المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مفتاح الدار أمانة في الأعناق : بقلم د / لطفي زغلول



لطفي زغلول
14/05/2008, 05:33 PM
في الذكرى السنوية الستين للنكبة

مفتاح الدار
أمانة في الأعناق
د / لطفي زغلول - نابلس

يحيي الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل وفي الشتات الذكرى السنوية الستين لنكبته التي ما زالت تعايشه ، وتستوطن حنايا ذاكرته ، وكل تضاريس وجدانه وأحاسيسه . وقد يظن البعض أن النكبة الفلسطينية محصورة في اليوم الخامس عشر من شهر أيار / مايو 1948 . وحقيقة الأمر أن هذا اليوم في التاريخ الفلسطيني الحديث قد أصبح عنوانا ومدخلا إلى النكبة الفلسطينية التي ابتدأت فعليا قبل هذا التاريخ ، و هي لم تقف عنده ، وتجاوزته بتداعيات وإفرازات كارثية ، أضيفت الى سجلها طيلة ما تبقى من القرن العشرين المنصرم ، لتدخل القرن الحادي والعشرين وما زالت مفتوحة على المزيد من المآسي .
يمكن القول إن الإعداد للنكبة الفلسطينية ، قد بدأ في نهايات القرن التاسع عشر وتحديدا في العام 1897 . إلا أن العام 1917 وهو العام الذي أصدرت فيه حكومة بريطانيا العظمى على لسان وزير خارجيتها آنذاك اللورد بلفور وعده المشؤوم في الثاني والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر لذلك العام ، فقرع بذلك أجراس النكبة الفلسطينية التي ما زالت تقرع حتى الساعة .
وغداة هذا الوعد المشؤوم ، احتلت بريطانيا العظمى في العام 1918 فلسطين ، وفرضت عليها انتدابها . وعلى مدى ثلاثين عاما من انتدابها هذا ، عملت الحكومة البريطانية على ترجمة وعد بلفور على أرض الواقع . فكانت والحق يقال سياسات بريطانيا في فلسطين هي المسؤولة مباشرة عن كل ما حل بالشعب الفلسطيني الذي صحا صبيحة الخامس عشر من أيار 1948 على حدثين خطيرين . الأول إعلان بريطانيا أنها أنهت انتدابها على فلسطين ، وأوكلت أمرها للأمم المتحدة . والحدث الثاني هو إعلان قيام دولة إسرائيل .
لقد جسد الخامس عشر من أيار 1948 النكبة الفلسطينية ، وأعطاها بعدا كارثيا خطيرا ، تمثل في اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي ، حاملا معه مأساة قلّ نظيرها في التاريخ الإنساني ، ليضع تعريفا مفتوحا لمفهوم النكبة الفلسطينية يتسع لمزيد من الإضافات الكارثية .
وهكذا فإن النكبة الفلسطينية ابتدأت بالفعل ، يوم أصدرت بريطانيا وعد بلفور في العام 1917 ، وما تبعه من سياسات مارستها على مدى ثلاثين عاما من انتدابها لفلسطين ، عملت خلالها على إضعاف الفلسطينيين وقهرهم من خلال منظومة قوانين تعسفية فرضتها عليهم ، في حين أنها بسطت يد العون للطرف الآخر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، وأقلها فسح المجال أمام الهجرات اليهودية المتوالية .
في الخامس عشر من أيار 1948 ، أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين ، إلا أنها زرعت في أرضها بذور مأساة انسانية كبرت مع الأيام ، وخرجت إلى أبعد من جغرافيا فلسطين بكثير . ومن رحم هذه المأساة ولدت القضية الفلسطينية التي نفضت بريطانيا يدها منها ، وكأن الفعلة النكراء هذه لم تقترفها أيديها . وعلى مدى سنوات النكبة أدارت ظهرها للفلسطينيين ، فلا حكوماتها العمالية ، ولا تلك المحافظة حاولت مرة أن تحاسب نفسها ، أو أن تنقذ ما يمكن انقاذه تحت ظلال هذه الكارثة التي صنعتها سياستها الإستعمارية .
