبة ولو (بإيحاءٍ من الحَوَر ) ، طالباً منها الرضى ، وربما الغفران ... متسائلاً عن الصمت يلفّها ، وكيف يصحّ هذا ، وهو الذي غنّى لها ومن أجلها مجداً أو شوقاً ، ونقَشها حروفاً وكلمات مشتعلة بالوجد المتسامي ، أو صور تفصح عن رغبات أخرى ، تعود به إلى حضارة الطين والأم الأولى ، إلى زمن ( أوروك ) وعِشـتار المقدسة – " إنّـانـا " : ربة الحب والحرب – إلى عشترْوت البابلية ذات الوجوه المتعددة ومع ذلك ، وبرغم كل هذا فهي سادِرة عنه وعن أناشيده ، فيصرخ متألماً – مرة أخرى وأخرى – قائلاً لها :

أَتسمَعينَ غنائي إنّني شبحٌ
يزور عرشَكِ
في أمْدائكِ الخُضُر (ص 32 )
.........
وذبتُ في العشق حتّى بتُّ مُنجَرداً
كشفرةِ السيف أو عُسْلوجةِ القمرِ
رُدّي على منشدِ السَّارين والنّذُرِ ... ( ص 33)

كل هذا من أجل أن تأتي له بما يريد أن يرى ويسمع : بأن تزف إليه البُشرى ( بأن يومَ غدٍ مُخضَوضِرُ الصَّوّرِ ) وإن الخلاف حلَّ بين أهل العشق فأصابهم الجفاء واليباس :

من قال إنَّ جيادَ العاشقين كبَتْ
وأنَّ فرسانها ملُّوا من السّفَرِ ؟ (ص34)

الشاعر يأبى أن يصدق ذلك ، وهو يرافِعُ من أجل أن تتماسك مواقف العشّاق والباحثين عن الغد الأفضل ، ولا تنهار أو تستسلم ، برغم كل الإرهاصات ، وبخاصة تلك التي تضرب روحكَ من الدخل :

فإنَّ كلَّ سيوفِ الغَزْوِ منِ قُبُلٍ / نِصالُها
وسيوفُ الأهلِ من دُبُرِ
ومن أجلِ الحدَثِ الجلل ، المبشِّرِ بالخلاص يقول:
فيولدَ العاشق الفادي مع السَّحَر . (ص36)

البرادعي يبشِّر إذنْ في خاتمة كشوفاتهِ الثلاثة بقيامة ( المخلّص ) ، بعودة ( تموز ) من العالم السفلي ليعمَّ الخيرُ والربيعُ الأرضَ والنفوسَ معاً ، وهو ما بشَّر به العديدُ من الشعراء المعاصرين من أمثال المرحوم الشاعر الناقد ( جبرا إبراهيم جبرا ) في ( تموز في المدينة ) ، وكذالك د.حبيب ثابت في ( عشتروت وأدونيس : ملحمة شعرية _ دار مجلة الآداب 1948 _ ولدى الكثيرين من شعراء الحداثة المُعاصِرة – وأنا أقول بوجود حداثة شعرية مُختَرِقة الزمان والمكان ، منذ (سومر ) وحتى الآن من خلال النص الخالد ، وذلك منذ مطلع الثّمانينيات في مخطوط طويل عن الموضوع لم أنشره بعد لشعوري بعدم اكتماله ، يحاول أن يَرصد هذه الظاهرة ،ظاهرة النّص الشعريّ الخالد وحداثته الدّائمة ، مدعَّماً بشواهد نصوص أدبية وصلتنا عن طريق البحث الأثري من وطننا العربيّ الكبير ، منذ سومر وحتى (هوميروس ) وإغريق القرن الثامن ق.م. - وهذاما ورد أيضاً في العديد من مجموعاتي الشعرية ( معلقة كلكامش على أبواب أوروك ) _( تجليات عشتار )... إلخ وغير ذلك الكثير.
نعود الآن ، بعد هذا الاستطراد ، إلى مشهد البرادعي أعلاه لنتابع ونقول بأن الخاتمة كانت موفقة إيقاعاً وصوراً وبناءاً لغوياً ، لولا ورود بعض الكلمات الجافة أو الجافية _ إن صحَّ التعبير _ في مواقع ، هي غاية في العذوبة والرقة ، لا تتحمل _ حسب رأيي _ مثل هذه الألفاظ القاسية ، وعلى سبيل المثال نقدم شاهداً قولَه :

وذبتُ في العشقِ حتى بِتُّ منجرِّداً
كشفرةِ السيفِ أو عُسْلوجَهِ القمَر .

هذه العُسلوجة ، لا تصلح لهذا المقام، والشاعر البرادعي قادر ، بالتأكيد ، على وضع ما هو أخفْ وأشفْ ، غير أن مثل هذه الأمور تحصل إبَّان الدُّفقة الإبداعية ، فلا نراها تماما ولا نرى مدى نفورها ، ومثل هذا نجده لِماماً في بعض مواضع أخرى ، وهو قليل على كل حال،
كما أنه لا تخفى أو تفوت بصيرة القارئ المرهف ولا بصره ، بعض المواقع التي سَها الشاعرُ فيها عن ضبط التشكيل الصّحيح مثل:القُرنفُل ( وهي بالفتح طبعاً ) ، الهَوية ( بالضّم ) ، الخَصبُ ( وهي بالكسرة ) ، وغيرها القليل .

نمنمات على عرش فاطمة :
يسدل الشاعر البرادعي الستار عن العرض الدرامي ، الذي شاهدناه في الكشوفات ، والمتحور حول موضوعاتٍ ( جادة ) ثقيلة تتعلق بمصير الأمة وتاريخها وبأحوال العشق السامي ( !! ) وحالات العشاق الروحانيين ، لينتقل بنا في القـسم التالي الذي علوَنه بعلوان :
( نمنمات على عرش فاطمة ) ، والممتد على ما يقارب الثلاثين صفحة من قطع المجموعة ، إلى موضوعاتٍ ، تتمحور أكثر حول العشق الأرضي ، من خلال نموذجٍ كتابيٍ مكثّفٍ وقصيرٍ ، أطلقتُ عليه منذ أكثر من ربع قرنٍ اسم (الومضة ) ، وهو ضربٌ من الكتابة ، لا يُعنى بقصر المادة أو بطولها ، ولا برهافة كلماتها أوعدد سطورها فحسب _ كما أزعم _ بل وعلى وجه الخصوص بالقفلة الوامضة التي قد ترتفع بالومضة إلى فضاءاتٍ واسعة ومستمرة التأثير أو قد تكون مقتلاً للنص من خلال شرَك القفلة غير المُحكمة , وقد نجح البرادعي ، في بعض ما قدمه لنا هنا من نماذج جميلة ، على خلق مثل هذه الحالة الوامضة ، وعلى سبيل المثال أختار المقطع الأخير من نصه (منام ) حيث يقول :

قَدْ يلمَسُها البرْدُ فيؤذيها
أَبغيرِ جناحـيكَ أغطّيها ؟
ونَسيتُ
إذا عادَ جناحا قلبي
أمْ ظَلاّ . فوقَ فَطيمةَ حتى الآن (؟!) ( ص 49 )

