محمد جمال نوير
15/05/2008, 11:14 PM
تعليم الكبار، مدخل لبناء الإنسان العربي
إن مجتمعاتنا وهي تنادي بإعادة بناء الإنسان العربي، سعيا وراء المشاركة في الحضارة العالمية، يأخذ منها الإنسان العربي –بكل تراثه العظيم- مكانه الطبيعي في مسيرة الحضارة العالمية، يبرز أمامها مدخلان:
الأول، هو تطوير نظام التعليم بأسره –من قاعدته إلى قمته. وكم يكلف هذا الكثير، كما أنه كم سيعطي الكثير أيضا.
إن هذا هو المدخل الطبيعي لأي مجتمع يسعى إلى أن يبني مستقبله على أسس تمكنه من أن يأخذ مكانه بين الحضارات المتقدمة المعاصرة التي ترتكز مقوماتها أساسا على التكامل بين الثقافة الإنسانية بمعناها الأدبي والفني والتراثي، والثقافة العلمية التطبيقية بمعناها المعاصر متمثلة في الأخذ بأساليب العلم والتكنولوجيا، متكاملة في النظرية والتطبيق.
ورغم أن هذا هو المدخل الطبيعي الأساسي، إلا أن عائده على المجتمع لا يتحقق إلا بعد جيل على الأقل –هو ذلك الجيل الذي يوجد حاليا في مؤسسات التعليم. وفي ظل شروط مصاحبة تستغرق وقتا وجهدا من قبيل تعديل مناهج التعليم وطرائق تدريسها –تعديلا جذريا، وتهيئة البيئة المناسبة للاستفادة من نتائج التطوير من مثال تدريب المعلمين والإدارة المدرسية، وإعادة تعليم الآباء كعناصر أساسية لزيادة الدافعية على التعلم بين الأبناء. لا شك في ضرورة أن يتم هذا المدخل الأساسي، ولا شك أيضا في ضرورته –على المدى المتوسط والبعيد، ذلك أنه الخطوة الضرورية والأساسية من أجل بناء الأجيال التالية التي سوف تدعم المكانة الحضارية لمجتمعنا العربي في موقعه الطبيعي الجغرافي والتاريخي والحضاري.
المدخل الثاني، مدخل يعمل فيه المجتمع بأسره، بكل مؤسساته وأفراده من أجل تأكيد أن يتحول المجتمع بأسره إلى أن يكون مجتمعا معلما متعلما حافزا على التعليم، ويتيح مواصلة التعليم في كل المجالات. يستهدف هذا المدخل توفير فرص تعليمية لكل أفراد المجتمع، سواء أكانوا ملتحقين بمدارس أم غير ملتحقين بها، نالوا قسطا من التعليم، أم لم يسبق لهم الحصول على أية تعليم. هذا المدخل هو إشاعة تعليم الكبار في المجتمع.
ماذا يستهدف هذا المخل، وكيف يتم تنظيمه؟
أولا، لا شك أننا نسلم جميعا بأن تطوير نظمنا التعليمية المدرسية مطلب ملح وعاجل. غير أن تطوير هذه النظم سيستغرق وقتا وجهدا ومالا، هي كلها من طبيعة بنية نظام التعليم المدرسي وشروطه المؤسسية الذاتية. ذلك كله لأن تطوير منظومة التعليم المدرسي يتطلب –بالضرورة وكشروط مسبق ومتآنية- تطوير العناصر الأساسية للمنظومة من هيئات تعليم وإدارة، ومناهج تعليم بكل متطلباتها (مناهج متقدمة، وطرائق تدريس تقوم على التعلم الذاتي وتشيع تعلم المهارات الأساسية، وكتب، ووسائل تعليم تكنولوجية متطورة، الخ)، وأبنية مدرسية وتجهيزات تعليمية، وقبل هذا كله فكر تربوي متقدم ومستنير يشيع في المؤسسة التعليمية من قمتها إلى أصغر العاملين بها. ذلك كله يستغرق جهدا ووقتا وأموالا وطاقات، لست أدري هل هي متاحة الآن، أم ينبغي إعادة تنظيم الأولويات القومية لإتاحتها على النحو المرجو والمأمول فيه.