لقد تغاضت بريطانيا عن مسلسل المآسي اليومية التي يفرزها الإحتلال الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني ، وبدل أن تتفهم حقيقة مشاعر الإحباط واليأس وخيبات الأمل التي غرق الفلسطينيون في مستنقعاتها ، الأمر الذي دفعهم للنضال من أجل استعادة حقوقهم التي كفلتها لهم قرارات الشرعية الدولية ، فوجىء الفلسطينيون بانضمام بريطانيا بالذات إلى جوقة المعادين لقضيتهم العادلة ، الناكرين لها ، الذين يدينون هذا الحق المشروع ، ويصفونه بأعمال عنف وإرهاب .
واذا كانت هذه هي خلاصة السياسة البريطانية ، فان مواقف الاتحاد الاوروبي التي تبدو في الظاهر أنها مغايرة للسياستين البريطانية والاميركية فيما يخص القضية الفلسطينية ، الا انها في الحقيقة تنبع من مصالح لا مبادىء ، وأنها في كثير من الاحيان تأخذ في الحسبان الحفاظ على مستوى علاقات لا تغضب كلا من أميركا واسرائيل . وعلاوة على ذلك – وهذا هو الأهم – فالاتحاد الاوروبي لا يتفهم كنه ما يناضل الفلسطينيون من أجله والذي يصفه في احيان كثيرة بأنه ضرب من العنف والإرهاب منساقا بذلك وراء مفاهيم السياسات الاميركية والاسرائيلية المعادية ، وليس موقف الاتحاد بأفضل منه في اللجنة الرباعية .
لقد عول الفلسطينيون على الشرعية الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة من خلال مؤسستيها الرئيستين " مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية " . وفي كل المرات أثبتت كل تجارب الفلسطينيين أن الأمم المتحدة بكل مؤسساتها تعمل وفق آليات هيمنة الدول الكبرى عليها ، وتحديدا الولايات المتحدة ، وليس أدل على ذلك من الفيتو الأميركي الذي يقف للحق الفلسطيني بالمرصاد ، ومن قبله ذلك الكم الهائل من القرارات الصادرة التي ظلت حبرا على ورق . إنها بلا شك شرعية القوة لا قوة الشرعية .
في الذكرى السنوية الستين للنكبة الفلسطينية ، فإن الحديث عن سياسات الولايات المتحدة التي نصبت نفسها راعيا للعملية السلمية ، يثير شجونا وأشجانا لا حدود لها . إن الفلسطينيين قد أصبحوا على إدراك تام أن سياسات الإدارات الأميركية مخادعة ، ومثالا لا حصرا خدعة رؤية الدولة الفلسطينية التي مضى عليها سبع من السنين العجاف ، وما زالت دون تعريف لها ولا تحديد لمعالمها . وها هي خارطة الطريق ، وها هو لقاء أنابوليس . وغيرها الكثير الكثير . إلا أن المحصلة واحدة ، المزيد من التسويف والوعود الكاذبة والمماطلة واللعب في الوقت الضائع .
إلا أن الأخطر في السياسة الأميركية ما فعله الرئيس الأميركي الذي أدخل عليها نقلة نوعية ، فأضاف إليها عناصر جديدة معادية إلى أقصى حدود للقضية الفلسطينية ، فأراد أن يكون " بلفور الثاني " ، فأعطى وعده المشؤوم لشارون يوم كان رئيسا للحكومة الإسرائيلية بإفراغ هذه القضية من مضامينها ، فألغى حق العودة ، وأباح الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين بما فيها القدس ، ومنح الإستيطان الإسرائيلي القائم على الأراضي الفلسطينية المغتصبة صك الشرعنة الأميركية .
عربيا وإسلاميا ، فبعد ستين عاما يتذكر الفلسطينيون أشقاءهم العرب والمسلمين الذين كانوا شركاء حقيقيين ، يوم كانت فلسطين قضيتهم الأولى انطلاقا من أنها ليست كأي قطر آخر باعتبارها جزءا لا يتجزأ من جغرافيا التاريخ والعقيدة الإسلاميين ، وأن القدس بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة ليست ملكا للفلسطينيين وحدهم ، وأن حق الدفاع عنها يفترض أن يكون على كل عربي ومسلم .
