ظلال
02/10/2006, 10:00 AM
ضحكة في الصمت
رشفة تعشق رشفة، فتتوالى السمفونية المعتادة من فنجان القهوة الفخاري الصامت إلى أعماق فمه، فنجان القهوة ينتظر كل ليلة وفي نفس الموعد على طاولة المطبخ، هي تعلم تماماً موعد قدومه وتجهزها له قهوة كثيرة الهيل، سكر خفيف. لكن الليلة انتظر فنجان القهوة عابساً كئيباً يشاطر صاحبه حزنه الذي ينخر حنايا وجهه فيفتتها، هو وحده في عالم آخر بعيد ينسيه القهوة وابنته ومن تجلس معه على الطاولة متسائلة لماذا؟؟
"كلهم كانوا هنا إلاّ هو وعد بأن يأتي ويحضر هدية. كلّهم أكلوا وشربوا، رقصوا وفرحوا، ومن ثم خرجوا تاركين وراءهم صمتاً وبقايا سهرتهم في المكان، لماذا أقلقنا عليه. لا أجرؤ على سؤاله صمته يرعبني وكأن عاصفة ستهيج، سأدعه يتكلم وحده" وطال انتظارها وما زال فنجان القهوة يتناقص ببطء، وأخيراً تحركت الشفتان ونطق اللسان: (أقلقتنا عليك، ما الذي جرى لك؟ أهكذا تترك ابتنك في حفل عيد ميلادها؟؟ آه لو تعلم كم حزنت وانتظرت، وبعد عناء استطعت أن اقنعها أن زخم العمل منعك من القدوم). ضحكة جافة دوت بدون سابق إنذار، ضحكة لا تحمل من معان إلا السخرية والاستهتار، ضحكة في الصمت زادت المكان رعباً بعد أن خلا من الاشباح البشرية. تفاجأت كثيراً، لم تتوقع أن يضحك، عهدته رجلاً صارماً لا يضحك إلاّ لسبب وجيه، فشاركته قهقهاته مجاملة إياه، غير عالمة أنه يستهتر بما قالته، موقفه قاس ومتحجر تجاه زوجته اللطيفة.
(وإذاً لماذا تضحك؟؟ هل حدث شيء مضحك كان السبب بعدم قدومك..أم أنه العمل كما كذبت عليها) ثم انفجرت بالضحك، لم يكترث لكلامها، صمت فجأة، ثار، احمرت عيناه، وانبثق الشرر منهما، الموقف هذا أوحى لزوجته بالغرابة والاستفهام، يحزن ثم يضحك ثم يغضب فجأة. (ما بك؟؟ أشربت شيئاً؟؟) نظر إليها نظرة النمر الذي تأهب للانقضاض على فريسته وصرخ بوجهها (ومتى جاءك زوجك مخموراً أعهدتني أشرب، أنت ما بك، استيقظي، قلوبهم المتحجرة جعلتك تشكين بزوجك) بدأت علامات الرهبة والاستهجان ترتسم بأعماق عينيها الخضراوين. (ومن هم ذوو القلوب المتحجرة، عزيزي) قالتها بكل برود أعصاب، فاستشاظ غضباً وارتفعت نبرة صوته وازدادت حدةً من جديد (تضحكون وترقصون، تأكلون وتشربون، وهناك من خلف جدرانكم في العتمة التي لا ترونها من يتمنون كسرة خبز جافة لتُسكن ألم معدة خاوية).
الأمور تختلط عليها، حدقت به بعينها المفتوحتين بحذر وخوف (من نحن ألست واحداً منا؟؟) صعقته، تعطلت حواسه، الفراغ يغزو عالمه أراد أن ينكر حقيقة كونه واحداً كاملاً لا يتجزأ منهم، لطم كفه على رأسه، صكّ على أسنانه، لم يستطع أن يصدق كيانه وحقيقته، حوت كبير يبتلع كل شيء أمامه. لم يترك شيئاً في الدنيا يعتب عليه، توفرت له كل سبل الراحة والنعيم، ولكنه شعر دائماً بالفراغ يسرقه ويرمي أشلاءه لكلاب الطرقات، شعر أن حياته بلا طعم، كأسه دائماً فارغة، ينقصها الماء، الحياة، البصر والبصيرة ينقصها ما ندر وجوده، والحصول عليه صعب بل مستحيل لأن الثمن هو ترك الكثير والعيش على القليل المنقطع، وفجأة تذكر شيئاً عظيماً مقدساً "أقول لكم أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" ارتعب حين تذكر هذا، الخوف شرده، لسانه شل.
