المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع الأديب الكبير وديع فلسطين



د. حسين علي محمد
06/12/2006, 11:30 PM
مع سفير الأدباء وديع فلسطين

في تكريم وديع فلسطين

بقلم: حسني سيد لبيب
ـــــــــ

عرفتُ الأستاذ وديع فلسطين في بدايات حياتي الأدبية، ضمن مَنْ عرفت من الأدباء. وكان الأستاذ وديع هو الأقرب إلى نفسي، لأسباب عديدة من أهمها صدق المقولة عنده، ونصاعة الفكرة، وحسّه اللغوي الذي لا يبارى. كما أن خلقه الرفيع وتواضعه الجم من العلامات البارزة في شخصيته، فزاد الإعجاب وارتفع رصيد حبي له.
واليوم، يسعدني أن المشاركة في حفل تكريمه، للمكانة الرفيعة التي استحوذها في نفسي، والمنزلة العالية التي ارتقاها في فؤادي. ما يقربني إليه أكثر ثقافته الواسعة ودأبه على مواصلة القراءة، حتى تخيلته إذا ما استسلم لنوم فإن كتابا ما يبقى على صدره. ولا يكتب في شيء لا يعرفه، أو يتزيد في قول لا يحب الخوض فيه. لذا نجده قارئا شغوفا بالكتب، علاوة على اتصالاته الواسعة عبر البريد بالكثيرين من أدباء الوطن العربي.
عرفتُ الأستاذ وديع أول ما عرفت من خلال مقالاته في مجلة "الأديب" اللبنانية. وأعجبتُ بأسلوبه الرصين وفكره المستنير، حتى صارت كتاباته أول ما أقرأه في هذه المجلة. وعرفتُ عنوانه من البريد الأدبي للمجلة، فراسلته، إعجابا وتقديرا، فإذا به يرد على رسالتي بسرعة غير معهودة. سطر فيها صفحات عن واقع الحياة الأدبية في مصر، فوقفت على جانب مهم من شخصيته. وكانت أحاديثه مستطردة مستفيضة، تخدم الفكرة وتعمقها.
في كل يوم أكتشف في الكاتب الكبير سمة رائعة من سمات الأديب المتميز المتفرد، كلما تعرفت عليه أكثر، اقتربت منه أكثر، حتى صار قريبا من نفسي وقلبي.
وقد كتبت عنه دراسة بعنوان "وديع فلسطين أديب الغربة الإيجابية"، نشرتها في مجلة "الإخاء" الإيرانية عام 1977(1) .
يقول عنه الشاعر محمود أبو الوفا (2) :
صفاتُـك لا يُحاكيهـا صفـاتُ ولكـن قد يحاكيها الربيـعُ
بوصفك يُزهر الأدب المصفَّـى وباسمك أينع الخُلُقُ الرفيعُ
فُتِن بالأدب وفنونه، ومن خلال عمله الصحفي بمجلة "المقتطف" وجريدة "المقطم" سوّد مئات المقالات الأدبية. لكن اشتغاله بالترجمة صرفه كثيرا عن الأدب، وإن ربطته به وشيجة وطيدة الصلة، فصار الأدب هوايته، والترجمة مهنته.
ساعدته دراسته للأدب والصحافة بالجامعة الأمريكية في التواصل مع الصحافة الأدبية، فظل حتى الآن مواكبا للحركة الأدبية في مصر والعالم العربي، متابعا للمتغيرات فيها. وتعد هذه المواكبة والمتابعة امتدادا لعمله السابق في الصحافة.
يعدُّ الأستاذ وديع مرجعا مهما لكل من يؤرخ للحركة الأدبية. له باع طويل في متابعة نشأة الروابط والجمعيات الأدبية، ومتابعة أنشطتها، وعلى الأخص رابطة الأدب الحديث. لذا فإن الرابطة بتاريخها الطويل في خدمة الأدب العربي، حين فكرت في تكريم روادها، رأت أن تبدأ اليوم بتكريم ابن من أبنائها البررة وعلم من أعلامها البارزين. تكريم الكاتب العظيم الأستاذ وديع فلسطين.
من أهم كتبه، كتاب "قضايا الفكر في الأدب المعاصر" (3) الصادر عام 1959م، وكتاب "مختارات من الشعر المعاصر وكلام في الشعر" ويقع في 400 صفحة. وله العديد من الكتب المترجمة من وإلى الإنجليزية، وكتب أخرى حققها أو راجعها.
في حوار أجري معه، تحدث في مرارة عن "الموضة" في الأدب، فقال (4) : "هناك جنوح إلى الأخذ بأساليب "الموضة" في الأدب، و"الموضة" معناها قيام مناسبة ما، فيتسابق على التأليف فيها الأدباء والشعراء، حتى إذا جاءت مناسبة أخرى سايروا "موضتها"، وهكذا دواليك. وهناك استخفاف بأهم عنصرين من عناصر الكتابة الأدبية، وأعني بها الأسلوب والفكرة، وما أكثر ما نقرأه، فإذا هو مسلوب من الأسلوب ومحروم من الفكرة". يصفه أحمد زكي أبو شادي بالجوهرة المتألقة في تاج الأدب العربي الحديث (5) .
تحية إجلال وإعظام للكاتب القدير وديع فلسطين. ولعل الرابطة في تكريمها له واحتفائها به اليوم تعطيه جزءا مما يستحق.

حسني سيد لبيب
ــــــــ
الهوامش :
1. حسني سيد لبيب: مقال "وديع فلسطين أديب الغربة الإيجابية" ـ مجلة "الإخاء" 12 مارس 1977 ص ص 40، 41، ومجلة "البيان" الكويتية ـ يونيو 1977
2. د. حسين علي محمد: سفير الأدباء وديع فلسطين ـ الشركة العربية للنشر والتوزيع ـ القاهرة 1998م ـ ص 17
3. كتب حسني سيد لبيب مقالا عن الكتاب بمجلة "الفيصل" السعودية ـ أكتوبر 1985 "محرم 1406هـ "
4. د. حسين علي محمد: سفير الأدباء وديع فلسطين ـ ص 45
5. المصدر السابق ـ ص 65

د. حسين علي محمد
06/12/2006, 11:33 PM
وداد

بقلم: وديع فلسطين(1)
.......................
مي سوريا(2)، بل «مي» الأقطار العربية، أبلغ من تحمل اليوم قلماً وقرطاساً، وأكثرهن أصالةً وأشرقها ديباجةً، وأوفرهن اطلاعاً، وأقلهن محاكتةً وتقليداً. وفية للأدب وللصحب، والوفاء يقتضيها أن تُنصف الأدب فتمنحه كل حقه، وتنصف الصحب فتقيم على وشائج الروح، وتُعطي كلا قدر ما يستأهل، فلا تُطفف كَيْلاً ولا تغبن في ميزان، وهي تعرف كيف تسمو على الذات فلا تدع سباق الحياة يبث فيها ضغينة أو موجدة، ولا تأذن للمباراة بين حاملات القلم أن تسلبها رشاد الحكم وسداد الرأي.
فوداد تعرف أن لها غُرماء وغريمات، ولكن ذلك لا يستبد بها ولا يمنعها من المُفاخرة بما حققته كل رائدة من رائدات الأدب، سواء طرقت بابه قحطانيا أو أتته من زاوية شكسبير، أو أطلّت على آفاقه من برج إيفل، فهي تُريد لأسرة الأدب النسوية أن تتسع وترحب، وأن تقبل عليها كثيرات وكثيرات مادمن قد ثقّفن أنفسهن تثقيفاً عالياً، ومادمن قد أنفقن أكثر سني الفتوة والشباب بين أكداس الكتب والمعاجم.
أذكر وداد مُصبحاً، وأذكرها مُمسياًً. أذكرها إذا خلوتُ إلى خزانة كتبي ففيها بضعة من مؤلفات وداد، وفيها بضعة أخرى قلّبتها أنامل وداد والتهمتْها عيْناها. أذكرها ذاهباً إلى مقر عملي وأذكرها آيباً عائداً؛ فالسيارة تحج على دارتها غير بعيدٍ من النيل، وتُعرج بين خضرة كانت مزهوة مونقة، فغدت اليوم عمائر حديثة تُناطح السحب. «فالروضة» اليوم لم تعد روضة للزرع والضرع، ولم تعد الحقول تتوسّط الديار، بل زحف العمران على أرض النماء، واختفت الساقية ومعها بهيمتها، وأصبح الحي غير الذي ألفناه، وقطّانه غير الذين عرفناهم، فيا له من بقعة مهجورة على كثرة ما احتشد فيها من سكان ونزلاء، وياله من قصر خلا من ربته.
ثلاثة أعوام طوال أمضتها وداد في القاهرة، فلم تعرف خمولاً ولا شكت بطالة. فالعقل يعمل ويعمل، والقلم يكتب ويكتب، والعينان تُطالعان وتُطالعان، والأمومة لها مقتضياتها، والزوجية لها أعباؤها، والدار لها مطالبها، والمجتمع له التزاماته. ولكن وداد كانت أنموذجاً فريداً في الإخلاص لهذه جميعاً؛ فقد أذاع لها الأثير أفانين من أحاديثها العذبة، ونشرت لها الصحف والدوريات فصولاً وأقاصيص إن دلّت على شيء فتدل على صدق المشاعر، وإخلاصٍ في البحث، وأصالةٍ في الرأي، وعصاميةٍ في البيان.
وكانت وداد تتلمّس سبل منتديات الأدب فتقصدها، وتتبيّن أين يجتمع رجال الفكر فتغزو قلاعهم بذهنها النيِّر وتفكيرها المنطقي السليم. وما الذاكرة بقادرة أن تنسى تلك الجلسات اللطاف التي كانت وداد تؤثرها، فجلسة للنقاش الحر العائلي مع الكاتب المفكر سلامة موسى، وجلسة في شرفة مطلة على بساتين مزهرة في دار الأديب العالم فؤاد صروف، وجلسة بين سيدات القاهرة في منتداهن الأثير، وجلسة في حدائق القبة مع الأديبة المطبوعة فلة فهمي بدوي، وجلسة في المنتدى الشرقي مع أعلام الصحافة والسياسة والفكر، وجلسة في الاتحاد العربي مع الشيخ الشاب خليل تابت بك.
هذه وغيرها محافل ارتادتها وداد فكانت مثالاً للسيدة الكاملة والأديبة العالمة والمفكرة المجددة المتجددة، والسفيرة التي تعرف أن للسفارة تكاليفها، ولها مستلزماتها، فلا تتهاون في شيء منها. فما سمعتُ كلمةً منها تنتقص من قدر أحد، ولا ذمّت ولا هجتْ أحداً، بل لعلها هي التي كانت هدفاً لشيء من هذا، لا لمنقصَةٍ فيها، بل لسقم في نفوس غيرها وعلّةٍ تأكلُ الصدور.
وفي كل وسط ارتادته وداد، لا تزال سيرتها معطرة مضمّخة بالطيب، يذكرها الأدباء بالخير، ويذكرها الشعراء بالمُباهاة، ويذكرها طلابها بالزهو والخيلاء .. ورحم الله خليل مطران بك فقد كان يعرف لوداد قدرها، وتا الله لقد ذكر اسمها أمامي غير مرة وهو يُعالج سكرات الحياة السابقة على سكرات الموت. فقد كان مطران نصيراً من نصراء المرأة الحرة لا المرأة المستعبدة، وكان يجد في وداد أملاً مُرجّى للبلاد العربية جميعاً لأنها جمعت إلى الموهبة اجتهاداً وأضافت إلى الذكاء المفطور ذكاء اصطنعته بالدرس العميق والبحث الممض، والسهر في طلب العلم.
وكان مطران يقول: إن وداد ليس لها بين النساء مثيل، وهو محق مصيب، لأن الذين عرفوا «وداد» عرفوا فيها التفرد المتميز، والعمق في التفكير والتدبير، والمُجاهرة بالرأي بكلام عفيف وفكاهة مستملحة.
ولو أرادت أن تصفع أعداء المرأة لأسعفتها ملَكتُها من اللغة والمنطق والحجة القوية، ولكنها تؤثر أن ترد عليهم رداً يُبدي من الرفق كثيراً، ولكنه ينطوي على غير قليل من السخرية اللاذعة والحجة الدّافعة والمنطق الغلاب.
ولو سئلت وداد عما ترجو وعما تطلب، لما قالت ككثير غيرها: أريد ثراءً عريضاً، أو جاهاً واسعاً، أو مقتنيات من الذهب وكرائم الحجارة. كلا، فليس لهذه جميعاً هوى وداد. وما شغفها إلا بالقراءة والكتابة، تريد أن تقرأ كل ما كتب قديماً وحديثاً، وتريد أن تسجل كل خاطرة تعن لها، لا تسجيلاً فيه العجلة والسرعة، بل تسجيلاً فيه الأناة والسداد. تُريد أن تُهذب أخلاق كل مشتغل بالأدب فلا تعود بينهم مُزاحمة غير مشروعة، بل يكون بينهم تعاون مشروع مرغوب فيه. تريد أن تكون المرأة عضواً عاملاً في المجتمع، ولكن ذلك لا يعني أن تنبذ المرأة صناعة الأمومة وتبعة إدارة البيت. تريد أن يختفي «أعداء الكتاب» ليبرز أصدقاؤه. تريد أن تُنصف المرأة من نفسها ومن الرجل كذلك. تريد للمرأة أن تكون متحدثة لبقة تعرف ما يُقال وما لا يُقال، ولا تريدها متكلمة أُطلق لسانها من عقاله ليهرف ويهذر.
إن وداد نعمة من نعم الله، ومنحة من منحه، تُهنَّأ عليها سورية، ويُغبط عليها آلها الأقربون والناءون. فما أصفى قلبها، وما أهدأ روحها، وما أجلّ خدماتها، وما أبرع قلمها، وما أخلص وفاءها. وهي من قبل ومن بعد معجزة لا يجود الزمان بكثيرات مثلها.
ــــــــــــــــــ
(1) وديع فلسطين: وداد، مجلة "الأديب"، أغسطس 1950، ص10 ، 11.
(2) بمناسبة ظهور كتاب «إنصاف المرأة» للسيدة وداد سكاكيني.

د. حسين علي محمد
06/12/2006, 11:52 PM
أربع نساء في مرآة وديع فلسطين

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
................................

أصدر الأستاذ وديع فلسطين (المولود في عام 1923م) مؤخراً كتابه «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره» في مجلدين مجموع صفحاتهما 720 صفحة، وقد صدر الكتاب عن دار القلم ـ في سورية ـ عام 1424هـ-2003م.
وكان الأستاذ وديع فلسطين قد نشر في العقدين الأخيرين بعض فصول هذا الكتاب في مجلة «الأديب» اللبنانية المحتجبة، ثم في صحيفة «الحياة» في لندن. والمؤلف يُشير إلى أن «ما ينعى على أبناء هذا الجيل افتقارهم إلى التواصل مع الأجيال السابقة، وهو ما اجتهدتُ في تدارُكه في هذه الأحاديث بحكم خضرمتي في الحياة الأدبية، وإن كنتُ بقيتُ على الدوام على هامشها».
وقد كتب عن (93) ثلاث وتسعين شخصية من الذين أسهموا في إرساء دعائم النهضة أو مُتابعة رسالتها، يكشف الكتاب عن مسيرة كل منها، وبعض هذه الشخصيات معروفة، مثل: طه حسين والعقاد والزيات وسلامة موسى وساطع الحصري وسيد قطب وزكي مبارك، وإسماعيل مظهر وبشر فارس وحبيب جاماتي وعادل زعيتر وعلي باكثير وعادل الغضبان ومصطفى الشهابي وعلي أدهم وكريم ثابت ومحمد علي الطاهر وعجاج نويهض وعدنان الخطيب وفارس نمر وفيليب حتي وزكي قنصل ونجيب العقيقي وفؤاد صروف.
وقد كتب في كتابه هذا عن أربع نساء من أعلام عصرنا، هن: مي، ووداد سكاكيني، وجميلة العلايلي، وروزا حداد.
وسنتوقف عند ما كتبه عن هؤلاء الأديبات.
وداد سكاكيني (1913-1991م)
يقول عنها المؤلف «في صدارة الصدارة من المشتغلات بالأدب في عصرنا الحديث السيدة وداد سكاكيني: اللبنانية المولد، السورية الجنسية، العربية العقيدة والاتجاه، الإنسانية النزعة، الحفيظة في جميع كتاباتها على مكارم الأخلاق ومفاخر المبادئ ومناقب الضاد وقيم الدين» (2/306).
ويرى فيها صفات الأديب الحق: «كانت مأخوذة في جميع آثارها القلمية بقاعدة الأسلوب والفكرة، فلا تترخَّص في أسلوبها، بل تُجاري فيه أعلام البلاغة كالجاحظ والكاتب وابن العميد، ولا تستهويها الفِكَر السطحية، وإنما تنشغل بجلائل الأفكار وأمهات القضايا، دون أن تُضحِّي في أسلوبها وفكرتها بالملامح الأنثوية الكريمة والأصيلة فيها» (2/306).
وقد أصدرت وداد سكاكيني عدداً من المؤلفات أشار لها الكاتب، فلها في القصة مجموعات قصصية، هي: « مرايا الناس» و« بين النيل والنخيل» و« الستار المرفوع» و« الحب المحرم» و« أروى بنت الخطوب» و« نفوس تتكلم» و« أقوى من السنين»، ولها كتب أخرى في النقد، والسيرة، والحديث عن شؤون المرأة.
ويُشير المؤلف إلى أنها خاضت معارك أدبية «بفروسية نادرة، وكان بعض هذه المعارك مع لدات لها من الكاتبات، وكان بعضها الآخر مع فحول من كبار الكتاب، ولم تكن تحدوها في تلك المعارك رغبة في المخالفة ابتغاء إثارة الغبار واجتذاب الأنظار، وإنما كان الصدق حاديها، والحق العلمي رائدها، والسمو الخلقي عاصمها من العثار» (2/308).
الآنسة مي (1886-1945م)
ولدت ماري زيادة (التي عرفت باسم «ميّ») في مدينة الناصرة بفلسطين العام 1886 ابنةً وحيدةً لأب من لبنان وأم سورية الأصل فلسطينية المولد. وقد تلقت في طفولتها دراستها الابتدائية في الناصرة, والثانوية في عينطورة بلبنان. وفي العام 1907, انتقلت ميّ مع أسرتها للإقامة في القاهرة. وهناك, عملت بتدريس اللغتين الفرنسية والإنكليزية, وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوقت ذاته, عكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها. وفيما بعد, تابعت ميّ دراسات في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة.
وفى القاهرة, خالطت ميّ الكتاب والصحفيين, وأخذ نجمها يتألق كاتبة مقال اجتماعي وأدبي ونقدي, وباحثة وخطيبة. وأسست ميّ ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء), جمعت فيها - لعشرين عامًا - صفوة من كتاب العصر وشعرائه, كان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد, مصطفى عبد الرازق, عباس العقاد, طه حسين, شبلي شميل, يعقوب صروف, أنطون الجميل, مصطفى صادق الرافعي, خليل مطران, إسماعيل صبري, وأحمد شوقي. وقد أحبّ أغلب هؤلاء الأعلام ميّ حبًّا روحيًّا ألهم بعضهم روائع من كتاباته.
وقد نشرت ميّ مقالات وأبحاثا في كبريات الصحف والمجلات المصرية, مثل: (المقطم), (الأهرام), (الزهور), (المحروسة), (الهلال), و(المقتطف). أما الكتب, فقد كان باكورة إنتاجها العام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية, ثم صدرت لها ثلاث روايات نقلتها إلى العربية من اللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية. وفيما بعد صدر لها: (باحثة البادية) (1920), (كلمات وإشارات) (1922), (المساواة) (1923), (ظلمات وأشعة) (1923), ( بين الجزر والمد ) ( 1924), و(الصحائف) (1924). وفى أعقاب رحيل والديها ووفاة جبران تعرضت ميّ زيادة لمحنة عام 1938, إذ حيكت ضدها مؤامرة دنيئة, وأوقعت إحدى المحاكم عليها الحجْر, وأودعت مصحة الأمراض العقلية ببيروت. وهبّ المفكر اللبناني أمين الريحاني وشخصيات عربية كبيرة إلى إنقاذها, ورفع الحجْر عنها. وعادت ميّ إلى مصر لتتوفّى بالقاهرة في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1945م.
ما أكثر ما كتب عن مي وأدبها وصالونها ومأساتها، ومن هذه الكتابات كتابان شهيران لوديع فلسطين، ومحمد عبد الغني حسن، وقد كتب عنها وديع فلسطين أربعاً وعشرين صفحة، ركّز فيها على أحاديثها، وصالونها، وأقوال الأعلام فيها.
ويشير الأستاذ وديع فلسطين إلى قصة آخر مقال نشرته بعنوان «تحية الأعياد»، بعد أن استدرجها أقرباؤها في لبنان، وأودعوها مستشفى العصفورية للأمراض العقلية.
ويشير المؤلف إلى أن القضايا والمناقشات التي كانت تدور في صالون مي الأدبي «لم تسجَّل، ولا اهتمّت صحف ذلك العهد بوصف ما كان يدور فيها. ولعل السبب في ذلك أن هذا الصالون لم تكن الغاية منه إعلامية دعائية، وإنما كان منتدى لمناقشة قضايا الأدب والفكر والعلم في جد حميم، ثم إن آلات التسجيل لم تكن معروفة في ذلك الوقت لتسجل ولو جلسة واحدة من جلسات هذا الصالون. فضاعت آثاره، ولم تبق إلا إشارات هنا وهنالك في مؤلفات الباحثين في سيرة مي » (2/242).
الشاعرة جميلة العلايلي (ـ 1991م)
لم يشر الأستاذ وديع إلى تاريخ مولدها أو تعليمها، وإنما أشار إلى بدايتها الأدبية عندما كانت دون العشرين من العمر وأرسلت قصيدة بعنوان «الساحر» إلى الدكتور أحمد زكي أبي شادي، فنشرها في عدد أبريل 1933م من مجلة أبولو.
وقد أصدرت ديوانين من الشعر، هما: «صدى أحلامي» و«نبضات شاعرة»، كما أصدرت عدداً من الروايات، منها: «هندية» و« الراهبة» و«إحسان» و«تآلف الأرواح» و«الراعية» و«الناسك» و«جاسوسة صهيون» و«من أجل الله» و« بين أبويْن».
وأصدرت مع زوجها سيد ندا مجلة أدبية بعنوان «الأهداف» عام 1949م، وقد استمر صدورها شهريا نحو عشرين عاماً.
وقد «قضت سني حياتها المتأخرة مسمَّرة على مقعد متحرك بسبب كسور أصابتها نتيجة لسقوطها في بيتها، كما تحالفت عليها أمراض الشيخوخة وآلام الروماتيزم الحادة، فاحتملتها في صبر المؤمنات الراضيات، وبقيت مع ذلك، وإلى آخر لحظة في عمرها، تكتب لتؤدي رسالتها حتى التمام، فجهّزت ديوانها الثالث ... وهو مازال مخطوطاً ... وسجّلت سيرة حياتها وذكرياتها في كتابين مخطوطين، أحدهما مهيأ للنشر، أما الثاني ففيه أحاديث وأمور شخصية ارتأت ألا تتداول إلا في نطاق الأسرة، هذا عدا عشرات من الرسائل التي كانت تتبادلها مع أدباء العالم العربي» (1/148).
روز أنطون حداد (1882-1947م)
ولدت روز أنطون حداد ـ وهي شقيقة الأديب والفيلسوف المعروف فرح أنطون ـ في طرابلس الشام 1882م، ونزحت في شبابها إلى الإسكندرية، وأصدرت مجلة «السيدات والبنات» عام 1908م، وعندما تزوجت نقولا الحداد اشتركت معه في إصدارها بعد تغيير الاسم إلى « السيدات والرجال » ، كما أن روز حداد شاركت شقيقها فرح أنطون في إصدار مجلة «الجامعة».
وقد أشار المؤلف إلى كتاب لايزال مخطوطاً لروزا أنطوان حداد أخت فرح أنطون عن «مقام المرأة الاجتماعي في التاريخ» (والنسخة الوحيدة منه في مكتبة وديع فلسطين).
وكان في تراجمه للثلاث الأخريات إلى كتب لهن لا تزال مخطوطة، مثل كتاب جميلة العلايلي عن «زكي طليمات ورسائله الأدبية»، وديوانها «بدون عنوان»، وكتاب وداد سكاكيني «مصر كما عرفتها».
***
وأخيراً فمن الواجب إزجاء تحية وتقدير إلى الأستاذ وديع فلسطين الذي أتاح لنا فرصة التعرف على هؤلاء الكاتبات معرفةً عن كثب، وهن: وداد سكاكيني، وجميلة العلايلي، وروزا فرح أنطون، ومي.
فقد قدّم لنا رؤاه التي ترفدها معرفة شخصية، لن نجدها عند غيره من مؤرخي الأدب، يقول مثلاً عن روز أنطون حداد: «السيدة الجليلة روز أنطون حداد ... قد خصَّتني بفيض من أمومتها وعطفها. وتواترت لقاءاتي معها في نادي سيدات القاهرة، حيثُ كانت من البارزات في عضويته، وهو بدوره ناد ما انفكّ ـ إلى يومنا هذا ـ يضم نخبة من كرائم السيدات من مصريات وأجنبيات وله بدوره نشاطه الاجتماعي والثقافي العريض» (2/293).
ويقول عن جميلة العلايلي: «لم تكن لجميلة العلايلي وظيفة، ولا خرجت إلى الحياة تبحث عن عمل، بل إنها لم تكن تُغادر البيت إلا قليلاً، إذ كان دورها إلى جانب رعاية ابنها جلال ... أن تشرف على تحرير مجلة «الأهداف» ... في حين انصرف زوجها إلى الشؤون الإدارية المتمثلة في طبع المجلة، وتحصيل بدل الاشتراكات، وجلب الإعلانات، ومتابعة نشاط التوزيع، وما إلى ذلك من شؤون. فلما أدركته الوفاة فجأة في السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1963م، انتقلت جميع هموم الإدارة إلى جميلة، حتى ناءت بها لتضاربها مع طبيعتها، ولانعدام خبرتها بالمُعاملات الإدارية وإمساك الدفاتر الحسابية» (1/152).
ويقول عن وداد سكاكيني: «ولئن عرفت وداد سكاكيني في الخافقيْن العربيين باشتغالها بالأدب، فلم يكن ذلك منها احترافاً يؤودها بباهظ الثمن. بل كان هواية تتخلل حياتها الدّارجة كزوجة وأم وربة بيت ... كانت تُصيخ دائماً إلى هاتف القلم كلما ناداها ... وقد تتركُهُ إلى حين لتفرغ إلى إعداد طعام الأسرة، أو تفرغ إلى طفل مريض لا يجد لحنان الأم بديلاً» (2/307).
أما الآنسة مي، التي لم يقدر له أن يعرفها معرفة شخصية، فقد عرّفها لنا من خلال أقوال طه حسين، والعقاد، والمازني، والشيخ مصطفى عبد الرازق، ومحمد لطفي جمعة، والشيخ محمود أبي رية، ومحمد عبد الغني حسن ... وغيرهم.
فقد أشار لمسألة عدم زواج ميّ، مستنداًً إلى قول محمد لطفي جمعة (1886-1953م) في مذكراته أنها أسرّت إليه بقولها: «لا تنس تأثير البيئة والتربية التي تنشأ فيها المرأة أو الفتاة منا، فقد دخلتُ وأنا طفلة في الخامسة أو السادسة من عمري مدرسة الرّاهبات اليوسفيات، ثم انتقلت إلى مدرسة الراهبات العذراوات في بيروت، وشدّتني حياة الراهبات فيهاتين المدرستين وفي الأديرة التي زرتها في فلسطين وعينطورا في لبنان. لذلك تجدني ـ وأنا وحيدة أبوي ـ وقد أوشكتُ على بلوغ الثلاثين، عازفة عن الزواج، معرضة عمّن تقدّم إلى خطبتي، وقد تقدَّم كثيرون». ويقول لطفي جمعة «إنه تغلغل مع الآنسة في نفسها، فلم تُخف عني أدق أسرارها، والخلاصة أنها تعتبر الفعل الجنسي قذارة مادية، وهي شديدة الحساسية للجمال» (2/240).

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:00 AM
ليتني كنتُ لقيطاً

بقلم: وديع فلسطين
......................
«لويس فلسطين» مدرس مصري يعمل في وزارة المعارف المصرية، وقد اختارته هذه الوزارة نفسها للسفر على نفقتها الخاصة إلى أسبانيا في بعثة دراسية في معهد فاروق الأول. وهو مصري قبطي صعيدي، وأبوه مصري قبطي صعيدي،وجده مصري قبطي صعيدي، وأسرتُه كلها مصرية أباً عن جد، ونسباً بعد نسب، ولم يسبق له أو لأحد من أسرته أن غادر مصر، لا مُهاجراً ولا سائحاً ولا مُتنزهاً حتى يُمكن أن يُشك في اختلاط الدم أو النسب أو الأصل.
وأرسلت وزارة المعارف المصرية خطاباً إلى وزارة الداخلية تطلب فيه منح جواز سفر مصري لهذا الشاب المصري ليُسافر في البعثة المصرية التي ستعود بالنفع ـ آخر الأمر ـ على مصر. فطلب موظفو إدارة جوازات السفر شهادة ميلاد الشاب، فقدمها لهم، ولكنها لم تكف لإثبات مصريته.
فطلبوا منه شهادة القٌرعة فقدّمها لهم، ولكنها لم تكف.
ثم طلبوا شهادة قرعة والده فقدّمها لهم، ولكنها لم تكف.
ثم طلبوا شهادة من الكنيسة التي يتبعا فقدّمها لهم، ولكنها لم تكف.
ثم طلبوا شهادة ميلاد أبيه، أبيه المولود من خمسة وسبعين عاما، والمتوفى منذ خمسة وعشرين عاماً، وذلك لأن حضرات الموظفين الأكفاء الأذكياء يريدون الاطمئنان إلى أن جد هذا الشاب كان مصريا.
وأنا أتحدّى حضرة مدير عام إدارة جوازات السفر أن يُبرز لنا شهادة ميلاد والده لنعرف منها هل كان جده مصريا أو غير مصري!
إن تصرفات إدارة جوازات السفر سخف لا مثيل لـه في العالم، سخف تضحك منه العقول البصيرة.
ولو كان «لويس فلسطين» لقيطاً وُجِد على قارعة الطريق، لما وجد من يطعن في جنسيته من موظفي وزارة الداخلية لأن القانون يعتبر كل لقيط مصريا قحا، ولو كان أجنبيا ابن أجنبي، أما الأشراف أبناء الأشراف، والمصريون أبناء المصريين، والقبط الفراعنة أحفاد القبط الفراعنة فإن حضرات موظفي وزارة الداخلية يطعنون في جنسيتهم، ويدّعون من الذكاء والحذق ما يجعل جميع أعمالهم حماقة خرقاء.
أما وقد أعيانا محادثة حضرات الموظفين في إدارة الجوازات كباراً وصغاراً، فليس أمامنا إلا أن نعرض شكوانا هذه على معالي فؤاد سراج الدين باشا ليتفضل فيأمر باستخراج جواز السفر، حتى يكون هذا الشاب في مدريد قبل بدء الدراسة بأيام.
ــــــــــــــ
المصدر: وديع فلسطين: إلى معالي وزير الداخلية: ليتني كنتُ لقيطاً، فجنسية اللقيط المصرية لا يُطعن فيها، ما رأي معالي فؤاد سراج الدين باشا؟، صحيفة «المقطم»، في 1/10/1951م.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:02 AM
انظر في منتديات مجلة الرسالة:
أربع مقالات لوديع فلسطين
عن بواكير روايات نجيب محفوظ
1) زقاق المدق
( 2 ) خان الخليلي
( 3 ) القاهرة الجديدة
( 4 ) رادوبيس
.................................
* الرابط: http://aresalah.com/vb/viewtopic.php?t=646&start=15

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:04 AM
روبرتا

بقلم: وديع فلسطين
......................

اثنتا عشرة سنة خلت منذ عرفت الفاتنة الأميركية "روبرتا"، ولكن وجهها ما صافح وجهي، وعينيها ما حيّتا عينيَّ، ولسانها ما خاطب لساني، ويدها ما لامست يدي، ولكنها مع ذلك صديقة أثيرة تركت في النفس عميق الأثر، وفعلت بجميل صحبتها فعلاً لا تمحوه الأيام، وستكون "روبرتا" ما حييتُ قطعةً من نفسي وبعضاً من وجداني؛ لأنها استهلّت صداقتها والحرب في إبانها، وواصلت حبل مودتها والحرب في عنفوانها، وانتهت فورات القتال ولكن صداقتها ما عرفت منتهى لأنها وُلِدت وثيقة، ونَمَتْ رغم الصروف، واطَّرَدت على كرِّ الأيام، وغَدت اليوم أنشودة من أناشيد الفؤاد، يُردِّدها صامتاً إذا شاء، ويُسمع الآخرين صدى نغماتها إذا شاء، ويُعطَّر بأريج سيرتها تجاويف الحياة.
رحم الله ذياك الصديق الذي أتاني يوماً يقول: أتُريد صديقةً بالمراسلة؟ قلت: أجل! فكل صداقة تُهذِّب النفس، وكلُّ معرفة تُغَذِّي العقل، وكُل فاتنة تُغري الأفئدة ولو من أبعاد مترامية.
قال: هاك عنوان "روبرتا"، فهي لمّا تخرج إلى معترك الحياة، وهي تدرس التجارة والاقتصاد في إحدى كليات "ايوا" وهي طامعة في مكاتبة صديق مصري يُحسِن مكاتبتها بلغتها.
قلت: وسأكتب لها اليوم.
وكتبت، وجاءني الرد يتهادى. ثم كتبت، وتلقّيْتُ أجوبة، وظللنا نؤثل المودّة بالمراسلة، ونتبادل الآراء بالكتب؛ فتحدثني عن بيت من طراز فريد تعيش فيه مع أهلها، وعن عادات ألفتها وألفها أبناء جلدتها، وعن هوايات تأخذ بمجامعها، وعن رحلات تقطع فيها بلادها شرقاً وغرباً، وعن طبيعة قلب لا تعرف الاستقرار، وعن معاهد تُبيح مجالسة الفتية والفتيات، وعن آفاق فكرية عرضت لها، وعن فلسفات في الحياة اشتبهت أمامها، وعن طارق يدقُّ باب قلبها، وهو طارق الحب.
حدَّثتني "روبرتا" أحاديث ما أعذبها، ولاتزال رسائلها تعمر خزائن كتبي. وناقشتني شؤوناً تباينت مناحيها، فتحدّثنا عن الحياة وأسرار الكون، وتحدَّثنا عن الحرب وكيف خاضها شقيقها في الميدان الباسفيكي، وتحدثنا عن الزواج وكيف يخلق بيوتاً سعيدة، وتحدَّثت هي عنْ عملها كثيراً؛ فآناً هي تعمل في واشنطن العاصمة موظفة في الحكومة، وآناً تأتيني رسائلها من هونولولو حيث عبرت المحيط لتعمل في مكتب من المكاتب الملحقة بالجيش، وآنا أتلقى بريدا من كاليفورنيا يحمل إليَّ نسمات الطبيعة السخية، فأين حلّت، كان أول ما تُفكِّر فيه هو أن تُرسل خطاباً إلى صديقها المصري ذي السحنة السمراء، وحيثما نزلت كان حديثها مع من تلقاهم عن ذلك الشاب الذي ارتبطت معه عبر محيطات وجبال وأودية وأنهر وهضاب.
وتبادلنا الدعوات؛ فهي تقول: لقد أتاني هاتف بالليل يُبشِّرني أنني سألقاك في أرض الدنيا الجديدة، فهيّا أقبل لتتحقق الرؤى.
وأرد على "روبرتا" قائلا: بل إن مصر مشوقة لفتاة مثلك لا تزال تعيش في دنيا رتيبة. ففي الشرق سحر لا تقوى الأقلام على وصفه، وفي النيل مرئيات لا مثيل لها، وفي الأهرام ـ غير بعيد من مسكننا ـ مجد مُخلَّد على الدهور، وفي السماء الصافية شبع وري، وفي الخضرة المرسلة بلا حد هيبة توحي بالتقديس، فأقبلي إلى أرض الفراعين، لتريْ شعباً يُجاهد، وتريْ نهضةً جمعت بين حضارة المشرق ومدنية المغرب. تعاليْ، فلن تكوني غريبةً في وادٍ للنيلِ خصيب.
وكلما دارت عجلة العام، وحل عيد الميلاد ذهبت "روبرتا" إلى مكتبة مجاورة، واشترت بطاقة ذات معان لترسلها إلى الصاحب في نصف الكرة الشرقي. وإذ أُقلِّب اليوم بطاقاتها أرى وراء الصور والرسوم مجالاً للتعليل والتفسير، فهذه صورة "دارة"( ) على مرتفع لا يُحيط بها سوى بستان كثير الكرم والفاكهة، والجو في الفضاء رائق موات، ألا ما أجمل هذه البقعة يُمضي فيها اثنان أيام عمرهما فتستحيل الحياة جنة على الأرض.
وهذه صورة مركبة أنيقة يجرُّها جوادان، ويركبها رفيقان. إنها تسير وتسير، والخيل تركض وتركض، وليس في الدنيا ما يُعكِّر على القلبين صفو ودادهما. ترى لمِ لا نكون نحن راكبيْن لهذه المركبة الهادرة؟
وهذه صورة قمر يسطع في كبد السماء، يُطل على واد منبسط مُزهر، وهناك في ركن قصي جلس اثنان مشغوليْن بعطف الطبيعة، مأخوذيْن بنشوةِ الحب، تُرى أيفْضُلنا هذان الإنسانان؟
وثمة صورة سفينة شراعية، فريدة على صفحة اليم الساجية، فلم لا يكون هذا القصر العائم فلكاً لقلبين تعارفا على البُعْد، وتصادقا عبر آلاف وآلاف من الفراسخ والعقد البحرية؟
فما كانت "روبرتا" تختار صورها اختياراً سريعاً عارضاً، بل كانت تتخيَّرها بعد جهد لتؤدِّي معنىً واحداً وإن تعدَّدت زواياه. وبين أضابيري أستطيع أن أُحصي اليوم اثنتي عشرة بطاقة تلقيتها في اثني عشر عاماً من "روبرتا" عشيرة القلم، وصديقة المراسلة، التي لم ترها عينا الرأس يل رأتها عيْنا القلب.
وإذا كانت للنفس أمنية ترجو أن تُحققها قبل أن تنطلق لرؤيا خالقها، فهي أن تحظى بلقاء "روبرتا"، لأنها عرفت كيف تسكب حياتها سكباً على صفحات الرسائل، وكيف تجعل النائين عنها يعرفون من أمرها ما قد يغيب عن أقرب المقربين إليها.
واليوم أين تكون الفاتنة الأمريكية "روبرتا"؟
إنها زوجة، وإنها أم.
زوجة سعيدة، أرجو لها أن تهنأ بزوجها كما جعلت غيرها يهنأ بصداقتها بضعة عشر عاماً.
وأم جليلة قد عرفت الحنان مع البعيد فكيف لا تعرفه مع القريب، بل فلذة الكبد وفلذة الروح؟
ورب سائل يسأل: ما هي فلسفتك في الحب؟
فأقول: أن يهنأ الذين أحبهم، سواء أكان لي أن أشاطرهم ذلك أم كان لغيري أن يحظى بتلك السعادة.
ـــــــــــــ
المصدر: مجلة "الأديب"، أبريل 1950، ص 16 ، 17.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:06 AM
سفير الأدباء: وديع فلسطين
في مقعده بين المتفرجين شاهد على أجيال الأدب

حاوره: أ. د. حسين علي محمد
...............................

