المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيكولوجية الذنب



الدكتور ناصر الحق
11/05/2008, 09:00 PM
الحمد لله الذي جعلنا من التوابين وجعلنا من المستغفرين. وصلاته وسلامه على سيدنا محمد رسول الهدى وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.
وبعد يُولد الطفل والطهارة تولد معه فهو مسلمٌ بالفطرة, وهو نقيٌ من كل شوائب الذنوب بالفطرة... ولكن السلوك العائلي سوف يؤثر على منهجية الطفل سلوكياً ونفسياً باتجاه السلب أو الإيجاب, وينعكس هذا السلوك تدريجياً على شخصيته, وتتنامى معه الحسنات أو السيئات السلوكية متأثراً بالمحيط الإجتماعي على الصعيد الأسري أو المدرسي أو المحيط العام.
فحينما يعيش الطفل في أجواء غير سليمة ستظهر بوادر
الذنوب كممارسة صغيرة, وتتنامى هذه الممارسات حتى تتحول إلى كبائر إذا لم يهذّبها بالتوبة والإستغفار. فتارة تكون الذنوب ممارسة شخصية لها التأثير السلبي على الشخص نفسه فقط, وتارة تكون الممارسة إجتماعية, وتارة تكون الممارسة جريمة تؤثر على الكيان الإجتماعي.
إن الإسلام العظيم كرسالة سماوية, جاءت لتحرير الإنسان من عبودية الذات والهوى والتحرر من قيود الشيطان إلى عبادة الله سبحانه وتعالى. وبما أن الإتجاه إلى الهوى وبالتالي إلى الذنب هو اتجاه طبيعي بإعتبار عدم معصومية الإنسان نرى الإسلام قنن أمر الذنب والتخلص منه تقنيناً رائعاً كي لا يدع الإنسان أسير عقدة الذنب ففتح له باب التوبة بشكل لا يخل بشخصيته, بل لتتكامل شخصيته ويعيش انطلاقتها نحو سموها. أما إذا أصرَّ الإنسان على ممارسة الذنب فالإسلام لا يغفل الأمر هذا بل نراه يتعامل معه بواقعية فريدة. لذا نجده يضع الإنسان فرداً ومجتمعاً أمام مسؤولياته المستقبلية موضحاً له العواقب التي ستتحقق نتيجة سلوكية الذنب عليه كفرد مرة وأخرى كمجتمع وفي دنياه وآخرته.
هذه السطور التي بين يدي القارئ الكريم هي دراسة مختصرة إلى موضوع حساس مع الإنسان في لاكل لحظةٍ من لحظات حياته في السرّ والعلن, ومستويات ممارسته تختلف من إنسان إلى إنسان طبقاً لدرجات الإيمان. ولهذه الممارسات التأثير السلبي على الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة, فقد
تتحول هذه الممارسات إلى جرائم إجتماعية كبرى. لذا جعل الله سبحانه وتعالى للإنسان مخرجاً للتخلص من هذه الممارسات واستئصالها وذلك من خلال التوبة النصوح والاستغفار, لكي ينعم الإنسان بنعمة الإيمان الحقيقي ويسعى إلى تهذيب النفس بالفضائل الأخلاقية الحسنة التي تجنبه الوقوع في وحل الهوى النفسي ووحل الشيطان حتى بالممارسة الصغيرة التي تسمى اللَّمَم. فإن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان كل الخير وَمدَّه بكل السبل التي تُرشده إلى الخير حتى لا يقع في حُبَل الشيطان, وإن غُلِب الإنسان وسَيطَرَ عليه هواه ومكر الشيطان, جعل الله له نرى رحمة الله تُبقي باب الأمل مفتوحاً بشكل يتصاغر أمامه كل وصف بالسعة وذلك كي لا يقطع طريق العودة إلى الاستقامة. ليعيش في ظلِّ الإسلام العظيم منتصراً على إرادة الهوى والشيطان ويكون صاحب الفعل والعمل تواباً مستغفراً ومن ثم ليكون لُبنةً صاحلةً من لبنات المجتمع القرآني العظيم.
﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الذاريات: 17-19.

والحمد لله أولا وآخرا.












الإهداء


إلى كل التائبين.
إلى كل المستغفرين.
إلى الذين وقَرَ حَبِ الله في قلوبهم فطلقوا كل ما دونه.
إلى عبادِ الله المخلصين.
إلى دعاةِ الله في كل مكان من هذه الأرض.
إلى كل الأحرار من قيود الذنوب.
أقدم هذه السطور المتواضعة.














يعرف الذنب بأنّه الإثم والجرم والمعصية ( [1][1]). أو هو ارتكاب فعل منهي عنه أو ترك آخر مَأمورُ به ( [2][2]). أو هي الأعمال التي استوجبت لفاعلها العقوبات الدنيوية أو التي لم تستوجب عقوبةً دنيوية ( [3][3]). وقد صنف القانون الوضعي الذنب إلى ثلاثة أصناف: الجناية, الجنحة, والمخالفة. وعُرِّف الذنب بالمفهوم القانوني أنه الخروج عن القوانين والمقررات الموضوعة لحفظ مصلحة الأمة وصيانة نظامها العام وضمان بقائه.
ويمكن أن نقول أن الذنب هو أي عمل يتعدى به الفرد على حدود الله تعالى سواء أكان هذا التعدي صغيراً أو كبيراً. لأن الإنسان المسلم لا ينظر إلى صغر الذنب بل إلى من أذنب «لا تنظر إلى ضغر الذنوب بل انظر إلى من عصيت» (4). وهناك كلمات قرآنية مرادفة إلى الذنب وهي المعصية, الإثم, السيئة, الجرم, الحرام, الخطيئة, الفسق, الفساد, الفجور, المنكر, الفاحشة, الشرّ, اللمم, الوزر.















إن الذنوب على ثلاثة أنواع:-
1- 1- 1- اللمم: وهي السيئات الصغيرة جداً والتي يتجاهل الإنسان آثارها الجانبية لكونها أعمال غير محسوسة الأثر على الصعيد الشخصي. فإنها كالغبار الداخل الى الغرفة عندما يُترك ويُهمل يتجمع ويكون أكواماً من الرمل والوسخ قد يصعب على الإنسان إزالتها والتخلص منها, لأنها تكون عندئذ جزءً من حياته وبها تنمو حالة المعصية أكثر وأكثر. وهي مدخل إلى صغائر الذنوب.
2- 2- 2- الصغائر: وهي السيئات المحسوسة أو المنظورة أو المسموعة, والتي يتجاهل الفاعل آثارها الجانبية فتكون مدخلاً إلى كبائر الذنوب.
3- 3- 3- الكبائر: هي السيئات الكبرى, كالزنا, الخمر, أكل الميتة. وأول هذه الكبائر هو الشرك بالله تعالى, حيث إنه من الذنوب التي لا تغفر ﴿ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾. المائدة: 72.
وقد عدّ العلماء أكثر من 40 كبيرة قد تقتضي عقاباً دنيوياً أو اخروياً او كليهما( [4][4]).
روي عن الإمام موسى الكاظم u أنه قال: «دخل عمرو بن عبيد (العالم المعتزلي المعروف) على الإمام الصادق u. فلما سَلَّمَ وجلس تلا هذه الآية ﴿ الذين يجتنبون كبائر﴾. ثم أمسك فقال له الإمام u: ما أسكتك؟ قال: أحُب أن أعرف الكبائر من كتاب الله, فأجابه الإمام u: نعم يا عمرو.
الأول: أكبر الكبائر هو الإشراك بالله يقول الله ﴿ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ المائدة:72.
الثاني: اليأس من روح الله لأن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. يوسف:87.
الثالث: هو الأمن من مكر الله لأن الله عز وجل يقول ﴿ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾. الأعراف:99.
الرابع: هو عقوق الوالدين ﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾. مريم:32.
الخامس: هو قتل النفس التي حَرَّم الله قتلها ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾. النساء:93.
السادس: تهمة النساء المؤمنات بالزنا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. النور:23.
السابع: أكل مال اليتيم ﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾. النساء:10.
الثامن: الفرار من الزحف ﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. الأنفال:16.
التاسع: أكل الربا ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾. البقرة:275.
العاشر: هو السحر والشعوذة ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾. البقرة:102.
الحادي عشر: هو الزنا ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾. الفرقان:68-69.
الثاني عشر: هو اليمين (الحلف) الكاذبة ﴿ِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة﴾.
آل عمران:77.
الثالث عشر: هو الخيانة في الغنائم الحربية ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. آل عمران:161.
الرابع عشر: عدم دفع الزكاة الواجبة ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم﴾. التوبة:35.
الخامس عشر: كتمان الحق ﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾. البقرة:283.
السادس عشر: شراب الخمر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. المائدة:90.
السابع عشر: هو ترك الصلاة والفرائض الإلهية الأخرى ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾. المدثر: 42-44.
الثامن عشر: هو نقض العهد وقطع الرَحِم ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾. الرعد:25.
عندما وصل الإمام إلى هذا الحد كان عمرو بن عبيد يبكي وقد خَرَجَ من الإمام وهو يقول «هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعِلم»( [5][5]).
وقد فسر الفقهاء وعلماء الأخلاف الكبائر بعدة تفاسير وهي:
1- 1- 1- كل ذنب وردَ في القرآن وفيه وعد العذاب الإلهي.
2- 2- 2- كل ذنب وضع له الشارع المقدس حدّاً من القصاص كالزنا وشرب الخمر والسرقة والقتل ...الخ.
3- 3- 3- كل ذنب عله يُقصد به الإهانة من قبل مرتكبه وعدم الاحترام إلى شريعة الله.
4- 4- 4- كل ذنب ثبتت حرمة فعله بالأدلة القطعية.
5- 5- 5- كل ذنب حذر منه القرآن والسنة النبوية ومن مارسه يتعرض لعذاب الله في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.
وقد ذكر العلماء أكثر من 40 من الكبائر هي: الشرك بالله, واليأس من رحمة الله, والإطمئنان من مكر الله, والكذب على الله ورسوله والأئمة الأطهار, وقتل النفس المحترمة, وعقوق الوالدين, وأكل مال اليتيم, وتهمة الزنا بالعفيفات, والفرار من الجهاد, وقطع صلة الرحم, والسجر والشعوذة, والزنا, واللواط, والسرقة, واليمين الكاذب, وكتمان الحق, وشهادة الزور, ونقض العهد, والعمل خلاف الوصية, والسكر, وأكل الربا, وأكل مال الحرام, ولعب القمار, وأكل الميتة والدم, وأكل لحم الخنزير, وأكل الذبيحة التي لم يُذكر اسم الله عليها إلا بالإضطرار, والبخس في البيع, والتعرّب بعد الهجرة (يعني سفر الفرد من دار الإسلام إلى دار الكفر يكون فيه دينه ودين أطفاله في خطر), ومساعدة الظالمين, الإعتماد على الظالمين, والاحتفاظ بمالِ الآخرين بدون عذر, والكذب, والتكبر, والاسراف, والتبذير, والخيانة, والغيبة, والنميمة, والاستئناس بوسائل اللهو, والاستخفاف بالحج, وترك الصلاة, وعدم دفع الزكاة, والاصرار على ممارسة الصغائر من الذنوب( [6][6]).
قال أمير المؤمنين u: إن الذنوب ثلاثة؛ فذنب مغفور, وذنب غير مغفور, وذنب ترجو لصاحبه وتخاف عليه( [7][7]).
الذنوب المغفورة: هي الذنوب التي يُعاقب عليها الإنسان في ممارستها في الدنيا ويلطف عليه الله في الآخرة.
الذنوب غير المغفورة: هو الشرك بالله. وفي رواية أخرى الذنوب غير المغفورة هي تجاوز الناس بعضهم على بعض.
الذنب المرجو: هو الذنب التي يتوب صاحبها التوبة النصوح فيغفر الله تلك الذنوب بعد تلك التوبة النصوح والشاملة.




















عندما يمارس الإنسان الذنوب بصورة مستمرة فستكون هذه الممارسة الخاطئة حالة طبيعية لا يشعر بخطورتها, فتتحول عنده هذه الممارسات إلى كبائر يكون تأثيرها خارجاً من حدود الأفراد إلى المجتمع, وتكون الجريمة الإجتماعية أحد مصاديقها. ومن هذه الكبائر هي:

1- الإصرار على فعل الصغائر

عندما يمارس الإنسان الصغائر بصورة مستمرة, تتراكم هذه الذنوب بحيث يصعب إزالتها بسهولة, كمثل تجمع الخيوط الرفيعة بعضها فوق بعض فتكون حبلاً وليس خيطاً, لأن صاحب الخيط هو الذي يعمل الصغائر, ويتوب عن ممارسة الذنب مجدّداً ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. المائدة: 135.
عن رسول الله7: إياك والإصرار فإنه من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم.
كان رسول الله7 مع أصحابه فأمرهم بجمع ما يستطيعون من الحطب فذهب جميعهم وجلبوا ما يستطيعون من الحطب, جمعوه بعضه فوق بعضاً, فقال لهم الرسول7: هكذا تجتمع الذنوب( [8][8]).
وفي الحديث الشريف: إياكم والمحقرات مِنَ الذنوب( [9][9]).

2- تصغير الذنب وعدم الإعتناء بالمعصية.

عندما يستهين الإنسان بالمعاصي لصغائر ذنوبه فإنه يدخل مدخلاً خطراً يتدحرج به إلى كبائر من الذنب دونما تردد.
فعن الإمام علي u: أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه( [10][10]).
وعن الصادق u أنّه قال: إتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر, فسأله أحد أصحابه: ما هي المحقرات يا ابن رسول الله ؟ فقال u: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك( [11][11]).
وقال أمير المؤمنين u: شرّ الأشرار من تَبهَّجَ بالشَّرّ( [12][12]).
وقال u: من تلذذ بمعاصي الله ذلّ( [13][13]).
وعن السجاد u انه قال: إياك وابتهاج الذنب فإنه أعظم من ركوبه( [14][14]).
وقال u: لا خير في لذّة من بعدها النار( [15][15]).
وقال u: حلاوة المعصية يفسدها اليمُ العقوبة( [16][16]).
وقال رسول الله7: من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باكٍ( [17][17]).

3- الطغيان والتكبر.

عندما يطغى الإنسان ويتكبر يتحول جميع سلوكه إلى حالة غير إنسانية وتكون ضغائره كبائر وله الجحيم من النار:
﴿ َأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾. النازعات: 37-39.

4- الأمان من مكر الله.

عندما يرتكب المغرور الذنب ويبرر لنفسه التوبة وأن الله يرضى عن عمله, ولو لم يكن الله غافراً له لجازاه عن أعماله التي ارتكبها بسرعة. إذن هو من الصالحين في قاموس نفسه وما يدري أن الله قد أمهله العذاب.
﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. المجادلة: 8.

5- التجاهر بالذنب.

من تجاهر بمعصيته وإن كانت صغيرة, فتكون من الكبائر لأنّ في التجاهر إفساد للمجتمع, وتتحول المعاصي إلى حالة طبيعية في المجتمع, وهذا ما يرفضه الإسلام.
فعن علي u: إياك والمجاهرة بالفجور فإنّها من أشدّ المآثم( [18][18]).
وعن الرضا u: المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة والمذيع بالسيئة مخذول( [19][19]).

6- ذنب من له مسؤولية إجتماعية

المسؤول الإداري أو الإجتماعي أو السياسي, يجب أن يكون القدوة في كل سلوكه, وإذا قَصَّرَ أو أذنب, وإن كان ذنبه ضغيراً فسيكون كبيراً لأن في زلّته بُعدين: بعد إجتماعي وبعدٌ فردي, قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ﴾. الحاقة: 44.

7- ممارسات أهل البدع.

أهل البدع الذين تسببوا في إنحراف الكثير من الناس مع علمهم كاملاً بالحق أين هو, فهم يحملون الحق ويعرفونه, ولكنه الطغيان الذاتي يجعلهم لا يعرفون شيء ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾. الجمعة: 5.
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾. الأعراف: 176.
وفي رواية:
«إذا فسد العالِم فسد العالَم» وقوله7: «لا يصلح عوام أمتي إلا بصلاح خواصها...
فسئل: من خواص أمتك يا رسول الله7؟..
قال7: «خواصُ أمتي أربعة, الملوك والعلماء والعُبَّاد والتُجّار».
فسأله آخر وكيف يا رسول الله؟ فقال7.. «الملوك رعاة الناس... عندما يكون الراعي ذئباً كيف يحرص على غنمه, والعلماء أطباء الناس.. عندما يكون الطبيب مريضاً كيف يداوي الناس, والعُبّاد دليل الناس عندما يكون العابد ضالّاً كيف يهدي الناس, والتاجر أمين الناس... عندما يكون التاجر خائناً كيف يطمئن إليه الناس»( [20][20]).
وقال7«في يوم القيامة لا ينظر الله تعالى إلى ثلاث, شيخ زانٍ, ملك جَبَّار, ومُقِلٍّ محتال»( [21][21]).
قال u: «زَلّّة العالِم تفسد العوالم»( [22][22]).
وقال u «زلّة العالِم كانكسار السفينة تَغرق وتُغرِق معها غيرها».












كما أن الضعف والكِبَر في السِّن يؤدي إلى الكسل وتعدد الأمراض, كذلك الخلل في البناء الأخلاقي للإنسان يكون مفتاحاً لأنواع الذنب, ومن هذه المفاتيح هي:
1- الحسد وقد جاء فيه: «الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».
2- البخل والحرص وقيل فيه: «والبخل جامعٌ لمساوئ العيوب, وهو زمام يُقادُ به إلى كل سوء».
3- الكذب وقد قال7 فيه: «جُعلت الخبائث كلُّها في بيت وجُعِلَ مفتاحها الكذِب».
4- الغضب وسوء الخلق, وقد قال الرسول7 «الغضب مفتاح كل شر».
وهناك الكثير من مفاتيح الذنوب الأخرى منها الجبن, والتكبّر, وأكل الحرام وغيرها من الأعمال القبيحة التي تؤدي إلى الهلكات, وقد لُعِنَ الكثير من هؤلاء, ومنهم الكفار والمشركون, واليهود الذين أنكروا الحق, والمرتدون, والمتحايلون على قانون الله سبحانه وتعالى, والناكثون للعهد, والذين يكتمون الحق والذين أنكروا الحق, والمفسدون في الأرض, والمنافقون, والظالمون, والقاتلون, وإبليس, والذين يتهمون المؤمنات الطاهرات, والعاصون لأمر الصالحين, والمحبون لانتشار الفاحشة والفساد, والذين آذوا الرسول7 والمؤمنين, والكاذبون, والمتحايلون, والمحرفون لكتاب الله سبحانه وتعالى, و الذين يدعون إلى الخير ولا يعملون به, والذين يأكلون سهم المجاهدين, والذين يحاربون الله ورسوله.
هذه صورة مختصرة لمفاتيح الذنوب التي يحملها الإنسان وقد حَذّّرَ الله سبحانه وتعالى منها وهو لطف وإحسان منه حتى يجنبنا السقوط في مهاوي التردي والسقوط في دائرة الهوى الشيطاني.
﴿ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً﴾. النساء: 6.
﴿ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. النحل:36.
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنََ﴾. المائدة:151.
***






















خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة ومعها العقول دون الشهوات, وهي مأمورة بطاعة الله سبحانه وتعالى في تكوينها, وخلق الله سبحانه وتعالى الحيوانات ومعها الشهوة والغضب التي تتحكم بها, وخلق سبحانه الإنسان من قبضة طينية تتحكم بها الشهوة ونفحة إلهية تتحكم بالعقل «وشرف الإنسان بإعطاءه الشهوة والعقل» فإذا غلبت الشهوة العقل أصبح الإنسان دون مستوى الأنعام ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾. الفرقان: 44, وإذا غلب العقل الشهوة أصبح أفضل من الملائكة.
والانسان تتحكم فيه ثلاثة قوى هي قوة الشهوة, والغضب, والوهم والخيال, ولا بد من سيطرة العقل على هذه القوى. فإذا غُلِبَ العقل يعني يتحول الإنسان إلى حالة شرسة في قواه الشهوية, تؤدي إلى تلوث المجتمع وفساده, لذا فإنَّ:
أول عوامل نشأة الذنب هو غلبة قوى الشهوة على عقل الإنسان.
أما الثاني: هو الوسواس الذي يسيطر على عقل الإنسان فيفقده مصداقيته الحقيقة, فتكون الخبائث عنوانه والممارسة السيئة هدفه.
والثالث: هو سوء النية التي تغذي الإنسان بالأعمال السيئة.
والرابعة: هي طغيان حالة البغض على عقل الإنسان.
والخامسة: طغيان حالة التفكير بالمعاصي وقد قيل فيه:
«من فكر بالمعاصي دعته إليه». فعندما تفقد الشخصية الإنسانية مصاديقها الإيمانية والإنسانية, تكون عندها الممارسة العملية للذنب أو التفكير به من المسائل العادية لديها.
















هناك العديد من المنابع المهمة التي تشكل الأرضية الخصبة لممارسة الذنب ومن أهم هذه المنابع هي:
1- الجانب التربوي الثقافي.
2- 2- 2- الجانب الإقتصادي.
3- 3- 3- الجانب الإجتماعي.
4- 4- 4- الجانب النفسي.
5- 5- 5- الجانب السياسي.
6- 6- 6- الجانب العائلي.



1- الجانب التربوي والثقافي




من محاور هذا الجانب:

أ- الجهل

الجهل معدن الشرّ وأصل كل شرّ, لأن فيه الشقاوة والتعدي. الجهل كالظلام الدامس بلا نور يسير الإنسان فيه على غير هدى ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ الأعراف: 138.
﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ النمل: 55.
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ يوسف: 89.
وعن أمير المؤمنين u أنه قال: «لا يجتري على الله إلا جاهل شقي»( [23][23]).
وقال u: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك , وجاهل متنسك»( [24][24]).
قال u: «الجهل معدن الشر».
وقال: «الجهل أصل كل شر».
وقال: «الجهل يُفسدُ المعاد».
الخلط في المفاهيم وسيلة من وسائل انحراف الأمة وتكون إلى الباطل أقرب منها إلى الحق. ولهذا الكلام الإسلام على حفظ المفهوم الإسلامي وجَعلَ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة. لأن في ذلك حفظ للمفهوم والقانون الإسلامي ويمنع أهل الهوى من التجاوز على حرمات القوانين والسُنن الإسلامية. وقد شدّد الإسلام على حفظ القانون الإلهي لأن قداسته تكمن في حفظه وعدم تجاوزه حتى لو كان الشخص الذي تسري عليه القوانين نبي من أنبياء الله. فمثلاً حينما عَزَمَ النبي أيوب بعد الضُر والمرض الذي أصابه أن يُنَفِّذ ما عَزمَ عليه في ضرب زوجته 100 سوط لتأخرها ذات يوم عما كلفها به في وقت كانت تعمل من أجل جلب القوت إلى زوجها. وبعد أن عَرَفَ أن زوجته لم تكن مخالفةً له, ولكن عليه أن ينفذ العهد الذي عاهد به الله وعاهَد نفسه. وحفاظاً على احترام القانون... أعانه الله بشئ, هو أن أمَرَهُ أن يجمع مئة من سيقان الحنطة ليضرب بها زوجته مرة واحدة بدل الأسواط ويكون بذلك حافظ على العهد ونفذ القانون الذي سنَّه على نفسه ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾. سورة ص: 44.
أو قصة ذلك الرجل الذي وقع في حبائل الشيطان وزنى وكان مريضاً وقد اعترف بذنبه أمام رسول الله7. وقانون الحد من الزاني غير المحصن (غير المتزوج) هو مئة سوط. لكن مرضه يتعارض مع تنفيذ العقوبة, فأمَر رسول الله أن يجلبوا له عرجون نخلة مع أغصانه (العذق الذي يحمل التمر) ويضرب هذا الرجل الزاني والمريض مرة واحدة فيكون بذلك قد نفذ القانون وحافظَ على حرمته وراعى حالة الرجل المريضة. عن الصادق u بخصوص هذه القصة «فأمَرَ رسول الله بعذقٍ فيه شمراخ, فضَرَبَ به الرجل ضربة, وضُربت المرأة ضربة ثم خُلِّيَ سبيلهما»( [25][25]).
إن الإنسان عندما يتجاوز على السُنن والقوانين الإلهية يكون بذلك قد أحدث بدعة والبدعة ضلالة وصاحبها في النار.
وعن أمير المؤمنين u «وإنَّ شَر الناس عند الله إمام جائر ضلَّ و ضُلَّ به فأمات سُنة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة»( [26][26]).
وقال u «من مشى إلى صاحب بدعةٍ فوقّره فقد سعى إلى هدم الإسلام»( [27][27]).
كان رجلاً يُسمى فارس يدعوا الناس إلى الفساد, أجاز الإمام الصادق u قتله وضَمَنَ لقاتله الجنة, فسارع أبا جنيد إلى قتله بالساطور( [28][28]).
وقال u: «إياكم والجهّال من المتعبدين والفجّار من العلماء فإنهم فتنة كل مفتون»( [29][29]).
وقال u: «لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مُفَرِّطاً»( [30][30]).
وقال u: «إلى الله أشكو من معشرٍ يعيشون جُهالاً ويموتون ضلالاً»( [31][31]).
وعن الصادق u «إن بني أميَّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه».
نعم الجهل والحماقة مفتاح من مفاتيح الذنوب الكبيرة التي تؤدي بالفرد والمجتمع إلى الهلاك والدمار. فإن بني أمية عندما يسعون إلى منع الأمة من أن يتعلموا الشرك. ويتعلموا الإيمان فقط لأنهم لا يريدون من الأمة أن تعرف كيف تشخص بين الحق والباطل, بين الإيمان وبين الشرك, لأنه لو استطاع الناس أن يشخصوا الشرك من الإيمان فمعنى ذلك أن الناس لا تستطيع أن تصبر على ظلم وفسق وشرك حكومة بني أمية الظالمة, لذلك كان جهل الناس بالشرك هو الذي حملهم على محاربة أمير المؤمنين u ومحاربة الإمام الحسن u ومحاربة الإمام الحسين u, وجهل الناس هو الذي مكَّن بني أمية من أن يمارسوا أبشع أنواع القتل لأصحاب أهل بيت العصمة والطهارة... وجهل الناس هو الذي دفع ببني أمية أن يتهموا الحسين u بالخارجي.


ب- اتباع القوانين والسنن المغلوطة


القانون الإجتماعي المتكامل هو القادر على تحصين الأمة من السقوط في متاهات الذنوب, لأنه يعالج جميع أركان الحياة, وحينما يبتعد الإنسان عن القانون الإلهي ويتسمك بالسنن المغلوطة التي يبتدعها الإنسان ويخالف بها كتاب الله يكون بذلك قد كسر حجب القداسة في نفسه.. ومن هذه الممارسات المغلوطة هي:
1- 1- 1- تغيب القانون الإسلامي في المجتمع والإعتماد على القوانين والسنن الوضعية.
2- 2- 2- الإباحية والاختلاط الفاحش وانتشار السفور.
3- 3- 3- تقييد الحريات والملكيات الخاصة.
4- 4- 4- إباحية وسائل الفساد في المجتمع.
5- 5- 5- غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ج- تحريف المفاهيم الإسلامية

عندما يتعامل الإنسان بتبعبيض المفاهيم والأحكام الإسلامية التي تنسجم وأهواءه ويرفض تلك التي لا تنسجم معه, ويمزج الأفكار والمفاهيم الوضعية مع متبنياته الإسلامية المتبعضة, يكون بذلك قد سن سنة سيئة في انحراف الأفراد أو المجتمع. والإمام الجائر هو الذي يحيي مثل هذه السنن المغلوطة والبُدع لكي يثبت أركان حكمه معتمداً على أمثاله من أهل المعاصي. والناس على دين ملوكها في المفهوم العام. فيبدأ الإنحراف يتحكم بالمجتمع ويكون أهل الحق في حصار مستمر نتيجة لاستحكام السنن المغلوطة في المجتمع وطغيان المعاصي.

د- الإعلام المُضلِّل

الإسلام دين الحرية والتسامح, ويمنع استخدام القوة في الإنتساب إليه حيث ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. البقرة: 256. ولكن هذا لا يعني أن يَستَغِل الإنسان مفهوم الحرية ويمارش إشاعة الفحشاء بالوسائل الإعلامية المكتوبة أو المسموعة أو المرئية. لأن الكثير من الذين يجهلون الدين ومفاهيمه سوف يتأثرون ويمارسون الذنوب تحت العناوين الإسلامية الظاهرية, وهذه من أخطر الممارسات ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ .. وقد يستغل أهل الجهل الإعلام المضل تحت عنوان الحرية وينطلقوا بالإساءة إلى مفهوم الحرية على أساس التحدث عن:
1- 1- 1- حرية المرأة المطلقة وتَبرّجها في المجتمع.
2- 2- 2- حرية الإختلاط بين الجنسين.
3- 3- 3- حرية المرأة في الطلاق من الرجل متى شاءت.
4- 4- 4- إلغاء قوانين العقوبات الجنائية الشديدة في تصوراتهم على أساس أنها ضد الحرية.
5- 5- 5- حرية إباحة المشروبات المحرَّمة.
6- 6- 6- إشاعة مفهوم الربا في العمليات الإقتصادية على أساس الإقتصاد الحر. والعشرات من غيرها من الحريات المزعومة. فيتحول بعد ذلك المجتمع إلى كتلة من الممارسات اللاإسلامية واللاشرعية التي تفتِّت المجتمع وتطغى فيه الممارسات المنحرفة.

هـ - التقليد والتلقين الأعمى

التقليد في المسائل الإسلامية والمسائل الحسنة إجتماعياً وبالطريق الصحيح, هذا ما يقبله الإسلام ويشجعه, أما إذا كان التقليد بصورة تفكير غير سليم وتكون العواطف غالبة على العقل, فهذا هو التقليد السلبي الذي يؤدي إلى الإنحرافات والأخطاء ويؤدي إلى كثرة الذنوب. وقد يستفاد كذلك من التلقين الإيجابي لتكريس المفاهيم الإيجابية في المجتمع. فمثلاً وردت كلمة لفظ الجلالة 2807 مرة في القرآن الكريم لتكريس المفهوم الإيجابي للتوحيد. أو وردت ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أكثر من 45 مرة أو ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ 78 مرة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ 10 مرات, هذا التكرار هو لتذكير الناس وتلقينهم عمل الخير حتى يستفيد منها الناس في واقعهم العملي. فالتقليد والتلقين الإيجابي حالة جيدة. أما التقليد والتلقين السلبي فهو حالة خطرة على الفرد والمجتمع. وقد روي عن رسول الله7: «لا تلقنوا الكذب فتكْذِبُوا».
وقد استفاد أولاد يعقوب u من تلقين أبيهم حينما حذرهم من أخذ يوسف حتى لا يأكله الذئب. فعندما أخذوه استفادوا من تلقين أبيهم وقلدوا حديثه معهم وقالوا له يا أبانا إن يوسف أكله الذئب. والتقليد أربعة أنواع وهي:
تقليد العالم للعالم.
تقليد الجاهل للعالم.
تقليد العالم للجاهل.
تقليد الجاهل للجاهل.
وأفضل التقليد هو تقليد الجاهل للعالم, وغيره من التقليد باطل لأنه لا يحقق الفائدة ولا يخدم الدين والمجتمع ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾. ابراهيم: 10. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾. البقرة:170.