(أين كنت؟؟ وما الذي قلب حالك يا رجل؟؟) ارتعش لكلام زوجته، استيقظ وعاد إلى الواقع، حملق في أعماق فنجان القهوة السوداء ورأى حياته، لم يجرؤ على إظهار ضعفه، لأنه قوي أمامهم، ضعيف باكٍ كالطفل في أعماقه، تمالك نفسه ونطق شعراً للسياب فهو عاشق له:
أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟؟
بلا انتهاء، كالدم المراق، كالجياع.
كالحب، كالأطفال، كالموتى... هو المطر.
ثم أضاف قائلاً (بحر كبير، لم أره من قبل، أحياء تنزف دماً) (يا ويلي، أذهبت في رحلة صيد ولم تخبرني) دوت ضحكة صفراء أخرى.
(يا ويلي من قلة فهمك، لست ذكية، خسارة، أعمتك النقود، جعلتك حمقاء، لا تدركين عمق الأشياء من حولك، تفكرين في نفسك وفي امتلاك الأشياء من حولك متناسية البشر الحزانى) (السياب، حزن، بحر، دم، حقماء، ماذا أصابك، اسمع غداً صباحاًُ نذهب إلى الطبيب) نظر إليها بعينين تلمعان تحت ضوء مصباح كهربائي، ثم طأطأ رأسه محدقاً ببلاط الغرفة بعد أن خمدت ثورته قليلاً، ثم حدث نفسه (أنا بحاجة ماسة إلى طبيب).
مرة أخرى لا يجرؤ على إظهار ضعفه وقال (كلماتك ملغومة جارحة) ثم نهض عن الكرسي بتثاقل، شعر أن جسده الذي يزن ثمانين كيلو غراماً تضاعف، شعر أن جسده هو العائق الوحيد الذي يمنعه من التمتع بالسعادة.
بصعوبة دخل إلى غرفة ا لنوم واستلقى بإعياء على السرير، تذكر صديقه بشار، تذكر كلامه وكآبته العميقة، فهم أخيراً لماذا تخلى عن حياته، علم أن شيئاً عظيماً كان ينقصه، كانت حياته مشابهة لحياتي (كأسه فارغة).
وما كاد صاحبنا أن يغمض عينيه محاولاً النسيان، وإذا بزوجته تدخل متمتمة (حالتك لا تعجبني) ثم أخذت تفك رباط نعليه (ما كل هذه القذارة؟ بحق السماء أين كنت؟). (كنت، نعم كنت هناك، رأيت بأم عيني ما رأيته من قبل على شاشات التلفزة ولم أصدقه، ولكنني اليوم لمسته وشعرت به يخترق كل جزء بقي حياً فيّ، اليوم انقلبت حياتي راساً على عقب، اليوم شعرت أن حياتي فارغة ينقصها الكثير).
استيقظت أم الولدين والبنت، شعرت أن روح زوجها ليست معه، ضائعة، هائمة، وقالت (آسفة أنا، لم أفهمك، أرجوك ما القصة؟) نظر إليها بعينين محمرتين وكادت أن تسقط دمعة لولا أنه تماسك فجأة، فها هو الهرم كاد أن ينهار، لكنه فتح قلبه وكيانه وبدأ يسرد القصة على مسامع زوجته المشدودة بقوة نحوه، وقال: (سائقي الجديد، صاحب الابتسامة العريضة، كنا في طريقنا إلى البيت بعد أن اشتريت الهدية، لكن سيارتي اللعينة كانت السبب بدهس طفل صغير من الذين يبيعون العلكة في الشوارع، نقلناه إلى المستشفى ولحسن الحظ كان الطفل سليماً، قررنا أن نوصله إلى منزله بدلاً من سيارة الإسعاف، حتى لا تصاب عائلته بالذعر، ويا ليتنا لم نفعل! تمنيت أن تكوني معي لتشاهدي الطرقات الطينية التي مشيناها، لتشاهدي الغرفة المبنية من صفائح الحديد، لتشاهد الأوعية التي تشرب ماء السقف والملابس الرثة على الأجساد و..