المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حضور النص الحضاري والواقعية النصية الوصفية في كتابة إبراهيم درغوثي الروائيةا



ابراهيم درغوثي
20/05/2008, 08:18 PM
حضور النص الحضاري والواقعية النصية الوصفية
في كتابة إبراهيم درغوثي الروائية




الأستاذ الدكتور : حفناوي بعلي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة عنابة – الجزائر


يجسد إبراهيم درغوثي أنموذج الكاتب القلق أبدا الآرق مطلقا . لا يستقر على حال من الأحوال في منهاج بلاغة الكتابة ؛ يتحول من حافة الواقعية الملتزمة الحادة ، إلى الواقعية النصية والواقعية الوصفية ، أو إلى الواقعية السحرية / العجائبية . يغامر ويحاكي ويناظر عمالقة الفن الروائي ؛ من مثل غارسيا ماركيز صاحب رائعة " مائة عام من العزلة " . ومع هذه النقطة المتحولة في مساره ومداره السردي ، برزت لديه ظاهرة توظيف النص الحضاري / التراثي . يروم من ذلك محاولة الإحاطة بأسباب الأزمة الحضارية للأمة في همها وغمها ؛ والعميقة والمعقدة الضاربة في الجذع والرأس والقلب . كما يشير من جهة أخرى إلى عوامل العجز والخصاصة ، والموت الحضاري والصقيع في جسم الأمة وحاضرها الراهن والمرتهن .
يقوم النص الحضاري / التراثي لدى درغوثي مقام النص الغائب ، الذي حالت الظروف دون كتابته ؛ كما يتجلى ذلك في رواياته : الدراويش يعودون إلى المنفى ، والقيامة الآن ، وشبابيك منتصف الليل ، وأسرار صاحب الستر . حيث يأخذ النص شكل الشهادة والاستشهاد ، أو التضمين المعلن حينا والمضمر أحيانا . بطريقة يتحول فيها المقتبس المؤسس إلى جزء من هيكل المتن الروائي وصلبه ؛ كما في " الدرويش " أو " القيامة " حيث يقوم بتذويب النص الحضاري ، وتفريغه في النص المنجز والراهن . ويبرز هذا الانصهار والتذويب والتعويم والتهويم أكثر في " أسرار صاحب الستر " ، فتتحول التجربة الكتابية معه إلى إبداع وشكل ثان .
شكل التجريب لحظة حاسمة في تجربة وكتابة الروائي التونسي إبراهيم درغوثي ، حيث يبدو علامة فارقة للحداثة الروائية العربية في لحظتها الراهنة . فقد غدا في منجزه ومشروعه الروائي الكبير ؛ متمثلا أرقى نماذج الصنعة الروائية في التجريب . من حيث تفكيك العمود السردي في تلاقحه وامتزاجه بالفنون السمعية البصرية المشهدية ؛ كالسينما والمسرح والتشكيل والغناء والموسيقى . وكذا لعبة المصائر والضمائر والأزمنة والأفضية ، والتهجين اللغوي والنصي بالأسطوري والصوفي والواقعي بالخيالي والحلمي ، واستدعاء التراث والنص الحضاري .

ابراهيم درغوثي
20/05/2008, 08:20 PM
" الدراويش يعودون إلى المنفى " .. انتكاسة وتقهقر النضال القومي / العربي