ولعلنا نسلم أيضا بأن هذا الجيل الملتحق بالتعليم الابتدائي –على سبيل المثال- هو ذلك الجيل الذي سيمارس أفراده العمل المنتج في المجتمع العقد القادم، أي بعد فترة ما بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة. وهؤلاء سيقودون العمل الوطني بعد تلك الفترة بما يتراوح بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة أخرى. ومسئولية إعداد هذا الجيل لممارسة هذا العمل، وتلك القيادة، هي مسئولية نظم التعليم المدرسي بصيغه القائمة حاليا، أو المنظورة مستقبلا. أما مسئولية إعداد هذا الجيل لقيادة العمل الوطني –على كافة مستوياته- فهي مسئولية مؤسسات لتعليم الكبار في المستقبل.
ومع ذلك، فلنا أن نتساءل عن تلك المؤسسات التي هي مسئولة عن ترقية كفاءات ومهارات الأجيال القائمة بالعمل حاليا والآن، هل هي متاحة ومتوافرة بالقدر الملائم والمناسب لتهيئة مجتمعنا العربي من أجل ذلك الدور الحضاري الذي نطمح فيه؟
إن المسئولية الأساسية لتزويد هذا الجيل بكل مفاتيح وأبواب ووسائل المواجهة الحضارية المرتقبة، تقع على مؤسسات تعليم الكبار وبرامجه. ذلك التعليم الذي يوجه إلى غير المقيدين في المدارس حاليا. أولئك الذين يمارسون عملا –أو لا يمارسونه ويستعدون لممارسته- وذلك من أجل إعدادهم، أو إعادة تأهيلهم وإعدادهم لمواجهة مسئوليات العمل في المجتمع. ليس فقط مسئوليات العمل بمعناه المهني في وظائفه ومهنه الإنتاجية أو الخدمية، وإنما مسئوليات العمل بكل ما تتضمنه من معان سياسية واجتماعية وثقافية. مسئولية الإنتاج الكفء الجيد الجودة، والاستغلال الرشيد لأدوات الإنتاج ومواده الأولية أو الوسيطة، وقيم الثقافة الشخصية المناسبة للتحديث من قبيل العمل الفريقي والشفافية والمصداقية والأمانة وتقدير الوقت والالتزام به، وما إلى ذلك، وقيم الاستهلاك الرشيد الواعي، وقيم السلوك الاجتماعي الناضج الرشيد الذي يتفاعل به الناس مع بعضهم ومع مؤسساتهم الإنتاجية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والعائلية.
هذه الممارسات كلها ممارسات نكاد نتفق جميعا على أنها تتطلب تغييرا وترشيدا ونضجا وإعادة صياغة وفق ما تتطلبه سياسات ورؤى التحديث التي يرومها مجتمعنا في المستقبل.
وإن كان ما سبق أن درجنا عليه في ممارساتنا الحياتية اليومية لا يرضينا في واقعنا الحالي، فإن هذا –في حد ذاته- دليل على عدم رضائنا عنه في المستقبل –إذا ما استمرت تلك الممارسات على ما هي عليه في المستقبل.
والمدخل الأساسي –بل والوحيد- هو تعليم الكبار وفق رؤية جديدة له، تتبناها مجتمعاتنا العربية، وبما يحقق نقلة نوعية في رؤيتنا الحالية لتعليم الكبار، تحقق انتشاره في كل أنحاء المجتمع، وتأخذ شكلا تنظيميا رشيدا، تمارسه كل هيئات المجتمع ومؤسساته، مستهدفة تكوين دوافع وحوافز السلوكيات الجديدة المأمولة، والتدريب على متطلبات تلك السلوكيات التي نستهدفها في المستقبل في أطر التحديث وإعادة البناء الحضاري الشامل لمصر.
كيف يتحقق ذلك؟
خطوات متكاملة متعددة الاتجاه، لازمة من أجل أن يتحقق ذلك.