تخرج وديع فلسطين في قسم الصحافة من الجامعة الأمريكية عام 1942م( )، وفور تخرجه عمل بجريدة "الأهرام"، وفي الفترة ما بين (أول مارس 1945-ديسمبر 1952م) عمل محررا في "المقطم" و"المقتطف"، فرئيساً للقسم الخارجي بالمقطم، فمحرره السياسي والدبلوماسي، وناقده الأدبي، ومعلقه الاقتصادي وممثله في المؤتمرات الصحفية حتى انتهى به الأمر إلى ممارسته لجميع اختصاصات رئيس التحرير دون أن يُكتب اسمه بهذه الصفة على "ترويسة" الجريدة.
ولقد نشر في "المقتطف" عشرات المقالات والدراسات (تأليفاً وترجمةً) كما كتب فصولاً في العلوم، والنقد الأدبي، والقصة، وكان القارئ يجد له في العدد الواحد أكثر من مادة منشورة.
ولقد أصدر حتى الآن تسعة عشر كتابا بين تأليف وترجمة، أشهرها كتابه "قضايا الفكر في الأدب المعاصر" 1959م، كما كتب مئات الفصول في دراسة الأدب ونقده أهمها:
1-حلقاته عن "الأدباء المهجريين" ، ونشرها في مجلات مختلفة مثل: "المقتطف"، و"الرسالة"، و"الثقافة"، و"الكاتب المصري"، و"الكتاب"، و"العالم العربي"، و"الأديب"، و"الآداب"، و"العلوم" ... وغيرها .
2-حلقاته عن "الأدب والأحذية" التي كتبها في مجلة "الأديب" بعد عودته من مهجره في ليبيا إلى الوطن عام 1970 .
3-حلقاته "أحاديث مستطردة" عن صلاته بأدباء العصر مثل: العقاد، وزكي المحاسني، وزكي مبارك، ومصطفى الشهابي، وميخائيل نعيمة ... وغيرهم، وهي دراسات يكتبها في أسلوب فريد قل أن تجد لها نظيراً بين مُعاصريه الآن.
وقد كتبت عن وديع فلسطين عشرات الدراسات والقصائد، لعل من أهمها دراسة الدكتور أحمد زكي أبو شادي التي نشرها في مجلة "الهُدى" التي تصدر في "نيويورك" ، في سلسلة أحاديث كـان يزمع أبو شادي كتابتها عن "الأدباء الأقباط" (وقد كتب منها ثلاث حلقات فحسب عن وديع فلسطين ، ومكرم عبيد باشا ، وسلامة موسى ... ثم عاجله الموت).
ويعد المفكر العربي الكبير عجاج نويهض في مقال نشرته "الأديب" البيروتية (مارس 1974) كتاب وديع فلسطين "قضايا الفكر في الأدب المعاصر" مع كتاب آخر لمحمد عبد الغني حسن من أهم الإنجازات الأدبية المُعاصرة في دراسة الأدب ونقدِه.
وهذه مواجهة أدبية معه:
*أين ترى نفسك في الحياة الأدبية ؟
ـ أرى نفسي في أقصى مقعد خلفي من مقاعد المتفرجين على مواكب الحياة الأدبية، وهو مكان آثرته لنفسي بعدما "توظف" الأدب، وصار الأديب يُعرف لا بإنتاجه بل بدرجته الوظيفية أو عضويته للجان والمجالس المختلفة. فإذا توافر الأديب على أداء رسالته في ترهُّب الناسكين كعلي أدهم، أو إذا أبت عليه كبرياؤه أن يُسخِّر شعره في الاسترضاء أو الاستعطاء كمحمود أبي الوفا، أو إذا ضاق بشموخ عقله القالبُ المصبوبُ كمحمود محمد شاكر، أو إذا ازورَّ عن القعود في "قهوة الفن" كمحمود البدوي، فبشرهم بالنسيان حاضراً، وإن كنت على يقين أن المستقبل لن ينساهم مهما استطالت أزمنة الجحود.
*وماذا رأيت من مقعدك بين المتفرجين؟
ـ رأيت ظواهر أغلبها لا أرتاح إليه، أذكر بعضها في تعميم لا تخصيص: فهناك نزعة احتكارية بادية معالمها في الجو الأدبي كلِّه. فخمسة أو ستة أو عشرة من الأدباء هم الذين آلت إليهم منابر الأدب جميعها؛ فهم في مجلس الفنون، وفي جمعية الأدباء، وفي نادي القصة، وفي اتحاد الكتاب، وفي مجلات الأدب، وفي أركان الإذاعة، وفي "استوديوهات التليفزيون"، وفي منتديات الأدب ومؤتمراته. وهناك إحجام عن التعريف بالكتب الجيدة القليلة الصادرة، و"إسهال" في التعريف بالكتب التي تشول في ميزان النقد. وهناك جنوح إلى الأخذ بأساليب "الموضة" في الأدب. و"الموضة" معناها قيام مناسبة ما، فيتسابق على التأليف فيها الأدباء والشعراء، حتى إذا جاءت مناسبة أخرى سايروا "موضتها"، وهكذا دواليك. وهناك استخفاف بأهم عنصرين من عناصر الكتابة الأدبية، وأعني بهما الأسلوب والفكرة. وما أكثر ما نقرأه، فإذا هو مسلوب من الأسلوب ومحروم من الفكرة.
ومن الظواهر التي لا تعجبني في الحياة الأدبية انعدام النقاش الحيوي بين الأدباء، سواء لتقصير من جانبهم، أو لتعسف من دوريات الأدب. فما أكثر ما نُطالعه مما يستحق الرد والنقاش، ولكن باب النقاش لا يكاد ينفتح، ويبقى الرأي منحصراً في جانب واحد لا غير.
ولكن أشد ما يفزعني وأنا لصيق مقعدي بين المتفرجين، هو أن أفذاذنا من المفكرين والأدباء إذ يُخلون مكـانهم لا يجدون من توافرت لهم الأهلية لاستخلافهم. فطه حسين والعقاد وسلامة موسى ومصطفى عبد الرازق وهيكل والمازني ومن إليهم قد مضوا عن دنيانا دون أن نستطيع بإنصافٍ أن نشير إلى خليفة لأي منهم. فمع انتشار أسباب العلم والثقافة كان ينبغي أن يكون هناك عشرات من أمثال العقاد وطه حسين يملأون علينا حياتنا الفكرية، ولكن الواقع الصارم يُؤكد لنا أن حياتنا الأدبية خلوٌ من "الخلفاء الأكفاء" لجيل العباقرة.
*إلى أي جيل تنتمي من حيث تكوينك الأدبي ؟
ـ ليس هينا عليَّ أن أُحدِّد الجيل الذي أنتمي إليه سواء بمطامح شبابي أو بواقع حاضري. ففي شبابي الأول فُتنت "بمدرسة المقتطف" التي خالطتُ أعلامها، وكنت على مودَّات أثيرة بأغلبهم؛ فالدكتور فؤاد صروف وخليل تابت والدكتور فارس نمر وخليل مطران ونقولا الحداد وإسماعيل مظهر وسلامة موسى والأمير مصطفى الشهابي كانوا جميعاً يبذلون لي صداقاتهم الملهمة وأستاذيتهم النيرة، فنشأت ولي من المطامح ما يشدني إلى هذا الجيل الرائد أملاً في أن أكون في غد شعاعاً من أشعتهم، وكنت إلى هذا الجيل مُنجذباً وإلى مناهجه وقيمه واتجاهاته مستجيبا. ولكن احتجاب "المقتطف" كواحدة من أتعس فواجع الأدب، ثم انتهاء جيل الرواد الكبار ، وتعاقب موت المجلات الأدبية والعلمية "كالرسالة" والثقافة" و"مجلة علم النفس" و"الكتاب" و"الكاتب المصري" و"الفصول"، كل هذا أشعرني بأنه ليس في حياتنا الفكرية موضع للأدب الجاد، فقد فشت السوقية، واستهتر الأدباء بالأساليب الرصينة، وجاءت بدعة الشعر الجديد بألفاظه المنكرة "كالغثيان"، و"السأم"، و"القرف"، وسيطر على الحياة الفكرية قوم إلى الجهالة أقرب، فماتتْ فيَّ مطامحي القديمة وإن بقيت على ولائي ووفائي "لمدرسة المقتطف"، أعُدُّ نفسي منها دون أن أكون لها امتداداً.
أما الجيل الذي أنتمي إليه بحكم عمري، فلعلي لا أجد بيني وبين أحد منهم مشابهة. وربما كنت أقرب عاطفيا ووجدانيا ومن حيث تذوق الأدب إلى جيل محمد عبد الغني حسن، ومحمد عبد المنعم خفاجي، وعلي أدهم، وحسن كامل الصيرفي، ومصطفى عبد اللطيف السحرتي، ومحمود أبو الوفا مني إلى منْ قُرناء لي من حيث السن، هذا مع مراعاة الفارق الكبير في المنزلة الأدبية بين أساتذتي أولاء وبيني.
وهكذا ترى أن مكاني ضائع بين الأجيال، وهي جميعاً تكاد تنكرني، ممَّا يجعلني أوثر الاستقلال على ادِّعاء الانتماء إلى هذا الجيل أو ذاك.
*ماذا تقصد "بالأحاديث المستطردة" التي تكتبها عن أعلام المفكرين الذين عرفتهم ؟
ـ ليس بخافٍ عليك أن التكتلات أو "الشلل" التي تهيّأت لها أسباب النشوء والترعرع في حياتنا قد نجحت في إخمال ذكر كثيرين من الأدباء الذين لا ينتمون إليها، وإنكار كل فضل لهم في الحياة الأدبية. وهذه الحقيقة نببهتني إلى ضرورة "إثبات وجودي"، أو بتعبير أرباب المعاشات، تقديم "شهادة وجود على قيد الحياة"، فاستصوبت أن أسوق أحاديث مستطردة عن كبار الأدباء مُتوخيا ـ في غير ما تفاخر أو ادعاء ـ أن أسرد طرفا مما كان لي معهم من مودات وُثقى، مؤكدا دائما ما تخلق به هؤلاء الكبار من أريحية أستاذية طوَّعت لهم أن يُفيضوا بعلمهم وأدبهم وتجاربهم على من هم بمقام التلاميذ مثلي. ولئن حسب البعض أنني استهدفت غرضاً أنانيا من سوق هذه الأحاديث، ولئن توهم بعض الفضلاء ـ كالصديق الأستاذ إميل توفيق ـ أنني ابتغـيت الإعراب عن وفاء التلميذ لأساتذته، فقد كان من أهم مقاصدي أن أُبيِّن للجيل الطالع كيف كان أعلام عصر مضى يحدبون على الناشئة ويشجعونهم ويتعهدونهم بالتوجيه والتزكية، وهذا هو ما اصطلحتُ على تسميته "بالأريحية الأستاذية".
فالعالم العظيم هو الذي يبذل أسباب العلم لمن يحملونه بعده. أما العالم الذي يقول: لا قبلي ولا بعدي، ويحتكر في صدره وفي ذاته ما استقام له من حظوظ العلم، فهو بتصرفه هذا يُنكر بديهة علمية هي أن العـلم تراث إنساني مبذول للناس جميعاً، ومن الخير الجزيل أن يصرف العالم الكبير بعض جهده في تربية تلاميذ يحملون من بعده المشاعل.
"فالأحاديث المُستطردة" ، وإن نسبتني بحق التلمذة إلى أعلام عصري ، فقد أتاحت لي أيضاً أن أُذكِّر التكتلات الأدبية ـ أو الشلل ـ بأن الحياة الأدبية أوسع من أن نحصرها في فئة قليلة لها وحدها حيثيات الأدب ووجـاهاته ، وليس لسواها إلا خمول الذكر.
وقد وهِم البعض أنني في هذه الأحاديث المستطردة أؤرِّخ للأدب المُعاصر، ومضوا يُؤاخذونني على إهمال تواريخ الميلاد وتواريخ الوفاة، وإغفالي الحقائق المتعلقة بالنشأة والدراسة، وعدم احتفالي بسرد قوائم مؤلفات أولئك الأعلام، وما إلى ذلك مما يدخل في باب السيرة. ولكنني في حقيقة أمري لم أنشد كتابة تاريخ للأدب، فهي مهمة واقعٌ عِبْؤها على عاتق رجال التاريخ الأدبي. وإنما كان مُبتغاي أن أروي ما ارتسم في ذهنـي وانطبع في قلبي من مُعاصَرة أولئك الأعلام لفرط قربي منهم واتصالي بهم. وطبيعي أن مسؤولية القلم التي أنا بها مؤمن، واعتبارات الأخلاق التي بـها أدين قد ألزمتني ألا أنشر إلا ما هو جائز في عُرف الحق والخُلق، وأما مالا ينفع الناس فلستُ موكَّلا بتسجيله ولا أتاني خبرُه.
* عملت في بداية حياتك العملية في "المقتطف" التي مازلت تحمل لها الوفاء والتقدير، فهل ترى أن "المُقتطف" كانتْ تُمثِّلُ مدرسة فكرية مُتميزة؟
-إن "المقتطف" يمثل جامعة لا مدرسة ، بمعنى أنه كان دائرة معارف حية يتناول كتابها موضوعات الاقتصاد والزراعة والطب والأدب والشعر ومشكلات الاجتماع والمؤتمرات العلمية، هذا عدا أبواب الكتب الجديدة وسير الأعلام، ومساجلات القراء، وأخبار الحركة الفكرية في البلدان العربية والعالم. ولعلك تدهش إذ تعلم أن "المقتطف" كان في يومهِ رائجاً في الريف بين المشتغلين بالزراعة، لأنه كان يقدم إلى القراء آخر التطورات في مُستحدثات الآلات الزراعية، ومكافحة الآفات، وتربية النحل والبهائم، وما إلى ذلك من الموضوعات. وطبَعِيٌّ إذن أن تتسع هذه الجامعة لكل شيء حتى للآثار وتاريخها، بل حتى لموضوعات تحضير الأرواح، والتراسل الذهني، ولمغامرات الرحالة وصيادي الوحوش في الأدغال.
ولما كان معظم كتاب "المقتطف" من أهل العلم والمتطوعين وكلهم لا يشتغلون وظائف تحريرية مأجورة في المجلة، فقد تفاوتت أساليبهم ومناهجهم واتجاهاتهم، ولكنها جميعاً تشترك في خصائص معينة هي الوضوح الكامل مهما كان الموضوع فيها شديد التعقيد، والحرص على اللغة العربية كأداة للتعبير حتى عن المصطلحات الأجنبية العلمية، ثم الحرية المطلقة في التعبير عن الآراء، باستثناء موضوعين كانت المجلة تتحاشاهما، هما الدين والسياسة.
وأعتقد أن هذه المجلة مازالت تحتفظ بجدية موضوعاتها إلى اليوم، وهي مرجع لا غنى عنه لأي دارس للحركة في البلاد العربية في القرن الأخير، وقد عمَّرتْ 77 عاماً.
*ما دور هذه المجلة في الحركة الفكرية في العالم العربي؟
ـ أنشئت مجلة " المقتطف" في بيروت عام 1876م، وانتقلت إلى مصر في عام 1884م، وظلت تصدر بصورة شهرية منتظمة إلى آخر عام 1952م، أي أنها عاشت سبعة وسبعين عاما، وكانت وقتها أطول المجلات العربية عمراً، وإن كانت "الهلال" واصلت السير حتى كادت أن تتم عامها المئة.
وكانت "المقتطف" طوال عمرها الممتد منبراً رصيناً للعلوم والمعارف جميعاً، كما شارك في تحريرها كبار العقول العربية في أكثر من ثلاثة أرباع قرن، عدا ما كانت تنشره من ترجمات عن المجلات العلمية المتخصصة لمسايرة التطورات في الميادين العلمية والصناعية والعمرانية.
أًحصِ وجوه الأمة العربية فلن تجد منهم أحداً تخلف عن المساهمة في تحرير "المقتطف"، مثل: أحمد شوقي، والشيخ محمد عبده، والشيخ جمال الدين الأفغاني، وخليل مطران، وشبلي شميل، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، والشيخ عبد القادر المغربي، والأمير مصطفى الشهابي، والفريق أمين باشا المعلوف، وعيسى اسكندر المعلوف، وأحمد زكي أبو شادي، والدكـتور فيليب حتي، ومصطفى صادق الرافعي، وشيخ العروبة أحمد زكي باشـا، وميخائيل نعيمة، وجميل صدقي الزهاوي، والأب أنستاس ماري الكرملي، وإيليا أبو ماضي، وعلي محمود طه، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، وسلامة موسى، ومي زيادة، والأمير شكيب أرسلان، والدكتور أمير بقطر، ولطفي السيد باشا … إلخ.
وقد أنشأ هذه المجلة أستاذان شابان يُدرِّسان العلوم في جامعة بيروت الأمريكية لينشرا فيها خُلاصة لما يطِّلعان عليه من بحوث علمية في المجلات الغربية المتخصصة. وحمل عددُها الأول الصادر في مايو 1876م عبارة "جريدة علمية صناعية" لمنشئيْها: يعقوب صرُّوف معلم الفلسفة الطبيعية والرياضيات وفارس نمر المعيد في المرصد ومعلم علم الهيئة واللاتيني في المدرسة الكلية السورية (وهو الاسم القديم لجامعة بيروت الأمريكية). ولكن المجلة لم تلبث أن اتسعت لبحوث أوسع نطاقا من مجرد "العلوم" و"الصناعة" ، ممَّا أزعج السلطات العثمانية الحاكمة ، فنقلا المجلة إلى القاهرة حيث وجدت ترحيباً من شريف باشا رئيس الوزراء، وأصدرا إلى جانب هذه المجلة الشهرية جريدة يومية اسمها "المقطم" في عام 1888م.
وقد اختص الدكتور يعقوب صروف بتحرير مجلة " المقتطف"، في حين توافر زميله الدكتور فارس نمر باشا على تحرير"المقطم". وتعاقب على تحرير "المقتطف" يعقوب صرُّوف، ثم ابن أخيه فؤاد صرُّوف، ثم الدكتور بشر فارس، وإسماعيل مظهر، ونقولا الحداد، وأخيرا سبيرو جسري الذي صحّح اسمه إلى سامي الجسري.
ولو قلب القارئ مجموعة "المقتطف" الصادرة في (77) عاماً، أو حتى فهرسها المنشور في ثلاثة مجلدات ضخام، لتبيّن أن هذه المجلة الباذخة تناولت جميع قضايا العصر من اقتصادية وأدبية وعلمية ومن نظريات سياسية وفلسفية ومذهبية، وأنها كانت سجلا عظيما لكل ما عمر به هذا العصر من مظاهر الإبداع الفكري والحضاري، وإليها يرجع الفضل في نشر أول معجم للفلك، وأول معجم للحيوان، ومعجم للنبات، وهي التي ترجمت نظرية أينشتين، ووصلت أدباء المهجر بأدباء الوطن المقيم. وكانت المجلة في كل تاريخها مجلةً علميةً رصينةً، تجتنب المهاترات وترحِّب بالمناقشات الجادة، وإن كانت آلت على نفسها ألاَّ تخـوض في المسائل الدينية والمسائل السياسية (باستثناء النظريات السياسية) لتنأى بنفسها عن ميادين الجدل العقيم .
وقد عاصرت السنوات العشر الأخيرة من عمر "المقتطف"، وكنتُ من محرريها ومديريها المسؤولين، وكانت لنا في مقرها ندوة أسبوعية عمرتْ بوجوه كريمة من رجال الأدب والعلوم والفلسفة. وفي اعتقادي أن احتجاب "المقتطف" خسـارة لا تُعوَّض، وأن الدور الذي أدَّتْه في الحياة الثقافية العربية يحتاج إلى دراسة جادة.
ومن أسف أن ندوة المجلات العربية التي أقامتها مجلة "العربي" بمناسبة احتفالها بانقضاء ربع قرن على إصدارها قد شهِدتْ أحكاماً متسرِّعة جائرة على مجلة "المقتطف"، ولم ينْبَرِ أحد للرد عليها إنصافاً للتاريخ الفكري لأمتنا العربية.
*ترجمت في أول حياتك الأدبية مسرحية "الأب" للأديب السويدي سترندبرج ، فلماذا لم تترجم مسرحيات أخرى وأنت صاحب أسلوب عذب ؟
- إنني بعد تخرجي من الجامعة عام 1942م لاحظت انعدام المكتبة المسرحية انعداماً كاملا في الأدب العربي، كما لاحظت أن كبار المثقفين يجهلون روائع المسرح الغربي، فقررت أن أسد هذه الثغرة بادئاً بمسرحية "الأب" التي ترجمتها في ثلاثة أيام عام 1942م، ولم يتسن نشرها إلا عام 1945م عندما اتصلت بلجنة النشر للجامعيين وأعضائها العاملين: عبد الحميد جودة السحار، ونجيب محفوظ، وعادل كامل، وعلي أحمد باكثير.
وثنيت بترجمة مسرحية "دعوى قذف" لإدورد وول، وحاولت نشرها في نفس السلسلة (سلسلة الجامعيين)، ولكن السحار ثبَّط همتي، وأفهمني أن المسرحيات للتمثيل لا للمُطالعة، وطويتها ضمن أوراقي إلى هذا اليوم، ولم أحاول بعثها في ثلاثين سنة كاملة، وكنت قطعت شوطاً في ترجمة مسرحية ثالثة عنوانها "الطريق المقفر" للمسرحي النمسوي آرثر شنتزلر، ولكنني نفضت منها اليدين زهداً في بضاعة لا سوق لها.
ومع أنه ظهرت بعد ذلك سلاسل جديدة للمسرحيات: واحدة أصدرتها وزارة الثقافة، وواحدة أصدرها عبد الحليم البشلاوي، وثالثة مازالت تصدر في الكويت، فلم أُحاولْ طرْقَ أي من هذه الأبواب.
*أنت صادقت معظم أدباء العالم العربي وراسلت الكثير منهم، فلماذا لا تنشر رسائل الراحلين منهم حتى تفيد تاريخ الأدب بنظراتهم وآرائهم، ولعلك اطلعت على ما نشره صديقكم "نقولا يوسف" من رسائل عبد الرحمن شكري في مجلة "الأدب"، فقد أفاد منها كثير من الباحثين.
-أخبرك أن لديَّ أطنانا من رسائل الأدباء تلقيتها منذ أكثر من ثلاثين سنة ولم يضع منها شيء. وصحيح أن نقولا يوسف نشر رسائل عبد الرحمن شكري في مجلة "الأدب"، كما أن الدكتور فؤاد صروف نشر رسائل شكري في مجلة "الأبحاث" البيروتية، ونشر أحمد محمد عيش رسائل الزهاوي، ونُشِرت كذلك رسائل الرافعي إلى الشيخ محمود أبي ريَّة، ورسائل مي وجبران، ومي ولطفي السيد، ورسائل أمين الريحاني، ورسائل الأمير شكيب أرسلان، ورسائل الحبيب بورقيبة إلى محمد علي الطاهر، ورسائل الأب الكرملي وأحمد تيمور باشا، ورسائل الشيخ محمد رشيد رضا ... وقد اطلعت على هذه الرسائل جميعاً، وأغلبها تحت يدي، ولكن لي رأيا أعلنته غير مرة، وهو أن رسائل الأدباء من الخصوصيات التي تُعرِّض أصحابها لأشد الحرج في حالة نشـرها كما أنها تسيء إساءات بالغة إلى كاتبيها، إذا كانو فيها صُرحاء، ولم يكتموا ما في صدورهم، ولذا أرفض رفضاً باتًّا نشر ما عندي من رسائل وقد جاءتني من أعلام معاصرين، ومن أعلام مفكري الأمة العربية، ومن جميع الطبقات، هذا مع العلم بأنني لو نشرت هذه الرسائل لدخلت تاريخ الأدب من أوسع أبوابه، لأن فيها من عبارات الثناء الموجهة إليَّ ما يجعلني كبيراً في نظر الناس. وحسبك أن تعرف أن من هذه الرسائل التي عندي ما جاءني من الأمير مصطفى الشهابي، وسلامة موسى، والعقاد، والشاعر القروي، وإسماعيل مظهر، وسيد قطـب، وأحمد أمين، وفارس نمر باشا، وخليل تابت باشا، ومحمد علي علوبة باشا، ومفتي فلسطين الأكبر الحاج محمد أمين الحسيني، ورئيس حكومة عموم فلسطين أحمد حلمي باشا، وصالح حرب باشا، والدكتور حافظ عفيفي باشا، وعادل زعيتر، وأكرم زعيتر، وقدري حافظ طوقان، وعلي أدهم، وأبو رية، ومحمود أبو الوفا، والشيخ علي عبد الرازق باشا، وعبد الرحمن الرافعي بك، وعبد القوي أحمـد باشا، وحسين فهمي بك، والدكتور فؤاد صروف، والدكتور قسطنطين زريق، ومحمد علي الطاهر، وبولس سلامة، ونزار قباني، وأمين نخلة، ومحمد جميل بيهم، ونظير زيتون، وإلياس فرحات، وجورج صيدح، وإلياس وزكي قنصل، وأبو شادي، والدكتور فيليب حتى، والمستشرق جرمانوس، والدكتور أمير بقطر، وطاهر الطناحي، وعادل الغضبان، وإبراهيم المصري، وما شئت من أسماء الأحياء من الأدباء في مصر، والبلاد العربية، والمهاجر، وديار الاستشراق.
*ما حال النقد العربي اليوم؟ وهل يقوم بوظيفته في نقد العمل الأدبي وفي مُخاطبة جمهور القراء المتعطشين إلى المعرفة؟
-حال النقد الأدبي لا يسر، سواء لأنه يكاد يختفي من حياتنا الأدبية بعد اختفاء أعلامه، مثل: طه حسين، والعقاد، ومحمد مندور، وسيد قطب، ومحمد عبد الغني حسن، ومصطفى عبد اللطيف السحرتي، أو لأن ما نُصادفه اليوم من نقد ـ على قلته ـ يكاد يندرج تحت تصنيفين عريضين، هما "النقد الأبوي" كما وصفه نجيب محفوظ، وفيه يحتفي الناقد بكتابات شابة من قبيل التشجيع والعطف، و"النقد التكنولوجي" ـ كما أوثر أن أصفه ـ وفيه يعمد الناقد إلى تطبيق معايير مُستعارة من خارج الأدب، كالمعايير الرياضية والهندسية والكمبيوترية على الآثار التي يتصدّى لنقدها، ومن هنا دخلت إلى ساحة النقد تعبيرات مثل "المعمار"، و"البناء"، و"التفكيك"، و"الزخم"، وما إليها. وهي تعبيرات ألصق بالهندسة والميكانيكا منها بالأدب.
ولا يختلف اثنان على أن وظيفة النقد تكاد تكون عالة على الأدب، بمعنى أن الناقد يصبح من المتعطّلين عن العمل ـ وفي بطالة دائمة ـ إذا انتفى الأدب من حياتنا، وهو افتراض جدليّ ليس إلا. وبعبارة أخرى: إن الناقد شبيه بطبيب الأطفال الذي لا يستطيع أن يشرع في تطبيق طبه إلا بعد أن يخرج الوليد إلى الحياة، وعندئذ فقط يُزاول طبيب الأطفال المهمة التي نذر نفسه لها وتخصّص فيها. وكما أن الطبيب يُعالج كل قصور يُشخِّصه في حالة الطفل، فإن مهمة الناقد أن يتناول العمل الأدبي بنفس القدر من نطاسية الطبيب من حيث تشخيص أوجه القصور فيه والتنبيه إلى سبيل تداركها، وإظهار ما في العمل الأدبي من خصائص يستقل بها، أو أنها منتحلة من عمل سواه. وفي يد الناقد دائماً ميزان ذو كفتين: كفة لتبيان المزايا التي يتحلّى بها العمل الأدبي، وكفة للتنبيه إلى أوجه النقص التي برتئيها في هذا العمل، وله بعد ذلك أن يخرج برأي جامع يضع العمل الأدبي في المرتبة التي يستحقها ارتفاعاً وانخفاضاَ. وهنا تُصبح وظيفة الناقد أشبه بوظيفة القاضي الذي يُوازن بين الدعاوى المنظورة أمامه، ثم يُصدر حكمه المتضمِّن رأيه الرجيح.
وإذا كان القاضي يسترشد في قضائه بمواد القانون التي لا يسعه أن يُخالفها، فإن الناقد يضع لنفسه قانونه الذي يُطبِّقه ويستهويه، سواء أكان هذا القانون مُستمدا من مذاهب النقد ـ عربية كانت أو غربية ـ أم من وحي اجتهاداته الخاصة. ولهذا فإن الأثر الأدبي الواحد قد يرجح في ميزان ناقد ويشول في ميزان ناقد آخر، لأن لكل من الناقدين أدواته واجتهاداته التي صدر عنها في إصدار أحكامه، ومادام الناقد بشراً فهو لا يخلو من هوى، والهوى هو أول مطعن يوجّه إلى الناقد.
ووظيفة الناقد تُحتِّم عليه أن يُخاطب الجمهور القارئ إلى جانب صاحب العمل الأدبي، الذي يهمه أن يعرف آراء النقاد في كتاباته، ولكن بعض النقاد عندنا ينسون حق الجمهور في متابعة نقدهم، لأنهم يستخدمون في نقدهم مصطلحات أعجمية دون محاولة لشرحها أو تبيان معناها، كما أنهم يُشيرون إلى أعمال أدبية أفرنجية دون أن يُحدِّدوا للقارئ ملامحها، ولعلهم يفترضون أن كل قارئ مُلم بآداب العالم شرقاً وغرباً. فمادام الناقد يريد أن يُوصِّل رسالته إلى الجمهور العريض في الصحيفة التي يكتب فيها، فلا بد له من أن يرعى حق القارئ في الفهم، وحقه في الإحاطة بالعمل الأدبي المنقود، وحقه في أن يخرج بعد ذلك برأيه الخاص، سواء أوافق رأي الناقد أم خالفه.
*هل يعني ذلك أن معظم النقد المكتوب اليوم لا يقوم بدوره في الحياة الأدبية بخاصة والثقافية عموماُ؟ وفي توجيه القارئ إلى الكتب الجيدة؟
-لكي تكتمل رسالة النقد لا بد أن يجتمع لها ثالوث يتمثل في المؤلف أو صاحب الكتاب المنقود، والناقد الذي يضطلع بتقييم الأثر المنقود، ثم القارئ الذي خوطب عن طريق الصحيفة أو المجلة بكلام الناقد. وكنت على مدى العمر أنتقي ما يهمني من الكتب الجيدة استناداً إلى آراء النقاد المنشورة، ولا سيما النقاد الذين أورثوني ثقةً في كتاباتهم، وبت أرتضي شهادتهم قبل أن أدفع ثمن الكتاب، ولكنني كففت عن الاحتكام إلى آراء نقّاد هذا الجيل في الكتب الجديدة الصادرة، بعد ما خابت ظنوني في موازينهم النقدية.
ففي ما يتعلّق بمدارس الشعر الجديدة التي خرجت على قواعد الخليل وثارت عليه، والتي وجدت نُقّاداً يتحمسون لها من الدكاترة وغير الدكاترة، فقد حفزتني الرغبة في متابعة هذه المدارس الجديدة ـ أو قل هو الفضول الذي دفعني إلى ذلك ـ في قراءة كم ضخم من الآثار التي جاء بها المحدثون، سواء في مجلة "شعر" اللبنانية التي طالعت كل ما نُشِر في عمرها، أو في الدواوين الصادرة، وألفيتني ـ بتحكيم ذوقي الخاص ـ أستشعر التعرض لعملية خداع ضخمة من جانب النقاد الدكاترة وغير الدكاترة، الذين حاولوا تزيين القبيح وتجميل "الكلام الفارغ" من أمثال: "وشربتُ شاياً في الطريق، ورتقتُ نعلي"! و"أُضاجع سريري كل يوم، أضاجعه فلا يحبل"! إلى آخر هذا "الكلام الفارغ" الذي احتفى به ـ وما انفك يحتفي به ـ دكاترة النقد وصبيانهم!
والناقد الذي يحترم رأي القارئ وذوقه يستحيل عليه أن يُطري مثل هذا "الكلام الفارغ" سواء باسم الإبداع، أو بأي اسم آخر يخترعونه من معاجم مصطلحاتهم الغامضة.
*قدّمت لنا مثالاً للشعر الذي تعدُّه "كلاماً فارغاً" ومع ذلك احتفى به النقاد، فهل تُقدِّم لنا مثالاً من النقد المعاصر الذي لا يُعجبك حتى يكون القارئ على بينة؟
-من قبيل التمثيل أورد فقرة من مقال نقدي نُشر في مجلة "فصول" المصرية (عدد يناير 1992)، وقد جاء فيه: "وشواغل اللغة يجب أن تكون في منطقة وسطى بين التجريد والتجسيد، بمعنى أن تبتعد قدر إمكانها عن مفردات الوقائع الجزئية، وأن تتحاشى ـ إلى حدٍّ ما ـ الهموم اليومية النمطية، وإن كان هذا لا ينفي إمكان تسرُّب بعض هذه المُفردات إلى الشخوص أو الأحداث في أوقات بعينها تقتضيها الطبيعة الدرامية (وهذا يعني وجود الوعي بها حتى مع غيابها) بل من المسموح به أن تتحول اللغة ـ في مواجهة مثل ذلك ـ إلى كائن صامت يرمز للغائب، ويستحضره بالصمت، أكثر مما يستحضره بالكلام"!
وأقر ـ بادئ ذي بدء ـ بجهلي الفاضح في فهم هذا الكلام المنقول بنصِّه. فما معنى أن شواغل اللغة يجب ـ أي من الحتم ـ أن تكون في منطقة وسطى بين التجريد والتجسيد؟ وما معنى أن من المسموح به (ومن سمح بذلك؟) أن تتحوّل اللغة إلى كائن صامت يرمز إلى الغائب ويستحضره بالصمت أكثر مما يستحضره بالكلام؟ (فهل هناك لغة صامتة ولغة متكلمة؟ لعلها توجد في عالم الخُرس، وليست في عالم الأدب الذي وسيلته الأولى هي اللغة مكتوبة ومنطوقة).
* أخيراً .. لماذا أنت مقل في الكتابة هذه الأيام ؟
ـ إنني وإن كنت سيَّال القلم ـ كما وصفني رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق ـ فإنني أعد نفسي مُقلا بالنسبة لما في ذهني من موضوعات أُحـب الكتابة فيها، ورغبـات أشتاق إلى تنفيذها، ولكني مضطر إلى صرف نحو 18 ساعة يوميا في العمل المتصل برزقي، فلا يبقى لي بعد ذلك من الجهد أو الوقت أو صفاء البال ما تهون معه تأدية تبعات الأدب على الوحه الذي أحب.
*ما مشروعاتك الأدبية الحالية ؟
ـ المشروع الذي أتوافر عليه هو إخراج أربعة دواوين مخطوطة مات عنها المرحـوم الدكتور أحمد زكي أبو شادي في أمريكا ولم تر النور منذ وفاته في[12 من أبريل ] عام 1955م، ويُخشى عليها من الضياع. وقد تكرمت الأديبة صفية أبو شادي ابنة رائد جماعة أبولو، فوضعت تحت تصرفي النسخ الأصلية المخطـوطة لهذه الدواوين، وقمت من ناحيتي، وفاءً لهذا الصديق العظيم، بإعدادها للنشر مع هوامش رأيت ضرورة إثباتها من قبيل الإيضاح. وقد وُفِّقتُ فعلا إلى إصدار أول هذه الدواوين وعنوانه " الإنسان الجديد"، وبقية الدواوين الأربعة تنتظر دورها لدخول المطبعة.
وفي المهاجر الشمالية والجنوبية في أمريكا عشرات من المخطوطات من دواوين الشعراء ومؤلفاتهم، وقد مات عنها أصحابها، وآلت إلى أبناء يجهلون العربية. فليت هيئاتنا الثقافية تنبري للاتصال بهؤلاء ومحاولة إنقاذ هذه الآثار قبل أن تتبدَّد إلى الأبد. وإذا كانت هيئاتنا الثقافية تُعنى بتصوير المخطوطات المحفوظة في المكتبات العالمية، فأحرى بها أن تُعنى بهذه المخطوطات التي آلت إلى من لا يعرفون قيمتها أو لغتها، والتي مصيرها المؤكد الضياع، إن لم تكن ضاعت فعلا.
...........................
[نشر في مجلة "الفيصل"، العدد (262) أغسطس 1998م، ص75-79].