و.. مناظر تحرك قلب الحجر فكيف لا تحرك قلب الإنسان. سبعة أطفال يتامى الأب أكبرهم في الخامسة عشرة وأصغرهم في حضن أمه. قست عليهم الحياة فخرجوا إليها بحظ كئيب حاملين الفأس والمعول، ونحن خرجنا إليها بملعقة من ذهب) تمتم بكلمات غير مفهومة وتابع قائلاً: (قصصت على مسامع الأم ما جرى فقالت: (قضاء وقدر، سامحك الله) ثم قمتُ بإخراج محفظتي من جيبي وعرضت عليها مالاً شفقة على حالهم، ولوهلة قيدني شيء في معصمي عطل يدي عن الحركة، ابن خمسة عشرة ربيعاً أمسك بيدي وقال : (ارجع نقودك من حيث أتت يا سيد، لسنا بحاجة لها، ولا نقبل صدقة من أحد، بعد موت أبي عملنا بجد حتى لا تشعر أمي بأن شيئاً ينقصها. نحن رجائها باستطاعتنا أن نوفر لها كل شيء حتى لا نشعرها بسقوط عمود البيت فنحن امتداد له، ولسنا بحاجة لشفقة وصدقة من أحد) في تلك اللحظة شعرت أن يداي محشوتان بالعفن، وأنني أسأت لتلك العائلة البائسة، ولكنني من شدة حزني وقهري لم آبه لم قاله الصبي وحاولت مراراً، لكن كرامة وعزة نفس هذه العائلة صعقتني، لم أرَ مثلهم في حياتي، مجتمعهم فقير لكنهم عزيزوا النفس، أما نحن..تأوه وتأفف وصمت لبرهة ثم تابع (لحظة خروجي من هناك شعرت بخجل حقيقي وفشل محقق لم اشعر بمثله من قبل، وليت هارباً من تلك الحجرة كالفأر، كنت أرتعش وانتفض متخبطاً بالظلام الذي يلفني، لا أرى شيئاً سوى ضوء سياري اللعينة. وها أنا هنا لا أستطيع استيعاب ما حدث أو حتى ما صنعت يداي طوال هذه السنين، وكأن هذه الحادثة هي صحوتي من غفوة طويلة.
ساد الصمت في الغرفة، لم تستطع هي أن تعبر عن شيء، أما هو فقادته قدماه إلى الشرفة، الريح باردة تلسع، وابل المطر، الرعد والبرق..، دخل بسرعة، هاجم النعاس جفونه، نام متناسياً كل شيء، أسدلت غطاءً دافئاً على جسده المرتعش، ونامت إلى جانبه في ليلة بادرة من ليالي فبراير، وأما أولئك الأطفال اليتامى المنسيين فناموا على أرض باردة، فهم لم يذوقوا طعم الدفء في حياتهم في ليالي فبراير.
ظلال عويس
2/2/2000 [/size]
رشفة تعشق رشفة، فتتوالى السمفونية المعتادة من فنجان القهوة الفخاري الصامت إلى أعماق فمه، فنجان القهوة ينتظر كل ليلة وفي نفس الموعد على طاولة المطبخ، هي تعلم تماماً موعد قدومه وتجهزها له قهوة كثيرة الهيل، سكر خفيف. لكن الليلة انتظر فنجان القهوة عابساً كئيباً يشاطر صاحبه حزنه الذي ينخر حنايا وجهه فيفتتها، هو وحده في عالم آخر بعيد ينسيه القهوة وابنته ومن تجلس معه على الطاولة متسائلة لماذا؟؟
"كلهم كانوا هنا إلاّ هو وعد بأن يأتي ويحضر هدية. كلّهم أكلوا وشربوا، رقصوا وفرحوا، ومن ثم خرجوا تاركين وراءهم صمتاً وبقايا سهرتهم في المكان، لماذا أقلقنا عليه. لا أجرؤ على سؤاله صمته يرعبني وكأن عاصفة ستهيج، سأدعه يتكلم وحده" وطال انتظارها وما زال فنجان القهوة يتناقص ببطء، وأخيراً تحركت الشفتان ونطق اللسان: (أقلقتنا عليك، ما الذي جرى لك؟ أهكذا تترك ابتنك في حفل عيد ميلادها؟؟ آه لو تعلم كم حزنت وانتظرت، وبعد عناء استطعت أن اقنعها أن زخم العمل منعك من القدوم). ضحكة جافة دوت بدون سابق إنذار، ضحكة لا تحمل من معان إلا السخرية والاستهتار، ضحكة في الصمت زادت المكان رعباً بعد أن خلا من الاشباح البشرية. تفاجأت كثيراً، لم تتوقع أن يضحك، عهدته رجلاً صارماً لا يضحك إلاّ لسبب وجيه، فشاركته قهقهاته مجاملة إياه، غير عالمة أنه يستهتر بما قالته، موقفه قاس ومتحجر تجاه زوجته اللطيفة.