في البدء لابد من بذل كل الجهود القومية اللازمة من أجل التخلص من مشكلة الأمية بكل صورها. والالتزام القومي بالتخلص من مشكلة الأمية التزام يتطلب حشد كل الجهود الحقيقية من أجل الوفاء به. ولا مجال للتهاون أوالتقاعس في ذلك الهدف القومي. وتلك خطوة أساسية في أي منظومة كفؤة لتعليم الكبار، لأنها تحقق بداية أولى لسبل الاتصال المكتوب بين الإنسان والحاضر والمستقبل، الذي يعتمد أساسا على الكلمة المكتوبة والمقروءة. ولعله من تكرار القول ومعاده، الحديث عن مشكلة الأمية في وطننا العربي، وخططها ومشروعاتها، وجدواها، وكيفيتها. فهناك عدة مؤسسات حكومية وغير حكومية شغلت نفسها سنوات وسنوات من أجل هذه القضية، ومع ذلك ما زالت نسبة الأمية وأعداد المنخرطين فيها عالية بما لا يليق بأمة عقيدتها بدأت بالحث عل القراءة، فما زالت تلك النسبة تراوح نفسها ممثلة أقسى أنواع التخلف الحضاري كسبة عار في جبين الأمة العربية، التي عرفت الحرف والكلمة، وقدرت الكاتب والكتابة قبل معظم شعوب العالم. إن حل المشكلة رهن بقرار سياسي حاسم، يصطحب بإرادة شعبية واعية سياسية.
غير أنه ينبغي التأكيد على أن مجرد الوقوف عند محو الأمية أزمة، تخلق أزمات أخرى. فبرامج محو الأمية (بمعناها المجرد) لا تؤدي إلا إلى مزيد من الإحباطات الاجتماعية والفردية، حيث لا تزود المتعلمين بالاحتياجات الحيوية لهم، خاصة أنهم أميتهم ترجع إلى عوامل وأسباب اقتصادية واجتماعية. وهذا يتطلب أن تتصاحب، وتتعاقب، مجموعة من برامج تعليم الكبار مع برامج محو الأمية. ولقد دلت كثير من تجارب محو الأمية –على الأصعدة العالمية في الدول النامية- أن تعليم القراءة والكتابة مسألة عبثية- إذا لم تتصاحب بتعليم لمرحلة ما بعد الأمية. ليست الغاية من التعليم هي إعطاء شهادة بتعلم القراءة والكتابة، سرعان ما يعود صاحبها أميا إذا لم يتم تعزيز تعلمه بمهارات تالية.
وتلك هي دلالات ضرورة تبني شبكة من البرامج المنسقة لتعليم الكبار، تتصاحب مع بعضها وتتكامل جهودها. أما أن تقف جهود أجهزة محو الأمية "وتعليم الكبار" عند جهد محو الأمية، فلا طائل مرجو من تحقيق التحديث والتغير الاجتماعي الحضاري المرموق.
وبالنسبة لتلك البرامج التي يحسن أن تتضمنها الرؤية المرجوة لتعليم الكبار، فهناك عدة مجالات تتراوح في نوعيتها حسب مستوى التعليم والفئة الاجتماعية/مهنية/عمرية. تقوم على تقديمها عدة مؤسسات تمارس أدوارا تعليمية غير الأدوار التقليدية التي تقوم بها وزارة التعليم بمؤسساتها المدرسية التقليدية. من بين هذه المؤسسات –على سبيل المثال لا الحصر:
1. مؤسسات التثقيف العملي، على اختلاف مستوياتها ونوعية برامجها، مستهدفة تزويد العاملين بثقافة مهنية واجتماعية واقتصادية وثقافية تحديثية، ولها مؤسساتها التي ينظمها الاتحاد العام للعمال.
2. مؤسسات التثقيف الفلاحي، مستهدفة تزويد العاملين بالقطاع الزراعي بثقافة مهنية زراعية، من أجل إنتاج أفضل، أو تخزين وتصنيع زراعي أكفأ، وهذه أيضا لها مؤسساتها التي تنظمها هيئات الإرشاد الزراعي، إضافة إلى التنظيمات المحلية.