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:10 AM
وديع فلسطين .. سفير الأدباء(1)

بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
ـــــــــــ
وديع فلسطين (ولد عام 1923) أديب كبير يُقدِّره الأدباء العرب حق قدره، وإن لم تلتفت إليه الأجهزة الثقافية في مصر فتُعطيه بعض حقه عليها، كما تفعل مع أشباه الكتاب والأدباء.
ولعل السرَّ في ذلك أن الرجل يحترم نفسه، ويربأ بها أن تقف على باب مسؤول هنا أو هناك، ويدّخر جهده ووقته في العمل والإنتاج، فضلاً عن مساعدة الباحثين بالمادة العلمية والمراجع الأدبية في أي مكان كانوا، وأي زمان طلبوا.
وكان من الوفاء الجميل أن يقوم صديقي الشاعر الأديب الدكتور حسين علي محمد بإخراج كتاب تذكاري عن الرجل تقديراً لدوره وتعريفاً بمكانته بعنوان "سفير الأدباء: وديع فلسطين"، وينشر هذا الكتاب على نفقته الخاصة ضمن سلسلة "أصوات مُعاصرة"، فيُقدِّم الرجل تقديماً جيداً من خلال كتاباته ومؤلفاته، ومن خلال ما كتبه عارفو فضله وأدبه في مصر والأقطار العربية والمهاجر الأجنبية.
والسفارة الأدبية لدى وديع فلسطين هي تواصل حميم بين عشاق الكلمة الصادقة وأصدقاء الحرف النقي في مصر أو خارجها، وقد قضى وديع فلسطين أكثر من نصف قرن سفيراً للأدباء، يُكاتبهم ويكتبون له، ويقرأ لهم ويكتب عنهم، ويُعرِّف بهم. وكان من أوائل الذين كتبوا عن نجيب محفوظ، وأوائل الذين ترجموا المسرح السويدي، ومازال أقدر المترجمين في بلادنا على الترجمة الأدبية الراقية، التي تفي بالمضمون الأصلي للنص مع صياغته صياغة أدبية جميلة. كتب عنه شاعر أبولُّو الكبير الدكتور أحمد زكي أبو شادي، فقال: "هذا الأديب القبطي الإنساني النابه من مفاخر الجيل الحاضر في مصر، وهو جوهرة شريفة متألقة في تاج الأدب العربي الحديث ". (جريدة الهدى، نيويورك، العدد 144، في 18/9/1950).
ويصفه الأستاذ محمد سعيد العامودي ـ الكاتب السعودي الكبير ـ "بالكاتب العربي الواسع الاطلاع، والأديب الباحث المفكر، ويرى أنه ليس غريباً أن يكون أبرز ما تتسم به بحوثه: الأصالة والموضوعية" (مجلة المنهل، جدة، أغسطس 1960م).
لقد تخرّج وديع فلسطين في قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية عام 1942م، وكان من أوائل الذين حملوا شهادة البكالوريوس في الصحافة من مصر، وعقب تخرجه عمل بجريدة "الأهرام"، ثم انتقل عام 1945م إلى جريدة "المقطم" في أواخر عهدها، حيث عمل محررا فرئيساً للقسم الخارجي، فمحرراً سياسياً ودبلوماسيا، وناقداً أدبيا، ومعلقا اقتصاديا، ورئيساً فعليا للتحرير دون أن يُكتب ذلك في "ترويسة" الصحيفة، بجانب مشاركته في تحرير "المُقتطف": المجلة العلمية الأدبية المعروفة، وظل بالمقطم حتى توقفت عام 1952م، فترك الصحافة وتفرّغ للكتابة الحرة وأعمال الترجمة.
والرجل من مدرسة أدبية جادة تؤمن بالصدق والإتقان مهما أنفقت من جهد ووقت ومال، يُتابع ويقرأ، ويسعى إلى المزيد من الاطلاع حتى يومنا هذا، بعد أن تجاوز الخامسة والسبعين. كل ذلك إلى جانب عمله الأصلي الآن في مجال الترجمة، كما سبقت الإشارة.
وقد قدّم للمكتبة العربية عدداً كبيراً من الكتب المترجمة، منها "الأب" مسرحية لأوجست سترندبرج، و"فلسطين في ضوء الحق والعدل" لهنري كتن، و"جعفر الخليلي والقصة العراقية الحديثة" لتوماس هامل (بالاشتراك)، و"أوليفر وندل هولمز القاضي الشاعر الأمريكي"، و"على درب الحرية" لمارتن لوثر كنج، و"استقاء الأخبار فن: صناعة الخبر"، و"العلاقات العامة فن"، و"تطور صناعة الزيت في الشرق الأوسط"، و"مقدمة إلى وسائل الاتصال".
ولقد كتب وديع فلسطين كثيراً من الفصول حول القضايا الأدبية، وتناول في سلاسل متعددة كثيراً من القضايا الثقافية التي تعني الأدباء والقراء عامة، ومنها سلسلة أحاديثه المستطردة التي بدأ كتابتها في مجلة "الأديب" اللبنانية، ويكتبها الآن في جريدة "الحياة" التي تصدر من لندن، ويُعرِّف في هذه الأحاديث بأعلام الأدباء المعاصرين الذين التقى بهم أو حاورهم، أو عرفهم من قرب. ومادة هذه الأحاديث مرجع مهم في ميدان البحث الأدبي والعلمي والثقافي.
ومن المفارقات أن مجلاتنا الأدبية العريقة في مصر والبلاد العربية اهتمت بالرجل فجأة عقب مقال كتبته صافي ناز كاطم، فراحت هذه المجلات تطلب منه أن يُوافيها بمقالاته لتنشرها، وتُلح في الطلب! ولا أدري هل تمتد هذه المفارقات إلى أن تعهد هذه المؤسسات إليه بترجمة عمل أدبي كبير سواء في المشروع القومي للترجمة، أو الألف كتاب الثانية أو غير ذلك؟
أعلم أنه يتعفّف عن الطلب، أو إبداء الرغبة، لأنه ينصرف كلية إلى أعماله الخاصة التي تُغنيه عن البشر (المسؤولين وغير المسؤولين). ولكن وطناً يُقدِّر أبناءه لابد أن يلتفت إلى الرجل بطريقة أو أخرى.
إن وديع فلسطين من جيل عرك الحياة، واحترم القيم الرفيعة، بل اعتنقها حتى صارت جزءاً من سلوكه وفكره، ومن واجبنا أن نُقدِّمه للأجيال الجديدة التي لا ترى أمامها إلا نماذج الفهلوة والتسلل والنفاق والمصالح المتبادلة، وغاب عنها ـ أو غُيِّبت عنها ـ نماذج العمل والكفاح والأخلاق الرفيعة والمُثُل العُليا!
ــــــــــــ
(1) نشرت هذه المقالة في "المساء الأسبوعية"، العدد (15082)، الصادرة في 15/8/1998م، ص10.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:13 AM
من تجربتي في الصحافة (1)

بقلم: وديع فلسطين
.......................
إن أي حديث عن تجربتي لن يبرأ من التفاخر "بأنا" والتحدث عن "الذات"، فأستعيذ بالله من كلام يدور حول شخصي، وأعتذر للقارئين إن هم ضاقوا بكلام مُرسَل يمتاح من معين الذاكرة، ويُصوِّر جوانب من عمر تقضَّى في العمل الصحفي في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من هذا القرن.
البداية كيف كانت؟
دخلت عالم الصحافة على تهيُّب شديد، من الباب الأكاديمي، فدرست علوم الصحافة نظراً وعملاً في معهد الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكنت من أوائل الخريجين المؤهلين من معهد هو أول معهد على شاكلته في الشرق الأوسط، فقد سبق جميع معاهد الصحافة الأخرى. وكانت الأجيال التي سبقتني إلى العمل في الصحافة إما تحمل شهادات من كليات الحقوق أو الآداب، وإما اقتحمت الميدان بالاجتهاد الذاتي وبغير مؤهلات جامعية، واكتسبت بمضي الوقت الخبرة والشهرة والحيثية الاجتماعية!
وقد تهيَّبت هذا الميدان لاعتبارين أساسيْن:
أولهما: أن استعدادي الفطري كان استعداداً علميا، وكنت أُهيِّئ نفسي للالتحاق بكلية من كليات الدراسات العلمية (الطب أو الصيدلة أو العلوم)، لكنني اضطررت إلى تغيير اتجاهي بسبب ما كانت هذه الكليات تتقاضاه من مصروفات باهظة تؤرِّق أسرتي.
وثانيها: لأنني كنتُ ـ بحكم صعيديتي التي جُبلْتُ عليها ـ كثير الانطواء على النفس وكثير الخجل، في حين أن الصحافة تتطلَّب قدراً كبيراً من الانبساط والجرأة والثقة بالنفس، لأنها تحتم على المشتغل بها أن يتعامل مع دهاقنة الساسة من محليين وأجانب.
كما كان من أسباب تهيبي أن الباشوات كانوا يحتلون مراكز الصدارة سواء في ملكية الصحف أو تحريرها، مثل جبرائيل تقلا باشا، وأنطون الجميِّل باشا في "الأهرام"، والدكتور فارس نمر باشا وخليل تابت باشا وكريم ثابت باشا في "المقطم"، وفكري أباظة باشا في "المصور"، وعبد القادر حمزة باشا في "البلاغ"، وإدجار جلاّد باشا في "الزمان" و"الجورنال ديجبت"، والدكتور محمد حسين هيكل باشا في "السياسة".
وقد عرفت معظمهم وألفتهم أكثر تواضعاً ممن لا يحملون هذه الرتبة الرفيعة! وكنت في ذلك الحين أقول لنفسي: كيف يتأتّى لك وأنت ناشئ بسيط الحال لم يسبق لك تعامل مع الباشوات ولا حتى مع البكوات أن تعمل معهم، ناهيك عن أن تًنافسهم؟
لكن تسلُّحي بشهادة في الصحافة ـ التي سوّغت لي أن أُوَقِّع كتاباتي الأولى ممهورة بعبارة "بكالوريوس في الصحافة" وضعتني في بداية كريمة من سلّم العمل الصحفي، ولم ألبث بالاجتهاد الشخصي والتوسُّع في المُطالعات واستشراف المُثُل العُليا وعقد الصلات أن "حفرت" لنفسي زاوية في الصرح الصحفي في تلك الأيام، برغم أنني كنت في العشرينيات من عمري.
ولقد كان من حظي الموفق أن عملت في دار "المقتطف والمقطم"، بعد فترة قصيرة قضيتها في إدارة جريدة "الأهرام"، وهي دار كانت تُصدر مجلة علمية ثقافية عريقة هي "المقتطف"، وجريدة مسائية عتيقة هي "المُقَطَّم"، فوزّعت عملي بين هذه وتلك. وما زلت أحس بدين عميق في عنقي للرجلين العظيمين اللذين عملت تحت إشرافهما المباشر في هذه الدار، وهما خليل تابت باشا في "المقطم"، والدكتور فؤاد صروف في "المقتطف"، فقد حرصا على تعهُّدي لا بالتوجيه والتشجيع فحسب، بل بإعطائي فرصة كاملة للتدريب على جميع فنون الصحافة بالتنقل بين أقسام الجريدة المختلفة حتى تتأصَّل فيّ الاستعدادات لمعالجة الترجمة وكتابة التعليقات السياسية والاقتصادية وكتابة المقالات العلمية وإجراء الأحاديث مع كبار المسؤولين والزائرين، وتلخيص الكتب الأجنبية وعرض الكتب العربية ومتابعة المحاضرات العامة التي كانت منابر القاهرة الكثيرة تحتفي بها، وإجراء التحقيقات الصحفية، وهلم جرا.
وكان "المقطم" يتميّز عن غيره من الصحف بمقالات الصدر (الافتتاحيات) التي كان يكتبها خليل تابت باشا، فلما آثر التقاعد أسند إليَّ مهمة كتابتها (على الرغم من أن نصف قرن كاملاً كان يفصل بين عُمرينا)، فصرت أعقد مقالا رئيسيا حول قضية داخلية أو خارجية يُنشر في الصفحة الأولى بعنوان ثابت هو "في السياسة الدولية"، ومقالا تكميليا يتضمّن تعليقات سريعة على الأحداث المحلية والدولية يُنشر في الصفحة الأخيرة بعنوان ثابت هو "عجلة الحوادث"، وظللتُ أُتابع كتابة هذه الفصول يوميا إلى أن أُغلِقت جريدة "المقطم" في أواسط نوفمبر 1952م، أما "المقتطف" وهي مجلة شهرية مشهورة ـ فقد واليتُ اختصاصها بمقالات أدبية وعلمية إلى أن احتجبت في ديسمبر 1952م، بعد سبعة وسبعين عاما كاملة.
الحرب العالمية ومطالعاتي العلمية
كانت الحرب العالمية الثانية مُشتعلة الأوار في فترة اشتغالي اليومي بالصحافة الهادرة، عندما بوغتنا في يوم من أيام أغسطس 1945م بطوفان من برقيات وكالات الأنباء تروي أنباء إلقاء قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما، وأخرى على مدينة نجازاكي في اليابان، فأحدثتا تدميراً ماحقاً في المدينتين عجَّل بنهاية الحرب. وكانت وكالات الأنباء تفيض في شرح النظرية العلمية التي قامت عليها القنبلة الذرية مستخدمةًَ في ذلك مصطلحات علمية عويصة. ومن محاسن الاتفاق أنني كنت شديد القرب من أستاذي فؤاد صروف الذي كان ينشر في المقتطف" فصولاً كثيرة عن "فلق نواة الذرة" وعن سلسلة التفاعل التي يُحدثها هذا الفلق، فتنطلق منها طاقة هائلة تكتسح كل ما أمامها. وكنتُ وقتها أُطالع هذه الفصول من قبيل التزوُّد بالجديد من أخبار العلم فاستقرت في ذهني صورة عامة للذرة وأفاعيلها، كما ترسّخت في ذاكرتي المصطلحات العلمية التي سكَّها أستاذي فؤاد صرُّوف في هذا الباب. فلما داهمتنا أخبار القنبلة الذرية، لم أُصادف مشقة في ترجمتها إلى العربية ترجمةَ واضحة، ولا في التعليق عليها تعليقاً يتفق مع قواعد العلم التي حصَّلتُها بالمتابعة الحديثة لكتابات أستاذي صرُّوف.
وفوجئنا ذات يوم بوكالات الأنباء تحمل إلينا نبأ انتحار وزير البحرية والدفاع الأسبق في الولايات المتحدة في مايو 1949م، بأن ألقى بنفسه من إحدى ناطحات السحاب فلقي مصرعه، وعُرِف بعد ذلك ـ وهو ما ثبت من مطالعة مذكراته ـ أنه انتحر بسبب مضايقات صهيونية، فعقد ت مقالاَ عن جيمس فورستال ـ وهذا اسمه ـ اجتهدتُ في تحليل شخصيته من الناحية النفسية، وتفسير الدوافع التي جعلته يُلقي بنفسه منتحراً. وفي اليوم التالي تلقّيت رسالة من عميد علماء علم النفس في مصر ـ أستاذي وصديقي الدكتور أمير بقطر ـ أثنى فيها على صدق تحليلي قائلاً: إن الرأي الذي انتهيْت إليه هو الرأي الصائب من الوجهة النفسية. فتأكَّد لي أن الذخيرة التي حصَّلتُها من مطالعات سابقة في علم النفس وفي سواه من أبواب المعرفة قد دلَّتْني على المحجة السليمة.
تدريس الصحافة
وقد عملت بتدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية بين عامي 1948-1957م، وحرصت على أن أؤكِّد لطلابي ضرورة الفصل بين الخبر من حيث هو واقعة يتعيّن إيرادُها بمنتهى الصدق والحياد دون أي تستُّر أو تحوير، وبين المقال الذي يصح لكاتبه أن يتخذ أي زاوية يراها للتعليق على ما جاء في الخبر. ولكن الخلط بين الخبر والرأي خطأ لا يجوز في العُرف الصحفي الصحيح. وكان من الطبيعي أن أُطبِّق عمليا ما كنتُ أُدرِّسه نظريا.
وعندما توالت الانقلابات في سورية، شنَنْتُ في مقالاتي حملة شعواء على قادة الانقلابات المتتالين: حسني الزعيم، وسامي الحنّاوي، وأديب الشيشكلي. فلما زار الشيشكلي مصر عام 1952م حرص سفير سورية في مصر (وهو الأديب العالم الصديق الأمير مصطفى الشهابي) على ترتيب لقاء بيني وبينه، فقلت للشيشكلي: من حقك أن أورد أقوالك بالحرف الواحد، ولكن من حقي أن أُعقِّب عليها في افتتاحياتي وفقاً لما أراه، وقد كان.
ولا ريب في أن الصحفي إذْ يرى الناس ساعيةً إليه، حاسبةً حسباناً لما يكتبه، مُعرَّض لأن يستشعر قدراً كبيراً من الأهمية، وربما النفوذ. حتى إن نقيب الصحفيين فكري أباظة باشا قال في حفل أُقيم لتكريمي بمناسبة فوزي بجائزة فاروق الأول للصحافة الشرقية عام 1949م، إنه بعد متابعته لمقالاتي أُعجب بقدرتي على مصاولة تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، وأنطوني إيدن وزير خارجيتها، كأنني معهما فرسان تجري في حلبة سباق. وهو قول يورث الغرور، لكن الصحفي مُنتَصَح بأن ينأى بنفسه عن نقيصة الغرور، وأن يستعصم بالرسالة الصحفية الأصيلة، ألا وهي أنه مهما ارتفعت مراتبه، خادم للجمهور الذي يُخاطبه، وخادم للحقيقة التي وُكِّل بأن يسوقها إلى القارئين.
تجربة لا أنساها
وثمة تجربة مرَّت بي في عملي الصحفي، لا أرى بأساً من إيرادها. فقد اتصل بي صاحب وكالة وطنية للأنباء قائلا: إنه يرغب في الاستعانة بي في وكالته، إلى جانب احتفاظي بعملي في الجريدة. وتوجهّت إليه في الموعد المحدَّد، فألفيت على مكتبه أكداساً من الصحف الأجنبية وجهاز راديو ضخماً يستقبل إذاعات العالم كله. وقال صاحب الوكالة: إن القضية الوطنية هي شاغله الوحيد، وهو لذلك لا يعتمد على مراسلين في العالم الخارجي، بل على الصحف الأجنبية ورصد الإذاعات الأجنبية. وشرح لي كيف يتم تحوير الأخبار التي تمس القضية بحيث تؤول كلها بعد تحويرها إلى خدمة القضية، بغض النظر عن صدقها. ثم دفع إليَّ بكومة من الصحف الأجنبية وجهاز الراديو، ورجاني أن أستخرج من هذه المصادر "أخباراً طازجة" تخدم القضية. وقضيتُ يومين أُحاول فيهما تلفيق الأخبار خدمةً للقضية، فلا ضميري الصحفي استراح ولا أفلحت في هذه المحاولات، فتركتُ لصاحب الوكالة رسالة اعتذار بدعوى ضعف صحتي وعجزي عن الجمع بين عملين. وبعدما كنت أنشر أخبار وكالته في الصفحة الأولى من جريدتي، بت أطرح نشرة الوكالة بقضِّها وقضيضها في سلة المهملات دون أن أفضَّها.
مهنة المخاطر
وإذا كان الوصف الشائع للصحافة هو أنها مهنة البحث عن المتاعب، فلا إخالنا نُجانب الصواب إذا قلنا إنها مهنة التعرُّض للمخاطر.
ومن الحوادث التي لا أنساها أن صديقي الأديب الصحفي فرج جبران زارني ذات يوم وقال لي إن هناك وفداً من كبار الصحفيين الأمريكيين برئاسة نيكر بوكر يزور أندونيسيا، وأنه سيمرُّ بمطار القاهرة لمدة ساعة في طريق عودته إلى بلاده. وقال إنه اتفق مع المسؤولين على ترتيب عشاء للوفد في المطار يضم بعض الصحفيين المصريين لكي يشرحوا لزملائهم الأمريكيين قضية مصر وسائر القضايا العربية، ورجاني أن أكون من جملة المشاركين في هذا العشاء. فقبلتُ الدعوة، وهيّأت نفسي لهذا اللقاء. وفي اليوم الموعود إذْ كنت عاكفاً على قراءة برقيات وكالات الأنباء، فوجئت ببرقية تقول: إن الطائرة التي كانت تُقل الصحفيين الأمريكيين قد سقطت وتحطّمت، وقُتِلَ كل من كان على متنها! ومن غريب المصادفات أن فرج جبران نفسه، الذي كان حريصاً على ترتيب هذا العشاء، لقي بدوره مصرعه في حادث طائرة اختفت فوق البحر المتوسط، ولم يُعثَر لها على أَثَر!
فالصحافة ـ من ناحية ـ مهنة المخاطر، كما أنها مهنة المفاجآت من ناحية أخرى، ولابد للصحفي أن يُدرِك أن عمله محفوف بالمخاطر، وأن المفاجآت تكاد تكون خبزه اليومي.
وقد يعنّ لسائل أن يسأل عن الحصيلة النهائية للعمل الصحفي، فأقول: إن الصحافة تستهلك العمر والجهد في خدمة قضايا هي بطبيعتها قضايا آنية ومتغيرة، فإذْ أُراجع مثلاً مقالات ضافية نشرتُها حينذاك عن قضية مصر، وكنا قد حصرناها في عبارة "وحدة وادي النيل تحت تاج الفاروق" آسف على المِداد الكثير الذي سَكَبْتُه في الدفاع عن وحدة انفضّت تحت تاج لم يعد له وجود! وإذْ أُراجع ما كتبته في الدفاع عن قضية العرب الثانية وهي قضية فلسطين، أراني لم أُشِر إلى "إسرائيل" إلا بوصفها "مزعومة"، ولم أقنع في كتاباتي إلا بفلسطين عربية كاملة، فلا تقسيم ولا تدويل للقدس، ولا لتكوين دولة فدرالية أو كونفدرالية تكون فلسطين طرفاً فيها. وطبعاً تغيَّرت الصورة اليوم، ولم يعد أحد يزعُم بأن "إسرائيل مزعومة"!
وكنا في أيامنا نتحدّث عن حلم "العروبة"، فجاء صديقنا ساطع الحصري وصاغ هذا الحلم في قالب "القومية العربية"، وذهب آخرون إلى تصوير هذا الحلم في عبارة "الوحدة العربية"، وقد تبخَّرت هذه الأحلام لاعتبارات ليس هذا مجال رصدها!
وهكذا انفعلنا ككتّاب وصحفيين دفاعاً عن قضايا صارت اليوم غير ذات موضوع، ولا بد إذن أن نُهيل التراب على كل ما نشرناه من موضوعات في القضايا السياسية الآنية المتقلبة.
مشاركات أخرى
ولكن، لعلَّ أكبر ما أفدته من الصحافة هو القابلية للتكيف، ذلك أن العمل الصحفي قد هيّأ لي أسباب العناية بمجالات متعددة من المشاغل الفكرية، فلم يكن عسيراً عليَّ بعد ذلك أن أغشى ميدان الأدب، أو أن أعمل بالترجمة العلمية والفنية والمتخصصة أو أن أُشرف على كتب ومجلات وأعمال تتصل بالاقتصاد والقانون والصناعة، أو أن أشارك في لجان التحكيم الدولي، أو أن أُسهِم في إعداد موسوعات متباينة الموضوعات، فضلاً عن أن الصحافة قد هيّأت لي فرصة عقد صلات وثيقة مع معظم الأعلام الذين عاصرتهم، سواء في مصر أو البلاد العربية أو في المهاجر، حتى وصفني أنور الجندي بأني من "المراجع الحية"، ووصفني الأديب العراقي وحيد الدين بهاء الدين بأنني "سفير الأدب المعاصر" ـ وليس لي ادِّعاء بهذا الوصف أو ذاك ـ كما أن الصحافة أتاحت لي فرصة للتعريف بناشئة الأدباء الذين صاروا بعد ذلك أدباء كباراً مثل نجيب محفوظ، وعلي أحمد باكثير، وعبد الحميد جودة السحار، وعادل كامل، ونزار قبّاني، وسهيل إدريس، ويحيى حقي، ومحمود البدوي .. وغيرهم. فلعلِّي كنت أسبق الذين عرّفوا بهؤلاء الأدباء، وهي حقيقة لن يمنعني التواضع دون إعلانها، وإن تجوهلت طويلاً.
وإذا كنت قد زاولت الصحافة دراسةً وممارسةً وتدريساً، فقد أسهمت فيها أيضاً بثلاثة كتب نقلتها إلى العربية وهي: "استقاء الأنباء فن: صناعة الخبر" لجوليان هاريس وستانلي جونسون ، وكتب مقدمته الصحفي الكبير الأستاذ محمد زكي عبد القادر، وكتاب "مقدمة إلى وسائل الاتِّصال" لإدوارد واكين، و"العلاقات العامة فن" لإدوارد بيرنيز وآخرين وقد ترجمته مع زميلي الدكتور حسني خليفة.
ـــــــــــ
(1) وديع فلسطين: من تجربتي في الصحافة، مجلة "الفيصل"، العدد (206)، شعبان 1414هـ-يناير 1994م، ص ص67-69. وانظر تحليلاً لهذه المقالة في كتابنا (بالاشتراك) «فن المقالة: دراسة نظرية ونماذج تطبيقية» ط5، سلسلة «أصوات مُعاصرة»، دار هبة النيل، القاهرة 2001م، ص ص 143-164.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:16 AM
مع وديع فلسطين: الأديب والصحفي

حاوره: سعد العتيبي
ــــــــ
[نشر هذا الحوار في جريدة "المسائية" السعودية في العددين 4283 ، 4289 في 26 مارس 1996م، و2 أبريل 1996م].