تتشكل وقائع وصنائع " الدراويش يعودون إلى المنفى " للدرغوثي من حكايات درويش وفرانسوا مارتال ونمرة . وتمثل حكاية " درويش " محورا وخيطا يشدها إلى بعضها بعضا ، ويظل في حضوره وغيابه عنصرا هاما ومحركا للأحداث ولمسارات ومدارات الحكي . عاد درويش ذات يوم إلى القرية ، قريته ، فابتاع قدرا ولازم الساحة العمومية ، يطبخ ماء وحجرا ورجلاه تحت القدر تلتهمهما النيران . أغرى المشهد الفرنسي " فرانسوا مارتال " ، الذي أحب القرية وابتنى له منزلا يتردد عليه صيفا وشتاء ، فالتقط صور عديدة لدرويش وقدره .
ولكن درويش اقتحم عليه بيته ليلا والتهم أشرطة التصوير ، فنشأت عداوة بين الرجلين واستحال درويش خطرا ، يهدد الفرنسي باستمرار ، وطيفا يقض مضاجع أرباب السلطة . اختفى " درويش " وانتحر الفرنسي ، ثم ظهر " درويش " مجددا في القرية ، فصدمه ما لحقها من وأهلها من تغيير ، وفاجأته الحرب وهي تشن على العراق . والتقى بنمرة ابنة عمه فاقترحت عليه أن يلتحق بـ " أصحاب الكهف " في الجبل ؛ فجمع الأهالي وساقهم كالقطيع إلى الكهف ، وإلى مثواهم الأخير . ولم يترك إلا الأطفال الأمل الجديد ، وهم يشهدون ميلاد غد جديد وسعيد : ( جاء درويش ونمرة ، خطب في الجمع ... أمر الجماعة بالمشي وراءه ، مشوا وراءه إلى أن وصلوا الكهف . انفلق الصخر وظهر باب صغير ، احنى الرجال رؤوسهم ودخلوا الكهف ، ودخلت النساء وراءهم .../ ودخل درويش وراء الجميع وأغلق باب الحجر ) . (1)
انتهى السرد بدخول " درويش " ومن معه إلى الكهف ، وإغلاق باب الحجر وراءهم وإشراق شمس جديدة ، ويختم النهاية باستدعاء نص للشاعر كفافي الأسكندري / اليوناني ، نص سوداوي يرشح ألما وأسى وخيبة . ويبدو أن المؤلف بعد الهزائم التي لحقت بالأمة ، وبعد حرب الخليج الثانية على العراق ، والتي أتت على اليابس والأخضر ، ضرب عرض الحائط بـ " الواقعية الاشتراكية " ، وانتقل إلى الواقعية الوصفية السوداوية : ( قلبي مدفون مثل جثة .. إلى متى سيظل فكري في هذه الأرض الخراب ... خراب حياتي السوداء .. لن تجد بحارا جديدة .. فلا سفينة لك .. لا طريق ) . (2)
لا تحمل القرية اسما ولا رسما ، ومع ذلك تتعالق خريطتها بطرائق ومعالم سكان الواحات . وتؤكد التماهي والانزياح والانتماء المكاني ، وحضور الواقع الحضاري داخل النص السردي ، كواحة توزر وبلاد نفطة والجريد في " الدراويش يعودون إلى المنفى " . حيث يتداخل الزمان بالمكان والواقع بالإيهام ، والواقعي بالخرافي بالعجائبي والغرائبي ، والأسطوري بالتاريخي بالحلمي والمعيشي . وقرية / مكان النص يحدها جبل وواحة ، ويطل عليها منزل مارتال ، وزاوية سيدي عبد القادر الجيلاني . وتتوسطها ساحة عمومية وسوق ، وتتجاور فيها الحياء العتيقة بأزقتها ودروبها وقديم بناءاتها ، والحياء العصرية بشوارعها ومحلاتها التجارية وفنادقها . إنها مثل " الواحة ذات المليون نخلة .. وعيون الماء والمتحف وحديقة حيوانات الصحراء ... والنزل الفخمة " . (3)
يتعدد المكان ويتمدد ويضيق وينكمش في رواية " الدرويش يعودون من المنفى " ؛ فمن المكان الخاص ( القرية / توزر ) إلى العام ( بلاد وأوطان العرب ) ، ثم يضيق إلى فضاء ( الكهف / ساحة القرية ) . والمكان في انضغاطه وانسياحه مرآة مشروخة ومحدبة ومقعرة لواقع العالم العربي ، وصور لتقهقر مده الثوري وتراجع نضاله القومي . ووقوع العراق تحت وطأة الاحتلال الأجنبي ، وتحت ضربات الإخوة الأعداء . إنها حالة من التدهور الفظيع المريع لواقع الأمة ، وانحسارها وانكسارها وانقسامها وسقوطها الحر في زمن النهر العربي المر . ( هنا الرياض : كل مطارات العدو ومنصات إطلاق الصواريخ بعيدة المدى ، ومعامل الأسلحة الكيمياوية والبكتريولوجية والذرية والجسور ، والدبابات وعيون الأطفال الكحلية ... دمرتها قواتنا الجوية الباسلة ) . (4)
يحدد الكاتب في روايته الزمن السردي باندلاع حرب الخليج الثانية / الحرب على العراق . ويبدو أن منطق السرد في الرواية متشظيا مكفكا ، ممتدا مقتطعا موزعا بين الحاضر والماضي ، يضرب في الزمن القديم ثم يصعد إلى الحاضر ويستشرف المستقبل . والزمن أزمان متعددة ؛ منها ما هو زمن ديني ميثيولوجي ، غارق في القدم منذ الأزل ، ومنذ النشأة الأولى وتكوين الخلق ، ومن زمن النبوة الأولى زمن إبراهيم الخليل . ومنها ما هو زمن روحي ضبابي صافي مطلق ، مثل زمن الصوفية وقصص كرامات الأولياء . أو ما هو تاريخي بعيد وأبعد من ذلك كزمن حفل وزفاف ( قطر الندى ) إلى الخليفة المعتضد العباسي ، ومنها ما هو تاريخي من الماضي القريب كاكتشاف النفط في جزيرة العرب وزمن العرب المستباح . وزمان آخر حاضر ناظر ؛ زمن : السوبرماركت ، رونالد ريغان ، ومايكل جاكسون . (5)
وبالإضافة إلى تلك الإشارات والإحالات على أزمنة الرواية ؛ يبقى الزمن الحقيقي لرواية " الدراويش يعودون من المنفى " ، هو الزمن العربي الموحش ، زمن العرب ونهاية التاريخ العربي في نهايات القرن العشرين . زمن الطوائف والحراب والتقاتل ، وزمن العجز عن رفع التحدي وزمن المهالك ، والتهالك على الاستهلاك ، وزمن استباحة الأرض والعرض ، ومصادرة الحاضر والمستقبل وبيع في المزاد العلني بثمن بخس .
إن درويش / الرواية شاهد عيان على انحطاط الزمان العربي ، يعيش زمن الغربة والفعل الذميم والعقيم ، والمنفى والمنافي والاغتراب والفيافي ، واليأس والقحط والسحق . إنه زمن المفارقة السوداء والسخرية المرة . ( .. وعاودت تجوالي في السوق . الوجوه كالحة حد الفجيعة ، ونشرات الأخبار تذاع كل نصف ساعة ، تحلق الرجال ـ الأطفال حول أجهزة الراديو يتابعون الأخبار ... والقافلة تقترب من مدينة الحيرة ، فتخرج كوكبة من الحرس السلطاني لاستقبالها ، وترحب بهم الكلاب ، ويذبح الرجال .. ويمد السماط على الأرض ك جمال مذبوحة ورجال مذبوحة ) . (6)
وقد تعددت النصوص التي استقى منها درغوثي مادته الحكائية في منجزه السردي " الدراويش يعودون إلى المنفى " ، وحضرت النصوص الحضارية الغائبة ، المضمرة وفي ضمير المدونات التاريخية والدينية والصوفية والأدبية والأسطورية والحكائية ، في شبكة عنقودية . وتراصت وتراكبت طبقا عن طبق وتناسخت وامحت وتطرست ، وتناسل شجر الكلام بعضه من بعض وتواقع وتجانس . فشكل غابة من الواقعية النصية والواقعية الوصفية : ( انقضت كالملسوع وجريت إلى ركن الغرفة حافي القدمين ، تصفحت الكتب وقرأت عناوينها : القرآن ، التوراة ، ألف ليلة وليلة ، تاريخ التمدن الإسلامي ، عيون الأنباء ، مروج الذهب ، تاريخ الإسلام ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، مثنوي جلال الدين الرومي ، طواسين الحلاج ..جامع كرامات الأولياء ليوسف النبهاني ) . (7)
جاءت تجربة رواية " الدراويش يعودون إلى المنفى " ؛ متشظية ومفككة لخطاب المنجز الروائي السائد ، تنحو منحى سرديا تجريبيا ، لانشغالها على الغريب والعجيب ، والخارق المفارق للواقع . كما عمدت إلى " أسطرة " فضاءاتها ، وأزمنتها وشخوصها . تميزت لغتها بالشفافية الصافية ومنزعا صوفيا ، يختلط فيها الوهم بالحلم واليقظة ، وتجمع بين الواقعي والخيالي . كما يشكل حضور المؤلف / السارد حضورا ، لكي يحقق ما يعرف بأسطورة الكاتب / الواقع . وقد تعالقت الأزمنة وتداخلت من بدء الخليقة إلى حرب الخليج ، وأضفى عنصر المفارقة كثافة في أبعادها الجمالية والدلالية . وتداخلت أمكنتها : القرية ، الزاوية ، الواحة ، بغداد ، دمشق ، الحيرة ، إنجلترا ، فرنسا ، أمريكا . الشرق الغرب ، ، الأرضي العلوي ، الماورائي الجنة / جهنم .

