المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في ديوان «تغريد الطائر الآلي»، لأحمد فضل شبلول



د. حسين علي محمد
06/12/2006, 11:39 PM
«تغريد الطائر الآلي»: الرؤية والأداة(1)

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
...............................
(1)
كانت ((مسافر إلى اللَّه)) مجموعة أحمد فضل شبلول الأولى، مناسبة للتأمل في تجربة شاعر جديد، قادر على أن يؤنسن جمادات الطبيعة، فنرى (سلام الشمس) و(أسرار الحرف) و(أحلام الماء) بل نتقدم خطوة، فنرى البحر كائنًا حيًّا، صديقا للشاعر في رحاب الإسكندرية الأم الرؤوم:
هذا بحرُكِ يفتحُ لي قلبَهْ
هذا موجُكِ مدَّ الزَّبَدَ الدافىءَ سترًا فوقي
هذا رمْلُكِ تبرٌ أتوسَّدُ أفقهْ
هذا فجْرُكِ يوقظني قبلَ صياحِ الديكةْ (2)
لقد استطاع هذا الشاعر أن يحرِّك الجمادات ويؤنسنها، لا كما يفعل الرومانسيون، وإنما امتزجت عنده الجمادات بالمعنويات، والسذاجة والبراءة، والإيحاء بالفطرة الشعرية، فتتخلق كائنات شعرية جديدة في منطقة ما بين الشعور والواقع. يقول في قصيدة ((نشيد القرون)):
هناك على المنحنى
تضيءُ السنون
ويصعدُ خلف المدى
سؤالُ السكونْ
ويشدو لسانُ الذُّرَى
ويقفز طفلُ العصور
وعينُ المساءِ تهادِنُ عيَن الليالي وراء الهجير
وفي الليلِ يبحرُ صوتُ ارتعاشِ الدُّهُور
وفي الفجر يجري الندى في مسامِ الحياة
فتنمو جبالُ الشموسْ
وتُبنى سماءُ النهارْ
من أجل محاولة لتذوق هذا الشعر عليك أن تدخل عالمه، بقلب شفافٍ مستعدِّ لتقبل الأشياء الجديدة. فهناك يتآلف في بواكير شبلول، ما لا يتآلف في الواقع: يتآلف المنحنى، والسنون، والمدى، والسكون. ويشدو الذُّرا بمولد الإنسان الجديد الذي حلمت به العصور الأولى. والليالي التي يتغنى بها الشعراء، محبذين سمرها، أو شاكين سهدها، أصبحت ذات عينٍ مترقبة لهذا الإنسان الجديد، الذي يقفز قفزته المرتقبة من الظلام إلى الفجر، فتبدأ حياةٌ جديدة هي حياة هذا الإنسان المتجيِّش باكتشافاته وعلومه، فيصنع المدنية، وتُبنى الحضارة:
فتنمو جبالُ الشموسْ
وتُبنى سماءُ النهارْ
لقد كان الشاعرُ الحديثُ دائما متوجِّسًا من كائنات الطبيعة (الأخرى) يتوحَّد بها، ويشتاقُ إليها، ويرى أنها أمه، وأنها جزء منه. لكنها ـ في الوقت نفسه ـ الآخر الذي يُعذِّبه، ويدفعه إلى الموت في النهاية. ولعل قصيدة الشاعر اللبناني فؤاد رفقة توضح ذلك، فإنسانه جزءٌ من مفردات الطبيعة، بل هو ابن لها:
على حدودِ الغابِ في
أواخر النهار
ولدتُ من سحابة
يحبها البذار
ولدت في مسافةٍ
تغسِّلُ الحجار
بنجمةٍ خضراءَ في المحار
***
وعندما انزلقتُ من محاجر الستار
تطلعت عيناك ، ماذا
لم تكن بعيدةً
مسالكُ المزار
حضنتها، عرفتها قريبةً
من أرضها الثمارْ. (3)
لقد ولِدَ إنسانُهُ من سحابة، حيث الطبيعة متجلية في النص: الغاب، أواخر النهار، البذار، الحجار، نجمة، المحار، الثمار،... لكنَّ إنسان فؤاد رفقة مطاردٌ من هذه الطبيعة، حزين كحزن الرومانسيين. ينطلق في مجاله لا يلوي على شيء. قد يحطِّم بعض العوائق التي تقف في طريقه، لكنه وحيد لا يأتلف مع الناس الذين هُمْ:
غريبةٌ وجوههم، لغاتهم
تمرُّ في طريقهم
....