(1)
يحار المرء عندما يود أن يقدم شخصية لها مكانتها الرفيعة في حياتنا الأدبية المُعاصرة، ذلكم هو الصحفي والأديب الأستاذ وديع فلسطين أحد الذين كانت لهم صولات وجولات في صحافة الأربعينيات من هذا القرن، فمن يتصفّح مجلدات "المقتطف" أو"الرسالة" أو"الأديب" سيجد أن الأستاذ وديع فلسطين كان من أبرز الكتاب وأغزرهم إنتاجا، كما شارك بمقالاته ودراساته في العديد من المجلات الأدبية والثقافية في مختلف أرجاء الوطن العربي، إضافة إلى ذلك فهو يتمتع بذاكرة عجيبة تستطيع أن تتذكر حوادث موغلة في القدم، وقد أطلق عليه أحد الأدباء لقب "سفير الأدب المعاصر"( )، ويقول عنه صديقه الأستاذ عبد العزيز الرفاعي: "والوديع كاتب عملاق، واسع الثقافة، رحب الاطلاع، قلّما يصدر كتاب ذو بال في اللغة العربية أو الإنجليزية إلا ولديه عنه علم، أو له به اطلاع، أو عليه فيه نقد أو تعريف".
كما أنه يعد من أصدقاء العقاد الخُلّص، وفي هذا اللقاء سوف نعرف رأيه في الذين يُحاولون النيل من الأستاذ العقاد، كما سنعرف رأيه في قضايا وموضوعات تشغل الساحة الثقافية. ومع أن الأستاذ وديع فلسطين لا يسعى إلى الأضواء إلا أننا استطعنا أن نظفر منه بهذا اللقاء الثري، والذي خص به جريدة "المسائية".
والأستاذ وديع فلسطين من مواليد 1923م في محافظة سوهاج بصعيد مصر، حصل من الجامعة الأمريكية بالقاهرة على درجة "البكالوريوس" في الأدب مع التخصص في الصحافة عام 1942م، وعمل بعد تخرجه في إدارة جريدة الأهرام، ثم انتقل إلى جريدة "المقطـم" حيث عمل في وظائف تحريرية مختلفة إلى أن اختير عضوا في مجلس تحرير وإدارة الجريدة ومعها مجلة "المقتطف"، وذلك إلى ما قبل إغلاقها عام 1953م، رأس تحرير مجلة "الاقتصاد والمحاسبة" التي كان يصدرها نادي التجارة الملكي، قام بتدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بين عامي 1948-1957م، أنشأ مع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي "رابطة الأدباء" عام 1945م، اختير عضوا مراسلا لمجمعي اللغة العربية في دمشق وعمّان، وعمل مراسلا لمجلة "قافلة الزيت" السعودية، و"الأديب" البيروتية، وله أكثر من ستة عشر كتابا مطبوعا ما بين تأليف وتحقيق وترجمة.
حصل على جائزة فاروق الأول للصحافة الشرقية عام 1949م، ونيشان الاستحقاق المدني من طبقة كوماندور الممنوح من إسبانيا عام 1952م.
*الأستاذ وديع فلسطين، متى بدأت مشوارك مع الكلمة؟
-بدأت مشواري مع الكلمة منذ تخرجت من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1942م، وبيميني شهادة على أنني أحمل درجة البكالوريوس في الأدب مع التخصص في الصحافة، وهي شهادة لم يكن كثيرون يحملونها، لأن معاهد الصحافة في العالم العربي تأخر إنشاؤها، ولأن الصحافة في ذلك العهد كانت "صحافة اجتهاد" أكثر منها صحافة تأهيل جامعي في هذا التخصص بالذات. والواقع أنني جربت حظي في الكتابة حتى قبل التخرج لأنني نشرت وأنا طالب مقالات في جريدة "الدستور" اليومية، وفي مجلة "اللطائف المصورة" الأسبوعية، وفي مجلة "الطلبة" التي أصدرها طلاب الجامعات في ذلك الوقت، كما أن جامعتي اختارتني رئيسا لتحرير مجلتها "القافلة" فتمرست فيها على الكتابة.
وكان السؤال الذي واجهني عند تخرجي هو: من أين أبدأ؟ فالتجارب العملية مازالت محدودة إن لم تكن منعدمة، وميادين الكتابة تُحتم الإجادة أسلوبا وموضوعا، وهو ما لا يسعني فيه أن أُجاري فيه الفحول في ذلك الوقت، وثقافتي الأفرنجية جعلتني مبتدئا في فنـون الأدب العربي، فالتمست جوابا على هذا السؤال في الترجمة، أي أن آخذ مقالا أو عملا أدبيا لكاتب غربي راسخ القدم فأنقله إلى اللغة العربية مجوِّدا في أسلوبي قدر المُستطاع، ثم أبعث به إلى المجلات الأدبية بالبريد موقعا بعبارة "بكالوريوس في الصحافة" لإحداث الأثر المطلوب في رؤساء التحرير. وكنت أخاف من مواجهتهم بنفسي خشية أن يروا في صغر سني ما يزهدهم في نشر مقالاتي. وهكذا نشرت في "رسالة " الزيات أول مقال لي عام 1943م عن المسرحي النرويجي هنريك إبسن، ونشرت في مجلة "المقتطف" في السنة عينها أول قصة ترجمتها، وكان عنوانها "كف القرد"، وظللت أتوكأ على الترجمة وعلى رخصة "البكالوريوس" عامـين أو ثلاثة كنت في أثنائها أعكف على لغتي العربية بالإجادة والصقل، وأعكف على المُطالعات العربية حتى أُقيم ما يُمكن أن أُسميه "بالبنية الأساسية" اللازمة لمن يشتغل بالصحافة ويطل منها على ميادين الأدب الفسيحة. ومع الوقت، ومع الجهد والمثابرة، أفلحت في الدخول إلى عالم كنت أتهيبه، وبت أطل بوجهي على رؤساء التحرير عوضا عن التوسل بالبريد إليهم.
*في أواسـط الأربعينات عملت محررا في مجلة "المقتطف"، فكيف وجدت الفرق بين صحافة الأمس وصحافة اليوم؟ وهل لعبت "المقتطف" دوراً مهما في إثراء حياتنا الأدبية المُعاصرة؟
-مجلة "المقتطف" التي صدرت أصلا في بيروت في عام 1876م، ثم نقلت إلى القاهرة بعد ذلك سبقت في الصدور جريدة "المقطم" التي بدأ نشرها في القاهرة عام 1888م بثلاثة عشر عاما. وكانت الأولى مجلة شهرية تُعنى في المقام الأول بالعلوم والصناعة في حين كانت الثانية جريدة يومية مسائية جامعة، تعنى بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب، وكل ما تنشغل به جريـدة سيارة من أمور الحياة اليومية وأحداثها في الداخل والخارج.
وكانت المجلة والجريدة يصدران عن "دار المقتطف والمقطم" لأصحابها الدكتور فارس نمر باشا والدكتور يعقوب صروف وشاهين مكاريوس. وعندما عملت في هذه الدار في أول مارس 1945م ـ بعدما قضيت ثلاث سنين في جريدة "الأهرام" موظفا إداريا على رغبتي الشديدة في التحول إلى أقسام التحرير ـ وجدت في الدار شيوخا أجلاء اكتسبوا خبرة عريضة في فنون الصحافة وميادينها، فهناك الدكتور فارس نمر باشا الباقي على قيد الحياة من مؤسسي الدار، وهناك خليل تابت بك المدير العام للدار، وهناك الدكتور فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة "المقتطف"، وهناك كريم ثابت باشا رئيس تحرير "المقطم": هؤلاء الأعلام كانوا مدرسة حقيقية، وكل من عمل معهم استطاع أن يحصل من المعارف والتجارب وخبرة العمر الطويـل مالا يستطيع تحصيله في سنوات مديدة، وكان أربعتهم يؤمنون بتواصل الأجيال، فكانوا يحرصون دائما على نقل كل ما يعرفونه إلى مساعديهم، وذلك بتوجيههم الدائم، وتصويب أخطائهم، وتقديمهم إلى المسؤولين في الدولة لكي ييسروا لهم عملهم، ولم يكونوا يضنون عليهم بما يكسبهم القدرة على تولي المسـؤوليات بأنفسهم متى اكتملت لهم أدواتهم. كما كان لهؤلاء الشيوخ إشراف فعلي على كل صغيرة وكبيرة في الجريدة. بل إن خليل تابت بك كان يقوم بنفسه بتصحيح الإعلانات المبوبة والخطب الرسمية لكي يطمئن إلى خلوها من أي خطأ لغوي. فرسالة الصحافة عندهم كانت رسالة أمانـة يتوخون بها تثقيف القارئ، وتهذيب ذوقه، وتعويده على سلامة اللغة، وتبصيره بالحقائق المجردة من الهوى.
وكانت جريدة "المقطم" هي الثانية من حيث طول العمر بعد جريدة "الأهرام"، ولما سألت الدكتور فارس نمر باشا لماذا أطلق على جريدته اسم جبل "المقطم" قال إنـه أراد أن يوحي للقراء بأن جريدته هي الأصل، لأن الحجارة التي شُيدت بها أهرام الجيزة اقتطعت من جبل المقطم، ولم تكن بين الجريدتين منافسة؛ لأن "الأهرام" تصدر في الصباح، في حين أن "المقطم" تصدر بعد الظهر، ولكل منهما سوقها، وإن تكن سوقا واحدة تتمثل في موظفي الحكومة الذين يشترون "الأهرام" وهم ذاهبون إلى مكاتبهم في الصباح، ويشترون "المقطم" وهم منصرفون من مكاتبهم في الساعة الثانية بعد الظهـر. وفي حين كان الاهتمام الأول "للأهرام" منصبا على الأخبار، فإن "المقطم" كانت تركز على شرح هذه الأخبار في مقالات الصدر الضافية التي كان يكتبها خليل تابت يوميا، وتظهر على الصفحة الأولى، وتُنشر ذيولها في الصفحات الداخلية.
أما مجلة "المقتطف" فكانت مجلة علمية في بدايتها، ولم تلبث أن صارت تُعالج جميع الموضوعات الفكرية، وتتسع للشعر وللقصص ونقد الكتب الأدبية، وتحاول إرضاء أذواق المثقفـين أيا كانت اهتماماتهم، واجتذبت المجلة في تاريخها الطويل جميع أقلام الباحثين من أنحاء العالم العربي والمـهاجر، وفهارسها المنشورة في ثلاثة مجلدات ضخمة تشهد على أن كل الأعلام في عمرها الذي امتد إلى 77 عاما قد نشروا فيها نفثات أقلامهم.
وكانت صحافة تلك الأيام تُنضَّد إما بحروف منفصلة يتم جمعها من صندوق للحروف يضم المئات منها، وإما من آلات "اللينوتيب" التي أدخلت في مصر للمرة الأولى والتي كان لصاحب "الأهرام" جبرائيل تقلا باشا فضل إقناع شركات المطابع الألمانية بصنعها، بحيث تعمل من اليمين إلى اليسار لا العكس، وكان قد أعد نماذج للحروف العربية لتقوم المصانع الألمانية بإحلالها محل الحروف الإفرنجية. أما المطابع نفسها فكانت سرعتها بالمقارنة بسرعة المطابع الحالية بطيئة. وانفردت مطبعة "المقطم" بإخراج الجريـدة مطوية إلى ما يُعادل ربع الطية الآلية لمعظم الصحف، أي في مقاس كتـاب سهل الحمل، وكانت لكل جريدة شخصيتها الخاصة، كما كان لكل كاتب أسلوبه الذي يتميز به؛ بحيث يستطيع القارئ أن يُميِّز أسلوب خليل تابت عن أسلوب أنطون الجميل، وأسلوب عبد القادر حمزة وأسلوب الدكتور محمد حسين هيكل باشا، في حين انتشر اليوم ما يمكن تسميته "بالأسلوب الصحفي" الذي يتعاطاه جميع الصحفيين، فتصعب التفرقة بين كاتب وكاتب.
والمؤكد أن الصحافة تقدمت اليوم في المجالات الفنية والطباعة، وفي سرعة انتقال الأخبار والاستعانة بالأقمار الصناعية في إعداد طبعات دولية وإقليمية، وهو ما لم تعرفه صحافة الأربعينيات والخمسينيات، فصارت الصحف اليوم إمبراطوريات بالمقارنة بالصحف في النصف الأول من هذا القرن. أما التحدي الأكبر الذي يواجه الصحافة اليوم فهو أن تكون صحافة مستقلة لا صحافة تابعة، وأن تُدرك أننـا في عالم مكشوف لا تخفى فيه خافية، وأن تتوافر أساسا على خدمة القارئ ورعاية مصالحه، وتمكينه من رفع صوته تعبيرا عن رأي ارتآه، أو شكوى من جور لحق به.
وفيما يتعلق بمجلة "المقتطف" التي يسمونها "بشيخة المجلات" فقد حملت راية العلم والعرفان سبعة وسبعين عاما، وكان البعض يصفها "بالمجلة الأستاذ" لأنها وسعت جميع علوم العصر، ولم تضـق بفن من الفنون، وإن حرصت على اجتناب كل ما يتناول العقائد وكل ما يتنافى مع الأخلاق، حتى رفض أصحاب "المقتطف والمقطم" نشر الإعلانات "المجزية ماديا" عن الخمور، حرصا منهم على مكـارم الأخلاق، كما أن "المقتطف" لم تحاول أبدا الترخص في الموضوعات التي تعالجها، فقد تكتب عن السينما باعتبارها صناعةً وتطوراً تكنولوجيا، ولكنها لا تعنى بالمشتغلين بالسينما من ممثلين وممثلات بالغة ما بلغت شهرتهم، كما أنها قد تُعرِّف بالمذاهب السياسية ـ ولكنها لا تُروِّج لأي منها ـ وتوضح مزايا وعيوب كل مذهب.
لقد كانت المجلة سجلا أمينا للعصر بعلومه وفنونه ومكتشفاته وآرائه وأعلامه وفلسفته. ولعل هذه الجدية الصارمة هي التي قضت على المجلة في ديسمبر 1953م بعدما زحفت التيارات السوقية فأطاحت معها بمجلات "الرسالة" للزيات، و"الكاتب المصري" لطه حسين، و"الكتاب" لعادل الغضبان، و"الثقافة" لأحمد أمين، و"مجلة علم النفس" ليوسف مراد، وبئست هذه السوقية!
*بعد عودتك مؤخرا للكتابة كيف وجدت صدى كتاباتك؟
-يُفهم من هذا السؤال أنني كنت محتجبا عن الكتابة وأنني عدتُ إليها مؤخرا. وواقع الأمر أنني لم أحتجب عن الكتابة يوما واحدا منذ ما حملت القلم وإلى يوم الناس هذا. وإذا كنت أملك أن اكتب في الوقت الذي أرتئيه، فإنني لا أملك وسائل النشر لأنها في أيدي أقوام آخرين. وهؤلاء يتحكمون في النشر وفقا لاعتبارات لا أملك من أمرها شيئا، فقد يُرجئون النشر شهورا بل أعواما، وقد يرفضون النشر بعذر "دبلوماسي" أو بدون عذر، كما أنهم يقيسون قامة الكتاب بمقاييسهم هم، ورأيهم هو الأمر النافذ، وإذا كنت ممن يدينون بقول الشاعر:
عَرضنا أنفساً عزَّتْ علينـا عليكم ، فاستخفَّ بها الهَوانُ
ولوْ أَنًّا حفِظْناها لعَــزَّتْ ولكـنْ كلُّ معروضٍ مُهـانُ
ولعل "العودة" التي يُشير إليها السائل هي استئنافي لكتابة "الأحاديث المستطردة" عن الأعلام الذين عرفتهم، والتي بدأتها في مجلة "الأديب" اللبنانية منذ خمسة وعشرين عاما، والتي صارت تُنشر في جريدة "الحياة" اليومية التي تصدر في لندن، وقد استأنفت كتابتها نزولا على رغبة هذه الجريدة المحترمة وترحيبا بالحيز العريض في صفحاتها الذي أتاحتـه لي، وليس من باب التفاخر أن أذكر أن أستاذنا العلامة الكبير الدكتور صلاح الدين المنجد، منشئ معهد المخطوطات في الجامعة العربية قد أخبرني بأنه يحتفظ بملف يضم هذه الأحاديث المستطردة، وهي شهادة تفوق عندي كل نياشين الدنيا وجوائزها.
ولعل العودة التي يعنيها السائل هي صدور كتابين لي في الأوان الأخير، أحدهما طبعة ثالثة من كتابي القديم "قضايا الفكر في الأدب المعاصر" وقد نشرتها دار الجديد في لبنان، والثاني كتاب "مختارات من الشعر العربي المعاصر وكلام في الشعر"، وقد نشرته لي دار "الأهرام" عن مركزها للترجمة والنشر، والكتابان حصيلة مطالعات كثيرة في الأدب المعاصر ظلت حبيسة في الصدر إلى أن أُتيحت لها فرصة الظهور ببادرة كريمة من الدارين الناشرتين، ولولا هذه المبادرة لظلت هذه الحصيلة حبيسة مع سواها مما لم تتح له أسباب النشر.
ومما يُؤسف له أن معظم الناشرين قد انحسر نشاطهم في النشر لاعتبارات شتى، منها ارتفاع تكاليف النشر، وما يُصاحب ذلك من ارتفاع أسعار الكتب فيتعذر عـلى طالبيها شراؤها، ومنها العقبات التي تعترض تسويق الكتب في البلاد العربية؛ ومنها الرسوم والضرائب المفروضة على عمليات تجهيز الكتب ومستلزماتها. ولو أنك طفت بكتاب تريد نشره على دور النشر المختلفة لقوبلت بالصدِّ حتى دون معرفة موضوع الكتاب، حتى لقد شكا لي أدباء كبار مثل محمــد عبد الغني حسن وعلي أدهم وحسن كامل الصيرفي ـ رحمهم الله ـ بأنهم لا يجدون لكتبهم ناشرا.
*ماذا عن كتاب "مختارات من الشعر العربي المعاصر وكلام في الشعر"؟
-في محاولة من مركز الأهرام للترجمة والنشر لتحقيق التواصل والألفة بين الأدباء العرب، أصدر من نحو عامين كتابا يضم مختارات من القصص كتبها أدباء من جميع البلدان العربية، وقدم لها أستاذنا الدكتور الطاهر أحمد مكي، وإزاء نجاح هذه التجربة ارتأى المركز إصدار كتاب يضم مختارات من الشعر المُعاصر من جميع الأقطار العربية، وأُسندت إليّ مهمة إعداده، فانصرفت إلى مراجعة بضع مئات من دواوين الشعر لعدد كبير من شعراء البلدان العربية لانتقاء القصائد الملائمة، وإني راعيت فيها عدة اعتبارات هي: تنوع الأغراض، وتباين الشعراء من حيث انتماءاتهم، وتمثيل جميع البلدان العربية ـ إن كان هذا مُستطاعا ـ. وبعد اختيار القصائد ترجمت لكل شاعر ترجمة موجزة، ثم علقت على كل قصيدة مُنتقاة وفقا لذوقي الخاص، ثم أعددت للكتاب مقدمة تبين رأيي في الشعر، وهو رأي يرفض كل ما خرج على نواميس الخليل تحت أي أسماء أو مسميات؛ فإذا أنت أردت أن تلعب كرة القدم ـ مثلا ـ فللكرة قواعد لابد من احترامها، وإلا أُخرجت من ساحة اللعب. فلماذا تُستباح إذن قواعد الشعر بدعوى التجديد أو الحداثة أو الإبداع؟
ولإعطاء فكرة عن الكتاب، أُورد بعض الأرقام المتعلقة به: فهو يقع في 400 صفحة، وفيه نماذج شعرية لخمسة وثلاثين شاعرا من 19 بلدا عربيا، ويضم النص الكامل لمئة واثنتي عشرة 112 قصيدة، مع تعليق على كل منها.
ومع أنني عرفت شخصيا عددا غير قليل من شعراء المملكة العربية السعودية فقد وقع اختياري على الشاعر أحمد سالم باعطب لأنه يمثل صوتا جديدا متميزاً، وإن لم أعرفه شخصيا.
*ما الفرق بين الترجمة والتعريب؟ وهل تعتقد أن الترجمة تراجعت في الوقت الحاضر؟
-الترجمة هي نقل نص من لغة إلى لغة أخرى بحرفيته.أما التعريب فهو في الألفاظ، يعني إسباغ ثوب عربي على لفظة أجنبية، كتعريب لفظة "ستالايت" وتعني القمر الصناعي إلى "سواتل".
والتعريب في النصوص هو أن آخذ مسرحية أجنبية مثلا وأستبدل بشخوصها الأجانب شخوصا عربية وأُغيِّر أسماء المواقع والمـدن إلى أسماء عربية، وأصوغ الحوار صياغة عربية لا يشترط فيها أن تُطابق النص الإفرنجي، والمسرحيات التي يُقال عنها إنها "مقتبسة" هي في حقيقة الأمر مُعرَّبة، أي أسبغ عليها طابع عربي بعد تجريدها من كل ما يدل على أصلها الإفرنجي.
ولا ريب في أن الترجمة تُعاني من ردة الآن بعد أن كانت مزدهرة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن. وقد يُقال إن سبب انحسار الترجمة هو أن كثرة من القراء باتت تُجيد اللغات الأجنبية، وآثرت بالتالي قراءة النصوص الإفرنجية عن النصوص المنقولة إلى اللغة العربية. وهذا القول ليس صحيحا على إطلاقه، لأن الكثرة الكاثرة من القراء تعتمد أساسا على الكتاب العربي لا الإفرنجي الذي ارتفع سعره ارتفاعا شاهقا، وكانت سوقه تقتصر على طلاب الجامعات وأساتذتها لاسيما في فروع الطب والعلوم وغيرهما من المواد التي مازالت تدرس باللغة الإنجليزية. وقد مرَّ علينا وقت كان فيه أساتذة وقفوا كل عمـرهم على الترجمة، مثل محمد بدران في مصر، وعادل زعيتر في فلسطين، ومنير البعلبكي في لبنان، وكانت هناك مؤسسات متخصصة في ترجمة الكتب مثل مؤسسة فرنكلين، ومشروع "الألف كتاب" في إصداره الأول، وكان هناك مترجمون أفذاذ يُقبلون على التـرجمة باعتبارها رسالة حيوية مثل: فؤاد صروف، وزكي تجيب محمود، وعلي أدهم، وإبراهيم زكي خورشيد، ودريني خشبة، وفؤاد أندراوس، ومحمد عوض محمد .. وغيرهم. ولكن هذه الطبقة الراقية انقرضت وتركت فراغا ضخما في دُنيا الترجمة.
وقد جد اعتبار جديد أسهم في انحسار حركة الترجمة الأدبية والعلمية، وهو انفتاح الأبواب على كل مصاريعها للترجمات التجارية أو الوثائقية أو القانونية الخاصة بالمُعاملات في دنيا المال والأعمال، وقضايا التحكيم وما إليها، فاجتذبت هذه الأعمال بما فيها منظمات الأمم المتحدة جملة كبيرة من الذين يُجيدون الترجمة، ووجدوا في جزائها المادي المعجل مالا يُقارن بأي جزاء يتقاضونه من ترجمة شكسبير، فحدث بسبب ذلك تفريغ للطاقة المُترجِمة التي كان يمكن حشدها في نقل الكتب الأدبية والعلمية.
وهناك اعتقاد خاطئ أن من يعرف لغتين يستطيع الترجمة من لغة إلى الأخرى، ذلك لأن الترجمة ليست عملا آليا يجتهد في أدائه كل صاحب لسانين، بل إن الترجمة علم وفن له قواعده وأصوله وله بالتالي خبراؤه الذين تمرسوا فيه طويلا على أيدي مشرفين وأساتذة كبار حتى استقامت لهم أدواتهم. أقول هذا من واقع التجربة؛ فقد طُلِب إليّ ذات مرة أن أُراجع نصا طبيا ترجمه طبيب متخصص يُجيد اللغتين الإنجليزية والعربية، فألفيته معيبا أشد العيب، واضطررت إلى صياغته من جديد بعد إبقاء المصطلحات الطبية دون تغيير.
وإذا عرفنا أن الكتب الجديدة التي تصدر في فروع المعرفة باللغات المختلفة تصل إلى عشرات الآلاف في كل سنة، عرفنا مدى ضخامة المهمة التي يتعيّن النهوض بها إذا ما أُريدت مُلاحقةُ هذا الحجم الهائل من ثمرات المطابع.
(2)
*ما رأيك في الرسائل الأدبية؟
-الرسائل ـ سواء أكانت أدبية أم غير أدبية ـ هي "مكاتيب" يتبادلها الناس لغاية معينة؛ فالرسالة التي يُوجهها أب إلى ابنه الغائب تمثل لهفة هذا الأب على أخبار ابنه، ونصائحه له، وتشتمل على أخبار الأسرة وزملائه. والرسالة التي يوجهها رجل أعمال إلى شركة أو مصرف هي رسالة تُقضى بها المصالح، وبعضها يُترجم إلى الملايين من الدولارات، والرسالة التي يُوجهها حبيب إلى حبيبته هي وعاء للتعبير عن مشاعره تجاه صاحبته، يبثها فيها كل لواعج قلبه، والرسائل التي يتبادلها الأدباء ـ وهم بشر كأصحاب الرسائل التي تقدمت الإشارة إليهم ـ يُراد بها التعارف، أو تبادل الرأي في قضايا الأدب، أو نقل الأخبار الأدبية، أو استيضاح أمر، أو طلب المشورة في إعداد بحث، وهلم جرا.
ولا تخلو هذه الرسائل ـ طبعا ـ من أمور شخصية، تتوقف درجة المُصارحة فيها على مـدى ما بين الطرفين من وُثقى الصلات. والرسائل الأدبية ـ شأنها شأن الرسائل الأخرى ـ تُرتجل ارتجالا، فهي ليست مقالا معدا للنشر يتعين على كاتبه أن يُراجعه مرة واثنتين وربما أكثر تدارُكا لأي عيب أو نقص فيه، وإنما هي كلام مُرسل، ومفروض ألا يخرج عن دائرة صاحبيه (المُرسل والمستفبِل).
ولا ريب في أن للرسائل بجميع أنواعها خصوصية مطلقة، بحيث لا يصح التلصص عليها، أو الاطلاع على فحواهـا، إلا إذا سمحت بذلك طبيعتها. ولا تخلو الرسائل الأدبية من هذه الخصوصية التي يتحتم معها إبقاؤها في الدائرة المحصورة بين صاحبيها ولاسيما لأن ذيوعها قد يسيء إلى طرفيها أو إلى الأشخاص الذين ترد أسماؤهم في هذه الرسائل.
ولهذا كله كنت ومازلت أعتقد أن من الأصوب إبقاء هذه الرسائل الأدبية ـ إن وُجدت ـ طي الكتمان، فلا يُؤذن بنشرها بدعوى خدمة الأدب، أو للاستعانة بها في تفسير أو تعليل بعض الظواهر الأدبية. وعندما نشر صديقي الشيخ محمود أبو ريّة "رسائل الرافعي" في طبعتها الأولى، اضطـر إلى استبعاد بعض الرسائل، وإلى إخفـاء بعض الأسماء التي وردت في سياقها، حتى لا يتأذى من نشرها من وردت أسماؤهم فيها. وعندما حان موعد نشر الطبعة الثانية كانت دواعي الحرج قد زالت، فنشر أبو ريّة كل ما لديه من رسائل، حتى ما كان استبعده أصلا، ثم وضع الأسماء في مواضعها دون حذف. وهو مايؤكد أن أبا ريّة استشعر حرجا شديداً وهو ينشر هذه الرسائل، وإن كان انتهى قراره إلى نشرها ناقصة ثم كاملة.
وفي اعتقادي أن قيمة الرسائل الأدبية ـ إن كانت لها قيمة ـ هي قيمة ثانوية جدا، بحيث يصعب استخلاص نتائج منها تُفيد الأدب أو تاريخه، أو تلقي أضـواء جديدة على شخصيات كتابها. والرسائل تختلف عن المذكرات أو اليوميـات التي يكتبها صاحبها، فهذه يجوز نشرها إن كانت ذات قيمة حقيقية، وإن لم يكن فيها ما يُسيء إلى أشخاص أحياء.
وصفوةُ القول إنني ما فتئت أرى أن تُدفن رسائل الأدباء بإكرام، وألاّ يُعتبر ما نُشِر منها وثيقة أدبية أو تاريخية يُعَوَّل عليها.
*احتفل مجمع اللغة العربية بدمشق ـ وأنت عضو مراسل به ـ بيوبيله الماسي في أواخر شهر نوفمبر الماضي (1995م)، فهل لك أن تحدثنا عن هذه المناسبة؟
-اليوبيل الماسي هو انقضاء 75 عاما على إنشاء هذا المجمع الموقر على يدي العلامة محمد كرد علي في عام 1919م، وهذه مناسبة لا تتكرر في حياة الأفراد وإن كان يُرجى أن تتكرّر في حياة المجامع. ومجمع دمشق يُلقّب "بأبي المجامع العربية"، لأنه سبـق إلى الوجود جميع المجامع الغربية الأُخرى في مصر والعراق والأردن وتونس والمغرب والسودان وفلسطين.
وقد ارتأى مجمع دمشق برئاسة الدكتور شاكر الفحام أن يحتفل بهذا العيد الماسي احتفالا أكاديميا وشعبيا أيضا يليق بهذه المناسبة الفريدة، فدعا إلى احتفال حظي بالرعاية السامية للرئيس حافظ الأسـد، وشارك فيه ممثلون من معظم البلدان العربية، ولوحظ تخلف ممثلي العـراق والأردن ربما لأسباب غير مجمعية، وعقد المجمع في عيده جلسات صباحية ومسائية تعاقب فيها المحدثون حول المحاور الرئيسية التي تم تحديدها سلفا، وكلها تُعنى بالأوضـاع المجمعية في الماضي والحاضر والمستقبل، والتحديات التي تُواجه المجامع في القرن المقبل.
وأُقيمت هذه الندوات في القاعة الكبرى بمكتبة الأسد، وكانت الدعوة إليها عامة، فشارك فيها جمهور غفير من عشاق الثقافة من الجنسين إسباغا للطابع الشعبي فضلا عن الأكاديمي على هذه المناسبة الفريدة.
ولوحظ في الأحاديث الجانبية التي دارت بين وفود المشاركين أن هناك بلدانا عربية لم تزل تفتقر إلى قيام مجامع فيها، على الرغم من أن لديها قاعدة كبيرة من رجال العلم والأدب يُستطاع بحشدهم تكوين نواة لمـشروع مجمعي، وقد أبديت للزملاء في هذه الأحاديث الجانبية دهشتي لأن السعودية مثلا قد تأخر قيام مجمع لغوي فيها على الرغم من أن فيها كوكبة كبيرة من قادة الفكر، مثل: حمد الجاسر، وعبد الله بلخير، وعبد الله عبد الجبار، ومحمد حسن فقي، وعبد العزيز الخويطر، وأحمد الضبيب، وعبد الله حمد الحقيل، وحسـن عبد الله القرشي، وعلي عبد الله الدفاع، ومحمود عارف، وعبد الله بن إدريس، وعبده يماني، وغازي القصيبي، وفؤاد عبد السلام فارسي، وعبد الله بن خمـيس، وعزيز ضياء، وعبد الله العثيمين، وعبد العزيز التويجري، وعبد المقصود خوجة. ولا ريب في أن قيام مجمع سعودي على أكتاف هؤلاء العلماء يمثل خطوة واسعة في سبيل النهوض بلغة الضاد ومشاركة المجامع اللغوية الأخرى في أعمالها الرامية إلى سك المصطلحات العلمية وتوحيدها، ومعالجة قضايا اللغة العربية، وتحقيق كتب التراث، وغير ذلك من الأنشطة المجمعية.
*هل بقي شيء عن العقاد ـ بعد انقضاء ثلاثين عاما على وفاته ـ مازال مجهولا للناس؟
-كثيرون تناولوا العقاد بعد وفاته ممن كانوا على اتصال وثيق به؛ فظهرت كتب وفصول لمحمد خليفة التونسي، وطاهر الجبلاوي، والعوضي الوكيل، وعامر العقاد، وأنيس منصور، عدا المسلسل التليفزيوني الذي أساء إلى العقاد أعظم إساءة. وكأنما كان هناك سباق بين حواريي العقاد على ظهور كل منهم بمظهر الأقرب للعقاد من سواه والأكثر وقوفا على أسراره وحياته الشخصية من جميع الذين عرفوه.
والعقاد الذي كان يوصف بالكاتب الجبّار والعملاق، هو إنسان يسري عليه ما يسري على أي إنسان آخر من حب وبغض، وفرح وحزن، ونجاح وفشل، وصحة ومرض، وهلم جرا.
وليس من الصواب أن يركز كاتب على ناحية من نواحي العقاد ليرسم له صورة، هي بالتأكيد صورة شائهة، في أذهان القراء. فالتركيز مثلا على "غراميات العقـاد" فيه ظلم شديد لهذا الكاتب العبقري الذي أخرج من نفائس الكتب أكثر من عدد سني عمره. فلسنا ننكـر أن في حياة العقاد "غراميات"، ولعل عددا من الذين كتبوا عنه كانت لهم بدورهم "غراميات". ولكن الإلحاح في هذا الجانب، والتوسع في إيراد أسماء النسـاء اللائي عرفهن العقاد، هو في اعتقادي ابتذال لايصح، مهما قيل من أن الحياة الشخصية للأدباء هي حياة عامة مباحة أسرارها للكافة.
فإن كان هناك شيء مازال خافيا في حياة العقاد ولا يعرفه الناس عنه، فإنني أوثر بقاء هذا الشيء مطويا حتى لا يُساء إلى هذا العملاق بأكثر مما أُسيء إليه. فلنقل لعارفي الأسرار الحقيقيين أو المزيفين: اتقوا الله في الحديث عن أعلامنا، واتركوا الناس يستشفُّون صورهم من كتاباتهم وآثارهم المنشورة، أو فلنقل لهم: من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة!
واليوم يتعرض بيت العقاد للهدم، والقضايا تُتداول في المحاكم لإخلاء البيت من ساكنيه بعد وفاة عامر العقاد وزوجته، وإقامة ناطحة سحاب في مكانه. أما مشروعات تحويل البيت ـ بعد ترميمه ـ إلى متحف للعقاد، فهي مشروعات يُسمعُ عنها ولا يُرى منها شيء عملي.
وإن الباقين على قيد الحياة من أصدقاء العقاد ـ وهم قلة ـ ليأسون لأن الرجل العظيم لا يكاد يكون مذكورا في حياتنا اليومية باستثناء ذلك الشارع العريض الذي أُطلق عليه اسم العقاد في مدينة نصر، وانتشرت فيه المتاجر الضخمة فطغت شهرتها على شهرة العقاد. ولو سُئل الناس اليوم عما يعرفونه عن العقاد لقالوا إنه الشارع الذي يقع فيه متجر كذا، أو مطعم كذا، أو محل أحذية كذا.
*في الذكرى السنوية الثانية لرحيل الأديب عبد العزيز الرفاعي، ما ذكرياتك عنه؟
-كنـت في السبعينيات أنشر سلسلة من المقالات في مجلة "الأديب" اللبنانية عن "الأدب والأحذية"، وهي سلسلة امتدت ست سنين تقريبا، وكنت في أثنائها أنبش في دواوين الشعراء وكتب النثر عن نوادر تدور حول الأحذية أو إشارات إليها على ألسنة الشعراء. وكنت وقتها أتلقى تعليقات كثيرة من أدباء أعرفهم أو أجهلهم، وكل منهم يرفدني بما وقع عليه من سير الأحذية في الكتب، وكان مما تلقيته نسخة من كتاب "فارس مدينة القنطرة" لصديقي القاص السوري الكبير عبد السلام العجيلي مهداة لا منه بل من عبد العزيز الرفاعي مع تنبيه بمراجعة أقصوصة عنوانها "مذاق النعل"، فكانت تلك بادرة أولى من الرفاعي توالت بعدها هداياه من سلسلة "المكتبة الصغيرة" ومطبوعات دار الرفاعي. وكان طبيعيا أن أتجاوب مع هذا الأديب الأريحي بالرسائل المنتظمة التي وقفت منها على سعة اطلاعه وعلى ما اتصف به من أخلاق كأخلاق النبلاء.
أما اللقاء الأول معه فكان من ترتيب المصادفات الجميلة إذ دخلت مكتبة في القاهرة لانتقاء بعض الكتب، فصادفت فيها الشيخ عبد القدوس الأنصاري والأستاذ أحمد الملائكة، وكنت أعرفهما فتبادلت التحية معهما، أما الشخص الثالث الذي كان يُرافقهما فلم أعرف هويته. فبادر الأنصاري بتقديمه إليّ، وكان عبد العزيز الرفـاعي. فتعانقنا ثم تبادلنا حديثا موجـزا وذلك لارتباط كل منا بمواعيد، وحدث بعد ذلك أن الأديب عزيز ضياء قرأ مقالا لي في مجلة "عالم الكتب" السعودية فعلّق عليه في جريدة "عكاظ"، وتساءل في بدايته عما إذا كنت فلسطينيا كما يوحي اسمي بذلك، وبادر الرفاعي بالرد عليه بكلمة كريمة في نفس الجريدة عنوانها: "وديع فلسطين ليس فلسطينيا"، روى فيها قصة هذا اللقاء الأول معه ومع الأنصاري والملائكة.
وتَوَاصَل البريد بيننا دون توقف حتى وهو يصطاف في أسبانيا أو هو يعالج في الولايات المتحدة، بل لقد هاتفني من أسبانيا للاطمئنان على أحوالي أثر الزلزال المدمِّر الذي أصاب مصر، كما تفضل بكتابة كلمة أُخرى عني في مجلة "الفيصل" أجرى فيها موازنة بيني وبين الدكتور زكي مبارك على ما بيننا من بون شاسع.
وكان من دواعي سروري أن أعلم بأنه اختير عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة لأن من شأن هذا أن يتيح لنا فُرصا سنوية للقاء بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي للمجمع الذي يشهده الأعضاء المراسلون، ولكن العمر لم يسمح له إلا بحضور مؤتمر وحيد قبل عامين تماما، وأصرّ يومها على أن أزوره في الفندق حيث جمعتنا جلسة جميلة مع أستاذنا الدكتور بدوي طبانة والصديقين العزيزين الدكتور يوسف عز الدين والدكتور إبراهيم السامرائي. ولما هممت بالانصراف أصرّ الرفاعي على أن يكمل الجلسة في مطعم الفندق، فأكلنا معا "عيشا ولحما" كما نقول في لغتنا اليومية تأكيداً لأواصر الأخوة والصداقة بين "الآكلين".
وإذا كنت قد ألمعت إلى مكرمات فاضت بها أريحية الرفاعي تجاهي، فقد أبديت له دهشتي من أنه يحرم نفسه من مكرماته، بل يظلمها ظلما شديدا، فقد كان ضنينا بنشر كتبه مؤثرا عليها كتب سواه، وكان يتواضع في الحديث عن كتبه فيسميها "محاولات". أما وقد آلت دار الرفاعي إلى نجليه علاء وعمار، فلعلهما يبادران بإخراج المخطوط من آثار الرفاعي ويحرصان على التقاليد الطيبة التي وضعها في انتقاء الكتب ونشرها، فالسمعة الطيبة التي كان الرفاعي يتمتع بها على الصعيد العربي كله هي تراث يحسن بالنجلين الكريمين أن يُحافظا عليه وفاءً لأبيهما وتشبها به.
وأعرف من مبرات الرفاعي ما أُوثر كتمان خبره، فقد كان جوّادا يُذكرنا بحاتم الطائي، وإن كان جوده قد ترامى إلى ما وراء البحار.
ولا أظنني مغالياً إذا قلت إن عبد العزيز الرفاعي كان بشخصه مؤسسة أدبية خيرية بلا حدود، وقد بكينا بفقده كثيرًا من الفضائل التي اجتمعت لديه وحببته لمن عرفوه عن قرب ولمن لم يعرفوه، وكذا يكون الرجال العظام.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:21 AM
‏وديع فلسطين‏ يري أن الترجمة أنقذته من الوقوف بابواب المسئولين‏:‏
الـقـارئ لـم يعـد مـوجـودا

أجرت الحديث: تهاني صلاح
............................
احد العمالقه الذين ملاوا الدنيا ابداعا وشغلوا الناس بنضالهم الثقافي‏,‏ الف وترجم العديد من الكتب الشامخه منها قضايا الفكر في الادب المعاصر‏,‏ ومختارات في الشعر المعاصر‏,‏ واسهم في اعداد بعض الموسوعات العربيه‏.‏ نلمح في كتاباته خفه الظل غير المتكلفه مع الوقار والجديه في صياغه متينه وهو يرسم بقلمه ملامح لشخصيات في الادب والشعر والثقافه والصحافه والسياسه والفكر‏,‏ شخصيات من كل الاقطار العربيه ومن كل مهاجر الدنيا‏.‏ صدر عنه وعن شخصيته العديد من المولفات والدراسات‏,‏ ويعرفه الكثيرون من الادبائ والمستشرقين في جميع انحائ العالم‏,‏ وبحسبه هذه الشهره الذائعه‏,‏ والسمعه الطيبه‏,‏ والفكر واسع الافق الشاسع والاحاطه بالكثير من المعارف والثقافات‏.
انه ‏««‏وديع فلسطين‏»»‏ الذي يحيا حياه مناضل بقلمه في سبيل اعلائ كلمه الاديب وحريه الفكر‏,‏ فهو من اقدم خريجي قسم الصحافه بالجامعه الامريكيه وعمل بها لاكثر من عشر سنوات كاستاذ‏,‏ ورغم انه عضو بالمجمع اللغوي في كل من سوريا والاردن‏,‏ الا انه لم يحظ حتي الان بعضويه مجمع الخالدين بالقاهره‏,‏ وعلي الرغم من تكريمه في عدد من البلاد حيث كرمته الحكومه الاسبانيه بمنحه اكبر نيشان ثقافي وكرمته السعوديه في دورتها الاثنينيه التي يقيمها الشيخ عبدالمقصود خوجه كل اثنين‏,‏ الا انه في مصر لا يشعر به احد وتتجاهله الجوائز المصريه‏.‏
ورغم كل ذلك ورغم تجاوزه الثمانين من العمر‏,‏ الا انه مازال يثري حياتنا الثقافيه‏,‏ حيث صدر له اخيرا كتاب ضخم من جزاين بعنوان وديع فلسطين يتحدث عن اعلام عصره ويرسم من خلاله صورا شبه حيه لـ‏95‏ علما من الاعلام الذين عرفهم في مسيره حياته وكان لهم اسهام في الحياه الفكريه المعاصره وهو بذلك يعطي صوره لعصر كامل من عصور الادب والفكر‏,‏ ولهذا ولغيره كان حوارنا مع الاديب المبدع وديع فلسطين‏.‏
‏ البعض يعتقد ان لك جذورا شاميه‏,‏ فهل هذا صحيح؟
ولدت في اخميم بصعيد مصر‏,‏ من ابوين مصريين‏,‏ ولكن قد يكون ذلك الاعتقاد بسبب عملي في الصحافه منذ الاربعينيات مع الشوام سوائ في جريده الاهرام‏,‏ ثم بعد ذلك في المقطم‏.‏
‏‏ اليوم اين انت من الحياه الثقافيه ولماذا ابتعدت عنها؟
بصراحه احسست اني خارج الهيئه الادبيه‏,‏ ففضلت الاعتزال بنفسي قبل ان تقال لي‏,‏ فمنذ عام‏1942‏ وانا اعمل بالادب والصحافه‏,‏ وكنت في خضم الحياه الادبيه‏,‏ وبعد قيام الثوره‏1952,‏ وبالتحديد في اكتوبر اعتقلت ـ دون سبب ـ ولم استطع بعد ذلك العوده مره اخري الي العمل بالصحافه وابتعدت وبدات اكتب خارج مصر في لبنان وتونس وغيرها‏,‏ ومنذ ذلك الحين وانا معتزل الجهات الرسميه ولا اريد الانخراط في الانشطه الخاصه بالثقافه خاصه بعد اختلاط العمل الثقافي بالعمل الرسمي واصبحت بلا وظيفه‏,‏ ففضلت ان اكون نبتا شيطانيا‏.‏
‏‏ انت تعد شاهد مالك علي احداث ثقافيه كثيره حدثت خلال فتره طويه من الزمن‏,‏ تري ما الفرق الان بين مثقف القرن العشرين ومثقف القرن الحادي والعشرين؟
الفارق كبير‏,‏ فاليوم مع انتشار وسائل الاعلام المتعدده اصبح المثقف يلتقط الثقافه التقاطا بمعني لا داعي لقرائه نجيب محفوظ مثلا او غيره ويكتفي بمشاهده اعماله في السينما او التليفزيون‏,‏ فاصبح اليوم هناك استخفاف بالثقافه من جانب المثقفين ويريدون التقاطها التقاطا عجلا وهذا ما الاحظه في كتاباتهم‏.‏
‏‏ لك دراسه نقديه عن الشعر المعاصر تدعو فيها للعوده الي عموديه القصيده وتحرير الشعر من الغموض فما رايك فيما يسمي بالشعر الحر او قصيده النثر؟
لكل شيئ قواعد ومنه الشعر وهذه القواعد استقرت عبر سنوات طويله‏,‏ ثم جائت جماعه تريد التجديد‏,‏ وهم متمسكون بلفظه الشعر‏,‏ وانا اقول كل كلام حلو يعد ادبا فلماذا نطلق لفظ شعر علي شيئ ليس له صله بالشعر كما عرفناه ودرسناه‏,‏ واطلق عليه ديوان العرب انا لست معترضا علي هذا الشعر باعتباره ادبا‏,‏ مي زياده كانت تكتب هذا النوع من الادب‏,‏ ولم تطلق عليه شعرا وكانت تسميه خواطر او سواغ‏,‏ حتي بيرم التونسي كان يقول انه زجال وليس شاعرا‏,‏ اما الان اي زجال يطلق علي نفسه شاعرا‏,‏ فهولائ يتمسحون بلفظه الشعر في حين انه يمكن ان يطلق عليها ايه صفه اخري تندرج تحت الادب طالما استقامت له المعايير الادبيه‏,‏ وانا اقرا اشيائ كثيره لا افهمها ويكتنفها الغموض‏,‏ فالحكمه في الادب التفاعل بين الكاتب والقاريئ‏,‏ فاذا لم يستطع الكاتب ان يحقق التواصل بينه وبين المتلقي‏,‏ فلم يحقق الرساله المطلوبه من الادب‏.‏
‏‏ ‏««‏وديع فلسطين‏»»‏ لمحرره المجله : الخصومات الموجوده بين البلاد العربيه تنعكس علينا كمثقفين
وهل تعتقد ان الشعر مازال ديوان العرب‏,‏ ام ان الروايه تصدرت لتصبح ديوانا للعرب؟
الشعر ديوان العرب حقيقه تاريخيه لا سبيل الي تغييرها‏,‏ اما اذا كان هناك فن اخر اصبح له الغلبه‏,‏ فمعني هذا انه لا يحل محل الشعر‏,‏ فاليوم لا يمكن ان نلقي البحتري او المعري او المتنبي‏,‏ ولكن لماذا لا يكون هناك ديوانان احدهما للشعر والاخر للروايه‏.‏
‏‏ ما رايك في الاتجاهات النقديه الحديثه؟ وهل النقد اليوم يقوم بدوره تجاه المبدع؟
الاتجاهات النقديه الحديثه اغلبها مستورد من الخارج‏,‏ وهذه المذاهب يستخدمها البعض وانا اري انها ليست ملزمه لاي شخص ولماذا نستخدمها‏,‏ ولا نستخدم منهج محمد مندور وهو متعلم في فرنسا وعندما كتب عن النقد المنهجي عند العرب تحدث عن الاصول العربيه في النقد‏,‏ يقال ان هناك تقاربا بين اللغات‏,‏ فهل اخذ الغرب عن العرب القواعد النقديه والشعريه في كتاباتهم بالتاكيد لم يحدث ذلك‏,‏ فلماذا ناخذ نحن عنهم خاصه وان اغلب هذه المذاهب انتهت في بلادها ولم تعد تطبق اطلاقا‏,‏ اما النقد الادبي اليوم فاصبح مجاملات‏,‏ ولم يعد هناك ناقدا محترف في قامه محمد مندور او سيد قطب او انور المعداوي‏.‏
‏‏ قمت بترجمه العديد من الاعمال الشامخه منها قضايا الفكر والادب المعاصر‏,‏ تري ما دور هذه الترجمات في اثرائ الحياه الثقافيه‏,‏ وهل المشروع القومي للترجمه يكفي وحده؟
للترجمه اهميه كبري في التواصل بين الشعوب ومن خلالها يتعرف الانسان الي الاخر‏,‏ ولهذا فهي تحتل مكانا متميزا‏,‏ وقديما علي ايامنا كانت الطريقه المتبعه في الترجمه حينما اقرا كتابا واعجب به اقوم بترجمته ونشره‏,‏ وبذلك كانت تعتمد علي شخصيه المترجم فقط‏,‏ بعد ذلك قامت بعض الهيئات لتشجيع الترجمه مثل موسسه فرانكلين في مصر وكانت تختار الكتب والمترجمين وتقوم بعمليه النشر ولانها كانت موسسه امريكيه‏,‏ فكانت حريصه علي ان تكون كل الكتب المترجمه امريكيه‏,‏ ثم اختفي دورها بوفاه موسسيها واليوم اقامت الدوله المشروع القومي للترجمه‏,‏ ولا ادري من هم ورائ هذا المشروع وهل هناك لجنه متخصصه وخطه موضوعه لاختيار الاعمال المترجمه‏,‏ وعلي اي اساس‏,‏ انا لا استطيع ان اقيم هذا المشروع ولكن اعتقد ان المشكله الاساسيه بالنسبه للترجمه والتاليف ايضا هو القاريئ الذي لم يعد موجودا‏.‏
‏‏ انت تعد من القلائل بل المصدر الوحيد في مصر الان لادب المهجر‏,‏ فلماذا لا تقوم باحيائ هذا النوع من الادب وذلك التراث المهمل الذي لا يعرف الكثيرون عنه شيئا؟
ادب المهجر اخذ مني اهتماما كبيرا‏,‏ ومع الاسف هو مهمل تماما الان في مصر‏,‏ حتي اساتذه الجامعه لا يعرفون عنه شيئا ولا يدرسونه‏,‏ فهذا التراث الضخم الذي تركه ادبائ المهجر يجب الا يهمل هكذا خصوصا انهم كانوا يتبنون القضايا العربيه في المهجر‏,‏ وكان لهم صوت مرتفع في مناصره جميع القضايا العربيه‏,‏ وكل الظلم الذي لحق بهولائ الشعرائ ان شعرهم موزون مقفي‏,‏ والان اصبح ليس لهم سوق ما وانا في كتابي الاخير اعلام عصر تحدثت عن معظمهم في فصول كامله‏.‏
‏‏ ولماذا لم تكتب كتابا مستقلا يتحدث عن ادب المهجر واعلامه؟
اذا وجدت ناشرا وطلب مني هذا ساقوم فورا بكتابته‏,‏ خاصه وان هذا النوع من الادب مراجعه قليله جدا بل نادره ونفدت من المكتبات ولم يتم طبعها مره اخري‏,‏ وكثير من الباحثين الذين يريدون التخصص في هذا النوع من الادب لا يجدون له مراجع في دار الكتب ولا في مكتبات الجامعات ولا حتي لدي اساتذتهم‏.‏
‏‏ كيف تري واقع الثقافه العربيه الان في ظل الظروف الراهنه؟
ساطع الحصري كان يدعو للقوميه العربيه حيث دعا الي قيام وحده عربيه فوريه من كل الجهات‏,‏ قلت له نبدا من حيث نتفق وليس من حيث نختلف‏,‏ لذا يجب ان نبدا بالثقافه والادب‏,‏ والان الخصومات الموجوده بين البلاد العربيه تنعكس علينا كمثقفين بمعني ان التواصل الثقافي اليوم بين الدول العربيه اصبح صعبا حتي تبادل الكتب اصبح عسيرا بسبب الجمارك‏,‏ فالتواصل بين المثقفين يقوم علي الاتصال الشخصي فقط من خلال الندوات والموتمرات‏,‏ اما الاجهزه الرسميه فهي خارج هذا التواصل وعليك ان تحكمي علي هذا الواقع في ظل هذه الظروف‏.‏
‏‏ هل معني هذا ان المثقف اليوم ليس له دور فيما يحدث في العالم العربي؟
اذا اتيحت له الفرصه يستطيع ان يقوم بدوره ولكن اين هي الفرص؟ علي ايامنا كان هناك العديد من المجلات مثل الثقافه والرساله والمقتطف والاديب‏,‏ وغيرها وكان المثقف يقوم بدوره من خلال هذه المجلات بالتعبير عما يجول بخاطره بصراحه وامانه‏,‏ واليوم بعد اختفائ هذه المجلات واصبحت المجلات والصحف حكوميه تصدر عن الدوله وتتحكم فيها معايير ومقاييس كل دوله‏,‏ وبالتالي فالمثقف الذي يريد ان يعبر عن نفسه ويقوم بدوره عليه ان يتكيف اولا مع الجهه التي يكتب فيها‏.‏
‏‏ سؤال اخير كيف يعيش وديع فلسطين الان؟
مررت بظروف مختلفه كما قلت‏,‏ وفي النهايه وجدت خلاصي في الترجمه بكل انواعها‏,‏ فالترجمه هي التي انقذتني من الوقوف بباب اي شخص‏,‏ وبالتالي فعملي الاساسي هو الترجمه وان وجدت متسعا من الوقت اعمل في الادب ونشاطي الادبي مرهون بالطلب بمعني اذا كلفت من دور نشر بعمل ادبي معين‏,‏ اقوم به واذا لم اكلف افضل العمل بالترجمه‏.‏
‏‏ وماذا يدخر وديع فلسطين للقاريئ من اعمال ادبيه في طريقها للنور؟
اكتب مقالا شهريا في مجله الهلال عباره عن ذكريات او خواطر‏,‏ وهناك ناشر يلح علي في جمع هذه المقالات لنشرها في كتاب وانا لا امانع من حيث المبدا باعتباره امتدادا للكتاب الاخير‏,‏ ولكن قد يختلف عنه في المنهاج‏,‏ وانا الان في سبيلي لجمع هذه المقالات‏*‏
...........................
[نقلاً عن "الأهرام العربي"]

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:23 AM
وديع فلسطين: السهل الممتنع

بقلم: صافي ناز كاظم
......................

