المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مرثية للعالم الجديد - د.شاكر مطـلق ( نص أدبيٌّ وثائقيّ )



الدكتور شاكر مطلق
11/05/2008, 12:19 PM
مرثية للعالم الجديد
" أغنيَّةٌ للعالم السفلي "

د. شاكر مطلق

لا يكاد المرءُ يدخل في مرحلة تأمُّلٍ و تحليلٍ لما يجري بيننا وحولنا ، وعلى مدار القشرة الأرضيَّة والدّماغية، من أحداث سياسية أو اجتماعية أو أدبية ، وغير ذلك الكثير من نشاطات ( الكائن العاقل ) ، ليستطيع استيعاب ما حدث وما يجري ، وربما استطلاع آفاق ما سيحدث أيضاً ، حتى يصاب بضربة قاسية على دماغه المُتعب ، وبحدوث حدثٍ مثيرٍ آخر يفجِّر أخر خليَّةٍ حالمةٍ في نخاعه الشَّوْكي ، وبمذبحةٍ ( صغيرة )هنا وهناك - ما يجري في الأرض المحتلة ، فلسطين ، وفي العراق وأفغانستان والجولان وأخيراً في لبنان ... الخ أنموذجاً - تقضي على آخر عصفورٍ يتنفَّسُ بقايا الأوكسجين في كريَّاته ، غير الحمراء أو البيضاء ، تلك التي فقدت كلَّ لونٍ وكلَّ طاقةٍ على مدِّهِ بالنُّسغ اللاَّزم للتفكير المنطقي السليم ، إن كان لا يزال للمنطق مكان في عصر الجنون .
ماذا يجري اليومَ - إذن - في هذا العالم المنكوب ، الآيل إلى الزوال على ما يبدو ، ليس بسبب التغيرات المناخية المريعة فيه فحسب ، وإنما بسبب ما أحدَثَته العَولَمة المتوحشة من شروخ في الذاكرة البشرية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية ، ومن تصدعٍ في القيم وانهيارٍ في الثقافات العريقة ، وما أحدثته - ولا تزال - حكوماتُ سلاطنة " ألف ليلة وطعنةٍ " ، وعساكرُ الشمع ، أبطالُ الهَزائم والنهب والمخصيين فكرياً في أكثر من موقع ووطن مسوّرٍ بالشّعارات الزّائفة الفارغة ، وبتيجانِ القصبِ الفارغ،
وفي عقول وأجساد وأرواح أشباح مجتمعاتٍ مقهورةٍ مَنسيٍّةٍ ومَهجورةٍ تلهث وراء الرغيف ولا يصل إليه ولا يجد لقمة عيشه إلاَّ وقد احترقت وَقوداً بيولوجياً في محركات سيارات القصور المتحركة وبطون المتخَمين الأغبياء ؟ !
أحداث تتسارع كالسَّيل ، أو ككُرةِ الجليدِ المتنامية حجماً ، لتسقطَ من عَلٍ في وديان الروحِ
و الذاكرة فـتذوب مشتعلةً لتدفع بالطوفان ، غير العظيم ، إلى إغراق آخر غصنِ زيتون يرتفع على هضبة نائية في صحارى النَّفس .
تدخل المقاومةُ والانتفاضةُ المستمرة في الوطن المحتل نهايةَ قرن مأساوي ومدخلَ قرن كارثيِّ ، ولا نكاد نتصوَّر معنى هذه الفترة الطَّويلة من نضال شعبٍ لا يريد أن يموت وينقرض ، فيتشبث بحقه في أرضه وتاريخه ، ولا نكاد نتصور التضحيات في كفاح أطفال وأبطال ، ونسوة من أجل ما سّمِّيَ ، ذات يوم "بالمستقبل الأفضل " ولا تكاد المشاعر المحنَّطة تخرجُ من أقمطتها قليلاً تحت حرارة الحدث وتريد أن تتفاعل معه ، وحسب الإمكانات المتاحة طبعاً ، حتى تمطرَ فوق تلك المشاعر حموضُ الذِّكريات المريرة في معاناة شعبنا العربي ، على مدار قرون عديدة ، وترتفعَ ، في ذكرى الشهداء - وما أكثرهم - ، أمام أعيننا الفارغة ، واسعة الحدَقات ، المتخفِّية خلف زجاج واقعٍ أسود بل قاتمٍ ،آلافُ الأكف المشيرة بأصابعها المحروقة نحو السماء ، وربما نحو العالم السُّفلي أيضاً ، وتعلو في أفق ذاكرة غائمة ، مئاتُ المشانق المتأرجحة إلى هنا وهناك ، كالبندول الذي يقيس كرَويَّة المشاعر وانحناءَ الروح ولا يقيس كرويَّة الأرض الرازحة تحت ثقل جبال القمامة والكيمياء والإلكترونيات وبيانات تحرير الإنسان والوطن .
كيف للمشاعر أن تهتزَّ ويشحنها الحدثُ بالطاقة اللازمة للتفاعل وللكتابة ، التي هي في المحصلة ضرب من العبثيَّة وتفريغ فائض لطاقةٍ مستَهلكة في ماكينة الجسدِ المعطوبة ؟