و- غياب المثل الأعلى الصالح في فكر الإنسان

حينما يغيب النموذج الصالح عن فكر الإنسان وعن ضميره ووجدانه يتحول هذا الإنسان إلى كتلة من اللحم والعظم دون العقل فيغرق في بحر الذنوب. متخبطاً بالأفكار السوداء التي تتهافت على تفكيره. وقد أكَّدَ القرآن الكريم حول الأسوة الحسنة. ففي سورة الأحزاب الآية 21 والممتحنة 4,5 صورةٌ حيّة للأسوة الحسنة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ﴿ َدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾.

ز- كتمان الحق

كتمان العلم, كتمان الحق, كتمان كل عملٍ صالح يخدم الإنسانية يعتبر من العوامل المؤدية إلى الإنحراف الإجتماعي ويكون بذلك مصدراً للذنوب وقد نهى القرآن الكريم كثيراً عن ذلك, فقال تعالى ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وفي الحديث الشريف «من سُئِل عن علمٍ يَعلَمهُ فَكتَم, لُجِمَ يَومَ القيامةِ بلجام»( [32][32]).






2- الجانب العائلي




للعائلة دور كبير في صياغة توجهات الطفل بالطريقة السليمة أو بالطريقة المنحرفة, فحينما تكون الحالة التربوية قلقة يسودها الاعوجاج والانحراف الإجتماعي إلا إذا أدركتها الرحمة الإلهية واهتدت. فالحجر الأول إن وضعه المعمار أعوجاً فسوف يكون الحائط أعوجاً حتى إذا شيده إلى السماء, فالتربية الصالحة في الأسرة تكون كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. أما التربية الخبيثة بالأسرة تكون كالشجرة الخبيئة التي اجتُثّت من فوق الأرض مالها من قرار. والعوامل العائلية المؤثرة في تكوين الطفل نفسياً وتربوياً هي:
‌أ- ‌أ- ‌أ- طريقة إنتخاب الزوجة.
‌ب- ‌ب- ‌ب- العوامل الوراثية.
‌ج- ‌ج- ‌ج- التربية العائلية.
‌د- ‌د- ‌د- الأكل ومصادره.




أ‌- أ‌- أ‌- طريقة إنتخاب الزوجة

الزواج في المفهوم الإسلامي من العناصر المهمة في تكوين الأسرة وعلاج المشاكل الإجتماعية, ويؤكد الإسلام على انتخاب الزوجة أو الزوج الصالح لما له من تأثير على الأبناء في العملية التربوية.
فقد ورد عن رسول الله7 «أيها الناس إياكم وخضراء الدِّمَن.
قيل يا رسول الله وما خضراء الدِّمَن؟
قال7: المرأة الحسناء في منبت السوء».
بعد رحلة السيدة فاطمة الزهراء Fطلب الإمام على u من أخيه عقيل أن يخطب له أمرأة معروفة النسب والكرم والشجاعة والطهارة, حتى تَلِدَ الولد الكريم الشجاع, فاختار عقيل له إمرأة من بني كلاب وهي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية. فخطبها عقيل وزوجها لعلي u وانجبت له أربعة أولاد وكانت تسمى بأم البنين. وكان منهم أبو الفضل العباس u. واستشهدوا جميعاً في كربلاء مع الإمام الحسين u.
وفي وصية أمير المؤمنين علي u إلى مالك الأشتر (رض) طلب منه أن يعتمد على البيوتات الصالحة في أعماله ومسؤولياته «ثم الصقْ بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة».
ثم فال u «وتوخَّ مِنهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام»( [33][33]).

ب- العامل الوراثي

الصفات الحسنة والصفات السيئة في الزوج والزوجة تنتقل إلى الأبناء والبنات وراثياً. كالشجاعة والإيثار وسلامة الجسم من الأمراض الوراثية (الجسمية والعقلية) لأنها تنتقل إلى الأولاد ﴿ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾.
وعن رسول الله7 ورد أنه قال: «الشقي شقي في بطنِ أمِهِ والسَعِيد سعيدٌ في بطن أمِهِ»( [34][34]).
وعن علي u «حسن الأخلاق بُرهان كَرَم الأعراق».
وحادثة محمد بن الحنفية لها دلالة خاصة في بحثنا هذا. وذلك حينما تردّد في أن يتقدم للمعركة عندما كان في قيادة أحد الأجندة نتيجة لكثرة السهام, فوكزه الإمام u وقال له «أدركك عِرقٌ من أُمِكَ».
إن من علائم الولد غير الصالح هو عداءه لأهل البيت E, وميله للعمل الحرام, وإستخفافه بالدين والتعامل السيء مع الناس. لأن هذا المولود لم تكن نطفته طاهرة. والقانون الوراثي له تأثيره على الوضع الجسمي والروحي النفسي والأخلاقي للإنسان ويعتبر من أهم العناصر الأساسية في بنية الإنسان.

ج- التربية الصالحة وآثارها

المسؤولية الإجتماعية والإسلامية تدعونا لأن نفكر تفكيراً عميقاً في مسائل التربية الصحيحة, فرعاية الصغير وحفظ مساره التربوي بالاتجاه الصحيح سوف يُنشئ مجتمعاً صالحاً, بينما إذا تُرِك الصغير ينشأ في الوسط الإجتماعي دون مراقبة وتوجيه سيكون سلوكه وتصوراته ملتوية بحيث يصعب على المجتمع استيعابها وإصلاحها كمثل المزارع الذي يترك شجرة بلا عناية ورقابة, فإنها سوف تنشأ معوجة يصعب بعد ذلك تقويمها وحفظها في مسارها الصحيح.
وقد ورد عن لسان رسول الله7 أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانَهُ».
وقال u «رَحِمَ الله والِدَين أعانا وَلَدَهما على برِّهما».
وعن أمير المؤمنين u «وحق الولَد على الوالِد أن يُحسِن اسمَهُ ويُحسِن أدبه ويُعَلِّمَهُ القرآن»( [35][35]).
إن إحترام الأبناء وإبراز شخصيتهم ومحاسبتهم على مخالفتهم طبقاً لأعمارهم والعفو عن بعض أخطاءهم, وتنمية شخصيتهم بالطريقة الصحيحة واحترام آراءهم, كلها عوامل أساسية في تقويم الأبناء من الإنحراف وعدم السقوط في مهاوي الذنوب والمعصية, لأن الكلام السيء والتحقير وعدم الإلتفات إليهم يؤدي بهم إلى المعصية والإنحراف, وهذه الحالة سوف تتراكم في ذهن الطفل حتى الكبر فتنعكس على شخصيته وتُنميّ عنده عقدة الحقارة والتساقط في شخصيته ويكون مسارعاً إلى الممارسات الخاطئة.
فعن رسول الله7 روي أنه قال «لا يكذب الكاذب إلا من مهانةِ نفسهِ».
وعن أمير المؤمنين u أنه قال «من كرمت عليه نفسه لم يُهنها بالمعصية».
وعن علي الهادي u قوله «من هانت عليه نفسُهُ فلا تأمن شرّه».

فالاهتمام بالطفولة هو اهتمام بلبنات المجتمع وإذا أهملت هذه اللبنات تكون أساس العديد من البواعث والحوافز الدافعة إلى ممارسة الذنب والجريمة في المجتمع.
ومن جملة الأمور الحساسة في ذلك هو تخديش مشاعر وأحاسيس الطفولة لأن تخديش مشاعر الطفولة من شأنه أن يترك الأثر السلبي في ذهن الطفل إلى الكبر. وقد ورد عن رسول الله7 «إياكم وأن يجامع الرَجُل إمرأته والصبي في المهد ينظر إليهما» والآية 58, 59 من سورة النور وضعت حدوداً للأطفال والخدم الصغار من دخول غرفة الأزواج في أوقات الصباح والظهر والمساء, وحذرت من دخول الكبار في أي وقت من دون استئذان. وهي جميعها للحصانة من الأنحراف والسقوط.

د- الأكل الحلال والحرام

كما ان الأكل المسموم يسمم جسم الإنسان, كذلك الأكل الحرام يلوث روح الإنسان, فأكل الحرام فيه الأضرار الجسمية والروحية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية. وأشدّ أنواع الحرام هو أكل السحت, وأكل ما نهى الله عنه من الطعام والشراب, وأكل مال الرشوة, وأكل مال اليتيم.
وقد جاء عن الباقر u قوله: «الذنوب كلها شديد وأشَدَّها ما نبت عليه اللحم والدم»( [36][36]).
وقد ورد في الحديث الشريف «إنّ الرجل إذا ما أصاب مالاً من حرام لم يُقبَل منه حج ولا عمرة ولا صِلَة رَحِم»( [37][37]).
وكذا ورد عنهم E قولهم: «ما من عبادة أفضل من عفّة البَطْنِ والفَرْجِ»( [38][38]).
وعن رسول الله7 قوله «من أحبَّ أن يُستجاب دعائه فليُطب مطعمه وملبسه»( [39][39]).
وقد جاء رجل إلى رسول الله7 وقال: يا رسول الله أحب أن يُستجاب دعائي.
فأجابه الرسول بالقول7: «طهر مأكلك ولا تُدخل بطنك الحرام»( [40][40]).
وبما ان أول ما يطعم به الطفل هو الحليب, ولهذا أكّد الإسلام على حليب الأم لما فيه من الآثار المادية والمعنوية على الطفل, وحينما يكون هذا الحليب لا سامح الله ملوّث فسوف يؤثر على تفكير وبنية الطفل البدنية والسلوكية. وقد أشار رسول الله7 في قوله «لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يعدي وإن الغلام ينزع إلى اللبن»( [41][41]). إلى هذه الخصيصة.
وعلّله في حديث آخر : «فإن اللبن يَغلِبُ الطباع».
وكذا في حديث ثالث: «فإن الولد يشبُّ عليه»( [42][42]).
وسئل الإمام الكاظم u أن أمرأة زانية ولدت بولد هل يصلح أن يعطى من حليبها؟
فقال u: «لا يصلح ولا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا»( [43][43]).
وقد روي عن الباقر u أنه قال لمحمد بن مروان: «استرضع لولدك بلبن الحسان وإياك والقباح فإن اللبن قد يعدي»( [44][44]).
وعن أمير المؤمنين u روي قوله: «تخيروا للرضاع كما تتخيرون للنكاح فإن الرضاع يُغيّر الطباع».
نعم الرضاعة الطاهرة سوف تترك الأثر الإيجابي في حياة الطفل وتغذيه بالطهارة والصلاح, وإن كانت الرضاعة ملوثة فإن الطفل يتغذى بالخبث والفساد وبذا يكون هذا الطفل محمّلاً بالنوازع الشريرة التي تساعده على ارتكاب الذنوب.



3- الجانب الإقتصادي




الفقر والغنى مصدرين من مصادر الإنحراف والذنوب لأن الفقير سوف ينتقم لفقره ويمارس اللامشروع لسد العجر في فقره. والغني يمارس الحالة الطاغوتية والتكبر غروراً بماله وثروته وكلاهما قد وقعا في فخ الشيطان ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾.
صاحب المال عندما يعيش الحالة القارونية ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ فسوف يبخل من إعطاء حق السائل والمحروم ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
وحينما يجهل الإنسان أن المال هو مال الله وما عندنا هو من الله, لأن الله هو الرازق وقد وردت أكثر من 30 آية تؤكد هذا المعنى, وقد ذَكَّرَنا الله تعالى بنموذجين ممن أتاهم الله مالاً حيث إن أحدهما بَخَل واستكبَر وطغى, والثاني على عكسه صار نموذجاً في السماء وقادته نفسه إلى شكر الله على ما آتاه ذلك هو قارون وسليمان. قارون الذي قال ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ وسليمان قال ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾. النمل: 40. الله تعالى أعطى سليمان البسطة بالعلم والنِعَمْ الكثيرة بينما سلب ذلك من قارون وخَسَفَ به وبداره الأرض لإفساده وطغيانه ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾. القصص: 58.
كذلك الفقر فهو الموت الأكبر والموت خير من الفقر, والفقر منقصة للدين, مدهشة للعقل وداعية للمقت, لأنه يشكل خطراً إجتماعياً كبيراً مثل ما يشكل الإسراف والترف الخطر الإجتماعي على الأمة. وفد أكد الإسلام على عدة جوانب يحارب بها الغنى غير المشروع ويجارب الفقر وذلك من خلال:
1- سنة قاعدة: أن الناس متساوون في الحقوق الطبيعية على كافة الصعد. وبهذه القاعدة قنّن الإسلام العلاقات الإجتماعية وما ينفرز منها على أساسها.
2- إن المال والثروة هي أمانة الله عند الإنسان فلا يجوز له أن يخون الأمانة ويحرم الفقراء منها وفقاً للقاعدة السابقة.
3- العمل في الإسلام عبادة وعزة للمسلم لأن العمل إنما هو ممارسة لدور الأمانة الذي أشرنا إليه. ومن دون عمل فلا أمانة لمؤتمن.
4- لا بخل ولا إسراف في الإسلام لأن الثروة ثروة الجميع وفق ما قررناه أعلاه.
5- الموارد التي يحصل عليها الفرد تخضع لمعايير القانون الإسلامي المرتبطة بسياسة توزيع الثروة وتنظيم الصرف هو الآخر يخضع للقوانين الإسلامية التي تُسيّر المجتمع نحو أفضل طريقة ممكنة في تحريك موارد الإنفاق بشكل يؤمن الصالح الخاص والعام. وجعل حركة الصالح الخاص مرتبطة بمدى استفادة العام وعدم تعارضها مع الصالح العام.
6- حقوق الفرد والمجتمع محفوظة في الإسلام وفقاً لقاعدة الأمانة حيث إن ذلك هو الذي يحدد حجم الحق, ويفصل بدقة ما بين الحقين.
7- العمل الكاذب يبغضه الإسلام ويحاربه.
8- التكدي والتقاعس والتكاسل من الأمور التي يحاربها الإسلام... ففي الحديث الشريف: «احمل على رأسك واستغن عن الناس»( [45][45]).
وقوله u «ملعون من ألقى كَلَّه على الناس»( [46][46]).
9- الإسلام أكّد على العمل وبارك في العمل «طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة». لأن في العمل بركة وفي العمل جلب القوت.. لأن الخبز هو قوام استمرار المجتمع بحركته. وعن رسول الله7 روي قوله «اللهم بارك لنا في الخبز, ولا تفرّق بيننا وبينه, فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا»( [47][47]).
العمل هو دعامة الإقتصاد الإسلامي وهو الركيزة التي تبعد الأمة عن الكسل والفقر. وقد كان الأنبياء والأئمة الأطهار يعملون لأن العمل مفتاح سعادة الإنسان, والعمل طريق النجاح في الحياة لكسب الغنى والابتعاد عن الفقر.
ولنستعرض هنا بعض الشواهد التاريخية على الدور المترتب على ممارسة المعصية من خلال البعد الإقتصادي:
1- تراجع ثعلبة الذي عاهد الله لئن آتاه مالا ليتصدق به وحينما أكرمه الله تعالى بالمال الكثير... بَخلَ وتراجع عن دفع الزكاة كما عاهَدَ الله عليه ... فنزلت بحقه آيات تدينه وتتهمه بالنفاق في الآية 75-76 من سورة التوبة.. وذلك من فعل الشيطان وسيطرة حب الذات والطمع بمال الدنيا مما جعله يبخل عما آتاه الله من المال.
2- خسارة المسلمين يوم أحد بعد أن حققوا النصر في الوهلة الأولى والسبب هو فشل المسلمين في الوقوف أمام مغريات الغنائم, وتنازعهم على الغنائم, ومعصيتهم لأمر الرسول7.
3- مشاركة بعض من أصحاب الإمام الحسن وبالخصوص عبيد الله بن العباس مع معاوية في تحطيم جيش الإمام الحسن بسبب ضعف عبيد الله أمام إغراءات معاوية المالية الضخمة .. مما اضطره إلى قبول الصلح مع معاوية.
4- مشاركة عمر بن سعد في معركة الطف ضد الإمام الحسين مقابل ملك موعود هو ملك الري في إيران.
5- نشأة مذهب الواقفية بعد رحيل الإمام الكاظم u وذلك لطمع وكيل الإمام بالأموال التي كان يحصل عليها من أتباع الإمام خلال غياب الإمام في السجن, واتهام الإمام الرضا u بأنه ليس بإمام, وليس هناك إمام بعد الكاظم u.
إن المال القليل الذي يُصاحبه القناعة والشكر خيرٌ من المال الكثير الذي يُصاحبه الطغيان والفساد. فعن رسول الله7 «إنَّ ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى»( [48][48]).
وحينما يُبتلى الإنسان بالفقر أو الغنى فيكون الإنسان في اتجاهين, إما أن يصبر ويشكر, وإما أن يجزع ويتكاسل نتيجة لهذا البلاء, وقد حارب الإسلام الكسل والجزع لأنهما منقصة في الدين ومدخلاً للشيطان لارتكاب المعاصي والهلكات.
فعن الصادق u أنه قال: «إياك والكسل والضَجَر فإنّهما يمنعانَك من حظك من الدنيا والآخرة»( [49][49]).
«ومن كَسَلَ عما يُصلح به أمرَ معيشته فليس فيه خيرٌ لأمرِ دينه».
وروي عن الكاظم u «إنَّ الله يَبغضُ العبدَ النَّوام الفارغ».
وفي الحديث الشريف: «إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تعمل وإن ضجرت لم تعطِ الحق»( [50][50]).
نعم الكسل والضجر والجزع وفقدان الصبر والشكر جميعها عوامل شيطانية تُنسي المرء ذكر الله تعالى وتؤدي به إلى المعاصي والارتماء في شباك الشيطان فتنتج عن ذلك ممارسات دنيوية تكون المعصية محورها.



4- الجانب الإجتماعي




أ- المحيط الإجتماعي

للمحيط الإجتماعي أثره الفعال في ترك بصماته الإيجابية أو السلبية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الأشخاص وعلى المجتمع, ومصادر المحيط الإجتماعي هي الأسرة, المدرسة, الشارع, المجالس العامة, وسائل الإتصال الجماعي والفردي كوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة, وغيرها. فتارة يعيش الإنسان في محيط إجتماعي نقيّ وينتقل إلى محيط إجتماعي ملوّث لظروف معينة قاهرة فُرِضت عليه, فهنا يكون الفرد المبتلى باتجاهين لا ثالث لهما, إما أن يتحصن وتقوى شخصيته وتبدأ عملية التآكل من الداخل في الأفكار والروحية وبعدها تبدأ عملية التساهل في قضية الذوبان في المجتمع الملوث وممارسة كل ما حَرَّمهُ الله بإباحية وتحدٍ لمشاعره ومتبنياته السابقة مندمجاً بالمجتمع الجديد.
وحالة أخرى هي أن ترفض كل ما في المجتمع الجديد من إيجابيات وسلبيات في محاولة للحفاظ على كل الأفكار والمشاعر الإجتماعية المحمولة سابقاً تحسباً من عملية الأختراق, وهذا نوع من الصلابة السلبية التي لا يمكن أن يطيقها الصغار, فتتولد حالة من العقدة الداخلية, وإن لم يفصح عنها الطفل أو حتى الكبير لاعتبارات أسرية أو عرفية, ولكن يرفضها جزئياً أو كلياً في غياب الأسرة والعرف, وهذه الحالة تولِّد حالة نفاق يكمن خطرها في إزدواجية السلوك وتكون النتيجة كسابقتها.
أما الحالة الثالثة في التعامل مع المحيط, هو تحصين الأسرة والأفراد من داخلهم من خلال التعامل مع إيجابيات المجتمع وإعطاء الدليل المناسب الذي ينسجم مع عقل وتفكير الطفل أو الكبير, ورفض كل شيء سلبي في المجتمع, وكذلك إعطاء الأسباب, لذلك هذه الطريقة يستطيع أن يتعامل معها الطفل أو الكبير على أساس أن ما في يد الكفار ليس جميعه هو غير جيد, بل لديه أمور إيجابية فلنأخذ بالإيجابيات ونترك السلبيات وبذا نكون قد حصَّنّا أنفسنا وأطفالنا بطريقة إيجابية حول الكيفية التي نتعامل بها مع المحيط الإجتماعي الملوث. ولننقل بعض الصور القرآنية التي تعرضت لذلك:
1- ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾. الأعراف: 138.
نلاحظ في هذه الآية مدى التأثير الذي أصاب بني إسرائيل حينما هاجروا إلى بلد تُعبَد فيه الأصنام, فاستهوتهم الظاهرة فطلبوا من موسى u أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة.
2- ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. القصص: 79.
هذه الآية توضح التأثير الذي أحدثة خروج قارون بزينته إليهم فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون, ولكن المؤمنين الصالحين لم يتأثروا وتعاملوا مع القضية بعنوان النصح والتذكير للقوم الذين تأثروا ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾. القصص: 80.
عندما يشعر الإنسان أنه غير قادر على تغيير المحيط الفاسد ولا يمكن أن يعيش أو يتعايش من دون أن يتأثر خوفاً على دينه وماله وأسرته وأطفاله وعمله, فقد شجع الإسلام الابتعاد عنه و هجره, والهجرة إلى مكان أكثر أماناً يستطيع أن يحكم شرع الله فيه, أو العمل على تحكيم شريعة الله فيه, أما إذا بقى الإنسان تحت ظل المحيط الفاسد خوفاً على دنياه, فإن مصيره إلى النار كما جاء في سورة النساء الآية 97 ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾.
وعن رسول الله7 ورد قوله: «من فَرَّ بدينه من أرض وإن كان شبراً من الأرض, إستوجب الجنَّة, وكان رفيق محمدٍ وإبراهيم H»( [51][51]).
وفي رواية أن الإمام الصادق u كان جالساً في مجلس وجرى الحديث عن المحيط الفاسد في آخر الزمان كيف يَعُّم في البلاد .. التفت الإمام إلى أحد أصحابه وقال «فِرَّ منها إلى قُلَّةِ الجبال ومِنَ الحجرِ إلى الحجر»( [52][52]).
كان الأنبياء مهاجرين, والمهاجر هو الذي يهجر الشهوات المحرمة ويهجر الدنيا الفاسدة وليست الهجرة من الأرض بعنوانها التراب وإنما الهجرة من المحيط الفاسد, والمحيط الفاسد هو وليد جهل الناس وغياب المعرفة, وعليه فإن مسؤولية الأنبياء والصالحين كانت تغيير المحيط الفاسد من خلال إبدال الجهل بالمعرفة من دون أن يتأثروا بالجهل حتى لو اجتمع كل الناس على ذلك.
وعن الكاظم u أنه قال في خطابه لهشام بن الحكم: «يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس لؤلوَةٌ ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزةٌ. ولو كان في يديك لؤلؤةٌ وقال الناس إنّها جوزةٌ ما ضرَّكَ وأنت تعلم أنها لؤلؤة»( [53][53]).
وعن لقمان الحكيم ورد أنه قال وهو يعض ولده: «لا تعلِّق قلبك برضى الناس فإن ذلك لا يخصُّك».
ثم قال: «يا بني فلا تلتفت إليهم واشغل برضى الله جلّ جلاله»( [54][54]).
وعن رسول الله7 أنه قال: «من أرضى سلطاناً بسخطِ الله عز وجل كان حامِدُهُ من الناس ذاماً»( [55][55]).
فالإسلام يحارب بقوة المحيط الفاسد لأنه مصدر كل ذنب والتجاهر بالذنوب والمعاصي من أهم الكبائر لأنها مخالفة للحرمة والخلق الإسلامي العام, والذي يعيش حالة التباهي بالفحشاء, له في الدنيا خزيٌ وفي الآخرة عذابٌ أليم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾. النور: 19.
وعن رسول الله7 «من أذاع فاحشة كان كمبتدأها»( [56][56]).
وقال7: «المستتر بالحَسَنَة يَعدل سبعين حسنة, والمذيع بالسيئة مخذول, والمستتر بها مغفور له»( [57][57]).
وعن الصادق u: «إذا جاهَرَ الفاسق بفسقِه فلا حُرمة له ولا غيبة»( [58][58]).
وعن رسول الله7: «اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر, إن رأى حسنة دفنها, وإن رأى سيئة أذاعها».

ب- فقدان الحياء الإجتماعي

هو عامل مهم ومدخل خطير لفقدان الحياء من الله سبحانه وتعالى.. فمن لم يستح من الناس بفعله القبيح لا يستحي من الله في كل شيء. وفي ذلك قال رسول الله7 : «من لا يستحي من الناس لم يستح من الله»( [59][59]).
وعنه7 : «استحيوا من الله حق الحياء»( [60][60]).
وعن أمير المؤمنين u «أحسن الحياء استحياؤك من نفسك»( [61][61]).
لقد أكّد الإسلام على الحياء بمختلف إتجاهاته ليضمن للإنسان حالة من الحصانة تمنعه من التساقط في شباك الشيطان, ومن يشيع الفاحشة في المجتمع يمارس هتك الحرمة لنفسه ومجتمعه وهتك حرمة دين الله سبحانه وتعالى. وقد أكّد القرآن الكريم على الحياء في موارد كثيرة, مثلاً حياء اللسان ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. الأنعام: 108.
والحياء في الحديث ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾. الأحزاب: 32.
والحياء في المشي ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فلما جاءه وقص عليه القصص قال: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. القصص: 25.
الحياء في المشاركة في مجالس الضيافة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ الأحزاب: 53.
الحياء في النظر ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ النور: 31.
الحياء في الأمور الإقتصادية ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ البقرة: 219.
الحياء في دخول البيوت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ النور: 58.
إذا توجهت الأمة إلى مسألة الحياء من الله بحالةٍ جديّة وإيجابية فإنها سوف تعيش حالة الطهارة والنقاء, أما إذا كسرت حالة الحياء فإن الذنوب تترى على الأمة كالسيل العارم, ومن وقف على المعاصي دون العمل على إيقافها أو السعي في التقليل منها فهو راض بالمعاصي وهو شريك الأمة العاصية في أعمالها... إذن فلا بد أن يعيش الإنسان المسلم حالة التولي للصالحين والتبري من أعداء الله وجميع الفاسدين وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد على ذلك.
فلقد ورد عن أمير المؤمنين u أنه قال: «وإنما عَقَر ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمهم الله بالعذاب لما عَمَّوه بالرضا»( [62][62]).
وقال u: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم, وعلى كل داخلٍ في باطل إثمان: إثم العمل به, وإثم الرضى به»( [63][63]).
إن قاتل صالح رجل واحد, ولكن عَمَّ العذاب على الجميع حينما رضوا بالعمل وأقرّوه فبعض الأعمال الإجرامية لها عواقب تخرج عن وسط الجريمة إلى وسط برمته, لذا قال الله جلّ وعلا إن البلاء إذا عمّ فهو لا يعم الظالم من الناس وإنما يمتد ليشمل الجميع: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ الأنفال: 25, نعم إنَّ من يعين الظالم على ظلمه فإنه يساعد الظالم بشعور أو من دونه ويساعده على انتشار الفساد والظلم في المجتمع, من خلال السكوت عن الفساد أو غيرها من العوامل المساعدة على إنتشار الفساد.. فهو يعيش عيشة الظالمين ويُحاسب حسابهم, إذ أن نتيجة تغاضيه عن الظلم في المجتمع تجعل أعماله سائرة في مصاف أعمال الظالمين ومآلها إلى نفس ما يرمي الظالمين..
فعن رسول الله7 «إذا مُدِحَ الفاجر اهتزّ العرش وغَضِبَ الربّ»( [64][64]).
وقال7 : «احثوا في وجوه المداحين التراب»( [65][65]).
وورد عن أمير المؤمنين u قوله «الثناء بأكثر من الاستحقاق صلف, والتقصير عن الإستحقاق عيٌّ أوحَدٌ»( [66][66]).
وقال u: «أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة»( [67][67]).
وفي زيارة الإمام الحسين u: «لعن الله أمةً سَمِعَتْ بذلك فرضيت به».
فمن رضي بعمل قومٍ حُشِرَ معهم سواء أكان هذا العمل باطلاً أم صالحاً.
﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ هود:113.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الأنعام: 68.
أما العمل الصالح فيبارك له الله سبحانه وتعالى ويشجع عليه ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ المائدة: 2.

ج- القيادة الفَاسدة المُضلَّة

من أبرز العوامل المفسدة في المجتمع للقيادة القدوة الفاسدة لأنهم يُشيعون الفساد والفحشاء ويحكمون بالجبت والطاغوت.
فعن علي u جاء قوله: «الناس بأمرائهم أشبه مِنهُم بآبائهم»( [68][68]).
وقال u «فليست تصلح الرَّعِيَّة إلا بصلاح الولاة»( [69][69]).
فالقيادة الفرعونية ترى في نفسها الحق وفي الآخرين الباطل, وهذه الظاهرة لم تكن مرهونة في زمن فرعون فحسب, وإنما في كل يوم يعيش فيه أهل الحق صراع مع فراعنة عصرهم. ودائماً القيادة الفرعونية تؤكد على صوابها وخطأ الآخرين ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر: 29.
نعم يريد فرعون أن يخلق التبعية العمياء فتكون النتيجة فأضلونا السبيل. نعم يضلّون الأمة بمعسول الكلام والإعلام المضلّل. وقد جاء عن رسول الله7 قوله:
«إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً, وهوى متبعاً, وإماماً ضالاً»( [70][70]).
إن فساد الفقهاء والأمراء فساد المجتمع وصلاحهما هو صلاح المجتمع. وقد روي عن رسول الله7 أنه قال:
«ساعة في طاعة إمام أفضل من عبادة سبعين سنة, وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً»( [71][71]).
وقد ورد عن علي u أنه قال: «إن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضُلَّ به, فأمات سُنَّةً مأخوذة, وأحيا بدعة متروكة»( [72][72]).
إن التسامح في التعامل مع الظالمين يزيد من هيبة الظالمين ويظفي هيبة لهم. وهذا ما يرفضله الإسلام.. لأن وعاظ السلاطين لا يعملون على إحياء دين الله أو سحق الباطل بل إنهم جسرٌ اتخذهم الطواغيب للعبور بهم إلى الأمة ليلجموا فاه الأمة من التحدث الحق فإنهم ﴿ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ مريم:59.
وفي خطاب الإمام السجاد u إلى أحد العلماء الذين انجرفوا في مطامعهم ودخلوا أبواب السلاطين استجابة لدعوة منهم محذراً إياه من هذا العمل وقائلاً له «أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلّماً إلى صلالتهم. وداعياً إلى غيّهم»( [73][73]).
وأما الذين يرفضون التبعية إلى الفراعنة صحيح أنهم يعيشون حالة من المتاعب الدنيوية. ولكن عملهم مبارك من الله تعالى. وهم يسعون دائماً لزوال قيم الطاغوت وإبدالها بالقيم الإلهية وهذا ليس باليسير ولكن في ههم الرجال المؤمنين الصابرين تزول الجبال الرواسخ. والله مع الذين اتقوا والذين هم مهتدون.

