المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تعليم الكبار، مدخل لبناء الإنسان العربي



محمد جمال نوير
15/05/2008, 11:14 PM
تعليم الكبار، مدخل لبناء الإنسان العربي
إن مجتمعاتنا وهي تنادي بإعادة بناء الإنسان العربي، سعيا وراء المشاركة في الحضارة العالمية، يأخذ منها الإنسان العربي –بكل تراثه العظيم- مكانه الطبيعي في مسيرة الحضارة العالمية، يبرز أمامها مدخلان:
الأول، هو تطوير نظام التعليم بأسره –من قاعدته إلى قمته. وكم يكلف هذا الكثير، كما أنه كم سيعطي الكثير أيضا.
إن هذا هو المدخل الطبيعي لأي مجتمع يسعى إلى أن يبني مستقبله على أسس تمكنه من أن يأخذ مكانه بين الحضارات المتقدمة المعاصرة التي ترتكز مقوماتها أساسا على التكامل بين الثقافة الإنسانية بمعناها الأدبي والفني والتراثي، والثقافة العلمية التطبيقية بمعناها المعاصر متمثلة في الأخذ بأساليب العلم والتكنولوجيا، متكاملة في النظرية والتطبيق.
ورغم أن هذا هو المدخل الطبيعي الأساسي، إلا أن عائده على المجتمع لا يتحقق إلا بعد جيل على الأقل –هو ذلك الجيل الذي يوجد حاليا في مؤسسات التعليم. وفي ظل شروط مصاحبة تستغرق وقتا وجهدا من قبيل تعديل مناهج التعليم وطرائق تدريسها –تعديلا جذريا، وتهيئة البيئة المناسبة للاستفادة من نتائج التطوير من مثال تدريب المعلمين والإدارة المدرسية، وإعادة تعليم الآباء كعناصر أساسية لزيادة الدافعية على التعلم بين الأبناء. لا شك في ضرورة أن يتم هذا المدخل الأساسي، ولا شك أيضا في ضرورته –على المدى المتوسط والبعيد، ذلك أنه الخطوة الضرورية والأساسية من أجل بناء الأجيال التالية التي سوف تدعم المكانة الحضارية لمجتمعنا العربي في موقعه الطبيعي الجغرافي والتاريخي والحضاري.
المدخل الثاني، مدخل يعمل فيه المجتمع بأسره، بكل مؤسساته وأفراده من أجل تأكيد أن يتحول المجتمع بأسره إلى أن يكون مجتمعا معلما متعلما حافزا على التعليم، ويتيح مواصلة التعليم في كل المجالات. يستهدف هذا المدخل توفير فرص تعليمية لكل أفراد المجتمع، سواء أكانوا ملتحقين بمدارس أم غير ملتحقين بها، نالوا قسطا من التعليم، أم لم يسبق لهم الحصول على أية تعليم. هذا المدخل هو إشاعة تعليم الكبار في المجتمع.
ماذا يستهدف هذا المخل، وكيف يتم تنظيمه؟
أولا، لا شك أننا نسلم جميعا بأن تطوير نظمنا التعليمية المدرسية مطلب ملح وعاجل. غير أن تطوير هذه النظم سيستغرق وقتا وجهدا ومالا، هي كلها من طبيعة بنية نظام التعليم المدرسي وشروطه المؤسسية الذاتية. ذلك كله لأن تطوير منظومة التعليم المدرسي يتطلب –بالضرورة وكشروط مسبق ومتآنية- تطوير العناصر الأساسية للمنظومة من هيئات تعليم وإدارة، ومناهج تعليم بكل متطلباتها (مناهج متقدمة، وطرائق تدريس تقوم على التعلم الذاتي وتشيع تعلم المهارات الأساسية، وكتب، ووسائل تعليم تكنولوجية متطورة، الخ)، وأبنية مدرسية وتجهيزات تعليمية، وقبل هذا كله فكر تربوي متقدم ومستنير يشيع في المؤسسة التعليمية من قمتها إلى أصغر العاملين بها. ذلك كله يستغرق جهدا ووقتا وأموالا وطاقات، لست أدري هل هي متاحة الآن، أم ينبغي إعادة تنظيم الأولويات القومية لإتاحتها على النحو المرجو والمأمول فيه.