ابراهيم درغوثي
20/05/2008, 08:21 PM
" القيامة الآن ".. القهر والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان

" القيامة الآن " .. يحيل على الواقع والحاضر المهول ، ويستدعي فيما يستدعي الفظاعة و" الفزع الأكبر " ، ويستحضر مشاهد القيامة وبداية النهاية ، ويوم يقوم الناس لرب العالمين على رؤوس الأشهاد ، ويحشر الناس جميعا . إنها تصوير لحال وواقع مرعب مخيف ، هو راهن الأمة المخترق من الجهات الأربعة . يتأطر ويتنزل نص القيامة في أربع مقامات : مقام العلامة / علامة قيام الساعة الكبرى والصغرى ، ومقام البعث والنشور ، ومقام وباب الفردوس ، وأبواب الجحيم والعذاب الأليم والمقيم . وتتدرج مشاهد قيام الساعة على مراحل : ياجوج وماجوج ، خروج الدابة والعور الدجال / مسيخ الدجال ، النفخ في الصور ، البعث والنشور ، الحساب العقاب ، الجنة والنار . ( الأعور الدجال : جاء راكبا على حمار ما بين أذنيه أربعون ذراعا ، واقترب الدجال أكثر حتى ملأ وجهه شاشة التلفزيون ، خطب فيهم : أنا ربكم الأعلى . وصار كلما وضع يده على حجر تحول إلى خبز ) . (8)
نص " القيامة الآن " لإبراهيم درغوثي نص مدهش يصدم ؛ عجيب غريب ، مفارق وخارق للسائد ، نص مختلف مضاد للمؤتلف . عابر للأجناس الأدبية ومفخخ مدجج بترسانة من النصوص الحضارية / التراثية ، متسربل وموشى بالنضارة ، ونص حمال لوجوه الحضارة : عبق بآي الذكر الحكيم والتنزيل المبين ، وأحاديث شيخ المضيرة أبي هريرة ، وقصص الإمام الأوزاعي ، وأحاديث كعب الأحبار ، وتميم الداري ، والقتبي ، والثعالبي ، والماوردي وابن دحية ؛ أحاديث عن الموت وعذاب القبر والحشر والنشر ، والزبانية الشداد الغلاظ وملائكة الرحمة ، والحميم والماء المحموم والسعير . . ويتمظهر الراوي في هذه الروايات والمسرودات والحكايات بلبوس الحكيم / المجنون : ( .. وبعد أن صرت مجنونا تفتحت أمامي العوالم المغلقة بمفاتيح الرحمن . تعال معي نفتح الأبواب ) . (9)
لقد اختصت رواية " القيامة الآن " بموضوعة " الدين والسياسة " ؛ في تداخل ينم عن الروابط المعقدة والشائكة التي تسم علاقتهما في الواقع . فتتوافد النصوص وتترافد وتتضام وتتزاحم ، مشكلة شبكة عنكبوتية من الصلات والعلاقات في بناء الرواية . فضلا عن الأعلاق النفيسة من النص القرآني والحديث النبوي ، والمتن الروائي في حد ذاته . متعالق بين الماضي والحاضر ؛ بين ياجوج وماجوج ، والشهيري ودراكيلا ، ووزيره الرعاية المدنية . وكائنات أسطورية وقد استحوذت على المدافع والدبابات وراجمات الصواريخ ، وقنابل عنقودية وصواريخ عابرة للقارات وقنابل نووية ، وكأنما في أفلام الرعب والخيال العلمي . (10)
تصور " القيامة الآن " رحلة العذاب الإنساني ، وتجسد تاريخ القهر والعسف والعنف ، والانسحاق في الأقبية العفنة والزنزانات المظلمة ، التي تتفسخ فيها الأجساد . حيث دراكولا يسوم الناس سوء العذاب ، ذاك الجلاد الذي يضع نظرات على عينيه ، ويدخن سجائر المارلبورو ، ويتغذى بما كتب عن القمع والتعذيب ؛ في عهد الأمراء والسلاطين العرب ماضيا وحاضرا .
يتحول دراكولا إلى وحش أسطوري ومصاص الدماء ، فما إن يتم استجواب " آدم " السجين السياسي ، ويشبعه ضربا وشتما ، ولغته القمعية حتى يجهز عليه فيقتله ، يقول آدم : ( قام كالإعصار ، اجتاحني بسرعة كبيرة ، غرز نابيه في عنقي ففار الدم غزيرا من الجراح ، جثا على ركبتيه فوق جثتي ، وراح يلحس الدم ودار دراويش قونيا حولي ، حركوا طرابيشهم العالية .. وبدأت حفلة الرقص تضيق وأنا أختنق ورفض الصراخ المكتوم في حلقي الاندياح .. بعد أن عضني دراكولا وجدت نفسي كالعصفور يلقى .. أو كشاة حية تسلح بيد القصاب ، ثم بدأ كل عضو من أعضائي يبرد ؛ إلى أن بلغت روحي الحلقوم أحسست بها تغادرني مرتعدة خائفة ، ثم رأيتها تحط كالخطاف على الأسلاك المتدلية بين عواميد الهاتف ) . (11)
استحضر إبراهيم درغوثي في نصه " القيامة الآن " نصوصا من القرآن والحديث الشريف ، ونصوصا أخرى شعرية ونثرية ؛ وإشارات ونثرات من الواقع . وتسرب فيه الأسطوري واليومي ، وارتكز فيه على التقرير الصحفي وتقنية الشريط السينمائي ، وتداخل الصوفي والنص الشعري . كل ذلك مقاربة من أجل تحقيق ما يعرف بالواقعية النصية والواقعية الوصفية : ( تغني القيان في القصور عن " ليل الصب متى غده ؟ ويلقي الشعراء قصائدهم العصماء : ما شئت ..لا ما شاءت الأقدار ، فاحكم فأنت الواحد القهار ..فكأنما أنت النبي محمد .. وكأنما أنصارك الأنصار .. وتحوك القهرمانات الدسائس ، ويقدمن الرشاوي .. وشيكات على بياض مسحوبة من بنوك : لندن ، وباريس ، وجنيف ، وطوكيو ) . (12)