د- أصدقاء السوء

عامل آخر من العوامل الإجتماعية التي تؤدي بالإنسان إلى ممارسة الذنب والسقوط في شباك الرذائل. والأصدقاء مثل الأمراء إما هداة أو مضلين... فمثلاً أصحاب الكهف تحملوا كل المصاعب وشد بعضهم على قلب بعض أخوة في الله فأعانهم الله تعالى بالصبر العظيم وخلدهم في الدنيا والآخرة. والنموذج الفاسد هو قوم نوح ودورهم في تضليل وِلد نوح.. فأصبحوا من المغرقين خسروا بذلك الدنيا والآخرة.
وقد قال رسول الله7 : «المرء على دين خليله وقرينه»( [74][74]).
وعن أمير المؤنين u «مجالسة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار»( [75][75]).
وعن الباقر u أنه قال: «من قعد في مجلس يُسبُّ فيه إمام من الأئمة يقدر على الإنتصاف فلم يفعل ألبسه الله الذلّ في الدنيا وعذّبه في الآخرة وسلبه صالح ما منَّ به عليه من معرفتنا»( [76][76]).
وعن الجواد u أنه قال: «إياك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره»( [77][77]).

هـ- الحرمان الإجتماعي

وهذا يولّد البغض في الأشخاص, ويولد حالة نفسية وإجتماعية تنعكس على الشخص المحروم, وبالنتيجة سوف ينزلق في طريق الذنوب. ولهذا أكّد الإسلام على مراعاة المحرومين ومساعدتهم, والمحرومية لا تقتصر على المادة, وإنما المحرومية الأسرية كفقدان أحد الأبوين أو كلاهما, أو فقدان الأسرة. فلا ينبغي أن يُحقّر المحروم إجتماعياً, ففي ذلك تزداد كراهية المحروم للأمة, ويزداد إحساسه بقلة العطف الإجتماعي, فيزداد سوء خلقه وحقده على المجتمع. والذي يستقرئ التاريخ ويدرس الجوانب الإجتماعية للطواغيت وجذورهم العائلية, ليجد الحرمان الإجتماعي والأمراض الإجتماعية متحكمة في ذهنيته فيريد أن ينتقم لذاته لِما ألمَّ به من الحرمان والتحقير والإستخفاف. لذا أكّد الإسلام على المحافظة على الكيان الإجتماعي من خلال المحافظة على الفرد إجتماعياً وعدم تذكيره بحرمانه أو تركه يعيش في حالة الحرمان.
وفد روي أن الصادق قال لجابر بن يزيد الجعفي: «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا أنت رجل سوء لم يحزنك ذلك, ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرُّك ذلك, ولكن اعرض نفسك على ما في كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله, زاهداً في تزهيده, راغباً في ترغيبه, خائفاً من تخويفه, فاثبت وأبشر فإنه لا يضرُّك ما قيل فيك»( [78][78]).
إن الإمام أراد أن يعالج الحرمان والأثر الإجتماعي السلبي من خلال خطابه لجابر. لأن الذي يعيش الإستقامة والإطمئنان يكون الله سبحانه معه, ولن يضرّه قول القائلين.



5- الجانب النفسي الإجتماعي





الجانب النفسي من العوامل المهمة التي تؤدي إلى الإنحراف وممارسة الذنوب, وقد أكّدنا في النقطة الرابعة أنّ الجانب الإجتماعي له الدور الكبير في صياغة تفكير الإنسان نحو الإنحراف, ونتيجة لهذا التراكم الإجتماعي تنشأ حالة نفسية إجتماعية تؤدي به إلى الإنحراف. فعندما يفقد الإنسان معرفة حقيقة نفسه وعظمتها يسير إلى غير هدى ويفقد بذلك كرامته الذاتية التي أكرمه الله تعالى بها. فالإنسان بتكوينه يمتلك كرامتين أحدهما ذاتية والثانية مكتسبة. والكرامة الذاتية هي أن الله سبحانه وتعالى أكرم بني آدم ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ الإسراء: 70. والثانية الكرامة المكتسبة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات: 13.
وقد ورد عن أمير المؤمنين u أنه قال: «إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها»( [79][79]).
وقال u «نعم العبد أن يعرف قدره ولا يتجاوز حدّه»( [80][80]).
الإنسان بهذه الكرامات العظيمة لا بد أن يسخرها في طاعة الله, وأن يتجنب السقوط في شباك الشيطان. فلا يمكن لأيّ عاقل أن يُبدل الذهب بالتراب الشيطاني, ولا يمكن للإنسان أن يبدل كرامته بالذلّ والمسكنة, مقابل حطام من الدنيا الفانية. حالة الإحساس بالنقص والجهل بعظمة الذات الإنسانية والتراكمات الإجتماعية التي يفتقد الإنسان القدرة على تجاوزها تجعله يسقط في شباك الشيطان.
فقد جاء عن رسول الله7 أنه قال: «لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه»( [81][81]).
وقال أمير المؤمنين u «نفاق المرء من ذل يجده في نفسه»( [82][82]).
وروي عن الصادق u قوله: «ما من أحد تكبّر أو تجبّر إلاّ من ذلّة وجدها في نفسه»( [83][83]). وفي المقابل هي عزّة النفس ومعرفتها...
وجاء عن السجاد u أنه قال «من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا»( [84][84]).
وكذا قال u «والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً»( [85][85]).
العزّة والكرامة تخلق عند الإنسان الأمل نحو النجاح وتجاوز كل الصعوبات التي تواجهه, والأمل وحده لا يكفي لبلوغ النجاح, إلا إذا رافق ذلك الأمل العملُ المطلوب. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة: 218.
أما التمنيات والآمال الكاذبة لا تورث إلا الحزن والسقوط في حبائل الشيطان الذي نهانا الله سبحانه وتعالى أن نصاحبه أو نطيعه لأن في ذلك الشرك والإنحراف. والذي يعيش بالتمنيات دون العمل لا يجني من تمنياته إلا الخسارة في الدنيا والآخرة. والدرس التالي يعلمنا كيف أن التمنيات وحدها دون العمل لا يريدها الإسلام.
كان الإمام زين العابدين في حالة مناجاة وبكاء في جوار الكعبة تحت الميزاب.. فالتفت إليه طاووس اليماني (من علماء العامة) .. فقال له: هذا أنت يا ابن رسول الله تبكي وعندك شفاعة جدك, ورحمة الله واسعة..
فأجابه الإمام u أما الأنساب فيقول تعالى ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ المؤمنون: 101.
وأما بخصوص الشفاعة قال تعالى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ الأنبياء: 28.
وأما بخصوص رحمة الله قال تعالى ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف: 56.
فإني لا أعلم مَن المحسنين( [86][86]).



6- الجانب السياسي




الطغيان السياسي حذّر منه الإسلام بشدّة لأنه يؤدي إلى الظلم الإجتماعي وهذا مرفوض جدّاً في الإسلام, قال جلّ من قال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ البقرة: 205-206.
وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ النمل: 34.
فالطغيان السياسي يوجب خراب المجتمع ويفقدها القيم الإصيلة. وقد قال رسول الله7 «لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء»( [87][87]).
وعن أمير المؤمنين u «ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من طلب الرياسة»( [88][88]).
أما الولاة الصالحون فلا يفسدون ولا يظلمون لأنهم يحكمون بما أنزل الله تعالى.. والذي يحكم بما أنزل الله لا يظلم ولا يفسد.
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ يوسف: 101.
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص: 83.
وعن علي u في وصيته للأشعث بن قيس «وإنّ عملك ليس لك بطعمة, ولكنه في عنقك أمانة»( [89][89]).







































إيجاد المبرر لممارسة الذنب أشدّ من الذنب لأن ذلك يُدخل الإنسان في مداخلات يختلط فيها الحق والباطل. فباسم الحق يمارس الباطل وباسم الحلال يمارس الحرام تحت غطاء الحيلة الشرعية. قال تعالى
﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ القيامة:14-15.
إن من يبرر الخطأ والمعصية يحاول أن يضفي عليها إطاراً شرعياً. ويعتبر ممارسته للذنب حالة طبيعية في حياته يكون قد تعدى حرمات نفسه ودينه ومجتمعه. وهذه الممارسات الخاطئة تعتبر أشدّ من ممارسة الذنب. بينما الذي يمارس الذنب تحت غطاء المعصية ويشعر أنه مذنب خير من أن يُسوّف ويبرّر لذنبه ويؤطّره بالإطار الشرعي, لأن المذنب يعيش حالة من الندم بعد الفعل لأن محكمة الوجدان تحكمه بالتقصير فيؤوب إلى التوبة والإستغفار. بينما الذي يُبرر لنفسه ممارسة الذنب لا توجد في نفسه هذه الفرصة للتوبة والإستغفار, لأنه لا يشعر بأنه مذنب, وكونه لا يشعر بالذنب تكون ممارسته للذنب ذات عواقب فردية, وإجتماعية وأخروية وخيمة جدّاً. فمثلاً عندما يريد صاحب العذر أن لا يمارس عملاً إما خوفاً أو طمعاً ويريد أن يقنع الناس بفعله فيُصور خوفه من هذا العمل بالإحتياط, أو ضعف شخصيته يصوره بالحياء, أو حرصه على الدنيا يصوّره بتأمين المعيشة؛ أو التقصير في أخذ الإحتياطات اللازمة في أمور الحياة فعند حدوث الحادثة يفسرها قضاءً وقدراً. فعملية التحريف للمفاهيم هي عملية تبريرية تغطي الذنوب بقناع الشرعية والصواب. فمثلاً كتمان الحق يفسر بـ(التقية), أو الارتشاء من الناس بعنوان (الهدية) من الناس. والتبرير في ممارسة الذنب له عدّة أبعاد نتناولها بالترتيب إن شاء الله.



أ- التبرير في الممارسات الإعتقادية




الكثير من الذين لا يدينون دين الحق ويعبدون من دون الله لا يبررون عملهم هذا إلا من منطلق: إنّا وجدنا آباءنا على هذا وإنّا على آثارهم مقتدون, أو الذي يشرب الخمر أو يتعاطى المخدرات يبرر لك أنه جُبل على ذلك من صغره عندما كان أبوه يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات, أو تسأله لماذا لا تصلي أو تؤدي الفرائض, يقول لك ليش ذنبي وإنما ذنب آبائي, وهل يعاقب ابن الذئب لأنه كان ذئباً.
﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾
﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾
أو يبرر لك أنه مجبور بإرادة الله أن يكون كذلك, لأنه لو لم تكن إرادة الله لاهتدى مثل ما يهتدي الآخرون. أو يمارس القتل كما في فعل يزيد حينما أمر بقتل الإمام الحسين u. لأن الله أراد ذلك ويستند إلى قوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾.
هذا الجهل بالممارسة الإعتقادية جعل الكثير من الناس يبررون لذنوبهم. لم يكره الله سبحانه وتعالى الإنسان على ممارسة الإنحراف والشرك بل جعله حُرّ الإختيار, ولكن بالحدود الموزونة تحت قاعدة لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين منزلتين. الإنسان حُر وغير مكره, والدليل على ذلك هو تردّده في ممارسة بعض الأعمال, إنتقاد بعض الأعمال, أو التأدب بالأخلاق الحسنة أو ممارسة عمل سيء. نعم الإنسان حرّ في إرادته وليس هناك من يجبره على فعل الشر, وما فعل الشر إلا بما كسبت أيدي الناس, لجهلهم وإصرارهم على ممارسة الذنب من خلال المعايشة أو التعايش مع المحيط الفاسد الذي يؤهلهم إلى ممارسة الذنوب والمعاصي.



ب-التبرير السياسي




حينما تُمارَس الأعمال العدوانية من قبل القوات الخاصة بالحكومات والأنظمة الظالمة وتقف بالحديد والنار ضد حرية الشعب وتخنق إرادته وتمنعه من القول ما يريد, يحصل الصدام بين الجماهير وأعوان السلطة وحينما تمسك الجماهير بهؤلاء.. يقولون أن تبريرنا لمحاربتكم أننا مأمورون والمأمور معذور.
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ الأحزاب: 67. في عواقب الأمور, أو الذي يعمل عملاً حسناً في ظاهره ولكن يستبطن الشرّ في داخله, ويبرر لعمله كل الخير تحت غطاء وحدة الموقف أو إقتضاء المصلحة وغيرها. فمثلاً أُسّس مسجد ضرار تحت ذريعة أن كبار السن والضعفاء من الناس لا يستطيعون القدوم إلى مسجد الرسول البعيد في المدينة, وهي ذريعة لتمزيق وحدة الصف الإسلامي ومحاربة الإسلام, فكشفهم الله تعالى في القرآن الكريم.
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ التوبة: 107.
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين u وفي يده صحن من الحلوى وكان الرجل اسمه الأشعث بن قيس وهو أحد المنافقين البارزين أراد بعمله هذا التقرب من الإمام, والنفوذ من خلاله إلى جهازه الإداري, فسأله u: «أصلة أم زكاة؟» فأجابه الأشعث: لا هذا ولا ذاك بل هدية...
فقال له أمير المؤمنين بعد أن رفض قبولها وعرف الهدف من فعله: «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ اسلبها جُلب شعيرة ما فعلته» فطرده مع رشوته التي كان يسميها هدية.
إن الممارسات السياسية المغلوطة للحكام الظالمين وتبريرها بالمفاهيم والأطر الإسلامية قد ملأت صفحات التاريخ الماضي والحاضر, بقتل الرساليين في الساحات العامة والمعتقلات الجماعية تحت عنوان مخالفتهم للشرعية, بدسّ السمّ وبإعتقال أسر كاملة وتهجيرها بعنوان أنهم لا ينتمون إلى هذا الوطن أو ذاك.
جميعها أعمال شيطانية يمارسها الطغاة ضد الأمة المؤمنة تحت شعارات وتبريرات واهية, الهدف منها تمرير الفعل الشيطاني أو الممارسة السياسية لهذا النظام أو ذاك.



جـ- التبرير الإجتماعي




الترابط الإجتماعي في ممارسات المنكر تشكل حالة خطرة في المجتمع, وحينما تسود هذه الظاهرة أفكار الناس وأخلاقهم وسلوكهم يتحول المجتمع إلى كتلة من الذنوب, حينما تسأل فلان لماذا أذنب؟ يقول لك: لم أذنب وحدي, أو لم أعمل العمل الفلاني وحدي, وإنما فلان كذلك مارس هذا العمل. وفلان يقول فلان وهكذا تستمر حركة الترابط الإجتماعي في المارسات السيئة, لأنها سنة ابتدعت والتبرير لها سهل يسير. ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ هود: 87. هؤلاء يمارسون الذنوب على أثر آبائهم, من أسهل الأعمال أن يُبرر الإنسان أفعاله دون أن يراعي حقاً أو يدع باطلاً ولكن من أصعب الأمور أن يكتشف الإنسان خطأ فعله وتبريره.




د- التبرير النفسي




هناك الكثير من الناس الذين يمارسون الأعمال السيئة ويتركون فعل الخير تحت طائلة المبررات الواهية التي ما أنزل الله بها من سلطان, ومن هذه المبررات:
1- اليأس والقنوط من النفس على إصلاح ذاتها والرجوع إلى خطّ الإستقامة بحجة أن عمره قد انقضى وطال الزمن, فلا يستطيع أن يتوب ويمارس الأعمال الصالحة, كالصلاة, والصيام,والحج, .. فلا طاقة له (هكذا تبريره) على ممارسة هذا العمل أو ذاك.
2- ممارسة العادات السيئة, كالتدخين, أو الأعمال المحرمة كشرب الخمر وتعاطي المخدرات.. يبررها فاعلها أنه مسلوب الإرادة ولا يستطيع الصبر على ترك التدخين أو الممارسات السيئة الأخرى, أو بعبارة أخرى يقول لك: شيطاني قوي ولا استطيع الغلبة عليه.
3- عدم ممارسة فعل الخير لأن الناس الآخرين لا يمارسون فعل الخير, فإذن لماذا أنا والآخرين لا. إذن أنا لا أمارس هذه الأعمال, هكذا تبرر المسائل وهكذا يطغى الشر في النفوس بحجة التبرير.
4- الجهل في المسائل التربوية وأهميتها, عاملاً هداماً في الأسرة والمجتمع, وحينما تسأل البعض, لماذا لا توجه أطفالك بالطريقة الصحيحة, يقول لك اتركوهم وحريتهم لأن الضغط عليهم يولد عندهم عقدة نفسية. وهكذا وتحت هذا التبرير يكون الأطفال طعمة للإنحراف والضياع.
5- ممارسة بعض الأخطاء الإجتماعية الأخلاقية كالمزاح الشديد القاسي, والسخرية من الآخرين, والكذب, والغيبة, والبهتان وغيرها, يبررها بأنها مزاح أو أيّ تبرير آخر, والسبب في ذلك هو الجهل بالمفاهيم ومحاولة صياغتها وفق أهواءه حتى يتمكن من تبرير ممارسته الخاطئة.
6- الإلتصاق بالوالدين حالة إيجابية تدل على الإحترام. ولكن الإلتصاق إلى حد القبول بإنحراف الوالدين وكفرهم تحت مبرر احترام الوالدين من دون تذكيرهم أو إصلاح شأنهم يدخل بعنوان الإقرار بإنحرافهم وكفرهم, أو يتخلف عن الجهاد تحت حجة أن والده لا يرضى, أو أنه وحيد العائلة, وقد عالجت هذه الظاهرة سورة التوبة وبشدة.. حيث طلبت من الإنسان المؤمن ألاّ يوادّ أعداء الله وإن كان هؤلاء من الآباء والأمهات وذوي الصلة الرحمية المباشرة, ولا يتخلف عن الجهاد حتى وإن طلب هؤلاء ذلك. والذي يمارس هذا العمل السلبي ويركن إلى الممارسات الإجتماعية الخاطئة هو الإنسان القلق في شخصيته الفكرية والعقائدية كما توضح ذلك الآية الشريفة: ﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ*يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ القيامة: 5-6.



هـ- التبرير الثقافي




1- هناك بعض الناس يمارس الأخطاء الشرعية, ويمارس الذنب تحت حجة أنه لا يعرف الأحكام, أو أنه لا يقرأ ولا يكتب وغيرها من التبريرات... ونسي أن (الفطرة والعقل) هما حجة على الإنسان وتشهد عليه يوم القيامة, فلا تبرير في ممارسة الذنب ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الأنعام: 149.
وقد روي عن الإمام الصادق u أنه قال: «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟, فإن قال: نعم, قال له: أفلا عملت بما علمت, وإن قال: كنت جاهلاً, قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل, فيخصمه فتلك الحجة البالغة»( [90][90]).
2- أو يفتخر الإنسان بأصله وفصله فيمارس التكبر والغرور بحجة أنه ينتسب لفلان, أو هو من العائلة الفلانية ولا يمكن أن يجالس فلان وفلان لأن موقعه الإجتماعي لا يسمح, وهذه من الكبائر لأن التكبر صفة من صفات الله تعالى فلا يمكن أن يصف العبد نفسه بالتكبر. وأول من تكبر هو الشيطان حينما امتنع عن السجود لآدم تحت تبرير خلقته من تراب, وأنا خلقتني من طين. أو التعصب الجاهلي أو القومي الذي مورس بحق المسلمين الأوائل أو يمارس اليوم بحجة اللون واللسان والقومية وغيرها.
إن الإسلام حارب هذه الظواهر وجعل ميزان التقوى هو الحاكم بين الأفراد لا شيء سواه ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات: 13.
3- الفهم الخاطئ للمفاهيم والأوامر الإلهية يجعل الإنسان يُسوِّف ويبرر ممارسة الخطأ, فترى الإختلاط المحرَّم في المناسبات كالأعراس أو الوفيات ... تحت حجة إذا كان القلب طاهراً فلا داعي أن تلبس المرأة الحجاب. أو عندما يهاجم الجيش والأمن الجماهير تحت حجة قسم الولاء للحكومة أو للسلطان .. وغيرها من التبريرات الواهية.
يروى أن رجلاً سرق رغيفاً من أحد الخبازين خلسة, مستتراً بستار التقوى والزهد, وذهب إلى بائع الرمان فسرق رمانة وجاء بما سرق فأعطاهما إلى فقير ... كان الإمام الصادق u يراقب هذا العمل فمسكه وسأله عن فعله هذا, فأجابه السارق أنه يفعل حسنة حتى يأتي بعشر, وقد فعل سيئة السرقة فلا يجزى إلاّ مثلها, وبالنتيجة هو حصل على تسع حسنات.
فأجابه الإمام: ثكلتك أمك أنت الجاهل بكتاب الله. أما سمعت أنه عزّ وجلّ يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. فطاش عقل السارق من حديث الإمام u. وتراهم بمثل هذه التبريرات القبيحة والمنكرة يَضلّون ويُضلّون.
إن الفهم الخاطئ والتبرير غير الصحيح يُشكل الخطر الواقعي في المجتمع وهو الذي يؤدي إلى تمزيق المفاهيم الأصيلة تحت مضلة التبرير.
وقد روي عن الصادق u أنه قال: «طوبى للذين هم كما قال رسول الله: يَحملُ هذا العلم من كل خلق عدوٌ له وينفون عنه تحريف الغالين وأنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».
إن المسؤولية الشرعية والإنسانية تُحتِّم علينا الوقوف بحزم أمام التأويلات والتبريرات المنحرفة حتى لا تضيع الأمة في هذه الممارسات, ولا تستطيع بعدها ممارسة العمل الحسن.



و- التبرير الإقتصادي




هناك مسائل إقتصادية كثيرة يمارس فيها الظلم والمعصية؛ فباسم العدالة الإجتماعية تضيع حقوق الإنسان, وباسم الأزمات الإقتصادية تُسقط الأجنة, وباسم التجارة يمارس الربا, وباسم الهدية تُمارس الرشوة,وباسم الكذب المصلحي يمارس الكذب الحرام, وباسم الخوف من الفقر يقتلون الأبناء, وباسم الإستثمار يُمارس الظلم الإجتماعي, وهكذا العشرات من التبريرات التي يُمارس من خلالها الحرام. وما أصحاب السبت إلا صورة واضحة ذكرها القرآن ليتعض بها من يريد الموعظة. فقد كان قوم من بني إسرائيل يسكنون الساحل على البحر الأحمر في منطقة اسمها إيلة, أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحن بني إسرائيل فقلّل السمك والحيتان أيام الإسبوع, وكَثَّرَها يوم السبت وأمرهم بعدم صيد الحيتان في يوم السبت, فكان القوم يشاهدون السمك بكثرة في يوم السبت, فوسوس لهم الشيطان أن يضعوا شباكهم عصر الجمعة ويسحبوها يوم الأحد, يكونوا بذلك قد حصلوا على السمك, ولم يمارسوا بذلك الحرمة حسب فهمهم الناقص, فتجاوزوا على القانون الإلهي وحصل العقاب الإلهي فمَسخَ الفاعلين إلى قردة. وأهل هذه القرية كانوا ثلاث أصناف:
1- مجموعة مارست العمل وأصرّوا على الفعل والإستمرار به, وهم الذين مُسخوا.
2- مجموعة رضت بما فعلت المجموعة الأولى, وهؤلاء لحقهم العذاب لسكوتهم ورضاهم بالعمل.
3- مجموعة رفضت العمل وبقيت تنصح وتُوعِد بعذاب الله عسى أن يتقي بعضهم ويبتعدون عن المعصية .. وقد تركوا القرية قبل أن يحلّ العذاب بها.
وقد قال الإمام الصادق u بخصوص هذه القصة: «هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الثالثة»( [91][91]). ﴿ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ*وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الأعراف: 163-164, هذه صورة للحيلة الشرعية التي مارسها بنو إسرائيل من أجل الكسب الدنيوي فخسروا مواقعهم الدنيوية والأخروية.
وصورة أخرى ينقلها التاريخ حول التبرير وممارسة الحيلة الشرعية هي قصة سعد الذي بلغ من الفقر حتى تألّم الرسول7 لوضعه, فنزل جبرائيل بدرهمين وقال لرسول الله7 : أعطها لسعد ليعمل بها, فأخذ سعد الدرهمين وعمل بهما فوسع الله عليه بالبركة والخير, ولكن انشغاله بالتجارة منعه من الصلاة خلف رسول الله7... فتألّم الرسول7 من هذه الحالة فسأله ذات يوم: أشغلتك الدنيا عن الصلاة ..؟ فقال سعد: ما أصنع؟ أضيع مالي وقد أمرتني أن أستوفي من الناس وأوفي الناس .. فحزن الرسول7 لجواب سعد ...
فجائه جبرئيل يسأله: هل تريد تجارة سعد أم صلاته؟...
فقال له الرسول7 : لا بل صلاته ...
فقال جبرئيل: إن حب الدنيا والأموال فتنةٌ ومشغلةٌ عن الآخرة. يا رسول الله خذ الدرهمين من سعد وسوف يرجع إلى حاله الأول.
جاء الرسول7 إلى سعد وقال له: «ألا تردَّ لي الدرهمين»
فقال له سعد: مكان الدرهمين مائتين,
فقال الرسول7 : فقط الدرهمين.. أعطى سعد الدرهمين إلى الرسول7 وبدأت الدنيا تنغلق عليه حتى رجع إلى حالهِ الأول( [92][92]).
هذه الغفلة من سعد وتبريره التخلف عن الصلاة خلف رسول الله7 أنسته ذكر الله والشكر له فخَسرَ موقعه الدنيوي ولولا لطف الله تعالى به لخسر موقعه الأخروي.



ز- التبرير العسكري




في مواقع الجهاد والقتال مع الأعداء أو في مواقع الإستعداد للقتال أو غيرها, ينسحب الإنسان من المعركة, أو يتخلف عن الذهاب إلى المعركة لأسباب وتبريرات غير مقبولة, بحجة أنّ والديه بحاجة له, أو بحجة أن أطفاله مرضى, أو بحجة أن قساوة المناخ كالحرّ والبرد تمنع من القتال أو الذهاب إلى المعركة وهكذا الكثير من التبريرات وعن ذلك تتحدث الآية الشريفة: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ التوبة: 81.
وعن علي u «فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحرّ قُلتم هذه حمّارة القيظ أمهلنا ينسلخ عنّا الحرّ, وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صَبّارة القرِّ أمهلنا ينسلخ عنا البرد, فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفِرّون, فأنتم والله من السيف أفرّ»( [93][93]).
وقد جاء في الآية الشريفة قوله سبحانه وتعالى:
﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً﴾ الأحزاب: 13.
وقال سبحانه أيضاً: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا*بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا*وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا*وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ الفتح: 11-14.
وهذه بمجموعها صور للتبرير حتى يتخلفوا عن أداء المسؤولية وقد ارتكبوا في تخلفهم ذنباً ومعصية وكانوا من الخوالف ...
وحينما لعنَ علي u أهل الجمل المتخلفين عن القتال, قال أحدهم: استثني المؤمنين منهم.
فقال له u: «ويلك ما كان فيهم مؤمن»( [94][94]).
او الذين تخلفوا عن قتال معاوية في معركة صفين بتبرير أنهم مسلمون, ولا يجوز قتل المسلم للمسلم. فكان جواب الباقر u لهم «لو أن علياً قتل مؤمناً (ظاهرياً) واحداً لكان شراً عندي من حماري هذا».
وهكذا يستمر المتخلفين بإيجاد التبريرات تلو التبريرات حفظاً على دنيا فانية لا خلود فيها ولا استقرار.

معرفة الحق والباطل

الحدّ بين العمل الصالح والعمل القبيح الذي يكون مصدراً للذنوب صعبٌ جدّاً عند بعض الناس, والصعوبة تكمن في الجهل, فيتصور هؤلاء أنهم يحسنون صنعاً, ولكن أعمالهم التي يمارسونها تباعدهم عن الجنة وتقربهم إلى النار. وغياب معرفة الحدود الشرعية بين الحق والباطل, وبين الحلال والحرام, وبين عمل الدنيا والآخرة يوقع الإنسان بالمتاهات, فهناك الكثير من الممارسات العملية تدخل بعنوان المعصية والذنب, ولكن فاعلها يؤطرها بالإطار الشرعي والعنوان الظاهري الصحيح, فمثلاً يمارس الذلّة تحت غطاء أو تصور التواضع, ويمارس التكبر ويقول عزّة, ويمارس عبادة الدنيا ويقول سياسة, ويمارس البخل ويقول قناعة, ويمارس السكوت عن الحقّ ويقول مراقبة اللسان, ويمارس تعطيل الغرائز ويقول عِفّة, ويمارس الإسراف ويقول كرم, ويمارس الرشوة ويقول هدية, ويمارس اللجاجة ويقول استقامة, ويمارس الحرص ويقول جهد, ويمارس العجر ويقول صبر, ويمارس التملّق ويقول مدح, ويمارس الغيبة ويقول كشف العيب, ويمارس الظلم ويقول استضعاف, ويمارس التحيز ويقول عدالة. وغيرها من العشرات من المسميات الكثيرة التي يقع بها الناس الذين يخلطون في حدود معرفة الحق والباطل فيقعون في شباك الذنوب عن عمدٍ أو بدونه.
وحاشا للإسلام أن يمنع التواضع أو الوقار أو القناعة أو مراقبة اللسان أو الزهد وغيرها لكنه لا يجعل المسميات الصحيحة تستبطن الأعمال السيئة, فمثلاً الزهد في المفهوم الإسلامي الصحيح هو أن تملك الدنيا ولا تملكك, وليس الزهد هو ترك الدنيا والإبتعاد عنها, لأن الإبتعاد عن الدنيا من الأعمال المذمومة.
وعن أمير المؤمنين ورد قوله u: «طوبى للزاهدين عن الدنيا الراغبين في الآخرة».
فمن ترك الدنيا واتجه للعبادة فإن ذلك ليس من الزهد وإنما الزهد أن تُسخِّر كل ما في دنياك لآخرتك من دون أن تملكك الدنيا بشيء ...
وقد إشتكت إمرأة زوجها إلى رسول الله7 وكان الرجل من خيار أصحاب الرسول واسمه عثمان بن مظعون, حيث كان عابداً منعزلاً عن الدنيا, فقال له رسول الله7 : «يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية ولكن بعثني بالحنفية السمحة, أصوم, وأصلي, وأُلامس أهلي» في هذا المفهوم نرى أن الحدود بين الزهد وترك الدنيا ضيق جدّاً فمن يطلّق الدنيا بحجة الزهد فهو ليس زاهداً( [95][95]).
عن أمير المؤمنين u «الزُهد كله في كلمتين في القرآن الكريم, قال تعالى ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ الحديد: 23.
إن عدم معرفة الحدود توقع الإنسان في شباك الضلال وإن كان مؤمناً. إنَّ من سعادة المرء أن يعمل ويرى ثمار عمله بيده, وليس هناك تضاد بين الزهد وطلب الدنيا .. لأن في العمل ضمان الدنيا والآخرة.