ولعلنا نسلم أيضا بأن هذا الجيل الملتحق بالتعليم الابتدائي –على سبيل المثال- هو ذلك الجيل الذي سيمارس أفراده العمل المنتج في المجتمع العقد القادم، أي بعد فترة ما بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة. وهؤلاء سيقودون العمل الوطني بعد تلك الفترة بما يتراوح بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة أخرى. ومسئولية إعداد هذا الجيل لممارسة هذا العمل، وتلك القيادة، هي مسئولية نظم التعليم المدرسي بصيغه القائمة حاليا، أو المنظورة مستقبلا. أما مسئولية إعداد هذا الجيل لقيادة العمل الوطني –على كافة مستوياته- فهي مسئولية مؤسسات لتعليم الكبار في المستقبل.
ومع ذلك، فلنا أن نتساءل عن تلك المؤسسات التي هي مسئولة عن ترقية كفاءات ومهارات الأجيال القائمة بالعمل حاليا والآن، هل هي متاحة ومتوافرة بالقدر الملائم والمناسب لتهيئة مجتمعنا العربي من أجل ذلك الدور الحضاري الذي نطمح فيه؟
إن المسئولية الأساسية لتزويد هذا الجيل بكل مفاتيح وأبواب ووسائل المواجهة الحضارية المرتقبة، تقع على مؤسسات تعليم الكبار وبرامجه. ذلك التعليم الذي يوجه إلى غير المقيدين في المدارس حاليا. أولئك الذين يمارسون عملا –أو لا يمارسونه ويستعدون لممارسته- وذلك من أجل إعدادهم، أو إعادة تأهيلهم وإعدادهم لمواجهة مسئوليات العمل في المجتمع. ليس فقط مسئوليات العمل بمعناه المهني في وظائفه ومهنه الإنتاجية أو الخدمية، وإنما مسئوليات العمل بكل ما تتضمنه من معان سياسية واجتماعية وثقافية. مسئولية الإنتاج الكفء الجيد الجودة، والاستغلال الرشيد لأدوات الإنتاج ومواده الأولية أو الوسيطة، وقيم الثقافة الشخصية المناسبة للتحديث من قبيل العمل الفريقي والشفافية والمصداقية والأمانة وتقدير الوقت والالتزام به، وما إلى ذلك، وقيم الاستهلاك الرشيد الواعي، وقيم السلوك الاجتماعي الناضج الرشيد الذي يتفاعل به الناس مع بعضهم ومع مؤسساتهم الإنتاجية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والعائلية.
هذه الممارسات كلها ممارسات نكاد نتفق جميعا على أنها تتطلب تغييرا وترشيدا ونضجا وإعادة صياغة وفق ما تتطلبه سياسات ورؤى التحديث التي يرومها مجتمعنا في المستقبل.
وإن كان ما سبق أن درجنا عليه في ممارساتنا الحياتية اليومية لا يرضينا في واقعنا الحالي، فإن هذا –في حد ذاته- دليل على عدم رضائنا عنه في المستقبل –إذا ما استمرت تلك الممارسات على ما هي عليه في المستقبل.
والمدخل الأساسي –بل والوحيد- هو تعليم الكبار وفق رؤية جديدة له، تتبناها مجتمعاتنا العربية، وبما يحقق نقلة نوعية في رؤيتنا الحالية لتعليم الكبار، تحقق انتشاره في كل أنحاء المجتمع، وتأخذ شكلا تنظيميا رشيدا، تمارسه كل هيئات المجتمع ومؤسساته، مستهدفة تكوين دوافع وحوافز السلوكيات الجديدة المأمولة، والتدريب على متطلبات تلك السلوكيات التي نستهدفها في المستقبل في أطر التحديث وإعادة البناء الحضاري الشامل لمصر.
كيف يتحقق ذلك؟
خطوات متكاملة متعددة الاتجاه، لازمة من أجل أن يتحقق ذلك.