تموت في أواخر النهار (4)
إن علاقة إنسان فؤاد رفقة ـ الذي اخترناه نموذجًا لقصيدة التفعيلة الرومانسية ـ يجد العوائق التي توصله إلى نهايته المحتومة، فقشرة النهار تضيق، ووجه الرحيل يملأ الأفق فيصيب القلبَ بالدوار، وهو يحس بوحدته وغربته وعدم وجود ما يبكي عليه، فكأن إنسانه هو ((البطل الوغد)) الذي يريد أن يحقق ذاته كجزء من الكون، فلا يجد إلا ((الآخر)) الذي يريد أن يعوقه عن الانطلاق، وتحقيق ما يريد، فتكون حياتُه قصيرة كحياة نهارٍ بين ظلامين !.
إن علاقة الشاعر الرومانسي بالطبيعة على الرغم من انطلاقه منها، واحتوائه لها، وولهه بها أصبحت في الشعر الحر في نماذجه التفعيلية علاقةً هشَّة، ذات قشرة خارجية لا تنفذ إلى الصميم، ومن ثم فهي محكومة بنظرة وجودية ضيقة، تفترض في الآخر أن يكون جحيمك، وأن يكون وجوده عاملا في إقصائك نحو العدم، أو نحو الموت المبكر.
لكنَّ أحمد فضل شبلول منذ ديوانه المبكر ((مسافر إلى اللَّه)) كان منطلقًا وجدانيًّا من حبِّ الآخر، والتكامل معه، ويمكن أن نرصد ذلك في أكثر من نص، لكننا نتوقف عند ((إضاءة الماء)) حيث يقول فيها:
الماء خليلي
منذ اليومِ الأوَّلِ من أيام الخلق
والموجُ رفيقي
منذ دوائرَ تكويناتِ الأرض
والرملُ صديقي
منذ بداية ترنيمات الضوء
والشمسُ طريقي
نحو الحبِّ ،
ونحو الدفءِ ،
ونحو الشوقْ .
فتعالي يا أزهارَ العشْق
كيما نتسامر بين دروبِ الفَجْر
وتهاديْ يا أغصانَ الماء
كيما نتلاقى فوق سماءِ الصحراء
فالماءُ اليومَ حبيبي
والماءُ الآنَ شريكي
وسيبقي الماءُ قصيدي
حتى آخر عطرٍ من أنفاسِ الشعرِ
وحتى آخر قطرةْ
من قطرات الروح (5)
نرى هنا الصداقة بين الشاعر والماء، وهي ليست صداقة عابرة، وإنما هي توأمة منذ أن خلق اللَّهُ آدم، بل قبل أن يخلق آدم. وتمتد الصورة من الماء إلى تدفقه، حيث يختار لفظة الموج، ويخبر عنها بأنه رفيق. وتقتضي الرفقة الملازمة، مع الحبِّ والإعزاز والبوْح بمكنون القلب. وكأن الشاعر هنا يتماهى مرة ثانية مع دوائر تكويناتِ الأرض، فيعبر بلسانها. وتمتدُّ الصورة لتضم في أطرافها: الرمل، والضوء، والأزهار، والدروب، والأغصان، والصحراء... فلا تحس بنفورٍ من معنى، ولا بنبوِّ كلمة، وإنما تشعر أن هذا النصَّ يعبر عن نفس مؤمنة موحِّدة، تناغمت مع الكون، وسبَّحتْ بعظمة الخالق عزَّ وجلَّ {وإن من شيءٍ إلا يسبِّح بحمده} (الإسراء: بعض الآية 44).