3. مؤسسات التثقيف العام والجماهيري، وهنا تتوافر عدة مؤسسات أتاحتها الدولة والمنظمات غير الحكومية، والخاصة. فالمكتبات العامة، والمتنقلة، وقصور الثقافة ومراكزها، والمسارح، وقنوات الإعلام المرئي والمسموع لها أدوارها التي ينبغي أن تكون مخططة وهادفة، وبما يحق ثقافة سياسة واجتماعية واقتصادية عامة، مطلوبة ولازمة من أجل التحديث.
4. هناك أندية متعددة، وروابط ثقافية ومهنية متعددة، تهدف في أي مجتمع معاصر متحضر، أن تقدم لأعضائها في المجتمع الذي يتواجدون فيه، خدمات ثقافية وتعليمية في شكل برامج منظمة تستهدف –بالإضافة إلى الترفيه الاجتماعي إيجابي- تقديم خدمات تثقيفية وتعليمية. وهنا أود أن أشير بكل التقدير إلى الدور الإيجابي الذي يمكن أن يقوم به منتدى "واتا" الذي أشرف بالاشتراك فيه، وأنظر إليه كمنتدى ثقافي/تثقيفي، وتعليمي/تعلمي، بكل ما تعنيه الكلمة، خاصة بعد أن يدرك القائمون عليه، والمشاركون فيه، أهمية وحيوية وخطورة الأدوار التي يقومون بها في عمليات التثقيف والتثاقف والتعليم والتعلم.5.
5. هناك مؤسسات للتدريب العام والمهني والإداري والتكنولوجي، تكاد توجد في كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع وإداراته. كثير منها قدم ويقدم خدمات مرموقة من قبيل المؤسسات التي تعمل حاليا لتعليم التكنولوجيات الرقمية. غير أن الأزمة الحقيقية هي في "تربيط ووصل" هذه المؤسسات بعضها بعضا. وذلك يقتضي تنظيما مؤسسيا جديدا يرعى عمليات التنسيق والترابط فيما بين خدمات هذه المؤسسات تكثيفا للاستفادة منها، وتحقيقا لعدالة توزيع الفرص التدريبية في هذا المجال.
6. هناك مؤسسات تابعة للجامعات والمعاهد العليا، تستهدف تقديم برامج للخدمة العامة، والتعليم الإضافي، والتعليم المفتوح، ينطبق عليها الملاحظة سابقة الذكر في الفقرة السابقة.
7. هناك أيضا مؤسسات تابعة للمؤسسات العسكرية والشرطة، قامت وتقوم بأدوار هامة في تعليم الملتحقين بها على حرف ومهن ومهارات جديدة، وأدوارها تمثل جهدا متميزا في تأهيل أعداد كبيرة من الملتحقين بها.
8. هناك أخيرا مؤسسات حرة وخاصة، تقدم خدمات تعليمية من قبيل معاهد الحاسب الآلي، وتعليم اللغات، وبعض المهارات من قبيل "الخياطة والتفصيل" وقيادة السيارات، والتدريب على بعض المهارات الإدارية والتنظيمية.
كل هذه المؤسسات تسهم –بقدر- في بناء مهارات الإنسان العربي، وثقافته، من خلال برامج عاجلة أو قصيرة، تستهدف –بشكل أو آخر، وبدرجة أو أخرى، تقديم خدمة تعليمية ما.
ولكن !!!
الجهود مبعثرة
ولا توجد رؤية مستقرة واضحة للسياسات العامة تجاه جهود تعليم الكبار
ولا توجد دراسات بحثية كافية حول الجهود التي تبذل في ميدان تعليم الكبار.
والمجال مفتوح للمبادرات التي تجري وتقدم دونما أية ضوابط تضبط التأثير على تعليم الكبار من مختلف الجهود الخاصة والطوعية
والجهود التي تبذل لا يوجد أي تنسيق وترابط فيما بينها
ولا توجد مظلات رسمية من الدول ترعى هذه الجهود وتدعمها.
ولا توجد مؤسسات ترعى تدريب الكوادر البشرية المتخصصة في تعليم الكبار، سواء من حيث التعليم والتدريب، أو الإدارة والتنظيم، أو التمويل.
ذلك موضوع جدير أن يلقى كل الاهتمام إذا كنا نروم حقا تطوير مجتمعاتنا.