حبذا لو كانت النقطةُ بعد ( ظَلاّ ) فاصلةً أو مساحة فارغة وجاء الشطر بعدها مستقلاً على سطر خاص ، وبآخره شارة استفهام وتعجب ، كما وضعنا ضمن قوسين ، وحبذا لو دقق الشاعرُ وتمهّل أكثر في عملية توزيع الكلمات والتّفعيلات على السّطور ،في بعض المواقع ،حتى يأخذ الإيقاع مداه النَغميّ ولحنه المحبب . يقول الألمانُ ما معناه: (النَغَمُ يخلق الموسيقى)
وهذا النّغم موجود في معظم قصائد المجموعة ، تؤطّره غنائيّةٌ عذبةٌ رائقة الإيقاع ويستحق من الشاعر المزيد من الجهد في توزيع ( نوطاته )على السّطور والصّفحات من أجل الجمال .
البرادعي يتحول الآن إلى فنان ماهر ، إلى حِرَفيّ يريد أن يُنمِنمَ على العرش ، أن يُرقّشُه ويُزخرفه ، معترفاً في ( الومضة ) الفاتحة (حُداء ) بأنه ليس إلاّ ( حادياً / زرع الصحارى بالنجوم / وهيّج الأحلامَ قافلةً ... ص 39 ) وفي ( وسام ) نراه يتسلل ( إلى عرشها في المنام ) ليرى في الصباح على صفحة القلب جرحاً ؟ وبما أنّ فاطمة قد طرزته –أي الجرح _ فهو وسام – كما يراه – .
يا لها من قفلة متواضعة لم تستطع أن تحمل إلينا أكثر من قطعة معدنٍ على الصدر ، لا الشاعرُ بحاجة إليه ولا القارئ أيضاً ، وهو قادر على قفلة أعمق ، لو لم يكن تحت تأثير مد عاطفي حسيٍّ ، باح به في نص ( الطائر ) جهراً وباح حتى بالمكان ، حيث نجد ( وجدةَ ) ونجد أرض ( الشام ) ، التي فيها يعيش و يكتب ، فلا يأتي إليه طائرُ ( وَجْدة ) المُرفرفُ ( في عرش مَملكةٍ اسمها : فاطمة ) ولا يأتي طائرُ العرش إليه ليزرع ( زيزفونة عشق / بأرض الشآم ) ( ص 41 )
في نص ( العرش ) يلعب الشاعر ، باللغة ، لعبة الموروث التراثي وحتى الديني بإتقان فني يحمل من ألَقِ التقنية أكثر مما يحمل من ألق المشاعر الحقيقية المنفلتةِ السابحة كالهيولى ، دون ضجيج ، لتختَرق مشاعرنا وتترك في نفوسنا أثراً أكثر عمقاً ، ولأنه لا يستوي أن يتعامل هنا بمعول اللغة وأدوات التقنية _ التي يُمسك بإحكامٍ بناصيتها –كما يقال - فقط ، ولكن يلزم مشرِط النور المصفى ، اللائق بالحَدَث الاحتفالي الكبير الذي يُرينا امرأة النور تتجسّد على عرش النور :
جاذَبني ضَوْءً ، الضّوْءُ توقّد في مِصباحٍ ،
المباحُ تأنّقَ في مِشكاةٍ
المشكاةُ بأعلى بَوّابَةِ مكّةَ ، في مكّة
تحتَ المِشكاةِ العَرشُ ، العرشُ امرأةٌ من نورٍ
النّور يسمّى : فاطمةً
فاطمةٌ يَحرسها مَلكان ... إلخ .
.......
ويختم قائلاً :
من شاهدَ رجلاً في رَجُلينِ ، وهل
يعرفني أحدٌ
وأنا في ألَقِ الكشف النورانيّ اثنانْ ؟ ( ص 44 )
قفلة جميلة تدفع إلى تداعيات فكريّة ووجدانيّةٍ شتّى .

شهوة الطينُ :
هل يصِحّ ويتوافقُ هذا معَ ما جاء في ( الملكة ) حيث يقول :

... فحَذارِ حَذارْ
من إيقاظ الشهوةِ في قيثار الملكةْ ( ص 45 )

أو ما ورد في نص ( منام ) حيث يتساءل مندهشاً :

كيف اعتنَقَ الطُّهرُ غِوىً
والجْنّةُ تورق في البُركان ؟ ( ص 47)

النصوص القصيرة للنمنمات أو( المنمنمات ) تفصح ، رويداً رويداً ، عن رغبات حسية تريد أن تتجسّد ، لا حلماً وخيالاً ولا نوراً فحسب ، وإنما حسّاً بشرياً ، في كينونة عابرة ، وواقع يدفع إلى البوح من خلال القلم أو الكلمة الشعرية ليُفصح عن إرهاصات العواطف المتأججة في النفس وفي الجسد أيضاً،لنستمع إليه يقول في ( القصيدة ) :

... فارسُمني يا قلَمُ إذنْ
وتلمَّسْني جزءاً جزءاً
حتى الأمكنةِ المخُتَنِقةْ (...) ( ص 55)
ولأن الحبيبة :
( هي النّسمة ) وكذلك الغيمة والرعدُ ومَدّ الصحراءِ ، وسِعةُ الوِديان ، و:

وهي الخُضرةُ
وهي الخَصب ( الصحيح بالكسرة ) ووجه الأُفقِ .... ( ص 54 )

.... حتى يروي شَبَقه ( ص 53 )

وهذا بعد أن يكون قد أطلق صرخته في ( كشف ) ، على لسان ( الغاليةْ ) – وهي في أعلى مراقي عرشها

في أي درب نلتقي ؟
والطرقات كلُّها مُغلقَةٌ
والحب ممنوع . ( ص 50 )

وبعد أن تربَّعتْ ( فاطمة ) فوق الورقة :
تُمسكُ عنقَ القلمِ وتسألُهُ :
من يرسم صورةَ جسدي ، ويترِجمُ أعماقي المُحتَرمةْ ؟
من صَوّرني قامةَ أنثى
عاشقةً أو مَعشوقةْ ؟
يتشهّاها الشعرُ
ويقطِفُ منها ألَقهْ ؟ ( ص 52)

اللغة هنا ، كشفت الأقنعة ، وأفصحت ، دون مواربة ، عن مراميها ، هي تريد أن ( يتشهاها الشعر ) أي ثمة شهوة هناك والشعر لا يكون بدون شاعر أي كائن ذكوريٍّ ، هنا ، له جسد يريد أن ( يروي شبعه ) ، ولهذا فهو لن يصغي إلى نصيحة ابن العم ، في نص ( الجار ) الذي يذكّره بأسفاره العديدة ،وبالغربة وبما فعله فيه وعليه الزمان :

يا أنتَ ، بَعدَ أن تغّضنَ الجبينْ
وحفرَ الدّهرُ بوجْنتيكَ عددَ السنين
ونسَج الزّمانُ فوق رأسكَ المُتعَبِ
إكليلينِ من ثلجٍ ، ومن غبارْ
تعشق من ؟ فاطمةً ؟؟ ( ص59)

ولكنّه يأبى من حبّها تنصُّلاً ولا فَكاكاً :
فَفُوَيْطمُ رقصةُ الفراشة السّكرى ... وهي :
رجفةُ السيف اليَماني / وومضة المَسبوكِ
و( فطَامُ زِقّ خَمرٍ عشقتها مُضَرٌ ) ( ص 61)
فاطمةُ اندياحُ بسمةٍ
في الأفق المحروم من لطافة الأنثى
وغنجُ أقحوانةٍ / بتاجِ أُرجُوانْ ( ص 60 )

كثيرة هي الألفاظ المشابهةُ ، هنا ، المكرورة ، والمعروفة لنا جيداً من خلال إبداع قديم وحديث يتحدث عن ( العشق ) – غالباً – بكلمات حسية مادية تريد أن تجسد شيئاً ، وقد تفلح ، غير أنها تُخفق في أن توصل إلينا مفهوم ( العشق ) المتسامي ، ولو كان جسدياً ، وهذه نقطةٌ نأخذها على صديقنا الشاعر الذي تألق في معظم ما ورد في ( الكشـوفات ) وفي بعض ( المنمنمات ) أيضاً .
يختم الشاعر حواريّته مع ( الجار ) – ابن العم – الذي يحذره للمرة الأخيرةِ :

قالَ : فحبُّكُ الجنونُ أو بدايةُ الدرب للانتحارْ ، ولكن الشاعر يجيب بحكمة سطحية عَرفنا طويلاً :

فقلتُ : هذا العشقُ قدرٌ
وليس لي من قدري فِرارْ ( ص 63 ) .