(2)
انطلق شبلول من أنسنة الكائنات في ديوانه الأول إلى أنسنة الآلة في ديوانه الجديد ((تغريد الطائر الآلي)) الذي يضم 18 (ثماني عشرة) قصيدة، فنرى الحاسوبَ يخاطبُ الشاعرَ، بأنه لا يمتلك قدرته الفذَّة على الرؤية والكشف، وأن روحَه (لاحظ دلالة اللفظ فقد أصبح الحاسوبُ عند شبلول إنسانًا بالفعل له روحُه، وأشواقُه، وآمالُه، وقدراتُه المحدودة) لاتستطيع أن تجاري قدرات الشاعر:
جلسَ الشاعُر فوق نوافذِهِ
أرسلَ كلَّ أوامرِهِ ..
للحاسوب
ارْتجفَ الحاسوبُ وقالْ:
يا ألطافَ اللَّهْ ..
كيف أجيءُ إليكَ من الآفاقِ تعيسًا
وأُكَحِّلُ شاشاتي
بدموعِ (ملفاتي) ..
لطفًا يا ألله
فغبارُ الأوهـام ِ
يفتِّتُ كلَّ خلاياي الضوئيَّةِ
آ هٍ ...
روحي لا تسمو لخيالِ الشعراء
أدركْني بزجاجــةِ ماء
ذاكرتي تفقدُ قوتَها
وخيوطُ برامجِها ..
تَعْصَاني . . أمرًا . . أمرًا. .
.. خيْطًا .. خيطًا ..
تعلنُ ثورتَها. (6)
إنك تحس بـصدق الشـاعر في التعبير عن الحاسب الآلي الذي أصبح إنسانا يتلقَّى الأوامر، ولكنه يرتجفُ لأنه لا يستطيع أن يجاري قدرة صاحبه على التخيُّل والرؤية، بل أصابه العصرُ بأمراضه وضغوطه، فأصبح تعيسًا تدمع عيناه، ويطلب من اللَّهِ أن يلطفَ به لأنه يشعر في حضرة الشاعر بأنه يفقد ذاته، وخلاياه تتفتَّت، فهو لا يملك القدرة على السمو الروحي ليستجيب لخيالات الشعراء، بل يشعر بأن ذاكرته تفقد قدرتها على الاستيعاب، ويطلبُ كوبَ ماءٍ علَّه يستجمع شتات نفسه!.
لقد أصبح الحاسوب كائنا حيًّا، له أشواقه، وعذاباته، وجراحه، وأصبح إنسانا مثقلا بالفقد، وتغيب عنه الابتسامة (هل تماهى الحاسوب هذه المرَّة في شخصية الشاعر أحمد فضل شبلول، فأصبح غريبًا، بعيدًا عن الماء والموج، والرمل، وشواطىء الإسكندرية.. فأصابته عدوى التعاسة، وأصبح يشعر أن ذاكرته .. ذاكرة الماء .. تفقد قوتها ؟).
لعل لحظة الكتابة، التي هي لحظة مفارقة لقراءتي هذه، قد استجاشت في نفس شاعرنا حميته لمواجهة لحظة الكشف، فأراد أن ينقضَّ على الحاسوب (ليته رثى له) الذي كشف صورة شاعرنا أمامنا، فانطلق في لحظة دفاعٍ رؤيوي عن نفسه:
قال الشاعرُ :
اغْرُب عن وجهي
فبرامجُ ضعفِكَ
لن تؤذيني
وذئابُكَ . .
ما أتعسَها
أطلقتُ قصائدَ روحي . .
موسيقى شِعري
لتطارِدهَا ...
إن فعل الأمر هنا لا يكشف عن قوة بقدر ما يكشف عن ضعفٍ أصاب الروح، ووهنٍ أصاب القلب.