اليوم أول أكتوبر 1997 يوافق ـ بحمد الله ـ عيد ميلاده الرابع والسبعين، ومع ذلك وعلى الرغم من مسيرته الطويلة في عالم الصحافة والأدب ـ 54 سنة تقريبا ـ ورغم كوني واحدة من الذين كانت حياتهم على مدار 42 سنة، في دائرة الصحافة، إلا إنني لم أعرفه ولم أقرأ له، بل ولم أسمع عنه، إلا منذ أربعة أعوام حين اشتـركت في جريدة "الحياة" اللندنية وبدأت أقرأه بانتظام، بل لعلي أكون أكثر دقة لو قلت إنني عندما كنت أتصفّح جريدة "الحياة" اللندنية وتلقف عيني زاويته "حديث مستطرد" أبتسم وأقول: "اليوم يستحق أن أنهض له". في البداية عندما كنـت أقرأ اسمه "وديع فلسطين"، وأجد في الهامش تعريفاً مستمرا له "كاتب مصري"، أتعجّب وأقول: من أين ظهر هذا الكاتب المصري؟ وعلى أي أرض يعيش؟
ولا أكتم أنني في البداية كنت أقفز فوق زاويته ولا أقرأها خوفاً من أن يكون من كتاب الأحجار والإسمنت، وأقول لنفسي: "حديث مستطرد؟ إحنا ناقصين؟!" حتى جذبني عنوان مقالة عن الشاعر البائس محمود أبو الوفا" المنشور بالجريدة (الجمعة 10 فبراير 1995)، عندها تنمّرت ، وعدتُ أقول لنفسي: ماذا يمكن أن يكون مكتوباً عن شاعر أُحِبُّه، صاحب أجمل الأشعار للأطفال؟.
بدأت أقرأ كعادتي بتوجس، متوقعة كتابة مملة بطيئة أو رثة مليئة بالشحوم والثرثرة، أو كتابة إسمنتية مليئة بالصياغات السابقة التجهيز التي تملأ الصفحات ولا تعرف من أين تقضمها من دون أن تكسر أسنانك، تشاؤمي هذا ـ الذي يُصاحبني قبل قراءة أي اسم غير مألوف لدي ـ سببه التجارب المريرة مع الكتابات التي صارت للأسف تغرق معظم أوراق الصحف والمجلات والأبحاث والكتب. ذلك التشاؤم والتثاؤب ينقشع حالا حين أجدني مسحوبة إلى داخل الأسطر من دون أي كدمات تذكر، فكيف يكون أمري حين أجدني أكتشف مراعي كتابة مذهلة الجمال والإحكام، ريانة كقلب الخَسّة، ومفيدة كغذاء ملكات النحل؟ أقول لكم إجابتي بحق: إنني أفرح فرحاً لا يساويه إلا فرحة تجسّدت أمامي مرة ـ حين كنت معتقلة سياسية بسجن القناطر ـ تجسدت في امرأة كان محكوما عليها بالإعدام، وجاءها خبر حكم محكمة الاستئناف بالبراءة. يا إلهي! كم هي حلوة الحياة!
قرأت قطعة الأستاذ وديع فلسطين عن "أبو الوفا"، وتذكرت أغنية عبد الوهاب: "وبكيت على الأيام اللي فاتت من عمري، وقلت م الفرحة ياريتني …"، وغيّرت بقية كلمات الأغنية إلى "قريت من بدري".
وقرأت له، وقرأت، ولم أنقطع، حتى أنني في لحظات الضيق أفتح ملفه الرابض على مكتبي وأُعيد قراءة بعض ما قرأت من قبل فأستعيد نشاطي وإقبالي على الأيام الرمادية.
* * *
في كتابته ذقت خفة الظل غير المُتكلّفة مع الوقار والجدية، وذقت حلاوة نادرة في صياغته المتينة وهو يرسم بقلمه في "حديث مستطرد" ملامح لشخصيات في الأدب والشعر والثقافة والصحافة والسياسة والفكر، شخصيات من كل الأقطار العربية ومن كل مهاجر الدنيا، عاصرها في شبابه منذ مطلع الأربعينيات وصاحب مسارها حتى توفاها الله. شخصيات قد لا يعرف المثقف العربي من جيلي إلا أسماءها ـ بالكاد ـ وإذا بوديع فلسطين يبعثها نابضة بالحياة والحيوية، مبرزاً أبعـادها في مرحلتها وأهميتها في تاريخنا وضرورتها لتعِيَها ذاكرةُ الأجيال وراء الأجيال.
* * *
يعقد وديع فلسطين بيننا وبين الشخصية التي يكتب عنها علاقة إنسانية حميمة تجعلنا حين نتحدث نحن عنها ـ بدورنا ـ نبدو وكأننا قد سكنّا وعشنا معها ردحاً كافياً من الزمن. ومهما كانت الشخصية محسوبة على نسق في التفكير أو موقـف في السياسة، نختلف معه أو نعاديه، نجد أننا نتقبّلها على الرغم من الخلاف أو العداء، فوديع فلسطين قادر في كل الأحوال أن يجذبنا إليه بحنين إنساني يُروِّض ـ بجلاله وأناقته ـ نفورنا الفكري أو السياسي فيكسر من حدّته.
إذا قلت إن وديع فلسطين هو "ملك" فن كتابة رسم الملامح الشخصية الأدبية والثقافية، لا أكون مُغاليةً أو مُبالِغةً (وإن كنت على فكرة لا أتحرّج مما يبدو مبالغة ومغالاة مني في التعبير عن حبي وإعجابي بفن الكتابة الفريد والفذ عند وديع فلسطين). يا سبحان الله! من يلوم الظمآن يفرح طروباً حين يعثر على عين مياه عذبة في صحراء، مياه لم تُلوِّثها نفايات المصانع والمحاجر والمبيدات؟).
نتبادل أنا والكاتبة الصديقة فوزية مهران مكالمات تليفونية عقب قراءة كل مقال له. أبدأ بقولي: "شوفتي؟"، فتقول: "كنت سأكلمك.." تعترف لي أنها تقصُّ زاويته "حديث مستطرد" وتجمعها وهذا إجراء لم تقم به مع كاتب آخر من قبل. هذا التقدير يأخذ صِيغاً مختلفة عند كل قارئ لهذا الكاتب "الجديد-القديم" فهو لم يكف أبداً عن الكتابة على طول مشوار حياته الأدبية والصحفية على الرغم من النوازل والمعوّقات والعقبات والسدود والحواجز والحصار الذي عانى منه منذ ديسمبر 1952، عندما أغلقت الدار الصحفية التي لمع على صفحات جريدتها المسائية اليومية "المقطم" ومجلتها الشهرية "المقتطف" ـ وهي الدار الثانية في أقدمية إنشـائها بعد دار جريدة "الأهرام". وهكذا كان على وديع فلسطين، وهو في أوج شهرته ونبوغه الصحفي ـ وعمره 29 سنة فقط ـ أن يواجه الاضطهادات والافتراءات ويحاول رغم كل الثلج وكور النار أن يسبح فوق الأمواج المُعادية والمُتلاطمة شراعه وقاربه ومجدافه ورايته: قلمه الأصيل الجميل، وإخلاصه الشديد للغة العربية.
أقف أمام بعض مفرداته وأندهش لأنني لا أذكر أني قرأتها إلا في بعض آيات القرآن الكريم، ينتقيها بتذوق ويضعها ـ كالصّائغ الماهر ـ في مكانها المناسب تماماً، وحين تُفاجئك كلمة مثل "ولا يؤوده" في توظيفها الجديد تبتسم للشجاعة والبراعة وللتألق، وتزداد الدهشة حين نسترجع أن هذا القادر على التملك الباهر الجذّاب لناصية اللغة العربية، يشكلها بسلاسة وأُلفة وبشاشة ـ كان راسباً دائماً في مادة اللغة العربية في كل شهاداته الدراسية!
* * *
مع إعجابي المتزايد بمقالات وديع فلسطين ـ (الذي ظنه الكثير لبنانيا أو فلسطينيا وهو المولود في أخميم، البلدة الصعيدية على الشط الآخر من سوهاج، من أب وأم قبطيين من مدينة قنا) ـ كان لابد أن أبحث عن وسيلة ما للاتصال به على الأقـل، لأقول له: "أشكرك على كل هذا الجمال الذي تشيعه في كتابتك". لذلك حيـن ذكر في معرض إحدى مقالاته اسم الكاتب الصديق الكبير محمد عودة وجدته الخيط المفيد الذي مكنني من معرفة أن وديع فلسطين من سكان مصر الجديدة. كان في دليل الهاتف أكثر من مشترك تحت اسم "وديع فلسطين"، لكنني حينما حصرت الاختيار في ساكني مصر الجديدة التقطت رقمه.
وصلني صوته عبر الهاتف طيبا، متعجبا لإطرائي، زاهداً فيه زهدا كاد يصل إلى حد الزجر! هذا الزهد وهذا التواضع عند وديع فلسطين فوق أنهما من سمات برجه الميزان ـ ربما يكون وراءهما حـزن نبيل لواحد من الذين يمكن أن ينطبق عليهم المثل القائل: "كل نبي مغبون في وطنه". لكنني أقول: هكذا هي سنتنا، مصر المحروسة دائماً في أحشائها الدر كامن، ولابد لنا أن نصبر صبر الصيادين، ونخترق الزبد لنصل إلى ما ينفع الناس، الماكث في الأرض. سبحان الله!
نجحت في أن أجلب لنفسي صداقة عظيمة معه، كان عليَّ أن أكدح كدحاً لنيلها عبر محادثات هاتفية ثقافية ثرية وشائقة عمقت هذه الصداقة على الرغم من أن لقاءاتنا لم تتعدّ عدد أصابع اليد الواحدة. غمرني بكرم عطاياه بكل ما طلبت من كتبـه ومن مقالاته ودراساته، أجمعها في حيز وحدها بمكتبي من أهمها كتابه: "قضايا الفكر في الأدب المعاصـر"، الطبعة الثانية التي أخرجتها دار الجديد ببيروت تحية له بمناسبة بلوغه السبعين عن الطبعة الأولى التي أصدرها بالقاهرة سنة 1959م المكتب الفني للنشر، وعلى ظهر الغلاف نقرأ حكمته: "فليختلف الأدباء على المذاهب الأدبية المتباينة ، وليتناحروا على المعايير، وليتضاربوا ـ إذا شاءوا ـ على إمارة الشعر أو إمامة الأدب، ولكن حذارِ أن يضحوا بهذه القِنْيَة الغالية قِنية الحرية الفكرية وهم يتلاحوْن ويتنابذون". ثم كتابه "مختارات من الشعر العربي المعاصر، وكلام في الشعر" الذي أصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1995م، وقلت له: "أحببت مقدمتك وتلذذت بقراءتها وإن اختلفتُ مع آرائها، أما المختارات فالسلام عليكم ورحمة الله". ضحك، واحترمنا "قنية الحرية الفكرية ولم نتلاح أو نتنابذ".
كل ما يعجبني "عنايته" بفن "الكتابة"، تلك العناية ـ التي وإن كانت وسيلة لتوصيل قوله ـ فقد صارت بذاتها غاية فنية، ونزهة إمتاع للقارئ.
* * *
من جملة من تحدث عنهم في "حديث مستطرد": "علي الغاياتي: المصري السويسري"، و"إبراهيم المصري: القصاص الذي ابتلعته الصحافة"، و"أبو علي جورج خير الله"، و"الشاعر المهجري: جورج صيدح"، و"أشياء من سيرة بشر فارس رائد الرمزية المجهول في الشعـر العربي الحديث"، و"عبد الله يوركي حلاق الحلبي"، و"علي أحمد باكثير: اليمني المتمصر"، و"خليل مطران وصديقه يوسف نحّاس". غير أن لوحته الرائعة عن وداد سـكاكيني التي لم تتعد 14 صفحة من مجلة "بناة الأجيال" الدمشقيـة، وتم نشرها في يناير 1995 تحت عنوان "وداد سكاكيني في حياتها وآثارها"، تُعد من الدراسات التي تعطيك بصفحاتها المحدودة متعة وثـراء كتاب ضخم. يستهل وديع فلسطين دراسته بقوله: "في الثالث من كانـون الثاني (يناير) 1991م فاضت روح الأديبة العربية الكبيرة وداد سكاكيني بعدما أجزلت عطاءها للغة الضاد، وأكّدت منزلتها الفريدة في أدبنا المعـاصر، ولئن كتمت أحزاني المُمضة على هذه الأديبة الماجدة، التي ارتبطتُ بها وبزوجها الراحل الدكتور زكي المحاسني بمودات وُثقى منذ أواسط الأربعينات، فعزائي في فقدها هو أن أُحاول إنصافها في هذه الصفحات..".
وهكذا، فهو لا يكتب إلا عن شخصيات عرفها ولامَسَها سمعا وكلاما ومُصاحبة، فلا عجب أن تحس منه نبضها الحي فكأنك صرت ـ بدورك ـ صديقا لها؛ يكتب في مجلة "الأديب" البيروتية عدد يناير 1979م تحت عنوان "حديث مستطـرد عن إبراهيم ناجي ورابطة الأدباء" ما نراه غضبا من الذين يتصدون للكتابة عن المعاصرين "… لا حديث معرفة شخصية، بل حديث عنعنة، أي أنها اقتصرت على السمـاع وعلى النقل، أما الشاعر فلم تستقصها منه ـ وهو قريب العهد بنا ـ ولا من معاصريه ومُخالطيه، بل روتْها نقلا عن الذين وضعوا مؤلفات سابقة عن نـاجي … وأقول في غير تجن على أحد إن الكتب التي تناولت الشاعر ناجي إما أشارت إشارة سريعة إلى رابطة الأدباء التي كان له فيها دور ريـادي نحو ثماني سنين وإما أغفلت الإشارة إليها إغفالا تاما، ولما كنت من الضالعين في رابطة الأدباء منذ إنشائها وإلى أن هجرتُها ثم هجرها ناجي بُعيْدي فقد ارتأيتُ أن أُرسل الحديث عن هذه الرابطة وأن أتطرّق إلى ما أعرف من أخبار ناجي وأموره في هذا الحديث المستطرد …".
هو فنان شهادة أدبية على عصر أدبي وثقافي يأبى إلا أن ينقل إلينا أنفاسه التي لا تزال لديه ساخنة كأنه لم يبرحْه. في موضوع ناجي سمعت منه عن الطعنة التي قتلت الشاعر الطبيب العملاق الرهيف ذلك عندما وجد اسمه ضمن قائمة "تطهير" من "الفساد" و"المنحرفين" بعد 23/7/1952م، وكيف رأى ناجي يبكي ويمرض ويموت في مارس 1953م، ويكتب هذه الواقعة في حديثه عن ناجي:
"ولكن داهية أكبر كانت تنتظر ناجي، وقد تمثلت هذه الداهية في قرار ظالم اتُّخِذ بفصله من وظيفته كمدير للإدارة الطبية لوزارة الأوقاف متهما بعدم الإنتاج، وورد اسمه في صدر قائمة التطهير التي أُعلنت، وكان لهذا القرار وقع نفسي صاعق على الـدكتور ناجي الذي كان يُعالج الفقراء ويمنحهم من جيبه ثمن الدواء. والذي كان ـ كما أخبرني بذلك نقولا الحدَّاد العالم الشهير ـ متوافقا مع صيدلية الحداد أسفل عيادته في شبـرا بأن تقدم الدواء للفقراء من مرضى الدكتور ناجي وتقيِّـد ثمنه على حساب الدكتور المُعالج! فهذا الطبيب العالم الإنسان قد وجب تطهيره وفصله من وظيفته دون أن تُتاح له فرصة للدفاع عن نفسه، ودون أن يُجرى أي تحقيق في هذه القرية الظلوم التي زهّدت ناجي في الحياة، ولم تلبث أن صرعته صرعة الموت … ولما سمع ناجي أن الحكومة الأسبانية قلدتني وساما رفيعا، زارني في "المقطّم" ـ الجريدة ـ مهنئا، وكتب أبياتا في هذه المناسبـة، ثم انفجر باكيا لا على وظيفة ضاعت منه، بل على وصمه بأنه أهل للتطهير وإيراد اسمه في أول قائمـة المطّهَّرين، وظل يجهش بالبكاء وأنا أُواسيه إلى أن انصرف. وكنتُ بعد انصرافه أتوقع قراءة نعيه في الصحف كل يوم لأن حالته النفسية كانت في الحضيض، وقدرته على المقاومة قليلة بسبب هُـزاله المفرط، ولم يطل انتظاري، إذ قرأت نعيه في الخامس والعشرين من مارس 1953م، فبكيته وقلت للمعزِّين ونحن نتبادل العزاء: "لقد مات ناجي لا اليوم بل في التطهير".
* * *
في مقاله بجريدة "الحياة" 11/1/1995م كتب وديع فلسطين مقالا مهما تحت عنوان: "حديث حـول بدايات نجيب محفوظ عبد العزيز" اعتنى فيه بذكر حقيقة أنه كان الثاني ـ سابقاً على سيد قطب ـ في التنبيه والإشادة بعبقرية نجيب محفوظ، تلك الحقيـقة التي يُضايقه أن نجيب محفوظ لا يذكرها أبداً في أي معرض لحديثه عن الذين نبَّهوا إليه في بداية مشواره الروائي. يقول وديع فلسطين ـ في هذا ـ عند حديثه عن تأسيس "لجنة النشر للجامعيين": "وافتتحت السلسلة في شهر مايو 1943م (كان وديع فلسطين لم يبلغ بعد العشرين) برواية "أحمس" لعبد الحميد جودة السحار، وتلتها رواية "رادوبيس" لنجيب محفوظ عبد العزيز. ولعله اختار هـذا الاسم الثلاثي حتى لا يخلط الناس بينه وبين الطبيب المصري ذي الشهرة العالمية الدكتور نجيب محفوظ باشا، وتوالى نشر الكتب في مطلع كل شهر، مما شجع شبانا آخرين على مُؤازرة لجنة النشر للجامعيين، مثل: محمد عبد الحليم عبـد الله ـ وكان بدوره قد فاز بجائزة وزارة المعارف عن روايته "بعد الغـروب"، ومثل صلاح ذهني، وأمين يوسف غراب، والشيخ الأزهري كامل محمد عجلان، وكاتب هذه السطور. كما ارتفعت قامة اللجنة عندما قصدها أدباء كبـار لنشر آثارهم مثل إبراهيم عبد القادر المازني، ومحمود تيمور، وكامل كيلاني، وإبراهيم المصري، ومحمود محمود (شقيق الدكتور زكي نجيب محمـود)، والأديبة السورية وداد سكاكيني. ورحبت اللجنة بناقد الرسالة سيد قطب فنشرت له كتابه "طفل في القرية"، وبأشقائه فنشرت لمحمد قطب كتاب "سخريات صغيرة"، وللأخوة الأربعة سيد ومحمد وأمينة وحميدة قطب مجموعة أقاصيص "الأطياف الأربعة". استفادت اللجنة من انضمام هؤلاء الأدباء الكبار إليها، فكتب المـازني يُعرِّف ببعض آثارها، وعني سيد قطب بالكتابة عن عدد من مطبوعاتها في مجلة "الرسالة"، ثم جمع كتاباته بعد ذلك في مصنفه "كتب وشخصيات"، وذلك عندما كان سيـد متفرغا للأدب والنقد. وكنت بدوري من الذين سبقوا إلى التعريف بآثار معظم الكاتبين في هذه السلسلة، وأثبت الدكتور علي شلش في كتابه "نجيب محفوظ: الطريق والصدى" أنني كنت الثاني في التعريف بنجيب محفوظ فسبقت بذلك قائمة طويلة من النقاد جاءوا بعدي في الترتيب الزمني. بل إن علي شلش سجَّل ما يكاد يكون نبوءة لي بالمجد الذي ينتظر نجيب محفوظ، وذلك بقولي في ختام مقالي عن روايـة "رادوبيس" ما نصُّه: "وفي اعتقادي أن هذه الرواية تستطيع أن تُزاحم روايات الغرب إذا هي وجدت من يُعنى بتـرجمتها إلى لُغات الأعاجم …" ونشرت لي هذه اللجنة مسرحية "الأب" التي ترجمتها عن الأديب السويدي سترندبرج وظهرت في أغسطس 1945م. وعندما أعلن عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل سأله الصحفيون الذين غَزَوْا داره عما إذا كان مطلعاً على الأدب السويدي، فقال: طبعاً، فقد قرأت آثار سترندبرج، واكتـفى بهذه العبارة دون أن يشير إلى ناقل هذه الآثار الذي كان أول من قدَّم سترندبرج إلى اللغة العربية".
* * *
يعيش وديع فلسطين وديعا في بيته العريق ـ من الباقي من بيوت شارع العروبة الجميلة بضاحية مصر الجديدة مع زوجته السيدة كاترين نجيب، له برنامجه المنتظم المنظم، ينزل يوم الثلاثاء إلى جريدة الأهرام بعد مروره على "البوستة العمومية" (على حد لهجته في قوله الهاتفي لي) يُرسل ويتلقى مراسلاته التي لا تزال تجوب أقطار الكرة الأرضية يلتقي بها مع أصدقائه وتلاميذه الموزعين في كل مكـان، ومن بينهم ابنه باسل فلسطين المهاجر منذ تسع سنوات حيث يعمل في محطة التليفزيون الكندي ويمارس هوايته الموسيقية عزفاً وتأليفاً. وتسافر زوجته لابنه أحيانا ويبقى هو تؤنسه ابنته هناء المتزوجة والمتخصصة في علـم النفس وأحفاده الأربعة: ولد واحد، وثلاث بنات. يذكر أحيانا عفو الخاطر كلمة عن أشقائه؛ فقد أنجب والده عشرة أبناء: نصفهم ذكور، والآخر إناث، لا أعرف ترتيبه بينهم، لكنني أذكر أسفا خفيفا يلمّح به أحيانا يخص به شقيقه المثَّال لويس فلسطين، الذي عاش مغتربا في أسبانيا حتى وفاته عام 1992م، ولعلنا نقرأ عنه في "حديث مستطرد" يبث فيه شجونه كلها، ولعله يخص به مجلتنا العريقة "الهلال" ذات يوم.
...................
[المصدر: مجلة «الهلال»، عدد أكتوبر 1997، ص ص 48-57].

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:25 AM
نجيب محفوظ في مرآة وديع فلسطين

بقلم: أ. د. حسين علي محمد
ـــــــــــ
كان الناقد وديع فلسطين ـ كما قدّمنا ـ من أوائل من كتبوا عن نجيب محفوظ، وإن كان نجيب محفوظ لا يتذكّر ذلك الآن بعد أن فاز بجائزة نوبل!!
يشير إلى ذلك في رسالته لي (المؤرخة في 22/4/2001م)، فيقول:
«نشر نبيل فرج مقالاً زعم فيه نقلاً عن النوبلي [نجيب محفوظ] أن [أنور] المعداوي هو أول من كتب عن نجيب محفوظ في بداية حياته. وهذه فرية حسمها علي شلش بكتابه الموسوم «نجيب محفوظ: الصوت والصدى» حيث استقصى جميع الصحف والمجلات في فترة بداية نجيب محفوظ، وخرج بقائمة من 14 اسماً تتضمّن أول من اهتم بنجيب محفوظ، كما أثبت نصوص المقالات مع تواريخ نشرها، وقد تبيّن من القائمة أنني الثاني من المعرفين بالنوبلي في حين أن المعدّاوي هو الحاديَ عشر!! وقد اضطررتُ إلى كتابة تعليق على مقال نبيل فرج وتركته في جريدة «وطني» التي لم تنشرها في عدد أمس، ولعلها تنشره يوم الأحد المقبل، ولم أحاول في هذه الكلمة تأكيد دوري بالتعريف بالمحفوظ، حيث كتبتُ عنه خمسة مقالات، وقع شلش على أربعة منها، وفاته المقال الخامس المندرج في «الرسالة»، كما لم أذكر أنني قلتُ في خاتمة واحد من المقالات «إن هذه الرواية لو قدر لها أن تُترجم إلى اللغات الأجنبية لوقفت في مصاف الروايات العالمية»، وهذه نبوءة مبكرة بفوز النوبلي بالجائزة المرموقة!» ( )
ويعقب:
«وعسى أن يكف النوبلي بعد هذا عن ترديد هذه الفرية المعداوية!».
ويأسى وديع فلسطين لهذا التجاهل فيقول (في رسالته المؤرخة في 16/1/2003م):
«نشر صديق كلمة في باب «بريد الأهرام»، أكّد فيها أنني كنتُ أول من تنبّأ لنجيب محفوظ بالعالمية، وذلك في الأربعينيّات من القرن الماضي، وتوقّعتُ بعد نشر هذه الكلمة أن يُطاردني الصحفيون للوقوف على حقيقة الأمر، ولكن هذا لم يحدث. ثم قرأتُ مقالاً لزيد من الناس قال فيه إن سيد قطب هو الذي كان أول المبشرين بنجيب محفوظ، ولأنني زاهد في «الحرفشة» فسأواصل الصمت تجاه هذه القضية».
ويقول وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 30/11/1988م)، بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل:
"نجيب محفوظ أعرفه، وكتبت عنه وعن أدبه قبل أن يولد معظم مكرِّميه، ومنهم السيد وزير الثقافة الفنان المبدع! ومع ذلك لم يدعني أحد إلى الاحتفال الرسمي بتكريمه، في حين دُعيت جميع الممثلات والفنانات ومن إليهن. وقد فكّرت في كتابة كلمة عن بدايات نجيب محفوظ التي كنت شاهداً عليها بنفسي ويجهلها كل مجتمعنا الأدبي الحالي، ولكنني نهيت نفسي عن ذلك، أولا لكثرة مشاغلي التي يرتبط بها رزقي، وثانيا لئلا يتوهم متوهم بأنني أريد أن أجد لنفسي مكانا أو دوراً في تاريخ نجيب محفوظ الأدبي ولا سيما بعدما فاز بالنوبلية الدولية عن جدارة واستحقاق".
"وعهدي بآثار نجيب محفوظ ـ التي كان يُهديني إياها قبل أربعين سنة بوصفي "أديباً كبيراً" ـ يقف عند "القاهرة الجديدة"، ولم أقرأ له شيئاً بعد ذلك لأنني اعتبرت الروايات مادة للتسلية لا للثقافة، فانصرفت عنها بكل أسمائها ومسمياتها".
"ولو سئلت اليوم عن رأيي في أدب نجيب محفوظ لآثرت السكينة لبُعد عهدي بقراءة آثاره القديمة مثل "رادوبيس"، و"زقاق المدق"، و"خان الخليلي". ويدهشني أن كل ما كُتِب عنه أخيراً أغفل دور "لجنة النشر للجامعيين" في إبراز نجيب محفوظ، وهي اللجنة التي أنشأها عبد الحميد جودة السحار في الحرب العالمية الثانية وضمت علي أحمد باكثير وعادل كامل ونجيب محفوظ، وانتسب إليها شبان ذلك العصر مثل محمد عبد الحليم عبد الله وأمين يوسف غراب وأحمد زكي مخلوف وسيد قطب وإخوته وأنا".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 13/1/1989م):
"نجيب محفوظ أعرفه منذ بداياته الأولى، وقد زاملته في لجنة النشر للجامعيين، وكنت من أوائل الذين كتبوا عنه وعرّفوا بأدبه. وعندي رواياته الأولى في طبعاتها الأولى مهداة إلى مَنْ كان يسمّيه "بالأديب الكبير" أو "الموهوب". وكنت أزوره ولو مرة في الشهر في مكتبه بوزارة الأوقاف لأقدِّم إليه العدد الجديد من "الأديب". ولم يعرف نجيب محفوظ أديب السويد الكبير أوجست سترندبرج، الذي أشار إليه غير مرة في أحاديثه، إلا من خلال ترجمتي المُبكِّرة لمسرحية "الأب" التي أهديتُها لنجيب عند صدورها عام 1945م، وعلى كثرة الأحاديث التي أفضى بهـا نجيب محفوظ في كل عمره، لم يُشِر إليّ بحرف، وليس في نيَّتي اليوم أن أُذكِّر الناس بما نسيه صاحبه، ولا سيما وصلتي بالأدب تدخل في دائرة المحاق".
وكان قد قال لي (في رسالته المؤرخة في 25/5/1976م):
"نجيب محفوظ أعرفه من عام 1944 أو 1945م وكنا في ذلك الزمان الخالي ـ زمان الطهارة الأدبية ـ نجتمع كثيراً في مكتبه في وزارة الأوقاف أو في نـدوته في كازينو أوبرا أو في مكتبة مصر (السحار إخوان) في الفجّالة. ولكن لما استشرى داء المخبرين السريين والمُتجوسسين على ندوات الأدب، وصار الناس يشكُّون حتى في أقرب المقربين إليهم أقلعنا عن هذه اللقاءات الدورية في الأماكن العامة، وصرنا نلتقي بمواعيد مضروبة أو وفقاً لتساهيل المصادفات السعيدة، وآخر هذه المصادفات من نحو أسبوعين.
وأعترف بأنني وقفت في مطالعاتي لنجيب محفوظ عند مرحلة "زقاق المدق" و"القاهرة الجديدة"، أما ما تلا ذلك من روايات "كالثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"الكرنك" ... إلخ فلم أُطالعه، واعتقادي ـ من واقع مطالعاتي الأولى لنجيب ـ أنه فنان عظيم، وأنه يستحق كل تكريم يناله، ولاسيما وأن له شخصية أصلب عوداً من توفيق الحكيم الزئبقي الرجراج. فنجيب محفوظ لم ينغمس في التأييد الأعمى للإجراميات والإنكشاريات والإرهابيات التي عشناها ربع قرن كما فعل "فاقد الوعي" توفيق الحكيم ، ومن ثم لم يعوزه الأمر إلى "صك غفران" يقدمه إلى الجمهور ليصفح عن خطيئته كما فعل توفيق الحكيم في "عودته إلى الوعي".
"صحيح أن التكريم الذي ناله نجيب محفوظ هو حصة الأسد، وأن بعض أقرانه أو السابقين عليه يستحقون تكريماً مماثلا كإبراهيم المصري، ومحمود البدوي، والمرحوم عبد الحليم عبد الله، والمرحوم أمين يوسف غراب، وعلي أحمد باكثير. ولكن الحياة غير ذات مقاييس سليمة. ومن مقتضاها الإسراف هنا والتقتير هناك".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 14/8/1982م) عن عدم متابعته الجديد من الإنتاج الروائي:
«مازال وقتي يضيق بقراءة الأدب الروائي، وإن كنتُ حريصاً على قراءة ما يكتبه الأصدقاء كمحمود البدوي وأمين ريّان ويوسف جوهر ـ إن أهداني كتبه لأني لا أقرأ الأقاصيص أو المسلسلات المنشورة في الصحف والمجلات، كما أقرأ ما يكتبه صديقي الدكتور عبد السلام العجيلي، وأعتقد أنه من أعظم الروائيين العرب. أما نجيب محفوظ فقد كف منذ جاءته الشهرة عن إهدائي كتبه، فكففتُ منْ ناحيتي عن قراءتها».
ويقول (في رسالته المؤرخة في 9/12/1994م):
"لا أدري هل تناولت الصحف السعودية قضية "أولاد حارتنا" أوْ لا؟؛ فقد نشرت عندنا في الفترة الأخيرة عشرات من المقالات التي تدافع عن هذه الرواية باعتبارها إبداعاً فنيا أدبيا وليس موضوعاً دينيا، ولكن هذه الموضوعات لم تُقنع ذوي الاختصاص بالإفراج عن الرواية على الرغم من أن جريدة "الأهالي" نشرتها مؤخراً، فضلا عن أن الطبعة البيروتية تُهرَّب إلى مصر، وتُباع بخمسة وثلاثين جنيهاً للنسخة الواحدة. وقد قام الشيخ (محمد) الغزالي ـ وهو صاحب التقرير الأصلي الذي حكم على هذه الرواية بالإعدام ـ بزيارة مؤلفها، وحاول حواريو المؤلف تفسير هذه الزيارة بأنها "توبة" من جانب الشيخ، ولكن الوضع لم يتغيَّر. والقضية على كل حال قضية خاسرة مهما ترافع فيها بُلغاء المحامين ـ ولستُ منهم ـ ...".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 15/9/1991م):
"لم أُتابع "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وتوقفت قراءاتي للأدب الروائي ـ بما في ذلك أدب صديقنا نجيب محفوظ ـ عند "خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"رادوبيس" و"القاهرة الجديدة"، وقد كتبت عنها جميعاً في الفترة 1944، 1945، 1946، 1947م وهو ما ذكره علي شلش في كتابه عن محفوظ، ولكن الذي عرض الكتاب في عدد هذا الشهر من "الهلال" تعمّد إسقاط اسمي!".
ويقول في الرسالة نفسها ـ بعد الفقرة السابقة ـ متحدثاً عن انتقاد الشيخ محمد الغزالي لرواية «أولاد حارتنا»:
«إذا كان الشيخ الغزالي يُهاجم نجيب محفوظ بسبب هذه الرواية، فلِم لا يُهاجم صهره إحسان عبد القدوس على مذهبه الروائي الذي وصفه العقاد بقوله إنه «أدب فراش»!.. ».
ويقول (في رسالته المؤرخة في31/1/1996م):
"حتى هذه اللحظة لم أقرأ كتاب محمد جبريل عن "آباء الستينيات"، وفي اعتقادي أنه كان يستفيد كثيراً من شهادات الذين عاصروا قيام لجنة النشر للجامعيين والباقين على قيد الحياة حتى اليوم مثل عادل كامل ونجيب محفوظ وأنا، ولكنه لم يفعل. وعلى كل حال لا أريد من ناحيتي أن "أتمسّح" في هذه اللجنة أو في محفوظها، وأوثر أن أبقى مثل "النبت الشيطاني" الذي يخرج إلى الدنيا من تلقاء نفسه ولا يعتمد إلا على نفسه، ولا ينتسب إلا إلى نفسه".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 10/12/1995م) عن "أصداء السيرة الذاتية"، وهي آخر ما كتب نجيب محفوظ:
"لم أقرأ "أصداء السيرة الذاتية"، ورأيي الصريح فيها أنها مزيج من الحكمة والهلوسات، وإن كان نصيب الهلوسات أكبر. ولعل نجيب محفوظ ندم على كتابة هذا السُّخف، بدليل رفضه نشرها في كتاب".
ويقول مرة أخرى عن "أصداء السيرة الذاتية" (في رسالته المؤرخة قي4/1/1997م):
"قرأت ما نشرته "الأهرام" من فقرات "أصداء السيرة الذاتية"، ثم قرأت نصها الكامل في جريدة "أخبار الأدب"، ولعلي صارحتك برأيي فيها من قبل، وهو أن الأصداء مزيج من الحكمة والهلوسة، وجرعة الهلوسة فيها أكبر. ولولا جائزة نوبل التي رفعت نجيب محفوظ إلى مرتبة آلهة الحكمة (كذا) لما اهتم أحد بهذه الأصداء غير المترابطة".
وفي الرسالة نفسها يُشير إلى عدم وفاء نجيب محفوظ تجاه رفقاء رحلته ودربه، يقول:
"وستلاحظ في حديثي عن باكثير أنني عاتبت نجيب محفوظ لأنه يهتم اليوم بحرافيش جدد ولا يقول كلمة إنصاف في زملاء أول الطريق: السحار، وعادل كامل ، وباكثير. وقد حذف المحرر فقرة قاسية العبارة، ومع ذلك فإن استشهادي ببيت الشعر الوارد في الحديث كافٍ في حدِّ ذاته لقول ما كنت أريد قوله".
وبعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدر كتاب "نجيب محفوظ" لرجاء النقاش، وهو يضم مقابلات مسجلة مع نجيب محفوظ، أثارت لغطاً شديداً في الحياة الثقافية المصرية، لدرجة أن مجلة "الأهرام العربي" خصصت أحد أعدادها (في يوليو 1998م) لمناقشة الآراء الواردة في الكتاب. وقد أشار الأستاذ وديع فلسطين إلى هذا الكتاب في أكثر من رسالة.
ويقول (في رسالته المؤرخة في 6/10/1998م): "الخطب التي أُلقِيتْ في عيد 6 أكتوبر تعمّدت الرد بصورة غير مباشرة على نجيب محفوظ الذي وصف حرب الاستنزاف بأنها كلام فارغ و"شلفط" عبد الناصر وكل تاريخه الإجرامي. ومازال المشاغبون يحملون على نجيب محفوظ بسبب ما اعتبروه "تخريفات" الشيخوخة الرذيلة، وحاول عبد العظيم أنيس استدراج نجيب محفوظ للاعتراف بأنه في عربدات شبابه كان "يُعاقر" اليهوديات في حي العباسية كما كان هو يفعل! أليس هذه "كلينتونيات"!!؟"( ).
ويقول (في رسالته المؤرخة في 18/10/1998م): "توقّفت نسبيا الحملات التي شُنَّت على نجيب محفوظ بسبب آرائه السياسية الواردة في مذكراته، وهو نفسه قد تراجع عن بعض هذه الآراء زاعماً بأنه لم يقرأ أصول الكتاب قبل نشره، مع أنه أملاه بصوته على المسجل، ومن ناحية أخرى تضمّنت الخطب الرسمية التي أُلقيت في أعياد 23 يوليو و6 أكتوبر ردا غير مباشر عليه، وكان ابن شقيقة نجيب محفوظ قد رفع دعوى عليه وعلى ناشر الكتاب مطالباً بمصادرته، لأنه تضمّن كلاماً يُسيء إلى أسرته".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 13/11/2001م):
«يحتفل نجيب محفوظ بعيد ميلاده التسعين في شهر ديسمبر المقبل، وبهذه المناسبة تُفكر مجلة «نصف الدنيا» أن في تخصيص ملف له، يشتمل على مقالات النقاد التي كُتِبت عن النوبلي في بداية حياته، وقد رجتني المحررة أن أصور لها من مجلة «الرسالة» وغيرها المقالات الأولى التي كتبت عن نجيب محفوظ سواء بقلمي أو يقلم سيد قطب، فأنجزت لها المهمة بفضل مجموعاتي من المجلات. ومن ناحية أخرى أصدرت مجلة «أدب ونقد» عدداً خاصا عن نجيب محفوظ في الشهر الحالي تضمن مقالات لرجاء النقاش وأحمد عباس صالح ... وغيرهما».
و(في رسالته المؤرخة في 30/8/1976م) يُشير إلى عادل كامل أحد أصدقاء نجيب محفوظ:
«عادل كامل كان يُبشِّر بمجد للرواية يُحاكي أمجاد نجيب محفوظ، ولكنه ـ كما أخبرني عند تركه للأدب ـ انصرف إلى المحاماة التي تُطعم خبزاً بينما الأدب لا يُطعم الخبز إلا بعد رحلة مُعاناة طويلة. وهو وإن كان انصرف عن التأليف، فقد استعان به نجيب محفوظ غير مرة في كتابة «سيناريوهات» لرواياته وروايات سواه، ومازال يقوم بهذا العمل إلى جانب المحاماة، وإلى جانب مصنع النسيج الذي يملكه».

