الأسير باسم الخندقجي
09/05/2008, 11:35 PM
فقدان مُعَلْوَم للذاكرة
" . أن تحكي قصتك على مراحل كما هي بالفعل " ( إدوارد سعيد : بعد السماء الأخيرة )
تثير هذه النصيحة التي أتقن صاحبها تطبيقها في معظم كتاباته حفيظة المأساة الفلسطينية التي باتت على مشارف النسيان .
أن هذه المأساة ، المفعمة بالقصص و الأحداث المؤلمة و المفجعة ، لم تنل حقها المزدوج و المشروع في تجلي الهاجس الجماعي لدى أصحابها ، ألا وهو هاجس البقاء و الدفاع عن الحق في الوجود ، وتحوله إلى وازع و موجه أيضا لأهداف القضية ، ولم تنل المأساة أيضا حقها في النشر الموضوعي ، و إطلاع العالم الحر على وقائعها و أحداثها .
حيث أن غالبية شعوب الأرض ، وعلى مدار التاريخ تستمد قوتها ، وقدرتها على تعزيز البقاء والهوية من خلال الأحداث و الوقائع التي ألمت بتاريخها ، وتبرز المأساة الجماعية كإحدى المحددات الهامة الهوية القومية والذاكرة الشعبية ، من هنا إلى أي مدى استفادت القضية الفلسطينية من زخم مأساتها ؟
إن الشعب الفلسطيني استمد و يستمد وسائل و أدوات نضاله و كفاحه و قوة تصميمه و إستمراريته من عمق مأساته و إيمانه المطلق بعدالة قضيته ، وهذا الانعكاس الكفاحي الثوري للمأساة ، هو التمثيل العنفي لها ، و لكن خسائر هذا التمثيل كانت فادحة ، بحيث أنه ساهم في إضعاف و تقويض ذاته ، مؤديا إلى بروز النسيان في أفق التسويات بعد مشوار ثوري قوي ، إذ أن عدم الاستفادة من عمق المأساة يبرز هنا من خلال عدم إقامة توازن واعي و علمي ، ما بين التمثيل العنفي و تمثيلات أخرى تمنح الدعم ، و المزيد من الشرعية للدفاع و المقاومة.
وبالمفهوم الإنساني الصريح يعني حفظ المأساة وروايتها ، تأكيدا على البقاء ، و مواجهة الجلاد و لعنته لعدم تحول الضحية إلى دور مقيت لا يكفل تحررها و نصرتها ، فأن يحكي الإنسان مأساة شعبه ، ويقوم بتمثيلها فإن هذا يعني ترسيخا لمبادئ الإنسانية في هوية ذلك الشعب و حمايته من الانجرار وراء العنف الدامي ، و التحريض الأعمى الذي لا يؤدي إلى تحقيق إنعكاسات المأساة الموجهة نحو ترميم الدمار الذي حل بالروح الإنسانية ، و إعادة الحقوق المشروعة ، و تحقيق الأهداف التي تكفل تحويل المأساة التي تراث و مجموعة عِبر يستفاد منها في الحاضر و المستقبل .
الإنسانية الحقة هي التي تجعل من مأساتها منارة ترشدها إلى بر الأمان و الاستقرار و الثوري الحق هو الذي يطبق الممارسة الصحيحة التي تقيم التوازن ما بين الكفاح و (حكي القصة ) .
يقول أرسطو : (لا بد للمأساة من أن تحتفظ بقوتها على إثارة الفزع والشفقة )
و القوة لا تكمن هنا في مسرحيات درامية أو مايلو درامية تبكي الجمهور و تثيره فحسب ، بل تكمن أولا في حفظ المأساة ، و السعي إلى إحداث نقلة نموذجية تحولها من مجرد قصص و أحداث مغلفة بشكل تقليدي حزين إلى شكل أسطوري يزود القضية المراد تحقيقها بخلفية تاريخية تمنح التأييد و التضامن و توفير الغطاء المناصر .
و الشعب الفلسطيني بطفرة مثقفيه و مبدعيه ، قادر على خلق أسطورية الخاصة به من عناصر مأساته و لا يوجد قضية إلى تحقيق أهدافها و مبادئها من دون أن تمتلك في حوزتها أسطورتها الخاصة .