في البدء لابد من بذل كل الجهود القومية اللازمة من أجل التخلص من مشكلة الأمية بكل صورها. والالتزام القومي بالتخلص من مشكلة الأمية التزام يتطلب حشد كل الجهود الحقيقية من أجل الوفاء به. ولا مجال للتهاون أوالتقاعس في ذلك الهدف القومي. وتلك خطوة أساسية في أي منظومة كفؤة لتعليم الكبار، لأنها تحقق بداية أولى لسبل الاتصال المكتوب بين الإنسان والحاضر والمستقبل، الذي يعتمد أساسا على الكلمة المكتوبة والمقروءة. ولعله من تكرار القول ومعاده، الحديث عن مشكلة الأمية في وطننا العربي، وخططها ومشروعاتها، وجدواها، وكيفيتها. فهناك عدة مؤسسات حكومية وغير حكومية شغلت نفسها سنوات وسنوات من أجل هذه القضية، ومع ذلك ما زالت نسبة الأمية وأعداد المنخرطين فيها عالية بما لا يليق بأمة عقيدتها بدأت بالحث عل القراءة، فما زالت تلك النسبة تراوح نفسها ممثلة أقسى أنواع التخلف الحضاري كسبة عار في جبين الأمة العربية، التي عرفت الحرف والكلمة، وقدرت الكاتب والكتابة قبل معظم شعوب العالم. إن حل المشكلة رهن بقرار سياسي حاسم، يصطحب بإرادة شعبية واعية سياسية.
غير أنه ينبغي التأكيد على أن مجرد الوقوف عند محو الأمية أزمة، تخلق أزمات أخرى. فبرامج محو الأمية (بمعناها المجرد) لا تؤدي إلا إلى مزيد من الإحباطات الاجتماعية والفردية، حيث لا تزود المتعلمين بالاحتياجات الحيوية لهم، خاصة أنهم أميتهم ترجع إلى عوامل وأسباب اقتصادية واجتماعية. وهذا يتطلب أن تتصاحب، وتتعاقب، مجموعة من برامج تعليم الكبار مع برامج محو الأمية. ولقد دلت كثير من تجارب محو الأمية –على الأصعدة العالمية في الدول النامية- أن تعليم القراءة والكتابة مسألة عبثية- إذا لم تتصاحب بتعليم لمرحلة ما بعد الأمية. ليست الغاية من التعليم هي إعطاء شهادة بتعلم القراءة والكتابة، سرعان ما يعود صاحبها أميا إذا لم يتم تعزيز تعلمه بمهارات تالية.
وتلك هي دلالات ضرورة تبني شبكة من البرامج المنسقة لتعليم الكبار، تتصاحب مع بعضها وتتكامل جهودها. أما أن تقف جهود أجهزة محو الأمية "وتعليم الكبار" عند جهد محو الأمية، فلا طائل مرجو من تحقيق التحديث والتغير الاجتماعي الحضاري المرموق.
وبالنسبة لتلك البرامج التي يحسن أن تتضمنها الرؤية المرجوة لتعليم الكبار، فهناك عدة مجالات تتراوح في نوعيتها حسب مستوى التعليم والفئة الاجتماعية/مهنية/عمرية. تقوم على تقديمها عدة مؤسسات تمارس أدوارا تعليمية غير الأدوار التقليدية التي تقوم بها وزارة التعليم بمؤسساتها المدرسية التقليدية. من بين هذه المؤسسات –على سبيل المثال لا الحصر:
1. مؤسسات التثقيف العملي، على اختلاف مستوياتها ونوعية برامجها، مستهدفة تزويد العاملين بثقافة مهنية واجتماعية واقتصادية وثقافية تحديثية، ولها مؤسساتها التي ينظمها الاتحاد العام للعمال.
2. مؤسسات التثقيف الفلاحي، مستهدفة تزويد العاملين بالقطاع الزراعي بثقافة مهنية زراعية، من أجل إنتاج أفضل، أو تخزين وتصنيع زراعي أكفأ، وهذه أيضا لها مؤسساتها التي تنظمها هيئات الإرشاد الزراعي، إضافة إلى التنظيمات المحلية.
3. مؤسسات التثقيف العام والجماهيري، وهنا تتوافر عدة مؤسسات أتاحتها الدولة والمنظمات غير الحكومية، والخاصة. فالمكتبات العامة، والمتنقلة، وقصور الثقافة ومراكزها، والمسارح، وقنوات الإعلام المرئي والمسموع لها أدوارها التي ينبغي أن تكون مخططة وهادفة، وبما يحق ثقافة سياسة واجتماعية واقتصادية عامة، مطلوبة ولازمة من أجل التحديث.