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:28 AM
الأديب الكبير وديع فلسطين: هذا هو دور المرأة في حياتي

أجرى الحوار: علي محمد الغريب
ـــــــــــ

وديع فلسطين (1923م) أديب كبير يقدره الأدباء العرب حق قدره، وإن لم تلفت إليه الأجهزة الثقافية فتعطيه بعض حقه، كما تفعل مع أشباه الكتاب والأدباء!
ووديع فلسطين ـ كما يصفه صديقه الدكتور حلمي القاعود ـ من جيل عركته الحياة، واحترم القيم الرفيعة، بل اعتنقها حتى صارت جزءاً من سلوكه وفكره.
حول المرأة:الأم، والأخت والزوجة والابنة، وأخيراً الأدب النسائي كان هذا اللقاء مع الأديب الكبير:
المرأة رفيقة الدرب
*بعد هذه الرحلة الطويلة مع الحياة والناس والأدب.. بماذا تحتفظ في ذاكرتك للمرأة؟
المرأة هي الأم والأخت والزوجة والابنة، وكذلك المدرِّسة والزميلة والأم الروحية والطالبة. ومن توفيق الله أنه لم يضنّ عليَّ بهذه النعمة الكبرى، حيث كانت المرأة رفيقة الدرب في جميع مراحل العمر.
فالأم هي التي تعهدتني بالتربية والتقويم منذ السابعة من عمري عندما توفى والدي، فاضطلعت منذ ذلك الوقت بالدور المشترك للأب والأم، فضيَّقت على نفسها واحتملت مشاق الحياة وساعدتني بالتضحيات الجسام على تحقيق طموحي في الحياة، وعاملتني كشقيق عندما استويت على قدمي، وكانت تحرص كل يوم على قراءة مقالات الصدر التي كنت أكتبها في جريدة "المقطم" على الرغم من عدم اهتمامها بمجريات الحوادث وأخبار السياسة، وشجعتني على السفر للخارج على الرغم من أنَّها ـ بحكم صعيديتها ـ كانت تخشى عليَّ من الغوايات التي يتعرَّض لها الشباب عندما ينطلقون في عالم منفلت من القيود والتقاليد التي تزداد تزمتاً في الصعيد الجوَّاني. ومع أنَّ زوجها توفى وهي ما زالت في شرخ الشباب؛ فقد عاشت في زهد الترمّل لكي تربي أبناءها وبناتها، ولم تخلع السواد إلى أن وافاها الأجل، وفاءً منها لزوجها الذي أخلصت لذكراه راضية بحظوظها من الدنيا حتى ولو عانت شظف العيش.
أمَّا الأخت، فقد أنعم الله عليَّ لا بأخت واحدة، بل بأخوات، كنَّ لي جميعاً أبرَّ الأخوات، ولا أذكر أبداً أنه شجر بيني وبين إحداهن أيّ سوء فهم أو خلاف، وما زلت أنعم بمودات الشقيقات وصحبتهن، فأرى فيهن جزءاً من روحي موزعة بينهن.
وأما الزوجة، فقد احتملت بصبر وتسليم ما تعرضت له من انكشاريات الحياة في رحلة العمر؛ لأنني اخترت لنفسي مهنة الصحافة، وهي لم تعد مهنة البحث عن المتاعب، بل صارت مهنة تثير حولها الشكوك والريب من أجهزة الأمن والاستخبار ومن العسكر والثوار. فعندما خطبت زوجتي كنت "خالي شغل" بعد ما أغلقت الجريدة التي كنت أعمل بها، وتعرَّضت بعد ذلك للبطالة غير مرة، سواء بإغلاق المؤسسات التي عملت فيها بعد ما سُدَّت في وجهي جميع أسباب العمل في الصحافة، أو بعد ما طردني نظام القذافي من ليبيا في أربع وعشرين ساعة دون تعليل، أو عندما فصلني نظام الخميني من عملي في سفارة إيران بالقاهرة، وهو العمل الذي لم أهتد إلى سواه في ظل تأميم الصحافة المصرية وغزوها بجحافل العسكريين الذين قيل لهم كونوا صحفيين فكانوا، بل قيل لواحد منهم كن نقيباً للصحفيين فكانه! ولا غرو أنَّ أمنى بهذه الانكشاريات؛ فقد كان أول عهدي بها عندما اعتقلني نظام عبد الناصر في عام 1952 بعد ثلاثة أشهر من قيام ثورته دون أي تعليل.
وأمَّا الابنة؛ فهي من أعظم النعم التي أفاء الله بها عليَّ، وهي ما زالت ـ برغم التزاماتها في العمل وفي الأسرة ـ ترعى شيخوختي وتواليني بعنايتها، وكانت لي الملاك الرؤوم الذي رافقني في رحلة المرض وغشيان المستشفيات، وما زال هاتفها اليومي يملأ بالسكينة نفسي ويمنحني الطمأنينة؛ لأنَّ عينها ساهرة على أبيها.
وأمَّا المدرِّسة، فقد صادفتها في المرحلة الثانوية عندما كنت أدرس في مدرسة إنكليزية، وكانت إدارة المدرسة تستعين بمدرسات قادمات من إنكلترا لمساعدة الطلاب على إتقان اللغة الأجنبية الأولى. وقد عاصرت اثنتين من هؤلاء المدرسات اللائي كن في حقيقتهن مربيات فضليات، يعاملن طلابهن في الفصل بصرامة النظام مع نسمة من الحنان الدافق. وآية ذلك أنَّ هاتين المدرستين كانا تدعواننا بعد انتهاء اليوم الدراسي لتناول الشاي والكعك من صنع اليدين في المنزل المخصص لكل منهما أعلى المدرسة. فإذا أصبحنا ضيوفاً على المدرِّسة، عاملتنا وكأننا أصفياء معزَّزون تقوم على خدمتهم المدرِّسة بكل رقة وحنان، فتؤكد لنا أنَّ التعليم إن لم يقترن بتربية ورعاية، فهو يعدُّ رسالة منقوصة. وبعد نحو نصف قرن من مغادرتي للمدرسة الثانوية، جاءت واحدة من المدرستين لزيارة القاهرة، وكم أسعدني أن تتصل بي وأن تزورني في بيتي وأن تقول لي أنَّ أبناءها الطلبة لم يغادروا ذاكرتها على مدى عمرها الطويل، وظلَّت بعد ذلك تراسلني إلى أن لقيت وجه ربها.
وأما الزميلة، فقد عرفتها في المرحلة الجامعية، حيث كان النظام في الجامعة الأمريكية يلغي الفوارق بين الجنسين إعلاء لقيم الزمالة التي كنا نستمتع بها في الفصل وفي قاعة الطعام وفي الملاعب الرياضية، وفي الأندية الجامعية المختلفة، وفي أنشطة التمثيل والمسابقات والحفلات والرحلات، ولا بأس أن أذكر أنَّ من زميلاتي النابهات عزيزة حسين، ذات النشاط المرموق في الأمم المتحدة، كما أنها قامت بدور زوجة السفير المصري في واشنطن. كما أذكر الأديبة الفرنسية الذائعة الصيت "أندريه شديد" التي فازت بعدة جوائز عالمية عن أعمالها الروائية والشعرية.
وأما الأم الروحية، فقد سعدنا بأمومتها الباذلة عندما كانت تستضيف الطلاب في بيتها أعلى الجامعة في فترتين صباحية ومسائية، فيتناولون عندها الشاي والكعك من صنع يديها، ويجلسون حول مائدتها المستديرة الصغيرة يسمعون منها توجيهاتها بعد ما تكون قد وقفت على مشكلات كل طالب، وهذه الأم الروحية هي زوجة المستشرق الدكتور "تشارلس أدامز" مؤلف كتاب "الإسلام والتجديد" الذي ترجمه إلى العربية عباس محمود ـ ويخطئ كثيرون فينسبون هذه الترجمة إلى عباس محمود العقاد، وبقينا نتردد على هذه الأم الروحية حتى بعد تخرجنا؛ لاهتمامها بمتابعة أخبارنا وعقد الصلات بين جيلنا والأجيال الشابة التي جاءت بعدنا.
*عرفنا أنك قمت بتدريس الصحافة بالجامعة الأمريكية لمدة طويلة.. فكيف كانت علاقاتك بطلابك وطالباتك؟
تهيأ لي أن أتواصل مع الطلاب عندما عملت بتدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية على مدى عشر سنوات. وفي حين كنت أطبق الأنظمة الجامعية من حيث المستويات الأكاديمية المطلوبة، إلا أنني كنت أقدِّر أنَّ هناك صعوبات يواجهها الطلاب والطالبات، فكان مذهبي أن أساعد الضعيف حتى يقوى، وأعين من يواجه قصوراً على التغلب على قصوره. وكان هذا ينطبق على الطالبات والطلاب دون تفرقة، متوخياً في الحالين أن أكون مجرَّد أستاذ لا يتجاوز مهامه الأستاذية إلى إنشاء علاقات شخصية تنعكس على التحصيل الدراسي. صحيح أنني كنت أصغى بتعاطف إلى أي طالبة تقصدني في شأن من شؤونها الخاصة.
ولكنني كنت في جميع الحالات أؤكد للطالبة أنَّ ما أبديه من رأي هو مجرَّد رأي استشاري، لها أن تأخذ به أو تطرحه، فالمشكلة مشكلتها الخاصة، وهي أدرى بجميع أبعادها، وما أنا إلا متفرج على هذه المشكلة من بعيد. فإن عادت إليَّ الطالبة، أدركت أنَّ مشكلتها لم تجد حلاً، أما إن لم تعد، فأستنتج من ذلك أنَّ المناقشة معها قد ساعدتها على أن تلتمس لمشكلتها حلاً بنفسها.
المرأة في الحياة العملية
حدثنا عن مزاملتك للمرأة.. كيف كانت وما الفرق بين مزاملة الرجل للمرأة الأمس واليوم؟
بعد المرحلة الجامعية التي تزاملت فيها مع المرأة زمالة موحية عملت في إدارة جريدة "الأهرام" وكانت إذ ذاك مستعمرة للرجال، فلم تكن فيها أنثى واحدة، لا في أقسام الإدارة ولا في أقسام التحرير. وحتى الدكتورة بنت الشاطئ التي كانت تنشر مقالاتها في الجريدة، لم يكن لها مكتب في الدار، وإنما كانت تبعث بمقالاتها بالبريد من بيتها في دمياط. وعندما فوجئت ذات يوم بزميلة جامعية تزورني في مكتبي في "الأهرام" شخصت جميع الأبصار نحوي وصرت أشهر شخص في الإدارة؛ لأنَّ الزيارات النسوية كانت بالغة الندرة، وعندما أزور جريدة "الأهرام" اليوم وأرى المئات من السيدات يعملن فيها في كل أقسامها، بل يسافرن للعمل في مكاتبها في الخارج، أزداد ثقة بأنَّ عهود "مستعمرة الرجال" قد ولَّت إلى غير رجعة.. فالمرأة قد حطَّمت جميع الحواجز، وقفزت فوق الموانع وتحدَّت الأصوات الداعية إلى البقاء في البيت، وخرجت تزاحم الرجال في جميع مرافق الحياة.. وبفضل هذا الاختلاط، أصبح من المألوف أن نقرأ عن صحفي شاب تزوج من زميلة له في العمل، أو عن موظف في بنك تزوج من زميلة لـه في نفس البنك، أن عن طبيب تزوج من طبيبة كانت زميلته في الكلية أو المستشفى، وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدل على أنَّ علاقة الزمالة ـ سواء في الجامعة أو في العمل ـ هي عامل حاسم في ائتلاف القلوب وبناء الأسرة؛ لأنها علاقة تقوم على التفاهم المشترك الذي يجري بصورة طبيعية ودون تكلف، ممَّا يبشِّر بتحقيق السعادة الكاملة بينهما.
ولا بأس أن أذكر واقعة تتعلق بالمرأة العاملة، ساهمت في رفع الضيم عنها، فقد اعترضت سبيلي وأنا أسير بجوار البنك المركزي شابة لا أعرفها، واستوقفتني قائلة إنها تعرف بأنني صحفي لأنها تراني كل يوم في الترام أحمل أكداساً من الصحف أستغرق في قراءتها. وقالت إنها تعمل موظفة في هذا البنك مع زميلات أخريات لها، ولكن إدارة البنك طالبتهن عند التعاقد للعمل فيه على التوقيع على إقرار بعدم الزواج، وإن خالفته جرى فصلها. وقالت إنَّ هذا ظلم بيِّن لها ولزميلاتها، فهل كتب عليهن أن يعشن عوانس لمجرَّد قبولهن العمل في البنك المركزي؟ ولماذا تنفرد موظفات البنك المركزي بهذا الإجراء الشاذ في حين أنَّ جميع المرافق في البلاد تسمح للعاملة بالزواج؟ فوعدتها بأن أتبنى قضيتها العادلة.
ولأنني لم أكن أملك منبراً صحفياً في ذلك الوقت بعد إغلاق جريدتي؛ فقد قررت أن أكون مستعيناً بغيري، فلجأت إلى الصحفي محمد التابعي الذي كان يحرر في مجلة "آخر ساعة" باباً لرسائل القراء، ينشرها ثم يعلق عليها تعليقاً بصيراً. فانتحلت صفة هذه الموظفة ووجهت رسالة إلى التابعي شرحت فيها شكواها من الحكم عليها وعلى زميلاتها بالعنوسة وحرمانهن من حق الزواج. وقلت للتابعي إنني لا أستطيع أن أكشف عن شخصيتي لئلا أعاقب بالفصل، ولهذا حجبت اسمي. فنشر التابعي هذه الرسالة، وعلق عليها تعليقاً حاسماً، داعياً البنك إلى إلغاء هذا النظام الظالم. ولم يكد محافظ البنك يطلع على هذا الموضوع، حتى أمر بإلغاء هذا النظام فوراً والسماح لجميع العاملات بالزواج، وتبيَّن وقتها أنَّ عدداً من العاملات كن متزوجات سراً.
المرأة كحافزٍ على النجاح
*هل ثمة دور للمرأة في حفزك على الكتابة؟
لست أنكر أنني في محاولة للتغلب على بساطة نشأتي بالمقارنة بزميلاتي الجامعيات القادمات من أسر ميسورة الحال، أدركت أنَّ الاجتهاد في التحصيل هو سبيلي إلى تأكيد ذاتي أمام هؤلاء الزميلات، فلئن تفوقن عليَّ بمظاهر الثراء فقد نجحت في التفوق عليهن باجتهادي العلمي ـ حتى صار اسمي يحتل قائمة الشرف التي كان عميد الكلية يصدرها بعد انتهاء كل فصل جامعي. فقد كانت المرأة، سواء أدركت ذلك أو لم تدركه ـ حافزاً لي على التفوق، وهو حافز ظلَّ يلازمني في رحلة الحياة على الرغم من المثبطات الكثيرة التي اعترضت سبيلي.
صحيح أنَّ الكاتب يغتبط إذا عرف أنَّ له قراء يعجبون بكتاباته، إلا أنَّ فرحه يتعاظم إذا عرف أنَّ هناك معجبات يتابعن آثاره القلمية، ولا يكتمن مشاعر التقدير، سواء عبرن عن ذلك في كلام منشور أو في رسائل شخصية، أو في مكالمات هاتفية.
وإذا كان الشعراء يزعمون أنَّ للشعر شياطين يلهمونهم معانيهم، فكل الشعراء يستمدون الإلهام الحقيقي من المرأة، وأجمل الشعر هو الذي يُستوحى من الملهمات.
المرأة الناجحة.
المرأة الناجحة
من هي المرأة الناجحة في نظر وديع فلسطين؟
المرأة الناجحة هي التي تستطيع إقامة توازن سليم بين مطالب أنوثتها، بأن يكون لها بيت وزوج وأولاد، وبين مطالب حياتها العملية إن اختارت أن تخرج للعمل، ولا يصح في اعتقادي التضحية بأي من هذه المطالب لتعظيم المطالب الأخرى، فإذا عملت المرأة، وجب ألا يكون ذلك على حساب بيتها وأسرتها وأولادها، لئلا تصبح ناجحة في العمل، فاشلة في البيت!
وإن اختارت المرأة أن تتبنى قضايا المجتمع، كأن تعمل في النشاط السياسي أو الاجتماعي؛ فإنَّ المرأة الناجحة في هذين المجالين هي التي تستطيع إثبات نفسها لا باكتساب شهرة تلمِّع بها شخصيتها، بل بالتفاني في أداء الدور الذي نذرت نفسها له، وبما يتحقق على يديها من نتائج ملموسة تستشعرها الجماعة. فليس مهما أن تطاردها الأضواء، ولا سيما إن كانت طاغية الأنوثة، ولكن المهم أن تترك أثراً باقياً مذكوراً لها في سجل الشرف.
الأدب النسائي
مار رأيك فيما يسمى بالأدب النسائي؟
لست ممن يرتضون تصنيف الأدب إلى أدب قديم وأدب حديث، أو إلى أدب رجالي وأدب نسائي، فالأدب الجيّد هو الذي لا يختفي كما تختفي "الموضات" في الثياب، وإنما يبقى فلا تبلى جدته على ترادف الأيام. فما زلنا نتذوق شعر المتنبي وكأنه معاصر لنا، وما برحنا نستشهد بشعر شوقي وكأنه باق بيننا.
وما ينطبق على تصنيف الأدب إلى قديم وجديد؛ ينطبق على تصنيفه بأنه أدب رجالي ونسائي، فالمهم عند القارئ ـ والناقد أيضاً ـ أن يجد في ما يطالعه متعة روحية وإشباعاً فنياً، فالذي يطالع آثار الدكتورة بنت الشاطئ مثلاً، لا يقع على فروق ذات بال بين ما تكتبه وما يكتبه الرجال، بل لقد اتهمت ظلماً بأنَّ وراء آثارها زوجها الشيخ أمين الخولي. وهذا يصدق أيضاً على آثار الدكتورة سهير القلماوي، وكثيرات غيرها، فإطلاق تعبير "الأدب النسائي" على ما كتبه المرأة لا يخلو من كثير من الخلل؛ لأنَّ التعميم لا يصلح في قضايا الأدب.
ولكن إذا انتقلنا إلى ميدان الشعر والرواية، وهما ميدانان تتجلَّى فيهما شخصية الشاعر أو الروائي، فقد يختلف الأمر نوعاً ما؛ لأنَّ المرأة الشاعرة أو الروائية معرَّضة لأن تسكب من مشاعر أنوثتها ما لا يستطاع نسبته إلا إليها، فهي أعرف بنوازعها وأكثر إحساساً بمشاعرها من الرجل، فتجيء آثارها بناء على ذلك مفعمة بروح الأنوثة التي ليس منها فكاك، حتى وإن أدارت الخطاب على لسان رجل. فإذا تناولت شاعرة أو روائية موضوعات مثل الأمومة أو الحمل أو الولادة أو ما تتعرَّض له المرأة من قهر أو إكراه، فالأرجح أن يجيء تصويرها لهذه المواقف تصويراً نسائياً مجرَّداً قد لا يستطيع الرجل مجاراتها فيه. أمَّا في قضايا الحب والهجر والخصام والأشواق وما إليها، فقد ينجح الشاعر أو الروائي في تصوير هذه المواقف تصويراً حياً ربما عزَّ على المرأة مجاراته فيها. وآية ذلك، أنَّ الشاعر نزار قباني والروائي إحسان عبد القدوس قد استطاعا أن يتغلغلا في دخائل المرأة، وأن يصوِّرا مشاعرها في الإقبال والصد والإدبار، ربما تفوقا فيه على المرأة نفسها!
*ما رأيك في هذه الموجة الطاغية من كاتبات يكتبن للجسد وعن الجسد؟
لعلَّ الاتجاه الطاغي حالياً في كتابات النساء إلى إبراز قضايا "الجسد" بأساليب كاشفة ودون التستر وراء عبارات رمزية، هو من المحاولات النسائية لإظهار قدرة المرأة على التعبير "البيولوجي" عن رغائبها ونزواتها، وكذلك شطحاتها، والأديبة الراحلة أليفة رفعت قد انطلقت في هذا الميدان حتى كتبت أقاصيص عن السحاق وعن اتخاذ الحبيبة بديلاً عن الزوج في أداء وظائفه، وعن فضول المراهقات والمراهقين لاكتشاف وظائف الأعضاء لدى كل منهما، وغير ذلك من الموضوعات التي لم ينازعها فيها أحدٌ من الرجال.
وصفوة القول إنَّ تعبير الأدب النسائي قد ينطبق أكبر انطباق على أديبات الجسد، ولكن المؤكد أنه لا ينطبق على جميع الباحثات الجادات، وما أكثرهن.
قضايا المرأة
*ما المطلوب من المرأة لتنهض بمسؤولياتها تجاه نفسها ومجتمعها؟
ما زالت قضايا المرأة في مجتمعنا العربي تحتاج إلى مزيد من الجهد للتغلب على كلّ ما يقعد المرأة عن النهوض بتبعاتها على خير وجه، سواء في البيت أو في المجتمع، فالمرأة ما زالت تعاني من الأمية بنسبة تزيد في بعض البلدان العربية على 60 في المائة، وما زالت حقوق المرأة مهدرة فتعامل في بعض المجتمعات وكأنها قاصر لا يعتد برأيها حتى في اختيار زوجها. وما زالت تشكو من اهتضام حقوقها فلا تستطيع استنجازها إلا باللجوء إلى القضاء للحصول على نفقتها الشرعية ونفقة أولادها، أو للاعتراض على بيت الطاعة الذي لا يليق بإنسانيتها، أو للحصول على الطلاق إذا استحالت العشرة، أو للحصول على حقوقها المقررة في الميراث وانتزاعها من أيدي من يجورون عليها، أو في الاعتراض على المتاجرة بأنوثتها بتزويجها إلى عابري سبيل من بلدان أخرى لا يلبثون أن يهجروها هي وأطفالها دون أن تستطيع إثبات بنوة أطفالها أو تأمين مستقبلهم. وإن تزوجت المرأة من مواطن من بلدٍ آخر، عاملتها القوانين السارية بظلم مفحش، وحالت بين أبنائها وبين الالتحاق بالمدارس أو الجامعات أو العمل، باعتبارهم أجانب، اللهم إلا إن سددت الرسوم المقررة بالعملة الصعبة، بل إنَّ أولادها مهددون دائماً بالترحيل من البلاد؛ لأنهم لا يتمتعون بحقوق المواطنة، وهي قضية تتعلق بعشرات آلاف من الأمهات المصريات.
كل هذه القضايا تحتاج إلى من يتبناها دفاعاً عن حقوق المرأة كإنسانة تمثل نصف المجتمع وتربي الأجيال التي ستؤول إليها ذات يوم مقاليد البلاد. صحيح أنَّ هناك جهوداً مبذولة من جانب جمعيات للنهوض بالمرأة تهدف إلى الأخذ بيد المرأة وإخراجها من الأزمات التي تحيق بها، ولكن هذه المحاولات ترتطم في كثير من الأحيان بالقوانين السارية من ناحية، وبالتقاليد الراسخة من ناحية أخرى، وبمعارضات من جهات ما زالت تعتبر أنَّ المرأة دون الرجل في الحقوق والحريات وفرص العمل، وتنكر عليها حقها في المشاركة مع الرجل في تصريف أمور الأسرة وفي الوصول بكدّها واجتهادها إلى المستوى الذي تستاهله في أماكن العمل.
وما مشكلة الأطفال المشردين في الشوارع إلا نتيجة للتفسخ الأسري، الذي تروح المرأة ضحية لـه مع هؤلاء الأطفال الذين يمثلون أبرز مظاهر التفسخ. وأياً كانت المحاولات التي تبذل في سبيل النهوض بالمرأة تعليمياً وصحياً واجتماعياً وعلمياً؛ فالطريق ما زال طويلاً بسبب ما تعرَّضت له المرأة من إهمال متطاول على مدى سنوات وسنوات، وإن زيارة إلى المجتمع الجديد الذي نشأ في مقابر القاهرة، ورؤية المرأة وأبنائها يسكنون وسط الموتى؛ إنما تؤكد أنَّ الطريق ما زال طويلاً طويلاً، وإنْ اختلف طوله من بلدٍ إلى آخر، فالمرأة هي أمنا جميعاً، والنهوض بها هو نهوض بالأمة بأسرها، والمهم هو أن تواصل المتصدّرات لرعاية المرأة جهادهن مهما تغالظت العقبات في طريقهن.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:30 AM
«أولاد المتنبي »

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
................................

[صفحة من كتاب "صورة البطل المُطارد"، منشورات "أصوات مُعاصرة"]

يقول محمد جبريل على لسان عادل مهدي، بطل الرواية:
"ملأني الإحساس بـأن شيئاً ما خطيراً يوشك أن يحدث، أتوقع ما لم أحدد صورته، ما يصعب تصوره. غابت العفوية في الكلمات. أتأمل وقعها، وأتدبره. ربما ـ إن أصبحت سطوراً على الورق ـ تحمل ما لا أريده من المعنى، وتورطني فيما لا أقصد قوله. تبدو التصرفات بريئة، ولا تثير الشك، لكنها ليست كذلك، ويجب أن أتنبه إليها. حاولت أن أعود إلى مألوف مشيتي، فلم أوفق. حتى خطواتي أشعر بارتباكها لتصور الخطوات المتابعة ..
كنت أدرك ـ منذ كلمني الرجل ـ أن الأعين المبثوثة تراقبني. ربما ليس في الندوة وحدها. أتوجس من النظرات في الجريدة، وعلى الرصيف المقابل للبيت، وفى محطة الأوتوبيس بميدان المنشية"(1).
وهذا الذي يقولـه السارد عن نفسه لا يعدو الحقيقة، يقول الأديب الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 7/3/1982):
"شكراً على رسالتك المؤرخة في 3/3(/1982) التي سلمت من عبث البريد المُسلَّط على رسائلي "بفضل" النجاسات البوليسية! وشعاري في الثلاثين عاماً الأخيرة منتحل من بيت المتنبي القائل "والحُرُّ ممتَحَنٌ بأولادِ الزنا"! فإن رأيتني ألعن "أولاد المتنبي"، فلقد عرفت من هم "الأولاد" الذين أعنيهم. وهؤلاء جاثمون على صدري منذ عهد عبد الناصر الأفسق وإلى هذا العهد الأطهر، وقد فقدت كل أمل في (أن) يُغيِّر القوم رأيهم فيَّ، على الرغم من أنني لا أتعامل بلغة الظفر والمنقار والناب والنعل التي تنصحني بأن أُخاطب بها الناس!(2)، والقصة طويلة وكريهة، وأُعفيك من حلقات هذا المسلسل (المُقرف) الذي عشته ومازلت أعيشه، ولا ذنب لي إلا ما نسبه أبو شادي من ذنب إلى الدكتور إبراهيم ناجي حين قال:
أتُرى كلُّ ذنــــبِهِ أنَّــه شــاعرٌ شعرْ
فاعرف ـ إن كنت لم تعرف ـ أن أكبر جريمة في أمتنا العربية هي جريمة الفكر، وهي جريمة تُحاربها جميع دولنا العربية مهما تعدّدت أنظمتها … فأنا وأنت مُجرمان، أو لعلنا ـ في القليل ـ مشروعٌ لمجرم!، فهيئ نفسك للنجاسات البوليسية التي تمرستُ عليها، واخشوشن جلدي تلقاء مناخسها! وإن رأيتني غائباً عن الحياة الأدبية في مصر من ثلاثين عاماً وإلى آخر العمر، فقد عرفت سبب غيابي"(3).
ويقول في مكان آخر: "الحياة قد توَّبتني عن طلب الشهرة في مصر، بعدما رأيت أن الهيئتين الوحيدتين اللتين تحاسبانني على هذه الشهرة همـا هيئة الضرائب بما تتوهّمه من عشرات الآلاف التي تعود عليَّ من الأدب كل عام، وهيئة مباحث أمن الدولـة العليا التي مازالت تسلِّط عليَّ مخبريها وتراقب تليفونـاتي وبريدي وكأنني أعتى مجرمي الدنيا(4)..
ــــــــــــــــ ـ
( 1) الرواية، ص25، 26.
(2 ) يقصد قولي في رباعيتي المهداة له:
يا وديعَ النفسِ في دُنيا الذئابْ أنـت تحيــا في حـياةٍ قاتِلهْ
فاسْتعِرْ ظفراً ومنقـارأً ونابْ ثمَّ دُسْ بالنَّعْـلِ هـذي القافلهْ
(3 ) د. حسين علي محمد: سفير الأدباء وديع فلسطين، ط3، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 2000م، ص57.
(4) السابق، ص23.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:32 AM
محمود محمد شاكر في مرآة وديع فلسطين

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
................................

وديع فلسطين عضو مجمع اللغة العربية بدمشق وعمان واحد من أصحاب الأساليب المتميزة في الأدب العربي المعاصر، يعرفه قرّاء جريدة "الحياة" في "أحاديثه المستطردة" التي يكتبها عن الأدباء الذين عرفهم خلال نصف قرن، ويعرفه الأدباء والنقاد صاحب الكتاب الذائع "قضايا الفكر في الأدب المعاصر" الذي ينتصر فيه للفصحى وقضايا الأصالة.
ولد وديع في بلدة "أخميم" التابعة لمديرية "جرجا" في أول أكتوبر(تشرين الأول) عام 1923 لأبوين قبطيين، وتخرج في قسم الصحافة من الجامعة الأمريكية عام 1942م، وفور تخرجه عمل بجريدة "الأهرام"، وفي الفترة ما بين (أول مارس 1945-ديسمبر 1952م) عمل محررا في "المقطم" و"المقتطف"، فرئيساً للقسم الخارجي بالمقطم ، فمحرره السياسي والدبلوماسي، وناقده الأدبي، ومعلقه الاقتصادي وممثله في المؤتمرات الصحفية حتى انتهى به الأمر إلى ممارسته لجميع اختصاصات رئيس التحرير دون أن يُكتب اسمه بهذه الصفة على "ترويسة" الجريدة. وقد عمل في الفترة (1948-1957م) أستاذاً لمادة الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
ولقد نشر في "المقتطف" عشرات المقالات والدراسات (تأليفاً وترجمةً) كما كتب فصولاً في العلوم، والنقد الأدبي، والقصة، وكان القارئ يجد له في العدد الواحد أكثر من مادة منشورة. وقد كتب مئات الفصول في دراسة الأدب ونقده لعل أشهرها حلقاته "أحاديث مستطردة" عن صلاته بأدباء العصر مثل: العقاد، وزكي المحاسني، وزكي مبارك، ومصطفى الشهابي، وميخائيل نعيمة ... وغيرهم، وهي دراسات يكتبها في أسلوب فريد قل أن تجد لها نظيراً بين مُعاصريه الآن. وقد نشرت في "الأديب" البيروتية أولا حتى عام 1984م، وبعد احتجاب "الأديب" أصبحت تُنشر ـ في"الحياة" اللندنية.
ولم يكتب وديع فلسطين بعد حديثا مستطرداً عن صديقه العلامة محمود محمد شاكر، لكنه تحدث عنه إليَّ في رسائله الأدبية أكثر من مرة.
في رسالته المؤرخة في 30/1/1976م رشح العلامة محمود محمد شاكر لجائزة الدولة التقديرية، وقال:
"أرشح محمود محمد شاكر للجائزة التقديرية، لأن هذا العالم الفذ قد وقف كل عمره على الحفاظ على تراث الضاد ، وكأنه ديدبان شاكي السلاح يذب عن حياض الضاد كل متجهم أو متحرش أو متطاول. وأتصور بعين الخيال أن محمود شاكر يقيم في قلعة حصينة، في داخل أسوارها كل مقدسات الضاد، وهو الحارس اليقظ الذي يحمل تبعة مزدوجة، هي الدفاع المتصل عن التراث الذي هو به منوط، والتنبيش الدائم في هذا التراث لاستخراج مفاخره وإعلانها في كتاب محقق أو مقال مكتوب أو محاضرة مُلقاة أو حديث مرتجل في ندوة أسماره التي يحج إليها الحجيج من ديارات العرب جميعاً.
وإن المرء لتعروه الدهشة إذ يرى هذه القمة المسماة محمود محمد شاكر خافية عن عيون مجتمعه، إلا في ما يُسيء. وقليلة على محمود شاكر عضوية المجامع، بل قليلة عليه جائزة التقدير، ولكن لسان الحق الذي تنطق به العُدُول من الخلق يدعو في إلحاح إلى إنصاف هذا العالم الأستاذ الذي يجلس في محضره أكابر الباحثين وكأنهم من تلاميذه النجباء، يطمع كل منهم في أن يحسب في عِداد حوارييه. فكيف يجهل مجتمع الفكر محمود شاكر؟. إن هذه لمأثمة كبرى لا يمحوها إلا التقدير يأتيه ساعياً من أعلى مقام".
وقد سألته عن المعركة التي دارت بين شاكر ولويس عوض على صفحات "الرسالة" (عام 1965م)، حول فهم لويس عوض لأشعار المعرِّي، والتي من نتائجها كتاب شاكر "أباطيل وأسمار" فقال (في رسالته المؤرخة في 3 /8/1975م):
"محمود محمد شاكر صديق قديم، وهو جار لي في مصر الجديدة وأزوره كثيراً. أما مقالاته عن لويس عوض التي جُمعت بعد ذلك في كتاب من جزءين عنوانه "أباطيل وأسمار"، فلو خلت من طابع الحدّة لكانت أشد وقعاً على لويس عوض، فمحمود شاكر حُجَّة في الأدب العربي، وله مواقف خالف فيها طه حسين وألزمه الصمت. ولكن المقالات التي نشرها في "الرسالة" ألبست القضية لا ثوب النزاع الأدبي، بل ثوب المعركة الدينية. وقد ترتب على هذه المقالات اعتقال محمود شاكر مدة طويلة، فلما خرج من السجن غادرته حدة الطبع، وصار أقل غضباً مما كان".
وكثيراً ما كان يزور شاكر، ويتحدثان أحاديث خاصة يُشير إليها في رسالة من رسائله، يقول في رسالته (المؤرخة في 30/8/1976م):
"تسألني عن واقع الأدب العربي ومستقبله، فأقول لك بالمختصر المفيد: لا واقع للأدب ولا مستقبل بغير الحرية الكاملة؛ كنت يوم الجمعة الماضي في زيارة صديقي وجاري العلاّمة محمود محمد شاكر، ولقيت عنده صديقي العتيد الشاعر محمود حسن إسماعيل الذي ابتدرني بقوله: ما تعليل امتناع الشعراء عن نظم قصائد في "تل الزعتر"؟ فقلت له: هذا السؤال يرتدُّ إليك؛ لأنك أنت شاعر، تستطيع النظم في تل الزعتر وتل أبيب!، أما نحن فلا نتعامل في بضاعة الشعر. ثم استدركتُ قائلا: إن الناس قديماً كانوا ينفعلون تلقائيا إزاء كبار الحادثات، فينظم الشعراء شعرهم دون تكليف أو أمر متناولين فيه زلزال مسّينا، أو حريق الزقازيق، أو كارثة منطاد زبلن … أو غير ذلك. أما في العشرين سنة الأخيرة، فقد اعتاد الشعراء أن يتلقوا أوامر بإعداد قصائد في الموضوعات الجارية فجاء شعـرهم خلواً من كل انفعال أو عاطفة. وحتى الآن لم تصدر للشعراء أوامر لنظم قصائد في تل الزعتر، ولهذا تخلّفوا عن أداء هذا الواجب الوطني! فضحك محمود حسن إسماعيل ومحمود شاكر وكل الجالسين!".
ويتحدث عن زياراته للعلامة شاكر، ورأيه فيه في رسالة أخرى، فيقول (في رسالته المؤرخة في 2/6/1977م):
"محمود شاكر صديق قديم، كما أنه جار لي، وأزوره مرة كل أسبوعين أو ثلاثة. وهو بلا أدنى ريب من أفقه فُقهائنا في الأدب العربي وفي الدين، ولولا حدّةٌ في طبعه وصلابة في رأيه لما حورب في حياته وفي رزقه. إذا سألته عن طه حسـين كان جوابه: جاهل. وإذا طلبت رأيه في أحمد أمين قال: أُمي، وهكذا. فلا غرو أن يكثر كارهوه، وأن يُحاولوا إخمال ذكره ومحاربته حتى في لقمة قوته، بل إدخاله السجون الناصرية أكثر من مرة".
وكتب وديع فلسطين لي بعد وفاة محمود محمد شاكر يقول (في رسالته المؤرخة في 19/9/1997م) يقول:
"خسارتنا في محمود شاكر لا تُعوّض، وأنا أعرفه من أيام مجلة "المقتطف"، أي من نصف قرن، وكنت منتظماً في ندوته الأسبوعية لولا مشاغل الحياة من ناحية، ولولا أن في طبيعته حدّة عنيفة تجعلني دائم التهيُّب وأنا في محضرِهِ ـ مع أنه لم يُسئ إليه مرة واحدة، ولا نالني بأي عبارة جارحة بل كان يُثني عليّ دائماً في حضوري وغيابي ـ ، وهذا التهيب هو الذي يجعلني شديد التردد في الكتابة عنه، ولكنني لم أُقصِّر في القيام بواجب العزاء لأفراد أسرته. وقد اطلعت على معظم ما نُشر عنه في الصحف المصرية واللبنانية والصحف العربية الصادرة في أوربا، وطويت هذه المقالات جميعاً وبعثت بها إلى نجله الدكتور فهر".
"ومن تقاليد المجمع تأبين أعضائه العاملين واستقبالهم عند انتخابهم، والمفروض أن يقيم مجمع القاهرة حفلاً لتأبينه بمناسبة الأربعين، كما أن من المتوقع أن يرثيه رئيس مجمع دمشق الدكتور شاكر الفحّام لأنه يُعدّ نفسه من تلاميذه، كما أن شاكر كان عضواً مراسلاً في مجمع دمشق سابقاً عليَّ مباشرةً في العضوية، بمعنى أنني صرت الآن أقدم الأعضاء المصريين المراسلين في المجمع من الأحياء".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 25/9/1997م):
"قلّ ترددي في بضعة الأعوام الأخيرة على أستاذنا محمود شاكر، مع أن بيته قريب من بيتي، وبالتالي لم يهدني كتابه "نمط صعب ونمط مخيف"، وإن كنت قرأت فصوله مُنجَّمة في مجلة "المجلة" عندما كان يحيى حقي يرأس تحريرها. وعندي المجموعة الكاملة لهذه المجلة إلى عدد أكتوبر 1968م، وهو آخر عدد صدر قبل هجرتي (…) إلى ليبيا … والذين كتبوا مطولات عن محمود شاكر بعد وفاته غفلوا عن أمرين: أولهما أنه هاجم الدكتور علي جواد الطاهر العراقي في كتاب مستقل، وثانيهما أنه عمل مديراً لمجلة "المختار من ريدرز دايجست" عند صدور طبعتها العربية للمرة الأولى في القاهرة في أثناء الحرب، واختاره لهذا العمل صديقه وأستاذنا الدكتور فؤاد صروف الذي كان رئيسا لتحرير هذه الطبعة. ومع أنني أعرف محمود شاكر من 50 سنة، فأراني شديد التهيب في الكتابة عنه هو وأصدقائي المشايخ: خالد محمد خالد، ومحمود أبو رية، وأحمد الشرباصي، ومصطفى عبد الرازق وغيرهم".