ويختم الشاعر هذا الفصل من نمنماته ، بالحديث عن حلُم اللقاء معها ، وكأنّه يَئِسَ من الانتظار ومن الأمل فيهِ أيضاً :

... الرّيحُ تَطوِيهِ والأشواقُ تَفْرُدُهُ
وعرشُ فاطمةٍ في الحلم مأواه
كلُّ الدروبِ إليها وهي غائبةٌ
فلا تُتَرجمُ إلاّ الغَيبَ رؤياه
....
فهلْ تَراه بعين الحبّ فاطمةٌ
قَبْل الرَّحيلِ إلى أعماق مَثْواهُ ؟ ( ص 65 )

الشاعر الدكتور خالد محيي الدين البرادعي ، يقودنا الآن إلى خشبة مسرحه الشعري ، حيث يقدم لنا ( فاطمة في ثلاث صور ) لماذا ؟
لأنه يريد أن يقودنا ، معهما ، لـ ( نتسكَّعَ في أرْوِقة التاريخ ) ولكننا لا نرى إلاَّ فاطمة أمامنا فهي :

" ... ومفاجأةٌ ظهرت فاطمةٌ
تطفَحُ بالفرحِ ... "
ثمَّ : ( جلستْ فاطمةٌ في المشكاةِ ... ) (ص71)

... وتوزعُ ضوْءاً عْذرياً ...
فتشكلت غمامة خِصبٍ ...
نادت ...
فأعادتْ تشكيلي ثانيةً ( ص72 )
الخِصبُ يظهرُ لنا من جديدٍ ... ولكن أين ( التسكُّعَ في أرْوقةِ التاريخ ) ؟
وهل يكفي طرحُ العشقِ بديلاً له :
( ... فأنا الرَّاهبُ
وأنا العاشقُ
وأنا الساري في ليلٍ منسيٍّ مغلقٍ ... إلخ ) .

وبرغمِ ذلك أين التاريـخ يا ( أبو محيي الدين ) ؟ ولو من خلالِ طرحٍ فلسفيٍّ ، كما نجدهُ عند
( شـكسبير ) في شخصية ( أوفيليا ) أو عند المفكر الشـاعر الفيلسوف العالمي ( يـوهـان وولفـغانغ فون غوتِه ) ، بالتَّاء المخفّفة ، في " فاوست " الذي درَسَ الفلسفة والطب والقانون لكنه لم يصبح أكثر حكمة من ذي قبل ، وإن أصبح أكثر براعةٍ فباع روحه للشيطان ...
حتى أوسـْفاكد شبِنْغلَرْ ، المفكر المتوفى عام 1936_ في عمله الهام (تدهور الغرب) _ طبعَ بعد صعوباتٍ جمة عام 1918 _ كان قد قسَّمَ التاريخ إلى حضاراتٍ وليس إلى مراحل ، ووردَ عنده الحديث عن حضارة أبوللو ، حضارة السحر ، حضارة فاوست .
وهو يعترفُ أنه مدين بكل فلسفته في ( تدهور الغرب ) إلى العظيم ( غوته ) وكان ذلك في مدينةِ هامبورغ _ شمالي ألمانيا _ حيث أمضيت ست سنواتٍ في الدراسة هناك ، وأعرف الأجواء المُناخية والفكرية التي عمل تحتها هذا المفكر الكبير الذي قام بثورةٍ ضد " الفلسفةِ التجريدية " والمادية أيضاً _ كما فعل " نيتشه " تقريباً _ للتأكيد على أهمية الإرادةِ ، في عالم غربيٍّ " منهوكٌ ميتافيزيقيَّاً " بعد حرب كونيَّةٍ أولى مدمرةً وطاحنة للجسد وللفكر أيضاً تقود إلى تشاؤمٍ وإلى شكّ عميق .
هنا ، وفي حالة ( تَدهور الشّرق ) وانكسارات الأمة ، افتقدتُ عدم الاستفادة من فرصة التَّجوال أو التّسكّع في التاريخ لطرح موقف فكري يبحث في مأساة غياب أو ضَياع الحسّ التاريخيّ لدينا ومحاورة الموضوع ولو بعبثية ساخرة ،كما في بعض المواضع الأخرى .
لن أستطرد أكثر من ذلك في هذا الموقع وتعليقاً على ( التسكع في التاريخ ) _ كما ورد عند البرادعي _غير أنني أريد ببساطةٍ أن أقول أننا لا نعرف أو نتجنّب _ لسبب أو لآخر _ أن نلج إلى جوَّانياتِ مثل هذه الطروحات الفكرية الخطِرة والخطيرةِ لأننا ببساطة ( لا نموت كفاية ) كما قلت في إحدى قصائدي ،ونخشى أن نصعد مع الحلاج الصّليبَ لنصلي (رَكعتين لا يجوز الوضوء فيهما إلاّ بالدّم ) .

يتلو كل هذا عرض لـ ( فصول من سيرة فاطمة ) حيث :
كلّ الدروب إليها
ولا نلتقي
فإن الرَّحيلُ إليها فِراقْ ص80
هذا على الرغم من تجواُل الشاعر :
( بين برِّ الشام وبحر العراق ) ص81
ولكن لماذا ؟ لأنّ الكسارات تترى ، فلا يجد مَناصاً من العودة إليها :

وحاوَرَ عصرَ الفِتوحِ لتصحو فاطمُ من نومها ص83
وهلْ صَحَتْ حقاً ؟
لقد صحا الشاعر ، مأزوماً متوتراً ، منكسراً ، وهو العربي العروبي حتى النخاع ، فيرى أمامه المهزلة مستمرة :
( فشيخٌ يساوِمْ
وشيخٌ يسالمْ
... وشيخٌ يهرِّبُ تاريخَهُ في ثيابِ الأعاجمِ ... إلخ ص84
وعلى الرغم من أن ( فاطمة ) :
تحاور في الشام بصَمتها
وتزرع في القدسِ زَفرتها
وتسكبُ في النيلِ دمعَتها ... ص87
فلا هو ، ولا هيَ ، يروْنَ الجيادَ أو يسمعونَ صهيل خيول التحرير . إذن ، لا بدَّ للشاعر من أن يترحل في جهاتِ الوطنِ الكبيرِ :
( ترحَّلتُ بين الخليجِ وبينَ المحيطِ ) ص87
لكي يرتِّل سيرةَ أهلهِ ، ويحمي راياتِ قومه من السقوط ، لكنَّ أبناءَ عمِّه يتفرَّقونَ ويتشرذَمونَ ، فيتشاكلُ عليه الأمرُ ، فلم يَعُد يعرفُ :
( أيُّ المَواميلِ
يخترقُ العَتْمَ
صوت المحبينَ
أمْ تشابُكُ أوجاعي المُزمنهْ ؟! ( ص89 )
إنه يحلمُ بالمخلِّصِ ويتساءل :
( فمَن ينصبُ الضَّوءَ جسراً لهذا الهوى
ويقرأ فاتحةَ الإنعتاقْ ) (ص91 ).