إمبراطورية " الإنسان الجديد " والأمميَّة المنتصرة ، وأخوَّة " شِلَر " في تاسعة " بيتهوفن " : "تعانقوا أيها الملايين … كلُّ النَّاس سيصبحون أخوة … هذه القبلة للعالم أجمع … " ،كل هذا ينهار في لحظة عابرة من لحظات النَّزوات التي صنعتْ التَّاريخ وأسَّست للتأريخ على ألواح طينٍ فانٍ كطينِ الجسد ، لا بدَّ له من أن يُحرق ويُشوى حتى يستطيع البقاء ويصمد أمام عاديَّات الأيام ، فكيف للمليارات من الخلايا الدماغيَّة ومليارات العصبونات الرقيقة ، رقة نسيج ذكر العنكبوت ، ورقَّة أصابع الأنثى الحبيبة ، الوَعلة الهاربة إلى عالم الحلم - الكابوس ، أن تصمد أمام كل هذا الدُّخان وهذا اللَّهيب ؟ !
جمهورية " العمال والفلاحين " - المرحومة د.د.إرْ - ترفعُ عالياً ، بُعيد الحرب الكونية الثانية ، في سماء "برلين " التي كان الدُّخَان لا يزال يغطِّيها ، وكانت الحيواناتُ الكاسرة ، الهاربة من حديقة حيواناتها نتيجة للقصف المدمر ، تجوب شوارعها ، هذه الجمهورية وريثة جمهورية " فايمار " -مسكن ومدفن شاعري ألمانيا العظيمين " غوتِه " و" شِلَرْ " التي رفعت علَم الاشتراكية والحرية والتقدم والعدالة ، وفي وسطه المطرقة والمنجل بين سنابل قمحٍ ذهبيَّة … والتي كانت الملايين فيها تنشد نشيد الشاعر ( يوهانِّس ر.بِشَر ) مبشِّرة بالعالم الجديد وبالإنسان السَّعيد … كل هذا يتحول ما بين بناء جدارٍ وهدم جدارٍ إلى نشيد ( جماهيري ) عارم ، يطردُ من سطوح قرميد برلين القديمة ، حتى أصغرَ عصفور، أو حمامة بريَّة ، تحت ثقل كلمات أناشيد النَّازية الجديدة ، التي لم تكد نُسخها الأصلية المحفورة على كثير من جدران الأبنية العريقة ، أو في تجاعيد عدد ، غير قليل ، من قلوب المواطنين الذين أصبحوا الآن ( شرفاء ) ، تبهت وتتلاشى لتجد لها مدَّا جديداً ، كما قطرات المطر ، تحيي الطَّحالب الصفراء في العقول وتبعث فيها الحياة من جديد ، فتنشر رائحةَ العفن الفكري والعنصريّة الآرية الجديدة .
أين كان يختفي ويتخفَّى كلُّ هذا الحقد والكره للآخر ، للغريب الأجنبي ، ذي الجلد الأسود أو الأسمر أو الأصفر ، غير الآريِّ النقيِّ بالطَّبع ، في شوارع تزخر بالرفاق المناضلين من جهات الأرض الأربع ، الذين جعلوا من ( برلين التَّقدمية ) قاعةً بيزنطيةً جديدةً لمتابعة النِّقاش في ماهيَّة ثالوث التَّقدم والاشتراكية والحرية المقدس ؟ ..
كل هذا كان يجري ، خلف جدران المطاعم الفخمة في شارع ( تحت ظلال اللِّينْدَه ) طبعاً _ وهي ليست شجر الزَّيزفون كما يترجمونها _ وعلى طاولات تزهو فوقها أقداحُ ( الويسكي ) _ المستورد أو المهَرب !! _ هذه الكلمة السحرية هي "مفتاح علاء الدين " السحريّ ، في عالم كان يقف فيه المواطن لساعات عدة حتى يحصل على قطعة من الزُّبدة أو ليمونة ربع طازجة … ولكنه ، والحق يقال ، كان يحصل عليها في النِّهاية ، وليس الأمر كذلك اليوم تحت مظلَّة العالم الجديد والحرية غير المحدودة في الجنس والإدمان والجوع والجريمة.
كنت ألقي ذات يوم بحثاً طبيَّاً ، بدعوة من أكاديمية العلوم في جمهورية ألمانيا الديموقراطية المرحومة _جمهورية العمَّال والفلاَّحين _ في مدينة ( دريسْدِنْ ) _ ذات الحضارة الرَّفيعة والتاريخ العريق والنهاية المروِّعة التي آلت إليها في نهاية الحرب ، عندما ألقى حماة العالم الحر (أميريكا و إنكلترا ) بآلاف الأطنان من قنابل الفسفور الحارقة على من تجمَّع في المدينة من سيل المهاجرين الذين افترشوا ضفافَ النَّهر ، وكان الجحيمُ مصيرهم على اليابسة وفي الماء الفسفوري المشتعل .
