المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التطريس في روايات ابراهيم درغوثي لأحمد السماوي / كلية الآداب - جامعة صفاقس / تونس



ابراهيم درغوثي
07/12/2006, 03:58 PM
التطريس في روايات إبراهيم درغوثي
أحمد السماوي /كلية الآداب /صفاقس / تونس

سعت الرواية التونسيّـة منذ ثمانينيّات القرن المنقضي إلى إغناء الرّواية العربيّة بأشكال في الكتابة السّرديّة مخصوصة أفادت من الرّواية العربيّة والعالميّة الحديثة والمعاصرة . وقد كان المبادرَ إلى هذا الصنيع روائيون من أمثال فرج الحوار وصلاح الدين بوجاه وهشام القروي . وأبرز ملامح هذه السّمة المخصوصة في السّرد الرّوائيّ التّونسيّ التّطريس. وهو الذي يعرّفه جينات Genette قائلا:” ما من أثر أدبيّ، في أيّ درجة كان، وبحسب اختلاف قرّائه، إلاّ ويحيل على أثر آخر، ومن ثمّ، فإنّ كلّ الآثار ناسخةٌ“ . ويستخرج للتّجاوز النّـصّيّ Transtextualité- كما ذكرنا سابقا - أصنافا خمسة هي التّضافر النصّيّ، والنصّيّة الموازية، والوصف النّصّيّ ، والنصّيّة الجامعة، والنصّيّة النّاسخة . وعندما نعرّج على ما أولاه فيليب هامون Philippe Hamon من عناية بتـحديد مفهوم الواقعيّة، معتمدا على النّتائج التي أفادت بها اللسانيّات السّيميائيّةَ، نلحظ أنّ بين ما يدعوه الواقعيّة النصّيّة وما يسمّيه جينات التّجاوز النصّيَّ أوالتطريسَ تطابقا. فهو يعتبر أنّ اللغة لا تستطيع أن تحاكي في الواقع إلاّ لغة ملفوظة أو مكتوبة، وأن ليس بمقدور ملفوظ لسانيّ أن ” " يعيد إنتاج " سوى ملفـــوظ أو جزء من ملفوظ لسانيّ مماثل سبق له أن قاله هو نفسُـه؛ من ذلك التّكرار، وتحصيل الحاصل، والإعادة، أو سبق لملفوظ آخر أن قاله كالكلام على الكلام، والاستشهاد، وإعادة النّسخ، والمحاكاة السّاخرة، والمعارضـة “ . ولهذا سنعمد في هذا المبحث، إلى تلمّس تجلّيات الواقعيّة النّصّيّة في روايات أربع لإبراهيم درغوثي توخّى فيها سمت الروائيين الثلاثة السّابقين نفسه، بل لعلّه كان الأبرز في طبع نصوصه الرّوائيّة والأقصوصيّة بهذا الميسم، وهو ما جعل كثيرا ممن تعرّضوا لهذه النّصوص بالنّقد تستوقفهم هذه الظاهرة لأنّها لافتة للانتباه .
والقول بانشغال الرواية التونسيّة المعاصرة بالواقعيّة النصّيّة، ليس قولا مستحدثا، فقد سبق لصلاح الدين بوجاه أن نبّه إلى ذلك . ولكنّ تميّز نصّ درغوثي الرّوائيّ بهذه السّمة المهيمنة يقتضي التوقّف عندها لتبيّن أشكال حضور الواقعيّة النّصيّة وموضوعاتها ومقاصدها، وتلمّس دور السّارد في مثل هذه النّصوص، وتقصّي العلاقة الوارد قيامها بين هذا النمط من الكتابة والدّلالة الممكنة.

I – أشكال حضور الواقعيّة النّـصّـيّـة
إنّ حضور الواقعيّة النصّيّة Réalisme textuel بكثافة في نصّ درغوثي يقتضي تحديد الـمواقع التي فيها تظهر، وذلك لأن للواقعيّة النصّيّة أوجهاً مختلفةً، فهي التّصدير تُفتتح به النّصوص، وهي الخواتم تنغلق عليها . وتعدّد الأمكنة لا يخصّ إلاّ المعلن من هذه النصوص المصادر التي يكشف عنها نصّ درغوثي الناسخ. أمّا ما امتصّه منها ثمّ تجاوزه فمبثوث في مظانّ نصوصه، للقارئ، حسب درجة معرفته، واختلاف بديهته، أن يضع عليها إصبعه منتشيا بنصره على الكاتب الواقعيّ الذي بثّها آملا في ألاّ ينتبه إليها أحد ما دام قد تمثّل النصّ المصدر فتجاوزه.
أفتكون الواقعيّة النصّيّة وجوبا امتصاصا لنصوص سبقت وتجاوزا لها؟ ألا يمكن أن تكون اجترارا محضا للنصوص المصادر يكتفي النصّ النّاسخ بنقلها ومحاكاتها؟ وبذلك تكون هذه الواقعيّة النصّيّة في الدرجة الأولى من التطريس؛ فقد يكفي أن يُزال الـطَّفْـل عن الطرس حتّى تظهر آثار الكتابة السّالفة. أوليس هذا ما دعا إليه درويش سارده أن يفعل؟ . إن يكن في هذا سخرية، فهو لا يخلو – في نظر الأنا المسرودة – من جدّ، وفي نظر الأنا الساردة من تصديق. فالنّسخ الذي بمعنى النّقل الحرفيّ لا بمعنى الإزالة و الإبطال، هو المظهر الأوّل للواقعيّة النّصّيّة ما دام محاكاة للواقع. ولا إمكان لوجود واقع خارج اللغة . إلا أنّ هذا الصّنف من الواقعيّة النصّيّة، مهما يكن تواضع السارد إزاءه وادعاؤه إيّاه لا وجود له حقيقيّا لأن النصّ المستنسخ بمجرّد أن يتـنـزّل في إطار جديد يفتقد سمته الأصليّة، فيدخل آنذاك عالم النسخ بما هو إزالة وإبطال. ولا تعني الإزالة والإبطال امّحاء النصّ بل حلول آخر محلَّه وهو ما نعبّر عنه بالتّجاوز النّصّيّ الغالب على نصوص درغوثي الروائيّة.
إنّ ما يلفت الانتباه في هذه النصوص أنّ الواقعيّة النّصّيّة، تماما مثل الوصف في الواقعية الوصفية، تحتاج إلى وظيفة ذريعة هي بمثابة المنشّط لدخولها في النّصّ. فقد يكون في إدراج ملفوظ لسانيّ سابق دون التّمهيد له بما يستوجب حضوره، إثقال لكاهل النصّ وتنفيرٌ للمسرود له. لذلك يلجأ السّارد إلى إعداد العدّة لتضمين ما يبغي تضمينه شاهدا كان أو تنويعا عليه. ومتى اعتاد السارد افتتاح روايته أو فصولها بتصدير، فإنّه يسعى جاهدا إلى ألاّ يخلِف وعده، وإن كان كثيرا ما يفعل. ففي الدراويش، يصرّ على استعمال التّصدير لا عند ظهور باب في الرواية جديد، بل حتى عند ظهور تحوّل ما، كذاك الذي حدث بين رفض " نمرة " الوقوع " لدرويش " وتذكّره زفاف قطر النّدى للخليفة المعتضد العبّاسي. ففي ذلك البرزخ من النصّ يورد حكمة هنديّة ( ص 44 ).
وقد لا يساق التصدير المختار دوما بتقصّد، بل قد يرد عفو الخاطر حيثما اتفق؛ أي إنّ السّارد لا يتوخّى نسقا بعينه يسير على هديه في إيراد تصديراته، بل هو يترك ذلك للصِّدفة شأنه مع مقطوعة للوليد بن يزيد يصدّر بها خبرا / وثيقة من كتاب الكامل في التاريخ. وما وردت مثل هذه المقطوعة أصلا في الكتاب المشار إليه، إنّما شغف السّارد / الشخصيّة بشعر الوليد هو الذي حفزه على أن يسوقها تعبيرا منه عن لذّته بقراءتها وإمتاعا للمسرود له معه بها ( الأسرار، ص 127 ) . أمّا إذا ورد التّصدير في خاتمة النصّ / الرّواية، فذاك مدعاة إلى طرح سؤال التسمية. أليس التّصدير أصلا يرد في الصّدر، وهو الأعلى، وفي الرّواية عند فاتحتها؟ أوَليس التّصدير آنذاك سوى خاتمة، ولكنّها ليست خاتمة للنصّ الأصليّ، بل خاتمة مضمّنة؟ فقد ورد في آخر الدراويش- كما جاء في هامش سابق - قصيدة لقسطنطين كفافي وردت تحت عنوان " بعد النّهاية ". وأن تُـنهى الرّواية بتضمينها نصّا ليس منها فلأنّه ربّما يكفي لاختزال دلالتها، ولكنْ أن يكون فتحا لمغامرة جديدة يهيمن عليها الشّعور بالإحباط واليأس فذاك ينفي عنها هذه الوظيفة ليكون تبشيرا برواية جديدة، وربما تكون القصيدة المضمّنة فاتحتها، خصوصا وهي ترد مرّتين، مرة أولى في درج الرّواية وأخرى على ظهر الغلاف الخارجيّ.