ولكنه ينطوي في انكسارٍ ( في هامش آخر ) بنهايةِ القصيدةِ ليعلمنا عن حالةِ الروح:

فِطامُ يا حاديةَ المطايا
أعبرُ من عينيك للفرح
خِلسةً وهرباً
وعندما تُحَمْلقينَ فيَّ
( أوَّاهُ من هذه الحَمْلَقة )
غضباً أو عبثاً
أَلِبسُ جلدَ تعبي
وأَختفي في دفترِ الحكايا
بهيئةِ الشَّبحْ
أبحثُ عن قصيدةٍ
في آخرِ القدحْ . ( ص 96 )

لاشكَّ أن القَفلةَ موفقة شعرياً وبلاغياً ولغوياً وإيقاعياً و ... ولكن أين هو الكوني فيها، المتسائلُ عن النِّيهيليَّةِ - العبثيَّةِ وعن ( الدَّازايْن ) _ الكينونة _ حسب تعبير فيلسوفِ وناقدِ القرن العشرين ( مارتن هايدغر ) الذي درّسَ هناك ، حيث درَستُ ، في جامعة ( ماربورغ ) على نهرِ الَّلان الجميل ؟
تحت عنوان ( مدخل إلى الجرح ) ، الذي يتشكّل من ستة جراح ، يعرض لنا الشاعر صوراً من تشتت الأمة وضياعها في المهاترات والتّشَرذم ، ويحدثنا عن الشهيد وأمه المُزغردة ، وعن روضة العشق أيضا ، في بناءٍ دراميّ مسرحيّ أثقل جناحي القصيدة الشّفيفين ، دونما قصد طبعاً ، ولكنه فعل ذلك :

خالدٌ أو عليٌّ ، ليس مهمٌ هو الاسمُ
لحظةَ جُنَّتْ سيوفُ القبيلةِ
والتحَمَ الأهلُ بالأهلِ
والأهلُ بالقاتلين (ص101 )
وفاطمةُ تسألُ وتتساءلُ عن :
( الطَّعنةِ السَّابعةِ ) ( ص102 ) .

وعن هودج اللغةِ المبدعهْ . يتلو ذلك عرضٌ للجراحِ العديدةِ التي تحدِّثنا عن العاشقين ال ، عن (فاطمةُ ) التي ضيَّعتْ دربَ حياتها ، عن ( سيِّدةِ العاشقينَ التي يعانقها الصَّمتُ من ألفِ عام ) ، عن الهروب ِ من الجنون ، عن كيف ( توارى العذابُ القديمُ أمامَ منامٍ جميلْ ) – (ص 110 )
ويحدِّثنا _ في الجرحِ الخامس ِ _ عن :

( خالدٌ أو عليٌّ يرى الدَّمَ يركضُ نحو المآذنِ
والصَّمتُ يغشي القبائلَ ) ( ص 112 )
وفي الجرح السَّادسِ يحدِّثنا عن ارتقاءِ سادسِ الدَّرجاتِ وعن الذي :

( وتوَّجَ بالعشقِ أضلاعَهُ ) ( ص114 )
( وبالعشقِ تُستقبل ُالحِقبةُ الطَّالِعَهْ ) ( ص 115 ) .

وبأنها نامت على الموجِ ، أحلامُهُ ، وبأن سيفَ الخليفةِ يَسكبُ بين الحروفِ هَمسةً مُبهمة ليوصلنا إلى :

( مساحة غَدْرٍ جديدٍ
يَستقبلُ ( فيها ) الطَّعنةَ السَّابعه ...

آهٍ من الجراحِ كم هي مخاتلةٌ ومخادعةٌ . ليت ( البرادعي ) عَرَف عن المثل الألماني القائل ( مجداً لكل ما يزيدنا صلابةً ) وليته تعمَّق أكثر في شخصية ( السوبرمان ) لنيتشه ليعرف كم هي كاذبة النَّازية التي شغلت فكره المتألِّق والمريض لاحقاً لخلق شخصِه ( الجرماني ) المتفوق ، من خلاله ، ومن خلال أعماله التي لم تكن تطرح الأمر هكذا : ساذجاً _ عرقيّاً _ ورخيصاً ، إنما هو الإنسان الذي يرى في الصِّعاب تحدِّياتٍ تدفعهُ إلى العمل الخارق ، الذي نفتقده الآن ، والذي يرى ( أنَّ العظيم يجب أن يكون عظيماً في كل شيء _ سقوط الحضارة ( كولن ولسون ص137 ط1 1959 ( دار العلم للملايين / بيروت ترجمة أنيـس زكـي حسـن _ ، هذا ( السـوبرمان ) الذي دفـع ( بركهاردت ) _ صديق ( نيتشه ) في جامعة بازل - إلى الابتعادِ عنه لأنه _ ربما _ لم يفهم _ كما أرى _ أبعاد طرح ( نيتشه ) في هذا الموضوع ، تماماً كما فعل ( هتلر ) ذلك ، لا عنده ولا عند الفنان العظيم ( ريشارد فاغنر ) في ( حلقة النِّيبيلونغِن ) وفي شخصية ( زيغفريد ) المأساوية .
هكذا تتدهور الحضارات وتسقط ( لأنَّ النوابغ يتخلّون عنها ) والطَّبقات الحاكمة تُصابُ بحالة الـ ( هيبريس ) _ Hybris _ هذه الكلمة الإغريقية التي تعني ، فيما تعنيه : الزّهد الغرور / التَّكبر / والأنانية _ ، كما نراه اليوم لدى الولايات المتحدة الأمريكية و ( دولة ) الشر العنصرية ( إسرائيل ) _ ونظل هنا ضمن أبعاد النص السياسية وإسقاطاته المُعَاصرة.
الشاعر د. البرادعي لم يعط _ حسب ما أرى _ البعد الفكري لهذه الجراح ما يستحق من بحثٍ وحفرٍ ، واكتفى _ كما هو واقع الحال في شعرنا ، وحتى في القصيدة المعاصرة _ بالسباحة على الشاطئ الآمن المعهود ، وزخرفته بما ورثنا من قدرات تعبير جمالية _ لغوية قد ترتاح لها ، الأذن ، ولكنها لا تكفي لتقدّمَ للروحِ المشاكس والظَّامئ ، وأكاد أقول اللامنتمي إلاّ إلي الذّاكرة الإنسانية والجمال المطلق ولذّة المعرفة ، ما يكفي من عصارة الفكر ومن مدامةِ الرؤيا ، لاختراقِ أبعادٍ جديدةٍ في أسلوب التَّعبير والإيصالِ أو عدمِ الإيصالِ ولأن :
( الحضارة التي تقضي على لامنتميها _ حسب تعبير كولن ويلسون _ تتحطَّمُ ... ) ، وبدون مجدٍ أو جلالٍ _ كما أرى _ .
نحن مع الشاعر ، الآن ( في دروب فاطمة ) . هو يسلِّمها بَوْصلة القيادةِ ، ويريعه تشابك الشعاب :
مغترباً وحيداً ، وعاشقاً مطروداً
لا البلد الغائبُ يَحتويني
ولا إنسان مُضَرٍ يقيني
ولا مقامَ فاطمٍ يُؤويني ( ص 125 )
ولكن إلى أين ؟ :
إلى العَتمِ من جديد ، ليحدو العيـسَ ، وليسـافر في خرائب التاريـخ ، حيث نَسِيت فاطمـة ( طريقها القديم ) ثمَّ يكتشفَ :

( كأنَّ كوْنَ الحُسنَ وهمٌ شادَهُ الخيالُ والظُّنونْ )
ويكتشفَ أنَّ الذَّاكرةَ مثقوبةً ويتمنَّى :