(وإذاً لماذا تضحك؟؟ هل حدث شيء مضحك كان السبب بعدم قدومك..أم أنه العمل كما كذبت عليها) ثم انفجرت بالضحك، لم يكترث لكلامها، صمت فجأة، ثار، احمرت عيناه، وانبثق الشرر منهما، الموقف هذا أوحى لزوجته بالغرابة والاستفهام، يحزن ثم يضحك ثم يغضب فجأة. (ما بك؟؟ أشربت شيئاً؟؟) نظر إليها نظرة النمر الذي تأهب للانقضاض على فريسته وصرخ بوجهها (ومتى جاءك زوجك مخموراً أعهدتني أشرب، أنت ما بك، استيقظي، قلوبهم المتحجرة جعلتك تشكين بزوجك) بدأت علامات الرهبة والاستهجان ترتسم بأعماق عينيها الخضراوين. (ومن هم ذوو القلوب المتحجرة، عزيزي) قالتها بكل برود أعصاب، فاستشاظ غضباً وارتفعت نبرة صوته وازدادت حدةً من جديد (تضحكون وترقصون، تأكلون وتشربون، وهناك من خلف جدرانكم في العتمة التي لا ترونها من يتمنون كسرة خبز جافة لتُسكن ألم معدة خاوية).
الأمور تختلط عليها، حدقت به بعينها المفتوحتين بحذر وخوف (من نحن ألست واحداً منا؟؟) صعقته، تعطلت حواسه، الفراغ يغزو عالمه أراد أن ينكر حقيقة كونه واحداً كاملاً لا يتجزأ منهم، لطم كفه على رأسه، صكّ على أسنانه، لم يستطع أن يصدق كيانه وحقيقته، حوت كبير يبتلع كل شيء أمامه. لم يترك شيئاً في الدنيا يعتب عليه، توفرت له كل سبل الراحة والنعيم، ولكنه شعر دائماً بالفراغ يسرقه ويرمي أشلاءه لكلاب الطرقات، شعر أن حياته بلا طعم، كأسه دائماً فارغة، ينقصها الماء، الحياة، البصر والبصيرة ينقصها ما ندر وجوده، والحصول عليه صعب بل مستحيل لأن الثمن هو ترك الكثير والعيش على القليل المنقطع، وفجأة تذكر شيئاً عظيماً مقدساً "أقول لكم أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" ارتعب حين تذكر هذا، الخوف شرده، لسانه شل.
(أين كنت؟؟ وما الذي قلب حالك يا رجل؟؟) ارتعش لكلام زوجته، استيقظ وعاد إلى الواقع، حملق في أعماق فنجان القهوة السوداء ورأى حياته، لم يجرؤ على إظهار ضعفه، لأنه قوي أمامهم، ضعيف باكٍ كالطفل في أعماقه، تمالك نفسه ونطق شعراً للسياب فهو عاشق له:
أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟؟
بلا انتهاء، كالدم المراق، كالجياع.
كالحب، كالأطفال، كالموتى... هو المطر.
ثم أضاف قائلاً (بحر كبير، لم أره من قبل، أحياء تنزف دماً) (يا ويلي، أذهبت في رحلة صيد ولم تخبرني) دوت ضحكة صفراء أخرى.
(يا ويلي من قلة فهمك، لست ذكية، خسارة، أعمتك النقود، جعلتك حمقاء، لا تدركين عمق الأشياء من حولك، تفكرين في نفسك وفي امتلاك الأشياء من حولك متناسية البشر الحزانى) (السياب، حزن، بحر، دم، حقماء، ماذا أصابك، اسمع غداً صباحاًُ نذهب إلى الطبيب) نظر إليها بعينين تلمعان تحت ضوء مصباح كهربائي، ثم طأطأ رأسه محدقاً ببلاط الغرفة بعد أن خمدت ثورته قليلاً، ثم حدث نفسه (أنا بحاجة ماسة إلى طبيب).
مرة أخرى لا يجرؤ على إظهار ضعفه وقال (كلماتك ملغومة جارحة) ثم نهض عن الكرسي بتثاقل، شعر أن جسده الذي يزن ثمانين كيلو غراماً تضاعف، شعر أن جسده هو العائق الوحيد الذي يمنعه من التمتع بالسعادة.
بصعوبة دخل إلى غرفة ا لنوم واستلقى بإعياء على السرير، تذكر صديقه بشار، تذكر كلامه وكآبته العميقة، فهم أخيراً لماذا تخلى عن حياته، علم أن شيئاً عظيماً كان ينقصه، كانت حياته مشابهة لحياتي (كأسه فارغة).