4. هناك أندية متعددة، وروابط ثقافية ومهنية متعددة، تهدف في أي مجتمع معاصر متحضر، أن تقدم لأعضائها في المجتمع الذي يتواجدون فيه، خدمات ثقافية وتعليمية في شكل برامج منظمة تستهدف –بالإضافة إلى الترفيه الاجتماعي إيجابي- تقديم خدمات تثقيفية وتعليمية. وهنا أود أن أشير بكل التقدير إلى الدور الإيجابي الذي يمكن أن يقوم به منتدى "واتا" الذي أشرف بالاشتراك فيه، وأنظر إليه كمنتدى ثقافي/تثقيفي، وتعليمي/تعلمي، بكل ما تعنيه الكلمة، خاصة بعد أن يدرك القائمون عليه، والمشاركون فيه، أهمية وحيوية وخطورة الأدوار التي يقومون بها في عمليات التثقيف والتثاقف والتعليم والتعلم.5.
5. هناك مؤسسات للتدريب العام والمهني والإداري والتكنولوجي، تكاد توجد في كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع وإداراته. كثير منها قدم ويقدم خدمات مرموقة من قبيل المؤسسات التي تعمل حاليا لتعليم التكنولوجيات الرقمية. غير أن الأزمة الحقيقية هي في "تربيط ووصل" هذه المؤسسات بعضها بعضا. وذلك يقتضي تنظيما مؤسسيا جديدا يرعى عمليات التنسيق والترابط فيما بين خدمات هذه المؤسسات تكثيفا للاستفادة منها، وتحقيقا لعدالة توزيع الفرص التدريبية في هذا المجال.
6. هناك مؤسسات تابعة للجامعات والمعاهد العليا، تستهدف تقديم برامج للخدمة العامة، والتعليم الإضافي، والتعليم المفتوح، ينطبق عليها الملاحظة سابقة الذكر في الفقرة السابقة.
7. هناك أيضا مؤسسات تابعة للمؤسسات العسكرية والشرطة، قامت وتقوم بأدوار هامة في تعليم الملتحقين بها على حرف ومهن ومهارات جديدة، وأدوارها تمثل جهدا متميزا في تأهيل أعداد كبيرة من الملتحقين بها.
8. هناك أخيرا مؤسسات حرة وخاصة، تقدم خدمات تعليمية من قبيل معاهد الحاسب الآلي، وتعليم اللغات، وبعض المهارات من قبيل "الخياطة والتفصيل" وقيادة السيارات، والتدريب على بعض المهارات الإدارية والتنظيمية.
كل هذه المؤسسات تسهم –بقدر- في بناء مهارات الإنسان العربي، وثقافته، من خلال برامج عاجلة أو قصيرة، تستهدف –بشكل أو آخر، وبدرجة أو أخرى، تقديم خدمة تعليمية ما.
ولكن !!!
الجهود مبعثرة
ولا توجد رؤية مستقرة واضحة للسياسات العامة تجاه جهود تعليم الكبار
ولا توجد دراسات بحثية كافية حول الجهود التي تبذل في ميدان تعليم الكبار.
والمجال مفتوح للمبادرات التي تجري وتقدم دونما أية ضوابط تضبط التأثير على تعليم الكبار من مختلف الجهود الخاصة والطوعية
والجهود التي تبذل لا يوجد أي تنسيق وترابط فيما بينها
ولا توجد مظلات رسمية من الدول ترعى هذه الجهود وتدعمها.
ولا توجد مؤسسات ترعى تدريب الكوادر البشرية المتخصصة في تعليم الكبار، سواء من حيث التعليم والتدريب، أو الإدارة والتنظيم، أو التمويل.
ذلك موضوع جدير أن يلقى كل الاهتمام إذا كنا نروم حقا تطوير مجتمعاتنا.
نسأل الله التوفيق
محمد جمال نوير

أشرف دسوقي علي
16/05/2008, 12:22 PM
سيدي الفاضل , دعوتكم للتعليم المستمر أو تعليم الكبار , هي دعوة الرسل والعلماء والفلاسفة ,واتفق معكم تماما فيما تذهبون اليه , لكن لدي تساؤل محير , لماذا يكره الانسان العربي بشكل عام العلم والثقافة أو علي الاقل لماذا ليست هذه من أولوياته , وهل يجب أن يكون هناك مردودا ماديا لمحصلة القراءة والتعلم ,,, وهل ان الاوان لنزرع فكرة_ اقرا من أجلك أولا هنا والان دون انتظار لاي ثمن_؟!.مع تقديري وحبي

محمد جمال نوير
16/05/2008, 01:51 PM
الأخ الأستاذ أشرف دسوقي علي
سعدت بمداخلتك الكريمة، وأشكر لك كريم تعليقك ومداخلتك. وأرجو أن تسمح لي بأن أتحاور معك بصدق وأخوة.