( لو أنني ماردٌ في خاتمكِ القديمِ
يخرجُ من قُمقُمهِ
لكي أصوغَ الكونَ من جديدْ
طفلاً تُدلِّلينهُ ) ( ص 134 )
جميلٌ هذا النُّزوع لإعادةِ صياغةِ الكونِ من جديدٍ ولكن : لماذا الطفلُ ، ولماذا الدَّلالْ ؟، هذه الكلماتُ الموروثة لا يمكنُ لنا من خلالها أن نخلقَ أيَّ جديدٍ ، ( الدَّلال ) بدلاً من الاحتراقِ ومن
( العَوْدِ الأبديِّ ) ؟ .
ننتقلُ الآنَ إلى ( ثلاثِ مراحلَ للرؤيا ) فماذا نجدْ ؟
يكتبُ الشاعر اسم حبيبتهِ / رمزهِ / مثَلَهُ الأرضيَّ والروحيَّ ، على شاكلةِ حروفٍ مستقلَّةٍ تضعُ وتصوغُ اسم فاطمة ، مع ما يلزم من بيان عربي عريقٍ ، يتقنهُ الشاعر ، أيَّما إتقان ، ويصولُ ويجولُ فيهِ .
يتلاعبُ باللُّغةِ حيث تتعدَّد الشَّارات لاسمٍ واحدٍ هو ( فاطمة ) وحيث تصبحُ عندهُ :
فطمٌ ، وفُويطم ، وفاطـمُ ، وفطمة ، في تجلِّيات أو حسبَ قولهِ ( نكهاتٌ ) ، وهو يصلِّي بالعشاقِ إماماً ، غير أنَّ له ذاكرةً كالبلُّورِ تجعلهُ يعودُ رضيعاًً يرى الأحرفَ ( من اسم فاطمة ) في أبهى صورها وتجلِّياتها ، ويصِلَ ، من خلالِ (المرحلةِ الثانية) فيها ، إلى تمزيـق السِّـتارِ ، وجنيِ الـوردِ و ...والكثير من الأمنياتِ الذَّاتيـةِ ، ليفاجئنا في ( المرحلةِ الثالثةِ ) بأن : غابتْ فاطمة ، فسألَ عنها طيور العشقِ ، وكتب ( بلهيبِ أصابعه فوقَ الجدرانِ / هلْ ترجعُ فاطمةُ من رحلتها لتراني عَبْداً مفتوحَ الأجفانِ ؟(ص147)
لكنه للأسف لا يعلمنا ، ولا يومي إلينا ، عن سببِ وجهةِ رحلة فاطمة ولماذا ؟ غنائية عربية تقليدية ، مع مزخرفاتٍ تشكيليةٍ قد تنجحُ حيناً في دغدغةِ خيالنا وتخفقُ أحيانَ أخرى .
في مطلعِ عام 1993 يبعثُ الشاعر ( بطاقات إلى فاطمة ) _ عددها ثماني بطاقات _ ليعلمها عن :


( عامٌ تحطَّمَ كالبلُّورِ فاطمةٌ ؟ ) ( ص 151 )
( عامٌ تكسَّرَ كالبلُّورِ فاطمةٌ ؟ ) ( ص 154 )
يتساءلُ عن العالَمِ وما أكذبهُ ، وعن أن القصة ( قصة حبهما ) حدثتْ في الألف الثاني والتسعين ( وبضعِ مئاتِ سنينٍ من قبلِ الطّوفانِ ) ( ص 159 )
ليسألَ ( صُوَيحِبتهُ ) .

( هلْ يعقلُ أن يحدثَ هذا
في عصرِ حقوقِ الإنسان ؟ ) ( ص 158 )

يتحدَّثُ بعدها عن غزَّةَ / عن القدس / عن ( سراييفو ) وصواريخ الغرب ، عن حيفا والجولان والجنرالات ، ليختتمَ ، في البطاقة الثامنةِ ، بتساؤلٍ عاديّ وساذجٍ :

( كيف يموتُ الطفلُ ومعهُ حجرٌ
أيهما أسرَعْ
الحجرُ أم المدفعْ ؟ ) ( ص 171 )
الشاعر يجثو الآن أمام عرش فاطمة ليعترف . ولكن بماذا سوف يعترفُ لها يا تَرى ؟ يعترف ببلوغه الخمسين وما يرافق ذلك من بكاءٍ على شبابٍ ولَّى :

( لكنْ أتيتُ وما في العمرِ مُتَّسعٌ
لحَملِ عرشكِ بين الصَّحوِ والوَسن ) ( ص 17 ) .

ينتقلُ الشاعر بنا الآن ، من ( الغربة ) إلى الضَّيفِ الذي يقول فيه :

( يُكرمُ اللهُ من تلطَّفَ بالضَّيفِ
فهلاَّ
فتحتِ للضَّيفِ بابا ؟ ) ( ص 181 )
ينتقلُ بنا إلى ( الهم ) ويتساءلُ :

( أيخيفُ حبُّ مُغتَربٍ )
( وهواهُ عذريٌّ )
ولكن :
( وبنو العمومةِ في مضاجعهم
غنوا الهوى برطانةِ العجمِ ) .

فلماذا إذن _ لا تفكُّ فاطمةُ ( وشاحَ الخوفِ ) فالشاعر ما زال فحلاً بحقٍّ :

( ما زال بي
تَوْقٌ لمرحلةٍ
تُرَجَّى
وحلْم ٌمُرْجَأٌ بدمي
وفصاحةٌ تغلي مراجلُها
نَسِيتْ قُرَيْشٌ بعضَها بفمي ) ( ص 186 ) .

لا شكَّ أن في هذا بيانٌ عربيٌّ لغويٌّ تشكيليٌّ أصيلٌ ، يُطربُ له القارئ التقليدي وحتى الناقد الخارج من مدرسةِ ( ابن طباطبا ) و( الجَرجاني ) وما شابَههما ، لماله من فخامةٍ وجزالةٍ في التَّعبير الموروثِ ، وفي الكلامِ ( الفاخر ، النَّبيل ) ، غير أنه يبقى _ حسب رأيي _ بحاجةٍ إلى عمليةِ احتراقٍ أعمقَ ، ليصلَ إلى مدلولاتِ معاناةِ التَّساؤلِ الكوني ، شأنه هنا شأن معظمِ شعر وشعراءِ عصرنا المعاصرِ اسماً ، وغير المعاصرِ روحانياً .
أعترفُ ، برغمِ كلِّ هذا ، بوجودِ حِرفةٍ ماهرةٍ في الصّياغةِ تصل به إلى حدِّ الإتقان الرّفيع وذلك بأسلوبٍ مبدعٍ في الرَّبطِ بين الشكلِ والمحتوى و ببيانٍ عربيٍّ متقَنٍ يصلُ به إلى تُخومِ الانعتاقِ الرُّوحاني ، والفوضى الجميلةِ المُخترِقةِ ، ولكنه بحاجة إلى المَزيد .
وصلنا الآن ، مع الشاعر د. خالد محيي الدين البرادعي ، إلى مقاربة نصوص الثُّلث الأخير من مجموعته الموسومة بـ " الصُّعود إلى عرش فاطمة " وبعد أن عايشنا معه رحلة التيه الروحية والجسدية ، رحلة الاغتراب في الأهل والوطن ، رحلة انكسارِ حسٍّ قوميٍّ متَّقدٍ تحت نخلة الحلم التي صارت شَرَكاً للعقلِ والمشاعر ، رحلة الشَّوقِ الروحي والجسديِّ إلى فاطمة الرَّمز والجسد الحيِّ النَّابض بالرَّغباتِ ... فماذا عساه سيقدِّمُ لنا الشاعر الآن بعد هذا الفيض الشعري الذي قدمه لنا ، كما على خشبة مسرحٍ إغريقيٍّ مُقامٍ على رمالٍ عربيةٍ ، دخلته ( الجوقة ) لتعلن افتتاح المأساة _ المَهاة بأناشيد الخِصب التي تستحضر المطرَ ، ولمَّا يأتي بعد ، وأناشيد ( تمـُّوز ) الغائب ، بَعْدُ ، في ظلامِ " العالمِ السُّفليِّ " بانتظار أن تهبط إليه " إنَّانا " لتخرجه إلى الضِّياءِ وليعمَّ الخير والرَّبيع ، وما تزال ( الجوقة ) ترقص وتنشدُ ، مجداً من أجلِ " اللاَّةِ " أو " العُزَّى " أو من أجل " هُبَلٍ " أو "بعل " أو " مردوخ " بعد أن انتَزعت الذكورةُ الأبوية الصَّولجانَ من الأمومةِ وأعلنت العِصيان وحملت السيفَ لتخطَّ درب المدنية والقانون والقسوة بديلاً عن مبدأ قرابةِ الدَّم والمحبة والتَّساوي . وبما أنها _ الجوقة _ لم تخرج من " التَّياترو " بعد ، فالعرض ما زال مستمراً يدعونا إلى الانتباه واليقظة ومتابعة الحدث ، الذي لم يَصل ، حتى الآن ، إلى ذروته - درامياً - فماذا سيحصل بعد هذا ؟ .
تحت عنوان " أصوات قديمة تحت عرش فاطمة " ص187 يقودنا الشاعر لمقابلة شعراء تركوا بصمات أرواحهم ومشاعرهم ، على خارطة وجدان أمةٍ أحبت الشعر وتماهت فيه حتى التَّطرف في مشاعرها من أجل بيتِ شعرٍ واحدٍ ، أو من أجل " أنف النَّاقةِ - وذيل البعير " .
من بعد أن يأتينا صوت " الفاضل المتهتِّكِ " _ كما نعته د. حريتاني في كتاب له عن النُّواسي _ أي
( صوت أبي نؤاس ) كما يكتب البرادعي ، ليسأله وهو من هو في أمور العشق والغزل وربَّاتِ الكرومِ ، يسأله بحَيرةٍ عن الدَّرب الموصلِ إلى فاطمة لأن :