وليس هذا الصّنيع هو القاعدة إذ كثيرا ما يتحيّن السّارد اللحظة المناسبة كي يسوق نصوصه المصادر، شأنَه عند الكلام على فتح شبابيك أربعة عند سرد قصّة أبي البركات. فالشبابيك التي تحيل على عنوان الرّواية لا تفتح إلاّ عندما تتوفّر الفرصة لحضور مثل تلك النّصوص المحال عليها، وتصبح الواقعية النّصّيّة سيّدة الموقف ( ص 83 ). كل ذلك يعني أن لا بدّ من توفير مناسبة ما تسهّل حضورها الواقعيةُ الوصفيّة. فالقلق الذي يعاني منه الأمير مثلا في أسرار صاحب السّتر يتناسب وقراءة آية من القرآن فيها وعيد وتهديد ( ص 117 )، ووجود مجلس أنس وطرب يفترض إيراد بيت من الشعر يغنّى (الأسرار، ص 35). وكثيرا ما يمثّـل التّذكّر أفضل الظّروف مناسبة؛ فحصول واقعة بعينها تذكّر السّارد إمّا بواقعة شبيهة يوردها من بطون الكتب، محيلا عليها تارة، غافلا عنها أخرى، وإمّا بضرورة مسايرة التّوقيع الذي بدأ بعد. فذكر فرانسوا مارتال في الدراويش أنّ درويشًا أكل صور بدء الخليقة التي أخذها له وهو بالساحة تلتهم النّار رجليه، أحال السّارد مباشرة على أسطورة التكوين فأورد نصّا مرويّا عن ابن عبّاس في الموضوع ( ص ص29-30). وإذا كانت هذه الإحالة ممّا قد يكون تواردًا للخواطر ، فإنّ تصريح السّارد بأنّه يتذكّر حياته السّابقة كما يتذكّر طفـلٌ صغيـر حلما جميـلا (ص 44)، يدلّ على أنّ ما أورده من نصّ عن بذخ الولاة في تزويجهم بناتهم قد تمّ بسبق إضمار، وكذا أمره مع الأهازيج الشّعبيّة التي أوردها بمناسبة زفاف نمرة لدرويش (ص 52). وقد لا تتوفّر الواقعيّة النصّيّة هادئةً، بل قد تتدفّق النّصوص المحالُ عليها وتتدافع كما لو كانت شكلا من أشكال التدّاعي الحرّ أو تيّار الوعي في الرّوايات النّفسيّة. فللنّصوص المصادر سطوتُـها وللواقعيّة النصّية تحكُّـمُـها. فقد ترد في الآن نفسه أسماء كتب وذكريات وتداعيات تثيرها عناوينها، وآيات من القرآن يعسر على المتقبّل أن يجمع بينها لـلحظة معيّنة، ولكنّ السّارد يقسره على الرّبط بين أواصرها، فتكتسب آنذاك دلالتها من كثافة حضورها ومن سرعة الانتقال بين نصّ منها ونصّ آخر. فهذه النّصوص جميعها، ذُكِر مصدرها أو أهمل ذكره، وردت مفردةً أو جمعا، تشي بأنّ النصوص المصادر التي يهضمها النصّ الناسخ ترد بمناسبة تقتضيها القصّة، غير أنّ ما يقتضيه الخطاب يتمثّل في ارتباط النصّ المحال عليه بالجوار الصّوتيّ، وهو ما يقتضيه في أحيان بعينها السّياق نفسُـه. ومثالُ ذلك ما ورد في الدراويش من وليمة أقامها النّعمانُ بنُ المنذر على شرف زوّار الحيرة. فعند الرّقص، يبلغ الجذل بالجميع حدّا تنفجر معه في ذهن السّارد أسطورة هاجر وانبجاس الماء نبعا سلسبيلا بين الصّفا والمروى لتعود الرّقصة بعدئذ إلى سالف عهدها ( ص ص 73-74) .

I .2 – طبيعة النّصوص المصادر
تختلف هذه النّصوص المُـحالُ عليها جِدّةً وقدما اختلافَـها دنيويّةً وقدسيّةً. فمن النصوص القديمة ما أقام عليه سارد الأسرار من موازاة بين التّنقيب عن آثار تحت المسجد وقصّة الخليفة الوليد ابن يزيد استقاها – كما ادّعى – من المخطوطات التي حواها الصّندوق المعثور عليه (ص 32). ومن النصوص الحديثة ما كان ركنا ركينا في القيامة...الآن، نصُّ عبد الرحمن منيف الآن...هنا. أمّا النّصوص الدّنيويّة، فلدوستويفسكي منها نصيب، والنّصوص المقدّسة تحيل على القرآن والحديث النّبويّ . واجتماع هذه النّصوص المصادر من أنحاء شتّى يعني أنّ النّصّ النّاسخ، وهو يتعامل معها بكيفيّات مختلفة، لا يتقيّد بنمط من النّصوص بعينه، مما يسمح له بهامش من المناورة كبير. فأيّ شكل من أشكال التّجاوز النّصّيّ متروك له أمر التّصرّف فيه. وما بدا من النصوص المعلن عنها خارجا عن نطاق النّصّ الأصليّ، ليس سوى وهم لأنّ السّارد، وهو يقسر النصوص المصادر على الدخول في نصّـه، إنّما يُكسِـبها دلالة جديدة بحكم السّياق الجديد الذي تتنـزّل فيه؛ وهو ما يجعل النصّ السّرديّ مختلفا كلّ الاختلاف عن النصّ العلميّ، ويقترب منه ظاهرا ويبتعد عنه جوهرا.
ومما يوفِّـر للواقعيّة النصّيّة سبل الانصهار في النّصّ النّاسخ تكرار ورودها بشكل يكاد يتطابق في أكثر من نصّ روائيّ لـدرغوثي. فما أُشير إليه في الدراويش من إشعال المصابيح بمجرّد النّـظر إليها ورد ذكره في الأسرار حرفيّا تقريبا: ” يشعل المصابيح حين يركّز عليها نظراته “ ( الأسرار، ص 96 ). وما أشير إليه في الدراويش من تعليق الوليد المصحف في الشجرة وضربه إيّاه بالنبال، جاء ذكره تفصيلا وتدقيقا في الأسرار: ” انصبوا هذا المصحف على الشجرة المقابلة لمجلسي هناك بعيدا وآتوني بقوسي ونشّابي “ ( الأسرار، ص 117 ). وأن ترجّع نصوص صدى أخرى دليل على أنّ وراء السّارد التّخييليّ في كلا النصّين ساردا واقعيّا واحدا، عندما يتخيّل، تتدافع الصّور لديه، فتطفو نصوص انقضت أمامه وهو بصدد إبداع نصّ لمّا يكتملْ. وغالبا ما يبدأ التّجاوز النّـصّيّ بالإشارة إلى المكتبات والكتب والقراءة، شأن ما ورد في الأسرار، ليعقب ذلك تفصيل لمحتويات هذه الكتب كما هو الشأن في الشّبابيك، فقد أشير إلى كتب الحديث، والفقه، والنحو، والصرف، وأدب الرّحلات، وشعر المتصوّفة الكبار، وكتب البلاغة، وكتب التّاريخ ( ص 27 ). وكثيرة هي المرّات التي تُعرَض فيها العناوين نفسُـها في هذه الرّواية و في تلك ؛ وكأنّ القارئ لا يسعه التّعامل مع النّصوص النّاسخة إلاّ إذا أحسن الاطلاع على النّصوص المصادر تلك.
وقد لا يستوفي السّارد ذكر الكتب جميعها وإنّما يعمِـد أحيانا إلى إخفاء مصدره، رغم سهولة الانكشاف؛ ولعلّ تصاديَ القيامة...الآن مع رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي دليل.فبما أنّ موضوع القيامة...الآن هو الأخرويّات فإنّ أقرب النّصوص العربيّة إليها رسالة الغفران. لكنّ السّارد لا يعرّج عليها البتّة، لأنه قد يظنّ بالمسرود له خيرا إذ يعتبر أنّ له من الفطنة ما يؤهّله لاقتناص هذه المعلومة منذ اللحظة الأولى. ولعلّ عبارة ” بم غُفِر لك؟ “ الشّهيرة في أكثر من مقطع من مقاطع الرّسالة السّرديّة، حاضرة في سؤال حياة النّفوس: ” كيـف دخلـت الجنّـة يا آدم؟ “ ( القيامة، ص 93). هذا بالطبع إلى جانب الجوّ الإسكاتولوجيّ الطّاغي سواء ما تعلّق منه بالـمحشر أو بجهنّم.
والمزاوجة بين المنثور والمنظوم في إطار الحكاية، تذكّر بنصّ الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني الذي لم يُحِل عليه السّارد بالاسم، لكنّ إيراده أشعارا تُغنّى، وطريقته في السّرد، يفرضان حضور أبي الفرج . ولعلّ ممّـا يؤكِّد ذلك، الجردَ بأسماء المغنّين: ” هذا ابن عائشة [...] وقد سمعت قبله غناء معبد والهذليّ وعمر الوادي وأبي كامل وسلاّمة وحبابة“ ( الأسرار، ص 84 ). وبهذا يعجز تكتّم السارد عن مصادره، عن إخفائها حقّا، إذ لا بدّ أن يكون للمسرود له، المتقبّلِ خطابَ سارده بعضُ الزّاد المعرفيّ الذي يخوّل له التّواصل معه. وليس يمكن أن يكون السّارد بغافل عن مثل هذا الصّنيع؛ فهو يعي عثراته، ولذلك يخفّ أحيانا إلى دعوة قارئه إلى ألاّ يتعجّل فيتّهمه بالسطو على بعض الكتب التي ذكر منها نبذا، ويعتبر أنّ ما يرد في نصوصه النّاسخة من واقعيّة نصّيّة سرقة تؤدّي به إلى السّجن .
غير أنّ السّارد لا يلزم نفسه – في أكثر من موقع – بنسبة الكلام إلى قائله سواء بإرداف النّصّ المضمّن بالعلَم الذي قاله وهو يستعمل لذلك صيغة الخطاب المنقول discours rapporté حيث الأمانة أوفر ما تكون، أو بتسريده ملفوظ من يأخذ عنه فتضعف، بالضرورة، أمانة النّقل، إذ حرفيّة المقول تنتفي . ويربكه هذا الشعورُ بالسطو على أقوال الآخرين، فيورد في عجلة ما به يتخلّص من عبء الأمانة تلك ويتحلّل من واجب عليه أداؤه . لكنّه لا يستسلم لهذا الشّعور بالخوف، فيتطاول على بعض النّصوص خاصّة منها تلك التي له، ولكنّها ليست وجوبا تلك النّصوص التي سبقت، وإنّما هي النّصوص المرشّحة للكتابة. وأوْلى النّاس بمعرفة هذه النّصوص من يعزم على إنجازها فعلا. فلم تجر العادة بأن يعِـد روائيٌّ في نصِّـه بمشاريعه المستقبليّة، وإن فسحت الحكاية الواصفة اليوم هذه السّبيل، وإنّما كان يذكر ذلك في نصّ مواز حديثا يُدلي به أو استجوابا يضمّـنه آراءه. إلاّ أنّ درغوثي قد تجاوز هذه وتلك من الطرق السّالكة، ومال إلى الإعلان عن نصّـه اللاحق في إطار حديث نمرة عن جنونها، لدرويش: ” ...ودخلتُ المغارة ولم أخرج منها إلاّ بعد أن دقّت نواقيس القيامة “( الدراويش، ص 128 ). وليس في هذه الرّواية أيّ علاقة بالقيامة متى فهمت بالطبع في معناها الحقيقيّ؛ وحتّى معناها المجازيُّ لا يستقيم استقامتَـه في القيامة...الآن ، وهو ما يُعتبَـر استشرافا سيأتي النّصّ اللاحق ليحقّقه. وهكذا يتوفّر بين النّصوص تصادٍ يفرض على المتقبّل أن يرى القواسم المشتركة بينها وينتبه إلى الكيفيّة التي عليها جاء اللاحق من النّصوص مقارنة بالسّابق.