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:33 AM
حين يأتي التكريم من خارج الحدود(1)

بقلم: الدكتور حلمي محمد القاعود
......................................
نشرت الصحف منذ أيام أن مجمع اللغة العربية في دمشق انتخب الأديب وديع فلسطين عضوا مراسلا للمجمع، تقديراً لمكانته العلمية والأدبية .
وقد أحسست بمزيج من المشاعر عند قراءة الخبر، وسعدت لأن أديباً كبيراً حقا كرمته هيئة علمية كبيرة في دولة شقيقة، وأسفت لأن هيئة علمية كبيرة أو صغيرة في مصر لم تلتفت إلى الرجل، أو تذكره بخير أو شر!.
ويبدو أن قدر بعض الأدباء أن يعيشوا حياتهم: يعملون في صمت ومثابرة وجد، ويخدمون الوطن بعيداً عن مهرجانات الإعلام والدعاية، ثم يذهبون في صمت أيضا دون أن ينالوا في حياتهم كلمة تقدير، أو لفتة تكريم، وأحسب أن الصحافة الأدبية في بلادنا مسؤولة عن ذلك إلى حد كبير، فبعض الصفحات الأدبية لا تهتم إلا بمن يجري وراء محرريها، وبعضها لا يعنيه ما يحدث على الساحة الأدبية ويترك المسألة للظروف، وفي هذا الوضع تختل الموازين، وتُهدر القُوى، ونرى كبارا يؤولون إلى الظل، وصغاراً يلمعون تحت الأضواء.
ولو أننا سألنا بعض القائمين على الصفحات الأدبية: ماذا تعرفون عن وديع فلسطين ؟ لما أجاب بشيء، والأمر ينطبق تماما حين نسألهم مثلاً عن محمد رجب البيومي، أو جميلة العلايلي، أو حسين مجيب المصري، أو نجيب العقيقي، أو محمد عبد الله عنان، أو أنور الجندي، أو محمد عبد الحليم عبد الله، أو أمين يوسف غراب، أو علي أحمد باكثير، أو محمد غنيمي هلال، أو محمد عوض محمد، أو أحمد زكي .. أو .. أو ..
والقضية تحتاج في رأيي إلى تدعيم روح السماحة في الحياة الأدبية، وهو معنى أقرب إلى الديمقراطية، بحيث تتاح الفرصة لكل التيارات أن تظهر أمام الناس، وتبذل جهدها ونشاطها بصورة متكافئة في القنوات الإعلامية المختلفة. ولا أعتقد أن الدولة وحدها تستطيع أن تحل هذه المشكلة، والذي يستطيع أن يُسهم بدور فعال هم الأدباء أنفسهم الذين يملكون القنوات الإعلامية في الصحافة والإذاعة والتليفزيون، وعليهم أن يخففوا قليلا من منطق المصالح المتبادلة حتى يستطيع شعبنا أن يتعرف على أدبائه وعلمائه، ويحكم عليهم، ويُقارن بينهم، وحكمه دائماً هو الصحيح.
أعتقد أن هناك سؤالا يقول: من هو وديع فلسطين الذي تحدثنا عنه، وأقول إنه أديب مصري، وُلِد في عام 1923 بمركز "أخميم" محافظة سوهاج، وتخرج في الجامعة الأمريكية عام 1942 كتب عنه مؤلف "من الأدب المقارن" أنه يشتهر بدماثة الخلق، وموضوعية البحث، ودقة الترجمة المتنوعة في المجالات الثقافية والقانونية والاقتصادية والسياسية، وفي كتاباته دافع عن العروبة واشترك في تحرير عدد من الصحف السيارة من بينها: المقطم، والأهرام، وأخبار اليوم، والإنذار، والمجلة المصرية، والصباح، وصوت الشعب، ومنبر الشرق.
وقد كتب وديع فلسطين في عدد من المجلات المتخصصة، مثل: المقتطف، والأديب، والعلوم، والرسالة، وقافلة الزيت، والاقتصاد والمحاسبة، والعرفان ، والضاد ... كما راسل معهد الشؤون العربية الأمريكية في نيويورك، وكان هذا المعهد يهدف إلى تعريف الأمريكيين بالقضايا العربية، واختير أيضا عضو شرف في معهد آسيا بواشنطن.
وعندما تذكر رابطة الأدباء، فإنه يُذكر من مؤسسيها الشاعر إبراهيم ناجي ووديع فلسطين.
وللأستاذ وديع عدد من المؤلفات، أشهرها مسرحية "الأب" لسترندبرج، و"قضايا الفكر في الأدب المعاصر" ،و"استقاء الأنباء فن: صناعة الخبر"، و"فلسطين في ضوء الحق والعدل"، ونشر مجموعة شعرية لأحمد زكي أبو شادي.
إن التكريم حين يأتي من خارج الحدود ينبغي أن ينبهنا إلى ضرورة البحث عن أعلامنا ومن ينتظر أن يكونوا أعلاماً في المجالات الجادة والمثمرة، وينبغي أل ننتظرهم في مكاتبنا يبحثون عنا لنكتب عنهم أو نشير إليهم. وتقدير الأعلام لا ينقص من كرامة المُقدِّر، بل يرفعها إلى عليين، لأنه أنصف من يستحق الإنصاف، وأكرِمْ بخلة الإنصاف من خلة في عالم السلوك والأخلاق والآداب ".
.......................................
(1) نشرت هذه المقالة في جريدة "الجمهورية" (القاهرة) _ 6/4/1986. وأعيد نشرها في مجلة "الضاد"(حلب)، عدد أيار 1986 ، ص ص26-28.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:35 AM
وديع فلسطين .. سفير الأدباء(1)

بقلم: الدكتور حلمي محمد القاعود
......................................
وديع فلسطين (ولد عام 1923) أديب كبير يُقدِّره الأدباء العرب حق قدره، وإن لم تلتفت إليه الأجهزة الثقافية في مصر فتُعطيه بعض حقه عليها، كما تفعل مع أشباه الكتاب والأدباء.
ولعل السرَّ في ذلك أن الرجل يحترم نفسه، ويربأ بها أن تقف على باب مسؤول هنا أو هناك، ويدّخر جهده ووقته في العمل والإنتاج، فضلاً عن مساعدة الباحثين بالمادة العلمية والمراجع الأدبية في أي مكان كانوا، وأي زمان طلبوا.
وكان من الوفاء الجميل أن يقوم صديقي الشاعر الأديب الدكتور حسين علي محمد بإخراج كتاب تذكاري عن الرجل تقديراً لدوره وتعريفاً بمكانته بعنوان "سفير الأدباء: وديع فلسطين"، وينشر هذا الكتاب على نفقته الخاصة ضمن سلسلة "أصوات مُعاصرة"، فيُقدِّم الرجل تقديماً جيداً من خلال كتاباته ومؤلفاته، ومن خلال ما كتبه عارفو فضله وأدبه في مصر والأقطار العربية والمهاجر الأجنبية.
والسفارة الأدبية لدى وديع فلسطين هي تواصل حميم بين عشاق الكلمة الصادقة وأصدقاء الحرف النقي في مصر أو خارجها، وقد قضى وديع فلسطين أكثر من نصف قرن سفيراً للأدباء، يُكاتبهم ويكتبون له، ويقرأ لهم ويكتب عنهم، ويُعرِّف بهم. وكان من أوائل الذين كتبوا عن نجيب محفوظ، وأوائل الذين ترجموا المسرح السويدي، ومازال أقدر المترجمين في بلادنا على الترجمة الأدبية الراقية، التي تفي بالمضمون الأصلي للنص مع صياغته صياغة أدبية جميلة. كتب عنه شاعر أبولُّو الكبير الدكتور أحمد زكي أبو شادي، فقال: "هذا الأديب القبطي الإنساني النابه من مفاخر الجيل الحاضر في مصر، وهو جوهرة شريفة متألقة في تاج الأدب العربي الحديث ". (جريدة الهدى، نيويورك، العدد 144، في 18/9/1950).
ويصفه الأستاذ محمد سعيد العامودي ـ الكاتب السعودي الكبير ـ "بالكاتب العربي الواسع الاطلاع، والأديب الباحث المفكر، ويرى أنه ليس غريباً أن يكون أبرز ما تتسم به بحوثه: الأصالة والموضوعية" (مجلة المنهل، جدة، أغسطس 1960م).
لقد تخرّج وديع فلسطين في قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية عام 1942م، وكان من أوائل الذين حملوا شهادة البكالوريوس في الصحافة من مصر، وعقب تخرجه عمل بجريدة "الأهرام"، ثم انتقل عام 1945م إلى جريدة "المقطم" في أواخر عهدها، حيث عمل محررا فرئيساً للقسم الخارجي، فمحرراً سياسياً ودبلوماسيا، وناقداً أدبيا، ومعلقا اقتصاديا، ورئيساً فعليا للتحرير دون أن يُكتب ذلك في "ترويسة" الصحيفة، بجانب مشاركته في تحرير "المُقتطف": المجلة العلمية الأدبية المعروفة، وظل بالمقطم حتى توقفت عام 1952م، فترك الصحافة وتفرّغ للكتابة الحرة وأعمال الترجمة.
والرجل من مدرسة أدبية جادة تؤمن بالصدق والإتقان مهما أنفقت من جهد ووقت ومال، يُتابع ويقرأ، ويسعى إلى المزيد من الاطلاع حتى يومنا هذا، بعد أن تجاوز الخامسة والسبعين. كل ذلك إلى جانب عمله الأصلي الآن في مجال الترجمة، كما سبقت الإشارة.
وقد قدّم للمكتبة العربية عدداً كبيراً من الكتب المترجمة، منها "الأب" مسرحية لأوجست سترندبرج، و"فلسطين في ضوء الحق والعدل" لهنري كتن، و"جعفر الخليلي والقصة العراقية الحديثة" لتوماس هامل (بالاشتراك)، و"أوليفر وندل هولمز القاضي الشاعر الأمريكي"، و"على درب الحرية" لمارتن لوثر كنج، و"استقاء الأخبار فن: صناعة الخبر"، و"العلاقات العامة فن"، و"تطور صناعة الزيت في الشرق الأوسط"، و"مقدمة إلى وسائل الاتصال".
ولقد كتب وديع فلسطين كثيراً من الفصول حول القضايا الأدبية، وتناول في سلاسل متعددة كثيراً من القضايا الثقافية التي تعني الأدباء والقراء عامة، ومنها سلسلة أحاديثه المستطردة التي بدأ كتابتها في مجلة "الأديب" اللبنانية، ويكتبها الآن في جريدة "الحياة" التي تصدر من لندن، ويُعرِّف في هذه الأحاديث بأعلام الأدباء المعاصرين الذين التقى بهم أو حاورهم، أو عرفهم من قرب. ومادة هذه الأحاديث مرجع مهم في ميدان البحث الأدبي والعلمي والثقافي.
ومن المفارقات أن مجلاتنا الأدبية العريقة في مصر والبلاد العربية اهتمت بالرجل فجأة عقب مقال كتبته صافي ناز كاطم، فراحت هذه المجلات تطلب منه أن يُوافيها بمقالاته لتنشرها، وتُلح في الطلب! ولا أدري هل تمتد هذه المفارقات إلى أن تعهد هذه المؤسسات إليه بترجمة عمل أدبي كبير سواء في المشروع القومي للترجمة، أو الألف كتاب الثانية أو غير ذلك؟
أعلم أنه يتعفّف عن الطلب، أو إبداء الرغبة، لأنه ينصرف كلية إلى أعماله الخاصة التي تُغنيه عن البشر (المسؤولين وغير المسؤولين). ولكن وطناً يُقدِّر أبناءه لابد أن يلتفت إلى الرجل بطريقة أو أخرى.
إن وديع فلسطين من جيل عرك الحياة، واحترم القيم الرفيعة، بل اعتنقها حتى صارت جزءاً من سلوكه وفكره، ومن واجبنا أن نُقدِّمه للأجيال الجديدة التي لا ترى أمامها إلا نماذج الفهلوة والتسلل والنفاق والمصالح المتبادلة، وغاب عنها ـ أو غُيِّبت عنها ـ نماذج العمل والكفاح والأخلاق الرفيعة والمُثُل العُليا!
ــــــــــــــ
(1) نشرت في "المساء الأسبوعية"، العدد (15082)، الصادرة في 15/8/1998م، ص10.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:37 AM
«سفير الأدباء: وديـع فلســطين»

بقلم: عنتر مخيمر
................

هذا الكتاب ربما كان الأول من نوعه، فقد اعتمد مؤلفه على مختارات من آراء وكتابات وديع فلسطين المنشورة في الأدب والنقد، بالإضافة إلى رسائله الأدبية وثلاثة حوارات أجراها المؤلف معه، كما رجع لقصائد كبار الشعراء ومقالات الكتاب الذين كتبوا عنه.
وفي الحقيقة لقد أبدع المؤلف في رسم صورة صادقة لوديع فلسطين كأديب وناقد، ولنقلب صفحات الكتاب:
*في الفصل الأول يتحدث وديع فلسطين عن نفسه من خلال رسائله للمؤلف، فيقول عن ثقافته:
"إن مطالعاتي في أول عهدي بالحياة كانت مطـالعات باللغات الأجنبية، وكانت تتناول جميع فروع المعرفة، أدباً وعلماً وعلم نفس واقتصاداً وسياسةً وتراجم … وما إلى ذلك، أما قراءاتي العربية فكانت تسير على غير منهاج مقرر .. كما أن مطالعاتي كانت تتغير وفقاً لاهتماماتي اليومية ... ولئن غلب عليّ الآن المطالعات الأدبية، فما زلت أجد متسعاً من الوقت لقراءة الكتب العلمية وكتب الاقتصاد وعلم النفس والكتب التي تتنـاول الصحافة وعلومها وتاريخها وفنونها. وهكذا ترى يا أخي أنني سأموت وعلى صدري كتاب كالجاحظ قديماً وسلامة موسى حديثاً".
وعن نشأته الأدبية يقول: "تتلمذت في الجامعة على الدكتور فؤاد صروف والسباعي بيومي والسيد شحاته وعبد الله حسين (أحد أركان جريدة "الأهرام" في الأربعينيات)، ثم عملت في الحياة مع الدكتور فارس باشا نمر، وخليل تابت باشا، وخليل مطران بك، وعلي الغاياتي، والدكتور نقولا الحداد، وإسماعيل مظهر، والدكتور بشر فارس … وغيرهم، فكان لامفر لي من الاشتغال بالأدب مهما حاولت أن أنصرف إلى الصحافة".
"إن اشتغالي بالأدب كان من ناحية تورطا، وكان من ناحية أخرى هـرباً من ألوان الكتابات الأخرى السياسية والاقتصادية".
وعن المدرسة التي ينتمي إليها في الأدب:
"لا أعرف مدرسة أنتمي إليها، أو أوصف أنني من تلاميذها".
ويرى وديع فلسطين أن الأدب الحقيقي يتوارى في صحافتنا الراهنة، حيث يقول: "العلاقة بين الصحافة والأدب علاقة قديمة وثيقـة. ولكن الحيِّز المخصص للأدب في الصحف أخذ يتقلّص حتى انعدم أو كاد. وفي الوقت الذي تُخصص فيه الصحف أركاناً يومية للرياضة ولفنون السينما والتليفزيون، لا تخص الأدب إلا بباب أسبوعي يُلغى إذا طغت الإعلانات أو زاد طوفان أخبار السياسة. وحتى هذه الأبواب الأدبية فإنها قلّ أن تستكتب أديباً مرموقاً".
ومواصفات الأدب الجيد عنده تتمثل في "أسلوب وفكرة. فلا أدب لا ينهض على أسلـوب ناصع متميز متفرّد. ولا أدب إن لم يكن محوره فكرة أصيلة بارعة. فهذا هو الأدب المُشبِع".
*وفي الفصل الثاني يقدم المؤلف من آراء وديع فلسطين ما يُشكِّل رؤية أدبية تستحق على حد قوله التقديم والنقاش:
"فإن رأيتني كارهاً للشعر الجديد ، فلأنني وقد ألفت شعر القوافي لم أستطع "هضم" الشعر الجديد ـ حتى بعد قراءة السـيَّاب والبيَّاتي ونازك وفدوى والحيدري وتلميذي السابق معين بسيسو … وغيرهم، وإن رأيتني أمُجُّ أسلوب يوسف إدريس، فلأنني نشأت على قراءة أساليب الزيَّات وفؤاد صرُّوف وأحمد زكي ومحمود تيمور ووداد سكاكيني، وإن رأيتني عاجـزاً عن فهم لطفي الخولي، فلأنني عشت في صحافة الوضوح؛ صحافة أنطون الجميِّل وخليل تابت وعزيز مرزا وتوفيق دياب وعباس حافظ وسلامة موسى".
تسألني عن واقع الأدب العربي ومستقبله، فأقول لك بالمختصر المفيد: لا واقع للأدب ولا مستقبل بغير الحرية الكاملة". "فلما صارت الصحافة ألعوبة في يد الحاكم، وصار الصحفيون موظفين مهمتهم كتابة العرائض وترديد كلام الحاكم كالببغاوات، تركت الصحافة إلى الاقتصاد أولا، ثم تركت الاقتصاد بعد أن زحفت عليه الخزعبلات إلى الأدب. وحتى الأدب كدت أتركه غير مرة بعدما رأيت أسباب العبث تغشى ميادينه وتحاول إفساده بدعوى "الالتزام" أو باسم "الأدب الهادف". والمراد بهذه الألفاظ جعل الأدب موظفاً في الدولة يلتزم بأوامرها ونواهيها ويستمد اتجاهاته منها.
ويرفض وديع فلسطين الشللية المقيتة التي تستشري في حياتنا الأدبية ويقول:
هناك نزعة احتكارية بادية معالمها في الجو الأدبي كلِّه. فخمسة أو ستة أو عشرة من الأدباء هم الذين آلت إليهم منابر الأدب جميعها؛ فهم في مجلس الفنون، وفي جمعية الأدباء، وفي نادي القصة، وفي اتحاد الكتاب، وفي مجلات الأدب، وفي أركان الإذاعة، وفي "استوديوهات التليفزيون"، وفي منتديات الأدب ومؤتمراته".
"وهناك إحجام عن التعريف بالكتب الجيدة القليلة الصادرة، و"إسهال" في التعريف بالكتب التي تشول في ميزان النقد. وهناك جنوح إلى الأخذ بأساليب "الموضة" في الأدب. و"الموضة" معناها قيام مناسبة ما، فيتسابق على التأليف فيها الأدباء والشعراء".
ومن آراء وديع فلسطين في الأدباء والشعراء:
يقول عن أحمد زكي أبي شادي:
"شعره تراث هائل ولو من حيث الكم، أما من حيث الكيف فالأمر متروك لأذواق الناس، وهم يختلفون، ولو قرأت قصيدته في رثاء ناجي لقلت إن هذا أعظم شعراء العربية".
ويقول عن طه حسين وعباس محمود العقاد:
"كرهت في طه حسين نفاقَه وحبَّه للوجاهات، على نقيض العقاد الذي كان جريئاً في قول الرأي بلا نفاق أو مُداجاة، كما كان يفتح بابه وصـدرَه لأمثالنا من البسطاء .. وكان طه حسين ظالماً في أحكامه الأدبية لأغراض خاصة في نفسه، ولا هكذا العقاد".
ويقول عن علي أحمد باكثير:
"والحقيقة أن باكثير ظُلِم في مصر كثيراً في حياته .. كما ظُلم بعد وفاته لأن ما نُشر عنه من دراسات، بل ما أُعيد نشره من كتب جرى خارج مصر، وعلى وجه التحديد في السعودية. وكانت لي في "الأهرام" مؤخراً كلمة عن "مظاليم الأدب"، ذكرت من جملتهم باكثير العظيم، رحمه الله".
ويقول عن محمود محمد شاكر:
"هذا العالم الفذ قد وقف كل عمره على الحفاظ على تراث الضاد ، وكأنه ديدبان شاكي السلاح يذب عن حياض الضاد كل متجهم أو متحرش أو متطاول".
ويقول عن نجيب محفوظ:
"اعتقادي ـ من واقع مطالعاتي الأولى لنجيب ـ أنه فنان عظيم، وأنه يستحق كل تكريم يناله، ولاسيما وأن له شخصية أصلب عوداً من توفيق الحكيم الزئبقي الرجراج. فنجيب محفوظ لم ينغمس في التأييد الأعمى للإجراميات والإنكشاريات والإرهابيات التي عشناها ربع قرن كما فعل "فاقد الوعي" توفيق الحكيم ، ومن ثم لم يعوزه الأمر إلى "صك غفران" يقدمه إلى الجمهور ليصفح عن خطيئته كما فعل توفيق الحكيم في "عودته إلى الوعي".
ويقول عن "أصداء السيرة الذاتية":
"الأصداء مزيج من الحكمة والهلوسة، وجرعة الهلوسة فيها أكبر. ولولا جائزة نوبل التي رفعت نجيب محفوظ إلى مرتبة آلهة الحكمة لما اهتم أحد بهذه الأصداء غير المترابطة".
*وفي الفصل الثالث ويضم ثلاثة حوارات حول الحياة الأدبية يقول وديع فلسطين:
-"أرى نفسي في أقصى مقعد خلفي من مقاعد المتفرجين على مواكب الحياة الأدبية، وهو مكان آثرته لنفسي بعدما "توظف" الأدب، وصار الأديب يُعرف لا بإنتاجه بل بدرجته الوظيفية أو عضويته للجان والمجالس المختلفة".
-رأيت ظواهر أغلبها لا أرتاح إليه ، أذكر بعضها في تعميم لا تخصيص: فهناك نزعة احتكارية بادية معالمها في الجو الأدبي كلِّه. فخمسة أو ستة أو عشرة من الأدباء هم الذين آلت إليهم منابر الأدب جميعها؛ فهم في مجلس الفنون ، وفي جمعية الأدباء، وفي نادي القصة ، وفي اتحاد الكتاب ، وفي مجلات الأدب ، وفي مؤتمراته. وهناك إحجام عن التعريف بالكتب الجيدة القليلة الصادرة، و"إسهال" في التعريف بالكتب التي تشول في ميزان النقد.
-وهكذا ترى أن مكاني ضائع بين الأجيال، وهي جميعاً تكاد تنكرني، ممَّا يجعلني أوثر الاستقلال على ادِّعاء الانتماء إلى هذا الجيل أو ذاك.
-فالأدب قد صارت تسري عليه نواميس التجارة، بل إن هذه النواميس هي وحدها التي تتحكم في الأدب أيا كانت قيمته.
-وصفوة القول: إن الأدب لن يزدهر إلا إذا تخلص من اعتبارات التجارة المفروضة عليه سواء من الناشرين أو من المجتمع نفسه .
-أمنيتي هي أن تتميز الحياة الفكرية بالجد لا بالهزل، وبالأصالة لابالهوائية، وبالصدق لا بالرياء، وبالشرف لا بالبهلوانيات، وبالحرية لا بنقيضها. فليكن الأدب خالصاً للأدب، بريئاً من الترهات العقائدية الفارغة حرًّا، حُرًّا، حُرًّا.
*وفي الفصل الرابع يُشير المؤلف إلى عشرات القصائد التي كتبها شعراء عصرنا مهداة إلى سفير الأدباء وديع فلسطين.
يقول الشاعر المهجري الكبير الراحل جورج صيدح:
زودتُ أقلامي بحبرٍ عسجدي وعزمتُ أكتبُ ما يليقُ بسيدي
هـذا (الوديعُ) أعزَّني بمودَّةٍ هـي ثروةٌ شغلتْ عقولَ الحُسَّدِ
هـذا (المقفَّعُ) عالمٌ مترفِّـعٌ إن تقرب الأضــواءُ منهُ يبعُدِ
ويقول الشاعر المهجري زكي قنصل:
ارفق بنفسِك يا أديبَ الضَّادِ كمْ ذا تُعاني في الهوى وتُعادي
ما أنتَ إلا فرحَـةٌ في مأْتمٍ أو مأْتمٌ في فرحَـــةِ الميلادِ
ويقول صاحب هذا الكتاب:
يا وديعَ النفسِ في دُنيا الذئابْ أنت تحيــا في حـياةٍ قاتِلهْ
فاسْـتعِرْ ظفراً ومنقاراً ونابْ ثمَّ دُسْ بالنَّعْـلِ هـذي القافلهْ
*أما الفصل الخامس والأخير فيضم تسع مقالات كتبها كبار الكتاب عن وديع فلسطين وردت فيها الشهادات الآتية:
-"وصفوة القول إن هذا الأديب القبطي الإنساني النابه من مفاخر الجيل الحاضر في مصر، وهو جوهرة شريفة متألقة في تاج الأدب العربي الحديث " (أحمد زكي أبو شادي).
-"والواقع أن كتابه "قضايا الفكر" يعَدُّ ثورة طوَّحت بأضاليل الأسلوب العربي الرخيص ـ إذا جاز ما يُكتب بالعامية أو العربية المنحرفة أدباً ـ إلى ما وراء العدم، ليُثبت صحة الأدب العربي وسلامته وقوته". (جميلة العلايلي)
-"وفي الحق ليس غريباً أن يكون أبرز ما تتسم به بحوث الأستاذ وديع فلسطين .. الكاتب العربي الواسع الاطلاع، والأديب الباحث المفكر .. ليس غريباً أن يكون أبرز ما تتسم به بحوثه: الأصالة والموضوعية!" (محمد سعيد العامودي)
-"وعندما تذكر رابطة الأدباء، فإنه يُذكر من مؤسسيها الشاعر إبراهيم ناجي ووديع فلسطين". (د. حلمي محمد القاعود).
-إذا قلت إن وديع فلسطين هو "ملك" فن كتابة رسم الملامح الشخصية الأدبية والثقافية، لا أكون مُغاليةً أو مُبالِغةً ... يا سبحان الله! من يلوم الظمآن يفرح طروباً حين يعثر على عين مياه عذبة في صحراء، مياه لم تُلوِّثها نفايات المصانع والمحاجر والمبيدات؟". (صافي ناز كاظم).
-"والوديع كاتب عملاق، واسع الثقافة، رحب الاطلاع، قلّما يصدر كتاب ذو بال في اللغة العربية أو الإنجليزية إلا ولديه عنه علم، أو له به اطلاع، أو عليه فيه نقد أو تعريف". (عبد العزيز الرفاعي).

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:39 AM
في تكريم حسني سيد لبيب

بقلم: وديع فلسطين
ــــــ
عرفت حسني سيد لبيب للمرة الأولى ـ وأسميه باشمهندس الأدب ـ لا في مصر بل في لبنان. فقد فوجئت ـ وأنا من عشاق مجلة "الأديب" اللبنانية ومن كتّابها على مدى أربعين عاما ـ بحسني سيد لبيب يغازلني بعبارات كريمة في هذه المجلة فيها من آيات التشجيع والمجاملة أكثر مما فيها من عبارات التقريظ والنقائض. كانت هذه بداية التعارف مع هذا الأديب اللبيب الذي سرعان ما استدرجني إلى حديث أجراه معي ونشره في مجلة "الإخاء" العربية التي كانت تصدر في طهران.
وبتّ أتابع كتاباته التي يوزعها شرقا وغربا في المجلات السعودية آنا، وآخرها مجلة "الحج والعمرة"، وفي المجلات التونسية آنا، وآخرها في مجلة "الإتحاف"، ثم انطلق في عصر العولمة إلى شبكة الإنترنت يغذيها بآثاره ليخاطب من خلالها أعدادا تتجاوز مجموع أرقام توزيع جميع المجلات الثقافية الأدبية في العالم العربي كله. ولم تنجُ حتى مجلة "الهلال" من آثار هذا المحسان الذي أتعبني في ملاحقة آثاره، لتقاصر أياديّ عن الإحاطة بكل ما ينشره في المجلات التي تقذف بها المطابع في المعمور العربي.
ومع أن الدراسة الأكاديمية التي دانت لحسني سيد لبيب جعلت منه خبيرا في الدرفلة والسحب على البارد والساخن وغير ذلك من مصطلحات الهندسة، وقد شدته الهواية إلى الكتابة الأدبية، فعالج النقد الأدبي والدراسات الأدبية والترجمة والكتابة الروائية والمسرحية والأدب المقارن. ولست أنسى أنني عندما زرت دمشق من سنوات كلفني بحمل نسخ من كتب له طبعت هناك، وله إلى جوارها كتب طبعت في تونس، وفي السعودية إلى جانب مصر.
وأحدث مؤلفاته هو كتاب عن رثاء الشعراء لزوجاتهم، تناول فيه ستة من الشعراء هم عزيز أباظة باشا وعبد الرحمن صدقي وطاهر أبو فاشا والدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ورابح لطفي جمعة والدكتور محمد رجب البيومي ـ وهنا جملة اعتراضية لابد منها، فقد تورطت الصحف السعودية منذ أيام في نشر فرية خسيسة عن البيومي زعمت فيها أنه انتقل إلى رحمة الله ورثاه صديقه عبد الفتاح أبو مدين مع أن البيومي ما زال يواصل رسالته الأدبية بهمة الشباب. وقد قلت له إن قدرنا أن نُنعي أحياء وننسى أمواتا! انتهت الجملة الاعتراضية.
ولعلي أضيف إلى مراثي الزوجات كتاب "جَمُدَ الدمع" وهو كتاب يجمع بين الشعر والنثر بكى فيه العلامة الأردني روكس بن زائد العزيزي زوجته الراحلة، كما أن للأديب الشاعر الفلسطيني خليل السكاكيني كتابا عنوانه "لذكراك"، رثى فيه زوجته سلطانة نثرا وشعرا، ومما قاله شعرا:
قفا نبك من ذكرى أذابت حشاشتي .:. ولا تبخلا بالدمع فالدمع حاجتي
قفـــا أسعفاني في مصابــي فإننــــي .:. أراه مصابــا قد تجــاوز طاقتــــي
وقد أكرمني ربي فعرفت هؤلاء الأدباء الثمانية جميعا.
وحسنا تفعل رابطة الأدب الحديث بتكريم حسني سيد لبيب، فهو من أكثر أعضائها التزاما ومثابرة وجدية ونشاطا، وإن يكن من القلة النادرة من المهندسين الذين اشتغلوا بالأدب، وقد أعياني أن أذكر منهم إلا الشاعر علي محمود طه ـ وهو لم يمارس الهندسة لأنه كان موظفا في مجلس النواب ـ وكان يقطن في عمارة يعقوبيان! ومنهم في الزمن الحالي ياسر قطامش المؤهل لإحياء الشعر الحلمنتيشي الذي برع فيه حسين شفيق المصري ومنهم ـ كما عرفت مؤخرا ـ الأديبة فاطمة ناعوث.
وما أحوج أدبنا المعاصر إلى عملية تكييف هيكلي ـ بتعبير البنك الدولي ـ تهندسه وتعيد إليه حيويته القديمة التي كادت السلطة تطغى عليها.
وأصارحكم القول بأنني كنت قد نفضت اليدين تماما من المشاغل الأدبية بعدما صارت أجيال جديدة تتهمنا بالماضوية والتبشير بقيم قديمة بالية أطاحت بها "التفانين" الجديدة على أيدي المجددين المتمترسين في أجهزة الأدب، ولكن تكريم الأخ العزيز حسني سيد لبيب ردّني إلى القلم المهجور، فجئت لأشارككم في هذه المناسبة الجميلة التي أرجو أن تتكرر مع غيره من أصلاء الأدباء.
ولئن كان هناك نوعان من التكريم، نوع "حاف" يقنع بالكلام البليغ، ونوع ذو "شخللة" بالدولارات والريالات والدنانير والجنيهات، فعزائي لحسني سيد لبيب أنه: لا خيل عندنا نهديها ولا مال فليسعف النطق إن لم يسعد الحال. والسلام عليكم
وديع فلسطين
ــــــــ
* ألقيت هذه الكلمة في حفل تكريم حسني سيد لبيب برابطة الأدب الحديث بالقاهرة يوم 18 يوليو 2006م.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:41 AM
البط والأوز في ديوان العرب (1)

بقلم: وديع فلسطين
......................


دمياط مدينة ساحلية تقع في مواجهة بور سعيد، وتشتهر بصناعة "الموبيليا" التي تُصدَّر إلى بلدان كثيرة، بل إن الصنّاع المهرة في هذه المدينة عرفوا طريق الهجرة إلى الخارج للانتفاع بكفاءاتهم وخبراتهم. وتشتهر دمياط بأكلات شهية منها صواني السمك والجبن الدمياطي والحلوى التي تُعرف باسم "المشبك"، كما تشتهر بالبط الدمياطي الشهير الذي يختلف عن البط البلدي بأنه أصغر حجماً، وأقلُّ دسماً، وأسرع طهياً، وأشهى مذاقاً، وأسهل هضماً.
ويُشاع عن الدمايطة أنهم يعرفون قيمة القرش، فلا يُنفقونه في غير وجهه الصحيح، ومن هنا قيل عنهم إنهم أبخل من بخلاء الجاحظ!
وقد أنجبت دمياط عدداً غير قليل من الأدباء والشعراء، منهم الدكتورة بنت الشاطئ، والشعراء محمد الأسمر، ومحمد مصطفى الماحي، وعلي الغاياتي، وحسن كامل الصيرفي، وعبد اللطيف النشار، والأديب نقولا يوسف مؤرخ دمياط وأعلامها، وقد نزح معظم هؤلاء الأدباء والشعراء من دمياط إما إلى القاهرة وإما إلى الإسكندرية.
وكان صديقنا الشاعر محمد مصطفى الماحي يدعو أصدقاءه من الأدباء والشعراء إلى ندوات أدبية يعقدها في داره ـ ومن المصادفات اللطيفة أن بيته يقع في شارع يحمل اسم البحتري ـ وكنت من جملة هؤلاء الأصدقاء الذين يغشون ندواته في العصاري، فإذا وافت الساعة الثامنة مساء تفرّقنا، كلٌّ إلى وجهته!
وذات يوم اتصل بي الماحي لدعوتي إلى ندوته، ولكن في الساعة الثامنة مساء. فقلت له: إن هذا موعد متأخر، لأننا اعتدنا الانصراف في الثامنة، بعد أن تكون الندوة بدأت في الخامسة، فقال: إن ظروفاً خاصة هي التي حدت به إلى تحديد هذا الموعد المتأخر.
وعندما وصلت إلى داره، وجدته مجتمعاً في حديقته الصغيرة الخلفية مع صديقنا الشاعر أحمد رامي ـ وهو جاره ـ وسرعان ما انضم إلينا الشعراء: محمود غنيم، والعوضي الوكيل، وحسن كامل الصيرفي، ومختار الوكيل، وعامر بحيري، وعبد السلام شهاب. ولما اكتمل النصاب دعانا الماحي إلى داخل المنزل، فإذا الموائد العامرة ممتدة، تتصدّرها ألوان من البط الدمياطي المشوي والمقلي والمسلوق والمُحمّر والمحشوّ! فقلت للماحي: إننا لم نتفق على هذا، فقد لبيت دعوتك إلى ندوة "بريئة" ليس فيها "رشاوى" من البط ومشتقاته! فقال: هي فعلاً زيارة بريئة، وأنا في انتظار حكمك بالبراءة، ولم أفهم ماذا يعني بهذه العبارة!
وجلسنا إلى المائدة، وكلُّنا على الطعام عاكف، مع إبداء إعجابنا بمهارة الطُّهاة وشهية الألوان، ولاحظت في أثناء ذلك أن الماحي ومحمود غنيم كان يتبادلان نظرات لا تخلو من معنى، وإن لم أفطن إلى سر هذه النظرات الماكرة.
ولما فرغنا من غذاء البطون، دعانا الماحي إلى صالون الأدب والشعر، وافتتحه بقوله إنه تعرّض لحملة شعرية شرسة من زميله غنيم يتهمه فيها بالبخل الشديد باعتباره من أهل دمياط. ولهذا فكّر في أن يدعونا لكي نكون شهوداً على تهافت هذا الاتهام، فنصدر حكمنا بعد سماع الاتهام ودفاع المتهم. وعندئذ ألقى محمود غنيم قصيدة ساخرة طويلة تضمّنت اتهام الماحي بأنه يحتكر البط الدمياطي لنفسه، ولا يُشرك فيه أحداً، وبأنه يُحكم إغلاق أبواب بيته حتى لا يشم الجيران رائحة الشواء التي يحتكرها هي بدورها. وظل غنيم يسوق عبارات الاتهام ونحن نضج بالضحك من سخرياته ومبالغاته، حتى لقد قال: إن نابليون ـ بكل جحافله ـ لا يستطيع أن يقهر روح البخل لدى الماحي!، ولما ختم قصيدته ردّ عليه الماحي بقصيدة، وتحدّى "غنيم" بأن يولم وليمة تُحاكي مآدب الماحي في ترفها وبذخها، وعاد غنيم يُفنِّد حجج الماحي، والماحي يرد عليه، ونحن نستمع إلى هذه المساجلات الشعرية الطريفة، ولا نملك إلا الإغراق في الضحك. ثم فُتِح الباب أمام الشعراء الحاضرين فخاضوا في هذه المعركة الشعرية ارتجالاً، فمنهم من سفّه غنيم، ومنهم من قال: إن الماحي سخي، ولكنه مقل، لأنه لا يُقيم أمثال هذه المآدب إلا مرة في كل قرن! وكان مسك الختام أرجوزة من الزجل أنشدها عبد السلام شهاب طائية القافية، تنتهي أبياتها بعبارات مثل: الدمياطي، وبنت الشاطي، والحفلاطي، وطاطي طاطي وهلم جرا. وقضينا سهرة ماتعة في سماع هذا الشعر، ثم طلب الماحي الحكم في هذا الاتهامات الجائرة، فقلنا له: إن مائدة البط المفتخرة هي البرهان على أن "غنيم" مفترٍ، وقد حكمنا ببراءتك من هذه الاتهامات.
ولأنني لست شاعراً فقد كان دوري هو دور المستمع لا المشارك، ولهذا حرصت في اليوم التالي على كتابة تعليق فكه على هذه المناظرة الشعرية وبعثت به إلى الماحي الذي جمع كل ما قيل في هذه الندوة ورغب في نشره في كتيب، ولكن وفاة زوجته حطّمته تماماً، فلزم الفراش، ولحق بها بعد ذلك، ومؤكّد أن حصيلة هذه الندوة تُعدُّ من المستطرفات الأدبية الجميلة.
هذا عن البط، أما عن الأوز فقد درج الشاعر التونسي محمد الشاذلي خزنه دار (1881-1954م)، ويطلقون عليه لقب "أمير شعراء الخضراء" على أن يقتني في بيته سرباً من الأوز، فلمّا تعرّض للسجن على أيدي الفرنسيين بعث برسائل إلى زوجته يوصيها بالأوز خيراً، ومما جاء في قصيدته الموجهة إلى الأوز:
كــوني معي قُرْباُ وبُعْداً إنني أهْـوى عفَافَكِ فالعفافُ رِدائي
فيك الفضائلُ كلُّها جُمِعَتْ، فما حسْنـاءُ فيهم شَابَهَتْ حسْنائي
صـــوني الأوزَّ وبشِّريهِ بأنَّهُ في يومِ إطْــلاقي منْ الطُّلقَاءِ
وهكذا يتسع ديوان العرب للبط الدمياطي والأوز التونسي!
ــــــــــــــــ
(1) المصدر: جريدة "الراية" القطرية، في 12/4/1997م.

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:43 AM
سلامة موسى في مرآة وديع فلسطين

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
......................

ولد سلامة موسى (1887-1957م) في الزقازيق. عرف بدعوته إلى التجديد في اللغة والأدب. والى الأخذ بالثقافة العلمية والأفكار الاشتراكية. عمل في حقل الصحافة وأسس مجلة "المجلة الجديدة" التي تخرج منها أبرز الأدباء المصريين كنجيب محفوظ مثلا. ومن آثاره: "هؤلاء علموني"، تربية سلامة موسى"، "نظرية التطور وأصل الإنسان"، "حرية الفكر وأبطالها في التاريخ"، البلاغة العصرية واللغة العربية"، "المرأة ليست لعبة للرجل."
تحدث العلامة وديع فلسطين عن سلامة موسى كثيراً في رسائله التي أرسلها إليَّ:
يقول الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 9/6/1976م):
" ... وسؤالك الثاني خاص بسلامة موسى ومتى عرفته، وجوابي أنني عرفته وأنا بعد طالب في الجامعة حوالي عام 1940م. إذ أننا أردنا في جامعتنا أن نبتدع حركة اجتماعية بين الطلاب والطالبات فأعلنا في مجلة "القافلة" ـ وكنت رئيساً لتحريرها ـ أننا سنجري انتخاباً لاختيار الفتاة الجامعية المثالية، وقمنا بإجراء الاستفتاء فأسفر عن فوز طالبة يونانية بهذا اللقب، فنشرنا صورتها في "القافلة" وفي مجلة "الاثنين" التي كان يُحررها صديقي القديم مصطفى أمين مع توأمه علي أمين وفي بعض الصحف الأخرى". وكان سلامة موسى يصدر وقتها "المجلة الجديدة"، فاتصل بالجامعة واستعار "كليشيه" صورة الطالبة الجامعية وكتب عنها موضوعـاً في مجلته. وأردنا استرداد "الكليشيه" منه، فسألت عن عنوانه فقيل لي إنه في شارع ميخائيل جاد في أول الفجالة. وقصدت العنوان ثم دققت الجرس، ففتحه رجل بسيط يرتدي جلباباً أبيض فحسبته الخادم. وسألته: هل الأستاذ سلامة موسى في هذا العنوان؟ فأجاب: أنا سلامة موسى! فتلعثمت ووجمت وتعـاظم خجلي ـ وهو مازال طبيعة مركبة فيّ إلى هذا اليوم ـ فقلت له إنني منـدوب "القافلة"، وقد جئت لاسترداد "كليشيه" صورة فتاة الجامعة المثالية. فغاب سلامـة موسى دقائق، ثم عاد ومعه الكليشيه، فتناولته منه وانصرفت. فكان هذا أول لقاء بيننا، وإن كنت لم أُفصح له عن اسمي، ولا كان لاسمي أهمية في ذلك الحين، لأنني كنت مجرد طالب بلا شُهرة".
"وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، افتتحت السفارة الأمريكية مكتباً للاستعلامات كانت مهمته الاتصال بالصحف والإذاعة ومدّها بالأخبار والتعليقات، هذا إلى جانب إصدار نشرات علمية وكتب مختلفة. وكانت لي زميلة جامعية تزوّجت بمجرّد تخرجها من أمريكي يعمل في هذا المكتب. وحدث أنني زرتها في بيت الزوجية، فقدّمتني إلى زوجها الذي أخبرني أن المكتب يُعدُّ بعض الأحاديث لمحطة الإذاعة المصرية فيذيعها أحمد رشدي صالح، وسألني إن كان لديّ وقت لمساعدته في ترجمة نصوص هذه الأحاديث. فرحّبت بالفكرة، وبتُّ أتردّد على المكتب مرّتين في الأسبوع، مرة لتسلُّم النص الإنكليزي، ومرة لإعادة النص المُترجَم، وفي المرتين أنصرف إلى داري مباشرة دون أن أتحدث مع أحد من موظفي المكتب، بل دون أن أعرف منهم أحداً. وبينما كنت أهم بالانصراف في إحدى المرات ناداني رجل متقدم في السن باسمي، وسألني إن كان لديَّ وقت للجلوس معـه. فدهشت مَنَ يكون هذا الرجل؟ وكيف عرف اسمي؟. ولكنني لمْ أكد أتأمّل وجهه، حتى عرفت فيه سلامة موسى".
"وجلست معه وقتا طيبا فهمت منه أنه يعمل في هذا المكتب في مراجعة الترجمات، وأنه عندما قرأ ترجماتي أعجبه أسلوبها ودقتها، فرغب في أن يزداد معرفة بي. ومع أن عملي في هذا المكتب ـ وهو طارئ، كما قدمت ـ لم يتجاوز عامين، فقد أُتيحت لي في خلال فترات ترددي عليه أن أتصل بسلامة موسى عن قرب. وبانتهاء عمل المكتب، فوجئت بسلامة موسى يزورني بنفسه في "المقطم" ليهديني أحد كتبه ـ ولعله "تربية سلامة موسى" طبعة دار الكاتب المصري لطه حسين ـ وظل يُواليني بالزيارة ويهديني كتبه، كما كنت أتردد عليه في الحين بعد الحين على جمعية الشبان المسيحية حيث كان يعقد منتديات فكرية أسبوعية. وطلب مني أكثر من مرة أن أكون المتحدث الرئيس في هذه المنتديات فلم أرفض له طلباً".
"وعندما اعتقلني العسكر عام 1952م، ولزمت داري، وعزفت عن الدنيا جميعاً، فوجئت برسالة كريمة من سلامة موسى يستفسر فيها عن صحتي ويملأني حيوية وتشجيعاً".
"ولا أطيل عليك، فقد ظللت على صلة وثيقة بسلامة موسى رغم اختلافي معه في كثير من نظرياته السياسية إلى أن زرته لآخر مرة في المستشفى القبطي قبل وفاته فيه بيومين".
"وهو قد كتب عني كثيراً، كما كتبت أنا عنه كثيراً، فأغضبت أنور المعـدّاوي الذي شتمني في "الرسالة"، وأغضبت حبيب الزحلاوي الذي شتمني في كتابه "شيوخ الأدب الحديث"، مع أن المعدّاوي والزحلاوي كانا صديقين لي".
ويقول (في رسالته المؤرخة في13/1/1989م):
"سلامة موسى كان صديقا حميماً لي سنوات طويلة، وقد كتب عني غير مرة، بل دخل معي في جدل نُشِر وقتها في الصُّحف، ودعاني غير مرة للحديث في "جمعية الشبان المسيحية". وعند وفاته كتبت فصلاً طويلاً نُشر في مجلة "المجلة"[العدد 22-أكتوبر 1958م]، وفصلاً آخر نُشر في "الأديب"، كما أصدرت عنه كتيِّباً بتكليف من "جمعية الشبان المسيحية" دون أن يظهر عليه اسمي كمؤلف.
وبعد وفاته راجعت عدداً من كتبه المخطوطة والمنشورة، كما قمت "بتطهير" كتابه "الصحافة حرفة ورسالة" الذي نُشر بعيد وفاته وتضمن تلفيقاً من الناشر للدعاية لإحدى دور الصحف والعاملين والعاملات فيها. فحذفت كل هذا التلفيق، وأضفت فصولاً أخرى عثرت عليها كان قد كتبها حول نفس موضوع الكتاب. وقد كان رجلا عقلانيا مستنيراً، والذي يفكر بعقله يُغضب كثيرين من الذين يُفكرون بعواطفهم، والناس اليوم فريقان: فريق يلعن سلامة موسى ويصب عليه نار جهنم، وفريق يعده من أعظم المستنيرين في عصرنا، وأنا من الفريق الثاني ـ وإن كانت لي تحفظات على كثير من آرائه أبديتُها في حياته في تعليقاتي على كتبه".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 3/8/1975م):
"تسألني عن كتب الذكريات، فأنصحك بتلاوة كتاب "تربية سلامة موسى" وكتاب "رجال عرفتهم" للعقاد"، وكلاهما عملاق في الفكر المعاصر. وقد اضطر كلاهما إلى محاربة المناوئين في ميـادين شتى، وأُطلقت عليهما الاتهامات بالزندقة والكفر وبما من شأنه أن يشيـنهما حتى في حياتهما الخاصة. ومع ذلك فقد ثبتا، وأدَّيا الرسالة إلى منتهى العمر. وقد كتبت عن سلامة موسى غير مرة، في حياته وبعد وفاته، وجرت لي معه مجادلات بعضها في الصحف، وبعضها في الندوات، ولكن الودّ بيننا ظل نقيا، والاحترام بيننا بقي مصونًا، ومهما قيل في سلامة موسى فإن كتبه كفيلة بإقناع أي قارئ محايد أنه كان رجلاً من أكبر مُفكِّرينا، وأشدهم بصراً بالعلوم والحضاريات".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 12/9/1994م):
"نعم، اطلعت على مقالات الدكتور [محمد] عمارة عن سلامة موسى، وعلى رد الدكتور رؤوف سلامة موسى عليه. وسلامة موسى قد شبع ذمًّا و"تكفيراً" في حياته وموته، ومهما اختلفنا من حوله فالمؤكّد أنه كان من مستنهضي هذه الأمة، وأنه سبق عصره بعشرات من السنين. وقد شرع ابنه ـ وهو صاحب دار ومطابع المستقبل ـ في نشر كتاب دوري عنوانه "حوليات سلامة موسى" ينشر فيه كل جديد وقديم عن أبيه، ليُحيي صورته في الأذهان. وقد صدر عدد من هذه الحـوليات والثاني في المطبعة، واتخذ للحوليات مجلساً استشاريا شرفيا يُمثل بلداناً عربية شتى، وحشرني في عضويته".
و(في رسالته المؤرخة في 12/6/1995م) يقول:
"لم يصدر من "حوليات سلامة موسى" عدد ثالث، فصاحبها حريص على جعلها كتاباً غير دوري حتى لا تُعامل معاملة المجلات التي تخضع لقيود صارمة تجعل إصدارها مستحيلاً".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 30/3/1992م):
"… قد عرفت ثلاثة من الأربعة الأوائل الذين استوردوا لنا الشيوعية وهم محمود حسني العرابي ومحمد عبد الله عنان وسلامة موسى، أما الرابع فاسمه علي العناني وهو الذي لم أعرفه. وقد صارحني الثلاثة الذين عرفتهم بأنهم كفروا بالشيوعية بعد الذي رأوْه من تطبيقها ولاسيما في عهد عبد الناصر … ، وسلامة موسى قال لي هذا بالذات، وهو على فراش موته. ومع ذلك بقي تجار الشيوعية في الميدان".