إستثاء

لا شك أن بعض الممارسات التي حاربها الإسلام إبتداءً وضع لها إستثناءات, مثلاً اليمين الكاذبة محرمةٌ إلا إذا كان فيها نجاة المسلم من يد الظالم أو الكافر, أو ممارسة الكذب من المحرمات إلا في إصلاح البين, والكذب على العدو, أو رجلٌ أعطى وعداً لأهله وهو غير قادر على إنجازه, أو مسألة الغيبة فهي أكل لحم الأخ الميت ولكن يجوزها الإسلام في موارد, لفضح المتجاهرين بالفسق, والظالمين, والذين يخلقون البدع, أو الأشخاص الذين لا يُعرفون إلا بصفتهم العامة كالبصير أو الأصم, أو لقطع حالة من الفساد, وهذا لا يعني أن الإنسان يطلق لنفسه العنان في ممارسة الغيبة ويؤطرها بالعناوين الشرعية, والإستثناء الذي وضعه الإسلام في كل الموارد فيه من الحذر الشديد لممارس الغيبة, لأن الأمر قد يلتبس على الفاعل فيقع في الغيبة الحقيقية أو الممارسات المحذورة الأخرى إن مارس غيرها, ﴿ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ النساء: 148.
عندما نمارس العمل الصالح وننتظر النتيجة الإيجابية منه لا بُدَ من توفير الشروط الإيجابية لضمان النتيجة, أما أن تقدم بعض الشروط لهذا العمل أو ذاك من دون تكامل حتى يفول الناس أنه عمل صالح, فهذا ما لا يكون مقبولاً عند الله, وبالنتيجة تكون خسارة أعمالنا في الدنيا والآخرة.
الشروط الإيجابية للعمل حينما تقدمها إذا أردنا منها الجانب الإيجابي, لا بد أن نكون منطلقين في نيةٍ حسنة, ألا وهي تحقيق مرضاة الله, وتجنب سخطه في هذا العمل أو ذاك. ومما يروى أن رجلاً قُتل في معركة أحد, وكان من أصحاب الرسول , فجاءته أمّه ترثيه فقالت له: ولدي لك الجنة. فسمعها رسول الله7 فقال لها: وما يدريك أنّ نصيبه الجنة؟ فلعله تكلّم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه»( [96][96]).
ونفس الأمر نجده في قصة سعد بن معاذ حينما استشهد في معركة أحد وجائته أمّه تقول راثيةً له: هنيئاً لك الجنة, وسعد معروف وقد جَلَّهُ رسول الله7 والمسلمون وشيَّعته الملائكة... ولكن رسول الله7 قال لأم سعد: إن سعد قبره ضيقاً .. فسأله الحاضرون عن السبب..
فأجابهم الرسول7 «نعم إنه كان في خُلقه مع أهله سوء»(3).








































كيف نلجم الذنوب؟
ونتعامل مع المذنبين؟
إن لكل شيء في هذه الحياة شيء ينظمه ولا توجد حركة عشوائية في الكون والحياة خارجة عن إطار التنظيم. فالكهرباء ينظم من قبل قفل خاص به, والسيارة كذلك لها أجهزتها التي تنظم سرعتها ووقوفها عند الطواريء. كذلك الإنسان له أجهزة تنظم تفكيره وغرائزه, والخطوط العامة لهذا التنظيم هي:
1- الإيمان الصحيح بالله تعالى واستحضار رقابته في كل شيء من حياتنا.
2- معرفة الإنسان لنفسه وكشف ضعفها وقوتها.
3- الإيمان بالحساب واليوم الآخر.
4- التفكر بالموت فإنه لجام الشهوات.
5- إستحضار حالة الخوف من الله تعالى والحياء منه.
6- مطابقة أعمالنا مع أعمال القدوة الصالحة الرسول7 وأهل بيته E وأصحابه رضي الله عنهم.
7- ممارسة العبادة الصحيحة.
8- الإبتعاد عن موارد الشبهات.
9- التفكير الدائم في كيفية تحقيق مرضاة الله تعالى.
10- الإكثار من أعمال الخير وتجنب الأعمال القبيحة.
إن الإنسان حينما يستحضر رقابة الله سبحانه وتعالى في نفسه ويشعر دائماً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ويرى وهو لنا بالمرصاد ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. فإن ذلك يقرر عنصر الإيمان ويمنع أو يقلل ممارسة الذنب.
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ العلق: 14.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الفجر: 14.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ غافر: 19.
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ الأعراف: 201.
وعن أمير المؤمنين u أنه قال: «اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد عليكم هو الحاكم».
فمن يريد أن يمارس الذنب عليه أن يحقق خمسة شروط:
1- أن ينكر وجود الله.
2- أن يخرج من حكومة الله.
3- وأن يعمل ذنباً لا يراه الله فيه.
4- وأن يتحدى ملك الموت.
5- وأن يتحدى مالك (بواب النار) ليخرج من النار.
وحينما يعرف الإنسان حقيقة الإيمان ويعرف حقيقة نفسه يكون عبداً حقيقياً لله تعالى, وقد امتلأت دنياه بأعماله الحسنة وهو يُحضّر نفسه لذلك اليوم ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ آل عمران: 30.
﴿خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ القمر: .7.
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ عبس: 34-37.
وعن الإمام علي u ورد قوله: «واتقوا ناراً حرّها شديد وقعرها بعيد وحليتها حديد وشرابها صديد».
الإنسان عندما يعرف حقيقة الإيمان وحقيقة نفسه تؤثر به المواعظ الحسنة ويتفاعل معها التفاعل الإيجابي الذي يسمو بشخصيته نحو الكمال. ذلك الشاب الذي سقط في سوق الحدادين بالكوفة عندما شاهد الحديد وقد خرج من النار تذكر قوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾... وقد رآه سلمان المحمدي (رضي الله عنه) مغشياً عليه والناس من حوله.. فحينما استيقظ سأله سلمان (رضي الله عنه) عن سبب سقوطه, قال: تذكرت الآية القرآنية وتذكرت هول القيامة... فتعلق سلمان (رضي الله عنه) بهذا الشاب كثيراً وحينما مرض الشاب وأدركه الموت دعا له سلمان أن يرفق به ملك الموت ... فكان الخطاب «إني بكل مؤمن رفيق».
وحينما يتذكر الإنسان الموت, لأن ذكر الموت هو لجام للذنوب, وذكر الموت هو غربيل الشهوات, وذكر الموت يكسر الغرور والتكبر, وذكر الموت طريق التوبة.
فعن رسول الله7 ورد أنّه قال: «اكثروا ذكر الموت فإنه يمحّص الذنوب».
لأن وراء الموت عقاب, ولا بد للإنسان أن يخاف من عواقب ذنوبه, ويسعى دائماً تجنّب ممارسة المزيد من الذنوب لأن في ذلك خسارة للدين والدنيا. ولا بد للإنسان أن يقتدي بالأسوة الحسنة ويذكر نفسه بهم: «اللهم طهرني من الذنوب كلها, وألحقني بأوليائك الصالحين, اللهم ألحقني بصالح من مضى, وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم, وثبتني يا ربّ ولا تردني في سوء استنقذتني منه يا رب العالمين».
هذه الممارسات التربوية يحتاجها الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته حتى يتجنب السقوط في بحر الذنوب. والممارسة العبادية تزيد الإنسان قوة في ممارساته التربوية وهي وسائل لتطهير النفس من أدران الشيطان.
وعن رسول الله7 «مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلى كَفّرَت ما بينهما»( [97][97]).
وعن أمير المؤمنين u «والصلاة تنزيهاً عن الكبر والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء»( [98][98]) فالممارسة العبادية هي دواء لداء الذنوب والأسقام.

الموقف الإسلامي من المذنبين

الإسلام يؤكّد على ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويعتبره واجبٌ عيني على كل شخص أن يمارس إنكار المنكر بالقلب واللسان واليد لمنع إنتشار المنكر في المجتمع. التعامل الإسلامي مع المذنبين يعتمد على نوع الذنب الممارَس, وشخصية الممارِس, وطبيعة الذنب الممارس, فالممارسة الإسلامية اتجاه المذنبين هو الإنكار لأعمالهم وهجرهم إذا لم يستجيبوا إلى كلمة المعروف وهذا على الصعيد الشخصي, أما على الصعيد الإجتماعي فالدولة الإسلامية هي أولى بتطبيق الحدود على المذنبين إجتماعياً.. كالزنا والسرقة وغيرها من الأمور الإجتماعية التي تتجاوز حدود الشخص المذنب نفسه. الإسلام جعل حدود المذنبين بين العفو والقصاص لكي يربي الأمة على الصعيد الفردي والإجتماعي أن تتجاوز الممارسات المغلوطة وأن ترجع إلى الله بصورة دائمة وتستحضر وجوده من خلال تربية الذات. على أن الوجدان الداخلي للإنسان المسلم هو القانون الحاكم الذي يمنعه من الممارسات المغلوطة.. وحينما يستشعر الإنسان أن الله سبحانه وتعالى رقيبٌ عليه في كل صغيرة وكبيرة, فلا يتجاوز على القانون العام أو قانونه الخاص, أما الذي لا يستشعر هذه الحالة أو يتغافل عن الشعور بهذه الحالة سوف يتجاوز على القيم والقوانين الخاصة والعامة, ولهذا لا يجوز إعانة هؤلاء على ذنوبهم.. فلا يجوز أن نشتري من الخمّار أو لا يجوز إعانة الظالم على ظلمه, وغيرها العشرات من المسائل الحياتية التي تخص الفرد والمجتمع.


















السلوك الإنساني ذو اتجاهين:
أحدهما سلبي, والآخر إيجابي,
السلوك السلبي هو الناتج عن غلبة الهوى وطغيان الذنوب على حياة الإنسان, أما السلوك الإيجابي فهو الذي يُميز الإنسان المؤمن عن غيره, فحينما يعيش المحنة والإبتلاء يكون صبوراً ومحتسباً أمرَه إلى الله ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ البقرة: 155-156.
فالمحنة للإنسان المؤمن تحمل بعدين:
أحدهما: للمكافئة.
والثاني: للإبتلاء والتمحيص لغرض تصفية الإنسان من شوائبه للبلوغ به نحو التكامل الإنساني.
فعن الصادق u ورد أنه قال: «إن أشدّ الناس بلاءً الأنبياء, ثم الذين يلونَهم, ثم الأمثل فالأمثل»( [99][99]).
وحينما يمارس الإنسان الذنوب فلا يجد أمامه إلا العواقب التالية:

1- الذنوب تسلب توفيق الدعاء من الإنسان فتُبقيه يعيش في حالة نفسية صعبة.
وقد جاء في الدعاء: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء».
وكذا جاء: «فأسئلك بعزّتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي».
وعن الصادق u «كان أبي يقول ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة, إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فتصيّر أعلاه أسفله»( [100][100]).

2- الذنوب تنسي المرء ذكر الله
عن الصادق u «إنّ الله أوصى إلى داود إن أدنى ما أنا صانع بعبدٍ غير عامل بعلمه من سبعين عقوبةٍ باطنية أن أنزع من قلبه حلاوة ذكري»( [101][101]).
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين وقال: يا أمير المؤمنين إنّي حُرِمت من صلاة الليل. فقال له الإمام علي u «أنت رجلٌ قد قيدتك ذنوبك»( [102][102]).
وعن الصادق u «إن الرجل يذنب الذنب فيُحرَمُ صلاة الليل, وإن العمل السيء أسرع في صاحبه من السكين في اللحم»( [103][103]).
وفي الحديث الشريف «شرف المؤمن صلاته في الليل»( [104][104]).
وكذا جاء «الركعتان في جوف الليل أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها»( [105][105]).
وقد خطب أمير المؤمنين u في أحد الجُمَع فقال في نهاية خطبته «أيها الناس سبع مصائب نعوذ بالله منها؛ عالمٌ زلَّ, وعابدٌ ملَّ, ومؤمنٌ خلَّ, ومؤتمنٌ غلَّ, وغنيٌ أقلَّ, وعزيزٌ ذلَّ, وفقيرٌ اعتلَّ».
فقام إليه رجل قائلاً: يا أمير المؤمنين لِمَ لا تُستجاب دعواتنا وقد قال سبحانه وتعالى ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾, فأجاب u: إن قلوبكم خانت بثمان خصال:
أولها: أنّكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه كما أوجب عليكم فما أغنت عنكم معرفتكم شيئاً.
الثانية: أنّكم آمنتم برسوله ثم خالفتم سنته وأمتُّم شريعته, فأين ثمرة إيمانكم؟.
الثالثة: أنّكم قرأتم كتابه المنزل عليكم فلم تعملوا به وقلتم سمعنا وأطعنا ثم خالفتم.
الرابعة: أنّكم قلتم تخافون من النار وأنتم في كل وقتٍ تقدمون إليها بمعاصيكم فأين خوفكم؟.
الخامسة: أنّكم قلتم ترغبون في الجنّة وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها فأين رغبتكم فيها.
السادسة: أنّكم أكلتم نعمة المولى فلم تشكروا عليها.
السابعة: أن الله أمركم بعداوةِ الشيطان وقال: إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً فعاديتموه بلا قولٍ وواليتموه بلا مخالفة.
الثامنة: أنّكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم, وعيوبكم وراء ظهوركم, تلومون من أنتم أحق باللوم منه. «فأيّ دعاءٍ يستجاب لكم مع هذا, وقد سددتم أبوابه وطرقه, فاتقوا الله وأصلحوا أعمالكم وأخلصوا سرائركم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فيستجيب لكم دعائكم»( [106][106]).
والذنوب التي تنسي المرء ذكر الله وتردّ الدعاء, سوء النية, وخبث السريرة, والنفاق مع الأخوان, وترك التصديق بالإجابة, وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها, وترك التقرب إلى الله عزّ وجلّ بالبرّ والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول( [107][107]).

3- الذنوب تُغيِّر النعم وتبيد الأمم
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم»
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ غافر: 21.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ الأنفال: 52.
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ الإسراء: 16.
إن هلاك الأمم لا يتم إلا بعد إنتشار الظلم والفسق والفجور على أيدي الحكام الظالمين وعلى أيدي العائبين المترفين في المجتمع.
فقد روي عن أمير المؤنين u أنه قال: «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمةٍ من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها, لأن الله ليس بظلام للعبيد»( [108][108]).

4- الذنوب تقصر العمر وتعجل بالفناء
«اللهم إنّا نعوذ بك من الذنوب التي تعجل الفناء»
الذنوب التي تعجل الفناء هي قطيعة الرحم, واليمين الفاجرة, والأقوال الكاذبة, والزنا, وقطع طريق المسلمين بالسلب والقتل وما أشبه, وادّعاء الإمامة بغير حق.
وقد قال الإمام الباقر u: «صلة الرحم تزكي الإعمال, تنمي الأموال, وتدفع البلوى, وتيسر الحساب, وتنسئ في الأجل»( [109][109]).

5- الذنوب تهتك العصم
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تهتك العصم»
والعصم: هي الحُجُب التي تستر الروح البهيمية في الكائن البشري, فممارسة الذنوب هو هتك لهذه الحجب التي تستر الروح البهيمية.
عن رسول الله7 : «للمؤمن اثنان وسبعون ستراً, فإذا أذنب ذنباً إنهتكت عنه»( [110][110])
والذنوب التي تهتك العصم هي شرب الخمر, واللعب بالقمار, وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح, وذكر عيوب الناس ومجالسة أهل الريب»( [111][111]).

6- الذنوب تقطع الرجاء
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تقطع الرجاء»

7- الذنوب تُنزل النقم
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تنزل النقم»
ومن الذنوب التي تنزل النقم هي الفسق والفجور.

8- الذنوب تؤدي إلى الكفر
من الذنوب التي تؤدي إلى الكفر هي اتباع هوى النفس, والحسد, والخمر, والكبر والغرور. وقد قال تعالى:
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الروم: 10.
﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ القمر: 30.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ البقرة: 109.
وجاء عن أمير المؤمنين u قوله: «ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»( [112][112]).
وعن الصادق u «الشراب مفتاح كل شرّ, ومدمن الخمر كعابد وثن, وإن الخمر رأس كل إثم وشاربها مكذب بكتاب الله تعالى, لو صدق كتاب الله حرّم حرامه».

الآثار الدنيوية للذنوب في المنظار القرآني
قال جلّ من قال: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ البقرة: 59.
وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ المائدة: 49.
وقال سبحانه: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ الأعراف: 96.
﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ الأنعام: 6.
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ النمل: 52.
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ نوح: 25.
﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾ الشمس: 14.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الرعد: 11.
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين: 14.
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى: 30.
وعن رسول الله7 قال خير آية في كتاب الله هذه الآية.. وبعدها قال7 «يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب».

الآثار الأخروية للذنوب في المنظار القرآني
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ النمل: 90.
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ الجن: 23.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ*وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ*وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ*كَلَّا إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى﴾ المعارج: 11-16.
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ المؤمنون: 104.

9- الذنوب تؤدي إلى حبط الأعمال الحسنة
﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ التوبة: 17.
ومن هذه الذنوب التي تؤدي إلى الإحباط هي الشرك بالله, وإنكار آيات الله, الردة عن الدين, ومخالفة أوامر الأنبياء والصالحين.
ومن الأمثلة على حبط الأعمال هو القيام بأعمال حسنة تنفع العامة وبنفس الوقت تمارس الربا, أو تخالف أمر الله تعالى في الأمور الحياتية, إذن حينما تطغى الذنوب على العمل الصالح فلا نتيجة تُرتجى من كل عمل صالح. مقابل الكبائر من الذنوب لا يمكن أن تقوى الأعمال الحسنة على إزالة تلك الكبائر.

10- الذنوب تؤدي إلى مسخ الشخصية
الممارس للذنب الصغير دون أن يردع هواه ويتوب ويستغفر, سوف تستمر به الحالة هكذا حتى يتجاوز على كل شخصيته المعنوية ويحطمها بالتدريج يكون قد تجاوز الحياء الإجتماعي والحياء الإلهي وسهّل على نفسه ارتكاب المعاصي حتى الكبيرة منها.
﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ النحل: 108.
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ الصف: 5.
عن أمير العصومين u «ماجفت الدموع إلاّ لقسوة القلوب وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب»( [113][113]).
«ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة أن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصيّر أعلاه أسفله»( [114][114]).
«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء, فإن تاب انمحت, وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»( [115][115]).


















﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإسراء: 23.
أمر الله سبحانه وتعالى عباده بعبادته عن إخلاص, والإخلاص بالعبادة هو أوجب الواجبات, كما أن الشرك به من أكبر الكبائر الموبقة, كما في سورة النساء: 48.
كل ذنب يمارسه العبد هو طاعة لغير الله من شياطين الجن والإنس وهوى النفس والجهل ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ يس: 60.
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ الجاثية: 23.
إن هذا الشرك في الطاعة أمر عظيم قدمه القرآن على سائر الأحكام الخطيرة شأناً كعقوق الوالدين, ومنه الحقوق المالية, والتبذير, وقتل الأولاد, والزنا, والسرقة, وقتل النفس المحترمة, وأكل مال اليتيم, ونقض العهد, والتطفيف في الوزن, واتباع غير العلم.. ولكن على الرغم من كل هذه الدرجة من الممارسات السيئة التي اعتبرها الله سبحانه وتعالى أنها تدخل في طاعة غير الله وهي بعنوان الشرك (الثانوي), فتح الله سبحانه وتعالى باب الرحمة لعباده وسماها التوبة ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: 53.
لقد شملت الرحمة الإلهية كل الناس (المؤمنين والمشركين) أن لا يقنطوا من رحمة الله, لأن الله يغفر الذنوب جميعاً إذا بدأت محاولة العبد للتخلص من الممارسات الخاطئة. فالمغفرة عامة أكانت في الشرك (الأوّلي) أو الشرك (الثانوي) ولكنها تحتاج إلى سبب مخصص ولا تكون جزافاً, والذي عدّه القرآن سبباً للمغفرة أمران: الشفاعة والتوبة.
والمغفرة بالشفاعة لا تخص الشرك الأولي ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ النساء: 48.
أما التوبة فهي مفتاح لمغفرة الذنوب جميعاً أكان شركاً أوليّاً أو ثانوياً.
لقد ذهب بعض المفسرين إلى تقييد المغفرة بالكبائر جميعها والصغائر وحتى الشرك وبعضها استند إلى آية ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ النساء: 48. قيدها بالشرك الثانوي (وهي جميع الذنوب دون الشرك الحقيقي بالله تعالى (الشرك الأولي)).
ولكن الأرجح عند جمهور المفسرين هو المغفرة لكل الذنوب صغيرها وكبيرها وحتى الشرك( [116][116]).
والتوبة توبتان .. توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة, وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والإقلاع عن المعصية( [117][117]) وتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى, فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال, فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى تتحقق منه التوبة, ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته. فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ ُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ التوبة: 118.
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ النساء: 12.
التوبة هي الرجوع, وهي حسنة تحتاج إلى قوة, والحسنات من الله, والقوة لله جميعاً, فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتسنى له الإنصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربّه, ثم إذا وُفِّق للتوبة والرجوع احتاج التطهير من هذا التلوث (الذنوب), والورود والاستقرار في ساحة القرب الإلهي ورجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.
وهذا الرجوعان من الله سبحانه وتعالى هما التوبتان الحافتان بتوبة العبد ورجوعه. ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ التوبة: 118. هذه هي المرحلة الأولى من التوبة ثم ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ البقرة: 160. وهذه هي التوبة الثانية. فإذن, إن الله تعالى أوجب على نفسه وفاء العهد حينما يتوجه العبد بالرجوع إلى الله سبحانه.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ غافر: 7.
فالعمل بجهالة كما في سياق الآية, يقابلها العلم بالشيء, ولكن هؤلاء الذين يعملون الذنوب عن هوى وطغيان الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق. ومن علامة هذا الجهل أنه حينما تخمد الشهوات نتيجة لمانع أو لضعف القوى البدنية أو يقظة في الضمير, والعلم الصحيح بالعمل, تبين الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد تحدّياً لأوامر الله تعالى, وهو ناتج عن خبث الذات ورداءة الفطرة, ولا يلحقه الندم في عمله إلا أن يشاء الله ذلك.
والتوبة هنا «من قريب» أي أن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج, بل يرجع عن عمله عن قريب, فالمراد بالقريب هو قبل فوات الأوان وحلول الموت. أي تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفاً, كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يُعدّ عرفاً متصلاً به, لا أن يمتد إلى حين حضور الموت.
فالتوبة من الله لا تقبل من العبد الذي يبقى مصرّاً على الذنب, ولا تُقبل من العبد الذي يموت وهو كافر.
فالله تعالى هو قابل التوب وهو غافر الذنب وهو الذي يقبل التوبة عن عباده .. هو صاحب الرحمة الكبيرة التي بها يغفر لعباده ويزيل ظلمة المعاصي من قلوبهم ... ولله تعالى الحق في رد توبة العبد وعدم قبولها إذا لم تتوفر المقدمة الصحيحة في عملية التوبة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ آل عمران: 90.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ النساء: 137.
والتوبة حينما أكرم الله سبحانه عباده بها هي حقيقة ذات تأثير إنساني من حيث اصلاح النفس وإعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة. فالتوبة هي طهارة النفس من الأدران والسيئات النفسانية التي تجر الإنسان إلى كل شقاء في حياته الأولى والأخرى وتمنعه من الإستقرار على أريكة السعادة.
والتوبة لم تُشرَّع لإغراء العبد بالمعصية وتحريضه على ترك الطاعة كما يتوهم البعض, وإنما التوبة شُرِّعت لتفتح الطريق للإنسان المذنب أن يرجع عن عمله السابق نتيجة سيطرة الهوى والشهوة عليه. ولكن إذا مورست العملية بعنوان التكرار (يعصي ثم يتوب), فإن ذلك لا يتحقق معها حقيقة التوبة, لأن التوبة هي الرجوع الإختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية؛ وبهذا العمل تتبدل السيئات السابقة إلى حسنات ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً*وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾ الفرقان: 70-71.
إن الله سبحانه وتعالى أعطى للتوابين من الفضل ما لم يعطه لأحد ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ البقرة: 222.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ*رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ غافر: 7-9.
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ الفرقان: 68-70.
إن التوبة عملية إزالة الصدأ من معدن النفس وإذا تراكمت مادة الصدأ في النفس من دون توبة تكون ريناً ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين: 14.
وإذا تراكم الصدأ أكثر صار طبعاً, وإذا صار طبعاً صعب زواله. فالتوبة والإستغفار هما لزوال السيئات ومنع تراكمها.
وقد ورد عن رسول الله7: «اتبع السيئة الحسنة تمحها».
فالتوبة أول علائمها الندم على الفعل والتصميم على ترك الذنب, وإعطاء حقوق الناس وتذويب كل ما نبت في الجسم من اللحم الحرام بالحزن والاستغفار, وتسخير الجسد في طاعة الله تعالى.


طبقات التائبين

الطبقة الأولى: هم الذين يتوبون من المعاصي إلى آخر العمر, ولا يُحدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه, إلا اللمم التي لا ينفك الإنسان عنها في العادة إلا المعصومين, فإنهم لا يمارسون حتى اللمم, وهذه التوبة هي التوبة النصوح, وصاحب هذه النفس هو صاحب النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ التحريم: 8.
الطبقة الثانية: هم التوابون الذين يتوبون من المعاصي ولكن لا ينفكون عن ممارسة بعض الذنوب, لا عن عمد وتجريد قصد ولكن يبتلي بها المذنب. فهم يلومون أنفسهم حتى إذا ندم أحدهم وتأسّف وجدد عزمه على التوبة وترك الذنب إلى حده الأدنى. وهؤلاء أهل النفس اللوامة.
الطبقة الثالثة: هم التوابون الذين يستمرون بالتوبة لفترة ثم يعاودون الذنب, وهكذا فإنهم يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهؤلاء أهل النفس الأمّارة ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ التوبة: 102.
ومن هؤلاء من يحاول التوبة ولكن يصرّون على ممارسة الذنوب, كما قال تعالى:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ السجدة: 12.
ولرحمة الله تعالى بعباده وحبه لهم جعل الله تعالى الصدقة في سبيله باب من أبواب التوبة, لأن الصدقة توبة ماليّة وكلاهما مطهِّرتان ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التوبة: 104.
فـ«التواب الرحيم» أي جمع بين التوبة والتصدق, والمراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى يطلف بعباده ويشجعهم على التوبة حتى يكرمهم بالحسنات ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾. لأن الله يحب التوابين, والله تعالى أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد, ومن الضال الواجد ومن الضمآن الوارد حسب قول الإمام الباقر u.
وحينما يتوب العبد ويسلّم أمره لله تعالى, فإن الله تعالى يلهمه ما يبعث فيه الإخلاص ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ الأحقاف: 15.
والإخلاص يكون في الذات والأعمال, فتكون كل حياته لله تعالى.. مستغفراً الله تعالى يرجو منه العفو والغفران لما بدر منه في السابق من الذنوب والممارسات الخاطئة, لأن الله يحب عبده الملحاح بالدعاء ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ النساء: 106.











































إن مرض الذنوب وعوارضه يصيب المجتمع ولكن بدرجات متفاوتة, وأثر العلاج لهذا المرض الخطير يعتمد على طبيعة المرض وزمانه وشدّته وقدرة البدن على تحمله وطريقة علاجه. فإذا أراد الإنسان أن يسير في هذه الحياة فليجعل التوبة والإستغفار سبيلاً لتحصين نفسه من السقوط في شباط الشيطان.
عن رسول الله7 «إنه ليُران على قلبي حتى استغفر باليوم والليلة سبعين مرة»( [118][118]).
نسأله تعالى أن يجعلنا من التوابين ومن المستغفرين, لأنّنا لا نعلم متى الأجل يتخطفنا.. فلنستعد وكأن الأجل صائر إلينا بعد لحظات فإن:

«فمن يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال, ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار»( [119][119]).
وقد رُوي عن رسول الله7 أنه قال:
«اتق الله حيث كنت, وخالق الناس بخلق حسن, وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها»( [120][120]).
وقال7: «من عمل سيئة في السرّ, فليعمل حسنة في السرّ, ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية»( [121][121]).
وعن أمير المؤمنين u ورد قوله: «ثمرة التوبة استدراك قوارط النفس»( [122][122]).
وعن الباقر u «ما أحسن الحسنات بعد السيئات»( [123][123]).
وقال u: «التائب إذا لم يستبن أثر التوبة فليس بتائب, يرضي الخصماء ويعيد الصلاة ويتواضع بين الخلق ويتقي نسفه عن الشهوات»( [124][124]).
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ آل عمران: 147.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
















مصادر عامة للبحث



1- الطفل بين الوراثة والتربية – للشيخ محمد تفي الفلسفي- ترجمة السيد فاضل الميلاني.
2- الذنوب الكبيرة – للسيد دستغيب- ترجمة السيد صدر الدين القبانچي,
3- المحجة البيضاء- للفيض الكاشاني.
4- معرفة الذنوب (گناه شناسي) للشيخ محسن القرائتي.
5- اتجاهات الدفاع الإجتماعي في الإسلام – جلال الدين علي الصغير.
6- دراسات في النفس الإنسانية - محمد قطب.