نسأل الله التوفيق
محمد جمال نوير
إن مجتمعاتنا وهي تنادي بإعادة بناء الإنسان العربي، سعيا وراء المشاركة في الحضارة العالمية، يأخذ منها الإنسان العربي –بكل تراثه العظيم- مكانه الطبيعي في مسيرة الحضارة العالمية، يبرز أمامها مدخلان:
الأول، هو تطوير نظام التعليم بأسره –من قاعدته إلى قمته. وكم يكلف هذا الكثير، كما أنه كم سيعطي الكثير أيضا.
إن هذا هو المدخل الطبيعي لأي مجتمع يسعى إلى أن يبني مستقبله على أسس تمكنه من أن يأخذ مكانه بين الحضارات المتقدمة المعاصرة التي ترتكز مقوماتها أساسا على التكامل بين الثقافة الإنسانية بمعناها الأدبي والفني والتراثي، والثقافة العلمية التطبيقية بمعناها المعاصر متمثلة في الأخذ بأساليب العلم والتكنولوجيا، متكاملة في النظرية والتطبيق.
ورغم أن هذا هو المدخل الطبيعي الأساسي، إلا أن عائده على المجتمع لا يتحقق إلا بعد جيل على الأقل –هو ذلك الجيل الذي يوجد حاليا في مؤسسات التعليم. وفي ظل شروط مصاحبة تستغرق وقتا وجهدا من قبيل تعديل مناهج التعليم وطرائق تدريسها –تعديلا جذريا، وتهيئة البيئة المناسبة للاستفادة من نتائج التطوير من مثال تدريب المعلمين والإدارة المدرسية، وإعادة تعليم الآباء كعناصر أساسية لزيادة الدافعية على التعلم بين الأبناء. لا شك في ضرورة أن يتم هذا المدخل الأساسي، ولا شك أيضا في ضرورته –على المدى المتوسط والبعيد، ذلك أنه الخطوة الضرورية والأساسية من أجل بناء الأجيال التالية التي سوف تدعم المكانة الحضارية لمجتمعنا العربي في موقعه الطبيعي الجغرافي والتاريخي والحضاري.
المدخل الثاني، مدخل يعمل فيه المجتمع بأسره، بكل مؤسساته وأفراده من أجل تأكيد أن يتحول المجتمع بأسره إلى أن يكون مجتمعا معلما متعلما حافزا على التعليم، ويتيح مواصلة التعليم في كل المجالات. يستهدف هذا المدخل توفير فرص تعليمية لكل أفراد المجتمع، سواء أكانوا ملتحقين بمدارس أم غير ملتحقين بها، نالوا قسطا من التعليم، أم لم يسبق لهم الحصول على أية تعليم. هذا المدخل هو إشاعة تعليم الكبار في المجتمع.
ماذا يستهدف هذا المخل، وكيف يتم تنظيمه؟
أولا، لا شك أننا نسلم جميعا بأن تطوير نظمنا التعليمية المدرسية مطلب ملح وعاجل. غير أن تطوير هذه النظم سيستغرق وقتا وجهدا ومالا، هي كلها من طبيعة بنية نظام التعليم المدرسي وشروطه المؤسسية الذاتية. ذلك كله لأن تطوير منظومة التعليم المدرسي يتطلب –بالضرورة وكشروط مسبق ومتآنية- تطوير العناصر الأساسية للمنظومة من هيئات تعليم وإدارة، ومناهج تعليم بكل متطلباتها (مناهج متقدمة، وطرائق تدريس تقوم على التعلم الذاتي وتشيع تعلم المهارات الأساسية، وكتب، ووسائل تعليم تكنولوجية متطورة، الخ)، وأبنية مدرسية وتجهيزات تعليمية، وقبل هذا كله فكر تربوي متقدم ومستنير يشيع في المؤسسة التعليمية من قمتها إلى أصغر العاملين بها. ذلك كله يستغرق جهدا ووقتا وأموالا وطاقات، لست أدري هل هي متاحة الآن، أم ينبغي إعادة تنظيم الأولويات القومية لإتاحتها على النحو المرجو والمأمول فيه.