" دروبَ العشقِ غا مضة " ( ص188 )
فيجيبه ، من قرارةِ الكأسِ ، صوت الشيخ العارف ، ليقول :

" سُنَّة العشَّاقِ واحدةٌ
فإذا أحببتَ فاستكنِ " (ص 188 ) .

ولكن لماذا اختار " البرادعي " من أقوال هذا الشاعر الحكيمة ، وما أكثرها ! ، هذا البيت على وجه التَّحديد ؟ ألأنه تاهَ طويلاً في البحث عن حلمه ، آملاً ، صارخاً ، صاخباً ، منكسراً ، نائماً ... ليريهِ أن كل هذا لن يقود إلى الدرب إلاَّ من خلالِ " الاستكانةِ " ؟
في بحثهِ عن الحقيقة ، حقيقة الوجود والألوهةِ ، منذ بضع قرون ، كان (توما الإكويني ) _ المفكر اللاهوتي _ الملقَّب " بدكتور الكنيسة الكاثوليكية " / يتجوَّل على شاطئ البحر عندما رأى طفلاً يحفر حفرةً في الرِّمال ، فسأله " توما " عن السبب ولماذا ؟ فأجابه ببراءةٍ :
لكي أدفن فيها البحر .هنا أدرك الرجل أنه يبحث عن سراب وأنَّ الحقيقة لن يجدها في التِّجوالِ ، وربما تكون في داخله ، دون أن يدري ، فعاد أدراجه . غير أنَّ الصُّوفي الكبير" أبو يزيد البسطامي " يعلّمنا شيئاً آخر ، حيث يقول لنا " الاستكانة حجاب... ومن استكان إلى شيء فهو مَحجوبْ " .
فأين الصَّوابُ يا تَرى ؟ هل كلّ هذا صوابٌ أم حجابٌ ، وبصرف النَّظر عن المحتوى؟! .
صوت أبي تمام :
هذا الصوت يوظِّفه " البرادعي " _ برغم مروره أو صعودهِ إلى عرش فاطمة " الثاني " يوظِّفه ، وبمهارة ، سياسيَّاً ، عندما يقول :

" كأنها سنَّةٌ للقهرِ ... أَبَّدها
وحشٌ تأنَّقَ في تاريخِ إنسان " .
ويختمه بقول الشاعر :

" بالشَّامِ أهلي ، وبغداد الهوى . وأنا
بالرِّقتينِ . وبالفُسْطاطِ إخواني " ( ص191 ) .

الغربة إذن مرَّة آخر وأخرى . أو لم يقل لنا البرادعي ، سابقاً :

" وجناحاكِ فِطامُ
تُسِدَّان الأفُقَ عَليْ
بين المغربِ والمَشرِقْ ؟ " (ص 75 )

"... ترحَّلتَ بين الخليجِ وبينَ المحيطْ

" ... عاصرتُ في غربتي خمسينَ جائحةً
" وجئتَ أنت لأحيا الغربيتين معاً
فهل هما وطني في قُرَّةِ الوطنِ ؟ " (ص179 ) .

صوتُ المتنبِّي :
على الرغم من توقُّعنا أن يهدرَ صوت المتنبِّي لشاعرنا المعاصرِ ، يحدِّثهُ عن " الخيل واللَّيل ... " عن " أنام ملئ جفوني ... " أوعن " ... الظّلمُ من شيمِ النُّفوسِ " ... إلخ . إلاَّ أن البرادعي يصغي ويختار من صوت المتنبي :

" زوِّد ينا بحسنِ وجهكِ ما دامَ ... "
فالحسن لن يدوم ، وكذلك الحياة ، ونسمع البرادعي يبوح بقولٍ رقيقٍ وشفيفٍ :

" قُبةُ العشقِ أُغْلقتْ من عصورٍ
وكِلانا مُكبَّلٌ ... مَغلولُ " ( ص193 ) .

والكلمات ، تتضمَّنُ الكثير َ وتفصحُ عن الكثير أيضاً ، ويختتم لقاءه ، بقفلةِ حكمةٍ حزينةٍ يخاطبه فيها المتنبي قائلاً:

" نحن يا خالداً
غريبٌ كِلانا
عن كِلانا
ونام عناَّ الدَّليلُ " ( ص194 )
لم يكن الحسنُ ، في هذا اللِّقاءِ ، هو المحوَر المفرِحَ ، ولكن الخاتمة الحزينة والحديث عن الاغتراب مرَّةً أخرى وأخرى كانت غُصَّةَ الختامِ في هذا المشهدِ الحزين .
صوتُ أبي العلاء :
في غنائيَّةٍ عذبةٍ ، يبوح الشاعر البرادعي لنا عن حُلُمهِ المُحرِقِ وعن جرح قلبه فيقول :

" لكأني عن مقلتيَّ غريبٌ وكِياني مُغرَّبٌ عن كِياني " ( ص196 )
وتردّدُّ ( الجوقة ) _ غير المرئيَّةِ _ في عَتمةِ المشهد التي تليق ب " رهين المحبسين " حكمته الخالدة :

" علّلاَّني فإنّ بيضَ الأماني
فانياتٌ والدهر ليس بفانِ " ( ص197 )
وتسدل ، بهذا ، الستارة عن المشهد .