تم تنضيد أحرف الكتاب على الأجهزة
الكومبيوترية في دار الأعراف للدراسات والنشر




المحتويات

المقدمة 5
الإهداء 9
القسم الأول:

الذنب مفهوماً واصطلاحاً 11
أقسام الذنوب 15
كيف تتحول الصغائر إلى كبائر 21
1- الإصرار على فعل الصغائر 21
2- تصغير الذنوب 22
3- الطغيان والتكبر 24
4- الأمان من مكر الله 24
5- التجاهر بالذنب 24
6- ذنب من له مسؤولية إجتماعية 25
7- ممارسات أهل البدع 25
مفاتيح الذنوب 29
القسم الثاني: نشأة الذنب 31
منابع الذنوب 35
1- الجانب التربوي والثقافي 36
2- الجانب العائلي 46
3- الجانب الإقتصادي 54
4- الجانب الإجتماعي 60
5- الجانب النفسي الإجتماعي 75
6- الجانب السياسي 79
القسم الثالث: التبرير في ممارسة الذنب 81
أ- التبرير في الممارسات الإعتقادية 85
ب- التبرير السياسي 87
ج- التبرير الإجتماعي 89
د- التبرير النفسي 90
هـ- التبرير الثقافي 93
و- التبرير الإقتصادي 96
ز- التبرير العسكري 100
معرفة الحق والباطل 102
استثناء 104
القسم الرابع: التوبة والإستغفار 107
الموقف الإسلامي من المذنبين 113
آثار الذنوب 115
التوبة 127
طبقات التائبين 134
الخاتمة 137
مصادر عامة للبحث 142
المحتويات 143

الدكتور ناصر الحق
11/05/2008, 09:00 PM
الحمد لله الذي جعلنا من التوابين وجعلنا من المستغفرين. وصلاته وسلامه على سيدنا محمد رسول الهدى وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.
وبعد يُولد الطفل والطهارة تولد معه فهو مسلمٌ بالفطرة, وهو نقيٌ من كل شوائب الذنوب بالفطرة... ولكن السلوك العائلي سوف يؤثر على منهجية الطفل سلوكياً ونفسياً باتجاه السلب أو الإيجاب, وينعكس هذا السلوك تدريجياً على شخصيته, وتتنامى معه الحسنات أو السيئات السلوكية متأثراً بالمحيط الإجتماعي على الصعيد الأسري أو المدرسي أو المحيط العام.
فحينما يعيش الطفل في أجواء غير سليمة ستظهر بوادر
الذنوب كممارسة صغيرة, وتتنامى هذه الممارسات حتى تتحول إلى كبائر إذا لم يهذّبها بالتوبة والإستغفار. فتارة تكون الذنوب ممارسة شخصية لها التأثير السلبي على الشخص نفسه فقط, وتارة تكون الممارسة إجتماعية, وتارة تكون الممارسة جريمة تؤثر على الكيان الإجتماعي.
إن الإسلام العظيم كرسالة سماوية, جاءت لتحرير الإنسان من عبودية الذات والهوى والتحرر من قيود الشيطان إلى عبادة الله سبحانه وتعالى. وبما أن الإتجاه إلى الهوى وبالتالي إلى الذنب هو اتجاه طبيعي بإعتبار عدم معصومية الإنسان نرى الإسلام قنن أمر الذنب والتخلص منه تقنيناً رائعاً كي لا يدع الإنسان أسير عقدة الذنب ففتح له باب التوبة بشكل لا يخل بشخصيته, بل لتتكامل شخصيته ويعيش انطلاقتها نحو سموها. أما إذا أصرَّ الإنسان على ممارسة الذنب فالإسلام لا يغفل الأمر هذا بل نراه يتعامل معه بواقعية فريدة. لذا نجده يضع الإنسان فرداً ومجتمعاً أمام مسؤولياته المستقبلية موضحاً له العواقب التي ستتحقق نتيجة سلوكية الذنب عليه كفرد مرة وأخرى كمجتمع وفي دنياه وآخرته.
هذه السطور التي بين يدي القارئ الكريم هي دراسة مختصرة إلى موضوع حساس مع الإنسان في لاكل لحظةٍ من لحظات حياته في السرّ والعلن, ومستويات ممارسته تختلف من إنسان إلى إنسان طبقاً لدرجات الإيمان. ولهذه الممارسات التأثير السلبي على الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة, فقد
تتحول هذه الممارسات إلى جرائم إجتماعية كبرى. لذا جعل الله سبحانه وتعالى للإنسان مخرجاً للتخلص من هذه الممارسات واستئصالها وذلك من خلال التوبة النصوح والاستغفار, لكي ينعم الإنسان بنعمة الإيمان الحقيقي ويسعى إلى تهذيب النفس بالفضائل الأخلاقية الحسنة التي تجنبه الوقوع في وحل الهوى النفسي ووحل الشيطان حتى بالممارسة الصغيرة التي تسمى اللَّمَم. فإن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان كل الخير وَمدَّه بكل السبل التي تُرشده إلى الخير حتى لا يقع في حُبَل الشيطان, وإن غُلِب الإنسان وسَيطَرَ عليه هواه ومكر الشيطان, جعل الله له نرى رحمة الله تُبقي باب الأمل مفتوحاً بشكل يتصاغر أمامه كل وصف بالسعة وذلك كي لا يقطع طريق العودة إلى الاستقامة. ليعيش في ظلِّ الإسلام العظيم منتصراً على إرادة الهوى والشيطان ويكون صاحب الفعل والعمل تواباً مستغفراً ومن ثم ليكون لُبنةً صاحلةً من لبنات المجتمع القرآني العظيم.
﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الذاريات: 17-19.

والحمد لله أولا وآخرا.












الإهداء


إلى كل التائبين.
إلى كل المستغفرين.
إلى الذين وقَرَ حَبِ الله في قلوبهم فطلقوا كل ما دونه.
إلى عبادِ الله المخلصين.
إلى دعاةِ الله في كل مكان من هذه الأرض.
إلى كل الأحرار من قيود الذنوب.
أقدم هذه السطور المتواضعة.














يعرف الذنب بأنّه الإثم والجرم والمعصية ( [1][1]). أو هو ارتكاب فعل منهي عنه أو ترك آخر مَأمورُ به ( [2][2]). أو هي الأعمال التي استوجبت لفاعلها العقوبات الدنيوية أو التي لم تستوجب عقوبةً دنيوية ( [3][3]). وقد صنف القانون الوضعي الذنب إلى ثلاثة أصناف: الجناية, الجنحة, والمخالفة. وعُرِّف الذنب بالمفهوم القانوني أنه الخروج عن القوانين والمقررات الموضوعة لحفظ مصلحة الأمة وصيانة نظامها العام وضمان بقائه.
ويمكن أن نقول أن الذنب هو أي عمل يتعدى به الفرد على حدود الله تعالى سواء أكان هذا التعدي صغيراً أو كبيراً. لأن الإنسان المسلم لا ينظر إلى صغر الذنب بل إلى من أذنب «لا تنظر إلى ضغر الذنوب بل انظر إلى من عصيت» (4). وهناك كلمات قرآنية مرادفة إلى الذنب وهي المعصية, الإثم, السيئة, الجرم, الحرام, الخطيئة, الفسق, الفساد, الفجور, المنكر, الفاحشة, الشرّ, اللمم, الوزر.















إن الذنوب على ثلاثة أنواع:-
1- 1- 1- اللمم: وهي السيئات الصغيرة جداً والتي يتجاهل الإنسان آثارها الجانبية لكونها أعمال غير محسوسة الأثر على الصعيد الشخصي. فإنها كالغبار الداخل الى الغرفة عندما يُترك ويُهمل يتجمع ويكون أكواماً من الرمل والوسخ قد يصعب على الإنسان إزالتها والتخلص منها, لأنها تكون عندئذ جزءً من حياته وبها تنمو حالة المعصية أكثر وأكثر. وهي مدخل إلى صغائر الذنوب.
2- 2- 2- الصغائر: وهي السيئات المحسوسة أو المنظورة أو المسموعة, والتي يتجاهل الفاعل آثارها الجانبية فتكون مدخلاً إلى كبائر الذنوب.
3- 3- 3- الكبائر: هي السيئات الكبرى, كالزنا, الخمر, أكل الميتة. وأول هذه الكبائر هو الشرك بالله تعالى, حيث إنه من الذنوب التي لا تغفر ﴿ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾. المائدة: 72.
وقد عدّ العلماء أكثر من 40 كبيرة قد تقتضي عقاباً دنيوياً أو اخروياً او كليهما( [4][4]).
روي عن الإمام موسى الكاظم u أنه قال: «دخل عمرو بن عبيد (العالم المعتزلي المعروف) على الإمام الصادق u. فلما سَلَّمَ وجلس تلا هذه الآية ﴿ الذين يجتنبون كبائر﴾. ثم أمسك فقال له الإمام u: ما أسكتك؟ قال: أحُب أن أعرف الكبائر من كتاب الله, فأجابه الإمام u: نعم يا عمرو.
الأول: أكبر الكبائر هو الإشراك بالله يقول الله ﴿ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ المائدة:72.
الثاني: اليأس من روح الله لأن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. يوسف:87.
الثالث: هو الأمن من مكر الله لأن الله عز وجل يقول ﴿ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾. الأعراف:99.
الرابع: هو عقوق الوالدين ﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾. مريم:32.
الخامس: هو قتل النفس التي حَرَّم الله قتلها ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾. النساء:93.
السادس: تهمة النساء المؤمنات بالزنا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. النور:23.
السابع: أكل مال اليتيم ﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾. النساء:10.
الثامن: الفرار من الزحف ﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. الأنفال:16.
التاسع: أكل الربا ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾. البقرة:275.
العاشر: هو السحر والشعوذة ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾. البقرة:102.
الحادي عشر: هو الزنا ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾. الفرقان:68-69.
الثاني عشر: هو اليمين (الحلف) الكاذبة ﴿ِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة﴾.
آل عمران:77.
الثالث عشر: هو الخيانة في الغنائم الحربية ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. آل عمران:161.
الرابع عشر: عدم دفع الزكاة الواجبة ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم﴾. التوبة:35.
الخامس عشر: كتمان الحق ﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾. البقرة:283.
السادس عشر: شراب الخمر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. المائدة:90.
السابع عشر: هو ترك الصلاة والفرائض الإلهية الأخرى ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾. المدثر: 42-44.
الثامن عشر: هو نقض العهد وقطع الرَحِم ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾. الرعد:25.
عندما وصل الإمام إلى هذا الحد كان عمرو بن عبيد يبكي وقد خَرَجَ من الإمام وهو يقول «هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعِلم»( [5][5]).
وقد فسر الفقهاء وعلماء الأخلاف الكبائر بعدة تفاسير وهي:
1- 1- 1- كل ذنب وردَ في القرآن وفيه وعد العذاب الإلهي.
2- 2- 2- كل ذنب وضع له الشارع المقدس حدّاً من القصاص كالزنا وشرب الخمر والسرقة والقتل ...الخ.
3- 3- 3- كل ذنب عله يُقصد به الإهانة من قبل مرتكبه وعدم الاحترام إلى شريعة الله.
4- 4- 4- كل ذنب ثبتت حرمة فعله بالأدلة القطعية.
5- 5- 5- كل ذنب حذر منه القرآن والسنة النبوية ومن مارسه يتعرض لعذاب الله في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.
وقد ذكر العلماء أكثر من 40 من الكبائر هي: الشرك بالله, واليأس من رحمة الله, والإطمئنان من مكر الله, والكذب على الله ورسوله والأئمة الأطهار, وقتل النفس المحترمة, وعقوق الوالدين, وأكل مال اليتيم, وتهمة الزنا بالعفيفات, والفرار من الجهاد, وقطع صلة الرحم, والسجر والشعوذة, والزنا, واللواط, والسرقة, واليمين الكاذب, وكتمان الحق, وشهادة الزور, ونقض العهد, والعمل خلاف الوصية, والسكر, وأكل الربا, وأكل مال الحرام, ولعب القمار, وأكل الميتة والدم, وأكل لحم الخنزير, وأكل الذبيحة التي لم يُذكر اسم الله عليها إلا بالإضطرار, والبخس في البيع, والتعرّب بعد الهجرة (يعني سفر الفرد من دار الإسلام إلى دار الكفر يكون فيه دينه ودين أطفاله في خطر), ومساعدة الظالمين, الإعتماد على الظالمين, والاحتفاظ بمالِ الآخرين بدون عذر, والكذب, والتكبر, والاسراف, والتبذير, والخيانة, والغيبة, والنميمة, والاستئناس بوسائل اللهو, والاستخفاف بالحج, وترك الصلاة, وعدم دفع الزكاة, والاصرار على ممارسة الصغائر من الذنوب( [6][6]).
قال أمير المؤمنين u: إن الذنوب ثلاثة؛ فذنب مغفور, وذنب غير مغفور, وذنب ترجو لصاحبه وتخاف عليه( [7][7]).
الذنوب المغفورة: هي الذنوب التي يُعاقب عليها الإنسان في ممارستها في الدنيا ويلطف عليه الله في الآخرة.
الذنوب غير المغفورة: هو الشرك بالله. وفي رواية أخرى الذنوب غير المغفورة هي تجاوز الناس بعضهم على بعض.
الذنب المرجو: هو الذنب التي يتوب صاحبها التوبة النصوح فيغفر الله تلك الذنوب بعد تلك التوبة النصوح والشاملة.




















عندما يمارس الإنسان الذنوب بصورة مستمرة فستكون هذه الممارسة الخاطئة حالة طبيعية لا يشعر بخطورتها, فتتحول عنده هذه الممارسات إلى كبائر يكون تأثيرها خارجاً من حدود الأفراد إلى المجتمع, وتكون الجريمة الإجتماعية أحد مصاديقها. ومن هذه الكبائر هي:

1- الإصرار على فعل الصغائر

عندما يمارس الإنسان الصغائر بصورة مستمرة, تتراكم هذه الذنوب بحيث يصعب إزالتها بسهولة, كمثل تجمع الخيوط الرفيعة بعضها فوق بعض فتكون حبلاً وليس خيطاً, لأن صاحب الخيط هو الذي يعمل الصغائر, ويتوب عن ممارسة الذنب مجدّداً ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. المائدة: 135.
عن رسول الله7: إياك والإصرار فإنه من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم.
كان رسول الله7 مع أصحابه فأمرهم بجمع ما يستطيعون من الحطب فذهب جميعهم وجلبوا ما يستطيعون من الحطب, جمعوه بعضه فوق بعضاً, فقال لهم الرسول7: هكذا تجتمع الذنوب( [8][8]).
وفي الحديث الشريف: إياكم والمحقرات مِنَ الذنوب( [9][9]).

2- تصغير الذنب وعدم الإعتناء بالمعصية.

عندما يستهين الإنسان بالمعاصي لصغائر ذنوبه فإنه يدخل مدخلاً خطراً يتدحرج به إلى كبائر من الذنب دونما تردد.
فعن الإمام علي u: أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه( [10][10]).
وعن الصادق u أنّه قال: إتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر, فسأله أحد أصحابه: ما هي المحقرات يا ابن رسول الله ؟ فقال u: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك( [11][11]).
وقال أمير المؤمنين u: شرّ الأشرار من تَبهَّجَ بالشَّرّ( [12][12]).
وقال u: من تلذذ بمعاصي الله ذلّ( [13][13]).
وعن السجاد u انه قال: إياك وابتهاج الذنب فإنه أعظم من ركوبه( [14][14]).
وقال u: لا خير في لذّة من بعدها النار( [15][15]).
وقال u: حلاوة المعصية يفسدها اليمُ العقوبة( [16][16]).
وقال رسول الله7: من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باكٍ( [17][17]).

3- الطغيان والتكبر.

عندما يطغى الإنسان ويتكبر يتحول جميع سلوكه إلى حالة غير إنسانية وتكون ضغائره كبائر وله الجحيم من النار:
﴿ َأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾. النازعات: 37-39.

4- الأمان من مكر الله.

عندما يرتكب المغرور الذنب ويبرر لنفسه التوبة وأن الله يرضى عن عمله, ولو لم يكن الله غافراً له لجازاه عن أعماله التي ارتكبها بسرعة. إذن هو من الصالحين في قاموس نفسه وما يدري أن الله قد أمهله العذاب.
﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. المجادلة: 8.

5- التجاهر بالذنب.

من تجاهر بمعصيته وإن كانت صغيرة, فتكون من الكبائر لأنّ في التجاهر إفساد للمجتمع, وتتحول المعاصي إلى حالة طبيعية في المجتمع, وهذا ما يرفضه الإسلام.
فعن علي u: إياك والمجاهرة بالفجور فإنّها من أشدّ المآثم( [18][18]).
وعن الرضا u: المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة والمذيع بالسيئة مخذول( [19][19]).

6- ذنب من له مسؤولية إجتماعية

المسؤول الإداري أو الإجتماعي أو السياسي, يجب أن يكون القدوة في كل سلوكه, وإذا قَصَّرَ أو أذنب, وإن كان ذنبه ضغيراً فسيكون كبيراً لأن في زلّته بُعدين: بعد إجتماعي وبعدٌ فردي, قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ﴾. الحاقة: 44.

7- ممارسات أهل البدع.

أهل البدع الذين تسببوا في إنحراف الكثير من الناس مع علمهم كاملاً بالحق أين هو, فهم يحملون الحق ويعرفونه, ولكنه الطغيان الذاتي يجعلهم لا يعرفون شيء ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾. الجمعة: 5.
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾. الأعراف: 176.
وفي رواية:
«إذا فسد العالِم فسد العالَم» وقوله7: «لا يصلح عوام أمتي إلا بصلاح خواصها...
فسئل: من خواص أمتك يا رسول الله7؟..
قال7: «خواصُ أمتي أربعة, الملوك والعلماء والعُبَّاد والتُجّار».
فسأله آخر وكيف يا رسول الله؟ فقال7.. «الملوك رعاة الناس... عندما يكون الراعي ذئباً كيف يحرص على غنمه, والعلماء أطباء الناس.. عندما يكون الطبيب مريضاً كيف يداوي الناس, والعُبّاد دليل الناس عندما يكون العابد ضالّاً كيف يهدي الناس, والتاجر أمين الناس... عندما يكون التاجر خائناً كيف يطمئن إليه الناس»( [20][20]).
وقال7«في يوم القيامة لا ينظر الله تعالى إلى ثلاث, شيخ زانٍ, ملك جَبَّار, ومُقِلٍّ محتال»( [21][21]).
قال u: «زَلّّة العالِم تفسد العوالم»( [22][22]).
وقال u «زلّة العالِم كانكسار السفينة تَغرق وتُغرِق معها غيرها».












كما أن الضعف والكِبَر في السِّن يؤدي إلى الكسل وتعدد الأمراض, كذلك الخلل في البناء الأخلاقي للإنسان يكون مفتاحاً لأنواع الذنب, ومن هذه المفاتيح هي:
1- الحسد وقد جاء فيه: «الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».
2- البخل والحرص وقيل فيه: «والبخل جامعٌ لمساوئ العيوب, وهو زمام يُقادُ به إلى كل سوء».
3- الكذب وقد قال7 فيه: «جُعلت الخبائث كلُّها في بيت وجُعِلَ مفتاحها الكذِب».
4- الغضب وسوء الخلق, وقد قال الرسول7 «الغضب مفتاح كل شر».
وهناك الكثير من مفاتيح الذنوب الأخرى منها الجبن, والتكبّر, وأكل الحرام وغيرها من الأعمال القبيحة التي تؤدي إلى الهلكات, وقد لُعِنَ الكثير من هؤلاء, ومنهم الكفار والمشركون, واليهود الذين أنكروا الحق, والمرتدون, والمتحايلون على قانون الله سبحانه وتعالى, والناكثون للعهد, والذين يكتمون الحق والذين أنكروا الحق, والمفسدون في الأرض, والمنافقون, والظالمون, والقاتلون, وإبليس, والذين يتهمون المؤمنات الطاهرات, والعاصون لأمر الصالحين, والمحبون لانتشار الفاحشة والفساد, والذين آذوا الرسول7 والمؤمنين, والكاذبون, والمتحايلون, والمحرفون لكتاب الله سبحانه وتعالى, و الذين يدعون إلى الخير ولا يعملون به, والذين يأكلون سهم المجاهدين, والذين يحاربون الله ورسوله.
هذه صورة مختصرة لمفاتيح الذنوب التي يحملها الإنسان وقد حَذّّرَ الله سبحانه وتعالى منها وهو لطف وإحسان منه حتى يجنبنا السقوط في مهاوي التردي والسقوط في دائرة الهوى الشيطاني.
﴿ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً﴾. النساء: 6.
﴿ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. النحل:36.
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنََ﴾. المائدة:151.
***






















خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة ومعها العقول دون الشهوات, وهي مأمورة بطاعة الله سبحانه وتعالى في تكوينها, وخلق الله سبحانه وتعالى الحيوانات ومعها الشهوة والغضب التي تتحكم بها, وخلق سبحانه الإنسان من قبضة طينية تتحكم بها الشهوة ونفحة إلهية تتحكم بالعقل «وشرف الإنسان بإعطاءه الشهوة والعقل» فإذا غلبت الشهوة العقل أصبح الإنسان دون مستوى الأنعام ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾. الفرقان: 44, وإذا غلب العقل الشهوة أصبح أفضل من الملائكة.
والانسان تتحكم فيه ثلاثة قوى هي قوة الشهوة, والغضب, والوهم والخيال, ولا بد من سيطرة العقل على هذه القوى. فإذا غُلِبَ العقل يعني يتحول الإنسان إلى حالة شرسة في قواه الشهوية, تؤدي إلى تلوث المجتمع وفساده, لذا فإنَّ:
أول عوامل نشأة الذنب هو غلبة قوى الشهوة على عقل الإنسان.
أما الثاني: هو الوسواس الذي يسيطر على عقل الإنسان فيفقده مصداقيته الحقيقة, فتكون الخبائث عنوانه والممارسة السيئة هدفه.
والثالث: هو سوء النية التي تغذي الإنسان بالأعمال السيئة.
والرابعة: هي طغيان حالة البغض على عقل الإنسان.
والخامسة: طغيان حالة التفكير بالمعاصي وقد قيل فيه:
«من فكر بالمعاصي دعته إليه». فعندما تفقد الشخصية الإنسانية مصاديقها الإيمانية والإنسانية, تكون عندها الممارسة العملية للذنب أو التفكير به من المسائل العادية لديها.
















هناك العديد من المنابع المهمة التي تشكل الأرضية الخصبة لممارسة الذنب ومن أهم هذه المنابع هي:
1- الجانب التربوي الثقافي.
2- 2- 2- الجانب الإقتصادي.
3- 3- 3- الجانب الإجتماعي.
4- 4- 4- الجانب النفسي.
5- 5- 5- الجانب السياسي.
6- 6- 6- الجانب العائلي.



1- الجانب التربوي والثقافي




من محاور هذا الجانب:

أ- الجهل

الجهل معدن الشرّ وأصل كل شرّ, لأن فيه الشقاوة والتعدي. الجهل كالظلام الدامس بلا نور يسير الإنسان فيه على غير هدى ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ الأعراف: 138.
﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ النمل: 55.
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ يوسف: 89.
وعن أمير المؤمنين u أنه قال: «لا يجتري على الله إلا جاهل شقي»( [23][23]).
وقال u: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك , وجاهل متنسك»( [24][24]).
قال u: «الجهل معدن الشر».
وقال: «الجهل أصل كل شر».
وقال: «الجهل يُفسدُ المعاد».
الخلط في المفاهيم وسيلة من وسائل انحراف الأمة وتكون إلى الباطل أقرب منها إلى الحق. ولهذا الكلام الإسلام على حفظ المفهوم الإسلامي وجَعلَ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة. لأن في ذلك حفظ للمفهوم والقانون الإسلامي ويمنع أهل الهوى من التجاوز على حرمات القوانين والسُنن الإسلامية. وقد شدّد الإسلام على حفظ القانون الإلهي لأن قداسته تكمن في حفظه وعدم تجاوزه حتى لو كان الشخص الذي تسري عليه القوانين نبي من أنبياء الله. فمثلاً حينما عَزَمَ النبي أيوب بعد الضُر والمرض الذي أصابه أن يُنَفِّذ ما عَزمَ عليه في ضرب زوجته 100 سوط لتأخرها ذات يوم عما كلفها به في وقت كانت تعمل من أجل جلب القوت إلى زوجها. وبعد أن عَرَفَ أن زوجته لم تكن مخالفةً له, ولكن عليه أن ينفذ العهد الذي عاهد به الله وعاهَد نفسه. وحفاظاً على احترام القانون... أعانه الله بشئ, هو أن أمَرَهُ أن يجمع مئة من سيقان الحنطة ليضرب بها زوجته مرة واحدة بدل الأسواط ويكون بذلك حافظ على العهد ونفذ القانون الذي سنَّه على نفسه ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾. سورة ص: 44.
أو قصة ذلك الرجل الذي وقع في حبائل الشيطان وزنى وكان مريضاً وقد اعترف بذنبه أمام رسول الله7. وقانون الحد من الزاني غير المحصن (غير المتزوج) هو مئة سوط. لكن مرضه يتعارض مع تنفيذ العقوبة, فأمَر رسول الله أن يجلبوا له عرجون نخلة مع أغصانه (العذق الذي يحمل التمر) ويضرب هذا الرجل الزاني والمريض مرة واحدة فيكون بذلك قد نفذ القانون وحافظَ على حرمته وراعى حالة الرجل المريضة. عن الصادق u بخصوص هذه القصة «فأمَرَ رسول الله بعذقٍ فيه شمراخ, فضَرَبَ به الرجل ضربة, وضُربت المرأة ضربة ثم خُلِّيَ سبيلهما»( [25][25]).
إن الإنسان عندما يتجاوز على السُنن والقوانين الإلهية يكون بذلك قد أحدث بدعة والبدعة ضلالة وصاحبها في النار.
وعن أمير المؤمنين u «وإنَّ شَر الناس عند الله إمام جائر ضلَّ و ضُلَّ به فأمات سُنة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة»( [26][26]).
وقال u «من مشى إلى صاحب بدعةٍ فوقّره فقد سعى إلى هدم الإسلام»( [27][27]).
كان رجلاً يُسمى فارس يدعوا الناس إلى الفساد, أجاز الإمام الصادق u قتله وضَمَنَ لقاتله الجنة, فسارع أبا جنيد إلى قتله بالساطور( [28][28]).
وقال u: «إياكم والجهّال من المتعبدين والفجّار من العلماء فإنهم فتنة كل مفتون»( [29][29]).
وقال u: «لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مُفَرِّطاً»( [30][30]).
وقال u: «إلى الله أشكو من معشرٍ يعيشون جُهالاً ويموتون ضلالاً»( [31][31]).
وعن الصادق u «إن بني أميَّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه».
نعم الجهل والحماقة مفتاح من مفاتيح الذنوب الكبيرة التي تؤدي بالفرد والمجتمع إلى الهلاك والدمار. فإن بني أمية عندما يسعون إلى منع الأمة من أن يتعلموا الشرك. ويتعلموا الإيمان فقط لأنهم لا يريدون من الأمة أن تعرف كيف تشخص بين الحق والباطل, بين الإيمان وبين الشرك, لأنه لو استطاع الناس أن يشخصوا الشرك من الإيمان فمعنى ذلك أن الناس لا تستطيع أن تصبر على ظلم وفسق وشرك حكومة بني أمية الظالمة, لذلك كان جهل الناس بالشرك هو الذي حملهم على محاربة أمير المؤمنين u ومحاربة الإمام الحسن u ومحاربة الإمام الحسين u, وجهل الناس هو الذي مكَّن بني أمية من أن يمارسوا أبشع أنواع القتل لأصحاب أهل بيت العصمة والطهارة... وجهل الناس هو الذي دفع ببني أمية أن يتهموا الحسين u بالخارجي.


ب- اتباع القوانين والسنن المغلوطة


القانون الإجتماعي المتكامل هو القادر على تحصين الأمة من السقوط في متاهات الذنوب, لأنه يعالج جميع أركان الحياة, وحينما يبتعد الإنسان عن القانون الإلهي ويتسمك بالسنن المغلوطة التي يبتدعها الإنسان ويخالف بها كتاب الله يكون بذلك قد كسر حجب القداسة في نفسه.. ومن هذه الممارسات المغلوطة هي:
1- 1- 1- تغيب القانون الإسلامي في المجتمع والإعتماد على القوانين والسنن الوضعية.
2- 2- 2- الإباحية والاختلاط الفاحش وانتشار السفور.
3- 3- 3- تقييد الحريات والملكيات الخاصة.
4- 4- 4- إباحية وسائل الفساد في المجتمع.
5- 5- 5- غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ج- تحريف المفاهيم الإسلامية

عندما يتعامل الإنسان بتبعبيض المفاهيم والأحكام الإسلامية التي تنسجم وأهواءه ويرفض تلك التي لا تنسجم معه, ويمزج الأفكار والمفاهيم الوضعية مع متبنياته الإسلامية المتبعضة, يكون بذلك قد سن سنة سيئة في انحراف الأفراد أو المجتمع. والإمام الجائر هو الذي يحيي مثل هذه السنن المغلوطة والبُدع لكي يثبت أركان حكمه معتمداً على أمثاله من أهل المعاصي. والناس على دين ملوكها في المفهوم العام. فيبدأ الإنحراف يتحكم بالمجتمع ويكون أهل الحق في حصار مستمر نتيجة لاستحكام السنن المغلوطة في المجتمع وطغيان المعاصي.

د- الإعلام المُضلِّل

الإسلام دين الحرية والتسامح, ويمنع استخدام القوة في الإنتساب إليه حيث ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. البقرة: 256. ولكن هذا لا يعني أن يَستَغِل الإنسان مفهوم الحرية ويمارش إشاعة الفحشاء بالوسائل الإعلامية المكتوبة أو المسموعة أو المرئية. لأن الكثير من الذين يجهلون الدين ومفاهيمه سوف يتأثرون ويمارسون الذنوب تحت العناوين الإسلامية الظاهرية, وهذه من أخطر الممارسات ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ .. وقد يستغل أهل الجهل الإعلام المضل تحت عنوان الحرية وينطلقوا بالإساءة إلى مفهوم الحرية على أساس التحدث عن:
1- 1- 1- حرية المرأة المطلقة وتَبرّجها في المجتمع.
2- 2- 2- حرية الإختلاط بين الجنسين.
3- 3- 3- حرية المرأة في الطلاق من الرجل متى شاءت.
4- 4- 4- إلغاء قوانين العقوبات الجنائية الشديدة في تصوراتهم على أساس أنها ضد الحرية.
5- 5- 5- حرية إباحة المشروبات المحرَّمة.
6- 6- 6- إشاعة مفهوم الربا في العمليات الإقتصادية على أساس الإقتصاد الحر. والعشرات من غيرها من الحريات المزعومة. فيتحول بعد ذلك المجتمع إلى كتلة من الممارسات اللاإسلامية واللاشرعية التي تفتِّت المجتمع وتطغى فيه الممارسات المنحرفة.

هـ - التقليد والتلقين الأعمى

التقليد في المسائل الإسلامية والمسائل الحسنة إجتماعياً وبالطريق الصحيح, هذا ما يقبله الإسلام ويشجعه, أما إذا كان التقليد بصورة تفكير غير سليم وتكون العواطف غالبة على العقل, فهذا هو التقليد السلبي الذي يؤدي إلى الإنحرافات والأخطاء ويؤدي إلى كثرة الذنوب. وقد يستفاد كذلك من التلقين الإيجابي لتكريس المفاهيم الإيجابية في المجتمع. فمثلاً وردت كلمة لفظ الجلالة 2807 مرة في القرآن الكريم لتكريس المفهوم الإيجابي للتوحيد. أو وردت ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أكثر من 45 مرة أو ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ 78 مرة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ 10 مرات, هذا التكرار هو لتذكير الناس وتلقينهم عمل الخير حتى يستفيد منها الناس في واقعهم العملي. فالتقليد والتلقين الإيجابي حالة جيدة. أما التقليد والتلقين السلبي فهو حالة خطرة على الفرد والمجتمع. وقد روي عن رسول الله7: «لا تلقنوا الكذب فتكْذِبُوا».
وقد استفاد أولاد يعقوب u من تلقين أبيهم حينما حذرهم من أخذ يوسف حتى لا يأكله الذئب. فعندما أخذوه استفادوا من تلقين أبيهم وقلدوا حديثه معهم وقالوا له يا أبانا إن يوسف أكله الذئب. والتقليد أربعة أنواع وهي:
تقليد العالم للعالم.
تقليد الجاهل للعالم.
تقليد العالم للجاهل.
تقليد الجاهل للجاهل.
وأفضل التقليد هو تقليد الجاهل للعالم, وغيره من التقليد باطل لأنه لا يحقق الفائدة ولا يخدم الدين والمجتمع ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾. ابراهيم: 10. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾. البقرة:170.