إنّ تعامل السارد مع النّصوص المحال عليها تعامل واعٍ غايته تحقيق بنية روائية متماسكة تعلن بصوت عالٍ أنّ ما من نصّ من نصوصه إلاّ وجاوز آخر أو أخرى يوجد لها أثر ملموس في خطابه الروائيّ. وليست الواقعيّة النّصّيّة بمقتصرة على نصوص لدرغوثي تـتصادى، وإنّما قد تتجاوز ذلك إلى النصّ الواحد يكرّر جانبٌ منه جانبا آخر.ففي الشبابيك، أقام السارد اختياره للنماذج البشرية الثلاثة المختلفة على تصيّد المتطرّف من السّلوكات لديها . فالأوّل متطرّف في الحبّ إلى الحدّ الذي يدفن فيه نفسه حيّا إلى جوار عشيقته، ومتطرّف في الكره إلى الحدّ الذي يرفض فيه مكالمة ابنه طوال ثلاثين سنة حتّى مماته. والثاّني متطرّف في عربدته وفسقه وكرائه عورته للسائحات المشتهيات بأرفع الأثمان. والأخير متطرّف في إنكار أشكال التّقدّم والتّطوّر التّكنولوجيّ. ولعلّ هذا الاشتراك في السّلوك أن يكون من قبيل الموضوعات؛ غير أنّ بناء التّوازي القائمة عليه رواية الشبابيك والتّكرار المستفاد من أسماء الأبناء الثلاثة الأعلام أن يؤكّد البعد التّكراريّ لهذه النّصوص ومن ثمّ النّصّيّة الذّاتيّة. ولعل في حضور السارد / الشخصيّة في الكتب الثلاثة، يعيد على المسرود له صفة من صفاته، تشديدا للربط بين الأجزاء المتناثرة. فهو يفسّر المغلق من الظواهر حينا ويذكّر بما قد يكون المسرود له قد نسيه حينا آخر .
ولا ترد الواقعيّـة النّـصّـيّـة هنا أو هناك من النصّ النّاسخ اعتباطا، وإنّما قد تقود الغايةُ السّاردَ إلى ضبط موقعها. فإذا ما وردت تصديرا فبنيّـة الإنباء بما عسى أن يكون في درج الرّواية شأنها في ذلك شأن الفاتحة في النّصوص الرّوائيّة عامّة. فعندما أورد السّارد مقتطفا من نصّ لشتراوس في صدر الدراويش اختاره لأنّ له علاقة باللاعقلانيّ، ومن ثمّ بوجود خارق يُعِدّ السّارد المسرود له لتلقّيه، وكذا شأنه مع ما ضمّنه القيامة...الآن من نصّ لدوستويفسكي يقوم على نفَس زهديّ واضح يذكّر بتوبة أبي نواس المشهورة. وما ذاك النصّ إلاّ تماش مع ما سيرد في درج الرّواية من مغفرة وشفاعة وعذاب ونعيم. وإذا كان موقع التّصدير وحده كافيا للإيحاء بما عسى أن يكون، فإنّ ورود الواقعيّة النّصّيّة في درج الرّواية قد يمرّ دون تعليق من السّارد لما يمكن أن يكون عليه من وضوح دلالة؛ وقد يتوقّف عنده للتّعقيب وإبداء الرّأي شأنه مع الحكاية التي أوردها عن الجاحظ والمتعلّقة بفضل إناث الحيوان على إناث البشر .
إنّ معرفتنا بالظروف التي تنشأ فيها الواقعيّة النصيّة في الرّوايات تقتضي وجوبا التساؤل عن الكيفيّة التي ترد عليها، أهي مجرّد اجترار أم امتصاص أم تجاوز؟ فتضمين الشّواهد في النصّ إنْ بـنيّة البرهنة بحجّـة سلطة، وإنْ بـنيّـة المتعة تتحقّق للباثّ والمتقبّل معا، يعتبر من قبيل التّضافر النّصّيّ أو ما نصطلح عليه بالتناصّ؛ لكنّه لا يخرج عن نطاق الواقعيّة النّصّيّة ما دام إعادة إنتاج لنصّ سابق. وهو ما يشترك في هذا مع الكلام على الكلام ومع المعارضة والمحاكاة السّاخرة وسواها. وعندما نجد أنّ الواقعيّة النصية في روايات درغوثي معلنةٌ، قد يتبادر إلى أذهان بعضنا أنّه اكتفى بمجرّد الاجترار، وهو ما قد يفوّت علينا فرصة الانتباه إلى الأشكال التي بها تصرّف في النصّ المصدر مما لم يشر إليه وإنّما أبقاه سرّا بينه وبين نفسه. وحتى هذه النصوص المضمّنة اللافتة النّظر بتعدّدها لا يمكنها في نصّ سرديّ أن تكون في نشاز مع خطاب السّارد الأوّليّ؛ وهو ما يعني أنّها انصهرت في النّصّ النّاسخ حتّى كادت أن تكون منه؛ وهذا ما نعتبره من قبيل الامتصاص. فما يبدو في الظاهر منسوبا إلى نصّ مقدّس أو إلى نصّ دنيويّ لم يعد كذلك ما دام قد اندغم في النّصّ النّاسخ الذي حوّر له دلالته بتـنـزيله إيّاه في سياق لم يكن له أصلا. وهو ما قد يسمح بنعته بالتجاوز إذ توظيف النّصّ المصدر لدلالة يتغيّاها النصّ الناسخ يذوّب المضمّن في الجديد؛ من ذلك الكلام على يأجوج ومأجوج في القيامة...الآن. فقد وردت الإشارة إليهم من خلال عرض السّارد علامات القيامة، وهم أولى العلامات؛ والسّارد في ذلك إنّما يُـحيي تصوّرا تراثيّا لقيام الساعة لدى المسلمين استقاه من القرآن، وممّا عداه من الكتب التي خصّصت للأخرويات أو الإسكاتولوجيا. وإيراد التّصوّرات التّراثيّة عن يأجوج ومأجوج، ما كان ترديدا لما هو سائد في التّراث الرّسميّ أو الشّعبيّ مما تتناقله الأجيال، وإنّما هو إعادة إنتاج لعلامة السّاعة هذه. فيأجوج ومأجوج إنّما هم سكّان المعمورة ممّن ينغّصون على الأمم المتقدّمة لذّة الاستمتاع بالخير العميم الذي ترفل فيه . ويتضح الأمر نفسُـه من خلال توظيف الواقعيّة النصّية لخدمة الواقعيّة الوصفيّة. فاستدعاء شخصيّات الآن ...هنا، وهي في الأصل شخصيّات ورقيّة، يعتبر من قبيل الواقعيّة النّصّيّة، لكنّ دمج هذه الشّخصيّات، وقد استحالت في القيامة...الآن شخصيّات جديدة، ضمن العالم القصصيّ، يكسبها دلالة لم تكن لها أصلا. فبعثها بعد موتها المفترَض ما دامت تنتمي إلى عالم الدّنيا، في الآخرة، يجعلها مرشّحة للحساب والعقاب كما يقتضي ذلك التّصوّر الأخرويّ الإسلاميّ. وهكذا تتحوّل الشّخصيّة من ورقيّة تخييلية إلى مرجعيّة تاريخية شبيهة بالمسرح الرّومانيّ بقرطاج، ويوليوس قيصر، والمشروبات الغازيّة الأمريكيّة. وبذلك يفقد النّصّ المصدر دلالته الأصل ليتّخذ له دلالة جديدة بحكم السّياق الجديد. ومثل هذا التّحوير الذي تدخله الواقعيّة النّصّيّة على العالم القصصيّ في روايات درغوثي لايتعلّق فقط بإضفاء دلالة جديدة على نصّ قديم، بل قد يتمّ من خلال إيراد نصوص مصادر عديدة يمتنع السّارد عن وضع فاصل بينها مهما يكن محدودا إن قبل النّصّ وإن بعده. ولا يميّز آنذاك مقولَ المضمّن من مقول السّارد الأوّليّ إلاّ أمارات من قبيل التّحوّل في الزّمن أو تحويل مجرى الحديث أو تغيّر الضّمير .

I. 3 – أشكال التّحوّل الأجناسيّ
إذا كان معظم أشكال التّضافر النّصّيّ تضمينا يرد في شكل شواهد شعريّة كانت أو نثريّة، مقدّسة كانت أو دنيويّة، فإنّ ذلك لا يمنع السّارد من أن يمتصّ النّصّ المصدر فينقله من سياق إلى آخر ليضمّنه دلالة جديدة. فأسطورة آدم وأكله من الثّمر المحرّم وعقابه اتخذت في الدراويش لبوسا جديدا هو ما يمكن أن نسمّيه بالاقـتباس. فقد نقل السّارد التفّاح الذي بسببه نزل آدم الأرض إلى تفّاح تركيّ يُلتَـهَم بشهيّة في حفلة شطح وخمر في بيت فرانسوا مارتال ( الدّراويش، ص ص 61-65 ). لكنّ السّارد، كي يزيد المقتبَسَ تبعيدا يردفه بما تيسّر من سورة الأعراف. فيتفق في اللحظة تلك، المقتبَسُ والمضمّنُ في آن معا. وتتجاوز الواقعيّة النّصّيّة هذين الصّنفين لتشمل المعارضة. فقد أوهم السّارد بأنّ ما أورده في الباب التاسع من الدّراويش من موجز لجامع كرامات الأولياء هو مقتطفات من كراماتهم فعلا. وقد أطلق على كلّ كرامة منها عنوانا، لكنّه لم يُحِل على أيّ كتاب منه اقتطفها؛ ومنطوق الخطاب يشي بأنّها جميعها من وضع السّارد سعى فيها إلى معارضة جنس الكرامة المعروف. فقد أوردها على لسان درويش، ودرويش شخصيّة ورقيّة، وجعل المكان في الشام تارة وفي مصر أخرى، وفي الهند تارة وفي تونس أخرى، وجعل الزّمان متفاوتا؛ وهذا التّباين في المكان والزّمان وإحالة السّرد إلى درويش يكذّبان أن تكون النّصوص مصادر، وإنّما هي نصوص ناسخةٌ غيرَها مما يرد في كتب الكرامات قاسمُها المشترك معه العجائبيّ والرّطانة بغريب اللفظ شأن ما ترطن به صاهبّاء في السّدّ محاكية بذلك فواتح السّور القرآنيّة ( الدراويش، ص ص 93-102 ).ومتى تشكّك المتقبّل في متن المضمّن أصبح شكُّه في المنسوب إليهم النّصّ كبيرا هو أيضا. فهو يتساءل عمّا إذا كان المقتطف عنهم حقيقيين أم تخييليين. فمن محمّد الحنفيّ والشّعر المنسوب إليه أهو لـه أم لغيره ( الدراويش، ص 99 )؟ ومن الفرغل ( ص 100 )؟ ومن محمّد الحافي؟ أيمكن أن يكونوا دراويش مغمورين وميزة الرّواية أنّها تبعثهم من ضياعهم؟ لِمَ لا؟ ولكنّ ذلك مشروط بالتثبّت في كتب الكرامات ومقامات الصّوفيّة !