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:45 AM
الشاعر محمود أبو الوفا في مرآة وديع فلسطين

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
............................
في حوار أجريته مع وديع فلسطين في مجلة «صوت الشرق» (أبريل 1976م) قال:
"وأرشح محمود أبو الوفا للجائزة التقديرية لامتيازه المطلق في ميدان الشعر وارتضائه مستوى رفيعاً حرص عليه في جميع شعره، منفرداً في قصائد، أو مجتمعا في ديوان. وإن الإنسانية الفريدة التي تشع من خلال شعر أبي الوفا ناشرةً الحب والحنان في الأفئدة قبل الأذهان، لترشح أبا الوفا للخلود الآبد، حتى وإن غالظته في حياته أسباب النُّكران والكنود. ومن الظلم المُفحش أن هذا الخالد العظيم يُترك للإهمال، مع أنه أهل لكل تكريم إن لم يكن لشعره الملائكي الأنغام، فلشخصه الحافظ لجميع المفاخر الإنسانية".
ويقول الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 2/3/1976م):
"كنت أزور الشاعر محمود أبا الوفا ـ وهو رهين المحابس الخمسة: شيخوخة، وساق واحدة، وعُشر عين، وقلب واهن، وفقر مدقع ـ فسألني:
أتعتقد أن شعري سيهتم أحدٌ بجمعه؟
فقلتُ له: اطمئن. فبعد ألف عام سيقوم محقق ثبت متمكن ويجمع شعرك المنشور في دواوينك ويُضيف إليه قصيدة أو اثنتين عثر عليهما في بعض المجلات، ثم يقوم بشرحه متوسعاً في الهوامش والذيول، ويتقاضى عن تحقيق كل ملزمة مئة جنيه! فضحك أبو الوفا قائلا: أنا مستعد أن أقوم "بتحقيقه" اليوم مقابل خمسة جنيهات فقط للملزمة! فقلتُ له: ولكنك لن تجد ناشراً".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 25/10/1997م) عن شعر المديح وسوقه الرائجة الآن عند بعض الحكام، مُشيراً إلى موقف لأبي الوفا: "التقيت أمس بشاعر عراقي يزور القاهرة، وأخبرني أن صدّام (حسين) يدفع مليون دينار عراقي (وهي تُساوي ألف دولار بسبب انحطاط العملة) لكل من ينظم قصيدة في مدحه، ويوصف الشاعر صاحب القصيدة بأنه "ملتزم"! وقلت لصديقنا العراقي: إن شاعرنا البائس محمود أبا الوفا طُلِب منه أن ينظم أبياتاً في مدح الطاغية إسماعيل صدقي باشا حتى يُوافق على إيفاده إلى باريس لتركيب ساق صناعية له. فقال لمن طلبوا منه ذلك: لو أصدر صدقي باشا قراراً بسفره، فهو في هذه الحالة ينظم أبياتاً في شكره. أما أن يمدحه ملتمساً شموله بعطفه، فإن كرامته تأبى ذلك".
ويقول الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 9/4/1976م):
"الشاعر محمود أبو الوفا أصدر طائفة شتى من الدواوين في الأربعين سنة الماضية، منها "الأعشاب"، و"أنفاس محترقة"، و"النشيد"، و"عنوان النشيد"، و"شعري"، و"أناشيد دينية"، و"أناشيد عسكرية". وكان قبل مرضه الحالي يُفكر في نشرها مجموعة كاملة، كما كان يُفكِّر في نشر كتاب عنوانه "أبو الوفا في رأي معاصريه"، وفعلا قدّم هذه الأوراق إلى يوسف السباعي ليأمر بنشرها، ثم خرج يوسف السباعي من الوزارة قبل أن يتحقق هذا المشروع، ويُخشى على هذه الأوراق من الضياع لأن أبا الوفا لا يملك صورة منها. أما رأيـي في هذا الشاعر، فهو أنه أعظم شعرائنا الأحياء بلا منازع، وأن شعره ببساطة ألفاظه ومعانيه وقدرته الإعجازية على التعبير يكتب له الخلود الآبد. وحسبك أن تسمعه يقول عن نفسه:
أحبُّ أضحكُ للدُّنيا فيمــنعُني*** أنْ عَــاقَبَتْني على بعضِ ابتساماتي
وقوله:
حُبِّي إذا الحبُّ أضناني فمتُّ هوًى *** إن يذكرونيَ قالوا: كانَ إنسـانا!
وقوله:
يا صاحِبي إنْ تسَلْ عنِّي أنا، فأنـا *** يا صاحبي لسْتُ شيْئاً غيرَ إنسانِ
"إنه شاعر خالد بكل المقاييس. ولولا فقره، وشيخوخته، وساقه المبتورة، ونظره الذاهب، وأمراضه المتأشِّبة، لكانت له في حياتنا الأدبية وجاهةٌ شعرية لا تقلُّ عن وجاهة شوقي. وشوقي ـ كما تعرف ـ كتب في وصيتهِ ألاّ يقوم على نشر شعره إلا أبو الوفا، فنشر جُزءاً من "الشوقيات"، ثم "اغتصب" صديقُنا [محمد] سعيد العريان بقية الأجزاء، بل سائر مسرحيات شوقي".
ويقول الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 4/4/1977م):
"… تلقيت رسالة من زميل لك … يقول فيها إنه يعتزم إعداد أطروحة ماجستير للأزهر عن الشاعر أبي الوفا، ثم طلب مشورتي في هذا الأمر، فكتبت إليه رسالة مطوّلة لا أدري هل وصلته أو لا، كما نصحته بالاتصال بالشاعر لأن الصلة الشخصية قد تكون ميسورة اليوم، ولكنها تغدو مستحيلة غداً. فلم أسمع منه شيئاً، ولا هو اتصل بأبي الوفا".
"وعلى ذكر أبي الوفا، لقد طلبت مني مجلة "الوعي العربي" الشهرية أن أكتب لها فصلا، فوافيتُها من يومين بكلمة عنوانها "خلاصة الخلاصة لحصاد الشاعر أبي الوفا"، وربما اندرجت في عدد مايو أو يونيو".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 2/6/1977م):
"… أما أبو الوفا، فلعلك قرأت كلمة مصطفى أمين عنه في "الأخبار" الصادرة اليوم (2/6)، وكلمتي المنشورة في "الوعي العربي" الصادرة اليوم أيضاً. وقد اتصلت به صباحاً بالهاتف فأخبرني أن صحته شديدة السوء، ورجاني أن أزوره "ليستودع" مني، فوعدته بمحاولة زيارته غداً الجمعة".
ويقول الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 12/1/1978م):
"شاعرنا أبو الوفا ابتسمتْ له الدُّنيا قليلا، ثم عادت فتجهمت له، لأن المال الذي ناله أطمع فيه أشقاءه وبطونهم وأفخاذهم، فاستغلوا ظروفه الصحية السيئة للاستيلاء على هذا المال، وتركوه نهباً للدّيون!. ثم إن الدولة دبّرت له شقة حديثة في مدينة نصر، فلا استطاع تأثيثها، ولا انتقل إليها. وترتّب عليه أن يُؤدي كل شهر إيجار بيتين، وهو عبء مُبهظ بالنسبة إليه. وهكذا ترى أن للثروة مشكلاتها، ولا سيما إن جاءت في الهرم، وصدق المتنبي القائل:
أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبتِه *** فسرَّهُم، وأتيْناهُ على الهرَمِ"
ويقول (في رسالته المؤرخة في 17/9/1978م):
"لولا أن الصحافة تبنت قضية إنصاف الشاعر محمود أبي الوفا لما تحرّكت الدولة لتكريمه؛ ففضل الصحافة سابق على فضل الدولة. وإذا توهّمت أن لي فضلا في إيقاظ النائمين لتكريم أبي الوفا، فاعرف أنني واليت الكتابة مرة بعد مرة بعد مرة منبِّها المسؤولين إلى مأساة أبي الوفا، فلم يستيقظ أحد، ربّما لأنني كنت أتكلم كأديب بأسلوب الأديب. أما عندما جعلت الصحافة من قضية أبي الوفا موضوع حملة يومية منتظمة، فعندئذ ـ وعندئذ فقط ـ أحس المجتمع بالظلم الغليظ الواقع على الشاعر، وحاول رفعه عنه. فحملةُ الصحافة أفعل من منطق الأديب".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 13/6/1981م):
"وهذا [عبد العزيز] الدسوقي كتب في مجلته وفي "آخر ساعة" أكاذيب فاحشة عن الشاعر المغبون أبي الوفا، ولم يكتف بذلك بل عيّرَهُ بفقره وكساحه ونفى عنه الشاعرية، واتهمه بالكذب على الحياة الأدبية. وأنا قد كنت لصيق أبي الوفا، وأعرف منه ومن كل عصره ـ وقد أدركت معظم أعلامه ـ أنه صادق. ومع هذا فلن أرد على الدسوقي، وأُرجئ ردِّي إلى يوم يصفو فيه البال، فأكتب عن أبي الوفا حديثا مستطرداً أنصفه فيه من "أباطرة" الثقافة في يومنا المعاصر".
وفي رسالته (المؤرخة في 30/3/2003م) حدّثني عن طبع وزارة الأوقاف لديوان أبي الوفا، فيقول عن أبي الوفا أنه «كان صديقاً لشيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود، وأراد الشيخ أن يُساعد الشاعر فأمر المسئولين عن مطابع وزارة الأوقاف بطبع المجموعة الشعرية لأبي الوفا، كي يستطيع دفع مكافأة له. فاتصل الأوقافيون بأبي الوفا وطلبوا منه دواوينه لكي ينفذوا تعليمات الإمام الأكبر، ولكنهم تبيّنوا أن لأبي الوفا شعراً في الغزل لا يليق نشره في مطابع الأوقاف، كما أن له شعراً «كفريا» كقوله في إحدى قصائده «آهِ يا يوم لقاها *** ليتني كنتُ إلها»، أو كقوله في «عنوان النشيد» عن آدم إنه لم يخرج من الجنة مطروداً، بل خرج بإرادته لأنه سئم حياةً «ليس فيها غير حوّاء عمل»!، فقام الأوقافيون بحذف كل هذا الشعر وتنقية الديوان من جميع آثار الفسق والزندقة! وعندما ظهر الديوان «المُطَهَّر» أهداني نسخة، فقلتُ له: كان ينبغي أن يُكتب على غلافه أن الشاعر هو حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمود أبو الوفا!، وصرتُ أُخاطبه على الهاتف بقولي: يا صاحب الفضيلة! فكان يُجاوبني بقوله: يا صاحب النيافة!
وتوافقت وفاة الشيخ عبد الحليم محمود مع صدور الديوان، فحفيت قدما أبي الوفا وهو يُحاول مع الأوقافيين الحصول على ملاليم من مُكا فأته، أما الديوان فلم يطلب نسخاً منه زهداً فيه!».
و(في رسالته المؤرخة في 19/9/1997م) يقول: "في حياة الشاعر أبي الوفا نشرت هيئة الكتاب كتاباً ضخماً عنوانه : "محمود أبو الوفا: دواوين شعره وحياته بأقـلام معاصريه"، وهو يضم كل شعره تقريباً، لأنه استبعد بعض القصائد التي لم يُصبح راضياً عنها، وكنت سمعت عن رسالة الماجستير التي عقدها عليه الدكتور عبد الجواد المحص ـ ولا أعرفه ـ ولكنني لم أطلع عليها، ولم أسمع أنها نشرت".
وقد كتب الأستاذ وديع فلسطين مقالين عن الشاعر محمود أبي الوفا ( 1-غربة الشاعر محمود أبي الوفا ، مجلة "الأديب"، أكتوبر 1970م. 2-الشاعر البائس محمود أبو الوفا، جريدة "الحياة" في 10/2/1995م).

د. حسين علي محمد
07/12/2006, 12:47 AM
نقولا الحداد في مرآة وديع فلسطين

بقلم: د. حسين علي محمد
............................

يقول الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 26/12/1975م):
"وسؤالك الثالث عن نقولا الحداد وهل هناك من كتب عنه؟ فأفيدك أن وداد سكاكيني كتبت عنه في "الأديب" فصلاً في حياته، وكتبتُ أنا عنه بعد وفاته في "الأديب" وفي "العلوم"، كما أن نقولا يوسف كتب عنه في "الأديب"، فكان لي على مقاله تعليق نشر في نفس المجلة. والذي أعرفه عن يقين أن كاتباً لبنانيا ـ نسيت اسمه ـ أصدر كتاباً طبع في بيروت، ولم أطّلع عليه عن نقولا الحداد وسلامة موسى بوصفهما رائدين للفكر الاشتراكي. وقد كان نقولا الحداد وزوجته روز أنطون حداد (شقيقة فرح أنطون) صديقين لي، كما كانت ابنتهما الكبرى (لورا)، وابنهما (الصيدلي فؤاد) صديقين لي، وضمن أوراقي رسائل خاصة من الحداد، وصورة فوتوغرافية مهداة منه، كما أن زوجته أهدتني بعض كتبها النادرة … وعندي طائفة من كتب الحداد مهداة منه، وعندي كذلك آخر محاضرة ألقاها بعنوان "جاذبية الأكوان وجاذبية الحسان"، وهي المحاضرة التي أُصيب وهو منصرف منها ببرد شديد، تحول إلى التهاب رئوي أجهز عليه. وقد نشرتُ المحاضرة في عددين متتابعين من مجلة "العلوم" اللبنانية المحتجبة".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 16/1/1976م):
"كتاب "نقولا الحداد" للدكتور رفعت السعيد لم أعرف بصدوره، ولا اطلعت عليه. والعجيب أنه بعد يوم من وصول رسالتك التي أشرت فيها إلى هذا الكتاب جاءتني رسالة من نقولا يوسف يقول فيها: "نزلت من المعادي إلى ميدان التحرير لحجز تذكرتين للعودة إلى الإسكندرية بالصحراوي، وفي طريقي بباب اللوق مررت مصادفة بمكتبة صغيرة تعرض في واجهتها بعض الكتب، ووقع بصري على كتاب صغير عن "نقولا الحداد"، لمؤلفه الدكتور رفعت السعيد ـ 1971 في سلسلة "طلائع الفكر الاشتراكي، رقم 2"، واشتريته وتصفحتُه، لعلك رأيته من قبل ـ ويدور حول دعوته الاشتراكية".
وسأحاول قي "مشاويري" القاهرية، التعريج على باب اللوق عساي أقع على تلك المكتبة، وأتمكّن من اقتناء الكتاب، وإن كنت أرحب بالقراءة عن نقولا الحداد، أما الاشتراكية فقد "شبعنا" من قرفها، وأنا زاهد في أي مطالعات جديدة أو قديمة فيها.
وتحت يدي ترجمة كتبها نقولا الحداد بنفسه عن نفسه، واعتمدت عليها حينما كتبت فصلاً مسهباً عته في مجلة "العلوم" اللبنانية، وقد جاء في الترجمة أنه من مواليد 25 ديسمبر 1872 (لا في عام 1870م كما ورد خطأ في كتاب "مصادر الدراسات الأدبية" ليوسف أسعد داغر)، أما وفاته فكانت في عام 1954م، ولا بد من مراجعة أوراقي ـ وهي أطنان ـ للاستيثاق من اليوم والشهر اللذين وقعت فيهما الوفاة.
أما ثقافة نقولا الحداد فلم تعْدُ الدراسة الابتدائية فالثانوية ثم الصيدلة متخرجاً من جامعة بيروت الأمريكية. وكانت له في القاهرة صيدليتان، واحدة في شبرا تحت عيادة المرحوم الدكتور إبراهيم ناجي (على ناصية شارع ابن الفرات)، وقد سمعت أنها مازالت تحمل اسمه إلى هذا اليوم، رغم أيلولتها إلى سواه من الصيادلة، وعسير عليّ التثبت من ذلك لعدم غشياني حي شيرا من سنوات طويلة. وأما الثانية فكانت في عمارة بحري بشارع قصر النيل، وكانت باسم ابنه (الصيدلي الدكتور فؤاد)، وهذه قد أُغلقت لهجرة صاحبها إلى لبنان، وتحوّلت إلى حانوت للأحذية!
أما المؤثرات الثقافية لنقولا الحداد فهي بنت مطالعاته المختلفة، وأسفاره في أمريكا وسواها، واتصاله بنسيبه فرح أنطون وبأعلام عصره".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 25/5/1976م):
«نقولا الحداد مازال في حاجة إلى مزيد من الدراسة لآثاره ليعرف القراء الدور الكبير الذي قام به في نهضتنا الفكرية. أما مقالاتي عنه في «الأديب» و«العلوم» فهي ليست قرية المنال، وأظنني نشرتها في إثر وفاته ونُقلت يومها في الصحف المهجرية بتعليقات من محرريها. كما أنني كبتُ كلمة في «الأديب» تعلقاً على مقال لنقولا يوسف عن نقولا الحدّاد نبّهتُ فيه إلى أن الحدّاد كان شاعراً، وأتيْتُ بنماذج من شعره».
وكنتُ قلتُ للأستاذ وديع فلسطين إنني صورتُ بعض مقالات نقولا الحداد عن قضية فلسطين من مجلة «الرسالة» عام 1948م، فعلق على ذلك (في رسالته المؤرخة في 12/6/1995م) بقوله:
«نقولا الحداد كتب مقالات كثيرة عن قضية فلسطين في «الرسالة» و«المقتطف» و«منبر الشرق»، ولم يُجمع منها شيء. وأعتقد أن ما آلت إليه القضية اليوم يجعل هذه الفصول غير ذات موضوع. وأنا شخصيا كتبتُ مئات من الفصول حول هذا الموضوع، وأوثر أن أطويها. بعد ما كنا نُطالب بالكل فقنع أصحابها بالفُتات».

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:02 AM
أربع مقالات من بواكير نقد نجيب محفوظ:
............................................

نقدم هنا أربع مقالات للعلامة وديع فلسطين (وهو واحد من أبرز كتاب المقالة في عصرنا) كتبها عن بواكير نجيب محفوظ، ونشرها علي شلش في كتابه : نجيب محفوظ: الطريق والصدى).
***
1-رادوبيس

للأستاذ الكبير: وديع فلسطين(1)
...................................

لستُ أدري أكان في تاريخ مصر الفرعونية غانية باسم «رادوبيس» أم أن خيال الأستاذ نجيب محفوظ ابتدعها في القصة الرائعة التي أخرجها أخيراً. وأيا كان الجواب، فإن القاص قد جعل لهذه الغانية كياناً ووجودا لا يُنكران. وما قرب الشقة بين الحياة والأسطورة أن حياة المرء تستحيل بعد موته إلى رواية تُروى شأنها شأن مئات القصص التي تُبدعها أذهان كتاب القصة الروائيين.
كانت رادوبيس غانية تحوم حولها الغربان من بني آدم، وكان مستقرها في قصر شامخ أنشأته في جزيرة تتوسّط مجرى النيل. وبينما كانت تستحم ذات أصيل في بركة ماء قصرها حلق في الفضاء نسر كاسر، وهوى على حين بغتة فاختطف واحدة من نعلي الغادة رادوبيس وولّى هارباً، ولكن النعل سقطت منه في حضرة فرعون ساعة اجتماعه بكبار رجاله. ودار حديث فرعون وصحبه حول صاحبة هذه النعل، وعرف فرعون أن ما نزل عليه من فوق إنما هو خف يخص الغادة رادوبيس فاتنة أصحاب الجاه وغاوية ذوي الثراء.
وأخذ فرعون يتسقّط أنباءها حتى فاجأها يوماً في قصرها، فكانت له منذ ذلك اليوم صلة بها لما تنقطع، يهرع إليها كل أصيل فيجد فيها مرتعاً لقلبه ومهرباً من تبعاته.
وأوغل فرعون في هواه الجديد، فأولى «نيتو قريس» الملكة دبره، واسترد من الكهنة الأراضي التي كانت قد أُقطعت لهم كي يُنفقها على جارة قلبه، وشُغل بالحب عن أمور الرعية، وكاد له قائده الأول لأنه استلب منه رفيقته رادوبيس التي كانت تؤثره قبل أن تقع على فرعون.
وكان لا مفر من أن تحدث فتنة، فرجال الدين ساخطون لتبديد أراضيهم، والوزراء متبرمون من مسلك فرعون غير الجدي، والملكة غاضبة لإغضاء فرعون عنها وولعه بغادة ليست بغير ماض. وفي غمار الثورة طاش سهم أطلقه مواطن من كنانته فاستقر في قلب فرعون، وأوصى فرعون بنقل جسمه المهيض إلى حيث تكون عشيقته ليلفظ آخر أنفاسه في محضرها.
وقد كان، فمات فرعون، وشربت رادوبيس السم، وفجعت بموتها قلوب لا سبيل إلى تعزيتها وتأسيتها.
ولقد أجهدت النفس وأنا أقرأ رواية رادوبيس لأقف على خطأ يُخرج الرواية من طابعها الفرعوني إلى طابع العصر الحديث، فخاب مسعاي، ذلك لأن الأستاذ نجيب محفوظ استطاع أن يمحو من ذهنه عقل القرن العشرين ليعيش بعقل آلاف السنين قبل مولد المسيح.
ولكنه إن كان قد جانب خطأ السرد والصياغة فقد أفلتت من قياده بضعة أخطاء في النحو كتأنيث الرأس مع أنه مذكّر، وإضافة الياء إلى « ثوان » في حالة كسرها بكسرتين.
ولكن القارئ رغم هذه الهفوات تأخذه روعة السياق، وجمال التعبير، وسلاسة التفكير، وقوة المنطق، وجودة الحبكة، فيُمسك بتلابيب الرواية حتى يأتي على خاتمتها.
وفي اعتقادي أن هذه الرواية تستطيع أن تُزاحم روايات الغرب إذا هي وجدت من يُعنى بترجمتها إلى لغات الأعاجم. وهي شبيهة إلى حد كبير «بروميو وجولييت» للشاعر شكسبير مع تفاوت في كيفية العرض وتقاليد كل من المجتمعين.
ـــــــــــــــــــــــ
المصدر: نشرت في «الرسالة»، العدد (641)، في 15/10/1945م، وفي «منبر الشرق» في 19/10/1945م، والمقالة هنا منقولة عن «منبر الشرق»، وأُعيد نشرها في كتاب د. علي شلش: نجيب محفوظ: الطريق والصدى)، ص211 ، 212.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:04 AM
2-خان الخليلي(2)

للأستاذ الكبير: وديع فلسطين
..............................

أوتي الأستاذ نجيب محفوظ خيالاً خصباً وعيناً ناقدةً وقلماً طيعاً ومادة وفيرة، فسخَّر هذه جميعاً في كتابة القصة وتصوير الحياة الواقعية.
ومن أحدث ما جاد به قلمه كتابه «خان الخليلي» وهو مأساة أصاب فيها من التوفيق قدحاً مُعلّى.
والقصة مقسمة إلى نيف وخمسين فصلاً، كل منها صورة أُجيد رسمها، فلم تغب في إحداها خفقة قلب، أو طرفة عين أو زفرة نفس، لأن الأستاذ لا يقنع بالقشور وإنما ينفذ كذلك إلى اللباب.
ويخيل لقارئ «خان الخليلي» أن مؤلفه أمضى ـ أو يُمضي ـ جانباً كبيراً من وقته في هذا الحي؛ لأن وصفه لشخوصه ولدروبه يكشف عن معرفة الأستاذ محفوظ للحي وأهله معرفة عن قرب، وملازمته له لزوم الظل، واستطاع بقدرته الفنية أن يربط بين فصول القصة بإحكام، كي لا ينفلت أحدها عن القلادة المتعددة الحلقات التي وصلت بينها، وجعلت من جملتها صورة نابضة بالحياة تنطق سسافرة بأحوال حي من الأحياء القديمة لا يزال يحتفظ بطابعه الوطني الصرف.
إنها قصة عائلة مصرية متوسطة فزعت من الغارات فانتقلت من السكاكيني إلى خان الخليلي، وأمضت فيه دورة كاملة من دورات الفلك شهد أفرادها فيها عجباً، فالابن الكبير الذي كان يركن إلى مكتبته يُقلب كتبها ويدرب نفسه عبثاً على درسها وهضمها، طابت لـه عشرة أهل الحي والسهر معهم في قهوة «الزهرة»، وخفق قلبه بالحب وهو كهل ولكن المقادير شاءت ألا ينعم به، والابن الأصغر شاب حديث العهد بالحياة، ينقاد وراء دوافع بدنه فيغترف من اللذاذات ما طاب له، حتى تهالكت صحته تحت ثقل الضغط الشديد. ولم يكتف بالحب الآثم بل سطا على الفتاة التي كادت تصبح من نصيب أخيه، وظل مع ذلك سادراً في غيه حتى أصيب بالسل وقضى نحبه، ولم يستطع أبواه أو أخوه كما لم يفلح الطب في دفع الموت الذي تسرب إليه، وسرعان ما غيّبه بين أطباق الثرى.
وقصة الأستاذ محفوظ تمتاز بمزيتين عدا مزية الرواية نفسها. ففيها وصف رائع لليالي رمضان الزاهرة في حي خان الخليلي، وفيها وصف للغارات الجوية التي تعرّضت لها القاهرة من ثلاثة أعوام.
والمؤلف قدير على جلاء المعاني، خبير بخوالج النفس، استطاع أن يجعل من كتابه تزاوجاً بين السخرية والجد، وجماعاً بين اللهو والعِبر. وهو في هذا وذاك لا يخلو من فكاهة مستملحة ودعابة طريفة.
ـــــــــــــ
(2) المصدر: نشرت في «الرسالة»، العدد (641)، في 15/10/1945م، وفي «منبر الشرق» في 19/10/1945م، والمقالة هنا منقولة عن «منبر الشرق»، وأُعيد نشرها في كتاب د. علي شلش: نجيب محفوظ: الطريق والصدى)، ص211 ، 212.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:05 AM
3-القاهرة الجديدة(3)

للأستاذ الكبير: وديع فلسطين
............................

صحاب أربعة متباينو المشارب متعددوها ضمهم فصل واحد في جامعة فؤاد. أولهم توّاق إلى الانصراف إلى الدين والدعوة له، والثاني يضرب بالدنيا بأسرها عرض الحائط فلا يُبالي بتقاليد مرعية أو عادات متواضع عليها، وتتلخص فلسفته في الاستهتار و"اللا أبالية"، والثالث هدفه ومقصده زواج فتاة ربط الحب قلبه بقلبها، والرابع يهوى الصحافة ويعشقها.
يتحفّز هؤلاء الزملاء لمواجهة موجة الامتحان النهائي ويخوضونها غير هيّابين، ويخرجون منها معقودي الظفر مرموقي العيون. ولكن البهرة الأولى للفوز سرعان ما تتبدّد، ويصحو الشبان على مستقبلٍ مبهَمٍ، وغدٍ مجهول.
وترمي الحياة كل شاب من هؤلاء في عمل، فيبدءون عراك الحياة، وهو عراك يتمخّض عن جرحى وعن قتلى، فيسعف الحظ أول الزملاء، ويوفد في بعثة إلى فرنسا، ويعين الثالث في وظيفة بمكتبة الجامعة، ويُقبل الرابع على الصحافة يُشبع نهمه منها. أما الثاني ـ وهو أعسرهم حالاً وأضيقهم عيشاً ـ فيتخيَّر لنفسه في الحياة طريقاً معوجاً، ويقبل أول وظيفة تُعرض عليه حتى لو كان ذلك على حساب الشرف والفضيلة. ذلك أنه رضي أن يكون سكرتيراً لكبير بشرط أن يُشاركه ذلك الكبير في زوجه، ويختلي معها في أحايين دورية.
ولكن هذا الوضع الشاذ سرعان ما افتضح أمره وتلطّخت سيرة الكبير بالعار، ونقل سكرتيره إلى أسوان بعد ما جُرِّد من ترقياته الاستثنائية.
ذا مجمل القصة البارعة التي ساقها الأستاذ نجيب محفوظ في كتابه «القاهرة الجديدة»، وهو إيجاز مبتور مشوه، وهيكل عظمي يفتقر إلى مظاهر الحياة ودلائلها، وهي قصة تنتهي بعبرة ما أحوجنا إلى استيعابها ووضعها نصب أعيننا في السبيل الذي نسلكه في حياتنا، فإن الغواية والإثم يبهران البصر ويخلبان الألباب ويستهويان الشباب والمتكهلين. ولكن الخاتمة المؤسية حتم لا مهرب منها.
فهاك قصة شاب ابتسمت له الحياة في مطلع عهده به لأنه فابلها « باللا أبالية » والاستهتار، ولكنها سرعان ما تجهّمت له وأدارت له ظهرها بعد ما مرّغته في حمأة العار، وسامته الخسف والهوان.
أما ربيبه ذلك الموظف الكبير، الذي كان يرتشي من شرف سكرتيره فقد سقط من عل، مهلهل السيرة، غير معذور من أحد.
ولنا على هذه القصة مأخذان:
أولهما أن الأستاذ نجيب محفوظ عني بواحد من شخوص روايته الأربعة وأدار القصة حوله ولم يعن عناية مماثلة بقرنائه وخلانه. وحبذا لو كان المؤلف أسهب في روايته قليلاً، وجلا لنا بعض نواحٍ من حياة بقية الصحاب.
أما المأخذ الثاني فهو بعض السهوات النحوية التي لمحناها في القصة، ونرجو أن تكون المطبعة ـ لا المؤلف ـ مسئولة عنها.
والقاص جدير ـ عدا ذلك ـ بالثناء، لأن أسلوبه شائق، وحواره ممتاز، وتسلسل حوادثه ممتع، وجرأته لا يعوزها دليل.
ـــــــــ
(3) نشرت في «منبر الشرق»، في 30/4/1948م، وأُعيد نشرها في كتاب د. علي شلش: نجيب محفوظ: الطريق والصدى)، ص ص264-267.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:06 AM
4-زقاق المدق(4)

للكاتب الكبير: وديع فلسطين
..............................

لم أسمع بهذا الزقاق من فبل، ولا أُتيح لي أن أراه، لأني قليل التردد على معالم القاهرة القديمة.
ولكني رأيتُ الزقاق وعشتُ فيه قرابة نصف شهر في صحبة الأستاذ نجيب محفوظ القاص الملهم، فأوقفني على ألوان شتى في مسالك المعيشة فيه، وأرشدني كدليل مجرب إلى مواضع الفتنة الفطرية في هذا الحي الوطني الصميم.
زقاق المدق، زقاق ترى فيه ثري حربٍ أُتخم طعاماً ومالاً فما عرف قناعة ولا حَرِصَ على مال. تستهويه مباهج الدنيا وتغره أضواؤها فيسير صوبها كطفلٍ غريرٍ لا يسلمُ من العثرات.
وأنت ترى في الزقاق حلاقاً محدود المورد، مسدود باب الرزق، يجد في «الأورنس» البريطاني جاذبية لا يسعه أن يُقاومها فيُسافر إلى التل الكبير ليعمل مع القوات، ويُدبِّر جنيهات تُعينه في افتتاح صالون أنيق وعلى الزواج بأثيرة الفؤاد.
ومن صور الزقاق ذلك التمرجي الذي ادّعى التطبيب، وراح يُعالج المرضى بما حصّله من تجريب، فكان يسرق أسنان الموتى الذهبية وأطقمهم ليجد عند الأحياء سوقاً لها وهو مطمئن إلى الرسالة الإنسانية التي ينهض بها، سعيد بلقب «الدكتور» الذي أردف به اسمه للتشريف والتمييز.
وتلك عجوز جاوزت الخمسين، ولكنها مع ذلك متطلعة إلى الزواج من شاب حديث السن. وكيف لا، وعندها من المال أكداس، وعندها من شباب القلب معينٌ لا ينضب، ولا بأس أن تدّعي أن الهموم كست شعرها بياضاً وأكدار الدنيا جعّدت غضون وجهها.
أما هذه المرأة اللعوب فإنها «خاطبة»، تكتسب عيشها من «فتح البيوت وتعميرها» ومن «جمع الرؤوس في الحلال»، وأساليبها تتفاوت حسب تفاوت العملاء والزبائن، فإذا كان العميل شيخاً أوهمته أنه شاب ذو دلال وفتنة، وإن كان حديث السن زينت له أن حداثة العمر هي الأوان المُواتي للزواج، ولن يعيا منطقها، فقد اكتسبت من كثرة الممارسة دربةً واقتداراً.
وهذا أسطى في فن ابتداع المتسولين وذوي العاهات، يأتيه المرء سليماً فيخرج من لدنه وقد تمتع «بنعمة» العمى أو العرج!، وكيف لا تكون تلك العاهة أو قرينتها نعمة مادامت تُدِرُّ على صاحبها أموال السذج من الخيرين والرحماء؟
والفرانة وزوجها لا تعذب لهما الحياة إلا إذا كانت السياط وسيلة التفاهم، فهما منحرفان، والبيئة الفقيرة التي نشآ فيها جعلتهما ينحوان هذا المنحى المعوج.
عشرات من هذه الشخصيات تترادف في رواية «زقاق المدق» التي كتبها الأستاذ نجيب محفوظ ليصور صورة حي من صميم المجتمع المصري، وليجلو عادات توارثها المصريون أو اقتحمت عليهم حياتهم بسبب ما ضُرِب عليهم من جهالة وأمية.
وهذا النوع من الكتابة الروائية جديد في اللغة العربية، لأن القصة لا تدور أحداثها حول بطل أو بطلين، بل ينهض بدور البطولة فيها سكان زقاق المدق بأسرهم، لكل نصيب يؤديه، ولكل رسالة يُحققها، فتجتمع من أعماهم وأقوالهم صورة تتدفّق الحياة في جنباتها، وتسري فيها دلائل الحيوية الحقيقية.
أما الطابع الغلاب على رواية «زقاق المدق» فهو طابع المرح المقترن بالسخرية، ففي كل بضعة أسطر ملحة أو فكاهة، ولكنك تدرك على الفور أن الأستاذ محفوظ لا يقصد بها إلا السخرية والازدراء. يذكر لك عادات تأصلت بين أفراد الطبقة الدنيا، ولكنه لا يكتم عدم رضاه عنها، ويحملك معه على أن ترثي لحالة أولئك السادرين في غي الجهالة!
ويحسن الأستاذ محفوظ تصوير نوازع النفس البشرية، وما ذاك إلا لأنه ينتمي إلى المدرسة الواقعية التقريرية. فهو يرى أن من مهمة القاص أن يُصوِّر، وحسبه هذا العمل. أما أن يُلقي مواعظ ودروساً ويسوق عبارات الحكمة والقول المأثور فذا افتعال ينأى عن حياة الواقع، ويُبرز للقارئ ناحيةً تغلب عليها الكلفة والصنعة.
وعلى الرغم من كثرة الرجال والنساء الذين زج بهم الأستاذ نجيب محفوظ في هذه الرواية، لم تخنه الملكة الفنية مرة واحدة، فلم يجعل أحداً منهم يتصرف تصرفاً يُناقض فيه نفسه، ولم يجعل هذه «الزحمة» تُفلت منه زمام الوحدة القصصية، فقد رُبِطت الرواية من أولها إلى نهايتها ربطاً محكماً، وسُلسلتْ حوادثُها تسلسلاً عاديا واقعيا. ومن ثم جاءت رواية مصرية بحت، عليها طابع قومي غير مقلد ولا مشوش.
إن نجيب محفوظ يسير إلى الأمام، وروايته الجديدة تسبق سابقتها بخطوات واسعة.
ـــــــــــــــ
(4) المصدر: نشرت في «منبر الشرق»، في 30/4/1948م، وأُعيد نشرها في كتاب د. علي شلش: نجيب محفوظ: الطريق والصدى)، ص ص264-267.

د.محمد فتحي الحريري
12/11/2009, 05:54 PM
شكرا للدكتور الفاضل حسين
مع الامنيات الفائقة .

د. حسين علي محمد
18/11/2009, 12:13 PM
شكرا للدكتور الفاضل حسين
مع الامنيات الفائقة .
شُكراً للأديب الدكتور
محمد فتحي الحريري
على المشاركة بالتعقيب،
مع موداتي