ولعلنا نسلم أيضا بأن هذا الجيل الملتحق بالتعليم الابتدائي –على سبيل المثال- هو ذلك الجيل الذي سيمارس أفراده العمل المنتج في المجتمع العقد القادم، أي بعد فترة ما بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة. وهؤلاء سيقودون العمل الوطني بعد تلك الفترة بما يتراوح بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة أخرى. ومسئولية إعداد هذا الجيل لممارسة هذا العمل، وتلك القيادة، هي مسئولية نظم التعليم المدرسي بصيغه القائمة حاليا، أو المنظورة مستقبلا. أما مسئولية إعداد هذا الجيل لقيادة العمل الوطني –على كافة مستوياته- فهي مسئولية مؤسسات لتعليم الكبار في المستقبل.
ومع ذلك، فلنا أن نتساءل عن تلك المؤسسات التي هي مسئولة عن ترقية كفاءات ومهارات الأجيال القائمة بالعمل حاليا والآن، هل هي متاحة ومتوافرة بالقدر الملائم والمناسب لتهيئة مجتمعنا العربي من أجل ذلك الدور الحضاري الذي نطمح فيه؟
إن المسئولية الأساسية لتزويد هذا الجيل بكل مفاتيح وأبواب ووسائل المواجهة الحضارية المرتقبة، تقع على مؤسسات تعليم الكبار وبرامجه. ذلك التعليم الذي يوجه إلى غير المقيدين في المدارس حاليا. أولئك الذين يمارسون عملا –أو لا يمارسونه ويستعدون لممارسته- وذلك من أجل إعدادهم، أو إعادة تأهيلهم وإعدادهم لمواجهة مسئوليات العمل في المجتمع. ليس فقط مسئوليات العمل بمعناه المهني في وظائفه ومهنه الإنتاجية أو الخدمية، وإنما مسئوليات العمل بكل ما تتضمنه من معان سياسية واجتماعية وثقافية. مسئولية الإنتاج الكفء الجيد الجودة، والاستغلال الرشيد لأدوات الإنتاج ومواده الأولية أو الوسيطة، وقيم الثقافة الشخصية المناسبة للتحديث من قبيل العمل الفريقي والشفافية والمصداقية والأمانة وتقدير الوقت والالتزام به، وما إلى ذلك، وقيم الاستهلاك الرشيد الواعي، وقيم السلوك الاجتماعي الناضج الرشيد الذي يتفاعل به الناس مع بعضهم ومع مؤسساتهم الإنتاجية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والعائلية.
هذه الممارسات كلها ممارسات نكاد نتفق جميعا على أنها تتطلب تغييرا وترشيدا ونضجا وإعادة صياغة وفق ما تتطلبه سياسات ورؤى التحديث التي يرومها مجتمعنا في المستقبل.
وإن كان ما سبق أن درجنا عليه في ممارساتنا الحياتية اليومية لا يرضينا في واقعنا الحالي، فإن هذا –في حد ذاته- دليل على عدم رضائنا عنه في المستقبل –إذا ما استمرت تلك الممارسات على ما هي عليه في المستقبل.
والمدخل الأساسي –بل والوحيد- هو تعليم الكبار وفق رؤية جديدة له، تتبناها مجتمعاتنا العربية، وبما يحقق نقلة نوعية في رؤيتنا الحالية لتعليم الكبار، تحقق انتشاره في كل أنحاء المجتمع، وتأخذ شكلا تنظيميا رشيدا، تمارسه كل هيئات المجتمع ومؤسساته، مستهدفة تكوين دوافع وحوافز السلوكيات الجديدة المأمولة، والتدريب على متطلبات تلك السلوكيات التي نستهدفها في المستقبل في أطر التحديث وإعادة البناء الحضاري الشامل لمصر.
كيف يتحقق ذلك؟
خطوات متكاملة متعددة الاتجاه، لازمة من أجل أن يتحقق ذلك.