(3)
تتميز هذه المجموعة الشعرية ((تغريد الطائر الألي)) لأحمد فضل شبلول بطابع خاص، وهذا نادر وقليل في الشعر العربي الحديث، وهو أنه ـ كما سبق القول ـ يؤنْسِن الآلة، ويجعلها تتجاوب، وتحس، وتشعر. وهو يعي ما يفعله وعيًا شعريًّا، فقد سبق أن كتب مقالة عن (الشعر والمنجز الآلي والإلكتروني) قال فيها (( إن الاتجاه الشعري في عصر التكنولوجيا والفضاء يتميز ـ في رأيي ـ عن اتجاه الشعر السابق في وصف المخترعات الحديثة، فهذا الاتجاه الأخير، اتجاه الوصف، يتناول الظاهرة من الخارج، ولا يقترب منها، ولا يرصد وقعها على المشاعر الإنسانية، فمجرد وصف غواصة أو سيارة أو طائرة من الخارج ليس له أي هدف سوى التعريف بالمنجز وشكله الخارجي وكيفية استفادة الإنسان منه. وهنا تبرز الذهنية وتتجلى عن مثل هذا الوصف، الذهنية التي تعني التخطيط المسبق للعمل الفني وتوجيه مساره وفقًا لهذا التخطيط، الذهنية التي تتمثَّلُ في انعدام التلقائية والصدق وعدم الكشف الحقيقي عن هموم الإنسان وتطلعاته ورصد مشاعره والتعبير عن انفعالاته)) ويمضي الشاعر قائلا في مقاله ((أما الاتجاه الشعري الجديد (يقصد اتجاهه هو في تعامله شعريًّا مع المنجز الآلي والإلكتروني) الذي نحن بصدد الحديث عنه، فإنه يدخل إلى قلب المنجز ... ويحاول أن يسبر أغواره ويرصد مشاعر الإنسان وانفعالاته تجاهه وكيفية تفاعله معه، وهل يتقبَّلُهُ وجدانُهُ باعبتاره واقعَا حياتيًّا يتعايش معه، أم يرفضه ويقاومه ؟.. وهل هذا المنجز سيحطُّ من قيمة الإنسان أم سيُعلِّي من إنسانيته ؟(7).
إن أحمد فضل شبلول يعي أنه يختلف عن سابقيه، فإيليا أبو ماضي حينما كتب قصيدته (الطيران) يتعجب من قدرة ابن آدم الذي يسير على الأرض، ويسبح على الماء، وصار يطير في الفضاء فوق السحاب، وهو كالعنقاء، لولا أن العنقاء خرافة ... الخ:
فهو في الماء سابحٌ وعلى الغبـْ ـراء ماشٍ وطـائرٌ في الفضاءِ
تـَخـِذَ الجوَّ ملعبًا ثمَّ أمسى راكضًا في الهواء ركض الهواء
فهْو فوق السحاب يحكيه في مســراه لكنَّه أخـو خـيـلاء
وهـو بين الطيور تحسبه العنْـ ـقاء لولا استحالةُ العنـقاء (
إن إيليا أبا ماضي مبهورٌ بالمنجز الآلي في استخدام الطائرة، وما فعل أكثرَ من تشبيهها بالطير! لكن شبلول في تجربته الشعرية مع المنجز الآلي يعي أن هذا ((المنجز يتسلل إلى حياتنا اليومية ويتحكَّمُ في إيقاعها، ويختصر من الزمن. هذا الزمن الذي هو أشدُّ العناصر الحياتية وقعًا على النفس البشرية)). ومن ثَمَّ فإن الزمن الـذي تختصره الآلـة، يعيد الشاعر تشكيله من خلال محاورته مع الآلة التي إن استجابت له مرة، فهي لا تستطيع أن تجاذبه مشاعره دائما، فهو الذي وهبها هذه القدرة، ومن المستحيل أن تبادر هي.
يقول في قصيدة ((عتاب من سوالب الأسلاك)):
منحتُها السرورَ والغضب
منحتُها اللعب
وهبتُها الذكريات
سألتُها ..
تخزينَ كلَّ لحظةٍ ..