من ذاكرةِ الرَّملِ والنَّخيل ، ومن " زمنِ الحلم الأول " _ عنوان إحدى مجموعاتي الشعرية _ ومن عالم الفروسية ، والصِّراعِ مع الموروث الجائر الذي يدفع بالبعض إلى أعماق رمال الغربة والاغتراب لألف سببٍ وسببٍ ، ويدفعه حتى إلى أحضان الموت الشاعري النَّبيل ، على الطريق الملكي إلى عرش الشعر الخالد ... من هناك يصلنا :
صوتُ طَرَفة :
يوظفُ الشاعر البرادعي ، في هذا المشهد _ بخاصةٍ _ اللُّغة التُّراثيةَ المألوفةَ لديهِ ، التي يعرفُ شِعابها ودَلالاتها جيداً ، وإن كانت بين حينٍ وآخر شِعاباً وَعِرةً وغريبةً أحياناً ، ضمنَ بنائيَّةٍ متماسكةٍ لُغوياً وتراثياً لكنها تريدُ أن تفصحَ عن ذاتها من خلال إسقاطِ أو الإيحاءِ بإسقاط دلالةً معاصرة لذلك الزمن القديم ، زمنِ الأصالةِ والبداوةِ والفروسيةِ ونقاءِ الصَّحراءِ وما عُرفَ به لسانُ العربِ القديمِ من إبداعٍ مدهشٍ ، دعا الباحثَ السّويسريّ ( آرنولد فون هوتِنغَر ) إلى أن يكتبَ _ ذاتَ يومٍ _ في " صحيفةِ زوريخ الجديدة " في مطلع الستّينيات _على ما أذكر _ :
" إنَّ ما أبدعهُ الإغريقُ في المَرمرِ أبدعهُ العربُ في اللّغةِ "
ذلك الزمن الغابرَ الذي لم تكن فيه مثل هذه الكلماتِ _ بالطبع _ غريبةً ولا وَعِرةً أيضاً .
غير أنَّ الشاعر البرادعي من خلال استعماله مثلَ هذه الكلمات يحاولُ أن يعطي المشهدَ مصداقيةً مكانيَّةً ومصداقيّة المزامنةِ أيضاً :
إثْمُدْ _ عسْجَد _ لَعْسٌ _ عَرارٌ _ مِروَد _ خِدرٌ _ هَوْدجٌ... إلخ . ونسمعه يحدثنا عن :
الأعشى ، وعن أمِّ خويْلد وهُذَيل إلخ ... ولنا الحق في أن نتساءل إذا ما أفلح الشاعر في محاولته هذه ، يا تَرى ؟
لا شك أن البرادعي ، كشاعر متمكنٍ من أدواته الشعرية متمرس في بناء المشهد الدَّرامي ، من خلال مسرحياته العديدة ، وفي بناء المشهد الشعري ، ومن خلال لغة عربية ومخزون لغوي وسيع يضم الحديث الشائع كما يضم معجمه الغريب التُّراثي وحتى المندثر أيضاً ، كان قادراً على صياغة ما يريد أن يقوله لنا في مشهد طرفة ، برغم أنه يعترف لنا :

" تعبتُ من الإنشاء وحدي
ولم تُجبْ ( فاطمة بالطبع )
وسَالتْ جراحُ الصَّبرِ بَعْدَ التًّجلُّدِ " (ص 201 ) .

وكان قادراً على توظيف قول طَرَفة ببراعةٍ أيضاَ ، ليختتم المشهدَ هكذا :

" ومِنْ فَجوةِ اللَّيلِ الذي أنا قائمٌ
بأركانه العمياءِ ،
شَدَّ على يدي
شهيدٌ . ونادى
_ كان صحبيَ مرةً
" يقولونَ :
لا تهلِكْ أسىً وتجلَّدِ " .

ولكنني أتساءل ، بعد كل هذا الجهد الذي تجسَّدَ على مدى صفحاتٍ ستٍّ ، وهو أطول المشاهدِ ، حيث مشهد صوت ( أبو نواس ) أخذ صفحةً واحدةً فقط ، ومشهد ( أبو تمام ) صفحتين ، و(المتنبي) وكذلك المعري ، كلٌّ أخذَ ثلاث صفحات فقط ، و( شاعر اليتيمةِ ) _ اللاحق _ أربع صفحات ... بعد هذا المدى الواسع الذي احتله ( صوت طرفه ) ، أتساءل إذا كان كل هذا الجهد يستحقُّ أن يخرج الشاعر منه بكلمة واحدةٍ وحكمةٍ عاديَّةٍ تقول له ( تجلَّدِ ) ؟
أين التساؤل الفلسفي الوجودي ، وأين العبثية والطموح القاتل والرفض ، والفروسية والاغتراب عن الأهلِ فيهم وبَينهم ؟
سؤال لا بدَّ من طرحهِ ، والإجابة تبقى ( في قلب الشاعر ) .
النص الأخير في هذه العودة إلى شعراء الماضي لا تحمل عنوان ( صوت ) إنما هي :
حوارٌ مع شاعر اليتيمة :
يسأل البرادعي في هذا النص صاحبه المقتول الذي سمى حبيبته ( دعداً ) وخلَّدها ، أن يصفها له ليصل ، من خلال ذلك ، إلى حبيبته هو ، إلى ( فاطمتهِ ) التي :

" ... نَهبت مني الهمومَ لتصبحَ الهَمَّا " ( ص 205 )
ويتساءل :

" دعدٌ غَوَتْ ، وأنا بفاطمةٍ
لُصْقَ الجنونِ أعَمِّرُ الوَهْما
أتراهما خَلقين في نَسَقٍ
فرْدٍ نبيلِ النَّبعِ إن يُنمى ؟
أمْ تَوأمينِ لِسِفْرِ مَلْحمةٍ
للعشقِ ... "
وهناك يفصح الشاعر تماماً عن الجانب الحسيِّ في عشقهِ الصوفي ليقول :

" إنْ شُمَّا ( دعدٌ وفاطمة ) وإن ضُمَّا
.........
أتظنني
أحظى بمَلمسها
وأنالَ ضمَّ قوامِها يوماً ؟
فأنا هوىً . متوهِّجٌ
ورُؤىً خُضرٌ
تحنُّ لتبدِعَ الأسمى .

لعلَّ أجمل ما في هذا الحوار ، القفلة بكلمة ( الأسمى ) وليس ، كما عند صاحبه المقتول ، الذي سمَّى دعداً وخلَّدَ ذلك الاسما ، وبرغم ذلك فالحوارُ يُسقِطُ الأقنعةَ الروحيةَ التي قد تكون صادقةً ، هنا وهناك ، ولكنها شفافة لا تخفي الرَّغبات الحسيَّة في قلب الشاعر وروحهِ وفي جسدهِ أيضاً .
خلاصة الأمر :
ماذا أفادتنا هذه الأصوات والحواريَّات ، بل ماذا أفادت مجموع مَشاهد الديوان ؟
للشاعر ، أي شاعر كان ، تمام وكامل الحق في أن يوظف ما يشاء من المأثور والموروث والمَرْموز في نصِّه ، وبأيةِ طريقةٍ وأسلوبٍ يشاء ، ولكن المطلوب منه ، أيضاً ، أن يقدم لنا بهذا التَّوظيف صورة مفارِقَة للمألوفِ ، مخترقةً لتصوّرنا البدئي ليفجأنا بالمُغايرِ وبالدَّهَشِ والإثارةِ والنَّشوة . فماذا قدَّمت لنا هذه الأصوات وما رافقها من توظيفٍ ؟
في الصوت الأول _ صوت أبي نؤاس _ : نجد دعوة إلى الاستكانة .
في الثاني _ صوت أبي تمام _ : الغربة والاغتراب .
في الثالث _ صوت المتنبي _ : اغتنام لذَّةِ الحب فالحِسِّ .
في الرابع _ صوت المعري _ : فناء الأماني بخلاف دوام الدهر .
في الخامس _ صوت طَرَفه _ : لا تهلِك ، وتجلَّدِ .
والسَّادس والأخير _ شاعر اليتيمة _ : الدعوة إلى الحس المُمَوَّه بالسموِّ .
إذن قدَّمت لنا النصوص شيئاً من :
الغربة / اللَّذة والجمال / فناء الأماني / الدعوة إلى التَّجلد / والدعوة إلى الجسد .
كل هذا جميل ومقبول ، ولكنني أعود لأتساءل :
لماذا أغفل الشاعر هنا تساؤله _ هو _ الفلسفي الوجودي ، والفرصة كانت مواتية لهذا ؟