و- غياب المثل الأعلى الصالح في فكر الإنسان

حينما يغيب النموذج الصالح عن فكر الإنسان وعن ضميره ووجدانه يتحول هذا الإنسان إلى كتلة من اللحم والعظم دون العقل فيغرق في بحر الذنوب. متخبطاً بالأفكار السوداء التي تتهافت على تفكيره. وقد أكَّدَ القرآن الكريم حول الأسوة الحسنة. ففي سورة الأحزاب الآية 21 والممتحنة 4,5 صورةٌ حيّة للأسوة الحسنة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ﴿ َدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾.

ز- كتمان الحق

كتمان العلم, كتمان الحق, كتمان كل عملٍ صالح يخدم الإنسانية يعتبر من العوامل المؤدية إلى الإنحراف الإجتماعي ويكون بذلك مصدراً للذنوب وقد نهى القرآن الكريم كثيراً عن ذلك, فقال تعالى ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وفي الحديث الشريف «من سُئِل عن علمٍ يَعلَمهُ فَكتَم, لُجِمَ يَومَ القيامةِ بلجام»( [32][32]).






2- الجانب العائلي




للعائلة دور كبير في صياغة توجهات الطفل بالطريقة السليمة أو بالطريقة المنحرفة, فحينما تكون الحالة التربوية قلقة يسودها الاعوجاج والانحراف الإجتماعي إلا إذا أدركتها الرحمة الإلهية واهتدت. فالحجر الأول إن وضعه المعمار أعوجاً فسوف يكون الحائط أعوجاً حتى إذا شيده إلى السماء, فالتربية الصالحة في الأسرة تكون كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. أما التربية الخبيثة بالأسرة تكون كالشجرة الخبيئة التي اجتُثّت من فوق الأرض مالها من قرار. والعوامل العائلية المؤثرة في تكوين الطفل نفسياً وتربوياً هي:
‌أ- ‌أ- ‌أ- طريقة إنتخاب الزوجة.
‌ب- ‌ب- ‌ب- العوامل الوراثية.
‌ج- ‌ج- ‌ج- التربية العائلية.
‌د- ‌د- ‌د- الأكل ومصادره.




أ‌- أ‌- أ‌- طريقة إنتخاب الزوجة

الزواج في المفهوم الإسلامي من العناصر المهمة في تكوين الأسرة وعلاج المشاكل الإجتماعية, ويؤكد الإسلام على انتخاب الزوجة أو الزوج الصالح لما له من تأثير على الأبناء في العملية التربوية.
فقد ورد عن رسول الله7 «أيها الناس إياكم وخضراء الدِّمَن.
قيل يا رسول الله وما خضراء الدِّمَن؟
قال7: المرأة الحسناء في منبت السوء».
بعد رحلة السيدة فاطمة الزهراء Fطلب الإمام على u من أخيه عقيل أن يخطب له أمرأة معروفة النسب والكرم والشجاعة والطهارة, حتى تَلِدَ الولد الكريم الشجاع, فاختار عقيل له إمرأة من بني كلاب وهي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية. فخطبها عقيل وزوجها لعلي u وانجبت له أربعة أولاد وكانت تسمى بأم البنين. وكان منهم أبو الفضل العباس u. واستشهدوا جميعاً في كربلاء مع الإمام الحسين u.
وفي وصية أمير المؤمنين علي u إلى مالك الأشتر (رض) طلب منه أن يعتمد على البيوتات الصالحة في أعماله ومسؤولياته «ثم الصقْ بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة».
ثم فال u «وتوخَّ مِنهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام»( [33][33]).

ب- العامل الوراثي

الصفات الحسنة والصفات السيئة في الزوج والزوجة تنتقل إلى الأبناء والبنات وراثياً. كالشجاعة والإيثار وسلامة الجسم من الأمراض الوراثية (الجسمية والعقلية) لأنها تنتقل إلى الأولاد ﴿ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾.
وعن رسول الله7 ورد أنه قال: «الشقي شقي في بطنِ أمِهِ والسَعِيد سعيدٌ في بطن أمِهِ»( [34][34]).
وعن علي u «حسن الأخلاق بُرهان كَرَم الأعراق».
وحادثة محمد بن الحنفية لها دلالة خاصة في بحثنا هذا. وذلك حينما تردّد في أن يتقدم للمعركة عندما كان في قيادة أحد الأجندة نتيجة لكثرة السهام, فوكزه الإمام u وقال له «أدركك عِرقٌ من أُمِكَ».
إن من علائم الولد غير الصالح هو عداءه لأهل البيت E, وميله للعمل الحرام, وإستخفافه بالدين والتعامل السيء مع الناس. لأن هذا المولود لم تكن نطفته طاهرة. والقانون الوراثي له تأثيره على الوضع الجسمي والروحي النفسي والأخلاقي للإنسان ويعتبر من أهم العناصر الأساسية في بنية الإنسان.

ج- التربية الصالحة وآثارها

المسؤولية الإجتماعية والإسلامية تدعونا لأن نفكر تفكيراً عميقاً في مسائل التربية الصحيحة, فرعاية الصغير وحفظ مساره التربوي بالاتجاه الصحيح سوف يُنشئ مجتمعاً صالحاً, بينما إذا تُرِك الصغير ينشأ في الوسط الإجتماعي دون مراقبة وتوجيه سيكون سلوكه وتصوراته ملتوية بحيث يصعب على المجتمع استيعابها وإصلاحها كمثل المزارع الذي يترك شجرة بلا عناية ورقابة, فإنها سوف تنشأ معوجة يصعب بعد ذلك تقويمها وحفظها في مسارها الصحيح.
وقد ورد عن لسان رسول الله7 أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانَهُ».
وقال u «رَحِمَ الله والِدَين أعانا وَلَدَهما على برِّهما».
وعن أمير المؤمنين u «وحق الولَد على الوالِد أن يُحسِن اسمَهُ ويُحسِن أدبه ويُعَلِّمَهُ القرآن»( [35][35]).
إن إحترام الأبناء وإبراز شخصيتهم ومحاسبتهم على مخالفتهم طبقاً لأعمارهم والعفو عن بعض أخطاءهم, وتنمية شخصيتهم بالطريقة الصحيحة واحترام آراءهم, كلها عوامل أساسية في تقويم الأبناء من الإنحراف وعدم السقوط في مهاوي الذنوب والمعصية, لأن الكلام السيء والتحقير وعدم الإلتفات إليهم يؤدي بهم إلى المعصية والإنحراف, وهذه الحالة سوف تتراكم في ذهن الطفل حتى الكبر فتنعكس على شخصيته وتُنميّ عنده عقدة الحقارة والتساقط في شخصيته ويكون مسارعاً إلى الممارسات الخاطئة.
فعن رسول الله7 روي أنه قال «لا يكذب الكاذب إلا من مهانةِ نفسهِ».
وعن أمير المؤمنين u أنه قال «من كرمت عليه نفسه لم يُهنها بالمعصية».
وعن علي الهادي u قوله «من هانت عليه نفسُهُ فلا تأمن شرّه».

فالاهتمام بالطفولة هو اهتمام بلبنات المجتمع وإذا أهملت هذه اللبنات تكون أساس العديد من البواعث والحوافز الدافعة إلى ممارسة الذنب والجريمة في المجتمع.
ومن جملة الأمور الحساسة في ذلك هو تخديش مشاعر وأحاسيس الطفولة لأن تخديش مشاعر الطفولة من شأنه أن يترك الأثر السلبي في ذهن الطفل إلى الكبر. وقد ورد عن رسول الله7 «إياكم وأن يجامع الرَجُل إمرأته والصبي في المهد ينظر إليهما» والآية 58, 59 من سورة النور وضعت حدوداً للأطفال والخدم الصغار من دخول غرفة الأزواج في أوقات الصباح والظهر والمساء, وحذرت من دخول الكبار في أي وقت من دون استئذان. وهي جميعها للحصانة من الأنحراف والسقوط.

د- الأكل الحلال والحرام

كما ان الأكل المسموم يسمم جسم الإنسان, كذلك الأكل الحرام يلوث روح الإنسان, فأكل الحرام فيه الأضرار الجسمية والروحية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية. وأشدّ أنواع الحرام هو أكل السحت, وأكل ما نهى الله عنه من الطعام والشراب, وأكل مال الرشوة, وأكل مال اليتيم.
وقد جاء عن الباقر u قوله: «الذنوب كلها شديد وأشَدَّها ما نبت عليه اللحم والدم»( [36][36]).
وقد ورد في الحديث الشريف «إنّ الرجل إذا ما أصاب مالاً من حرام لم يُقبَل منه حج ولا عمرة ولا صِلَة رَحِم»( [37][37]).
وكذا ورد عنهم E قولهم: «ما من عبادة أفضل من عفّة البَطْنِ والفَرْجِ»( [38][38]).
وعن رسول الله7 قوله «من أحبَّ أن يُستجاب دعائه فليُطب مطعمه وملبسه»( [39][39]).
وقد جاء رجل إلى رسول الله7 وقال: يا رسول الله أحب أن يُستجاب دعائي.
فأجابه الرسول بالقول7: «طهر مأكلك ولا تُدخل بطنك الحرام»( [40][40]).
وبما ان أول ما يطعم به الطفل هو الحليب, ولهذا أكّد الإسلام على حليب الأم لما فيه من الآثار المادية والمعنوية على الطفل, وحينما يكون هذا الحليب لا سامح الله ملوّث فسوف يؤثر على تفكير وبنية الطفل البدنية والسلوكية. وقد أشار رسول الله7 في قوله «لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يعدي وإن الغلام ينزع إلى اللبن»( [41][41]). إلى هذه الخصيصة.
وعلّله في حديث آخر : «فإن اللبن يَغلِبُ الطباع».
وكذا في حديث ثالث: «فإن الولد يشبُّ عليه»( [42][42]).
وسئل الإمام الكاظم u أن أمرأة زانية ولدت بولد هل يصلح أن يعطى من حليبها؟
فقال u: «لا يصلح ولا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا»( [43][43]).
وقد روي عن الباقر u أنه قال لمحمد بن مروان: «استرضع لولدك بلبن الحسان وإياك والقباح فإن اللبن قد يعدي»( [44][44]).
وعن أمير المؤمنين u روي قوله: «تخيروا للرضاع كما تتخيرون للنكاح فإن الرضاع يُغيّر الطباع».
نعم الرضاعة الطاهرة سوف تترك الأثر الإيجابي في حياة الطفل وتغذيه بالطهارة والصلاح, وإن كانت الرضاعة ملوثة فإن الطفل يتغذى بالخبث والفساد وبذا يكون هذا الطفل محمّلاً بالنوازع الشريرة التي تساعده على ارتكاب الذنوب.



3- الجانب الإقتصادي




الفقر والغنى مصدرين من مصادر الإنحراف والذنوب لأن الفقير سوف ينتقم لفقره ويمارس اللامشروع لسد العجر في فقره. والغني يمارس الحالة الطاغوتية والتكبر غروراً بماله وثروته وكلاهما قد وقعا في فخ الشيطان ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾.
صاحب المال عندما يعيش الحالة القارونية ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ فسوف يبخل من إعطاء حق السائل والمحروم ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
وحينما يجهل الإنسان أن المال هو مال الله وما عندنا هو من الله, لأن الله هو الرازق وقد وردت أكثر من 30 آية تؤكد هذا المعنى, وقد ذَكَّرَنا الله تعالى بنموذجين ممن أتاهم الله مالاً حيث إن أحدهما بَخَل واستكبَر وطغى, والثاني على عكسه صار نموذجاً في السماء وقادته نفسه إلى شكر الله على ما آتاه ذلك هو قارون وسليمان. قارون الذي قال ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ وسليمان قال ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾. النمل: 40. الله تعالى أعطى سليمان البسطة بالعلم والنِعَمْ الكثيرة بينما سلب ذلك من قارون وخَسَفَ به وبداره الأرض لإفساده وطغيانه ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾. القصص: 58.
كذلك الفقر فهو الموت الأكبر والموت خير من الفقر, والفقر منقصة للدين, مدهشة للعقل وداعية للمقت, لأنه يشكل خطراً إجتماعياً كبيراً مثل ما يشكل الإسراف والترف الخطر الإجتماعي على الأمة. وفد أكد الإسلام على عدة جوانب يحارب بها الغنى غير المشروع ويجارب الفقر وذلك من خلال:
1- سنة قاعدة: أن الناس متساوون في الحقوق الطبيعية على كافة الصعد. وبهذه القاعدة قنّن الإسلام العلاقات الإجتماعية وما ينفرز منها على أساسها.
2- إن المال والثروة هي أمانة الله عند الإنسان فلا يجوز له أن يخون الأمانة ويحرم الفقراء منها وفقاً للقاعدة السابقة.
3- العمل في الإسلام عبادة وعزة للمسلم لأن العمل إنما هو ممارسة لدور الأمانة الذي أشرنا إليه. ومن دون عمل فلا أمانة لمؤتمن.
4- لا بخل ولا إسراف في الإسلام لأن الثروة ثروة الجميع وفق ما قررناه أعلاه.
5- الموارد التي يحصل عليها الفرد تخضع لمعايير القانون الإسلامي المرتبطة بسياسة توزيع الثروة وتنظيم الصرف هو الآخر يخضع للقوانين الإسلامية التي تُسيّر المجتمع نحو أفضل طريقة ممكنة في تحريك موارد الإنفاق بشكل يؤمن الصالح الخاص والعام. وجعل حركة الصالح الخاص مرتبطة بمدى استفادة العام وعدم تعارضها مع الصالح العام.
6- حقوق الفرد والمجتمع محفوظة في الإسلام وفقاً لقاعدة الأمانة حيث إن ذلك هو الذي يحدد حجم الحق, ويفصل بدقة ما بين الحقين.
7- العمل الكاذب يبغضه الإسلام ويحاربه.
8- التكدي والتقاعس والتكاسل من الأمور التي يحاربها الإسلام... ففي الحديث الشريف: «احمل على رأسك واستغن عن الناس»( [45][45]).
وقوله u «ملعون من ألقى كَلَّه على الناس»( [46][46]).
9- الإسلام أكّد على العمل وبارك في العمل «طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة». لأن في العمل بركة وفي العمل جلب القوت.. لأن الخبز هو قوام استمرار المجتمع بحركته. وعن رسول الله7 روي قوله «اللهم بارك لنا في الخبز, ولا تفرّق بيننا وبينه, فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا»( [47][47]).
العمل هو دعامة الإقتصاد الإسلامي وهو الركيزة التي تبعد الأمة عن الكسل والفقر. وقد كان الأنبياء والأئمة الأطهار يعملون لأن العمل مفتاح سعادة الإنسان, والعمل طريق النجاح في الحياة لكسب الغنى والابتعاد عن الفقر.
ولنستعرض هنا بعض الشواهد التاريخية على الدور المترتب على ممارسة المعصية من خلال البعد الإقتصادي:
1- تراجع ثعلبة الذي عاهد الله لئن آتاه مالا ليتصدق به وحينما أكرمه الله تعالى بالمال الكثير... بَخلَ وتراجع عن دفع الزكاة كما عاهَدَ الله عليه ... فنزلت بحقه آيات تدينه وتتهمه بالنفاق في الآية 75-76 من سورة التوبة.. وذلك من فعل الشيطان وسيطرة حب الذات والطمع بمال الدنيا مما جعله يبخل عما آتاه الله من المال.
2- خسارة المسلمين يوم أحد بعد أن حققوا النصر في الوهلة الأولى والسبب هو فشل المسلمين في الوقوف أمام مغريات الغنائم, وتنازعهم على الغنائم, ومعصيتهم لأمر الرسول7.
3- مشاركة بعض من أصحاب الإمام الحسن وبالخصوص عبيد الله بن العباس مع معاوية في تحطيم جيش الإمام الحسن بسبب ضعف عبيد الله أمام إغراءات معاوية المالية الضخمة .. مما اضطره إلى قبول الصلح مع معاوية.
4- مشاركة عمر بن سعد في معركة الطف ضد الإمام الحسين مقابل ملك موعود هو ملك الري في إيران.
5- نشأة مذهب الواقفية بعد رحيل الإمام الكاظم u وذلك لطمع وكيل الإمام بالأموال التي كان يحصل عليها من أتباع الإمام خلال غياب الإمام في السجن, واتهام الإمام الرضا u بأنه ليس بإمام, وليس هناك إمام بعد الكاظم u.
إن المال القليل الذي يُصاحبه القناعة والشكر خيرٌ من المال الكثير الذي يُصاحبه الطغيان والفساد. فعن رسول الله7 «إنَّ ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى»( [48][48]).
وحينما يُبتلى الإنسان بالفقر أو الغنى فيكون الإنسان في اتجاهين, إما أن يصبر ويشكر, وإما أن يجزع ويتكاسل نتيجة لهذا البلاء, وقد حارب الإسلام الكسل والجزع لأنهما منقصة في الدين ومدخلاً للشيطان لارتكاب المعاصي والهلكات.
فعن الصادق u أنه قال: «إياك والكسل والضَجَر فإنّهما يمنعانَك من حظك من الدنيا والآخرة»( [49][49]).
«ومن كَسَلَ عما يُصلح به أمرَ معيشته فليس فيه خيرٌ لأمرِ دينه».
وروي عن الكاظم u «إنَّ الله يَبغضُ العبدَ النَّوام الفارغ».
وفي الحديث الشريف: «إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تعمل وإن ضجرت لم تعطِ الحق»( [50][50]).
نعم الكسل والضجر والجزع وفقدان الصبر والشكر جميعها عوامل شيطانية تُنسي المرء ذكر الله تعالى وتؤدي به إلى المعاصي والارتماء في شباك الشيطان فتنتج عن ذلك ممارسات دنيوية تكون المعصية محورها.



4- الجانب الإجتماعي




أ- المحيط الإجتماعي

للمحيط الإجتماعي أثره الفعال في ترك بصماته الإيجابية أو السلبية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الأشخاص وعلى المجتمع, ومصادر المحيط الإجتماعي هي الأسرة, المدرسة, الشارع, المجالس العامة, وسائل الإتصال الجماعي والفردي كوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة, وغيرها. فتارة يعيش الإنسان في محيط إجتماعي نقيّ وينتقل إلى محيط إجتماعي ملوّث لظروف معينة قاهرة فُرِضت عليه, فهنا يكون الفرد المبتلى باتجاهين لا ثالث لهما, إما أن يتحصن وتقوى شخصيته وتبدأ عملية التآكل من الداخل في الأفكار والروحية وبعدها تبدأ عملية التساهل في قضية الذوبان في المجتمع الملوث وممارسة كل ما حَرَّمهُ الله بإباحية وتحدٍ لمشاعره ومتبنياته السابقة مندمجاً بالمجتمع الجديد.
وحالة أخرى هي أن ترفض كل ما في المجتمع الجديد من إيجابيات وسلبيات في محاولة للحفاظ على كل الأفكار والمشاعر الإجتماعية المحمولة سابقاً تحسباً من عملية الأختراق, وهذا نوع من الصلابة السلبية التي لا يمكن أن يطيقها الصغار, فتتولد حالة من العقدة الداخلية, وإن لم يفصح عنها الطفل أو حتى الكبير لاعتبارات أسرية أو عرفية, ولكن يرفضها جزئياً أو كلياً في غياب الأسرة والعرف, وهذه الحالة تولِّد حالة نفاق يكمن خطرها في إزدواجية السلوك وتكون النتيجة كسابقتها.
أما الحالة الثالثة في التعامل مع المحيط, هو تحصين الأسرة والأفراد من داخلهم من خلال التعامل مع إيجابيات المجتمع وإعطاء الدليل المناسب الذي ينسجم مع عقل وتفكير الطفل أو الكبير, ورفض كل شيء سلبي في المجتمع, وكذلك إعطاء الأسباب, لذلك هذه الطريقة يستطيع أن يتعامل معها الطفل أو الكبير على أساس أن ما في يد الكفار ليس جميعه هو غير جيد, بل لديه أمور إيجابية فلنأخذ بالإيجابيات ونترك السلبيات وبذا نكون قد حصَّنّا أنفسنا وأطفالنا بطريقة إيجابية حول الكيفية التي نتعامل بها مع المحيط الإجتماعي الملوث. ولننقل بعض الصور القرآنية التي تعرضت لذلك:
1- ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾. الأعراف: 138.
نلاحظ في هذه الآية مدى التأثير الذي أصاب بني إسرائيل حينما هاجروا إلى بلد تُعبَد فيه الأصنام, فاستهوتهم الظاهرة فطلبوا من موسى u أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة.
2- ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. القصص: 79.
هذه الآية توضح التأثير الذي أحدثة خروج قارون بزينته إليهم فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون, ولكن المؤمنين الصالحين لم يتأثروا وتعاملوا مع القضية بعنوان النصح والتذكير للقوم الذين تأثروا ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾. القصص: 80.
عندما يشعر الإنسان أنه غير قادر على تغيير المحيط الفاسد ولا يمكن أن يعيش أو يتعايش من دون أن يتأثر خوفاً على دينه وماله وأسرته وأطفاله وعمله, فقد شجع الإسلام الابتعاد عنه و هجره, والهجرة إلى مكان أكثر أماناً يستطيع أن يحكم شرع الله فيه, أو العمل على تحكيم شريعة الله فيه, أما إذا بقى الإنسان تحت ظل المحيط الفاسد خوفاً على دنياه, فإن مصيره إلى النار كما جاء في سورة النساء الآية 97 ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾.
وعن رسول الله7 ورد قوله: «من فَرَّ بدينه من أرض وإن كان شبراً من الأرض, إستوجب الجنَّة, وكان رفيق محمدٍ وإبراهيم H»( [51][51]).
وفي رواية أن الإمام الصادق u كان جالساً في مجلس وجرى الحديث عن المحيط الفاسد في آخر الزمان كيف يَعُّم في البلاد .. التفت الإمام إلى أحد أصحابه وقال «فِرَّ منها إلى قُلَّةِ الجبال ومِنَ الحجرِ إلى الحجر»( [52][52]).
كان الأنبياء مهاجرين, والمهاجر هو الذي يهجر الشهوات المحرمة ويهجر الدنيا الفاسدة وليست الهجرة من الأرض بعنوانها التراب وإنما الهجرة من المحيط الفاسد, والمحيط الفاسد هو وليد جهل الناس وغياب المعرفة, وعليه فإن مسؤولية الأنبياء والصالحين كانت تغيير المحيط الفاسد من خلال إبدال الجهل بالمعرفة من دون أن يتأثروا بالجهل حتى لو اجتمع كل الناس على ذلك.
وعن الكاظم u أنه قال في خطابه لهشام بن الحكم: «يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس لؤلوَةٌ ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزةٌ. ولو كان في يديك لؤلؤةٌ وقال الناس إنّها جوزةٌ ما ضرَّكَ وأنت تعلم أنها لؤلؤة»( [53][53]).
وعن لقمان الحكيم ورد أنه قال وهو يعض ولده: «لا تعلِّق قلبك برضى الناس فإن ذلك لا يخصُّك».
ثم قال: «يا بني فلا تلتفت إليهم واشغل برضى الله جلّ جلاله»( [54][54]).
وعن رسول الله7 أنه قال: «من أرضى سلطاناً بسخطِ الله عز وجل كان حامِدُهُ من الناس ذاماً»( [55][55]).
فالإسلام يحارب بقوة المحيط الفاسد لأنه مصدر كل ذنب والتجاهر بالذنوب والمعاصي من أهم الكبائر لأنها مخالفة للحرمة والخلق الإسلامي العام, والذي يعيش حالة التباهي بالفحشاء, له في الدنيا خزيٌ وفي الآخرة عذابٌ أليم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾. النور: 19.
وعن رسول الله7 «من أذاع فاحشة كان كمبتدأها»( [56][56]).
وقال7: «المستتر بالحَسَنَة يَعدل سبعين حسنة, والمذيع بالسيئة مخذول, والمستتر بها مغفور له»( [57][57]).
وعن الصادق u: «إذا جاهَرَ الفاسق بفسقِه فلا حُرمة له ولا غيبة»( [58][58]).
وعن رسول الله7: «اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر, إن رأى حسنة دفنها, وإن رأى سيئة أذاعها».

ب- فقدان الحياء الإجتماعي

هو عامل مهم ومدخل خطير لفقدان الحياء من الله سبحانه وتعالى.. فمن لم يستح من الناس بفعله القبيح لا يستحي من الله في كل شيء. وفي ذلك قال رسول الله7 : «من لا يستحي من الناس لم يستح من الله»( [59][59]).
وعنه7 : «استحيوا من الله حق الحياء»( [60][60]).
وعن أمير المؤمنين u «أحسن الحياء استحياؤك من نفسك»( [61][61]).
لقد أكّد الإسلام على الحياء بمختلف إتجاهاته ليضمن للإنسان حالة من الحصانة تمنعه من التساقط في شباك الشيطان, ومن يشيع الفاحشة في المجتمع يمارس هتك الحرمة لنفسه ومجتمعه وهتك حرمة دين الله سبحانه وتعالى. وقد أكّد القرآن الكريم على الحياء في موارد كثيرة, مثلاً حياء اللسان ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. الأنعام: 108.
والحياء في الحديث ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾. الأحزاب: 32.
والحياء في المشي ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فلما جاءه وقص عليه القصص قال: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. القصص: 25.
الحياء في المشاركة في مجالس الضيافة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ الأحزاب: 53.
الحياء في النظر ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ النور: 31.
الحياء في الأمور الإقتصادية ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ البقرة: 219.
الحياء في دخول البيوت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ النور: 58.
إذا توجهت الأمة إلى مسألة الحياء من الله بحالةٍ جديّة وإيجابية فإنها سوف تعيش حالة الطهارة والنقاء, أما إذا كسرت حالة الحياء فإن الذنوب تترى على الأمة كالسيل العارم, ومن وقف على المعاصي دون العمل على إيقافها أو السعي في التقليل منها فهو راض بالمعاصي وهو شريك الأمة العاصية في أعمالها... إذن فلا بد أن يعيش الإنسان المسلم حالة التولي للصالحين والتبري من أعداء الله وجميع الفاسدين وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد على ذلك.
فلقد ورد عن أمير المؤمنين u أنه قال: «وإنما عَقَر ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمهم الله بالعذاب لما عَمَّوه بالرضا»( [62][62]).
وقال u: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم, وعلى كل داخلٍ في باطل إثمان: إثم العمل به, وإثم الرضى به»( [63][63]).
إن قاتل صالح رجل واحد, ولكن عَمَّ العذاب على الجميع حينما رضوا بالعمل وأقرّوه فبعض الأعمال الإجرامية لها عواقب تخرج عن وسط الجريمة إلى وسط برمته, لذا قال الله جلّ وعلا إن البلاء إذا عمّ فهو لا يعم الظالم من الناس وإنما يمتد ليشمل الجميع: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ الأنفال: 25, نعم إنَّ من يعين الظالم على ظلمه فإنه يساعد الظالم بشعور أو من دونه ويساعده على انتشار الفساد والظلم في المجتمع, من خلال السكوت عن الفساد أو غيرها من العوامل المساعدة على إنتشار الفساد.. فهو يعيش عيشة الظالمين ويُحاسب حسابهم, إذ أن نتيجة تغاضيه عن الظلم في المجتمع تجعل أعماله سائرة في مصاف أعمال الظالمين ومآلها إلى نفس ما يرمي الظالمين..
فعن رسول الله7 «إذا مُدِحَ الفاجر اهتزّ العرش وغَضِبَ الربّ»( [64][64]).
وقال7 : «احثوا في وجوه المداحين التراب»( [65][65]).
وورد عن أمير المؤمنين u قوله «الثناء بأكثر من الاستحقاق صلف, والتقصير عن الإستحقاق عيٌّ أوحَدٌ»( [66][66]).
وقال u: «أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة»( [67][67]).
وفي زيارة الإمام الحسين u: «لعن الله أمةً سَمِعَتْ بذلك فرضيت به».
فمن رضي بعمل قومٍ حُشِرَ معهم سواء أكان هذا العمل باطلاً أم صالحاً.
﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ هود:113.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الأنعام: 68.
أما العمل الصالح فيبارك له الله سبحانه وتعالى ويشجع عليه ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ المائدة: 2.

ج- القيادة الفَاسدة المُضلَّة

من أبرز العوامل المفسدة في المجتمع للقيادة القدوة الفاسدة لأنهم يُشيعون الفساد والفحشاء ويحكمون بالجبت والطاغوت.
فعن علي u جاء قوله: «الناس بأمرائهم أشبه مِنهُم بآبائهم»( [68][68]).
وقال u «فليست تصلح الرَّعِيَّة إلا بصلاح الولاة»( [69][69]).
فالقيادة الفرعونية ترى في نفسها الحق وفي الآخرين الباطل, وهذه الظاهرة لم تكن مرهونة في زمن فرعون فحسب, وإنما في كل يوم يعيش فيه أهل الحق صراع مع فراعنة عصرهم. ودائماً القيادة الفرعونية تؤكد على صوابها وخطأ الآخرين ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر: 29.
نعم يريد فرعون أن يخلق التبعية العمياء فتكون النتيجة فأضلونا السبيل. نعم يضلّون الأمة بمعسول الكلام والإعلام المضلّل. وقد جاء عن رسول الله7 قوله:
«إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً, وهوى متبعاً, وإماماً ضالاً»( [70][70]).
إن فساد الفقهاء والأمراء فساد المجتمع وصلاحهما هو صلاح المجتمع. وقد روي عن رسول الله7 أنه قال:
«ساعة في طاعة إمام أفضل من عبادة سبعين سنة, وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً»( [71][71]).
وقد ورد عن علي u أنه قال: «إن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضُلَّ به, فأمات سُنَّةً مأخوذة, وأحيا بدعة متروكة»( [72][72]).
إن التسامح في التعامل مع الظالمين يزيد من هيبة الظالمين ويظفي هيبة لهم. وهذا ما يرفضله الإسلام.. لأن وعاظ السلاطين لا يعملون على إحياء دين الله أو سحق الباطل بل إنهم جسرٌ اتخذهم الطواغيب للعبور بهم إلى الأمة ليلجموا فاه الأمة من التحدث الحق فإنهم ﴿ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ مريم:59.
وفي خطاب الإمام السجاد u إلى أحد العلماء الذين انجرفوا في مطامعهم ودخلوا أبواب السلاطين استجابة لدعوة منهم محذراً إياه من هذا العمل وقائلاً له «أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلّماً إلى صلالتهم. وداعياً إلى غيّهم»( [73][73]).
وأما الذين يرفضون التبعية إلى الفراعنة صحيح أنهم يعيشون حالة من المتاعب الدنيوية. ولكن عملهم مبارك من الله تعالى. وهم يسعون دائماً لزوال قيم الطاغوت وإبدالها بالقيم الإلهية وهذا ليس باليسير ولكن في ههم الرجال المؤمنين الصابرين تزول الجبال الرواسخ. والله مع الذين اتقوا والذين هم مهتدون.