تمرُّ بالشموسِ والنفوس
تسجيلَ أجمل الثواني
وأفخم المعاني
وأروع الأغاني
فَعَاتبتْ
سوالبُ الأسلاكِ عاتبتْ
تراجعتْ ..
وأصبحتْ حديدا
(آهٍ ..
من الحديد عندما يخون)
تَبَرْمَجَتْ ..
تحَّولتْ جليدا (9)
لقد أصبح المنجز الآلي (كالسيارة، والطائرة، والحاسوب، ...) «شريكا كاملا مع الإنسان، ويختصر زمنه الخارجي» (10) يسرُّ الإنسان منه، أو يغضب عليه، يحمل له الذكريات ... لكنها غير قادرة على إعادة الزمن المفقود، والمعاني الضخمة، والأغاني الرائعة ... إنها قادرة على البوح حينما تتماهى في الشاعر، فينطق باسمها، ويعبِّر عنها، لكنه حينما يطلب النطق والبوح، تظل غير قادرة. ومن هنا نجد أن بعض قصائد هذا الديوان أكثر قربًا من التعبير عن الرؤية الرومانسية التي تستجلي المخبوء في القلب والمشاعر، حتى وإن استخدمت ألفاظًا أقرب إلى اللغة اليومية (التي يتعامل بها المثقفون). يقول الشاعر في مفتتح قصيدة «الشاعر والحاسوب»:
دخل الشاعرُ صندوق الحاسوبِ
وقال :
افتحْ خاناتِ الأسرارْ
واجمعْ كلَّ بناتِ البحرِ الهدَّارْ
وتحسَّسْ أنباءَ القلبِ المبحرِ في الظلماتْ
فعدوِّي الآن يقاتلُني
بالمعلوماتْ
فكلماته (صندوق الحاسوب، افتح، خانات، اجمع، عدوِّي الآن يقاتلني بالمعلومات) ظاهرها أنها لغة جافة أقرب إلى لغة العلم، لكن الصياغة أضفت على هذه الكلمات بُعدًا جماليًّا، فدخول الشاعر صندوق الحاسوب يحمل مفارقةً، وسؤالاً يفاجئ القارئ: هل يجعل الحاسوب من الإنسان آلة؟ وأي إنسان هنا ؟ إنه الشاعر. وهل يتخلى الشاعر عن أحلامه وغنائيته وذاتيته ليكون جديرًا بدخول صندوق الحاسوب ؟ أم يُعدِّل الشاعر من الحاسوب ويؤنسنه ؟ وكلمة (خانات) حينما أصبحت في سياق جملة مقولة من الشاعر: افتح خانات الأسرار، كأنما الشاعر هنا في مقابل هذا العملاق العصري، الحاسوب يحس بعلوه. إنه هو الآمر بفتح خانات الأسرار حتى يرى هل كان صندوق الحاسوب جديرًا بالدخول .. أم يحسن النكوص والتراجع.
وهكذا فإن الصياغة أكسبت هذه الكلمات العلمية قدرة جديدة على الحياة والإشعاع في داخل النص. وقد استخدم الشاعر في نصوصه التي يضمها الديوان حوالي مائة وثلاثين كلمة لم نشعر بغربتها في معظم الأحيان، وأصبحت في داخل السياق لبنة في البناء يصعب انتزاعها، لكنها في بعض الأحيان تفقد هذه القدرة وتظل غريبة، تصدم القارئ ـ ولعل الشاعر يقصد ذلك ـ أي يقصد (أن تبقى الكلمة العلمية محتفظة بمعناها العلمي، لتنقل لك شيئا من الصراع الحضاري ـ أو مع الحضارة ومنجزاتها ـ الذي يعيشه الفرد العادي) حيث يجثُمُ المنجزُ الآلي على روح الفرد ـ أحيانا ـ فلا يجد منه فكاكًا !