يختتم الشاعر ، د. خالد محيي الدين البرادعي ، مجموعته ( الصعود إلـى عرش فـاطمـة بــ " حكاية عن الملك المهزوم لتنام فاطمـة " ( ص209 _ 228 ) _ وهي آخر صفحات المجموعة _ .
في نصٍ شعري طويل لي ، كتبتُه منذ أعوام ، ونشر في مجلة " المعرفة السورية " بدمشق ... بعنوان " مرافعة ديك الجن " خَلصتُ إلى نتيجة أن " ديك الجن " ليس القاتل ، إنما هو الضحية في صراع الآلهة ، بما يشابه (أوديب) عند سوفوكليس " أو في ثلاثية (آيخيلوس ) ( أوريستا ) التراجيدية .
في هذا النص " حكاية الملك المهزوم " _ وليت العنوان توقف هنا _ يقدم لنا البرادعي مرافعة رائعة قوية البيان والتعبير والصياغة ، مرتكزةٍ إلى قراءة التاريخ والواقع من منظار الهزيمة بعد أن :
" كان الحاكمُ يخشى غضب الله ،
وأمسى يخشى غضب الروم " (ص 226 )

" كيف دفعتم
فِدية عرشٍ يحرسهُ من لا يحكمهُ " ( ص 224 )

كان العدلُ أساسَ المُلْكِ
وصار القهرُ أساسَ الحُكْمِ
وسكتّمْ " ( ص225 ) .

ويتحدثُ عن سِفْر هزائمهم ، وعن فتح شُباك العرب على بحر الروم ، وعن انسلاخ المهزومين من سيرتهم ، عن مملكة الرِّدة وأحجار الرَّجم ، عن الملوك الطغاةِ والكهنة الزّناةِ ، عن عصر التنوير الذي تلد فيه النساء سِفاحاً ، وعن الحاكم الذي يحرسه القَتَلةُ ، وعن رجالِ الشورى الذين حَلُّوا في سهلِ مواردهم ( والشورى سيف ولجام ) _ ص 219 _وعند اعترافات الملك المخلوع بأسرار الحكم وبِحتمية الهزيمة بعد أن أمسى القمر الأموي جريحاً ، وصارت الأسلحة للزينة فحسب و :
" بنو عمي فلَحوا مقبرة الخلفاءِ لنهبِ ملابسهم " ( ص 223 ) .
"ووجوهٌ لاصقةٌ بزجاج العصرِ
بلا شكلٍ أو لونْ
وكأن المشهدَ لا يعنيكُمْ " ( ص 227 ) .
يتحدث عن الكثير الذي يضيءُ لنا قَتامة المشهد المعاصر لأمةٍ نسيت تاريخَها وأمجادها ونسيت أين تقعُ حدود الروح والوطن ، ليختتم بذلك ، فعلاً ، ذُروة هذا العمل الشعري ،الذي أعتبرهُ إلى جانب ديوانه ( عبد الله والعالم ) من أجمل وأهم ما كتب البرادعي من قصائد ، طبعاً إلى جانب أعمال هامة أخرى ( ملحمة مَـيْسلون ) وكذلك ديوان ( حكايات إلى امرأةٍ من يبرود ) الصادر عام 1974عن دار الرسالة في الكويت ، وبعض أعماله الأخرى .

إذن ، وبعدَ هذه المقاربةِ السَّريعةِ لهذا العملِ الشِّعريِّ المميَّزِ من أعمالِ الشاعر الدكتور خالد محيي الدين البرادعي ، نستطيع القول أنَّ الشاعر قدَّمَ لنا أفكارَهُ ورؤاهُ وانكساراته أيضاً مِن خلال مشاهد شعريةٍ درامية البناءِ وكأننا أمامَ لوحاتٍ تترى على مسرحِ اللُّغةِ التي يتمكَّنُ الشاعر مِن التَّعاملِ الأنيقِ الحُرِّ معها ، وإن كانَ قادنا في بعضِ المواضعِ إلى مفرداتها هي مِن صميم لغتنا ولكنها الآنَ أمستْ ثقيلةً وربما غريبةً على أسماعِنا .
أنْ نتحدَّثَ عن الأسلوبِ والتراكيبِ وغيرِ ذلك مِن الأمور التَّقنيةِ اللاِّزمةِ لدراسةٍ نقديةٍ منهجيَّةٍ فهذا أمرٌ يطولُ ويمكنُ البحثُ عنهُ في قراءاتٍ أخرى لدارسينَ كثر درسوا بهذا الأسلوب الشاعر الدكتور البرادعي ، غير أنني أردتُ أن أعبِّرَ عن انطباعاتي حول هذا الدِّيوانِ ، المُميَّزِ كما ذكرت ، والذي يستحقُّ قراءاتٍ نقديةٍ أخرى .
________________________________________
حمص _ سورية د. شاكر مطلق

عبدالسلام مصباح
07/05/2008, 01:40 PM
الأستــــــاذ الدكتــــور
ش
ا
ك
ر
مطلـــــق
شكــراً لــك علـــى هــذه الدراســـة الجـــادة
التــــي سلطــتَ مــن خلالهـــا الضــوء علــى جوانــب كثيـــرة
لتجربــة الشاعـــر الدكتــور
خالـــد محيـــي الديــن البرادعـــي
الــذي سعــدتً بلقائـــه مؤخــراً بمدينـــة مراكـــش
حيــث أهدانـــي نسخــة مــن مسرحيتــــــه
الأيـــام السبعـــة الطــوال
فـــي
حيــاة أبــي القاســم الفردوســـي
و
استمعــتُ إلـــى نصوصــة وهــو يلقيهــا بصوتــه الجوهـــري
إلــى جانــب إعجابـــه الشديــد بذاكرتــــــة الحيـــة
شكــراً لـــك مــرة أخـــرى
مــع
محبتـــي

عبدالسلام مصباح
07/05/2008, 01:40 PM
الأستــــــاذ الدكتــــور
ش
ا
ك
ر
مطلـــــق
شكــراً لــك علـــى هــذه الدراســـة الجـــادة
التــــي سلطــتَ مــن خلالهـــا الضــوء علــى جوانــب كثيـــرة
لتجربــة الشاعـــر الدكتــور
خالـــد محيـــي الديــن البرادعـــي
الــذي سعــدتً بلقائـــه مؤخــراً بمدينـــة مراكـــش
حيــث أهدانـــي نسخــة مــن مسرحيتــــــه
الأيـــام السبعـــة الطــوال
فـــي
حيــاة أبــي القاســم الفردوســـي
و
استمعــتُ إلـــى نصوصــة وهــو يلقيهــا بصوتــه الجوهـــري
إلــى جانــب إعجابـــه الشديــد بذاكرتــــــة الحيـــة
شكــراً لـــك مــرة أخـــرى
مــع
محبتـــي

عزيز العرباوي
07/05/2008, 06:26 PM
الأخ شاكر مطلق :

قراءة ودراسة نقدية للشاعر جميلة وقيمة أفادتنا كثيرا

شكرا جزيلا لك

//
//

عزيز العرباوي
07/05/2008, 06:26 PM
الأخ شاكر مطلق :

قراءة ودراسة نقدية للشاعر جميلة وقيمة أفادتنا كثيرا

شكرا جزيلا لك

//
//