فيما يتعلق بتساؤلك فهو تساؤل مشروع اتفق معك حوله إجمالا، وإن كان هناك بعض الاختلاف في الرأي بيننا حول التفاصيل. فلا يمكن القول بأن الإنسان العربي (بشكل عام) (يكره) العلم والثقافة. فالتعميم هنا غير دقيق. كما أن (الكراهية) أيضا ليست هي الحالة الانفعالية التي يمكن أن نصف بها هذا الموقف تجاه العلم والثقافة. ذلك لعدة أسباب أرجو أن أعرضها أمامك.
بداية، تَلَقي المعرفة يتأتى من خلال عدة قنوات وحواس، تاريخيا، تمثل مصدرها الأساس في ثقافتنا العربية في المصادر الشفهية أو المسموعة. وحتى وقت قريب كانت نسبة الأمية في بلادنا تتجاوز 70% من جملة الراشدين، غير أنهم كانوا شغوفين بمتابعة ما يجري حولهم من أحداث، وكان من يستطيع القراءة منهم يروي لمن لا يستطيع أخبار الصحف، حتى بدأ "الراديو الترانزستور" في الانتشار بسرعة البرق بين جموع الناس فكان معظم الراشدين لا يسيرون إلا وهو معهم يتابعون من خلاله أخبار العالم. وكانت معظم المقاهي والتجمعات البشرية تستمع بشغف شديد إلى "الحكواتي" وهو يقص عليهم قصة "المولد النبوي" أو أمجاد الزناتي خليفة وأبو زيد الهلالي. ويحفظون آيات من القرآن الكريم سماعاً، وكان لديهم شغف شديد بمعرفة الجديد في معظم المجالات. فثقافتنا في أساسها ثقافة سمعية، ولم تتغير كثيرا نظرا لعمقها التاريخي.
ثانيا: أظن أن الإنسان العربي لا "يكره" في قرارة نفسه العلم والثقافة، لكنها مسألة أولويات في إشباع الحاجات النفسية. فكما تعلم، وحسب تدرج هيكل الحاجات النفسية، يأتي أولا إشباع الحاجات الأساسية، ثم يأتي إشباع الحاجات الاجتماعية، وتتدرج الأمور حتى تصل في قمة التدرج إلى حاجات تحقيق الذات. وهنا تكون الحاجات الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة هي الأكثر إلحاحا من غيرها، خاصة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية تفرض قيودا على رغبات الفرد أو متطلباته. لذا أعتقد أن المسألة ليست انفعالات "كراهية" بقدر ما هي حالة قصور عن تحقيق الرغبات.
ثالثا: نتيجة عدة ظروف اجتماعية واقتصادية، ثمن الكتاب في بلادنا مرتفع للغاية. فإذا ما قارنت ثمن الكتاب بأثمان سلع أخرى ضرورية ستجد أنه يفوقها كثيرا. في الدول الغربية ثمن الكتاب ذي الغلاف الورقي يكاد يتعادل مع ثمن "ساندوتش مع زجاجة مشروب" بينما في بلادنا يكاد يتعادل مع أثمان ما تتناوله الأسرة من غذاء ليومين على الأقل.
رابعا: وقت الفراغ المتاح للإنسان العربي يواجه ضغوطا ومتطلبات كثيرة للوفاء بالحاجات الإنسانية الأساسية. كما أن هيكل المعايير الاجتماعية للتفضيل أصابها قدر كبير من الاختلال، وفرضت معايير الغرب نفسها بلا نقد واعٍ لها، وأصبحت قيم الاستهلاك الترفي هي القيم الغالبة، والمأساة أن تلك القيم أكثر انتشارا بين الناشئة. وهي قيم ليس الشغف بالعلم أو الثقافة من بين عناصرها الأساسية.
اتفق معك كلية حول ضرورة "زرع فكرة اقرأ من أجلك أولا". هي فكرة سامية، دعنا نبدأ في الترويج لها في مجتمع "واتا" ويمكن أن تنتشر من خلاله إلى كل مكان.