د- أصدقاء السوء

عامل آخر من العوامل الإجتماعية التي تؤدي بالإنسان إلى ممارسة الذنب والسقوط في شباك الرذائل. والأصدقاء مثل الأمراء إما هداة أو مضلين... فمثلاً أصحاب الكهف تحملوا كل المصاعب وشد بعضهم على قلب بعض أخوة في الله فأعانهم الله تعالى بالصبر العظيم وخلدهم في الدنيا والآخرة. والنموذج الفاسد هو قوم نوح ودورهم في تضليل وِلد نوح.. فأصبحوا من المغرقين خسروا بذلك الدنيا والآخرة.
وقد قال رسول الله7 : «المرء على دين خليله وقرينه»( [74][74]).
وعن أمير المؤنين u «مجالسة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار»( [75][75]).
وعن الباقر u أنه قال: «من قعد في مجلس يُسبُّ فيه إمام من الأئمة يقدر على الإنتصاف فلم يفعل ألبسه الله الذلّ في الدنيا وعذّبه في الآخرة وسلبه صالح ما منَّ به عليه من معرفتنا»( [76][76]).
وعن الجواد u أنه قال: «إياك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره»( [77][77]).

هـ- الحرمان الإجتماعي

وهذا يولّد البغض في الأشخاص, ويولد حالة نفسية وإجتماعية تنعكس على الشخص المحروم, وبالنتيجة سوف ينزلق في طريق الذنوب. ولهذا أكّد الإسلام على مراعاة المحرومين ومساعدتهم, والمحرومية لا تقتصر على المادة, وإنما المحرومية الأسرية كفقدان أحد الأبوين أو كلاهما, أو فقدان الأسرة. فلا ينبغي أن يُحقّر المحروم إجتماعياً, ففي ذلك تزداد كراهية المحروم للأمة, ويزداد إحساسه بقلة العطف الإجتماعي, فيزداد سوء خلقه وحقده على المجتمع. والذي يستقرئ التاريخ ويدرس الجوانب الإجتماعية للطواغيت وجذورهم العائلية, ليجد الحرمان الإجتماعي والأمراض الإجتماعية متحكمة في ذهنيته فيريد أن ينتقم لذاته لِما ألمَّ به من الحرمان والتحقير والإستخفاف. لذا أكّد الإسلام على المحافظة على الكيان الإجتماعي من خلال المحافظة على الفرد إجتماعياً وعدم تذكيره بحرمانه أو تركه يعيش في حالة الحرمان.
وفد روي أن الصادق قال لجابر بن يزيد الجعفي: «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا أنت رجل سوء لم يحزنك ذلك, ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرُّك ذلك, ولكن اعرض نفسك على ما في كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله, زاهداً في تزهيده, راغباً في ترغيبه, خائفاً من تخويفه, فاثبت وأبشر فإنه لا يضرُّك ما قيل فيك»( [78][78]).
إن الإمام أراد أن يعالج الحرمان والأثر الإجتماعي السلبي من خلال خطابه لجابر. لأن الذي يعيش الإستقامة والإطمئنان يكون الله سبحانه معه, ولن يضرّه قول القائلين.



5- الجانب النفسي الإجتماعي





الجانب النفسي من العوامل المهمة التي تؤدي إلى الإنحراف وممارسة الذنوب, وقد أكّدنا في النقطة الرابعة أنّ الجانب الإجتماعي له الدور الكبير في صياغة تفكير الإنسان نحو الإنحراف, ونتيجة لهذا التراكم الإجتماعي تنشأ حالة نفسية إجتماعية تؤدي به إلى الإنحراف. فعندما يفقد الإنسان معرفة حقيقة نفسه وعظمتها يسير إلى غير هدى ويفقد بذلك كرامته الذاتية التي أكرمه الله تعالى بها. فالإنسان بتكوينه يمتلك كرامتين أحدهما ذاتية والثانية مكتسبة. والكرامة الذاتية هي أن الله سبحانه وتعالى أكرم بني آدم ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ الإسراء: 70. والثانية الكرامة المكتسبة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات: 13.
وقد ورد عن أمير المؤمنين u أنه قال: «إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها»( [79][79]).
وقال u «نعم العبد أن يعرف قدره ولا يتجاوز حدّه»( [80][80]).
الإنسان بهذه الكرامات العظيمة لا بد أن يسخرها في طاعة الله, وأن يتجنب السقوط في شباك الشيطان. فلا يمكن لأيّ عاقل أن يُبدل الذهب بالتراب الشيطاني, ولا يمكن للإنسان أن يبدل كرامته بالذلّ والمسكنة, مقابل حطام من الدنيا الفانية. حالة الإحساس بالنقص والجهل بعظمة الذات الإنسانية والتراكمات الإجتماعية التي يفتقد الإنسان القدرة على تجاوزها تجعله يسقط في شباك الشيطان.
فقد جاء عن رسول الله7 أنه قال: «لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه»( [81][81]).
وقال أمير المؤمنين u «نفاق المرء من ذل يجده في نفسه»( [82][82]).
وروي عن الصادق u قوله: «ما من أحد تكبّر أو تجبّر إلاّ من ذلّة وجدها في نفسه»( [83][83]). وفي المقابل هي عزّة النفس ومعرفتها...
وجاء عن السجاد u أنه قال «من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا»( [84][84]).
وكذا قال u «والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً»( [85][85]).
العزّة والكرامة تخلق عند الإنسان الأمل نحو النجاح وتجاوز كل الصعوبات التي تواجهه, والأمل وحده لا يكفي لبلوغ النجاح, إلا إذا رافق ذلك الأمل العملُ المطلوب. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة: 218.
أما التمنيات والآمال الكاذبة لا تورث إلا الحزن والسقوط في حبائل الشيطان الذي نهانا الله سبحانه وتعالى أن نصاحبه أو نطيعه لأن في ذلك الشرك والإنحراف. والذي يعيش بالتمنيات دون العمل لا يجني من تمنياته إلا الخسارة في الدنيا والآخرة. والدرس التالي يعلمنا كيف أن التمنيات وحدها دون العمل لا يريدها الإسلام.
كان الإمام زين العابدين في حالة مناجاة وبكاء في جوار الكعبة تحت الميزاب.. فالتفت إليه طاووس اليماني (من علماء العامة) .. فقال له: هذا أنت يا ابن رسول الله تبكي وعندك شفاعة جدك, ورحمة الله واسعة..
فأجابه الإمام u أما الأنساب فيقول تعالى ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ المؤمنون: 101.
وأما بخصوص الشفاعة قال تعالى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ الأنبياء: 28.
وأما بخصوص رحمة الله قال تعالى ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف: 56.
فإني لا أعلم مَن المحسنين( [86][86]).



6- الجانب السياسي




الطغيان السياسي حذّر منه الإسلام بشدّة لأنه يؤدي إلى الظلم الإجتماعي وهذا مرفوض جدّاً في الإسلام, قال جلّ من قال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ البقرة: 205-206.
وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ النمل: 34.
فالطغيان السياسي يوجب خراب المجتمع ويفقدها القيم الإصيلة. وقد قال رسول الله7 «لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء»( [87][87]).
وعن أمير المؤمنين u «ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من طلب الرياسة»( [88][88]).
أما الولاة الصالحون فلا يفسدون ولا يظلمون لأنهم يحكمون بما أنزل الله تعالى.. والذي يحكم بما أنزل الله لا يظلم ولا يفسد.
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ يوسف: 101.
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص: 83.
وعن علي u في وصيته للأشعث بن قيس «وإنّ عملك ليس لك بطعمة, ولكنه في عنقك أمانة»( [89][89]).







































إيجاد المبرر لممارسة الذنب أشدّ من الذنب لأن ذلك يُدخل الإنسان في مداخلات يختلط فيها الحق والباطل. فباسم الحق يمارس الباطل وباسم الحلال يمارس الحرام تحت غطاء الحيلة الشرعية. قال تعالى
﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ القيامة:14-15.
إن من يبرر الخطأ والمعصية يحاول أن يضفي عليها إطاراً شرعياً. ويعتبر ممارسته للذنب حالة طبيعية في حياته يكون قد تعدى حرمات نفسه ودينه ومجتمعه. وهذه الممارسات الخاطئة تعتبر أشدّ من ممارسة الذنب. بينما الذي يمارس الذنب تحت غطاء المعصية ويشعر أنه مذنب خير من أن يُسوّف ويبرّر لذنبه ويؤطّره بالإطار الشرعي, لأن المذنب يعيش حالة من الندم بعد الفعل لأن محكمة الوجدان تحكمه بالتقصير فيؤوب إلى التوبة والإستغفار. بينما الذي يُبرر لنفسه ممارسة الذنب لا توجد في نفسه هذه الفرصة للتوبة والإستغفار, لأنه لا يشعر بأنه مذنب, وكونه لا يشعر بالذنب تكون ممارسته للذنب ذات عواقب فردية, وإجتماعية وأخروية وخيمة جدّاً. فمثلاً عندما يريد صاحب العذر أن لا يمارس عملاً إما خوفاً أو طمعاً ويريد أن يقنع الناس بفعله فيُصور خوفه من هذا العمل بالإحتياط, أو ضعف شخصيته يصوره بالحياء, أو حرصه على الدنيا يصوّره بتأمين المعيشة؛ أو التقصير في أخذ الإحتياطات اللازمة في أمور الحياة فعند حدوث الحادثة يفسرها قضاءً وقدراً. فعملية التحريف للمفاهيم هي عملية تبريرية تغطي الذنوب بقناع الشرعية والصواب. فمثلاً كتمان الحق يفسر بـ(التقية), أو الارتشاء من الناس بعنوان (الهدية) من الناس. والتبرير في ممارسة الذنب له عدّة أبعاد نتناولها بالترتيب إن شاء الله.



أ- التبرير في الممارسات الإعتقادية




الكثير من الذين لا يدينون دين الحق ويعبدون من دون الله لا يبررون عملهم هذا إلا من منطلق: إنّا وجدنا آباءنا على هذا وإنّا على آثارهم مقتدون, أو الذي يشرب الخمر أو يتعاطى المخدرات يبرر لك أنه جُبل على ذلك من صغره عندما كان أبوه يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات, أو تسأله لماذا لا تصلي أو تؤدي الفرائض, يقول لك ليش ذنبي وإنما ذنب آبائي, وهل يعاقب ابن الذئب لأنه كان ذئباً.
﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾
﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾
أو يبرر لك أنه مجبور بإرادة الله أن يكون كذلك, لأنه لو لم تكن إرادة الله لاهتدى مثل ما يهتدي الآخرون. أو يمارس القتل كما في فعل يزيد حينما أمر بقتل الإمام الحسين u. لأن الله أراد ذلك ويستند إلى قوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾.
هذا الجهل بالممارسة الإعتقادية جعل الكثير من الناس يبررون لذنوبهم. لم يكره الله سبحانه وتعالى الإنسان على ممارسة الإنحراف والشرك بل جعله حُرّ الإختيار, ولكن بالحدود الموزونة تحت قاعدة لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين منزلتين. الإنسان حُر وغير مكره, والدليل على ذلك هو تردّده في ممارسة بعض الأعمال, إنتقاد بعض الأعمال, أو التأدب بالأخلاق الحسنة أو ممارسة عمل سيء. نعم الإنسان حرّ في إرادته وليس هناك من يجبره على فعل الشر, وما فعل الشر إلا بما كسبت أيدي الناس, لجهلهم وإصرارهم على ممارسة الذنب من خلال المعايشة أو التعايش مع المحيط الفاسد الذي يؤهلهم إلى ممارسة الذنوب والمعاصي.



ب-التبرير السياسي




حينما تُمارَس الأعمال العدوانية من قبل القوات الخاصة بالحكومات والأنظمة الظالمة وتقف بالحديد والنار ضد حرية الشعب وتخنق إرادته وتمنعه من القول ما يريد, يحصل الصدام بين الجماهير وأعوان السلطة وحينما تمسك الجماهير بهؤلاء.. يقولون أن تبريرنا لمحاربتكم أننا مأمورون والمأمور معذور.
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ الأحزاب: 67. في عواقب الأمور, أو الذي يعمل عملاً حسناً في ظاهره ولكن يستبطن الشرّ في داخله, ويبرر لعمله كل الخير تحت غطاء وحدة الموقف أو إقتضاء المصلحة وغيرها. فمثلاً أُسّس مسجد ضرار تحت ذريعة أن كبار السن والضعفاء من الناس لا يستطيعون القدوم إلى مسجد الرسول البعيد في المدينة, وهي ذريعة لتمزيق وحدة الصف الإسلامي ومحاربة الإسلام, فكشفهم الله تعالى في القرآن الكريم.
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ التوبة: 107.
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين u وفي يده صحن من الحلوى وكان الرجل اسمه الأشعث بن قيس وهو أحد المنافقين البارزين أراد بعمله هذا التقرب من الإمام, والنفوذ من خلاله إلى جهازه الإداري, فسأله u: «أصلة أم زكاة؟» فأجابه الأشعث: لا هذا ولا ذاك بل هدية...
فقال له أمير المؤمنين بعد أن رفض قبولها وعرف الهدف من فعله: «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ اسلبها جُلب شعيرة ما فعلته» فطرده مع رشوته التي كان يسميها هدية.
إن الممارسات السياسية المغلوطة للحكام الظالمين وتبريرها بالمفاهيم والأطر الإسلامية قد ملأت صفحات التاريخ الماضي والحاضر, بقتل الرساليين في الساحات العامة والمعتقلات الجماعية تحت عنوان مخالفتهم للشرعية, بدسّ السمّ وبإعتقال أسر كاملة وتهجيرها بعنوان أنهم لا ينتمون إلى هذا الوطن أو ذاك.
جميعها أعمال شيطانية يمارسها الطغاة ضد الأمة المؤمنة تحت شعارات وتبريرات واهية, الهدف منها تمرير الفعل الشيطاني أو الممارسة السياسية لهذا النظام أو ذاك.



جـ- التبرير الإجتماعي




الترابط الإجتماعي في ممارسات المنكر تشكل حالة خطرة في المجتمع, وحينما تسود هذه الظاهرة أفكار الناس وأخلاقهم وسلوكهم يتحول المجتمع إلى كتلة من الذنوب, حينما تسأل فلان لماذا أذنب؟ يقول لك: لم أذنب وحدي, أو لم أعمل العمل الفلاني وحدي, وإنما فلان كذلك مارس هذا العمل. وفلان يقول فلان وهكذا تستمر حركة الترابط الإجتماعي في المارسات السيئة, لأنها سنة ابتدعت والتبرير لها سهل يسير. ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ هود: 87. هؤلاء يمارسون الذنوب على أثر آبائهم, من أسهل الأعمال أن يُبرر الإنسان أفعاله دون أن يراعي حقاً أو يدع باطلاً ولكن من أصعب الأمور أن يكتشف الإنسان خطأ فعله وتبريره.




د- التبرير النفسي




هناك الكثير من الناس الذين يمارسون الأعمال السيئة ويتركون فعل الخير تحت طائلة المبررات الواهية التي ما أنزل الله بها من سلطان, ومن هذه المبررات:
1- اليأس والقنوط من النفس على إصلاح ذاتها والرجوع إلى خطّ الإستقامة بحجة أن عمره قد انقضى وطال الزمن, فلا يستطيع أن يتوب ويمارس الأعمال الصالحة, كالصلاة, والصيام,والحج, .. فلا طاقة له (هكذا تبريره) على ممارسة هذا العمل أو ذاك.
2- ممارسة العادات السيئة, كالتدخين, أو الأعمال المحرمة كشرب الخمر وتعاطي المخدرات.. يبررها فاعلها أنه مسلوب الإرادة ولا يستطيع الصبر على ترك التدخين أو الممارسات السيئة الأخرى, أو بعبارة أخرى يقول لك: شيطاني قوي ولا استطيع الغلبة عليه.
3- عدم ممارسة فعل الخير لأن الناس الآخرين لا يمارسون فعل الخير, فإذن لماذا أنا والآخرين لا. إذن أنا لا أمارس هذه الأعمال, هكذا تبرر المسائل وهكذا يطغى الشر في النفوس بحجة التبرير.
4- الجهل في المسائل التربوية وأهميتها, عاملاً هداماً في الأسرة والمجتمع, وحينما تسأل البعض, لماذا لا توجه أطفالك بالطريقة الصحيحة, يقول لك اتركوهم وحريتهم لأن الضغط عليهم يولد عندهم عقدة نفسية. وهكذا وتحت هذا التبرير يكون الأطفال طعمة للإنحراف والضياع.
5- ممارسة بعض الأخطاء الإجتماعية الأخلاقية كالمزاح الشديد القاسي, والسخرية من الآخرين, والكذب, والغيبة, والبهتان وغيرها, يبررها بأنها مزاح أو أيّ تبرير آخر, والسبب في ذلك هو الجهل بالمفاهيم ومحاولة صياغتها وفق أهواءه حتى يتمكن من تبرير ممارسته الخاطئة.
6- الإلتصاق بالوالدين حالة إيجابية تدل على الإحترام. ولكن الإلتصاق إلى حد القبول بإنحراف الوالدين وكفرهم تحت مبرر احترام الوالدين من دون تذكيرهم أو إصلاح شأنهم يدخل بعنوان الإقرار بإنحرافهم وكفرهم, أو يتخلف عن الجهاد تحت حجة أن والده لا يرضى, أو أنه وحيد العائلة, وقد عالجت هذه الظاهرة سورة التوبة وبشدة.. حيث طلبت من الإنسان المؤمن ألاّ يوادّ أعداء الله وإن كان هؤلاء من الآباء والأمهات وذوي الصلة الرحمية المباشرة, ولا يتخلف عن الجهاد حتى وإن طلب هؤلاء ذلك. والذي يمارس هذا العمل السلبي ويركن إلى الممارسات الإجتماعية الخاطئة هو الإنسان القلق في شخصيته الفكرية والعقائدية كما توضح ذلك الآية الشريفة: ﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ*يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ القيامة: 5-6.



هـ- التبرير الثقافي




1- هناك بعض الناس يمارس الأخطاء الشرعية, ويمارس الذنب تحت حجة أنه لا يعرف الأحكام, أو أنه لا يقرأ ولا يكتب وغيرها من التبريرات... ونسي أن (الفطرة والعقل) هما حجة على الإنسان وتشهد عليه يوم القيامة, فلا تبرير في ممارسة الذنب ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الأنعام: 149.
وقد روي عن الإمام الصادق u أنه قال: «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟, فإن قال: نعم, قال له: أفلا عملت بما علمت, وإن قال: كنت جاهلاً, قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل, فيخصمه فتلك الحجة البالغة»( [90][90]).
2- أو يفتخر الإنسان بأصله وفصله فيمارس التكبر والغرور بحجة أنه ينتسب لفلان, أو هو من العائلة الفلانية ولا يمكن أن يجالس فلان وفلان لأن موقعه الإجتماعي لا يسمح, وهذه من الكبائر لأن التكبر صفة من صفات الله تعالى فلا يمكن أن يصف العبد نفسه بالتكبر. وأول من تكبر هو الشيطان حينما امتنع عن السجود لآدم تحت تبرير خلقته من تراب, وأنا خلقتني من طين. أو التعصب الجاهلي أو القومي الذي مورس بحق المسلمين الأوائل أو يمارس اليوم بحجة اللون واللسان والقومية وغيرها.
إن الإسلام حارب هذه الظواهر وجعل ميزان التقوى هو الحاكم بين الأفراد لا شيء سواه ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات: 13.
3- الفهم الخاطئ للمفاهيم والأوامر الإلهية يجعل الإنسان يُسوِّف ويبرر ممارسة الخطأ, فترى الإختلاط المحرَّم في المناسبات كالأعراس أو الوفيات ... تحت حجة إذا كان القلب طاهراً فلا داعي أن تلبس المرأة الحجاب. أو عندما يهاجم الجيش والأمن الجماهير تحت حجة قسم الولاء للحكومة أو للسلطان .. وغيرها من التبريرات الواهية.
يروى أن رجلاً سرق رغيفاً من أحد الخبازين خلسة, مستتراً بستار التقوى والزهد, وذهب إلى بائع الرمان فسرق رمانة وجاء بما سرق فأعطاهما إلى فقير ... كان الإمام الصادق u يراقب هذا العمل فمسكه وسأله عن فعله هذا, فأجابه السارق أنه يفعل حسنة حتى يأتي بعشر, وقد فعل سيئة السرقة فلا يجزى إلاّ مثلها, وبالنتيجة هو حصل على تسع حسنات.
فأجابه الإمام: ثكلتك أمك أنت الجاهل بكتاب الله. أما سمعت أنه عزّ وجلّ يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. فطاش عقل السارق من حديث الإمام u. وتراهم بمثل هذه التبريرات القبيحة والمنكرة يَضلّون ويُضلّون.
إن الفهم الخاطئ والتبرير غير الصحيح يُشكل الخطر الواقعي في المجتمع وهو الذي يؤدي إلى تمزيق المفاهيم الأصيلة تحت مضلة التبرير.
وقد روي عن الصادق u أنه قال: «طوبى للذين هم كما قال رسول الله: يَحملُ هذا العلم من كل خلق عدوٌ له وينفون عنه تحريف الغالين وأنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».
إن المسؤولية الشرعية والإنسانية تُحتِّم علينا الوقوف بحزم أمام التأويلات والتبريرات المنحرفة حتى لا تضيع الأمة في هذه الممارسات, ولا تستطيع بعدها ممارسة العمل الحسن.



و- التبرير الإقتصادي




هناك مسائل إقتصادية كثيرة يمارس فيها الظلم والمعصية؛ فباسم العدالة الإجتماعية تضيع حقوق الإنسان, وباسم الأزمات الإقتصادية تُسقط الأجنة, وباسم التجارة يمارس الربا, وباسم الهدية تُمارس الرشوة,وباسم الكذب المصلحي يمارس الكذب الحرام, وباسم الخوف من الفقر يقتلون الأبناء, وباسم الإستثمار يُمارس الظلم الإجتماعي, وهكذا العشرات من التبريرات التي يُمارس من خلالها الحرام. وما أصحاب السبت إلا صورة واضحة ذكرها القرآن ليتعض بها من يريد الموعظة. فقد كان قوم من بني إسرائيل يسكنون الساحل على البحر الأحمر في منطقة اسمها إيلة, أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحن بني إسرائيل فقلّل السمك والحيتان أيام الإسبوع, وكَثَّرَها يوم السبت وأمرهم بعدم صيد الحيتان في يوم السبت, فكان القوم يشاهدون السمك بكثرة في يوم السبت, فوسوس لهم الشيطان أن يضعوا شباكهم عصر الجمعة ويسحبوها يوم الأحد, يكونوا بذلك قد حصلوا على السمك, ولم يمارسوا بذلك الحرمة حسب فهمهم الناقص, فتجاوزوا على القانون الإلهي وحصل العقاب الإلهي فمَسخَ الفاعلين إلى قردة. وأهل هذه القرية كانوا ثلاث أصناف:
1- مجموعة مارست العمل وأصرّوا على الفعل والإستمرار به, وهم الذين مُسخوا.
2- مجموعة رضت بما فعلت المجموعة الأولى, وهؤلاء لحقهم العذاب لسكوتهم ورضاهم بالعمل.
3- مجموعة رفضت العمل وبقيت تنصح وتُوعِد بعذاب الله عسى أن يتقي بعضهم ويبتعدون عن المعصية .. وقد تركوا القرية قبل أن يحلّ العذاب بها.
وقد قال الإمام الصادق u بخصوص هذه القصة: «هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الثالثة»( [91][91]). ﴿ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ*وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الأعراف: 163-164, هذه صورة للحيلة الشرعية التي مارسها بنو إسرائيل من أجل الكسب الدنيوي فخسروا مواقعهم الدنيوية والأخروية.
وصورة أخرى ينقلها التاريخ حول التبرير وممارسة الحيلة الشرعية هي قصة سعد الذي بلغ من الفقر حتى تألّم الرسول7 لوضعه, فنزل جبرائيل بدرهمين وقال لرسول الله7 : أعطها لسعد ليعمل بها, فأخذ سعد الدرهمين وعمل بهما فوسع الله عليه بالبركة والخير, ولكن انشغاله بالتجارة منعه من الصلاة خلف رسول الله7... فتألّم الرسول7 من هذه الحالة فسأله ذات يوم: أشغلتك الدنيا عن الصلاة ..؟ فقال سعد: ما أصنع؟ أضيع مالي وقد أمرتني أن أستوفي من الناس وأوفي الناس .. فحزن الرسول7 لجواب سعد ...
فجائه جبرئيل يسأله: هل تريد تجارة سعد أم صلاته؟...
فقال له الرسول7 : لا بل صلاته ...
فقال جبرئيل: إن حب الدنيا والأموال فتنةٌ ومشغلةٌ عن الآخرة. يا رسول الله خذ الدرهمين من سعد وسوف يرجع إلى حاله الأول.
جاء الرسول7 إلى سعد وقال له: «ألا تردَّ لي الدرهمين»
فقال له سعد: مكان الدرهمين مائتين,
فقال الرسول7 : فقط الدرهمين.. أعطى سعد الدرهمين إلى الرسول7 وبدأت الدنيا تنغلق عليه حتى رجع إلى حالهِ الأول( [92][92]).
هذه الغفلة من سعد وتبريره التخلف عن الصلاة خلف رسول الله7 أنسته ذكر الله والشكر له فخَسرَ موقعه الدنيوي ولولا لطف الله تعالى به لخسر موقعه الأخروي.



ز- التبرير العسكري




في مواقع الجهاد والقتال مع الأعداء أو في مواقع الإستعداد للقتال أو غيرها, ينسحب الإنسان من المعركة, أو يتخلف عن الذهاب إلى المعركة لأسباب وتبريرات غير مقبولة, بحجة أنّ والديه بحاجة له, أو بحجة أن أطفاله مرضى, أو بحجة أن قساوة المناخ كالحرّ والبرد تمنع من القتال أو الذهاب إلى المعركة وهكذا الكثير من التبريرات وعن ذلك تتحدث الآية الشريفة: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ التوبة: 81.
وعن علي u «فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحرّ قُلتم هذه حمّارة القيظ أمهلنا ينسلخ عنّا الحرّ, وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صَبّارة القرِّ أمهلنا ينسلخ عنا البرد, فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفِرّون, فأنتم والله من السيف أفرّ»( [93][93]).
وقد جاء في الآية الشريفة قوله سبحانه وتعالى:
﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً﴾ الأحزاب: 13.
وقال سبحانه أيضاً: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا*بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا*وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا*وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ الفتح: 11-14.
وهذه بمجموعها صور للتبرير حتى يتخلفوا عن أداء المسؤولية وقد ارتكبوا في تخلفهم ذنباً ومعصية وكانوا من الخوالف ...
وحينما لعنَ علي u أهل الجمل المتخلفين عن القتال, قال أحدهم: استثني المؤمنين منهم.
فقال له u: «ويلك ما كان فيهم مؤمن»( [94][94]).
او الذين تخلفوا عن قتال معاوية في معركة صفين بتبرير أنهم مسلمون, ولا يجوز قتل المسلم للمسلم. فكان جواب الباقر u لهم «لو أن علياً قتل مؤمناً (ظاهرياً) واحداً لكان شراً عندي من حماري هذا».
وهكذا يستمر المتخلفين بإيجاد التبريرات تلو التبريرات حفظاً على دنيا فانية لا خلود فيها ولا استقرار.

معرفة الحق والباطل

الحدّ بين العمل الصالح والعمل القبيح الذي يكون مصدراً للذنوب صعبٌ جدّاً عند بعض الناس, والصعوبة تكمن في الجهل, فيتصور هؤلاء أنهم يحسنون صنعاً, ولكن أعمالهم التي يمارسونها تباعدهم عن الجنة وتقربهم إلى النار. وغياب معرفة الحدود الشرعية بين الحق والباطل, وبين الحلال والحرام, وبين عمل الدنيا والآخرة يوقع الإنسان بالمتاهات, فهناك الكثير من الممارسات العملية تدخل بعنوان المعصية والذنب, ولكن فاعلها يؤطرها بالإطار الشرعي والعنوان الظاهري الصحيح, فمثلاً يمارس الذلّة تحت غطاء أو تصور التواضع, ويمارس التكبر ويقول عزّة, ويمارس عبادة الدنيا ويقول سياسة, ويمارس البخل ويقول قناعة, ويمارس السكوت عن الحقّ ويقول مراقبة اللسان, ويمارس تعطيل الغرائز ويقول عِفّة, ويمارس الإسراف ويقول كرم, ويمارس الرشوة ويقول هدية, ويمارس اللجاجة ويقول استقامة, ويمارس الحرص ويقول جهد, ويمارس العجر ويقول صبر, ويمارس التملّق ويقول مدح, ويمارس الغيبة ويقول كشف العيب, ويمارس الظلم ويقول استضعاف, ويمارس التحيز ويقول عدالة. وغيرها من العشرات من المسميات الكثيرة التي يقع بها الناس الذين يخلطون في حدود معرفة الحق والباطل فيقعون في شباك الذنوب عن عمدٍ أو بدونه.
وحاشا للإسلام أن يمنع التواضع أو الوقار أو القناعة أو مراقبة اللسان أو الزهد وغيرها لكنه لا يجعل المسميات الصحيحة تستبطن الأعمال السيئة, فمثلاً الزهد في المفهوم الإسلامي الصحيح هو أن تملك الدنيا ولا تملكك, وليس الزهد هو ترك الدنيا والإبتعاد عنها, لأن الإبتعاد عن الدنيا من الأعمال المذمومة.
وعن أمير المؤمنين ورد قوله u: «طوبى للزاهدين عن الدنيا الراغبين في الآخرة».
فمن ترك الدنيا واتجه للعبادة فإن ذلك ليس من الزهد وإنما الزهد أن تُسخِّر كل ما في دنياك لآخرتك من دون أن تملكك الدنيا بشيء ...
وقد إشتكت إمرأة زوجها إلى رسول الله7 وكان الرجل من خيار أصحاب الرسول واسمه عثمان بن مظعون, حيث كان عابداً منعزلاً عن الدنيا, فقال له رسول الله7 : «يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية ولكن بعثني بالحنفية السمحة, أصوم, وأصلي, وأُلامس أهلي» في هذا المفهوم نرى أن الحدود بين الزهد وترك الدنيا ضيق جدّاً فمن يطلّق الدنيا بحجة الزهد فهو ليس زاهداً( [95][95]).
عن أمير المؤمنين u «الزُهد كله في كلمتين في القرآن الكريم, قال تعالى ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ الحديد: 23.
إن عدم معرفة الحدود توقع الإنسان في شباك الضلال وإن كان مؤمناً. إنَّ من سعادة المرء أن يعمل ويرى ثمار عمله بيده, وليس هناك تضاد بين الزهد وطلب الدنيا .. لأن في العمل ضمان الدنيا والآخرة.