ويعتبر الشعر من أهم التمثيلات الثقافية (الكلماتية ) للمأساة الفلسطينية ، ولكن هل ما زال يحتفظ هذا الشعر بتمثيله القوي ؟
إن الشعر وليد المأساة ، وهذا يعني بالضرورة أنه وليد الأسطورة ، وبالرغم من وجود تمثيلات أدبية أخرى في الرواية والقصة القصيرة والمسرح ، إلا أن الشعر يعد أقوى التمثيلات ، إذ أنه ساهم في ثقل المأساة من الناحية الوجدانية و الجمالية ، وأضفى عليها من خلال الكلمات المولودة من رحم الألم طابعا له مقدمات أسطورية ، إذ أن الأسطورة الحية تستمد سطوتها على التأثير من سحر الكلمات وألقها ، ومن صلتها المتينة و المتفهمة للأجواء و الوقائع التي نشأت بها الأسطورة كشكل فوقي ما ورائي يلبي تفسيرات و مآسي حضارة أو شعب ما . ونجاح الشعر الفلسطيني في نشر القضية ، و تلاوة القصة في أجواء سحرية حزينة ، بدء يزول تدريجيا بعدا أن دخل في الواقع الجديد الموقع ( ما بعد أوسلو تحديدا ) الذي احدث فجوة ما بين الماضي – المأساة والحاضر – التخبط .
وهذا ما يفرض بعد تتوقع وتراجع تمثيلات المأساة في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها القضية الفلسطينية ، يفرض الحاجة إلى تمثيل ثقافي ( ألحكي ) بمعنى تجديد المأساة بما تحتويه من قصص و إحداث وملاحم وبطولات ، بحيث لا يكون الحزن والتحريض الحاقد والتخبط أسيادا للموقف ، بل يعني التجديد هنا انعكاسات جديدة وحديثة للمأساة ، تستوعبها اطر وأدوات ثقافية و أدبية و فنية .
وعمرو المأساة الفلسطينية لا يقاس بالسنوات ، بل بالذاكرة القوية القادرة على ( حكي ) القصص والمعاناة الجماعية ، بحيث تكفل الذاكرة الاستمرارية الداعمة للأهداف ، وما يجري الآن في ظل المجتمع الدولي الأنيق هو تحويل المأساة إلى مجرد تراث ( كتراث و بقايا الهنود الحمر في أمريكا ) ، وعنوان هذه المقالة بالمناسبة – مقتبسٌ من قصيدة الشاعر الجنوب إفريقي ( جيرمي كرونين ) الذي يعبر من خلالها عن كارثة و فداحة فقدان الشعب لمأساته وذاكرته مختتماً قصيدته بتحذير يقول فيه : احذروا فليس لفقدان الذاكرة تاريخ انتهاء : - والقول بان ستين عاما مرة على نكبة الشعب الفلسطيني – يشير إلى وقوف المأساة على مشارف النسيان و عدم وجود تاريخ انتهاء لهذا النسيان .
أن تبقى ذاكرة المأساة حية ، لا يعني بأي شكلا من الأشكال أن يسكن الشعب الفلسطيني داخل الحزن ، وأن يبقى أسيرا للمعاناة والماضي الأليم ، ولا يعني أيضا السعي وراء الحقد والتحريض الأحمق ، إذ أن الفهم الواعي للمأساة يؤدي إلى ضرورة ( حكيها ) الذي يحميها من النسيان و الزوال ، ويقيها من هذا الواقع الذي يرفض التلاحم و الترابط معها ، لكي لا يزج به في قفص الاتهام بالتحريض على الكراهية والعنف و القتل .
والذي يتعمق بالمأساة الفلسطينية ، يجد انه لا يوجد حاجة للتصنع أو إضافة تفاصيل أخرى عليها ، فمواكب التهجير الجماعي نحو لبنان كفيلة بقراءة أجواء أسطورية مفعمة بالحزن و النكبة و الخيبة ، التي حلت على هذا الشعب ، و تمثيلات المأساة الفلسطينية لا
يمكن أن تكون قوية و داعمة وحاضنة في نفس الوقت للقضية ،
إذا لم يكن هنالك معالجة نوعية لعناصرها ، معالجة يقوم بها الشاعر و الروائي و المخرج و المثقف ، معالجة تحدث شكلا أسطوريا للمأساة ، يؤكد ضرورة الإحياء المستمر لها و للفزع و للشفقة .
أن الشعب الفلسطيني لم يعد يحتمل مزيد من الخسائر ، و نسيان المأساة يعني خسارة كبيرة ، يفقد من خلالها هذا الشعب هويته التاريخية و الإنسانية ، و من هنا فإن الدور الملقى على كاهل ذوي الكلمات مهمة صعبة ، تتجلى في إيجاد التمثيلات القوية للمأساة .
فإن احكي قصتي فإن هذا يعني في عرف الشعب الذي فاقة مآسيه عدد أحلامه اسطره للقصة بحيث تصبح وقودا يدفع باتجاه تحقيق الهدف الإنساني النبيل .