نعم كان الجوُّ في المؤتمَر علميَّاً صامتاً هادئاً وأنا ألقي بحثي في أحد قصور الثقافة هناك، عندما أخذتْ أصوات المتظاهرين ، المطالبين بالحرية (!) تعلو وتعلو حتى غطَّت على أصوات المؤتمرين … وما هي إلاَّ ساعات قلائل حتى شعرت برياح " الحرية " تلك تهبّ على شكل تلميحات ثمَّ نظرات ثم كلام وشتائم ضدَّ كل ما هو أجنبي وما هو شرقي الملامح أو وعربي .
في طريق عودتي في ذلك المساء الذي سقط فيه " جدار برلين " - جدار العار كما أسموه - مع زوجي الألمانية عائداً إلى " الغربية " سريعاً بالقطار ، لأنني لم أعد أرغب في البقاء أطول على تلك البقعة التي أبدع فيها الإنسان الأدب والفن والعلوم ، والتي تحوّل هواؤها الاجتماعي - السياسيّ ، خلال ساعات فقط ، إلى رياح السَّموم ، الأمر الذي تَحقق بعد جهدٍ ومداخلةٍ من الأكاديمية استطعت بعدهاالحصول على مقعدين في القطار المتَّجه غرباً ،إلى عالَم الحرية المنتظَر و(دزني لاند ) الألمانية وبلد الأعجوبة الاقتصادية ، كما كان يظنُّ الجميع ، وذلك في الدرجة الثانية ، على الرغم من أنني أملك بطاقتي عودة للدرجة الأولى مع رقم المقاعد وغير ذلك مما يخطِّط له الإتقانُ الألماني بدقة عادة ، وكنت برغم ذلك فرحاً بالعودة إلى " هناك " لأن مشاعر العدوانية _ كما ذكرت _ قد فاجأتني حتى القرف ، وأنا المعتاد على مدار ستة عشر عاماً ، على بعض المضايقات للغرباء خلال فترة السبعينيات إبَّان دراستي وإقامتي في الغربية ، ولكن ما رأيته هنا فاق كل توقُّع في بلد الأممية و نشيد ( جميع الناس سيصيرون أخوةً ) ، ذلك البلد الذي لا تزال فيه بيوتات " شِلَر " و " غوته " قائمة ومحجَّاً للناس ، ذلك البلد الذي آوى ( مارتن لوثر ) من بطش الكنيسة واضطهادها لرياح الحياة الطازجة ، قبل أكثر من خمسمئة عام ، والذي آوى آلاف المناضلين الحقيقيين من شعوب العالم الثالث ، ومئات التنظيمات الثوريَّة … ليقدّم ، فيما بعد ، بعد الوضع الجديد ، لوائحَ بأسماء أعضاء هذه التنظيمات السرية وبنشاطاتها وكل ما يلزم للمخابرات الأمريكية وللموساد أن يعرفه ما بين مرحلة انهيار جدار برلين ( 1961 ) الذي عايشت لحظات بنائه الأولى ، صدفةً ، في أواخر ليل تسكُّعٍ طويل ، وبين هدم الجدار وانهياره، الذي عايشته عن تخطيط مسبق ، 1990 .
كان لابد- إذن - لشيء ما أن ينهدم في المشاعر وفي الذاكرة وأن يتصدَّع وينهار .
كيف للذاكرة بعد كلّ هذا أن تتسلَّق أنقاض عالم انقرض ولا تزال آثاره في ثنايا الجلد محفورة كالوشم أو الكيّ ،لتطلَّ على عالم جديد سقطت فيه الأقنعة ، هنا وهناك ، ليكشف عن أسرار اللُّعبة الأمميَّة وقانون الغابة للمجتمع الحر ، وليجعل من نسبة البطالة في ( بلد العمال والفلاحين ) سابقاً ،النسبة الأكثر ارتفاعاً في أوروبا المتطوِّرة أو يجعل من ملايين الشبَّان " الشباب الحر الألماني " _ ف . د . يوت _ وبدون كبير عناء ، امتداداً لما كان يسمَّى ب ( شباب هتلر ) وذلك في مدنٍ كانت دوماً تحمل شعارات أكبر من أن تُحمَل ، وأسماءَ أعرق من أن تدنَّس ، يسيرون في شوارعها كقطعان الذِّئاب ينهالون ضرباً وشتماً على كل ما هو غريب وشرقي ، ولا يتورَّعون عن قتل عائلة لبنانيَّة بكاملها في برلين ، وعلى قذف فيتنامي " صديق " ، كان يعمل في جيش (العبيد ) الذين قدِموا بل جُلِبوا إلى ( الدِّيموقراطية ) ليعملوا ، تحت أقسى الشروط ، في قطع الأخشاب وغير ذلك من المهن الصَّعبة والخطرة والمحاطة بالتلوُّث والإشعاع ، ردَّاً لدينٍ قدمته الديموقراطية لبلدهم فيتنام، الذي ناضل ضدَّ الولايات المتَّحدة وانتصر ، هذا الكائن المسكين يُلقون به ، كما فعلوا في فرنسا الحضارة ، من نافذة القطار إلى الموت .
كم هو مُقرفٌ كل هذا ! كم هو متعبٌ أن يفهم المرءُ ما يجري في عالم الجنون هذا ، وإن استطاع أن يستوعب ما يجري ولماذا يجري، فهو بالتّأكيد ليس من السّعداء .