ويستحضر إبراهيم درغوثي أسماء من رواية عبد الرحمن منيف " الآن هنا " . وهي مواصلة لرواية شرق المتوسط في مستوى المحمول من الأفكار والمواقف والتصورات ، فهناك تواصل وتراسل بين السارد في " القيامة الآن " ، وعادل الخالدي ، وهو سجين سياسي في رواية " شرق المتوسط " . فالسجين في القيامة تعلم من سجناء عبد الرحمن منيف ؛ الصمت أمام المحقق والسخرية وتعلم منهم أن يقول : لا ، وهي الخاتمة التي أرادها المؤلف لروايته . ولئن كانت شرق المتوسط قد انتهت عند هذه الحدود ، فإن " القيامة الآن " ، قد انغلقت على نهاية تبشيرية : ( نودي على الشهيري ، جاء يتعثر ، سلسلت في دبره سلسلة حتى خرجت من منخره . وجاء العطيوي فسلسل معه ، وقصف بهما في النار كما يقصف الحطب ، وزقزقت عصافير الذهب فوق أغصان الذهب ) . (13)
وتداخلت الأزمنة في نص " القيامة الآن " بين الزمن التاريخي والزمن النفسي والأسطوري ، شكلت مرايا متجاورة . فالزمن واحد متعدد متمدد بين الماضي والحاضر ويرنو إلى المستقبل . تستدعي فيه الذاكرة موجة من الاسترجاعات والحنين وتتقاطع أصوات الشخصيات ، ويلعب فيه تيار الوعي دوره بالتدفق والانفجار ، تسعفه في ذلك لغة حادة وشفافة . كشفت عن صراع درامي في مجمل بنية العمل السردي : ( قال : هل تعلم إننا نحترم حقوق الإنسان أكثر من الازم . قلت : أكثر من اللازم .. وتركه يتكلم عن الضمانات الموضوعة للمشبوه فيهم ؛ في حالات الاحتفاظ تقديسا لحرية الفرد وصيانة لكرامته الجسدية ) . (14)
وكما تعدد الزمن في الرواية كذلك تعدد المكان كذلك ، واتخذ صورا أشكال وتمدد وشغل أفضية ومساحة واسعة من الرض والمعمورة : أنهار بأسمائها ، وسور الصين ، والخليج العربي ، ومدن العراق ، ومقرات الاتحاد العام للشغل بتونس ، وصفاقس وسوسة ، والمسرح الروماني بقرطاج ، وأمريكا وفرنسا . وصعيد مصر وبلاد الزولو والمارستان ، ومدينة موران في شرق المتوسط . هكذا جاءت في الرواية أمكنة تتقاسمها الأوبئة والسجون والمستشفيات والأسوار ، والصحاري والمحيطات ، أمكنة موت ودمار وعار ، أمكنة مفككة عبثية تهدر فيها كرامة الإنسان وتستحيل فيها الحياة ، إنما أرض اليباب والخراب . (15)
استخدم الروائي الدرغوثي في روايته " القيامة الآن " أسلوب البناء المسرحي ( مسراوية ) ، وتقنية العمل الفرجوي ومقوماته من مشاهدين وركح وشخصيات : عادل الخالدي وآدم الآدمي ، والساحة العامة ومدينة الجماجم ، وشخصيات تقوم بأدوار متنوعة ؛ منها الصنم الراكب على حصان يتحول تباعا ، ويمثل دور الإله البرونزي والملك الجلاد والإمبراطور . وقد أنشأ حوارات مع جمجمة عادل الخالدي ووزرائه ، الذين يتجه إليهم بكلام مقذع يأمرهم " بضرب البندير " ومباركته في كل حين وآن .
وقد أفرد المؤلف لذلك أربع لوحات ومشاهد مسرحية : لوحة الحوار بين الجلاد ذي الرجل الخشبية العطيوي وعادل الخالدي . لوحة الوزراء الذين يضربون البندير ، ويهتفون بحياة الملك البرنزي ملك الملوك الصنم الراكب على حصان . وتتواصل الفرجة بلوحة تحول الشهيري إلى خنزير بري ، يطارد طالع العريفي على حصان حتى سجن العبيد . وبلوحة حفل المسرح الروماني القرطاجي ؛ حيث يحضر الإمبراطور جوليوس مبارزة بين الجلادين العطيوي والشهيري ، يتحولان إلى مصارعين على حلبة المسرح الروماني ، وتنتهي اللوحة بقتل الشهيري . (16)
يعيش الراوي / البطل وقائع وفجائع من الرعب والإحباط ، وقائع التحقيق والجلد والعذاب المهين ، والخوف والظلم والعسف . استعمل الكاتب في إخراج هذا السيناريو الأسلوب البرقي السريع ، أو أسلوب التوقيعة والومضة في لوحات القصة القصيرة . وفي جمل قصيرة مكثفة مكتنزة تتلظى وتتلوى ، وتغرق وتحترق وتكتوي وتعوي . وتروي هول وأهوال عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ، وأحوال البشر يوم الحشر ؛ دالة محيلة على وقائع وفظائع الواقع والرعب والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان ، ونقل صور جلادي العصر والمصر في تعذيب : سالم العطيوي آمر سجن العفير / والشهيري ، ويذيقهما من العذاب أضعاف ما ذاقه ضحايا النازية وضحايا بيونيشه من عنف وإرهاب .

ابراهيم درغوثي
20/05/2008, 08:22 PM
" شبابيك منتصف الليل " .. تفتح نوافذ القلب على العجائبي والغرائبي



لقد أثارت رواية شبابيك منتصف الليل ضجة ، استمرت لفترة طويلة بعد صدورها ، واختلفت حولها الآراء بين التنديد والتأييد . وسبب ذلك في تناولها بكل صراحة وحرية موضوعة / قضية " الجنس " ، مع تضمين لنصوص تراثية استقاها المؤلف من التراث الحضاري المهمش ؛ رغم استعماله المتداول بكثرة . يكون الثلاثي المحرم : الدين ، السياسة ، الجنس ، في أعمال درغوثي وحدة متكاملة . ودون إخلال بالقضية الفنية والأخلاقية ودون الوقوع في فخ الإثارة الرخيصة ، مع مراعاة الذوق السائد في العهود الذي كتبت فيها هذه النصوص ، وكذا التعبير عن حساسيتنا الراهنة . ومن مميزات هذه الرواية / الشبابيك أنها تطرح المشكلة وتقترح الحل ، كما أنها تطرح العلاقة المحتملة بين الأدب والثالوث المحرم / التابو .
يتمظهر في الرواية ذاك التداخل بين الأشكال والرؤى والأساليب والنصوص ؛ حيث تغدو بهذه الصورة مجموعة من القصص القصيرة ، التي تنطوي كل منها على معنى في ذاته ، وعلى معنى آخر حين ينضم إلى أمثاله . فالوحدة الظاهرة تنهض على التعدد الخفي ؛ يتجاذبه قطبان على طرفي نقيض : هما التاريخ والأسطورة . وقد يرد هذا التاريخ في صورة هامش ، يفسر المتن ويشد أزره . ومن ذلك في الفصل الثامن الذي يبتدئ بهذه الجملة ( مرت أيامنا في القرية رتيبة هادئة إلى أن زارنا وباء التيفوس ) . ونقرأ في أسفل الصفحة " التيفوس " : مرض وبائي ضرب جنوب البلاد التونسية خلال الحرب العالمية الثانية فأهلك خلقا كثيرا " . (17)
شبابيك منتصف الليل ليست تاريخا ، ولا هي رواية تاريخية ، ولا حتى رواية واقعية تستند إلى خلفية تاريخية . ذلك أنها تفتح شبابيكها على عالم عجيب . إن حداثة الرواية هنا تنبجس بين التماس الحاد بين التاريخي والواقعي والعجائبي الغرائبي ، الأمر الذي يمنح النص السردي حركة وتفاعلا قويا . تتعدد أصوات النص وتتدافع ؛ فيأتينا صوت الحفيد الذي لا اسم له . وأكثر فصول الرواية على لسان هذا الفتى ، الذي يحدثنا عن جده وعن أبيه خليفة أبي الشامات ، وعن عمه خليفة أبي اللعنات وعن أبي البركات .
تناسلت هذه الشخصيات من أصل واحد ؛ هو الجد الذي ظل محاطا على مدار السرد الروائي بهالة ووقار وقدسية ؛ مثل الحق والصدق والقوة والمهابة والجلال والبهاء والصفاء . إنه منقذ القرية من التيفوس ، وصائم الدهر وولي الله الذي تشرق من قبره الشمس . أما الخليفة الثاني أبو اللعنات ، فهو متهالك على اللذات في كل الأوقات ، ظل على غاية أرذل العمر يمارس الرذائل ما ظهر منها وما بطن . وأما الخليفة الثالث أبو البركات ، فهو مثال الورع والتقوى والبر أسس زاوية معمورة بالعشي والإبكار ، وانتهى بهم الأمر جميعا إلى الانتحار والدمار . وهذه الشخوص في واقع الأمر ليست إلا ذوات متهافتة تحركها الأفكار والمواقف .
إنها حيوات محشوة بالماضي وزخمه وأوهامه ، مسكونة محمومة بالجنس ووهم الذكورة وذكورة الوهم . وهذا التعدد في الأصوات يدخل بعض الارتباك على مقروئية النص ، حيث ينتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، يحدث كل ذلك بصورة غرائبية عجائبية . ( مشى أبو البركات فمشى الحصان وراءه ، ذهبا سويا إلى الخلاء ، نبت للحصان جناحان بديعان بألف لون ولون ، فطار باتجاه الشمس التي مالت نحو الغروب ) . (18)
تتنوع المصائر وتنغلق الدوائر وتتمحور على محارة الذات ، وتشكل نهاية واحدة لأجيال متعددة . وما يتحكم في هذه الفصول والغايات ، هو الانتقال في المكان الواقعي ؛ الذي تتلون به الوقائع والإيقاعات والأشكال والإشكالات . شكل المكان الأنثوي / البيت مصير أبي الشامات دار إقامة ومقام ، فهو مشدود إليه اقترابا وبعدا حالا ومآلا : البيت / الحضن الدافئ ، البيت / السجن ، البيت / القبر : ( بدت لي منازل القرية أبعد من رحمة الرب ، وعدت ألوم نفسي على اختيار زمن العودة ليلا ، فماذا لو سقطت في جرف واندق عنقي ولم أر منزل الحبيبة ، وضاع حنين ثلاثين سنة إلى الأبد ... هنا كان منزل صفية أعرف مكانه بالنظر ، بالشم ، بلمس الهواء ، هنا كان المنزل واقفا كما قصور السلاطين ، بسوره وأبراجه ، وبابه الكبير ) . (19)
جسدت حالة اكتشاف الشهوة والجسد لدى أبي اللعنات ؛ معادلا موضوعيا / موازيا لفحولته ورجولته ومواربا لعطش الذات للأنثى / الرغبة واللذات ، كما شكلت " الفرشيشية " تعويضا للزمن المفقود وسوالف الأيام المحمومة ، الذي عايش وذاق رطبه وجنيه في موطنه ومنزله الأول . هذه الفرشيشية الجنية التي دفع في مهرها مائة ناقة " محملة بالرياش والمعاش ، والتي " لم ير أجمل منها في كل الدنيا .. والرقيقة مثل البلور الصافي .. الممتلئة باللحم الشهي " . ماتت ولم يمتلكها أبو اللعنات امتلاكا كاملا " ( قال لي عمك إنه لم ... لكنها نزفت طول الليل وفارقتها الروح مع الفجر ) . (20)
أما الخليفة الثالث المكنى بأبي البركات ، فقد غادر موطنه مع أبيه الشيخ ، مدرس الفقه والتوحيد وعلم الكلام في الجامع المعمور ، على الحاضرة . وظل صدى لأبيه في نوازعه الدينية والروحية ، وحنينه المقدس لأرض انطلق منها ذات يوم ، لتتحول في البعد إلى جنة موعودة ودار مقام بنفس راضية مرضية . ويكره الأب أن يدفن عندما تحضر المنية في الحاضرة ، وأن يدفن في القبر المحفور له منذ الأزل . وتفرغ الأب للعبادة والتدريس " يومه درس في جامع الزيتونة المعمور وليله صلاة وتهجد " ، فيتخذه الابن قدوة ومثلا أعلى ( .. لم يعد ينام من الليل إلا قليله ، يحفظ القرآن ويرتله ويجوده ، ويوقظ جدي لصلاة الصبح ) . (21)
أما إشكالية الرؤيا وزوايا النظر في الرواية ؛ يقدم إبراهيم درغوثي مناظير وعددا من زوايا النظر من خلال أصوات متنوعة . وتحفل الرواية بحزمة من التناصات وامتصاصات النص الحضاري ؛ فالقسم الأكبر من الفصل السادس مأخوذ من كتاب " الحيوان " للجاحظ ، والفصل السابع خبر قصير عن بختيار البويهي ، مستمد من مسكويه وابن الأثير من " تجارب الأمم " و" الكامل " . وفي الفصلين العشرين والواحد والعشرين مقاطع من " الروض العاطر " للشيخ النفزاوي . كما احتفلت هوامش المتن بمشاهد متناسلة مستلة من "الحلل السندسية " للسراج ، ومن " المسالك والممالك " للبكري ، ومن " رحلة التيجاني " ، مع إحالات على " وفيات الأعيان " ، و" فوات الوفيات " ، و " معجم البلدان " . (22)
ومن ناحية بناء الزمن تناولت الرواية فترة زمنية وثيقة الاتصال بالحرب العالمية الثانية ، وما تلاها من فترات . كما نعثر على إشارات تعود إلى زمن البويهيين ، وإلى عهد الحماية ، وعهد الاستقلال . والمتمعن في الزمن الروائي ؛ يلاحظ هيمنة الليل علية وسواده : فالختان يتم بالليل ، والشمس تودع النهار والكون فيحل الظلام ، وقدوم التيفوس وزيارته القرية وقتله ليلا ، وعودة الأب إلى مجنونته ليلا ، وينزل الفتى الزاوية مع السائح الأمريكي في منتصف الليل ، وقبض الجد قبل طلوع الشمس . (23)
يعج نص " شبابيك منتصف الليل " للدرغوثي بأشكال مختلفة للجنس ، ويتمظهر بألوان وصور للحياة الجنسانية / الإيروسية ؛ فيتلبس تارة بمظهر الرجولة والفحولة / فحولة الريف ، فتروى عنها المآثر والمناقب والمكرمات ، وأشكال الافتخار والعزة بالإثم . تشيد بفحولة الشخوص المدهشة ، ويغرق النص الروائي في منجم ومعجم ضخم من تعابير " الجنس " ، ويبدو أن مصطلحات وانتفاضات الجنس وعرسية ونشوة واللذة في رواية " شبابيك منتصف الليل " ؛ سليلة ومستمدة من كتب التراث في موضوعة " الجنس / الحس " ، ويأتي في مقدمتها كتاب " الروض العاطر في نزهة الخاطر " لمؤلفه المغاربي النفزاوي .