في البدء لابد من بذل كل الجهود القومية اللازمة من أجل التخلص من مشكلة الأمية بكل صورها. والالتزام القومي بالتخلص من مشكلة الأمية التزام يتطلب حشد كل الجهود الحقيقية من أجل الوفاء به. ولا مجال للتهاون أوالتقاعس في ذلك الهدف القومي. وتلك خطوة أساسية في أي منظومة كفؤة لتعليم الكبار، لأنها تحقق بداية أولى لسبل الاتصال المكتوب بين الإنسان والحاضر والمستقبل، الذي يعتمد أساسا على الكلمة المكتوبة والمقروءة. ولعله من تكرار القول ومعاده، الحديث عن مشكلة الأمية في وطننا العربي، وخططها ومشروعاتها، وجدواها، وكيفيتها. فهناك عدة مؤسسات حكومية وغير حكومية شغلت نفسها سنوات وسنوات من أجل هذه القضية، ومع ذلك ما زالت نسبة الأمية وأعداد المنخرطين فيها عالية بما لا يليق بأمة عقيدتها بدأت بالحث عل القراءة، فما زالت تلك النسبة تراوح نفسها ممثلة أقسى أنواع التخلف الحضاري كسبة عار في جبين الأمة العربية، التي عرفت الحرف والكلمة، وقدرت الكاتب والكتابة قبل معظم شعوب العالم. إن حل المشكلة رهن بقرار سياسي حاسم، يصطحب بإرادة شعبية واعية سياسية.
غير أنه ينبغي التأكيد على أن مجرد الوقوف عند محو الأمية أزمة، تخلق أزمات أخرى. فبرامج محو الأمية (بمعناها المجرد) لا تؤدي إلا إلى مزيد من الإحباطات الاجتماعية والفردية، حيث لا تزود المتعلمين بالاحتياجات الحيوية لهم، خاصة أنهم أميتهم ترجع إلى عوامل وأسباب اقتصادية واجتماعية. وهذا يتطلب أن تتصاحب، وتتعاقب، مجموعة من برامج تعليم الكبار مع برامج محو الأمية. ولقد دلت كثير من تجارب محو الأمية –على الأصعدة العالمية في الدول النامية- أن تعليم القراءة والكتابة مسألة عبثية- إذا لم تتصاحب بتعليم لمرحلة ما بعد الأمية. ليست الغاية من التعليم هي إعطاء شهادة بتعلم القراءة والكتابة، سرعان ما يعود صاحبها أميا إذا لم يتم تعزيز تعلمه بمهارات تالية.
وتلك هي دلالات ضرورة تبني شبكة من البرامج المنسقة لتعليم الكبار، تتصاحب مع بعضها وتتكامل جهودها. أما أن تقف جهود أجهزة محو الأمية "وتعليم الكبار" عند جهد محو الأمية، فلا طائل مرجو من تحقيق التحديث والتغير الاجتماعي الحضاري المرموق.
وبالنسبة لتلك البرامج التي يحسن أن تتضمنها الرؤية المرجوة لتعليم الكبار، فهناك عدة مجالات تتراوح في نوعيتها حسب مستوى التعليم والفئة الاجتماعية/مهنية/عمرية. تقوم على تقديمها عدة مؤسسات تمارس أدوارا تعليمية غير الأدوار التقليدية التي تقوم بها وزارة التعليم بمؤسساتها المدرسية التقليدية. من بين هذه المؤسسات –على سبيل المثال لا الحصر:
1. مؤسسات التثقيف العملي، على اختلاف مستوياتها ونوعية برامجها، مستهدفة تزويد العاملين بثقافة مهنية واجتماعية واقتصادية وثقافية تحديثية، ولها مؤسساتها التي ينظمها الاتحاد العام للعمال.
2. مؤسسات التثقيف الفلاحي، مستهدفة تزويد العاملين بالقطاع الزراعي بثقافة مهنية زراعية، من أجل إنتاج أفضل، أو تخزين وتصنيع زراعي أكفأ، وهذه أيضا لها مؤسساتها التي تنظمها هيئات الإرشاد الزراعي، إضافة إلى التنظيمات المحلية.