معلَّقة ( كلكامش ) السُّومرية تَفتَتِحُ قائلةً :
" هو الذي رأى كلَّ شيءٍ "
ومعلَّقة القرن العشرين - التي كتبتها منذ سنوات - تكادُ تضيف على ألواح الطين المشوي المتصدِّعة :
" ثمَّ أغلق العينين من هوْل الرؤى وحطَّم الألواح "
في البدءِ كان الصمتُ ، وظلَّ الصمت سيِّدَ الكلام والحضور في هذا الجحيم.

*******************
حمص _ سورية Dr.med.Sh. MUTLAK
Homs-Syria Bougtassieh
كتبت في أيار / 1992
* نشرت في الأسبوع الأدبي - دمشق / 1992 .

E.-Mail: mutlak@scs-net.org

د. محمد اسحق الريفي
11/05/2008, 02:20 PM
المفكر والأديب الدكتور شاكر مطلق،

إنه فعلا عالم الجنون والشيطنة... لماذا يقبل الإنسان إن يعيش معذبا في عالم يسوده الظلم وسفك الدماء؟! من الذي فرض على الإنسان هذه الحياة الضنكى؟! أهم عصابات النفط والمصالح والمافيات؟!

إن العولمة بحد ذاتها - كما تعلم سيدي الفاضل - لا تشقي الإنسان ولا تسبب له كل هذا العناء، ولكن عندما تصبح العولمة وسيلة لإذلال الشعوب والهيمنة عليها واستعبادها، وأداة لإقامة إمبراطورية الشر والاستكبار في العالم، فإن العولمة تصبح جحيما لا تطاق، إنها في حقيقة الأمر ليست سوى "الأمركة".

وأستذكر هنا كلمات رائعة عبر عنها الشاعر الهندي رابندرانات طاغور عن حقيقة الحضارة الغربية موجها كلامه للغربيين: لقد نجحتم في التحليق في السماء كالطيور والغوص في البحر كالأسماك، ولكنكم فشلتم في السير على الأرض كالإنسان.

تحية إنسانية!

الدكتور شاكر مطلق
12/05/2008, 01:02 PM
تحياتي وشكري على تعليقكم المفيد.
د.شاكر مطلق

الدكتور شاكر مطلق
12/05/2008, 01:02 PM
تحياتي وشكري على تعليقكم المفيد.
د.شاكر مطلق