ولقد أشار السّارد إلى إمكان أن يكون مجرّد ناسخ لما يُملى عليه، وتبيّن أنّه إذ يحاكي نصوصا سلفت يتصرّف في موقعها وينوّع في كيفيّة التّعامل معها ويكيّف، من ثمّ، دلالتها. ولكن ما أدرانا أنّه فعلا يقوم بذلك، أليس يمكنه أن يوهمنا بأنّه يضمّن نصّه نصّا هو في الحقيقة ليس لصاحبه الذي ادّعى أنّه إليه يُنمى؟ ومادام صنيعه ليس محاكاة واقتباسا ولا معارضة، فما عساه يكون؟ أيمكن أن يكون محاكاة ساخرة؟ لِمَ لا والنصوص الناسخة ملأى بالخارق عجائبيّا وغرائبيّا. ولعلّ ما يسعف المسرود له بالحسم انتباهه إلى التّحريف الـهزليّ لأكثر من نصّ رفيع ليعود به السّارد إلى الأسلوب الوضيع على حدّ تقسيم جينات للأساليب . فما يبرهن مثلا أنّ قصّة موت الكلبيّ في الأسرار مختلقةٌ قول الأمير:”قيّدوا الحادثة ضدّ مجهول وأقفلوا المحضر “ ( ص 98 ). ولم تكن المخطوطات التي أقام عليها السّارد رواية الأسرار كلّها سوى سخرية لاذعة؛ فقد أنكرت زوج عالم الآثار أن تكون قد وجدت مع زوجها في سيّارة الجيب مخطوطات. وهو ما يعني أنّ الرّواية في آخرها تكذّب أوّلها، وتُشهِد شخصيّاتِها وقرّاءَها على أنّها تخييلٌ محضٌ. وهو ما يشكّك بالتالي في ما ورد فيها من نصوص مصادر نُسِبت إلى هذا الطرف أو ذاك. فما ادعى السّارد أنّ عالم الآثار يقرأه من مخطوطات ( الأسرار، ص 32 ) لم يكن إلاّ محض وهم.
ولعلّ تعامل النّصّ النّاسخ مع النصّ المصدر وهو يتراوح بين النسخ والاقتباس والمعارضة والتّحريف الهزليّ يقتضي اتخاذ علامات خاصّة ترسم له حدودا فاصلة بينه وبين النصّ المضمّن متى كان التّضمين هو الميسمَ الغالبَ عليه. فمثلما تلفت الواقعيّة النّصّيّة الأنظار بكثافة حضورها يلفت الشكل الذي يتعامل به النّصّ النّاسخ معها الانتباه أيضا. فهي قد تأتي مكتوبة بالبنط الغليظ تمييزا لها من خطاب السّارد الأوّليّ. من ذلك أنّه بمجرّد ما ادّعى السّارد أنّ عالِم الآثار في الأسرار بدأ يقرأ حتى غيّر في طبيعة الحرف، فإذا الفصول المكتوبة بالبنط الغليظ جميعها أو هكذا به يوهم هي قراءة محض، ومن ثمّ هي نسخ لما في المخطوطات. ولكنّ شيئا من هذا لم يقع إذ – كما أشير سالفا – نفت الرّواية في آخرها عنها طابع النسخ هذا. وقد ادّعى السّارد – في الحقيقة – ما ادعى قصد الإيهام بواقع الحدث، ولكنّها فرصة بالنسبة إليه كي يقدّم نموذجا للواقعيّة النصّيّة فريدا.
وقد يلجأ هذا الصّنف من التّطريس إلى كتابة ما تضمّنه بين معقّفين كما لو كان ذلك تخفّفا من ثقل ينوء به السّارد؛ إذ سرعان ما يواصل كلامه؛ وبين العبارة المضمّنة والأخرى، يسترجع الكلمة فيظهر التّضافر النّصّيّ بمثابة الخطاب المباشر discours immédiat، إذ يتطاول النصّ المصدر على النصّ النّاسخ فيظهر عنوة، لكنّ الآخر يروّضه فيضعه مُعلَما بمعقّف من أمام وآخر من خلف . إلاّ أنّ أبرز ما يلفت الانتباه في ظهور التّطريس في روايات درغوثي هو الفضاء النّصّيّ أو التّشكيل البصريّ. وقد انتبه إلى ذلك محمّد النّاصر العجيمي في دراسته المشار إليها آنفا عندما تكلّم على التّفضية . ولعلّ ما به يعلن السّارد عن إيراده نصّا من خارج، تصرّفُه في الفضاء النّصّيّ بحيث يبدو للناظر قبل القارئ أنّه يعلن عن نفسه. فهو يكتب الشّعر العموديّ الموزون المقفّى على غرار ما يكتب شعراء التفعيلة شعرهم، تطول أسطرهم وتقصر، ويبدأ السّطر النّثريّ في وسط الصّفحة لئلاّ ينتهي في آخرها، وإنّما يتخذ منها الوسط، فتظهر مساحة من السّواد في المركز تحفّ بها من أعلى ومن أسفل مساحة بيضاء عريضة. وقد لا يرد، في السّطر الواحد، سوى كلمة واحدة . وإذا كان ما يميّز الشّعر المضمّن من النّصّ النّاسخ كتابته على غرار قصيدة التّفعيلة؛ فما يميّز النّثر كتابتُـه في أسطر قصيرة لا تتجاوز فيها الكلمات الثلاث أو الأربع. وتخفّف الصّفحة من السّواد يقرّب النّصّ/الرواية من الشّعر كما يظهر في المجاميع الحديثة. ولا تتميّز في ذلك رواية من أخرى، فكلّها في الفضاء النصّيّ سواء. فما ورد من استهلال معلّقة عمرو بن كلثوم في شكل مقاطع لا أبيات سرعان ما تلاشى لِـيُـكتَبَ البيتُ كلمة في كلّ سطر (الدراويش، ص ص 72-73) . وهذا شكلٌ من نثر المنظوم ونظم المنثور.
ولعلّ الميل إلى إعادة التّشكيل البصريّ داخل النّصّ/ الرواية لا يعني فقط تمايزا بين نصّين مصدر وناسخ، وإنما هو يعني رغبة في تجديد الكتابة السّرديّة في وقت تقترب فيه الحدود بين الأجناس وتزول بين صنوف القول. وهو ما يجعل للتّطريس غاية يطمح إلى بلوغها، وهي تبديد القول بمحاكاة اللغة الواقع المعيش لإثبات أنّ اللغة لا يسعها أن تحاكي إلاّ اللغة فيكون بذلك واقعيّة نصّيّة حقًّا. وفي هذا الحيّز وحده، تتمّ اللعبة كلُّـها من التقاء نصوص قديمة وحديثة، ونصوص عربيّة وأجنبيّة، ونصوص مقدّسة ودنيويّة، ونصوص ذاتيّة وأخرى مغايرة. وحيثما تظهر هذه النّصوص تقتضي وظيفة ذريعة لورودها. وقد يكفي موقعها للإيحاء بدلالتها؛ كما أنّ سوقَـها هنا أو هناك يكون لها بمثابة المنشّط إلى الـتّعليق عليها أو استدعاء نصوص أخرى ما كان بالإمكان حضورها لولا الانسياق مع التّوفيق الذي تفرضه. وحضور نصوص سلفت ذُكِرت أو لم تُذكَر، أُنجِزت فعلا أو هي في طور الإنجاز، لا يمكن أن تظلّ على حالها، ولا بدّ لها من أن تشهد تحويلا أبسطُه النسخ والمحاكاة وأعقدُه التّحريف الهزليّ مرورا بالاقتباس والمعارضة. وأياّ ما يكن الجنس الأدبيّ الذي يغيّر طبيعتها ويصهرها في صلبه، فهي تظلّ تزاحمه إذ تشعر، وهي تفقد هويّتها، بالضّيق، فيروّضها السّارد الجديد ويضع لها علامات يؤطّرها بها، وكأنّه بذلك يحدّ من تطاولها.

II.موضوعات التّطريس
تستدعي الواقعيّة النصّيّة في النّصوص التي تتنـزّل فيها اختيارا لدى السّارد الواقعيّ واعيا أو غير واع لنصوص قرأها فآنس في نفسه ميلا إليها وشغفا بها. فاستلهام هذه النّصوص التي مضت يستوجب أن يكون البحث عن الواقع إراديّا. أمّا ما يمرّ من النّصوص دون إحالة عليه ولا تنبيه إليه شأن رسالة الغفران مع القيامة... الآن والأغاني مع الأسرار، فقد امتصّه السّارد ثمّ تمثّله وأصبح الخطابُ السرديُّ فيهما جزءا لا يتجزّأ من خطابه . وقد لا يكون السّارد الواقعيّ مطّلعا على هذه النّصوص وجوبا، وإنّما قد يكون للقارئ الذي له بها سابق معرفة أن يفترض اطّلاع السّارد عليها. وبذلك يصبح التّطريس لا شأنا خاصّا بالباث وحده، وإنّما قد يكون للقارئ نصيبٌ في تأسيسه. وكلّما كان اطّلاع القارئ أكبر، كان اكتشافه للنّصوص المخزونة أيسر. وأيسرُ من ذلك بالطبع تصريح السّارد، لسانِ حال الكاتب بمصادره. ولكن حتى في هذه الحالة، لن تبقى النّصوص المصادر على حالها، بل سيداخلها تحويرٌ وتحويلٌ يستحيل معهما على المسرود له أن يميّز بين ما كان أصلا، وأصبح فرعا. وحرّية سارد النصّ النّاسخ في التّصرّف في النصّ المصدر تعود إلى أنّه ليس مطالبا بما يطالَب به الباحث الأكاديمي من دقّة في النّقل وصرامة في البحث لأنّه إنّما ينشئ نصّا إبداعيّا ميزته الرّئيسة أنّه يُكتَب على غير مثال سابق ويتغيّا خرقا للسّائد الأدبيّ والمؤسّساتيّ على حدّ سواء. هذا، إذًا، هو المفترَض في نصّ سرديّ يُبتَدع، لكن هل هذا هو شأن النّصوص السّرديّة جميعِـها؟
ولئن كانت الواقعيّة النّصّيّة قديمةً قدمَ الإبداع الأدبيّ، فقد شهدت في العصر الحديث نموّا متزايدا عندما تخلّت عن أن تكون رجع صدى لنصوص سبقت تمثّل في نظر الإنشائيين الأدب الرّفيع أو الأدب الرّسميّ، لتعلن عن وجود عينيّ لنصوص سابقة ضمن النّصّ النّاسخ. ولعلّ المبادر إلى هذا الصّنيع الدّادائيّون والسّرياليّون في الغرب، عندما أسّسوا حركتين فنّيّتين رافضتين، وبادروا بتقويض كلّ أشكال النّظام والتّقاليد المـنطقيّة والأخلاقيّـة والاجتماعيّة عارضين قيم الحلم والغريزة والرّغبة والتّمرّد، في التّعبير عن”الاشتغال الحقيقيّ للفكر “ . وقد استعملوا لهذا الغرض ما بدا وقتها نشاطا لَـعِبِـيًّـا، وهو الإلصاق (Collage) والتركيب (Montage). وقد أحيى صنع الله إبراهيم هذه النّزعة في التّقليد العربيّ في بيروت، بيروت وفي نجمة أغسطس عندما وردت الواقعيّة النصية محاطةً بخطّ من أعلى ومن أسفل في طبعة، ومكتوبةً بحرف مغاير في طبعة أخرى. وإذا استهدف كلٌّ من السّرياليّين وصنع الله إبراهيم السّخرية من النّظام، فقد كان هدف مجموعة من الرّوائيين العرب الآخرين – ومن بينهم إبراهيم درغوثي – الإسهام في تأسيس شكل للكتابة السّرديّة يحيي أجناسا سرديّة وأدبيّة تراثيّة ويخلّص الرّواية العربيّة من هيمنة الأنموذج الغربيّ. ولكن هذه الرّغبة في التّأسيس النّوعيّ لا تنفي انخراط درغوثي في التّصدّي للسائد وتقويضه. وأبرز ما يظهر عليه استدعاء الواقعيّة النصّيّة في رواياته البحث، في مظانّ الكتب، قديمها والحديث، عمّا يتصدّى للثالوث المحرّم الدينيّ السّياسيّ الجنسيّ.