إستثاء

لا شك أن بعض الممارسات التي حاربها الإسلام إبتداءً وضع لها إستثناءات, مثلاً اليمين الكاذبة محرمةٌ إلا إذا كان فيها نجاة المسلم من يد الظالم أو الكافر, أو ممارسة الكذب من المحرمات إلا في إصلاح البين, والكذب على العدو, أو رجلٌ أعطى وعداً لأهله وهو غير قادر على إنجازه, أو مسألة الغيبة فهي أكل لحم الأخ الميت ولكن يجوزها الإسلام في موارد, لفضح المتجاهرين بالفسق, والظالمين, والذين يخلقون البدع, أو الأشخاص الذين لا يُعرفون إلا بصفتهم العامة كالبصير أو الأصم, أو لقطع حالة من الفساد, وهذا لا يعني أن الإنسان يطلق لنفسه العنان في ممارسة الغيبة ويؤطرها بالعناوين الشرعية, والإستثناء الذي وضعه الإسلام في كل الموارد فيه من الحذر الشديد لممارس الغيبة, لأن الأمر قد يلتبس على الفاعل فيقع في الغيبة الحقيقية أو الممارسات المحذورة الأخرى إن مارس غيرها, ﴿ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ النساء: 148.
عندما نمارس العمل الصالح وننتظر النتيجة الإيجابية منه لا بُدَ من توفير الشروط الإيجابية لضمان النتيجة, أما أن تقدم بعض الشروط لهذا العمل أو ذاك من دون تكامل حتى يفول الناس أنه عمل صالح, فهذا ما لا يكون مقبولاً عند الله, وبالنتيجة تكون خسارة أعمالنا في الدنيا والآخرة.
الشروط الإيجابية للعمل حينما تقدمها إذا أردنا منها الجانب الإيجابي, لا بد أن نكون منطلقين في نيةٍ حسنة, ألا وهي تحقيق مرضاة الله, وتجنب سخطه في هذا العمل أو ذاك. ومما يروى أن رجلاً قُتل في معركة أحد, وكان من أصحاب الرسول , فجاءته أمّه ترثيه فقالت له: ولدي لك الجنة. فسمعها رسول الله7 فقال لها: وما يدريك أنّ نصيبه الجنة؟ فلعله تكلّم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه»( [96][96]).
ونفس الأمر نجده في قصة سعد بن معاذ حينما استشهد في معركة أحد وجائته أمّه تقول راثيةً له: هنيئاً لك الجنة, وسعد معروف وقد جَلَّهُ رسول الله7 والمسلمون وشيَّعته الملائكة... ولكن رسول الله7 قال لأم سعد: إن سعد قبره ضيقاً .. فسأله الحاضرون عن السبب..
فأجابهم الرسول7 «نعم إنه كان في خُلقه مع أهله سوء»(3).








































كيف نلجم الذنوب؟
ونتعامل مع المذنبين؟
إن لكل شيء في هذه الحياة شيء ينظمه ولا توجد حركة عشوائية في الكون والحياة خارجة عن إطار التنظيم. فالكهرباء ينظم من قبل قفل خاص به, والسيارة كذلك لها أجهزتها التي تنظم سرعتها ووقوفها عند الطواريء. كذلك الإنسان له أجهزة تنظم تفكيره وغرائزه, والخطوط العامة لهذا التنظيم هي:
1- الإيمان الصحيح بالله تعالى واستحضار رقابته في كل شيء من حياتنا.
2- معرفة الإنسان لنفسه وكشف ضعفها وقوتها.
3- الإيمان بالحساب واليوم الآخر.
4- التفكر بالموت فإنه لجام الشهوات.
5- إستحضار حالة الخوف من الله تعالى والحياء منه.
6- مطابقة أعمالنا مع أعمال القدوة الصالحة الرسول7 وأهل بيته E وأصحابه رضي الله عنهم.
7- ممارسة العبادة الصحيحة.
8- الإبتعاد عن موارد الشبهات.
9- التفكير الدائم في كيفية تحقيق مرضاة الله تعالى.
10- الإكثار من أعمال الخير وتجنب الأعمال القبيحة.
إن الإنسان حينما يستحضر رقابة الله سبحانه وتعالى في نفسه ويشعر دائماً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ويرى وهو لنا بالمرصاد ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. فإن ذلك يقرر عنصر الإيمان ويمنع أو يقلل ممارسة الذنب.
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ العلق: 14.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الفجر: 14.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ غافر: 19.
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ الأعراف: 201.
وعن أمير المؤمنين u أنه قال: «اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد عليكم هو الحاكم».
فمن يريد أن يمارس الذنب عليه أن يحقق خمسة شروط:
1- أن ينكر وجود الله.
2- أن يخرج من حكومة الله.
3- وأن يعمل ذنباً لا يراه الله فيه.
4- وأن يتحدى ملك الموت.
5- وأن يتحدى مالك (بواب النار) ليخرج من النار.
وحينما يعرف الإنسان حقيقة الإيمان ويعرف حقيقة نفسه يكون عبداً حقيقياً لله تعالى, وقد امتلأت دنياه بأعماله الحسنة وهو يُحضّر نفسه لذلك اليوم ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ آل عمران: 30.
﴿خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ القمر: .7.
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ عبس: 34-37.
وعن الإمام علي u ورد قوله: «واتقوا ناراً حرّها شديد وقعرها بعيد وحليتها حديد وشرابها صديد».
الإنسان عندما يعرف حقيقة الإيمان وحقيقة نفسه تؤثر به المواعظ الحسنة ويتفاعل معها التفاعل الإيجابي الذي يسمو بشخصيته نحو الكمال. ذلك الشاب الذي سقط في سوق الحدادين بالكوفة عندما شاهد الحديد وقد خرج من النار تذكر قوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾... وقد رآه سلمان المحمدي (رضي الله عنه) مغشياً عليه والناس من حوله.. فحينما استيقظ سأله سلمان (رضي الله عنه) عن سبب سقوطه, قال: تذكرت الآية القرآنية وتذكرت هول القيامة... فتعلق سلمان (رضي الله عنه) بهذا الشاب كثيراً وحينما مرض الشاب وأدركه الموت دعا له سلمان أن يرفق به ملك الموت ... فكان الخطاب «إني بكل مؤمن رفيق».
وحينما يتذكر الإنسان الموت, لأن ذكر الموت هو لجام للذنوب, وذكر الموت هو غربيل الشهوات, وذكر الموت يكسر الغرور والتكبر, وذكر الموت طريق التوبة.
فعن رسول الله7 ورد أنّه قال: «اكثروا ذكر الموت فإنه يمحّص الذنوب».
لأن وراء الموت عقاب, ولا بد للإنسان أن يخاف من عواقب ذنوبه, ويسعى دائماً تجنّب ممارسة المزيد من الذنوب لأن في ذلك خسارة للدين والدنيا. ولا بد للإنسان أن يقتدي بالأسوة الحسنة ويذكر نفسه بهم: «اللهم طهرني من الذنوب كلها, وألحقني بأوليائك الصالحين, اللهم ألحقني بصالح من مضى, وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم, وثبتني يا ربّ ولا تردني في سوء استنقذتني منه يا رب العالمين».
هذه الممارسات التربوية يحتاجها الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته حتى يتجنب السقوط في بحر الذنوب. والممارسة العبادية تزيد الإنسان قوة في ممارساته التربوية وهي وسائل لتطهير النفس من أدران الشيطان.
وعن رسول الله7 «مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلى كَفّرَت ما بينهما»( [97][97]).
وعن أمير المؤمنين u «والصلاة تنزيهاً عن الكبر والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء»( [98][98]) فالممارسة العبادية هي دواء لداء الذنوب والأسقام.

الموقف الإسلامي من المذنبين

الإسلام يؤكّد على ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويعتبره واجبٌ عيني على كل شخص أن يمارس إنكار المنكر بالقلب واللسان واليد لمنع إنتشار المنكر في المجتمع. التعامل الإسلامي مع المذنبين يعتمد على نوع الذنب الممارَس, وشخصية الممارِس, وطبيعة الذنب الممارس, فالممارسة الإسلامية اتجاه المذنبين هو الإنكار لأعمالهم وهجرهم إذا لم يستجيبوا إلى كلمة المعروف وهذا على الصعيد الشخصي, أما على الصعيد الإجتماعي فالدولة الإسلامية هي أولى بتطبيق الحدود على المذنبين إجتماعياً.. كالزنا والسرقة وغيرها من الأمور الإجتماعية التي تتجاوز حدود الشخص المذنب نفسه. الإسلام جعل حدود المذنبين بين العفو والقصاص لكي يربي الأمة على الصعيد الفردي والإجتماعي أن تتجاوز الممارسات المغلوطة وأن ترجع إلى الله بصورة دائمة وتستحضر وجوده من خلال تربية الذات. على أن الوجدان الداخلي للإنسان المسلم هو القانون الحاكم الذي يمنعه من الممارسات المغلوطة.. وحينما يستشعر الإنسان أن الله سبحانه وتعالى رقيبٌ عليه في كل صغيرة وكبيرة, فلا يتجاوز على القانون العام أو قانونه الخاص, أما الذي لا يستشعر هذه الحالة أو يتغافل عن الشعور بهذه الحالة سوف يتجاوز على القيم والقوانين الخاصة والعامة, ولهذا لا يجوز إعانة هؤلاء على ذنوبهم.. فلا يجوز أن نشتري من الخمّار أو لا يجوز إعانة الظالم على ظلمه, وغيرها العشرات من المسائل الحياتية التي تخص الفرد والمجتمع.


















السلوك الإنساني ذو اتجاهين:
أحدهما سلبي, والآخر إيجابي,
السلوك السلبي هو الناتج عن غلبة الهوى وطغيان الذنوب على حياة الإنسان, أما السلوك الإيجابي فهو الذي يُميز الإنسان المؤمن عن غيره, فحينما يعيش المحنة والإبتلاء يكون صبوراً ومحتسباً أمرَه إلى الله ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ البقرة: 155-156.
فالمحنة للإنسان المؤمن تحمل بعدين:
أحدهما: للمكافئة.
والثاني: للإبتلاء والتمحيص لغرض تصفية الإنسان من شوائبه للبلوغ به نحو التكامل الإنساني.
فعن الصادق u ورد أنه قال: «إن أشدّ الناس بلاءً الأنبياء, ثم الذين يلونَهم, ثم الأمثل فالأمثل»( [99][99]).
وحينما يمارس الإنسان الذنوب فلا يجد أمامه إلا العواقب التالية:

1- الذنوب تسلب توفيق الدعاء من الإنسان فتُبقيه يعيش في حالة نفسية صعبة.
وقد جاء في الدعاء: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء».
وكذا جاء: «فأسئلك بعزّتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي».
وعن الصادق u «كان أبي يقول ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة, إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فتصيّر أعلاه أسفله»( [100][100]).

2- الذنوب تنسي المرء ذكر الله
عن الصادق u «إنّ الله أوصى إلى داود إن أدنى ما أنا صانع بعبدٍ غير عامل بعلمه من سبعين عقوبةٍ باطنية أن أنزع من قلبه حلاوة ذكري»( [101][101]).
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين وقال: يا أمير المؤمنين إنّي حُرِمت من صلاة الليل. فقال له الإمام علي u «أنت رجلٌ قد قيدتك ذنوبك»( [102][102]).
وعن الصادق u «إن الرجل يذنب الذنب فيُحرَمُ صلاة الليل, وإن العمل السيء أسرع في صاحبه من السكين في اللحم»( [103][103]).
وفي الحديث الشريف «شرف المؤمن صلاته في الليل»( [104][104]).
وكذا جاء «الركعتان في جوف الليل أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها»( [105][105]).
وقد خطب أمير المؤمنين u في أحد الجُمَع فقال في نهاية خطبته «أيها الناس سبع مصائب نعوذ بالله منها؛ عالمٌ زلَّ, وعابدٌ ملَّ, ومؤمنٌ خلَّ, ومؤتمنٌ غلَّ, وغنيٌ أقلَّ, وعزيزٌ ذلَّ, وفقيرٌ اعتلَّ».
فقام إليه رجل قائلاً: يا أمير المؤمنين لِمَ لا تُستجاب دعواتنا وقد قال سبحانه وتعالى ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾, فأجاب u: إن قلوبكم خانت بثمان خصال:
أولها: أنّكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه كما أوجب عليكم فما أغنت عنكم معرفتكم شيئاً.
الثانية: أنّكم آمنتم برسوله ثم خالفتم سنته وأمتُّم شريعته, فأين ثمرة إيمانكم؟.
الثالثة: أنّكم قرأتم كتابه المنزل عليكم فلم تعملوا به وقلتم سمعنا وأطعنا ثم خالفتم.
الرابعة: أنّكم قلتم تخافون من النار وأنتم في كل وقتٍ تقدمون إليها بمعاصيكم فأين خوفكم؟.
الخامسة: أنّكم قلتم ترغبون في الجنّة وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها فأين رغبتكم فيها.
السادسة: أنّكم أكلتم نعمة المولى فلم تشكروا عليها.
السابعة: أن الله أمركم بعداوةِ الشيطان وقال: إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً فعاديتموه بلا قولٍ وواليتموه بلا مخالفة.
الثامنة: أنّكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم, وعيوبكم وراء ظهوركم, تلومون من أنتم أحق باللوم منه. «فأيّ دعاءٍ يستجاب لكم مع هذا, وقد سددتم أبوابه وطرقه, فاتقوا الله وأصلحوا أعمالكم وأخلصوا سرائركم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فيستجيب لكم دعائكم»( [106][106]).
والذنوب التي تنسي المرء ذكر الله وتردّ الدعاء, سوء النية, وخبث السريرة, والنفاق مع الأخوان, وترك التصديق بالإجابة, وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها, وترك التقرب إلى الله عزّ وجلّ بالبرّ والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول( [107][107]).

3- الذنوب تُغيِّر النعم وتبيد الأمم
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم»
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ غافر: 21.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ الأنفال: 52.
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ الإسراء: 16.
إن هلاك الأمم لا يتم إلا بعد إنتشار الظلم والفسق والفجور على أيدي الحكام الظالمين وعلى أيدي العائبين المترفين في المجتمع.
فقد روي عن أمير المؤنين u أنه قال: «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمةٍ من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها, لأن الله ليس بظلام للعبيد»( [108][108]).

4- الذنوب تقصر العمر وتعجل بالفناء
«اللهم إنّا نعوذ بك من الذنوب التي تعجل الفناء»
الذنوب التي تعجل الفناء هي قطيعة الرحم, واليمين الفاجرة, والأقوال الكاذبة, والزنا, وقطع طريق المسلمين بالسلب والقتل وما أشبه, وادّعاء الإمامة بغير حق.
وقد قال الإمام الباقر u: «صلة الرحم تزكي الإعمال, تنمي الأموال, وتدفع البلوى, وتيسر الحساب, وتنسئ في الأجل»( [109][109]).

5- الذنوب تهتك العصم
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تهتك العصم»
والعصم: هي الحُجُب التي تستر الروح البهيمية في الكائن البشري, فممارسة الذنوب هو هتك لهذه الحجب التي تستر الروح البهيمية.
عن رسول الله7 : «للمؤمن اثنان وسبعون ستراً, فإذا أذنب ذنباً إنهتكت عنه»( [110][110])
والذنوب التي تهتك العصم هي شرب الخمر, واللعب بالقمار, وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح, وذكر عيوب الناس ومجالسة أهل الريب»( [111][111]).

6- الذنوب تقطع الرجاء
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تقطع الرجاء»

7- الذنوب تُنزل النقم
«اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تنزل النقم»
ومن الذنوب التي تنزل النقم هي الفسق والفجور.

8- الذنوب تؤدي إلى الكفر
من الذنوب التي تؤدي إلى الكفر هي اتباع هوى النفس, والحسد, والخمر, والكبر والغرور. وقد قال تعالى:
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الروم: 10.
﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ القمر: 30.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ البقرة: 109.
وجاء عن أمير المؤمنين u قوله: «ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»( [112][112]).
وعن الصادق u «الشراب مفتاح كل شرّ, ومدمن الخمر كعابد وثن, وإن الخمر رأس كل إثم وشاربها مكذب بكتاب الله تعالى, لو صدق كتاب الله حرّم حرامه».

الآثار الدنيوية للذنوب في المنظار القرآني
قال جلّ من قال: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ البقرة: 59.
وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ المائدة: 49.
وقال سبحانه: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ الأعراف: 96.
﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ الأنعام: 6.
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ النمل: 52.
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ نوح: 25.
﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾ الشمس: 14.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الرعد: 11.
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين: 14.
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى: 30.
وعن رسول الله7 قال خير آية في كتاب الله هذه الآية.. وبعدها قال7 «يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب».

الآثار الأخروية للذنوب في المنظار القرآني
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ النمل: 90.
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ الجن: 23.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ*وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ*وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ*كَلَّا إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى﴾ المعارج: 11-16.
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ المؤمنون: 104.

9- الذنوب تؤدي إلى حبط الأعمال الحسنة
﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ التوبة: 17.
ومن هذه الذنوب التي تؤدي إلى الإحباط هي الشرك بالله, وإنكار آيات الله, الردة عن الدين, ومخالفة أوامر الأنبياء والصالحين.
ومن الأمثلة على حبط الأعمال هو القيام بأعمال حسنة تنفع العامة وبنفس الوقت تمارس الربا, أو تخالف أمر الله تعالى في الأمور الحياتية, إذن حينما تطغى الذنوب على العمل الصالح فلا نتيجة تُرتجى من كل عمل صالح. مقابل الكبائر من الذنوب لا يمكن أن تقوى الأعمال الحسنة على إزالة تلك الكبائر.

10- الذنوب تؤدي إلى مسخ الشخصية
الممارس للذنب الصغير دون أن يردع هواه ويتوب ويستغفر, سوف تستمر به الحالة هكذا حتى يتجاوز على كل شخصيته المعنوية ويحطمها بالتدريج يكون قد تجاوز الحياء الإجتماعي والحياء الإلهي وسهّل على نفسه ارتكاب المعاصي حتى الكبيرة منها.
﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ النحل: 108.
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ الصف: 5.
عن أمير العصومين u «ماجفت الدموع إلاّ لقسوة القلوب وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب»( [113][113]).
«ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة أن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصيّر أعلاه أسفله»( [114][114]).
«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء, فإن تاب انمحت, وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»( [115][115]).


















﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإسراء: 23.
أمر الله سبحانه وتعالى عباده بعبادته عن إخلاص, والإخلاص بالعبادة هو أوجب الواجبات, كما أن الشرك به من أكبر الكبائر الموبقة, كما في سورة النساء: 48.
كل ذنب يمارسه العبد هو طاعة لغير الله من شياطين الجن والإنس وهوى النفس والجهل ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ يس: 60.
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ الجاثية: 23.
إن هذا الشرك في الطاعة أمر عظيم قدمه القرآن على سائر الأحكام الخطيرة شأناً كعقوق الوالدين, ومنه الحقوق المالية, والتبذير, وقتل الأولاد, والزنا, والسرقة, وقتل النفس المحترمة, وأكل مال اليتيم, ونقض العهد, والتطفيف في الوزن, واتباع غير العلم.. ولكن على الرغم من كل هذه الدرجة من الممارسات السيئة التي اعتبرها الله سبحانه وتعالى أنها تدخل في طاعة غير الله وهي بعنوان الشرك (الثانوي), فتح الله سبحانه وتعالى باب الرحمة لعباده وسماها التوبة ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: 53.
لقد شملت الرحمة الإلهية كل الناس (المؤمنين والمشركين) أن لا يقنطوا من رحمة الله, لأن الله يغفر الذنوب جميعاً إذا بدأت محاولة العبد للتخلص من الممارسات الخاطئة. فالمغفرة عامة أكانت في الشرك (الأوّلي) أو الشرك (الثانوي) ولكنها تحتاج إلى سبب مخصص ولا تكون جزافاً, والذي عدّه القرآن سبباً للمغفرة أمران: الشفاعة والتوبة.
والمغفرة بالشفاعة لا تخص الشرك الأولي ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ النساء: 48.
أما التوبة فهي مفتاح لمغفرة الذنوب جميعاً أكان شركاً أوليّاً أو ثانوياً.
لقد ذهب بعض المفسرين إلى تقييد المغفرة بالكبائر جميعها والصغائر وحتى الشرك وبعضها استند إلى آية ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ النساء: 48. قيدها بالشرك الثانوي (وهي جميع الذنوب دون الشرك الحقيقي بالله تعالى (الشرك الأولي)).
ولكن الأرجح عند جمهور المفسرين هو المغفرة لكل الذنوب صغيرها وكبيرها وحتى الشرك( [116][116]).
والتوبة توبتان .. توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة, وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والإقلاع عن المعصية( [117][117]) وتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى, فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال, فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى تتحقق منه التوبة, ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته. فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ ُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ التوبة: 118.
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ النساء: 12.
التوبة هي الرجوع, وهي حسنة تحتاج إلى قوة, والحسنات من الله, والقوة لله جميعاً, فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتسنى له الإنصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربّه, ثم إذا وُفِّق للتوبة والرجوع احتاج التطهير من هذا التلوث (الذنوب), والورود والاستقرار في ساحة القرب الإلهي ورجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.
وهذا الرجوعان من الله سبحانه وتعالى هما التوبتان الحافتان بتوبة العبد ورجوعه. ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ التوبة: 118. هذه هي المرحلة الأولى من التوبة ثم ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ البقرة: 160. وهذه هي التوبة الثانية. فإذن, إن الله تعالى أوجب على نفسه وفاء العهد حينما يتوجه العبد بالرجوع إلى الله سبحانه.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ غافر: 7.
فالعمل بجهالة كما في سياق الآية, يقابلها العلم بالشيء, ولكن هؤلاء الذين يعملون الذنوب عن هوى وطغيان الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق. ومن علامة هذا الجهل أنه حينما تخمد الشهوات نتيجة لمانع أو لضعف القوى البدنية أو يقظة في الضمير, والعلم الصحيح بالعمل, تبين الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد تحدّياً لأوامر الله تعالى, وهو ناتج عن خبث الذات ورداءة الفطرة, ولا يلحقه الندم في عمله إلا أن يشاء الله ذلك.
والتوبة هنا «من قريب» أي أن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج, بل يرجع عن عمله عن قريب, فالمراد بالقريب هو قبل فوات الأوان وحلول الموت. أي تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفاً, كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يُعدّ عرفاً متصلاً به, لا أن يمتد إلى حين حضور الموت.
فالتوبة من الله لا تقبل من العبد الذي يبقى مصرّاً على الذنب, ولا تُقبل من العبد الذي يموت وهو كافر.
فالله تعالى هو قابل التوب وهو غافر الذنب وهو الذي يقبل التوبة عن عباده .. هو صاحب الرحمة الكبيرة التي بها يغفر لعباده ويزيل ظلمة المعاصي من قلوبهم ... ولله تعالى الحق في رد توبة العبد وعدم قبولها إذا لم تتوفر المقدمة الصحيحة في عملية التوبة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ آل عمران: 90.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ النساء: 137.
والتوبة حينما أكرم الله سبحانه عباده بها هي حقيقة ذات تأثير إنساني من حيث اصلاح النفس وإعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة. فالتوبة هي طهارة النفس من الأدران والسيئات النفسانية التي تجر الإنسان إلى كل شقاء في حياته الأولى والأخرى وتمنعه من الإستقرار على أريكة السعادة.
والتوبة لم تُشرَّع لإغراء العبد بالمعصية وتحريضه على ترك الطاعة كما يتوهم البعض, وإنما التوبة شُرِّعت لتفتح الطريق للإنسان المذنب أن يرجع عن عمله السابق نتيجة سيطرة الهوى والشهوة عليه. ولكن إذا مورست العملية بعنوان التكرار (يعصي ثم يتوب), فإن ذلك لا يتحقق معها حقيقة التوبة, لأن التوبة هي الرجوع الإختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية؛ وبهذا العمل تتبدل السيئات السابقة إلى حسنات ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً*وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾ الفرقان: 70-71.
إن الله سبحانه وتعالى أعطى للتوابين من الفضل ما لم يعطه لأحد ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ البقرة: 222.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ*رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ غافر: 7-9.
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ الفرقان: 68-70.
إن التوبة عملية إزالة الصدأ من معدن النفس وإذا تراكمت مادة الصدأ في النفس من دون توبة تكون ريناً ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين: 14.
وإذا تراكم الصدأ أكثر صار طبعاً, وإذا صار طبعاً صعب زواله. فالتوبة والإستغفار هما لزوال السيئات ومنع تراكمها.
وقد ورد عن رسول الله7: «اتبع السيئة الحسنة تمحها».
فالتوبة أول علائمها الندم على الفعل والتصميم على ترك الذنب, وإعطاء حقوق الناس وتذويب كل ما نبت في الجسم من اللحم الحرام بالحزن والاستغفار, وتسخير الجسد في طاعة الله تعالى.


طبقات التائبين

الطبقة الأولى: هم الذين يتوبون من المعاصي إلى آخر العمر, ولا يُحدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه, إلا اللمم التي لا ينفك الإنسان عنها في العادة إلا المعصومين, فإنهم لا يمارسون حتى اللمم, وهذه التوبة هي التوبة النصوح, وصاحب هذه النفس هو صاحب النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ التحريم: 8.
الطبقة الثانية: هم التوابون الذين يتوبون من المعاصي ولكن لا ينفكون عن ممارسة بعض الذنوب, لا عن عمد وتجريد قصد ولكن يبتلي بها المذنب. فهم يلومون أنفسهم حتى إذا ندم أحدهم وتأسّف وجدد عزمه على التوبة وترك الذنب إلى حده الأدنى. وهؤلاء أهل النفس اللوامة.
الطبقة الثالثة: هم التوابون الذين يستمرون بالتوبة لفترة ثم يعاودون الذنب, وهكذا فإنهم يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهؤلاء أهل النفس الأمّارة ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ التوبة: 102.
ومن هؤلاء من يحاول التوبة ولكن يصرّون على ممارسة الذنوب, كما قال تعالى:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ السجدة: 12.
ولرحمة الله تعالى بعباده وحبه لهم جعل الله تعالى الصدقة في سبيله باب من أبواب التوبة, لأن الصدقة توبة ماليّة وكلاهما مطهِّرتان ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التوبة: 104.
فـ«التواب الرحيم» أي جمع بين التوبة والتصدق, والمراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى يطلف بعباده ويشجعهم على التوبة حتى يكرمهم بالحسنات ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾. لأن الله يحب التوابين, والله تعالى أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد, ومن الضال الواجد ومن الضمآن الوارد حسب قول الإمام الباقر u.
وحينما يتوب العبد ويسلّم أمره لله تعالى, فإن الله تعالى يلهمه ما يبعث فيه الإخلاص ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ الأحقاف: 15.
والإخلاص يكون في الذات والأعمال, فتكون كل حياته لله تعالى.. مستغفراً الله تعالى يرجو منه العفو والغفران لما بدر منه في السابق من الذنوب والممارسات الخاطئة, لأن الله يحب عبده الملحاح بالدعاء ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ النساء: 106.











































إن مرض الذنوب وعوارضه يصيب المجتمع ولكن بدرجات متفاوتة, وأثر العلاج لهذا المرض الخطير يعتمد على طبيعة المرض وزمانه وشدّته وقدرة البدن على تحمله وطريقة علاجه. فإذا أراد الإنسان أن يسير في هذه الحياة فليجعل التوبة والإستغفار سبيلاً لتحصين نفسه من السقوط في شباط الشيطان.
عن رسول الله7 «إنه ليُران على قلبي حتى استغفر باليوم والليلة سبعين مرة»( [118][118]).
نسأله تعالى أن يجعلنا من التوابين ومن المستغفرين, لأنّنا لا نعلم متى الأجل يتخطفنا.. فلنستعد وكأن الأجل صائر إلينا بعد لحظات فإن:

«فمن يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال, ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار»( [119][119]).
وقد رُوي عن رسول الله7 أنه قال:
«اتق الله حيث كنت, وخالق الناس بخلق حسن, وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها»( [120][120]).
وقال7: «من عمل سيئة في السرّ, فليعمل حسنة في السرّ, ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية»( [121][121]).
وعن أمير المؤمنين u ورد قوله: «ثمرة التوبة استدراك قوارط النفس»( [122][122]).
وعن الباقر u «ما أحسن الحسنات بعد السيئات»( [123][123]).
وقال u: «التائب إذا لم يستبن أثر التوبة فليس بتائب, يرضي الخصماء ويعيد الصلاة ويتواضع بين الخلق ويتقي نسفه عن الشهوات»( [124][124]).
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ آل عمران: 147.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
















مصادر عامة للبحث



1- الطفل بين الوراثة والتربية – للشيخ محمد تفي الفلسفي- ترجمة السيد فاضل الميلاني.
2- الذنوب الكبيرة – للسيد دستغيب- ترجمة السيد صدر الدين القبانچي,
3- المحجة البيضاء- للفيض الكاشاني.
4- معرفة الذنوب (گناه شناسي) للشيخ محسن القرائتي.
5- اتجاهات الدفاع الإجتماعي في الإسلام – جلال الدين علي الصغير.
6- دراسات في النفس الإنسانية - محمد قطب.

تم تنضيد أحرف الكتاب على الأجهزة
الكومبيوترية في دار الأعراف للدراسات والنشر




المحتويات

المقدمة 5
الإهداء 9
القسم الأول:

الذنب مفهوماً واصطلاحاً 11
أقسام الذنوب 15
كيف تتحول الصغائر إلى كبائر 21
1- الإصرار على فعل الصغائر 21
2- تصغير الذنوب 22
3- الطغيان والتكبر 24
4- الأمان من مكر الله 24
5- التجاهر بالذنب 24
6- ذنب من له مسؤولية إجتماعية 25
7- ممارسات أهل البدع 25
مفاتيح الذنوب 29
القسم الثاني: نشأة الذنب 31
منابع الذنوب 35
1- الجانب التربوي والثقافي 36
2- الجانب العائلي 46
3- الجانب الإقتصادي 54
4- الجانب الإجتماعي 60
5- الجانب النفسي الإجتماعي 75
6- الجانب السياسي 79
القسم الثالث: التبرير في ممارسة الذنب 81
أ- التبرير في الممارسات الإعتقادية 85
ب- التبرير السياسي 87
ج- التبرير الإجتماعي 89
د- التبرير النفسي 90
هـ- التبرير الثقافي 93
و- التبرير الإقتصادي 96
ز- التبرير العسكري 100
معرفة الحق والباطل 102
استثناء 104
القسم الرابع: التوبة والإستغفار 107
الموقف الإسلامي من المذنبين 113
آثار الذنوب 115
التوبة 127
طبقات التائبين 134
الخاتمة 137
مصادر عامة للبحث 142
المحتويات 143