يقول الشاعر في قصيدة بعنوان ((جراي)) والجراي هي الوحدة العالمية الحديثة لقياس الجرع الإشعاعية، كما جاء بحواشي القصيدة:
يختَمِرُ الإشعاعُ بكفي
تسقطُ منِّي حنجرتي
تتليَّف أفكاري ،
أوردتي
ويهاجرُ أنفي
تَتَأَيَّنُ تفَّاحةُ حبِّي
تَتَكَلَّسُ أزهارُ الأرحام (11)
ويقول في قصيدة «مَطَايا للحواسيب»:
فلا تنظرْ إلى عيني
ولا تقرأْ مسافاتي
ولكنْ ضَعْ مفاتيحي
على الإصبعْ
ولا تفزعْ
ولا تقنعْ
بكلِّ المِلحِ والسُّكَّرْ
فمائي الآنَ من عَنبرْ
وخَطِّي دائما يَعبُر
مناخاتٍ ..
وقاراتٍ
ومن قرصٍ
إلى قرصٍ
تمرُّ الشمسُ
فوق العقلِ والدفتر
أقيموا من صدوِرِكمُو
مطايا للحواسيبِ
فإني يا بني أُمِّي
أخافُ عليكمُ
الجهلاءَ
والدهرا. (12)
لم يستطع التصوير الشعري، في مثل قوله (تمر الشمس فوق العقل والدفتر) ولم يستطع تناصُّ الشاعر:
أقيموا من صدوِرِكمُو
مطايا للحواسيبِ
فإني يا بني أُمِّي ...
الذي يستدعي إلى الذاكرة بيت الشنفرى في لامية العرب:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومٍ سواكم لأميَلُ
لم يستطع هذا التناص، وهذا التصوير أن يبعد شبح النثرية الذي يخيِّمُ على هذا النص، ولكن من حسن حظ الشاعر أن مثل هذه النصوص قليلة في ديوانه (تغريد الطائر الآلي).
(4)
نقف الآن على أهم العناصر الفنية في الديوان، والتي كان من أبرزها:
1 ـ وحدة القصيدة: وهي ميزة حقَّقَها أحمد فضل شبلول في شعره منذ البواكير، ومرورا بدواوينه المطبوعة التي سبقت هذا الديوان: "مسافر إلى اللَّه"، و"ويضيع البحر"، و"عصفوارن في البحر يحترقان"، و"أشجار الشارع أخواتي"، و"حديث الشمس والقمر".
2 ـ التعبير الذي يمزج بين اللغة العادية، والصور المركبة التي توحي بجو التجربة هنا، وهو أنسنة الكائنات. ومن القصائد التي تجمع بين التعبير المباشر، والصور المركبة قصيدته ((عتاب من سوالب الأسلاك)) فالألفاظ المباشرة (وأكاد أقول العلمية) موجودة، ولكن اللغة التي تستعين بالصورة مشرقة، وغنية، وكثيرة الظلال، وتستوعب الألفاظ العلمية في سياقها، فلا نشعر بأنها غريبة أو مقحمة:
الكمبيوترُ الذي .. علَّمتُهُ الحنان والأمانَ
خانني
لأنني ..
أدخلتُ في اللغاتِ والشرائح الممغنطة
عواطفَ الأزْهارِ ، والأشجارِ ، والأنهارْ
وقصَّةَ العيون ساعة السَّحَر
ورقْصةَ الأغصانِ والأحلامِ والمطر
أََدْخَلْتُ ..
وَاسْتَرْجَعْتُ
بسمةَ العيون
إشراقةَ الجبين
تكبيرةَ الحنين
نداءَ هذه البحار (13)
ففي الوقت الذي نجد فيه الكلمات العلمية التي تتصل بالحاسوب، مثل: الكمبيوتر(14) ـ أدخلتُ (تكررت) ـ اللغات ـ الشرائح الممغنطة ... نجد أن هذه الكلمات فَقَدَتْ إشعاعاتِها العلمية، وأصبحت جزءًا من النص، داخل سياق شعري جرّد هذه الألفاظ من مدلولها العلمي، ومنحها في الوقت نفسه معانيَ متعددة أخرى، تتعدَّد وتثرى بقدرة القارئ على الاستجابة للنص والتفاعل معه، وتخلق جوًّا نفسيًّا فيه شراكة بين الشاعر/ النص/ القارئ، يتقاطع مع الزمن الذي نعيشه، والذي أصبحت فـيه الآلـة جـزءًا من حـيـاة الإنـسان الـعادي لا يمكن أن يستغني عنه.