II. 1- المحرّم الدّينيّ
يجمع السّارد في هذا المحرّم بين ما يرد في القرآن والسّنّة وكتب الأخرويّات التّراثيّـة، يستقي منها ما يتناسب وموضوع قيام السّاعة للتعبير عن القيامة...الآن. وإذا كانت آيات القرآن مما يعلَـن عنه، فإنّ أحاديث النبيّ تتخذ أشكالا متباينة، فهي حديث نبويّ تارة ( القيامة...الآن، ص 91 )، وهي حديث ثانية ( ص 103 )، وهي منسوبة إلى أبي هريرة تارات ( ص ص 41-42 على سبيل المثال ). أمّا كتب التّراث وما يتعلّق فيها بقيام السّاعة فللقتبيّ والثّعالبيّ والماورديّ والغزّاليّ منها نصيب ( ص 22 وص 23 وص 50 ). واختيار السّارد من النصّ التأسيسيّ والنصوص المفسّرة، ما يخدم موضوعه يعني أنّه يسوّي بينها وبين النّصوص الدنيويّة العديدة الأخرى. فكونها هي وغيرِها نصوصا مصادر لنصّـه الناسخ أبرز مظهر لتطاوله على المحرّم الدّينيّ. لكنّه، لِـوعيِـه بأنّ ذلك قد يُشكِل على المتقبّل يلجأ إلى حيل بها يداري تطاوله هذا. لذلك يلحّ على التمييز بين الحديث النبويّ، والحديث، وما يقوله أبو هريرة. ومعظم ما يستشهد به من آراء تتعلّق بالإسكاتولوجيا، منسوب إلى أبي هريرة، ربّما لكونه اشتهر بضعف أحاديثه بل ووضعها. غير أنّ هذا الإصرار على التمييز بين الموضوع والصّحيح من الحديث لا ينفي التّطاول على المحرّم الدّينيّ. وأبرز ما يتّضح ذلك في ادّعاء السّارد تنـزيهه الله عن أن يكون كما يصفه المشبّهة، ينـزل في الظلام من الغمام، يسبّح الملائكة من حوله. لكنّه، وهو يعيد إنتاج المشهد كما ورد على لسان أبي هريرة يخرج به عن الصورة المقدّسة إلى صورة السلطان يحيط به زبانيتُه يسبّحون بحمده.
وتدنيس المقدّس وادّعاء التـنـزيه وسيلتان يحقّق بهما السّارد هدفه، الإزراء بالدينيّ، وتفصّيه من مسؤولية هذا الإزراء، ما دام الكلام المتطاول كلّـه واردا على لسان أبي هريرة ينقل ذلك عن رسول الله ( القيامة...، ص ص63-64 ). كما يتضح هذا التطاول في التجسيم، وهو تحوّل العبارة كائنا حقيقيّا كالدابّة التي ورد ذكرها في الآية الثانية والثمانين من سورة النمل، تطارد الناس وتسم بخاتم " سليمان بن داود " الكفّار وتجلو على وجه المؤمنين بعصا " موسى بن عمران " ( القيامة...، ص ص 22-23 ). وربما يكون هذا التّجسيم مما داخل النّصوص التّراثيّة من إسرائيليّات روّجها القصّاص نظرا إلى ما فيها من عجائبيّ يلذّ للجمهور سماعُـه، لكنّه، في المنظور السّنّيّ، مما يُستقبَح ذكره. وأن يلحّ عليه السّارد، فللتطاول على المقدّس من ناحية ولخدمة الأثر الفنّيّ من ناحية أخرى. ولعلّ انتماء التجسيم إلى الإيهام بالفانتاستيكيّ نظرا إلى توفّره على الهلع يصيب الشّخصيّة والسّارد والمسرود له معا، هو الذي يحقّق التّحوّل من النصّ المصدر إلى النصّ النّاسخ. ومما يعزّز هذه الرغبة في الإيهام بالفانتاستيكيّ أو بأحد جنسيْـه المجاورين العجائبيّ والغرائبيّ إصرار السّارد على عدم الانضباط إلى ما أقرّه الإنشائيّون عند حديثهم عن الأجناس الثلاثة هذه، من استثناء المعجزات الدينيّـة. فإبراء عيسى بن مريم المرضى يتجسّد في النصّ الناسخ حاويا هو الأعور الدجّالُ ينشر فتاة ثمّ يعيدها صورتها الأولى ( القيامة...، ص ص 20-21 ). وبذلك يسوّي السّارد بين المعجزة الإلهيّة وفعل السّحر البشريّ.
وإذا كان المتحكّم في اصطفاء النصوص المصادر كي تحلّ من النصّ الناسخ محلاّ معلّى هو خضوعها لموضوعه فقد مال السارد إلى البحث عن النصوص الدينيّـة ذات الصلة المتينة بالتعذيب. وقد توفّرت السُّنّـة على كمّ هائل من الأحاديث التي تصف عذاب الجحيم ( القيامة...، ص 107)، وجد فيها السارد ضالّته. فهل قصرت مخيّلته عن تصوّر أشكال للتعذيب يمارسه البشر الآن وهنا فاستقاها من النّصوص الدّينيّة؟ أليست المبالغة في نسبة أصناف التّعذيب المتعدّدة إلى الحديث شكلا من أشكال التطاول عليه؟ فليست هذه الأحاديث منسوبة إلى أبي هريرة كي يتخلّص منها، ولا هي منسوبة إلى السّارد ذاته. وحتّى إذا اعتبرت مسألة السّند ثانويّة، فإنّ انتقاء أحاديث تتكلّم على التّعذيب وتجميعَـها في فضاء نصّيّ واحد، هو الرّواية يبشّع صورة الدّين وينفّر من الإيمان به. وعلى النقيض من هذه الصورة البشعة للجحيم، ترد على لسان الرسول صورةَ‎ُ‎ٌ أخرى مرغّبةٌ، هي صورة النّعيم ( القيامة، ص 99 ). وأوّل ما يتبادر إلى ذهن المتقبّل لدى قراءته النصّ التساؤل عن مدى صحّته وعن حقيقة نسبته إلى الرسول. أهو من كتب الصّحاح أم من كتب السّيرة أم مما وُضِع عن النبيّ إذ كان الرسول فيه يباهي بما يمنحه الله عباده الأتقياء من طاقة ليبيدية لا تمارى. إلاّ أنّ السّارد، وهو يتوقّع من المسرود له هذا الرّدّ، يخفّ إلى البرهنة على أنّه جادٌّ بعرضه رواية عن يحيى بن معاذ؟ ! يسوّي فيها نسبيّا بين النعيم والجحيم مادام المرء فيهما مخلّدا، وهو ما تضيق به النفوس ولا تحتمله القلوب ( القيامة...، ص 92 ). فمن يحيى بن معاذ هذا، هو ليس من رواة الحديث، ولا ممن خلّد التاريخ ذكرهم إن عدلا وإن تجريحا، إنّ وقوفه ندّا للقتبيّ وأبي هريرة، بل وللقرآن والحديث يجعل منه شخصية في النصّ النّاسخ فاعلة. ومادامت كذلك، فهي تعزّز بما تُـعـلِّق به، موقفَ الإزراء بالدينيّ والتطاول على المقدّس. وإذا كان السارد في القيامة...الآن قد برهن على هذا التطاول على مستوى العبارة المنسوبة إلى النّصّ التّأسيسيّ ولنصوصه المفسّرة، فإنّه قد عمد في الأسرار إلى الوقائع يصطفيها مما كان يأتيه الزّنادقة، يُـحِـلّه من نصّه الناسخ المحلَّ الأرفعَ. ذلك أنّ اختيار السارد الوليدَ بنَ يزيد، في تقواه وورعِـه، وفي عربدتِـه وزندقته، شخصيةَ ما أوهم بأنّه نصُّـه المصدرُ، وتركيزَه على الجانب الثاني منه بالذّات، إنّما هما اختيار غير بريء. وتشديدُه على ما أتاه من تطاول على الدّين أوامرَ ونواهيَ، بل وعلى المصحف ذاته يعلّقه ليقطعه بـنشّـابه إربا تنكيلا به ورفضا لوعيده وتهديده ( الأسرار، ص 117 ) إنما هو تطاول من النصّ النّاسخ ذاته على المقدّس. ولكن هل هذه هي غاية سارديْ النّصّـين؟ كلاّ، إنّ همّ السارد الرّئيس في القيامة...الآن هو تحويل الأنظار عن القيامة إلى الآن، وعن العذاب الأخرويّ إلى العذاب الدّنيويّ، وعن تعذيب الزّبانية إلى تعذيب الجلاّدين. وهمُّ سارد الأسرار الكشف عن سِـيَرٍ حرّم التّقليد التداول بشأنها إذ نسب فعل من يأتي صنيعَ المترجَم له إلى الكفر والزندقة موجبا إخراجه من الملّة إنكارا لحقّـه في الاختلاف وإجبارا له على الرؤية الواحدة.