الأسير : باسم الخندقجي
سجن جلبوع المركزي
عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني
" . أن تحكي قصتك على مراحل كما هي بالفعل " ( إدوارد سعيد : بعد السماء الأخيرة )
تثير هذه النصيحة التي أتقن صاحبها تطبيقها في معظم كتاباته حفيظة المأساة الفلسطينية التي باتت على مشارف النسيان .
أن هذه المأساة ، المفعمة بالقصص و الأحداث المؤلمة و المفجعة ، لم تنل حقها المزدوج و المشروع في تجلي الهاجس الجماعي لدى أصحابها ، ألا وهو هاجس البقاء و الدفاع عن الحق في الوجود ، وتحوله إلى وازع و موجه أيضا لأهداف القضية ، ولم تنل المأساة أيضا حقها في النشر الموضوعي ، و إطلاع العالم الحر على وقائعها و أحداثها .
حيث أن غالبية شعوب الأرض ، وعلى مدار التاريخ تستمد قوتها ، وقدرتها على تعزيز البقاء والهوية من خلال الأحداث و الوقائع التي ألمت بتاريخها ، وتبرز المأساة الجماعية كإحدى المحددات الهامة الهوية القومية والذاكرة الشعبية ، من هنا إلى أي مدى استفادت القضية الفلسطينية من زخم مأساتها ؟
إن الشعب الفلسطيني استمد و يستمد وسائل و أدوات نضاله و كفاحه و قوة تصميمه و إستمراريته من عمق مأساته و إيمانه المطلق بعدالة قضيته ، وهذا الانعكاس الكفاحي الثوري للمأساة ، هو التمثيل العنفي لها ، و لكن خسائر هذا التمثيل كانت فادحة ، بحيث أنه ساهم في إضعاف و تقويض ذاته ، مؤديا إلى بروز النسيان في أفق التسويات بعد مشوار ثوري قوي ، إذ أن عدم الاستفادة من عمق المأساة يبرز هنا من خلال عدم إقامة توازن واعي و علمي ، ما بين التمثيل العنفي و تمثيلات أخرى تمنح الدعم ، و المزيد من الشرعية للدفاع و المقاومة.
وبالمفهوم الإنساني الصريح يعني حفظ المأساة وروايتها ، تأكيدا على البقاء ، و مواجهة الجلاد و لعنته لعدم تحول الضحية إلى دور مقيت لا يكفل تحررها و نصرتها ، فأن يحكي الإنسان مأساة شعبه ، ويقوم بتمثيلها فإن هذا يعني ترسيخا لمبادئ الإنسانية في هوية ذلك الشعب و حمايته من الانجرار وراء العنف الدامي ، و التحريض الأعمى الذي لا يؤدي إلى تحقيق إنعكاسات المأساة الموجهة نحو ترميم الدمار الذي حل بالروح الإنسانية ، و إعادة الحقوق المشروعة ، و تحقيق الأهداف التي تكفل تحويل المأساة التي تراث و مجموعة عِبر يستفاد منها في الحاضر و المستقبل .
الإنسانية الحقة هي التي تجعل من مأساتها منارة ترشدها إلى بر الأمان و الاستقرار و الثوري الحق هو الذي يطبق الممارسة الصحيحة التي تقيم التوازن ما بين الكفاح و (حكي القصة ) .
يقول أرسطو : (لا بد للمأساة من أن تحتفظ بقوتها على إثارة الفزع والشفقة )
و القوة لا تكمن هنا في مسرحيات درامية أو مايلو درامية تبكي الجمهور و تثيره فحسب ، بل تكمن أولا في حفظ المأساة ، و السعي إلى إحداث نقلة نموذجية تحولها من مجرد قصص و أحداث مغلفة بشكل تقليدي حزين إلى شكل أسطوري يزود القضية المراد تحقيقها بخلفية تاريخية تمنح التأييد و التضامن و توفير الغطاء المناصر .
و الشعب الفلسطيني بطفرة مثقفيه و مبدعيه ، قادر على خلق أسطورية الخاصة به من عناصر مأساته و لا يوجد قضية إلى تحقيق أهدافها و مبادئها من دون أن تمتلك في حوزتها أسطورتها الخاصة .