أخي العزيز، مرة ثانية أشكرك جزيل الشكر على مداخلتك، وأدعو الله لك بالتوفيق الدائم.
محمد جمال نوير

ابراهيم ابويه
16/05/2008, 02:47 PM
اشكر الاستاذ محمد جمال على هذه المداخلة القيمة.
هناك اسئلة محيرة تضع عملية تعليم الكبار، كما ذكرتم ،مشروعا قوميا يحتاج بالدرجة الاولى الى ارادة سياسية واضحة وتخطيط عقلاني فائق الدقة.
1)رغم ما تقوم به الدول العربية من مبادرات محتشمة في ميدان محو الاميات ،الا ترى ان الميزانيات المرصودة لهذا الغرض ما تزال دون مستوى المشروع المطروح؟
2)تعليم الكبار يعني تقليص نسبة الهدر بمفهومه العام ،فهل وضعت الحكومات العربية نموذجا معينا قادرا على رصد الاختلال وتجاوزه؟
3)هل عملية تأهيل المدرسة بكل مكوناتها كافية للقضاء على افة التعليم غير الفعال الذي لا ينتج غير البطالة وتكريس النمط السلبي للشخصية العربية ؟
4)ما نوع المناهج والبرامج التي بامكانها ان تحتضن مشروع التعليم للكبار؟هل هي ذات خصوصية عربية ام تستقي ادواتها من نماذج سابقة؟
5)ما رايك ،انت،في ازمة التعليم والتعلم في الوطن العربي ؟اهي ازمة حقيقية ام مفتعلة؟
تحيتي الخالصة على عرضك الصريح والواقعي.

محمد جمال نوير
16/05/2008, 05:44 PM
الأخ الأستاذ الجليل إبراهيم ابويه
أشكرك أخي الكريم على مودتك وتقديرك، وسعدت بملاحظاتك وأسئلتك القيمة، وهي أسئلة كثيرا ما تثار كلما أُثير موضوع تعليم الكبار، وبما يعني أهميتها. ويسعدني أن أستجيب لما تفضلت بذكره من أسئلة، وأن يستمر الحوار موصولا فيما بيننا ففيه إثراء للموضوع فضلا عن متابعتي لكثير من مداخلاتك على صفحات "واتا"، والتي أسعد بها
بداية، صدقت فيما تقول بأن الدول العربية تقوم بمبادرات "محتشمة" في ميدان محو الأمية، ذلك يرجع في الأساس إلى نظرة المسئولين إلى ميدان محو الأمية عامة، وتعليم الكبار خاصة، على أنها أنشطة تعليمية "من الدرجة الأدنى". ترتب على تلك النظرة عدة مشكلات ليس أولها ضعف الميزانيات المخصصة لأنشطة تعليم الكبار ومحو الأمية، وليس آخرها ضعف تأهيل ومستويات إعداد وتدريب الأطر العاملة بتلك الأنشطة. وفيما بين الطرفين عديد من المشاكل تتعلق بتهالك التنظيمات المعنية بتعليم الكبار، وفقر المواد التعليمية، والافتقار إلى الخطط والبرامج الكفؤة الفعالة. السبب الرئيس وراء ذلك يرجع إلى طبيعة نظرة تلك الدول إلى التعليم عامة، واعتباره مشروعا خدميا صلاته بالاستثمار البشري شبه معدومة. في المجتمعات التي تنظر إلى التعليم بوصفه مشروعا قوميا لبناء الأمة تُحشد كافة الطاقات وتجند كل السبل والوسائل اللازمة للتعليم عامة وتعليم الكبار خاصة. في العراق أيام مجده، وضعت خطة شاملة إلزامية لمحو الأمية وتعليم الكبار، شرفت في المشاركة فيها تخطيطا ومتابعة من موقع عملي كمستشار لليونسكو في ذلك الوقت. وتوافر لتحقيق تلك الخطة كل الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة، وأدار الحملة مجلس ينبثق من مجلس قيادة الثورة ويرعاه رئيس المجلس شخصيا. فاستطاعت عراق الثورة أن تحقق أعلى معدلات محو الأمية وتعليم الكبار خلال بضعة سنوات معدودة. نفس ذلك التوجه تحقق في عدة دول غير عربية، فاستطاعت أن تنجز الحملات الشاملة لمحو الأمية وتعليم الكبار في أقل فترة ممكنة.