II. 2 – المحرّم السّياسيّ
يلجأ السارد إلى نصوص مصادر بعينها يطوّعها لخدمة نصِّه الناسخ؛ ومتى كان بين نصِّـه المزمع إنشاؤه والنصّ المصدر تصادٍ وائتلاف في الرؤية كان الأمر أيسر، أمّا إذا كان بين النصّين تباينٌ عرّض وورّى. فللقيامة صلة بالأخرويات فيها – كما في المتصوّرات الدينيّة – الحساب والعقاب. ولكن هذه القيامة بعيدة عن التحقّق اليوم، وقد يقرأ لها الناس حسابا، فيزهدون في الدنيا ويخشعون لله، وكثيرا ما لا يقرؤون فيتهافتون على اللذّات ويسيئون إلى غيرهم في سبيل تحقيق مآربهم وقطع دابر كلّ من يقف في طريقهم حجر عثرة. وتحويلُ السارد هذا المفهوم مما هو أخرويّ إلى ما هو دنيويّ يقتضي منه تحويلا في الدّلالة. فإذا كانت الدلالة الإيحائيّة للقيامة حسابا وعقابا، فهي، في الدنيا، عذابٌ وثبور. وإذا كان المؤهّل للحساب والعقاب، والذي لا يهضم حقّا و لا يعتدي، هو الله، فإن الذي يعذّب في الدّنيا هو الحاكم وأعوانُـه. وعندما يسود هذا المفهوم المعدول عنه للقيامة ليتعلّق بالآن توظَّف كلّ الوسائل الأخرى المحقّقة هذه الغايةَ؛ ومن بينها الفزع الذي ينتاب الإنسان من قيام السّاعة. فهو يصبح فزَعا من أشكال التعذيب يوقعها الجلاّدون بمن يخالف سادتهم الرّأي (القيامة...، ص ص 39-40). وإذا ظلّت دلالة القيامة التصريحيّة قائمة في ذهن المتقبّل لا يتحوّل عنها، يسعى السّارد إلى تبديدها عبر التركيز على الشّقّ الثّاني من العنوان، وهو الآن، وعبر الإيهام بالفانتاستيكيّ مستحضرا نصوصا أخرى حديثةً لا علاقة لها بالإسكاتولوجيا كدراكولا ومصّاصي الدّماء (القيامة،ص 47). وما اللجوء إلى هذا التمويه إلاّ شكل من أشكال التبعيد، والقصد واضح؛ مما قد يوهم بأن للنصّ النّاسخ، وهو يُحِلّ التّناصّ محلَّه منه، ظاهرا وباطنا. و قد لا يلجأ السارد إلى التلميح، بل إلى التصريح شأنه عندما أورد مجلس أنس للوليد بن يزيد غنّى فيه أشعب مقطوعة جنسيّـة فطرب الأمير حتى كفر ( الأسرار، ص ص 100-101 ). إنّ اندراج هذا المقطع السّرديّ في النصّ النّاسخ لا يتغيّا منه السّارد إيفاء المسرود له بما كان يدور في قصور الخلفاء من مجون وعربدة، فهذا مشهور، وإنّما همُّ السّارد من وراء ذلك إقامة صلة ما بين ما وقع أمس وما عسى أن يقع اليوم، هذا إن وقع فعلا ما وقع. فالنصّ النّاسخ، إذ يهضم النصّ المصدر، يفقد هذا دلالتَـه الأصل لأنّه يحلّ في مقام وسياق لم يكونا له أصلا؛ وإلحاح السّارد على مظاهرَ بعينها يعني أنّه يلفت الانتباه إليها، فيصبح التّطريس وحده ناطقا ويتحاشى النصّ الناسخ المباشرة. ولذلك ترى السارد يعمِد إلى السلوك النمطيّ يعلنه كالفضاعات التي تحصل إبّان التّعذيب ( الأسرار، ص 47، والدراويش، ص 8) والتخلّص من الأعداء السّياسيين بـقتلهم وهم في السّجن ( الأسرار، ص48 ) وأشكال التعذيب النّفسيّ الذي يُلحِـقه المحقّقون بمن يخالفون الحاكم الرّأي ( القيامة، ص 44 ). ولعلّ بناء القيامة...الآن على معارضة الآن...هنا يشي بهذا التواشج لا بين النصّيْن بل بين الموضوعين مع تعديل كبير واضح هو ضرورة الإقلاع عن انتظار القيامة للاقتناع بأنّها حالّـة بعدُ.
وقد سعى السارد في نصّه النّاسخ إلى إيلاء مجموع ما كُتِب عن الآخرة في النصّ التأسيسيّ وفي النصوص المفسّرة له الأهميّة الكبرى؛ بل ذهب إلى حدّ المطابقة بين نصّـه وبينها. فقـسّـمه إلى أجزاء أربعة هي علاماتُ القيامة، والبعث والنّشور، ونعيم الفردوس، وأبواب الجحيم. وهذه الأقسام لا تتناسب والقيامة في المنظور الإسلاميّ فقط بل تتطابق أيضا مع المنظور الإسكاتولوجي الفرديّ والكونيّ في آن معًا . غير أنّ هذه المماهاة ليست سوى تورية عمّا يبغي السارد توكيده، وهو حصول القيامة الآن. فليس الضّيم الذي يلحقـه الحكّام بـمحكوميهم مقصورا على التّعذيب، وإنّما هو يتجاوزه إلى مراقبتهم وبثّ العيون في الأمصار تلتقط عليهم أنفاسهم. ولهؤلاء المراقبين تسمية راجت منذ الزيني بركات لجمال الغيطاني هي البصّاصون؛ وقد أصرّ السارد على استعمالها، رغم ما قد يداخلها في التّعبير التّونسيّ من دلالة إيحائيّة تخرج بها عن دلالتها التّصريحيّة في التّعبير المصريّ ( الأسرار، ص 67 ). وإذا كانت المراقبة والتعذيب والقتل حتّى، مما يبرّره الحكّام نظرا إلى أنّهم يخافون على أمن الدولة من الانهيار، فإنّ عموم المحكومين لا يسلَمون من خنق هم أيضا، عندما تُرهَق كواهلهم بالضّرائب تُملأ بها خزائن الدولة ( الأسرار، ص 60 ). وهل بوسع الحكّام تمرير سياستهم تلك، لولا إحاطتهم أنفسَـهم بالمؤيّدين والمصفّقين، يغدقون عليهم الأعطيات ليجدوا منهم إبّان كلّ خطبة تأييدا ومناداة بأسمائهم ودعاء لهم (الأسرار، ص ص 64-65 )؟ وهل يخلو مجتمع من مثل هؤلاء؟ ومتى نسب سارد النصّ الناسخ هذا إلى الوليد بن يزيد مثلا، لم يكن ذلك منه سوى تمويه لأنّ تعريضه صريح. فالتقاط السارد الأخبار المنبثّة في هذا النصّ المصدر أو ذاك، تتخذ في نصّـه النّاسخ سمة الواقعيّة النصّيّة مباشرة، تارة، تورية تارة أخرى، لا يمكن إلاّ أن يكون كاشفا وجهة نظره، ومعبِّرا عن تطاوله على المحرّم السّياسيّ، بل يفرضها الاعتبار الفنّيّ، إذ التّضافر النّصّيّ، وهو يخدم نيّة السّارد، لا يمكنه إلاّ أن يُذوَّب في صلب النصّ الناسخ. وقيمة هذا النصّ في نفي البعد المباشر عنه لأنّه كلّما أوحى ولمّح كان أفعل. والتّطريس يلعب، في هذه الحال، دورا مزدوجا هو التبعيد والتّقريب في آن معًا. فمن شاء أن يرى فيه استعارة تمثيليّة ( ألّيغوريا ) كان له ذلك، ومن شاء أن يرى فيه تعبيرا صريحا عن الآن وهنا، أمكنه ذلك أيضا.

II. 3 – المحرّم الجنسيّ
لعلّ أكثر ما تطاول عليه الإبداع الفنّيّ في تونس هو المحرّم الجنسيّ لما في المحرّمين الدّينيّ والسّياسيّ من مخاطر يربأ المبدعون بأنفسهم – مهما تحاشوا المباشرة – عن أن يتورّطوا فيها. ولئن لم تخل روايات درغوثي من مثل هذا المحرّم، فإنّ المطلوب هو البحث عنه في إطار الواقعيّة النصّيّة. فأن يرد الكلام عليه في خطاب السّارد الأوّليّ، بقصد بلورة العالم القصصيّ، متوفّر، ولكنّه، في ما يتعلّق بالواقعيّة النّصّيّة، أضأل حضورا من سابقيْه فالسارد قد يكتفي حينا بالإحالة في الهامش على نصّ جنسيّ مشهور وليمرّ سريعا، شأنَـه مع الليلة الثّامنة عشرةَ من الإمتاع والمؤانسة (القيامة، ص35)، وقد يتبسّط حينا آخر، شأنَـه مع الحديث عن عربدة الوليد بن يزيد في مجالس أنسه، ويصبح آنذاك الكلام الجنسيّ بمثابة العملة الرّائجة ( الأسرار، ص ص 100-103 ). ويُعِـدّ السّارد لذلك العدّة فيدّعي أنّه قد تسنّى له، ساردا شخصيّة، منقّبا عن الآثار، أن يحصل على صنـدوق به مخطوطات، أو هكذا به أوهم؛ ويقتضيه واجبه أن يفيد مما استفاد؛ وهو ما يجعل النيّة من التّنقيب لا اكتشاف معلَم أثريّ متوقَّع أو غير متوقَّع، بل الكشف عن نصوص محرّمة يقرأها القرّاء مثلما يقرؤون غيرها. وقد يتكلّف الإشارة إلى القراءة كلّما عنّ له إيراد مقتطفات من نصوص تليدة قد لا تتسنّى للمسرود له فرصة الاطّلاع عليها. وهو ما فعله في الشبابيك عندما تحدّث عن قراءته ما احتوته مكتبة الأسرة العامرةُ بكتب التّراث (ص ص27-28). وهو في الحالتين، منقّبا أو قارئا، أوّل القرّاء مادام قد نقل النّصّ المصدر وأحلّـه من نصّـه النّاسخ محلَّ الواقعيّة النصّيّة تسهم مع غيرها من الواقعيّات الوصفيّة والرّمزيّة في إنتاج الدّلالة.
ولعلّ ما يثير انتباه المسرود له إصرارَ السارد على إيراد هذه النّصوص بعينها وهو يعلم علم اليقين أنّ الرّقابة تستهجنها وتمانع في صدور النّصوص التي تحويها . أفيبدي تطاولا على المقدّس لِـيُـعليَ من شأن المدنّس أم هو يصرّ على إيفاء متقبّلِـه بما يراه ممتنعا عنه؟ ويحار هذا المسرود له أيضا إزاء النّصّيّة النّاسخة، لِم جاءت في المحرّميْـن الدينيّ والسياسيّ أوفر مما جاءت في المحرّم الجنسيّ؟ وإذا ما استبعَد الخـجـلَ مبرّرا إذ الإباحيّة في النّصوص طاغية، لا يسعه أن يفسّر ذلك بشحّ النصوص المصادر بمثل هذا المحرّم، فهي به غنيّةٌ غناها بالمحرّمين الآخريْن. لكنّه قد يرتاح إلى أنّ النصّ الروائيّ لا تؤسّسه واقعيّة واحدة، بل واقعيّات، وإذا ما رجحت كفّة إحداها في نصّ خفّت وجوبا في نصّ آخر. ولعلّ خفوت صوت السياسة والدّين نسبيّا في الشبابيك قد عوّضه حضور الجنس بشكل لافت للانتباه. وإذا ما هيمنت الواقعيّة النصّيّة في القيامة والأسرار خفّ أثرها في الشبابيك والدّراويش بل قل تحوّلت الواقعيّة النّصّيّة إلى معارضة بله تحريف هزليّ.
وأيًّا ما يكن الجنس الأدبيّ الذي يمتصّ المتناصّ ليتجاوزه، فإنّه لا يدلّ على أنّ السّارد يستخدمـه عابثا فحسب أي محوّلا الرّفيع إلى وضيع، وإنّما هو يستعمل هذا الجنس الأدبيّ أو ذاك قصد تسريب الفكرة التي يبغي تسريبها سواء كان في ذلك تطاول على المقدّس أو لم يكن. ولا يني السّارد ينبّه المسرود له إلى أنّه قد يبدو متهكّما مزريا بالقيم الأجناسيّة والمؤسّساتيّة؛ فهو كثيرا ما يبدي اعتذارا عن زلّة لسان وقع فيها هو أو إحدى شخصيّاته، شأنَـه مع عالِم الآثار يعتبر أنّ عقبة ابن نافع غزا بلاد إفريقيّة ( الأسرار، ص 19 ). وإذ يتراجع، ينبّه المسرود له إلى أنّه قد تعمّد التّطاول في القول. ولو لم يفعل، لكان انتباه المسرود له مشكوكا فيه، إن لم يكن منتفيا تماما. وشأن السارد في الأسرار شأنه في الدراويش عندما حمله الجريُ وراء السجع والوزن فـزلّ لسانه: جِمالٌ مذبوحة. / ورجالٌ مذبوحة. / عفوا! غلّطني الوزن! / عذرا مرّة أخرى ! / جعلني الوزن أغلط ! (الدراويش، ص ص 70-71 ). إنّ عودة السّارد، وهو يرى قصّة الوليمة في حِيرة المنذر بن النّعمان، إلى الخطإ والاعتذار، إنّما هي مخادعة وتضليل. وهو، إذ يفعل ذلك، يُصِرّ على أن ترسخ الفكرة في الذّهن. وإذا ما ربطنا هذه الزّلاّت يُـعتذر عنها بالتّطريس يَـتّخذ له سَمتًا محدّدا أصبح من غير المشكوك فيه أنّ السّارد جادٌّ غير عابث، مهموم بفكرة يريدها أن تبلغ من يريد أن تبلغهم. ولا تتوقّف مناورته عند حدّ، فهو يدّعي أنّه يخاف القلم والقرطاس ( الدراويش، ص 7 ) وأنّه بطبعه رجلٌ جبانٌ يكاد يخاف من ظلِّه في بعض الأوقات ( نفسه، ص 8 ). وكلّما ألحّ على ادّعاء البراءة والعجز زاد تورّطه. وأبرز مظهر لتورّطه اصطفاؤه نصوصا بعينها. فهو إن لم يعلن عن مواقفه صراحةً، لم يجد المسرود له عسرا في اكتشافها، وإن ضلّل لم يجد منه أذنا صاغية. ولعلّ ذلك هدفٌ يتغيّاه السّارد من وراء صنيعه ذاك.

III. غائيّـة التّطريس
لا يخلو ميل درغوثي إلى تخصيصه للتّضافر النّصّيّ من نصوصه النّاسخة حيّزا كبيرا من دلالة نبّه إليها محمّد الناصر العجيمي في مقاله. ولعلّ ما أشار إليه هذا الباحث من تجريب في الكتابة السّرديّة على أنّه من تحصيل الحاصل هو المقصد الأبرز من مثل هذا الصّنيع. فالكاتب وهو يتخيّل عالَمه الرّوائيّ ويوكل إلى سارد بعينه أمر تنفيذه، لا يني يؤكّد حضوره الموارب وراء هـذا السّـارد أو ذاك. فإذا كانت الواقعيّة الوصفيّة تقتضي من ذات التّلفّظ الامحاء ما أمكنها ليكون الخطاب الذي تتوجّه به إلى المتقبّل واضحا جليّا، فإنّها، باستعمالها الواقعيّة النصّيّة تلتفّ على هذا الاقتضاء بل تضرب به عرض الحائط. فإيراد حكاية للجاحظ هنا وكرامة لدرويش هناك وقصيدة لكفافي هنالك إنّما هو دليل على أنّ الكاتب ينتقض على دور التّخيّل المناط بعهدته ليحقّق لأناه جانبا مما تحتاج إليه من الاعتراف بها. ومَن أولَى بتلبية هذه الرّغبة غيرُ الذّات نفسها؟ ألم تبذل جهدا شديدا في القراءة والنّبش في الوثائق، حتّى إذا امتلأت بما تحويه، تسنّى لها أن تضمّنها في هذا النّصّ أو ذاك؟ (الأسرار، ص 127 ). والميل إلى تقديم جرد بالكتب في هذه الرّواية أو في تلك ليس مجّانا، وإنّما هو لتوكيد الذّات الكاتبة، من خلال السّردة الموكول إليهم مهمّة الكلام، أنّها تستحقّ التّقدير لأنّ النّصّ النّاسخ الذي امتصّ النّصوص المصادر وتمثّلها، ما كان بإمكانه أن ينجَز لولا هذا الجهد. وإذا كانت مشاقّ الكتّاب في إعداد رواياتهم قديما يُـتحدّث عنها في مجال النّصّ الموازي، فإنّ الرّواية اليوم عموما، ورواية درغوثي خصوصا، تفرض أن يكون ذاك في صلبها هي بالذات إن في شكل حكاية واصفة Metafiction ، وإن في شكل واقعيّة نصّيّة ( الدراويش، ص 56 ). وبذلك، تنتقض الواقعيّة النّصّيّة على الواقعيّة الوصفيّة، مادام ما تتّسم به من شفافيّة الخطاب وانعدام التّشويش عليه لتيسير مقروئيته ، قد رفضته الواقعيّة النصّيّة بحضورها المكثّف في النّصوص بله في النّصّ الواحد. واستعانة الخطاب الواقعيّ ( الوصفيّ ) بوسيط من خطاب آخر منتفية أو تكاد . ولذلك تلجأ الواقعيّة النصّيّة بما هي مماهية للتّطريس، إصرارا منها على استبعاد الواقعيّة الوصفيّة، إلى الاستعاضة عن تحاور الشخصيّات بتحاور النّصوص، ويكتفي السّارد، مثلما هو شأنه في الواقعيّة الوصفيّة، بإحالة الكلمة إلى هذا النصّ أو ذاك. فالحديث المرويّ عن أبي هريرة مثلا، يجاور آيا من القرآن، تجاور هي بدورها نصّا لابن منظور من لسان العرب (القيامة، ص 71 )، محقّقةً بذلك دور الحوار في النصّ الواقعيّ الوصفيّ إيهاما بالواقع، وتحقيقا لتواصل مباشر بين النّصوص المتحاورة والقارئ.
ولا يزري التّضافر النّصّيّ بالواقعيّة الوصفيّة في تشويش المقروئيّة وفي حرف الحوار عن دوره الأصليّ فقط، بل هو يعمل على تتفيهها بنفي ما توليه، في إطار هدفها التّوضيحيّ، من أهمّيّة للاسم العلم. فالسّارد / الشّخصيّة في القيامة...الآن، ظلّ خفيّ الاسم، وإن كان بينه وبين آدم بن آدم الآدميّ شبه بل مطابقة؛ فقد أدخله السّلاطين المارستان، ووضعوا على جبينه صفة مجنون، تماما مثلما حصل لآدم؛ وفضلا عن ذلك، لعب آدم في بعض المقاطع دور السّارد. لكنّ الفرق الجوهريّ بينه وبين السّارد الخفيّ الاسم أنّه داخليّ في حين أنّ الآخر خارجيّ. فهذا يتكلّم على السّابق بضمير الغائب كأن يقول: ” آدم بن آدم ...يلتقي “ ( القيامة، ص 93 ) أو يقول: ” آدم بن آدم ...يريـد “ ( نفسه، ص 96 ). ولعل إبقاء هذا السّارد مغمورَ الاسم، متّفقَ الصّفات مع آدم بن آدم ومع بقيّة شخصيّات الآن...هنا، مشتركَ الصّفات ّ مع المستضعفين، له ما لهم من هوّامات، غايتُه الإشعار بأنّ ما تصرّ عليه الواقعيّة الوصفيّة، يمكن التّخلّي عنه دون الإضرار بمقوّمات الكتابة السّرديّة. أفليس بالإمكان تحقيق الإيهام بالواقع من خلال الاستشهاد بنصوص أخرى ينسخها النّصّ الجديد؟ إنّ استدعاء العطيوي والشهيري وهما آمر السّجن والمحقّق في الآن ...هنا ليتصارعا ويصرع أحدهما الآخر ( القيامة، ص ص 84-85 ) أدّى دور الواقعيّة الوصفيّة والتّضافر النّصّيّ في آن معا، ولبّى للسّارد هوّامه بأن يرى معذّبي الدّنيا يُقتَصّ منهم في الآخرة. وبذلك لا تكون القيامة...الآن مجرّد اجترار لنصوص تتحدّث عن الإسكاتولوجيا كونيّةً كانت أو فرديّةً بقدر ما هي انتقام للمساجين السّياسيّين من أولئك الذين نكّلوا بهم، ولكن بدل قول ذاك مباشرة يقع اللجوء إلى وسيط نصّيّ لتحقيقه.