ويعتبر الشعر من أهم التمثيلات الثقافية (الكلماتية ) للمأساة الفلسطينية ، ولكن هل ما زال يحتفظ هذا الشعر بتمثيله القوي ؟
إن الشعر وليد المأساة ، وهذا يعني بالضرورة أنه وليد الأسطورة ، وبالرغم من وجود تمثيلات أدبية أخرى في الرواية والقصة القصيرة والمسرح ، إلا أن الشعر يعد أقوى التمثيلات ، إذ أنه ساهم في ثقل المأساة من الناحية الوجدانية و الجمالية ، وأضفى عليها من خلال الكلمات المولودة من رحم الألم طابعا له مقدمات أسطورية ، إذ أن الأسطورة الحية تستمد سطوتها على التأثير من سحر الكلمات وألقها ، ومن صلتها المتينة و المتفهمة للأجواء و الوقائع التي نشأت بها الأسطورة كشكل فوقي ما ورائي يلبي تفسيرات و مآسي حضارة أو شعب ما . ونجاح الشعر الفلسطيني في نشر القضية ، و تلاوة القصة في أجواء سحرية حزينة ، بدء يزول تدريجيا بعدا أن دخل في الواقع الجديد الموقع ( ما بعد أوسلو تحديدا ) الذي احدث فجوة ما بين الماضي – المأساة والحاضر – التخبط .
وهذا ما يفرض بعد تتوقع وتراجع تمثيلات المأساة في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها القضية الفلسطينية ، يفرض الحاجة إلى تمثيل ثقافي ( ألحكي ) بمعنى تجديد المأساة بما تحتويه من قصص و إحداث وملاحم وبطولات ، بحيث لا يكون الحزن والتحريض الحاقد والتخبط أسيادا للموقف ، بل يعني التجديد هنا انعكاسات جديدة وحديثة للمأساة ، تستوعبها اطر وأدوات ثقافية و أدبية و فنية .
وعمرو المأساة الفلسطينية لا يقاس بالسنوات ، بل بالذاكرة القوية القادرة على ( حكي ) القصص والمعاناة الجماعية ، بحيث تكفل الذاكرة الاستمرارية الداعمة للأهداف ، وما يجري الآن في ظل المجتمع الدولي الأنيق هو تحويل المأساة إلى مجرد تراث ( كتراث و بقايا الهنود الحمر في أمريكا ) ، وعنوان هذه المقالة بالمناسبة – مقتبسٌ من قصيدة الشاعر الجنوب إفريقي ( جيرمي كرونين ) الذي يعبر من خلالها عن كارثة و فداحة فقدان الشعب لمأساته وذاكرته مختتماً قصيدته بتحذير يقول فيه : احذروا فليس لفقدان الذاكرة تاريخ انتهاء : - والقول بان ستين عاما مرة على نكبة الشعب الفلسطيني – يشير إلى وقوف المأساة على مشارف النسيان و عدم وجود تاريخ انتهاء لهذا النسيان .
أن تبقى ذاكرة المأساة حية ، لا يعني بأي شكلا من الأشكال أن يسكن الشعب الفلسطيني داخل الحزن ، وأن يبقى أسيرا للمعاناة والماضي الأليم ، ولا يعني أيضا السعي وراء الحقد والتحريض الأحمق ، إذ أن الفهم الواعي للمأساة يؤدي إلى ضرورة ( حكيها ) الذي يحميها من النسيان و الزوال ، ويقيها من هذا الواقع الذي يرفض التلاحم و الترابط معها ، لكي لا يزج به في قفص الاتهام بالتحريض على الكراهية والعنف و القتل .
والذي يتعمق بالمأساة الفلسطينية ، يجد انه لا يوجد حاجة للتصنع أو إضافة تفاصيل أخرى عليها ، فمواكب التهجير الجماعي نحو لبنان كفيلة بقراءة أجواء أسطورية مفعمة بالحزن و النكبة و الخيبة ، التي حلت على هذا الشعب ، و تمثيلات المأساة الفلسطينية لا
يمكن أن تكون قوية و داعمة وحاضنة في نفس الوقت للقضية ،
إذا لم يكن هنالك معالجة نوعية لعناصرها ، معالجة يقوم بها الشاعر و الروائي و المخرج و المثقف ، معالجة تحدث شكلا أسطوريا للمأساة ، يؤكد ضرورة الإحياء المستمر لها و للفزع و للشفقة .
أن الشعب الفلسطيني لم يعد يحتمل مزيد من الخسائر ، و نسيان المأساة يعني خسارة كبيرة ، يفقد من خلالها هذا الشعب هويته التاريخية و الإنسانية ، و من هنا فإن الدور الملقى على كاهل ذوي الكلمات مهمة صعبة ، تتجلى في إيجاد التمثيلات القوية للمأساة .
فإن احكي قصتي فإن هذا يعني في عرف الشعب الذي فاقة مآسيه عدد أحلامه اسطره للقصة بحيث تصبح وقودا يدفع باتجاه تحقيق الهدف الإنساني النبيل .
الأسير : باسم الخندقجي
سجن جلبوع المركزي
عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني