المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل إلى عالم يسكن بيت العنكبوت3



سعيد نويضي
23/05/2008, 11:11 AM
بسم الله الرحمن الرحيم...

رسائل إلى عالم يسكن بيت العنكبوت(3)

ما بين السياسة و الدين من ارتباط و ما في الفكر البشري من اختلاط...

كثرا ما يريد الإنسان عن حسن نية أن يعالج العديد من الظواهر التي تعج بالغموض و يكتنفها الضباب معتمدا في ذلك على ما توصلت إليه معارفه من قراءات و ما أمدته تجربته على كبر حجمها أو صغرها من خبرات ليقدم للآخر وجهة نظر قد يجد من يشد على يديه على ما قدم فيها من جهد و قد يجد من يعارضه أشد المعارضة بل قد يصفه بأوصاف قد لا تليق بإنسان حامل لقلم مدعيا أنه مثقفا أو يحسب على زمرة المثقفين. و من سوء الحظ أن يكون القارئ لا يستطيع قراءة ما بين السطور أو معرفة نوايا الآخر "مهما حاول قراءة ما بين السطور" إلا إذا جهر الشخص بالقول عما يجول في خاطره، و كثيرا ما يجد نفسه مزودا بأفكار قد لا تمت بالحقيقة بصلة بل الأكثر من ذلك قد تزيف الحقيقة و تجعل من الحق باطلا و تقدمها للقارئ على أساس أنها الحق بعينه...

لذلك يلجأ العديد من المثقفين إلى الفصل بين السياسة و الدين على أساس معايير لا تمت إلى الحقيقة و لا إلى الواقع بصلة إلا من حيث ما يسمونه "أيديولوجية"...أو ما يطلق عليه " بتسييس الدين " أو " تديين السياسة "بمعنى آخر خضوع" الدين للساسة" أو العكس " خضوع السياسة للدين " و كأن الدين يعيش في قارة و السياسة تعيش في قارة أخرى أو بلغة أخرى و كأن الدين وجد لغير الإنسان و أن السياسة وجدت لغير بني آدم...بمعنى وجدت لجسد مادي لا علاقة له بالروح...فإذا كانت الروح كما جاء في كتاب الله عز و جل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85...فالدين له علاقة بالروح التي توجد في هذا الجسد الذي سمي "الإنسان"...فخالق الجسد هو الله جل و علا و لا يعيش هذا الجسد إلا بالروح التي وضعها رب العالمين فيه كي يحيا بها...

فكيف تكون العلاقة بين الجسد و الروح في حالة فصلهما البعض عن الآخر؟ إذا لم يكن هناك توافق بين متطلبات الجسد و متطلبات الروح ، هل يحدث خلل ما في توازن الشخص بتغليب كفة على أخرى؟ و إلى أي حد يمكن اعتبار الشق السياسي شق مادي محض و الشق الديني شق روحي محض؟ و ما هي الروابط الغير واضحة بينهما و التي أثارت جدلا كبيرا و كثيرا بين المثقفين و أصحاب الفكر و المشتغلين بالحقل السياسي و بالحقل الديني؟

فإذا انطلقنا من التشبيهات المادية حتى نصل إلى الفكرة الجوهرية لتوضيح هذه الحقيقة و التي أقدمها كوجهة نظر للمثقف عموما و للمختص أساسا من حيث العلاقة الوطيدة و الحميمة بل يمكن القول بالعلاقة العضوية بين الدين كمرجع عام و بين السياسة كجزء هام من النشاط الذي يقوم به الإنسان...على أساس أن المثل المادي يعكس الفكرة المجردة و يشخصها حتى يتم استيعابها عن قناعة...

ما من شك أن كل جهاز آلي مكون من عدة قطع آلية. تشكل مجتمعة ذلك الجهاز و تعمل من خلال تفاعلها بعضها مع البعض...فإن تعطلت آلة أو أصابها عطب أو خلل قد لا يشتغل الجهاز كلية أو إذا اشتغل أنتج أشياء لا ترضي صاحب الجهاز، و لا ترضي المستهلك عموما، فكيف سترضي الله عز و جل في علاه...و بالتالي قد تكون خسارته كبيرة أو متوسطة أو ضعيفة إلى حد ما كما أنها قد تكون كارثية يعلن معها الخسران الكامل لمنتجاته...و هذا ما لا يرغب فيه أي إنسان و لو كان على قدر ضئيل من الفكر و التعقل و الذكاء...

و قبل طرح الفكرة الجوهرية أريد أن أعطي مثالا تستعمله غالبية المثقفين و خاصة منهم المختصين و يعتبر في الزمن الذي نعيش فيه قمة ما وصل إليه العقل العلمي في علاقته بالمادة و منتجاتها وهو حاليا الأكثر تطورا و الأقرب إلى توضيح الفكرة : ألا و هو الحاسوب أو الكمبيوتر على اختلاف التسمية و ليس الجهاز...و لست هنا بصدد سرد محاسن و مساوئ الآلة بقدر ما أريد أن أقرب فكرة تكامل الآلات التي تشكل الجهاز ليقدم عملا أفضل و منتجا أكثر منفعة من استعمال جهاز مصاب بخلل قد يؤدي إلى إنتاج منتج فيه خلل... فقد يبدو الخلل ظاهر و قد يكون خفيا و لا يبدو للعيان و تلك هي أكبر مشكلة قد تؤدي إلى التهلكة دون وعي من الشخص على مستوى الإنتاج الفردي و قد تؤدي بأمة إلى الهلاك على مستوى الإنتاج الاجتماعي...

فإذا كان الحاسوب أخذ مكانة هامة في حياة الإنسان على أساس أنه بشكل من الأشكال امتداد آلي للذاكرة أو للعقل البشري [مع التحفظ على كلمة عقل] فإن آلاته تقارب إلى حد ما الوظائف التي يقوم بها العقل البشري من حيث استقبال المعلومة و تخزينها و تحليلها إن اقتضى الحال و كأن لديه مداخل تتسرب منها المعلومة إلى قلب الجهاز فتستقر في ذاكرته و تتفاعل بالقدر الذي يتم تحريكها داخل العقل من إضافة أو حذف أو تعديل في المعلومة...و تظل المعلومة بمفهومها الواسع و الشامل في مستوياتها المتنوعة من صوت و صورة و فكرة و معادلة و غير ذلك هي المنتج الذي يخزن و الذي يتوالد من تراكمه و تفاعله انطلاق من الغاية التي تحملها المعلومة كقيمة معرفية، شيئا يستعمله الإنسان و يستفيد منه ...فلو أن آلة داخل هذا الجهاز الضخم حدث فيها عطب أو خلل، فمن الطبيعي أن الجهاز سيتعطل كلية أو يتعطل جزء منه و من تم يلحق الضرر إما بالمعلومات المختزنة أو بالمعلومات التي يتم إنجازها و إنشاؤها داخل الجهاز أي داخل العقل الآلي...

فخذ على سبيل المثال لو أن حرفا من الحروف الأبجدية الموجود على لوحة المفاتيح تم تعطيله بشكل من الأشكال فلا يمكن بتاتا تعويض الكلمات التي تكتب مستعملة ذاك الحرف بحرف آخر...و لو تم ذلك لتغير المعنى و يكون قد حدث خلل في الجملة كانت فعلية أو اسمية...لذلك من المفروض ضمن جهاز آلي لا يمكن التمويه بشكل من الأشكال أو تزييف رقم محل رقم آخر أو حرف محل حرف آخر أو آلة محل آلة أخرى إن لم تكن تتوفر على نفس المواصفات ونفس الوظيفة التي تقدمها سابقتها...و إلا رفضها الجهاز و ظل معطلا إلى أن يتم تعويض الآلة بآلة جديدة تكون نافعة منتجة مستقيمة مع مواصفاتها منسجمة مع وظيفتها...

لذلك إذا سألت أحد المختصين في المجال الميكانيكي أو المجال الإلكتروني أو أي شخص له علاقة مع المادة سيقول لك أن المادة من خصائصها أنها صماء بكماء و أن حديثها يكون من خلال وظيفتها...فإن كانت صالحة و ليس بها عطب فإنها تعمل بدون شكوى و بدون خلل و إن كان بها خلل أو عطب فإنها إن عملت فلا يمكن أن تنتج منفعة تكون في المستوى الذي يرغب فيه المنتج أو المستهلك أو أنها لن تنتج شيئا حتى يتم إصلاحها...

فمثلا الإنسان الآلي يقوم بأعمال بشكل مضبوط إلى درجة لا مثيل لها من حيث الدقة فالحاسوب الذي يسير معامل أو طائرات أو قطارات أو ينظم شؤون البيت بدرجات متفاوتة في التعقيد...يعتبر إنسانا آليا لا يمل و لا يتعب و لا يشتكي و لا يبحث عن سعادة و ليس له علاقة بالشقاء...بمعنى ليست له عاطفة...فلا يعرف حبا و لا كرها و لا عداوة و لا شيئا من هذا القبيل...كما أن مفاهيم الخير و الشر لا تشكل بالنسبة له هما و لا قلقا...كما أن إشكالية الوجود لا تشغل "عقله" و لا تؤرق تفكيره إشكالية المعرفة...فالجسد و هو الذي يشكل الجانب المادي من الإنسان يعمل إلى حد ما كما تعمل الآلة...و ما ظاهرة الرق و العبيد التي عرفها التاريخ البشري إلا نموذج صارخ على نظرة الإنسان للإنسان على أساس أنه "آلة إنتاج"...و ما يفرقها عن الجماد سوى أنها ناطقة و ما يفرقها على الحيوان سوى أن لها لغة تتخاطب بها فيما بينها و بين من هو قائم على شؤون حياتها...

فما الفرق بين الإنسان ابن آدم و" الإنسان" ابن العلم الآدمي...؟الفرق بينهما يتجلى في الخصائص التي تفرق بين هذا و ذاك...فابن آدم لم يكن له وجود لولا نفخة من روح الله عز و جل...و الإنسان ابن العلم الآدمي لا يتوفر على هذه القدرة و لا يملك هذه الروح حتى يبثها فيما صنعت يداه...فالله عز و جل خلق آدم من تراب و التراب مادة...و الإنسان صنع الحاسوب و من تم ابتكر" الروبو" أو " الإنسان الآلي" انطلاقا من العلم الحديث، من تطوير الآلات المستخرجة أساس من المادة. و المادة لا تسقط من السماء كما يسقط المطر و لكنها موجودة في الأرض في التراب يوم خلق الله عز وجل السماوات و الأرض...و قد يفسر البعض وجود "الحديد" في الأرض على اعتبار أنه نزل من السماء انطلاقا من قوله عز و جل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25
لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات, وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع, وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل, وأنزلنا لهم الحديد, فيه قوة شديدة, ومنافع للناس متعددة, وليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق من ينصر دينه ورسله بالغيب. إن الله قوي لا يُقْهَر, عزيز لا يغالَب...

و الحقيقة هي أن الخالق واحد خلق السماوات و الأرض و ما فيهن ...و على سبيل التذكير المطر ينزل من السماء ليحي الأرض و الإنسان و الحيوان و النبات. ثم يتبخر بحكم القوانين التي وضعها الله عز وجل في الكون لتكون و تستمر دورة الحياة...و أعتقد أن الله جل و علا من حكمته خص الحديد بالذكر دون سائر المعادن لما فيه من بأس و منافع أكثر من المعادن الأخرى...فحتى يتذكر الإنسان ذلك بين له في الآية أنه أنزل الحديد من السماء كما نزل آدم و حواء و عدوهما اللدود...

لذلك يكون الفرق شاسع جدا بين خلق الله عز و جل و ابتكار الإنسان ابن آدم لما صنعت يداه ، فالله نفخ في آدم من روحه...و الإنسان ماذا فعل؟ هل نفخ في المادة و لله المثل الأعلى أم وضع علمه أي كافة معلوماته وظفها لينتج سلعة قابلة للاستبدال و خاضعة للتطور و التغير شكلا و مضمونا...ثم تفنى بعد ذلك المادة التي صنعها الإنسان و تظل الروح التي خلقها خالق كل شيء...فالإنسان في جانبه المادي الجسدي يشبه إلى حد ما عمل "الآلة" من حيث الأفعال الميكانيكية...و من هنا إذا تعطلت آلة داخل الجهاز فإما يصير الجهاز غير قابل بالمرة للعمل أو يصير قابلا للإصلاح إذا ما توفرت المواصفات في الآلة الجديدة للقيام باستبدال الجديد بالقديم لكي يصبح صالحا للاستعمال من جديد...و إن كان أن الجهاز يحتفظ ببعض ما هو قديم بالإضافة لما هو جديد. الشيء الذي يجعل من الصيانة عملية تجديد متواصلة كلما تعطلت آلة داخل الجهاز...

فلو حاولنا النظر إلى عملية الصيانة و استبدال الجديد لما هو قديم بما يوفي بما كان القديم المعطل يقوم به للحفاظ على وظيفة الإنسان داخل النسيج الاجتماعي الذي يتواجد فيه لأدركنا أن من خلق الإنسان و لله المثل الأعلى كان يقوم بعملية الصيانة لهذا المخلوق الذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا تعبا لما وصل إليه من فساد و خلل و بالتالي من تعطيل لوظيفته على هذا الكوكب. فالله عز و جل بعث لكل قوم هاد نبي أو رسول يدعوهم للحياة الحقيقية...حياة لا تنتهي مع "الموت" بل تستمر في عالم آخر بمواصفات أخرى...فالموت ما هو إلا موت الجسد باعتباره من المادة فيفنى كما تفنى المادة أما الروح التي هي من أمر ربي و من روحه جل و علا فلا تموت و لا تفنى بل تعود إلى خالقها...و تظل النفس و هي جوهر و لب الإشكالية الوجودية في الحياة الدنيا و في حياة الآخرة مناط الثواب و الجزاء فإما نعيم مقيم و إما جحيم أليم...

و الحياة التي نعيشها في الدنيا تتضمن النعيم المقيم و الجحيم الأليم مع فارق في الدرجة و النوع و الشكل...فلو كان الإنسان في رغد من العيش و في بحبوحة من الخيرات و النعم و كل ما تشتهي نفسه يجده أمامه...فهذا شكل من أشكال النعيم لكنه ليس مقيم...لأن ذاك الإنسان محكوم عليه بالفناء كسائر المخلوقات...و لو أن الإنسان يتقلب في الفقر بكل أشكاله من جوع و عري إلا ما يستر عورته بالكاد و نقصا في كل شيء بحيث في بعض الأوقات لا يجد ما يسد به حاجته أو حاجة عياله فيضطر إلى فعل كذا أو كذا مما هو غير طبيعي بالمرة كالسرقة أو أخذ ما ليس له حق بغير وجه حق...

فهذا الشكل من العيش مع تفاوت في الدرجة قد يزيد و قد ينقص في الاستمتاع بالملذات و الشهوات و بمتاع الدنيا و ما تزخر به من نعم حلال و من نقم حرام سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه. فقد يوحي هذا للبعض أن الحياة الدنيا تنتهي مع الموت و بالتالي ليست هناك لا بعث و لا قيامة و لا حساب و لا عقاب...فالجنة هي ما نعيش في الدنيا و الجحيم هو ما نحياه في الدنيا ولا شيء غير ذلك...وهذا من السذاجة بمكان و من الغفلة ما سيندم عليه الإنسان يوم لا ينفع لا مال و لا بنون...فالحياة الدنيا ينفع فيها المال...فبه تشتري و تقضي به حاجاتك المتعددة و المتنوعة...و البنون ينفعونك لما تحتاج إليهم لكي يؤنسوك و ترى فيهم امتدادك الآدمي و يكملون ما أنجزته إن ساروا على نفس الطريق التي اتبعتها أو يخالفوك و يبني كل واحد منهم مستقبله و قد ينسوك فلا يتذكروك إلا قليلا إن لم ينسوك بالمرة...

و من هنا يكون هم الإنسان و اهتمامه هو متاع الدنيا و كيف يتم تحقيقه و بلوغ أقصى ما يمكن من الثروات و تكديس أكبر ما يمكن من الأموال و تحقيق أكثر ما يمكن من اللذة و المتعة بغض النظر عن الوسيلة لبلوغ كل ذلك...

و من هنا كان التقابل الفظيع بين الدين و السياسة في من يرغب في الدنيا دون الآخرة و بين التقابل المتكامل في من يجعل الدنيا طريقه للآخرة...فالدين هو الإطار العام الذي يحكم سلوك الإنسان في كل نشاطاته...لأن الإنسان لقضاء حاجاته المادية و المعنوية في حاجة إلى القيام بنشاط تتطلبه تلبية تلك الحاجة...كما أن هناك حاجة أو حاجات قد تتطلب العديد من النشاطات حتى يتم تحقيقها...لذلك يمكن القول بكل صدق أن الإنسان متعدد النشاطات في علاقته بتلبية حاجاته المادية و المعنوية الضرورية منها و الثانوية لمن توفرت له شروط ذلك...

و هذا القول يؤدي بنا إلى طرح سؤال غاية في الأهمية بحسب قناعتي من حيث الدراسة المنهجية لهذه الإشكالية...

هل عبثا يتخصص هذا الإنسان في هذا المجال و يتخصص ذاك الإنسان في مجال آخر؟ و هل عبثا يوجد الاختلاف في مجال معين من نفس الاختصاص بين مفكرين على نفس المستوى من الكفاءة؟ و هل عبثا يتفق البعض على نفس الفكرة في حين يختلف البعض على نفس الفكرة؟ أو يتفقون على البعض منها و يرفضون البعض الآخر؟ هل هذا من العبث؟

فالاختلاف سنة من سنن الله عز و جل في خلقه و مخلوقاته...و الاختلاف ليس هو العبث...فالاختلاف له غاية و غايته لا يمكن أن تكون هي العبث...لأن العبث يتنافى مع وجود فكرة الغاية...فما غاية الاختلاف إن لم تكن هي التنوع في المشهد الوجودي... و من تم ليس هناك مقدار ذرة في الوجود للعبث...فإذا سلمنا بهذه الحقيقة يمكن القول أن الاختلاف الموجود على مستوى الأفكار وجد لغاية ما؟ فما هي تلك الغاية؟ و من أجل من تؤدي وظيفتها؟ و هل بالإمكان تعديل المنطق الذي تستند إليه؟

و الغاية من طرح هذه الأسئلة هو الوصول إلى غاية مفادها أن الوحدة هي تجاوز للاختلاف و ليس نفيه...و أن الائتلاف هو تسامي في الفكر على الاختلاف و ليس دحضه...و أن الاتحاد يجعل من الاختلاف تنوع لهدف واحد و غاية واحدة...لذلك يجب النظر للاختلاف على أساس أنه تفرقة من واجب العاقل تخطيها...و أنه تجزئة من الخطأ تكريسها و تعميقها...و أنه من الأفضل اعتبار الاختلاف الموجود بين الأجناس سنة الله عز و جل في مخلوقاته... و بين من ينتمون إلى كتاب واحد و نبي واحد هو بدعة من ابتكار عدو الإنسان و عدو الله عز و جل و عدو الأنبياء و المرسلين "الشيطان " عليه اللعنة إلى يوم الدين...و من والاه فقد ضل بكل تأكيد...لأن من مهامه خلق العداوة و البغضاء بين المؤمنين ليتفرقوا و يتفرق دينهم و يصبحوا جماعات تتناحر فيما بينها على شيء لا تملكه أصلا...فما بنيت حضارة على الاختلاف...إلا بالقدر الذي يدعم الائتلاف و الوحدة...و ما قامت مدنية على الاختلاف...إلا بالقدر الذي يجعل من هذا الاختلاف محرك و دافع للوصول إلى الائتلاف و الوحدة...

و لذلك إذا كان من مبادئ السياسة التي تستبعد الدين من دائرتها على أساس أنه معوق لحركيتها و ديناميتها و تطورها و نموها كمبدأ "فرق تسد"...فإن الدين بقوم بالتوحيد بين كل البشر بلا فرق لا في اللون و لا في الجنس و لا في اللغة...و خير مثال على ذلك قول الرسول الكريم عليه أفضل صلوات الله و سلامه...كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح الترغيب و الترهيب" ( صحيح لغيره ) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت قالوا بلى يا رسول الله قال فليبلغ الشاهد الغائب ثم ذكر الحديث في تحريم الدماء والأموال والأعراض رواه البيهقي وقال في إسناده بعض من يجهل وتقدم في اول كتاب العلم حديث أبي هريرة الصحيح وفيه ( صحيح ) من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه...

فلو أدرك الإنسان معنى لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله عليه الصلاة و السلام المبلغ عن رب العالمين ما أمره بتبليغه للناس...يقولها و يؤمن بها و يعتقدها كل من ينتمي لهذا الدين...لما جعل للاختلاف سبيل للوصول إلى قلب المؤمن حتى يخلق الفرقة و الشتات و التمزق... و يستند إلى مبدأ " فرق تسد" لا يمكن القول فيه إلا أنه مبدأ "شيطاني "...و لا إلى عقل المؤمن من طريق حتى يخلق المذاهب التي تفرق و لا توحد و الجماعات التي تتناحر و لا تتعاون و لا للتيارات التي تهدم الأساس التوحيدي الذي انطلق من رجل واحد عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم و أصبح في الوقت الحالي من حيث العدد ما يزيد على المليار و نصف أو أكثر...

أليس التوحيد العقائدي هو في حد ذاته أساس وحدة الأمة؟ أليس الكتاب الكريم هو المجيب عن الأسئلة الكبرى و المعضلة القصوى في قضية الخلق...من أرقى الكائنات و أفضلها {الإنســان} إلى أصغر المخلوقات التي لا يراها الإنسان بعينه المجردة كالبكتيريا و الفيروسات و ما شابه ذلك...و لنا في البعوضة و ما فوقها لعبرة يا أولي الأبصار...و قد أثبت ذلك العلم الحديث بالحجة و البرهان لمن لا يؤمن إلا بالملموس و المحسوس من ذرية آدم...

أما حديث "إن اختلاف أمتي رحمة" فهو حديث موضوع...و من وضعه قصد به تكريس الاختلاف باعتباره رحمة تجعل كل واحد منا يتجه في الاتجاه الذي يرضي هواه... و هنا سؤال لماذا لم يكن الهوى هو عينه الهدى حتى و لو لم يطابق ما جاء به الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام... عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ).[حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب ( الحجة ) بإسناد صحيح]."...فمن شروط الإيمان أن يكون هوى الإنسان "المسلم" تابعا لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام...فهل ترك الرسول عليه الصلاة و السلام ركنا من أركان الإسلام إلى حين يتحقق له مطلب من مطالب الدنيا أو تقضى له حاجة من حاجات الدنيا...و على سبيل المثال و ليس الحصر...تسأل الشاب الذي يقول و يشهد " لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله " لماذا لا تصلي ؟ يقول: لم يهدني بعد ربي للصلاة...فعندما أبلغ من العمر كذا أو كذا سأصلي ...قد يبدو المثال من السذاجة بمكان و لكن هذا واقع الحال...تسأل الفتاة لماذا لا ترتدي الحجاب؟ تجيبك: لما يهديني ربي...أو حتى أرتبط بشريك العمر أو حتى كذا و كذا...فما معنى أن تشهد أن الله واحد لا شريك له و أن الرجل الذي بعث في هذه الأمة هو رسوله عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم...؟
أما إن طرحت السؤال على شخص أتاه الله عز و جل من فضله لما لا تؤدي الزكاة؟ أجابك الضرائب ما تركت لنا ما نقدمه للمساكين...ولو تعلم ما للبنوك من قروض علينا و كم من "الفوائد" مترتبة في ذمتنا و كم من الكمبيالات مؤجلة إلى أجل غير مسمى...أو تكون إجابته بشكل حضاري و "مثقف" ذاك شأن بيني و بين الله جل و علا كما هو حال الصلاة...فالدين مسألة شخصية و لا دخل لأحد ليكون وصيا على أحد...لذلك أطرح السؤال الآتي: هل الآية الكريمة التي يقول فيها الله عز وجل : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110...

فهل دور هذه الآية ينحصر بين جدران المسجد و يقف مفعوله خارج حدود المسجد؟ أم أن الأشخاص لهم قناعتين...قناعة داخل المسجد و قناعة أخرى مغايرة خارج المسجد؟ أليس هذا انفصام في الشخصية و مرض أصاب القلوب...

أليس من قمة التناقضات العجيبة الموجودة في واقعنا على امتداد العالم المسمى "إسلامي" و جود مسجد و على بعد مسافة قد تطول و قد تقصر و جود حانة لبيع و شرب الخمور...؟ و إذا طرحت السؤال أيعقل هذا؟ تحد الجواب جاهزا من قبيل "ويل للمصلين" بقولهم" لا إكراه في الدين"...أمن الدين أصلا أن تقوم دولة إسلامية ببيع و إنتاج الخمور؟ و في دستورها تجد بالبند العريض " إن دين الدولة الرسمي هو الإسلام"...

فالمسلم لا يجعل من التناقض حجة لتبرير سلوكه المنحرف...أليس الهدف من الإسلام هو الفوز بالجنة و النجاة من النار؟
انظر و تدبر هذا الحديث... عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنهما- أن رجلا سأل رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد علي ذلك شيئًا، أأدخل الجنة ؟ قال : ( نعم ). [رواه مسلم]. ومعنى أحللت الحلال : فعلته معتقدا حله.


فلا يعقل إطلاقا أن يكون اختلاف في الأساس و في الأعمدة التي يقوم عليها البنيان...بحجة أنني أقوم بالركن الأول من الإسلام ...و أترك الأركان الأخرى إلى أجل غير مسمى...أليس هذا من قبيل المفهوم الضبابي المعشش في عقول الناس لقول الله عز و جل " لا إكراه في الدين ..." فمن يبدأ الآية دون إتمامها كمن يقول : ويل للمصلين..." دون أن يتمم الآية لتتضح المعنى و المراد من قول الله عز وجل و هو أعلم بالمقصود...فالبناء يقوم على الأركان التي تشكل الأساس القويم ...فإن تخلف ركن أصبح البناء آيل للسقوط كما هو معروف عند المشتغلين من المهندسين بالمعمار و البناء...فأي بناء غير قائم على ما هو حق فهو حتما و بالضرورة قائم على الباطل و بالتالي فهو منهار لا محالة...ففي غياب الأركان ينهار البنيان بكل تأكيد...

و إذا نظرنا إلى الإنسان باعتباره بناء من خلق الله عز و جل و أن نشاطاته هي بمثابة أركان يقوم بها بناؤه الشخصي...فلا يمكن أن تفصل نشاط عن آخر حتى ولو لم يمارس هذا الشخص نشاطا معينا لكنه يستفيد منه إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر...فالتاجر يستفيد من الأستاذ...و الأستاذ يستفيد من النادل...و النادل يستفيد من خطيب الجمعة...و خطيب الجمعة يستفيد من الطبيب ...و الطبيب يستفيد من المعماري...و المعماري يستفيد من الإعلامي...و هكذا الكل يبدل نشاطا يستفيد منه الآخر في عملية تكاملية متبادلة الأدوار تشكل "المنفعة" فيها حجر الزاوية...و تشكل المنفعة فيها أساس المتعة و اللذة انطلاقا من تلبية الشهوات و الرغبات التي تؤدي إلى استمرار النسل و التكاثر في الإنسان و السلع و الخدمات و الأشياء...

و على هذا الأساس يبدو جليا أن نشاطات الإنسان يمكن تصنيفها إلى ما هو مادي جسدي و ما هو روحي معنوي...فالنشاط المادي هو الأفعال التي تصدر من الإنسان في مجموعة من الدوائر قد تتسع و تضيق بحسب نشاط هذا الإنسان...و معروف أن هذا النشاط لا يمكن قبوله إلا إذا صدر من إنسان "عاقل"...و الإنسان العاقل يمتاز بقدرة "التعقل" و "الوعي"...فهذا العقل الذي يمتاز بالوعي لا يمكن أن يقوم بنشاط معين كبر شأنه أو صغر إلا إذا قام على "علم" و "معرفة" و "خبرة"...و كذلك الشأن بالنسبة للنشاط الروحي و المعنوي...

و الجميل في الإنسان أنه يجمع بين النشاطين النشاط المادي و النشاط الروحي...النشاط الجسدي و النشاط المعنوي...و الأصعب في هذه القيمة الجمالية هي قيمة التوازن بين النشاطين...فإن لم يستطع الإنسان الحفاظ و لو نسبيا على حالة التوازن و استمرارها...سيكون تغليب جانب على آخر و من تم يحدث الخلل و يحدث الانفصام...و ليس المقصود "الانفصام المرضي" و لكن انفصام سيأتي الحديث عنه انطلاقا من مفهوم "قيمة الحرية" و علاقة هذا المصطلح بحالة التوازن و بالتالي العلاقة بين الدين كنشاط يجمع بين حياة الآخرة و حياة الدنيا و بين السياسة التي يمكن تعريفها بشكل عام" أنها النشاط الذي يصدر من الإنسان لتنظيم شؤون حياته الدنيوية في مجال سلطة الحكم و تدبير شؤون الأمة بالاستناد إلى مرجعية معينة إما تأخذ أحكامها من العقل الإلهي و إما من العقل البشري"...فإن استندت إلى العقل الإلهي جمعت بين الدنيا و الآخرة و إن اعتمدت على العقل البشري اهتمت بالحياة الدنيا دون الأخذ بالاعتبار شؤون الآخرة تاركة ذلك حرية فردية لمن شاء دون إدخال ما هو ديني فيما هو سياسي بحسب زعمهم على أساس أن السياسة تقوم على المصلحة دون اعتبار لأي شيء آخر و أن الدين يراعي جانب الله عز و جل في كل شيء...

و الحقيقة أن هذه التفرقة بل مشروعية هذه التفرقة لم تأت من فراغ... بل هي نتيجة ظروف تاريخية أسست تبريرات وجودها انطلاقا من سلوك الإنسان الغربي أساسا قبل أن تنتقل العدوى إلى سلوك المسلمين و العرب عموما...

كلمة قلتها ما أردت بها إلا وجه الله ما أردت بها علوا و لا فسادا و لا فتنة و لا اختلافا...فإن أصبت فبفضل من الله جل و علا و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان...

و الله المستعان...و للحديث بقية إن كان في العمر بقية...

سعيد نويضي
23/05/2008, 11:11 AM
بسم الله الرحمن الرحيم...

رسائل إلى عالم يسكن بيت العنكبوت(3)

ما بين السياسة و الدين من ارتباط و ما في الفكر البشري من اختلاط...

كثرا ما يريد الإنسان عن حسن نية أن يعالج العديد من الظواهر التي تعج بالغموض و يكتنفها الضباب معتمدا في ذلك على ما توصلت إليه معارفه من قراءات و ما أمدته تجربته على كبر حجمها أو صغرها من خبرات ليقدم للآخر وجهة نظر قد يجد من يشد على يديه على ما قدم فيها من جهد و قد يجد من يعارضه أشد المعارضة بل قد يصفه بأوصاف قد لا تليق بإنسان حامل لقلم مدعيا أنه مثقفا أو يحسب على زمرة المثقفين. و من سوء الحظ أن يكون القارئ لا يستطيع قراءة ما بين السطور أو معرفة نوايا الآخر "مهما حاول قراءة ما بين السطور" إلا إذا جهر الشخص بالقول عما يجول في خاطره، و كثيرا ما يجد نفسه مزودا بأفكار قد لا تمت بالحقيقة بصلة بل الأكثر من ذلك قد تزيف الحقيقة و تجعل من الحق باطلا و تقدمها للقارئ على أساس أنها الحق بعينه...

لذلك يلجأ العديد من المثقفين إلى الفصل بين السياسة و الدين على أساس معايير لا تمت إلى الحقيقة و لا إلى الواقع بصلة إلا من حيث ما يسمونه "أيديولوجية"...أو ما يطلق عليه " بتسييس الدين " أو " تديين السياسة "بمعنى آخر خضوع" الدين للساسة" أو العكس " خضوع السياسة للدين " و كأن الدين يعيش في قارة و السياسة تعيش في قارة أخرى أو بلغة أخرى و كأن الدين وجد لغير الإنسان و أن السياسة وجدت لغير بني آدم...بمعنى وجدت لجسد مادي لا علاقة له بالروح...فإذا كانت الروح كما جاء في كتاب الله عز و جل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85...فالدين له علاقة بالروح التي توجد في هذا الجسد الذي سمي "الإنسان"...فخالق الجسد هو الله جل و علا و لا يعيش هذا الجسد إلا بالروح التي وضعها رب العالمين فيه كي يحيا بها...

فكيف تكون العلاقة بين الجسد و الروح في حالة فصلهما البعض عن الآخر؟ إذا لم يكن هناك توافق بين متطلبات الجسد و متطلبات الروح ، هل يحدث خلل ما في توازن الشخص بتغليب كفة على أخرى؟ و إلى أي حد يمكن اعتبار الشق السياسي شق مادي محض و الشق الديني شق روحي محض؟ و ما هي الروابط الغير واضحة بينهما و التي أثارت جدلا كبيرا و كثيرا بين المثقفين و أصحاب الفكر و المشتغلين بالحقل السياسي و بالحقل الديني؟

فإذا انطلقنا من التشبيهات المادية حتى نصل إلى الفكرة الجوهرية لتوضيح هذه الحقيقة و التي أقدمها كوجهة نظر للمثقف عموما و للمختص أساسا من حيث العلاقة الوطيدة و الحميمة بل يمكن القول بالعلاقة العضوية بين الدين كمرجع عام و بين السياسة كجزء هام من النشاط الذي يقوم به الإنسان...على أساس أن المثل المادي يعكس الفكرة المجردة و يشخصها حتى يتم استيعابها عن قناعة...

ما من شك أن كل جهاز آلي مكون من عدة قطع آلية. تشكل مجتمعة ذلك الجهاز و تعمل من خلال تفاعلها بعضها مع البعض...فإن تعطلت آلة أو أصابها عطب أو خلل قد لا يشتغل الجهاز كلية أو إذا اشتغل أنتج أشياء لا ترضي صاحب الجهاز، و لا ترضي المستهلك عموما، فكيف سترضي الله عز و جل في علاه...و بالتالي قد تكون خسارته كبيرة أو متوسطة أو ضعيفة إلى حد ما كما أنها قد تكون كارثية يعلن معها الخسران الكامل لمنتجاته...و هذا ما لا يرغب فيه أي إنسان و لو كان على قدر ضئيل من الفكر و التعقل و الذكاء...

و قبل طرح الفكرة الجوهرية أريد أن أعطي مثالا تستعمله غالبية المثقفين و خاصة منهم المختصين و يعتبر في الزمن الذي نعيش فيه قمة ما وصل إليه العقل العلمي في علاقته بالمادة و منتجاتها وهو حاليا الأكثر تطورا و الأقرب إلى توضيح الفكرة : ألا و هو الحاسوب أو الكمبيوتر على اختلاف التسمية و ليس الجهاز...و لست هنا بصدد سرد محاسن و مساوئ الآلة بقدر ما أريد أن أقرب فكرة تكامل الآلات التي تشكل الجهاز ليقدم عملا أفضل و منتجا أكثر منفعة من استعمال جهاز مصاب بخلل قد يؤدي إلى إنتاج منتج فيه خلل... فقد يبدو الخلل ظاهر و قد يكون خفيا و لا يبدو للعيان و تلك هي أكبر مشكلة قد تؤدي إلى التهلكة دون وعي من الشخص على مستوى الإنتاج الفردي و قد تؤدي بأمة إلى الهلاك على مستوى الإنتاج الاجتماعي...

فإذا كان الحاسوب أخذ مكانة هامة في حياة الإنسان على أساس أنه بشكل من الأشكال امتداد آلي للذاكرة أو للعقل البشري [مع التحفظ على كلمة عقل] فإن آلاته تقارب إلى حد ما الوظائف التي يقوم بها العقل البشري من حيث استقبال المعلومة و تخزينها و تحليلها إن اقتضى الحال و كأن لديه مداخل تتسرب منها المعلومة إلى قلب الجهاز فتستقر في ذاكرته و تتفاعل بالقدر الذي يتم تحريكها داخل العقل من إضافة أو حذف أو تعديل في المعلومة...و تظل المعلومة بمفهومها الواسع و الشامل في مستوياتها المتنوعة من صوت و صورة و فكرة و معادلة و غير ذلك هي المنتج الذي يخزن و الذي يتوالد من تراكمه و تفاعله انطلاق من الغاية التي تحملها المعلومة كقيمة معرفية، شيئا يستعمله الإنسان و يستفيد منه ...فلو أن آلة داخل هذا الجهاز الضخم حدث فيها عطب أو خلل، فمن الطبيعي أن الجهاز سيتعطل كلية أو يتعطل جزء منه و من تم يلحق الضرر إما بالمعلومات المختزنة أو بالمعلومات التي يتم إنجازها و إنشاؤها داخل الجهاز أي داخل العقل الآلي...

فخذ على سبيل المثال لو أن حرفا من الحروف الأبجدية الموجود على لوحة المفاتيح تم تعطيله بشكل من الأشكال فلا يمكن بتاتا تعويض الكلمات التي تكتب مستعملة ذاك الحرف بحرف آخر...و لو تم ذلك لتغير المعنى و يكون قد حدث خلل في الجملة كانت فعلية أو اسمية...لذلك من المفروض ضمن جهاز آلي لا يمكن التمويه بشكل من الأشكال أو تزييف رقم محل رقم آخر أو حرف محل حرف آخر أو آلة محل آلة أخرى إن لم تكن تتوفر على نفس المواصفات ونفس الوظيفة التي تقدمها سابقتها...و إلا رفضها الجهاز و ظل معطلا إلى أن يتم تعويض الآلة بآلة جديدة تكون نافعة منتجة مستقيمة مع مواصفاتها منسجمة مع وظيفتها...

لذلك إذا سألت أحد المختصين في المجال الميكانيكي أو المجال الإلكتروني أو أي شخص له علاقة مع المادة سيقول لك أن المادة من خصائصها أنها صماء بكماء و أن حديثها يكون من خلال وظيفتها...فإن كانت صالحة و ليس بها عطب فإنها تعمل بدون شكوى و بدون خلل و إن كان بها خلل أو عطب فإنها إن عملت فلا يمكن أن تنتج منفعة تكون في المستوى الذي يرغب فيه المنتج أو المستهلك أو أنها لن تنتج شيئا حتى يتم إصلاحها...

فمثلا الإنسان الآلي يقوم بأعمال بشكل مضبوط إلى درجة لا مثيل لها من حيث الدقة فالحاسوب الذي يسير معامل أو طائرات أو قطارات أو ينظم شؤون البيت بدرجات متفاوتة في التعقيد...يعتبر إنسانا آليا لا يمل و لا يتعب و لا يشتكي و لا يبحث عن سعادة و ليس له علاقة بالشقاء...بمعنى ليست له عاطفة...فلا يعرف حبا و لا كرها و لا عداوة و لا شيئا من هذا القبيل...كما أن مفاهيم الخير و الشر لا تشكل بالنسبة له هما و لا قلقا...كما أن إشكالية الوجود لا تشغل "عقله" و لا تؤرق تفكيره إشكالية المعرفة...فالجسد و هو الذي يشكل الجانب المادي من الإنسان يعمل إلى حد ما كما تعمل الآلة...و ما ظاهرة الرق و العبيد التي عرفها التاريخ البشري إلا نموذج صارخ على نظرة الإنسان للإنسان على أساس أنه "آلة إنتاج"...و ما يفرقها عن الجماد سوى أنها ناطقة و ما يفرقها على الحيوان سوى أن لها لغة تتخاطب بها فيما بينها و بين من هو قائم على شؤون حياتها...

فما الفرق بين الإنسان ابن آدم و" الإنسان" ابن العلم الآدمي...؟الفرق بينهما يتجلى في الخصائص التي تفرق بين هذا و ذاك...فابن آدم لم يكن له وجود لولا نفخة من روح الله عز و جل...و الإنسان ابن العلم الآدمي لا يتوفر على هذه القدرة و لا يملك هذه الروح حتى يبثها فيما صنعت يداه...فالله عز و جل خلق آدم من تراب و التراب مادة...و الإنسان صنع الحاسوب و من تم ابتكر" الروبو" أو " الإنسان الآلي" انطلاقا من العلم الحديث، من تطوير الآلات المستخرجة أساس من المادة. و المادة لا تسقط من السماء كما يسقط المطر و لكنها موجودة في الأرض في التراب يوم خلق الله عز وجل السماوات و الأرض...و قد يفسر البعض وجود "الحديد" في الأرض على اعتبار أنه نزل من السماء انطلاقا من قوله عز و جل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25
لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات, وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع, وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل, وأنزلنا لهم الحديد, فيه قوة شديدة, ومنافع للناس متعددة, وليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق من ينصر دينه ورسله بالغيب. إن الله قوي لا يُقْهَر, عزيز لا يغالَب...

و الحقيقة هي أن الخالق واحد خلق السماوات و الأرض و ما فيهن ...و على سبيل التذكير المطر ينزل من السماء ليحي الأرض و الإنسان و الحيوان و النبات. ثم يتبخر بحكم القوانين التي وضعها الله عز وجل في الكون لتكون و تستمر دورة الحياة...و أعتقد أن الله جل و علا من حكمته خص الحديد بالذكر دون سائر المعادن لما فيه من بأس و منافع أكثر من المعادن الأخرى...فحتى يتذكر الإنسان ذلك بين له في الآية أنه أنزل الحديد من السماء كما نزل آدم و حواء و عدوهما اللدود...

لذلك يكون الفرق شاسع جدا بين خلق الله عز و جل و ابتكار الإنسان ابن آدم لما صنعت يداه ، فالله نفخ في آدم من روحه...و الإنسان ماذا فعل؟ هل نفخ في المادة و لله المثل الأعلى أم وضع علمه أي كافة معلوماته وظفها لينتج سلعة قابلة للاستبدال و خاضعة للتطور و التغير شكلا و مضمونا...ثم تفنى بعد ذلك المادة التي صنعها الإنسان و تظل الروح التي خلقها خالق كل شيء...فالإنسان في جانبه المادي الجسدي يشبه إلى حد ما عمل "الآلة" من حيث الأفعال الميكانيكية...و من هنا إذا تعطلت آلة داخل الجهاز فإما يصير الجهاز غير قابل بالمرة للعمل أو يصير قابلا للإصلاح إذا ما توفرت المواصفات في الآلة الجديدة للقيام باستبدال الجديد بالقديم لكي يصبح صالحا للاستعمال من جديد...و إن كان أن الجهاز يحتفظ ببعض ما هو قديم بالإضافة لما هو جديد. الشيء الذي يجعل من الصيانة عملية تجديد متواصلة كلما تعطلت آلة داخل الجهاز...

فلو حاولنا النظر إلى عملية الصيانة و استبدال الجديد لما هو قديم بما يوفي بما كان القديم المعطل يقوم به للحفاظ على وظيفة الإنسان داخل النسيج الاجتماعي الذي يتواجد فيه لأدركنا أن من خلق الإنسان و لله المثل الأعلى كان يقوم بعملية الصيانة لهذا المخلوق الذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا تعبا لما وصل إليه من فساد و خلل و بالتالي من تعطيل لوظيفته على هذا الكوكب. فالله عز و جل بعث لكل قوم هاد نبي أو رسول يدعوهم للحياة الحقيقية...حياة لا تنتهي مع "الموت" بل تستمر في عالم آخر بمواصفات أخرى...فالموت ما هو إلا موت الجسد باعتباره من المادة فيفنى كما تفنى المادة أما الروح التي هي من أمر ربي و من روحه جل و علا فلا تموت و لا تفنى بل تعود إلى خالقها...و تظل النفس و هي جوهر و لب الإشكالية الوجودية في الحياة الدنيا و في حياة الآخرة مناط الثواب و الجزاء فإما نعيم مقيم و إما جحيم أليم...

و الحياة التي نعيشها في الدنيا تتضمن النعيم المقيم و الجحيم الأليم مع فارق في الدرجة و النوع و الشكل...فلو كان الإنسان في رغد من العيش و في بحبوحة من الخيرات و النعم و كل ما تشتهي نفسه يجده أمامه...فهذا شكل من أشكال النعيم لكنه ليس مقيم...لأن ذاك الإنسان محكوم عليه بالفناء كسائر المخلوقات...و لو أن الإنسان يتقلب في الفقر بكل أشكاله من جوع و عري إلا ما يستر عورته بالكاد و نقصا في كل شيء بحيث في بعض الأوقات لا يجد ما يسد به حاجته أو حاجة عياله فيضطر إلى فعل كذا أو كذا مما هو غير طبيعي بالمرة كالسرقة أو أخذ ما ليس له حق بغير وجه حق...

فهذا الشكل من العيش مع تفاوت في الدرجة قد يزيد و قد ينقص في الاستمتاع بالملذات و الشهوات و بمتاع الدنيا و ما تزخر به من نعم حلال و من نقم حرام سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه. فقد يوحي هذا للبعض أن الحياة الدنيا تنتهي مع الموت و بالتالي ليست هناك لا بعث و لا قيامة و لا حساب و لا عقاب...فالجنة هي ما نعيش في الدنيا و الجحيم هو ما نحياه في الدنيا ولا شيء غير ذلك...وهذا من السذاجة بمكان و من الغفلة ما سيندم عليه الإنسان يوم لا ينفع لا مال و لا بنون...فالحياة الدنيا ينفع فيها المال...فبه تشتري و تقضي به حاجاتك المتعددة و المتنوعة...و البنون ينفعونك لما تحتاج إليهم لكي يؤنسوك و ترى فيهم امتدادك الآدمي و يكملون ما أنجزته إن ساروا على نفس الطريق التي اتبعتها أو يخالفوك و يبني كل واحد منهم مستقبله و قد ينسوك فلا يتذكروك إلا قليلا إن لم ينسوك بالمرة...

و من هنا يكون هم الإنسان و اهتمامه هو متاع الدنيا و كيف يتم تحقيقه و بلوغ أقصى ما يمكن من الثروات و تكديس أكبر ما يمكن من الأموال و تحقيق أكثر ما يمكن من اللذة و المتعة بغض النظر عن الوسيلة لبلوغ كل ذلك...

و من هنا كان التقابل الفظيع بين الدين و السياسة في من يرغب في الدنيا دون الآخرة و بين التقابل المتكامل في من يجعل الدنيا طريقه للآخرة...فالدين هو الإطار العام الذي يحكم سلوك الإنسان في كل نشاطاته...لأن الإنسان لقضاء حاجاته المادية و المعنوية في حاجة إلى القيام بنشاط تتطلبه تلبية تلك الحاجة...كما أن هناك حاجة أو حاجات قد تتطلب العديد من النشاطات حتى يتم تحقيقها...لذلك يمكن القول بكل صدق أن الإنسان متعدد النشاطات في علاقته بتلبية حاجاته المادية و المعنوية الضرورية منها و الثانوية لمن توفرت له شروط ذلك...

و هذا القول يؤدي بنا إلى طرح سؤال غاية في الأهمية بحسب قناعتي من حيث الدراسة المنهجية لهذه الإشكالية...

هل عبثا يتخصص هذا الإنسان في هذا المجال و يتخصص ذاك الإنسان في مجال آخر؟ و هل عبثا يوجد الاختلاف في مجال معين من نفس الاختصاص بين مفكرين على نفس المستوى من الكفاءة؟ و هل عبثا يتفق البعض على نفس الفكرة في حين يختلف البعض على نفس الفكرة؟ أو يتفقون على البعض منها و يرفضون البعض الآخر؟ هل هذا من العبث؟

فالاختلاف سنة من سنن الله عز و جل في خلقه و مخلوقاته...و الاختلاف ليس هو العبث...فالاختلاف له غاية و غايته لا يمكن أن تكون هي العبث...لأن العبث يتنافى مع وجود فكرة الغاية...فما غاية الاختلاف إن لم تكن هي التنوع في المشهد الوجودي... و من تم ليس هناك مقدار ذرة في الوجود للعبث...فإذا سلمنا بهذه الحقيقة يمكن القول أن الاختلاف الموجود على مستوى الأفكار وجد لغاية ما؟ فما هي تلك الغاية؟ و من أجل من تؤدي وظيفتها؟ و هل بالإمكان تعديل المنطق الذي تستند إليه؟

و الغاية من طرح هذه الأسئلة هو الوصول إلى غاية مفادها أن الوحدة هي تجاوز للاختلاف و ليس نفيه...و أن الائتلاف هو تسامي في الفكر على الاختلاف و ليس دحضه...و أن الاتحاد يجعل من الاختلاف تنوع لهدف واحد و غاية واحدة...لذلك يجب النظر للاختلاف على أساس أنه تفرقة من واجب العاقل تخطيها...و أنه تجزئة من الخطأ تكريسها و تعميقها...و أنه من الأفضل اعتبار الاختلاف الموجود بين الأجناس سنة الله عز و جل في مخلوقاته... و بين من ينتمون إلى كتاب واحد و نبي واحد هو بدعة من ابتكار عدو الإنسان و عدو الله عز و جل و عدو الأنبياء و المرسلين "الشيطان " عليه اللعنة إلى يوم الدين...و من والاه فقد ضل بكل تأكيد...لأن من مهامه خلق العداوة و البغضاء بين المؤمنين ليتفرقوا و يتفرق دينهم و يصبحوا جماعات تتناحر فيما بينها على شيء لا تملكه أصلا...فما بنيت حضارة على الاختلاف...إلا بالقدر الذي يدعم الائتلاف و الوحدة...و ما قامت مدنية على الاختلاف...إلا بالقدر الذي يجعل من هذا الاختلاف محرك و دافع للوصول إلى الائتلاف و الوحدة...

و لذلك إذا كان من مبادئ السياسة التي تستبعد الدين من دائرتها على أساس أنه معوق لحركيتها و ديناميتها و تطورها و نموها كمبدأ "فرق تسد"...فإن الدين بقوم بالتوحيد بين كل البشر بلا فرق لا في اللون و لا في الجنس و لا في اللغة...و خير مثال على ذلك قول الرسول الكريم عليه أفضل صلوات الله و سلامه...كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح الترغيب و الترهيب" ( صحيح لغيره ) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت قالوا بلى يا رسول الله قال فليبلغ الشاهد الغائب ثم ذكر الحديث في تحريم الدماء والأموال والأعراض رواه البيهقي وقال في إسناده بعض من يجهل وتقدم في اول كتاب العلم حديث أبي هريرة الصحيح وفيه ( صحيح ) من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه...

فلو أدرك الإنسان معنى لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله عليه الصلاة و السلام المبلغ عن رب العالمين ما أمره بتبليغه للناس...يقولها و يؤمن بها و يعتقدها كل من ينتمي لهذا الدين...لما جعل للاختلاف سبيل للوصول إلى قلب المؤمن حتى يخلق الفرقة و الشتات و التمزق... و يستند إلى مبدأ " فرق تسد" لا يمكن القول فيه إلا أنه مبدأ "شيطاني "...و لا إلى عقل المؤمن من طريق حتى يخلق المذاهب التي تفرق و لا توحد و الجماعات التي تتناحر و لا تتعاون و لا للتيارات التي تهدم الأساس التوحيدي الذي انطلق من رجل واحد عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم و أصبح في الوقت الحالي من حيث العدد ما يزيد على المليار و نصف أو أكثر...

أليس التوحيد العقائدي هو في حد ذاته أساس وحدة الأمة؟ أليس الكتاب الكريم هو المجيب عن الأسئلة الكبرى و المعضلة القصوى في قضية الخلق...من أرقى الكائنات و أفضلها {الإنســان} إلى أصغر المخلوقات التي لا يراها الإنسان بعينه المجردة كالبكتيريا و الفيروسات و ما شابه ذلك...و لنا في البعوضة و ما فوقها لعبرة يا أولي الأبصار...و قد أثبت ذلك العلم الحديث بالحجة و البرهان لمن لا يؤمن إلا بالملموس و المحسوس من ذرية آدم...

أما حديث "إن اختلاف أمتي رحمة" فهو حديث موضوع...و من وضعه قصد به تكريس الاختلاف باعتباره رحمة تجعل كل واحد منا يتجه في الاتجاه الذي يرضي هواه... و هنا سؤال لماذا لم يكن الهوى هو عينه الهدى حتى و لو لم يطابق ما جاء به الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام... عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ).[حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب ( الحجة ) بإسناد صحيح]."...فمن شروط الإيمان أن يكون هوى الإنسان "المسلم" تابعا لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام...فهل ترك الرسول عليه الصلاة و السلام ركنا من أركان الإسلام إلى حين يتحقق له مطلب من مطالب الدنيا أو تقضى له حاجة من حاجات الدنيا...و على سبيل المثال و ليس الحصر...تسأل الشاب الذي يقول و يشهد " لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله " لماذا لا تصلي ؟ يقول: لم يهدني بعد ربي للصلاة...فعندما أبلغ من العمر كذا أو كذا سأصلي ...قد يبدو المثال من السذاجة بمكان و لكن هذا واقع الحال...تسأل الفتاة لماذا لا ترتدي الحجاب؟ تجيبك: لما يهديني ربي...أو حتى أرتبط بشريك العمر أو حتى كذا و كذا...فما معنى أن تشهد أن الله واحد لا شريك له و أن الرجل الذي بعث في هذه الأمة هو رسوله عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم...؟
أما إن طرحت السؤال على شخص أتاه الله عز و جل من فضله لما لا تؤدي الزكاة؟ أجابك الضرائب ما تركت لنا ما نقدمه للمساكين...ولو تعلم ما للبنوك من قروض علينا و كم من "الفوائد" مترتبة في ذمتنا و كم من الكمبيالات مؤجلة إلى أجل غير مسمى...أو تكون إجابته بشكل حضاري و "مثقف" ذاك شأن بيني و بين الله جل و علا كما هو حال الصلاة...فالدين مسألة شخصية و لا دخل لأحد ليكون وصيا على أحد...لذلك أطرح السؤال الآتي: هل الآية الكريمة التي يقول فيها الله عز وجل : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110...

فهل دور هذه الآية ينحصر بين جدران المسجد و يقف مفعوله خارج حدود المسجد؟ أم أن الأشخاص لهم قناعتين...قناعة داخل المسجد و قناعة أخرى مغايرة خارج المسجد؟ أليس هذا انفصام في الشخصية و مرض أصاب القلوب...

أليس من قمة التناقضات العجيبة الموجودة في واقعنا على امتداد العالم المسمى "إسلامي" و جود مسجد و على بعد مسافة قد تطول و قد تقصر و جود حانة لبيع و شرب الخمور...؟ و إذا طرحت السؤال أيعقل هذا؟ تحد الجواب جاهزا من قبيل "ويل للمصلين" بقولهم" لا إكراه في الدين"...أمن الدين أصلا أن تقوم دولة إسلامية ببيع و إنتاج الخمور؟ و في دستورها تجد بالبند العريض " إن دين الدولة الرسمي هو الإسلام"...

فالمسلم لا يجعل من التناقض حجة لتبرير سلوكه المنحرف...أليس الهدف من الإسلام هو الفوز بالجنة و النجاة من النار؟
انظر و تدبر هذا الحديث... عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنهما- أن رجلا سأل رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد علي ذلك شيئًا، أأدخل الجنة ؟ قال : ( نعم ). [رواه مسلم]. ومعنى أحللت الحلال : فعلته معتقدا حله.


فلا يعقل إطلاقا أن يكون اختلاف في الأساس و في الأعمدة التي يقوم عليها البنيان...بحجة أنني أقوم بالركن الأول من الإسلام ...و أترك الأركان الأخرى إلى أجل غير مسمى...أليس هذا من قبيل المفهوم الضبابي المعشش في عقول الناس لقول الله عز و جل " لا إكراه في الدين ..." فمن يبدأ الآية دون إتمامها كمن يقول : ويل للمصلين..." دون أن يتمم الآية لتتضح المعنى و المراد من قول الله عز وجل و هو أعلم بالمقصود...فالبناء يقوم على الأركان التي تشكل الأساس القويم ...فإن تخلف ركن أصبح البناء آيل للسقوط كما هو معروف عند المشتغلين من المهندسين بالمعمار و البناء...فأي بناء غير قائم على ما هو حق فهو حتما و بالضرورة قائم على الباطل و بالتالي فهو منهار لا محالة...ففي غياب الأركان ينهار البنيان بكل تأكيد...

و إذا نظرنا إلى الإنسان باعتباره بناء من خلق الله عز و جل و أن نشاطاته هي بمثابة أركان يقوم بها بناؤه الشخصي...فلا يمكن أن تفصل نشاط عن آخر حتى ولو لم يمارس هذا الشخص نشاطا معينا لكنه يستفيد منه إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر...فالتاجر يستفيد من الأستاذ...و الأستاذ يستفيد من النادل...و النادل يستفيد من خطيب الجمعة...و خطيب الجمعة يستفيد من الطبيب ...و الطبيب يستفيد من المعماري...و المعماري يستفيد من الإعلامي...و هكذا الكل يبدل نشاطا يستفيد منه الآخر في عملية تكاملية متبادلة الأدوار تشكل "المنفعة" فيها حجر الزاوية...و تشكل المنفعة فيها أساس المتعة و اللذة انطلاقا من تلبية الشهوات و الرغبات التي تؤدي إلى استمرار النسل و التكاثر في الإنسان و السلع و الخدمات و الأشياء...

و على هذا الأساس يبدو جليا أن نشاطات الإنسان يمكن تصنيفها إلى ما هو مادي جسدي و ما هو روحي معنوي...فالنشاط المادي هو الأفعال التي تصدر من الإنسان في مجموعة من الدوائر قد تتسع و تضيق بحسب نشاط هذا الإنسان...و معروف أن هذا النشاط لا يمكن قبوله إلا إذا صدر من إنسان "عاقل"...و الإنسان العاقل يمتاز بقدرة "التعقل" و "الوعي"...فهذا العقل الذي يمتاز بالوعي لا يمكن أن يقوم بنشاط معين كبر شأنه أو صغر إلا إذا قام على "علم" و "معرفة" و "خبرة"...و كذلك الشأن بالنسبة للنشاط الروحي و المعنوي...

و الجميل في الإنسان أنه يجمع بين النشاطين النشاط المادي و النشاط الروحي...النشاط الجسدي و النشاط المعنوي...و الأصعب في هذه القيمة الجمالية هي قيمة التوازن بين النشاطين...فإن لم يستطع الإنسان الحفاظ و لو نسبيا على حالة التوازن و استمرارها...سيكون تغليب جانب على آخر و من تم يحدث الخلل و يحدث الانفصام...و ليس المقصود "الانفصام المرضي" و لكن انفصام سيأتي الحديث عنه انطلاقا من مفهوم "قيمة الحرية" و علاقة هذا المصطلح بحالة التوازن و بالتالي العلاقة بين الدين كنشاط يجمع بين حياة الآخرة و حياة الدنيا و بين السياسة التي يمكن تعريفها بشكل عام" أنها النشاط الذي يصدر من الإنسان لتنظيم شؤون حياته الدنيوية في مجال سلطة الحكم و تدبير شؤون الأمة بالاستناد إلى مرجعية معينة إما تأخذ أحكامها من العقل الإلهي و إما من العقل البشري"...فإن استندت إلى العقل الإلهي جمعت بين الدنيا و الآخرة و إن اعتمدت على العقل البشري اهتمت بالحياة الدنيا دون الأخذ بالاعتبار شؤون الآخرة تاركة ذلك حرية فردية لمن شاء دون إدخال ما هو ديني فيما هو سياسي بحسب زعمهم على أساس أن السياسة تقوم على المصلحة دون اعتبار لأي شيء آخر و أن الدين يراعي جانب الله عز و جل في كل شيء...

و الحقيقة أن هذه التفرقة بل مشروعية هذه التفرقة لم تأت من فراغ... بل هي نتيجة ظروف تاريخية أسست تبريرات وجودها انطلاقا من سلوك الإنسان الغربي أساسا قبل أن تنتقل العدوى إلى سلوك المسلمين و العرب عموما...

كلمة قلتها ما أردت بها إلا وجه الله ما أردت بها علوا و لا فسادا و لا فتنة و لا اختلافا...فإن أصبت فبفضل من الله جل و علا و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان...

و الله المستعان...و للحديث بقية إن كان في العمر بقية...