وما كاد صاحبنا أن يغمض عينيه محاولاً النسيان، وإذا بزوجته تدخل متمتمة (حالتك لا تعجبني) ثم أخذت تفك رباط نعليه (ما كل هذه القذارة؟ بحق السماء أين كنت؟). (كنت، نعم كنت هناك، رأيت بأم عيني ما رأيته من قبل على شاشات التلفزة ولم أصدقه، ولكنني اليوم لمسته وشعرت به يخترق كل جزء بقي حياً فيّ، اليوم انقلبت حياتي راساً على عقب، اليوم شعرت أن حياتي فارغة ينقصها الكثير).
استيقظت أم الولدين والبنت، شعرت أن روح زوجها ليست معه، ضائعة، هائمة، وقالت (آسفة أنا، لم أفهمك، أرجوك ما القصة؟) نظر إليها بعينين محمرتين وكادت أن تسقط دمعة لولا أنه تماسك فجأة، فها هو الهرم كاد أن ينهار، لكنه فتح قلبه وكيانه وبدأ يسرد القصة على مسامع زوجته المشدودة بقوة نحوه، وقال: (سائقي الجديد، صاحب الابتسامة العريضة، كنا في طريقنا إلى البيت بعد أن اشتريت الهدية، لكن سيارتي اللعينة كانت السبب بدهس طفل صغير من الذين يبيعون العلكة في الشوارع، نقلناه إلى المستشفى ولحسن الحظ كان الطفل سليماً، قررنا أن نوصله إلى منزله بدلاً من سيارة الإسعاف، حتى لا تصاب عائلته بالذعر، ويا ليتنا لم نفعل! تمنيت أن تكوني معي لتشاهدي الطرقات الطينية التي مشيناها، لتشاهدي الغرفة المبنية من صفائح الحديد، لتشاهد الأوعية التي تشرب ماء السقف والملابس الرثة على الأجساد و..و.. مناظر تحرك قلب الحجر فكيف لا تحرك قلب الإنسان. سبعة أطفال يتامى الأب أكبرهم في الخامسة عشرة وأصغرهم في حضن أمه. قست عليهم الحياة فخرجوا إليها بحظ كئيب حاملين الفأس والمعول، ونحن خرجنا إليها بملعقة من ذهب) تمتم بكلمات غير مفهومة وتابع قائلاً: (قصصت على مسامع الأم ما جرى فقالت: (قضاء وقدر، سامحك الله) ثم قمتُ بإخراج محفظتي من جيبي وعرضت عليها مالاً شفقة على حالهم، ولوهلة قيدني شيء في معصمي عطل يدي عن الحركة، ابن خمسة عشرة ربيعاً أمسك بيدي وقال : (ارجع نقودك من حيث أتت يا سيد، لسنا بحاجة لها، ولا نقبل صدقة من أحد، بعد موت أبي عملنا بجد حتى لا تشعر أمي بأن شيئاً ينقصها. نحن رجائها باستطاعتنا أن نوفر لها كل شيء حتى لا نشعرها بسقوط عمود البيت فنحن امتداد له، ولسنا بحاجة لشفقة وصدقة من أحد) في تلك اللحظة شعرت أن يداي محشوتان بالعفن، وأنني أسأت لتلك العائلة البائسة، ولكنني من شدة حزني وقهري لم آبه لم قاله الصبي وحاولت مراراً، لكن كرامة وعزة نفس هذه العائلة صعقتني، لم أرَ مثلهم في حياتي، مجتمعهم فقير لكنهم عزيزوا النفس، أما نحن..تأوه وتأفف وصمت لبرهة ثم تابع (لحظة خروجي من هناك شعرت بخجل حقيقي وفشل محقق لم اشعر بمثله من قبل، وليت هارباً من تلك الحجرة كالفأر، كنت أرتعش وانتفض متخبطاً بالظلام الذي يلفني، لا أرى شيئاً سوى ضوء سياري اللعينة. وها أنا هنا لا أستطيع استيعاب ما حدث أو حتى ما صنعت يداي طوال هذه السنين، وكأن هذه الحادثة هي صحوتي من غفوة طويلة.
ساد الصمت في الغرفة، لم تستطع هي أن تعبر عن شيء، أما هو فقادته قدماه إلى الشرفة، الريح باردة تلسع، وابل المطر، الرعد والبرق..، دخل بسرعة، هاجم النعاس جفونه، نام متناسياً كل شيء، أسدلت غطاءً دافئاً على جسده المرتعش، ونامت إلى جانبه في ليلة بادرة من ليالي فبراير، وأما أولئك الأطفال اليتامى المنسيين فناموا على أرض باردة، فهم لم يذوقوا طعم الدفء في حياتهم في ليالي فبراير.
ظلال عويس
2/2/2000 [/size]