ابراهيم درغوثي
20/05/2008, 08:24 PM
" أسرار صاحب الستر ".. الواقعية النصية في مقاومة بؤر ومحاور الشر

لقد كرست أسرار صاحب الستر في مجملها لقضية السياسة في العالم العربي ، وما تتسم به من شذوذ وإسراف وعدول مقيت عن القيم السياسية والاجتماعية والفكرية . وقد فضل درغوثي أن يعالج هذه المعضلة بتركيزه على شخصية الطاغية ، ووقع اختياره على مثال الوليد بن يزيد الأموي . وقد دأب على التنديد وبدون هوادة بالسلط الحاكمة المستبدة ، واعتبرها " بؤرة ومحور الشر " ، لأنها تتحكم في الرقاب والعباد والبلاد ، تجوع وتعذب الروح والجسد معا . فتنال من حرمة وقدسية وكرامة الإنسان . فعمل الكاتب وسع الطاقة في حرابها ومقاومتها بالكتابة والتوثيق والتأريخ والتشريح لهذه المظالم والمفاسد .
تمثل رواية " أسرار صاحب الستر " للدرغوثي رحلة في عالم الأسرار ؛ وكشفا عظيما للحجب والأستار . وتشكل عوالم " ميتاقصية " في الرواية العربية والمغاربية . تتناسخ فيها النصوص بفواصل الأغنيات وفصوص الشعر ، ويختلط فيها الكلم العذب بالسحر / اللغة ، وبأعاجيب وألوان من الفنون وجنون التقمص والتناسخ : شخصيات بشرية بأقنعة حيوانية تتبادل الدور والحكايا والصور . وتتداخل الأزمنة بالأمكنة وتنصهر وتتلاشى وتتقهقر . لقد كان حضور شخصية " الوليد بن يزيد " حضورا طاغيا في متن الرواية : تصول وتجول ، ترقص وتتعربد ، تفرح وتغضب تجب وتكره ، تحزن وتشقى . تمارس دور الجلاد والضحية في آن واحد .
تحضر الواقعية الوصفية والنصية في رواية " أسرار صاحب الستر " ، وتتمظهر من خلال القلق الذي يعاني منه الأمير ، وقراءة آية من آيات الوعيد والتهديد ، ووجود مجلس أنس وطرب ، يفترض إيراد بيت من الشعر يغنى . وكثيرا ما يمثل التذكر أفضل الظروف مناسبة ، فحصول واقعة بعينها تذكر السارد إما بواقعة شبيهة ؛ يوردها من بطون الكتب ، محيلا عليها تارة ، غافلا عنها أخرى ، وإما بضرورة مسايرة التوقيع الذي بدأ بعد . وقد تظهر الواقعية النصية من خلال تدفق النصوص المحال عليها وتدافعها ، كما لو كانت شكلا من أشكال التداعي الحر . فللنصوص المصادر سطوتها وللواقعية النصية تحكمها . (24)
تختلف هذه النصوص المحال عليها قديمها وجديدها دنيوي وأخروي . فمن النصوص القديمة ما أقام عليها سارد " الأسرار " ؛ من موازاة بين التنقيب عن آثار تحت المسجد وقصة الخليفة الوليد بن يزيد ، استقاها من المخطوطات التي حواها الصندوق المعثور عليه . حيث وفرت الواقعية النصية سبل الانصهار في النص الناسخ تكرار ورودها ؛ بشكل يكاد يتطابق في أكثر متن النص السردي . وأن ترجع نصوص صدى أخرى دليل على أن وراء السارد التخييلي في كلا النصين ساردا واقعيا واحدا ، عندما يتخيل تتدافع لديه الصور ، فتطفو نصوص انقضت أمامه ، وهو بصدد إبداع نص لمل يكتمل . وغالبا ما يبدو التجاوز النصي بالإشارة إلى الكتب أو إلى المصحف مثلا ، كما في قول الوليد بن يزيد ( .. انصبوا هذا المصحف على الشجرة المقابلة لمجلسي هناك بعيدا وآتوني بقوسي ونشابي ) . (25)
يزاوج المؤلف في نصوصه بين المنثور والمنظوم في إطار الحكاية ، فيذكرنا بنص الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ، ويورد أشعارا غنائية وبعض أسماء المغنين من مثل : ابن عائشة ، ومعبد ، والهذلي ، وعمر الوادي ، وأبي بكر ، وسلامة ، وحبابة . إن تعامل السارد مع النصوص المحال عليها ؛ تعامل واع غايته تحقيق بنية روائية متماسكة . تعلن بصوت عال أن ما من نص من نصوصه ؛ إلا وجاوز آخر أو أخرى يوجد لها أثر ملموس في خطابه الروائي . اعتمد الروائي في نص " صاحب الستر " على السخرية والمفارقة . وجاء المخطوطات التي استند إليها السارد في جلها ، تحمل سخرية سوداء . فقد أنكرت زوج عالم الآثار أن تكون ، وجدت مع زوجها في سيارة الجيب مخطوطات . الأمر الذي يؤكد أن الخيط الذي يربط بين بداية الرواية وخاتمتها هو خيط " المفارقة والمناقضة " المحيلة على السخرية . (26)
يستدعي الدرغوثي في روايته " صاحب الستر " ؛ الواقعية النصية في استلهامه وامتصاصه للنصوص القديمة والحديثة ، مساهما في تحقيق منجز سردي ، يستند فيه إلى أجناس سردية حضارية / تراثية ، ليخلص الرواية العربية من هيمنة النموذج الغربي . وفي الوقت ذاته يتصدى لهدم الراهن والمرتهن ؛ في استدعائه واستحضاره للواقعية النصية والوصفية ، والبحث في متاهات ومجاهل التراث المنسي . معتمدا على الإيهام والعجائبي والغرائبي ، والتطاول على المقدس والانغراس في المجنس والمدنس . حيث عمد إلى الوقائع يصطفيها ، ويستل منها الممنوع والمقموع والمسكوت عنه . ويبدو أن هم السارد ؛ هو الكشف عن سير وأفعال وأقوال حرم التقليد التداول بشأنها . ومن ذلك نرى السارد يعمد إلى السلوك النمطي للأنظمة المستبدة ، كالفظاعات التي تحصل إبان التعذيب ، والتخلص من الأعداء السياسيين بقتلهم وهم في السجن . (27)
وتشير الرواية إلى تطاول السارد على المحرم السياسي ، مستعملا في ذلك أفانين من الواقعيات النصية والوصفية والرمزية في إعادة إنتاج المعانى والدلالة ، ويسقطها على الواقع والراهن . فتعرض الرواية حالات وصورا وألوانا من العنف السياسي ؛ وتحفر في بؤر الشر والقهر وتشهر بالتعذيب وتندد بالمتابعة والمراقبة والاضطهاد . وتشجب مظاهر التعذيب الوحشي والقتل المجاني ، وكذا ما تلجأ إليه السلط السياسة والحكام من ضروب التبريرات ؛ خوفا على أمن الدولة من الانهيار . وتصور أيضا عامة الناس ؛ عندما ترهق كواهلهم بالضرائب التي تملأ بها خزائن الدولة . وتعرض للوسائل الشريرة التي يسعين بها الحكام في تمرير سياساتهم ، بإحاطتهم ببطانة فاسدة من المصفقين والمطبلين والمؤيدين والأبواق ، فتغدق عليهم المنح والأعطيات . (27)
وهكذا يتحقق مسار ومدار رواية " صاحب الستر " لإبراهيم درغوثي ؛ ضمن الواقعية النصية والواقعية الوصفية . تحاول تبديد الوهم والقناع ، بإقناعنا أن ما يجري وما يحكي هو محض تخييل في تخييل . ومحاكاة ساخرة وتحريف أو تخريف هزلي ، وتغريبي عجيب وغريب . وهكذا تتكون وتتشكل عملية إعادة النسخ والمحاكاة والساخرة والمفارقة والمعارضة ، وتتناسل النصوص مناصصة ومقاصصة وميتاقصية . ويتداخل الشفوي المروي بالوثائقي والمدون ، والفصيح بالعامي والشعبي بالمحلي والعالمي ، وأدب المذكرات والسيري بالمؤلفات القديمة والحديثة ، وتتداخل التخوم بالمراكز والمتون بالحواشي .