واليوم ، وبعد ستين عاما هي عمر النكبة ، فقد الفلسطينيون العمقين العربي والإسلامي ، وأصبح الشركاء على السراء والضراء لا مبالين ولا مكترثين أو أنهم متفرجون صامتون على ما يجري في أرض الإسراء والمعراج ، أو أنهم متعاجزون عن فك الحصار عن الشعب الفلسطيني . ورحم الله عهد اللاءات والمقاطعة والثوابت القومية التي أصبحت شيئا من الماضي ، ورحم الله تلك الحمية والشهامة والنخوة التي انطفأت جذوتها ، وأصبحت رمادا تذروه رياح التقوقع والإنقسام في مذبح التطبيع والدوران في فلك السياسة الأميركية .
على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، وبعد ستين عاما ، فقد تمكنت إسرائيل من زرع ما تبقى من الأرض الفلسطينية بالمستوطنات ، واقامت الجدار الفاصل ، وقطعت أشواطا بعيدة المدى في تهويد القدس ، وصادرت كل ما تريده من الأرض ما عليها وما فوقها وما تحتها ، بعد أن قطعت أوصالها ، وعبدت شبكة الطرق الإلتفافية الإستيطانية ، ونصبت النقاط والحواجز الأمنية . وها هي تصول وتجول في الأراضي الفلسطينية ، تجتاح ، تعتقل ، تقتل ، تهدم ، تجرف كما يحلو لها .
في ضوء هذا المشهد المأساوي ، قد تظن إسرائيل ومن يقف وراءها أن الستار قد أسدل على القضية ، وأن كل شيء قد انتهى ، متوهمة أن تسوياتها وحلول مشكلاتها الأمنية مع الآخرين وليس مع الفلسطينيين ، وأنها بعد ستين عاما على النكبة وغياب السلام والأمن والأمان عن المنطقة ومساحة شاسعة من العالم تتجاهل أن هناك عنصرا واحدا ووحيدا لاستتباب السلام وعودة الأمن والأمان ، وهو بلا أدنى شك الحق الفلسطيني الذي اغتيل يوم الخامس عشر من أيار 1948 .
واستكمالا ، ودائما على الصعيد الفلسطيني ، وهو الأهم . سيظل الخامس عشر من أيار / مايو أبجدية نكبة محفورة حروفها على جدار الذاكرة الفلسطينية ، وحكاية أرض سليبة وشعب منفي عن وطنه التاريخي ، وشعلة إصرار على استرجاع الحق لا يخمد لهيبها مهما طال الزمن وتراكمت التحديات وتعاظمت . والشعب الفلسطيني في أيار / مايو 2008 ، وفي كل أيار / مايو آمن وما زال يؤمن – وإن وقع فريسة الإحتلال – أنه لم يهزم وأن عدوه لم ينتصر عليه .
كلمة أخيرة . إذا كانت النكبة مسلسل آلام وأحزان لاينتهي ، فثمة حقيقة لا ينبغي أن تغيب عن بال أي طرف كائنا من كان ، مفادها أن ثوابت القضية الفلسطينية هي الأخرى مسلسل لا تنتهي فصوله . إنها حق يأبى النسيان ، ما دام خلفه مطالب .
غداة النكبة ، قال القادة السياسيون الإسرائيليون يومها عن الفلسطينيين : " الكبار سيموتون ، والصغار سوف ينسون " . وها هي النكبة تدخل عامها الواحد والستين ، وإذا كان الكثيرون من الكبار قد ماتوا ، فان أجيال الصغار جيلا بعد جيل لم تنس ، ولن تنسى . إن النكبة ذاكرة شعب ، ذاكرة وطن ، لا تقوى الأيام على إطفاء شعلتها مهما اشتدت أعاصير التحديات ، وطال الزمن . ولا يزال مفتاح الدار التي سلبت ذات يوم ، إرثا تتناقله الأجيال ، وأمانة في الأعناق .