3. مؤسسات التثقيف العام والجماهيري، وهنا تتوافر عدة مؤسسات أتاحتها الدولة والمنظمات غير الحكومية، والخاصة. فالمكتبات العامة، والمتنقلة، وقصور الثقافة ومراكزها، والمسارح، وقنوات الإعلام المرئي والمسموع لها أدوارها التي ينبغي أن تكون مخططة وهادفة، وبما يحق ثقافة سياسة واجتماعية واقتصادية عامة، مطلوبة ولازمة من أجل التحديث.
4. هناك أندية متعددة، وروابط ثقافية ومهنية متعددة، تهدف في أي مجتمع معاصر متحضر، أن تقدم لأعضائها في المجتمع الذي يتواجدون فيه، خدمات ثقافية وتعليمية في شكل برامج منظمة تستهدف –بالإضافة إلى الترفيه الاجتماعي إيجابي- تقديم خدمات تثقيفية وتعليمية. وهنا أود أن أشير بكل التقدير إلى الدور الإيجابي الذي يمكن أن يقوم به منتدى "واتا" الذي أشرف بالاشتراك فيه، وأنظر إليه كمنتدى ثقافي/تثقيفي، وتعليمي/تعلمي، بكل ما تعنيه الكلمة، خاصة بعد أن يدرك القائمون عليه، والمشاركون فيه، أهمية وحيوية وخطورة الأدوار التي يقومون بها في عمليات التثقيف والتثاقف والتعليم والتعلم.5.
5. هناك مؤسسات للتدريب العام والمهني والإداري والتكنولوجي، تكاد توجد في كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع وإداراته. كثير منها قدم ويقدم خدمات مرموقة من قبيل المؤسسات التي تعمل حاليا لتعليم التكنولوجيات الرقمية. غير أن الأزمة الحقيقية هي في "تربيط ووصل" هذه المؤسسات بعضها بعضا. وذلك يقتضي تنظيما مؤسسيا جديدا يرعى عمليات التنسيق والترابط فيما بين خدمات هذه المؤسسات تكثيفا للاستفادة منها، وتحقيقا لعدالة توزيع الفرص التدريبية في هذا المجال.
6. هناك مؤسسات تابعة للجامعات والمعاهد العليا، تستهدف تقديم برامج للخدمة العامة، والتعليم الإضافي، والتعليم المفتوح، ينطبق عليها الملاحظة سابقة الذكر في الفقرة السابقة.
7. هناك أيضا مؤسسات تابعة للمؤسسات العسكرية والشرطة، قامت وتقوم بأدوار هامة في تعليم الملتحقين بها على حرف ومهن ومهارات جديدة، وأدوارها تمثل جهدا متميزا في تأهيل أعداد كبيرة من الملتحقين بها.
8. هناك أخيرا مؤسسات حرة وخاصة، تقدم خدمات تعليمية من قبيل معاهد الحاسب الآلي، وتعليم اللغات، وبعض المهارات من قبيل "الخياطة والتفصيل" وقيادة السيارات، والتدريب على بعض المهارات الإدارية والتنظيمية.
كل هذه المؤسسات تسهم –بقدر- في بناء مهارات الإنسان العربي، وثقافته، من خلال برامج عاجلة أو قصيرة، تستهدف –بشكل أو آخر، وبدرجة أو أخرى، تقديم خدمة تعليمية ما.
ولكن !!!
الجهود مبعثرة
ولا توجد رؤية مستقرة واضحة للسياسات العامة تجاه جهود تعليم الكبار
ولا توجد دراسات بحثية كافية حول الجهود التي تبذل في ميدان تعليم الكبار.
والمجال مفتوح للمبادرات التي تجري وتقدم دونما أية ضوابط تضبط التأثير على تعليم الكبار من مختلف الجهود الخاصة والطوعية
والجهود التي تبذل لا يوجد أي تنسيق وترابط فيما بينها
ولا توجد مظلات رسمية من الدول ترعى هذه الجهود وتدعمها.
ولا توجد مؤسسات ترعى تدريب الكوادر البشرية المتخصصة في تعليم الكبار، سواء من حيث التعليم والتدريب، أو الإدارة والتنظيم، أو التمويل.
ذلك موضوع جدير أن يلقى كل الاهتمام إذا كنا نروم حقا تطوير مجتمعاتنا.
نسأل الله التوفيق
محمد جمال نوير