وإذا كان الشاعر الجاهلي قد جعل من ناقته وفرسه (من الحيوان عموما) صديقًا يبثُّه لواعجه، ويجعل الحيوان الأعجم يستجيب لمشاعـر الشاعر، فلماذا لا يجعل شبلول من الآلة صديقًا عصريًّا، وبخاصة أن استجابته للإنسان وقدرته تفوق استجابة الحيوان، وقدراته ؟
3 ـ الحركة الداخلية للقصيدة في تغريد الطائر الآلي، حركة ثريَّة، فيها تعدُّد الأصوات، والمزج بين الحسي والمعنوي، وفيها تشخيصٌ للآلة، والشاعر في كل هذا يفيد من منجز القصيدة الحديثة في قِصَرِ المقاطع (أو الأبيات)، وتصير بعض السطور مفردة واحدة تصير قدرتها في الامتداد المطلق، ليترك البياض بعدها وقبلها فرصة للكلمة، لتخلق جدليتها وقدرتها على الإيحاء بالمعنى:
... وأنا ...
يختَمِرُ الإشعاعُ بكفي
تسقطُ منِّي حنجرتي
تتليَّف أفكاري ،
أَورِدَتي
ويهاجرُ أنفي
تَتَأَيَّنُ تفَّاحةُ حبِّي
تَتَكَلَّسُ أزهارُ الأرحام (15)
وهكذا يبقى النصُّ مفتوحًا، ويشارك القارئ في إنتاج دلالاته، ويصير قابلا للقراءة مراتٍ ومرات.
الهوامش:
( 1) نشرت على حلقتين في صحيفة "رسالة الجامعة" التي تصدرها جامعة الملك سعود بالرياض، في العدد (629) 4/10/1997م، ص6، والعدد (631) 18/10/1997م، ص5. كما نشر في مجلة "البيان"، العدد (330)، يناير 1998م، ص ص 97-104.
(2) أحمد فضل شبلول: مسافر إلى الله، الإسكندرية: كتاب فاروس، مايو 1980م، ص11.
(3) فؤاد رفقة: أربع قصائد 1ـ رسالة من البيت، مجلة (شعر) السنة الخامسة، العدد (20) أيلول 1961، ص 56.
(4) السابق، ص 56.
(5) أحمد فضل شبلول: مسافر إلى الله، ص 28 ، 29.
(6) أحمد فضل شبلول: تغريد الطائر الآلي، الزقازيق: سلسلة «أصوات معاصرة»، العدد (33) 1997، قصيدة الشاعر والحاسوب، ص ص10 ، 11.
(7) أحمد فضل شبلول: أدباء الإنترنت ..أدباء المستقبل، مقال "الشعر والمنجز الآلي والإلكتروني"، الرياض: دار المعراج الدولية للنشر، 1417هـ ، ص ص 153 ــ 156.
( إيليا أبو ماضي: ديوان أبي ماضي، بيروت: دار العودة (د.ت) ص115.
(9) أحمد فضل شبلول: تغريد الطائر الآلي، ص21 ، 22.
(10) أحمد فضل شبلول: "الشعر والمنجز الآلي"، مرجع سابق.
(11 ) السابق، ص 31 ، 32.
(12 ) السابق، ص 25 ، 26.
(13 ) السابق، ص 19 ، 20.
(14 ) لا أدري لماذا يستخدم اللفظة الأجنبية ؟
(15 ) السابق، ص31 ، 32.
..........................
*من كتاب "دراسات نقدية في أدبنا المُعاصر"، للدكتور حسين علي محمد.

د. حسين علي محمد
29/06/2009, 12:43 AM
للـــــــــــــرفــــــــــــــع