ابراهيم درغوثي
20/05/2008, 08:25 PM
مجمل القول في حداثة التجريب .. و تجربة إبراهيم درغوثي الروائية



ينتمي الروائي إبراهيم درغوثي إلى جيل التسعينات من القرن العشرين ، بدأ الكتابة في هذه العشرية ، عشرية النظام العالمي الجديد وعصر العولمة وحرب الخليج الثانية . وقد ترتب عن ذلك أن جاءت أعماله منفتحة على مظاهر التجديد ودوائر التجريب ، ومتصدية للمرعب والمهول ، ومقاومة لثقافة الخوف والعنف في حياتنا المعاصرة . ويبشر درغوثي بنزعة إنسانية جديدة قوامها الحب والخير والعدل والسلام .
جاءت تجربة إبراهيم درغوثي الروائية ؛ متشظية ومفككة لخطاب المنجز الروائي السائد ، تنحو منحى سرديا تجريبيا ، لانشغالها على الغريب والعجيب ، والخارق المفارق للواقع . كما عمدت إلى " أسطرة " فضاءاتها ، وأزمنتها وشخوصها . تميزت لغتها بالشفافية الصافية ومنزعا صوفيا شعريا ، يختلط فيها الوهم بالحلم واليقظة ، وتجمع بين الواقعي والخيالي . كما يشكل حضور المؤلف / السارد حضورا قويا ، يحقق من خلاله ما يعرف بأسطورة الكاتب / الواقع . وقد تعالقت الأزمنة بالأزمة ، وأضفى عنصر المفارقة والسخرية السوداء على تجربة الكتابة الروائية كثافة في أبعادها الجمالية والدلالية .
تتميز كتابة درغوثي الروائية بالجرأة والإقدام ، واقتحام الدروب الصعبة ، وكل ما هو ممنوع ومقموع في المخيال العربي : الدين ، السياسة ، الجنس . وتنماز عن غيرها بكونها " جامع نص ، عابرا للأجناس " ، تتجاور فيها المرايا وتنعكس فيها ؛ محدبة مقعرة . ويتحاور فيها الواقعي اليومي / المعيشي ، والماضي والحاضر ، والصوفي والأسطوري ، والعجائبي والغرائبي ، والممتنع والممتنع . وتتحاور فيها النصوص ، والمتون / المراكز مع الهوامش والتخوم . ويلتقي فيها المدنس بالمقدس ، وتتناص مع النفري وأبي نواس . في تجربة إبراهيم درغوثي الروائية ؛ تتحاور النصوص وتتناظر وتتضام وتنضام ، وتتمدد وتنسحب على أفضية وأزمنة متعددة ، يشتغل فيها الوعي وتيار اللاوعي وتتنوع وتتناغم الأصوات .

المصادر والمراجع والهوامش

(1) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، دار سحر للنشر ، تونس ، ط 2- 1998 ، ص : 201
(2) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص : 52
(3) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص : 10 ، 169
(4) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص : 172
(5) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص : 103
(6) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص : 21 ، 22
(7) - إبراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص : 21 ، 22
(8) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، دار سحر للنشر ، تونس – 1999 ، ص : 18
(9) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، دار الحوار ، اللاذقية ، سوريا – 1994 ، ص : 9
(10) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 75
(11) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 50
(12) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 57
(13) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 110 ، 111
(14) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 44
(15) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 11 ، 12 ، 13
(16) - إبراهيم درغوثي : القيامة الآن ، ص : 60 ، 66
(17) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، دار سحر للنشر ، تونس – 1996 ، ص : 32
(18) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ص : 82
(19) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ص : 37 ، 38
(20) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ص : 60
(21) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ص : 78
(22) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ص : 51 ، 54
(23) - إبراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل ، ص : 11
(24) - إبراهيم درغوثي : أسرار صاحب الستر ، دار صامد للنشر والتوزيع ، صفاقس ، تونس – 1998 ، ص : 15 ، 117
(25) - إبراهيم درغوثي : أسرار صاحب الستر ، ص : 117
(26) - إبراهيم درغوثي : أسرار صاحب الستر ، ص : 32
(27) - إبراهيم درغوثي : أسرار صاحب الستر ، ص : 47 ن 48
(27) - إبراهيم درغوثي : أسرار صاحب الستر ، ص : 64 ، 65