ثانيا: حاليا لا توجد لدى الحكومات العربية نماذج مخططة لتقليص نسبة الأمية، إنما تدار الأمور بشكل روتيني –أو بالأحرى- بالقصور الذاتي، وبنفس منطق سائر الأمور. سبق في سبعينيات القرن العشرين أن تم وضع "استراتيجية شاملة لمحو الأمية وتعليم الكبار"، شرفت بإعدادها مع فريق من خبراء اليونسكو والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأقرها وزراء التعليم والتربية العرب في مؤتمر عقد في بغداد سنة 1975 على ما أتذكر، وتضمنت عدة خطط فرعية وبرامج ومشروعات قومية وقطرية لمحو الأمية وتعليم الكبار. غير أن الوهن الذي أصاب الوطن العربي أصاب كل شيء. فتداعت الاستراتيجية والخطط والبرامج، وأصبحت –رغم قيمتها العظمى- حبرا على ورق.
ثالثا: للأسف لا!!. لا تكفي عملية تأهيل المدرسة –بكل مكوناتها- للتخلص من آفة التعليم غير الفعال. ذلك أنه يجب أن تكون هناك رؤية واضحة، شاملة ومتكاملة، ينبني عليها استراتيجيات وخطط على أسس علمية وواقعية، يتشارك فيها الجميع من كل الفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية وعلماء الدراسات المستقبلية تشخص الواقع وتحلله، وتستشرف المستقبل، وتضع استراتيجياتها وخططها على أسس سليمة تغطي كل مراحل التعليم وأنواعه. ورغم أنه قد سبق إعداد بعض الجهود الناجحة في هذا الميدان، من قبيل الدراسة التي أجراها منتدى الفكر العربي في عَمان باسم "المسقبلات التربوية البديلة"، وكان لي شرف المعاونة في تنسيق تقريرها الختامي، واشتملت على ثلاثة سيناريوهات بديلة، هي: السيناريو المتفائل والسيناريو المعتدل، والسيناريو المتشائم. إلا أن أحداثا جرت في المنطقة العربية جاءت بسيناريو لم تتم دراسته أو توقعه هو السيناريو الكارثي. ورغم أن تلك الدراسة حشدت أعظم العقول العربية في كافة ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم، وحظت برعاية كريمة من سمو الأمير الحسن، ولي عهد الأردن حينئذ، وراعي منتدى الفكر العربي، وتوصلت في تقريرها الختامي الذي نوقش في مؤتمر عُقد في عَمان عاصمة الأردن عبر ثلاثة أيام، إلى نتائج وتوصيات غاية في الأهمية، إلا أنها توارت خجلا بعد تلك الأحداث التي جرت في بداية تسعينيات القرن المنصرم. ولا يمكن للمرء إلا أن يأسف على ما جرى أو يجري من أحداث تقضي على كل براعم الأمل في مستقبل كريم.
رابعا: أستأذنك في إرجاء التعليق على سؤالك الرابع إلى مداخلة قادمة، أقدم فيها تصورا لأنواع المناهج والبرامج التي يمكن أن يشتملها مشروع قومي لتعليم الكبار، وأعد بذلك. غير أنه ينبغي تقرير أن بناء أية مناهج أو برامج لمشروعات تعليم الكبار لابد أن تكون ذات خصوصية عربية.
خامسا: أعمل الآن على إعداد مداخلة لـ"واتا" حول نقد نظم التعليم العربية باستخدام مداخل النظم، أرجو أن أقدمها في بداية الأسبوع القادم إنشاء الله عز وجل.
أعود فأكرر شكري لكم وأرجو أن أكون قد أجبت على تساؤلاتك الكريمة.
نسأل الله التوفيق.
محمد جمال نوير

ابراهيم ابويه
16/05/2008, 09:10 PM
اشكرك اخي محمد جمال ،واخبرك اني كنت قد طلبت من الادارة ان توافق على انشاء (المنتدى البيداغوجي) ليكون محطة لتدارس مثل هذه القضايا الشائكة ،غير انها-اي الادارة -لم تلتفت اليه لاسباب تعرفها هي.
سنواصل مسلسل نقاشنا الحالي في وقت قريب ان شاء الله.
تحيتي الى جهودكم الكبيرة التي قمتم بها في مجال التربية والتعليم في الوطن العربي الكبير.
http://arabswata.org/forums/showthread.php?t=26427