وعندما تتجاور الواقعيّة الوصفية مع التّضافر النّصّيّ، يؤثّر أحدهما في الآخر، غير أنّ تأثير التّضافر النّصّيّ في الواقعيّة الوصفيّة أكبر لأنّه يفقدها سمتها الممـيّـزة، وهي الشّفافيّة والمقروئيّة. فما أورده سارد الدراويش من موجز لجامع كرامات الأولياء ( ص ص 93-102 ) قد يوحي بأنّ الرّواية جِماع منتخبات من النّصوص الصّوفيّة قديمةً كانت أو حديثة؛ بيد أنّ هذه المنتخبات، عندما تحلّ في الرّواية متناصّا، تفقد سمتها الأصل لتخدم دلالة هي العودة من* المنفى. وعندما يتّضح أنّ هذا الرّجوع غير ذي نفع ولا قدرة على التّصدّي للتّخريب الحاصل، تقع العودة إلى* المنفى ثانية .
ومتى اتضح أنّ بين الواقعيّتين صراعا، فيه يقف السّارد مناصرا التّضافرالنّصّيّ على حساب الواقعيّة الوصفيّة، يتكشّف أنّ هناك تبشيرا بطريقة في الكتابة السّرديّة جديدة. فهي لا تقتصر على صهر النّصّ المصدر في النّصّ النّاسخ فقط، بل هي تقدّم بلاغة جديدة، هي في الأصل قديمة، وهي الجمع بين المنثور والمنظوم. فميل السّارد إلى تضمين نصوصه شعرا ، ومواقف ومخاطبات في وقت يهيمن فيه الخطاب النّثريّ على مدوّنته يشي بالرّغبة في إحياء البلاغة القديمة من ناحية، وفي التّبشير بنفي الحدود بين أصناف القول والأجناس الأدبيّة من ناحية أخرى. غير أنّ الحاصل من عمليّة الصّهر هذه خطابٌ هجينٌ يتناسب وهُجنةَ الرّواية ذاتها، تلك التي بإمكانها استيعاب الخطابات المختلفة. ولعلّ استدعاء الفانتاستيكيّ وما يتمخّض عنه من عجائبيّ غالبا وغرائبيّ لِماما، يسهم في استكمال أوجه هذا الجنس الهجين الوليد. فهو يجمع من أصناف القول المتنافر، ومن أجناس الأدب المتباعد بما يحقّق للنّصّ غِناه من حيث الأجناس، ففيه الأسطوريّ، والخرافيّ، والعجائبيّ، والواقعيّ، والتّاريخيّ ناهيك عن المقدّس والمدنّس، كلّ ذلك في خلطة واحدة، تقبل بها الرّواية وتستوعبها لأنها قدرت على أن تخلق ما يُدعَى بالمحتمل الفنّيّ le vraisemblable. فلم يكن همّ الرّواية أن تتخذ لها سمتا معيّنا بحيث يهيمن جنس بعينه أو صنف قول بذاته، وإنّما تتراشح الخطابات والأجناس تراشُحَ النّصوص المصادر والنّصوص النّاسخة، وتراشُحَ الواقعيّة الوصفيّة والواقعيّة النّصّيّة. والقول بالتّراشح يعني التّنابذ مثلما يعني التّّجاذب. والمستهدف من وراء ذلك كلِّه إنّما هو القارئ ضمنيّا كان أو واقعيّا يُدعَى إلى تبيّن الكيفيّة التي تمّ بها الصّهر ومدى الإفلاح الذي حقّقته . فالقارئ لا يفيد من التطريس نصوصا أُحيل عليها، وطُلِب منه مطالعتُها فحسبُ، وإنّما هو يُطالَب بأن يرى كيفيّة نسخها النّصوص المصادر أاجترّتها أم امتصّتها أم تجاوزتها؟ ومتى دعت الرّواية المسرود له إلى النّهوض بهذا الدّور، تكون قد حقّقت قفزة نوعيّة في تحويل القراءة من السّلب إلى الإيجاب. فهي إذ تقلّص شفافية الخطاب وتشوّش مقروئيّته، وإذ تنتصر للواقعيّة النّصّيّة لحظةَ صراعها مع الواقعيّة الوصفيّة، وإذ تحقّق محتملا فنّيّا بصهرها المتناقض في المتوائم، تعلن عن ميلاد شكل في الكتابة السّرديّة غير مسبوق.

IV. صورة السّارد والمسرود له:
إنّ الحديث عن حضور التّطريس في روايات درغوثي بكمّ غزير وحسب أشكال وغايات معيّنة للتّعبير عن موضوعات بعينها يقتضي النّظر في صانع هذا كلِّـه أي السّارد. فالخطاب الرّوائيّ لا يستوي نصّا إلاّ متى استُكمِل التّلفّظ ليصبح ملفوظا. والخطاب أو التّلفّظ إنّما هو من مشمولات هذه الشّخصيّة الواصلة المسمّاة ساردا. فبأيّ صورة تظهر في رواية درغوثي؟
إنّنا متى حدّدنا صورة هذا السّارد اتّضحت لنا معالم المسرود له الموجود معه في مستوى واحد. فما من مخاطِب إلاّ ويستهدف مخاطَبا يقنعه بوجهة نظر أو يؤثّر فيه بموقف أو يمتعه بتعبير. وهو إذ يتلفّظ، يقيم ملفوظه على بنية معيّنة تجلب انتباه المسرود له فتحضّه على أن يبحث فيها، كما في غيرها من عناصر الملفوظ الأخرى، عن الدّلالة. فبين طريقة السّارد في الكلام والدّلالة التي يتغيّاها منها علاقة جدليّة تبيُّـنُـها مرتهن بتحليل أبعادها. وأوّل ما يجب التّنبيه إليه أنّ المتن الرّوائيّ، لئن كان في مجموعه لِـمؤلِّف واحد هو إبراهيم درغوثي، فإنّ السّارد لسان حاله، فيه، متغيِّر السِّمات. بيد أنّ هذا التّغيّر لا يعني التّناقض المطلق، وإنّما هو التّغيّر الذي يفرضه اختلاف التّخيّل، عملِ الـمؤلِّف الأساسيّ. فمادامت السّمة الغالبة على الرّوايات الممثِّلة المتنَ حضورَ التّطريس بكثافة، فإنّ التماثل بين السّـردة المتعدّدين أشدّ من التّعارض؛ وذلك لأنّ الصّورة التي يبغون إخراج نصوصهم عليها واحدةٌ أو تكاد. وليس ذلك يعني تكرار نصّ آخر بقدر ما يعني تمييز متن روائيّ من سواه. وقد يشترك ساردان أو أكثرُ في سمة موحّدة، تمثّل هي بذاتها، تقويةً للواقعيّة النّصّيّة مدارِ الاهتمام. فإذا كان السّارد في النّصوص جميعها ذا تجربة ومعرفة عميقتين، فإنّ في ذلك تكريسا للتّصادي بين نصوص درغوثي نفسِها. ومتى كان السّـرَدَة ميّالين إلى العجائبيّ يبنون عليه الرّوايات، فذاك مؤشِّر آخر على التّماهي القائم بينهم مما يجعلهم مفردا في صيغة الجمع. ويصبح آنذاك الكلام على السّارد في روايات درغوثي أمرا مقبولا.
وأكثر ما يلفت الانتباه في السّارد أنّه مماثلٌHomodiégétique في الرّوايات الأربع، ويتّضح ذلك من خلال استعماله ضمير المتكلّم، ولا تعني مماثلته وجوبا مشاركته في الأحداث، بل قد يقتصر فيها على شاهد العيان. وليس بالإمكان الحسم بنسبته إلى هذا اللون أو ذاك، لأنّه قد يشارك فعليّا في الأحداث تارة، وقد يكتفي بالمشاهدة أخرى. وتسعفه مشاركته بأن يبئِّر الحكاية تبئيرا صفرا focalisation zéro، ومشاهدته بأن يبئِّرها تبئيرا خارجيّا focalisation externe وهو السّمة الطاغية عليه في الغالب. ولعلّ مما يفرض هذا النّمط من التّبئير النّصّيّةَ النّاسخةَ نفسَها. فالسّارد الذي ينسخ نصّا، إنّما يتعامل معه على أنّه مُدرَك مرئيّ يقرأه أوّلا وينقله بعدئذ؛ وعندما يحيل الكلمة إلى سارد داخليّ، يتكفّل هو بتسجيل ملفوظه فقط، وقد أدركه سماعا. وهذا ما نبّه إليه درويش عندما دعا السّاردَ إلى النّسخ، على أن يتولّى هو الإملاء (الدراويش، ص 11). وحتّى إذا روى السّارد الدّاخليّ، فإنّه يمارس ممارسة الخارجيّ سواء بسواء، شأن صاحب ستر الخليفة في الأسرار يكتفي بدور الحراسة والمراقبة لما يدور خلف الأستار. ومتى امتنعت عنه رؤية شيء ما سكت عن ذكر ما لا يراه، حتّى إذا عادت الرّؤية ممكنة استأنف تصويره .
وهذا التّواضع المعرفيّ من جانب ذات التّلفّظ لا يعني أنّها، ذاتَ ملفوظ، كذلك. فهي على العكس تماما، ذاتُ اطلاع على التّراث كبير وعلم بما في بطون الكتب قديمها والحديث غزير. ولكنّه التّواضعُ الذي تفرضه الرّغبة في الإزراء بالرّواية التّقليديّة حيث يبدو السّارد كلّيّ المعرفة كلّيّ الحضور. فالسّارد الحديث هو ذاك المؤمن بأنّه لم يؤت من العلم إلاّ قليلا، ولذلك هو يلجأ إلى نصوص تليدة أو طريفة يستنجد بها حتى إذا أفاد منها صهَرَها في نصِّه النّاسخ حتّى لا فصلَ بينها وبينه. وإذا كانت قدرتُه على الصّهر هي التي تكشف عن مدى إبداعه، فإنّ في ذلك غمزا في الرّواية التّقليديّة التي ترفع الكاتب إلى درجة الخالِق مادام يعتبر الكتابة أمرا ميسورا. فمن اطّلع على النّصّ جاهزا بدا له أن لا صعوبة في الكتابة حتى إذا أراد أن يقلّد فيكتب على منوال من قرأ لهم وجد أنّ الرّواية ليست تنفيذا لما وقع بعدُ تجهيزُه، وإنّما هي على العكس، تتمّ لحظة القيام بالكتابة ذاتِها .
صحيح أنّ إشارات كثيرةً ترد في أوّل الرّواية مفادها أنّ الرّواية قد اكتملت – على الأقلّ في ذهن السّارد – ولكنّ ذلك وهم أيضا، إذ الإشارات التي تتجلّى للمتقبّل في مستوى الملفوظ هي من خدع المتلفّظ إذ يقدّم ما يستأهل التأخير ويؤخّر ما يستدعي التّقديم. والسّارد، في ذلك، يتحوّل من دوره ساردا، إلى دور النّاقد يعلّق على روايته ولمّا تبدأْ، ويخاصم شخصيّاتها أو تخاصمه ولمّا يعرفْ المسرود له إلام يعود ذلك . وقد لا يتمّ تعامل السّارد مع نصّه الذي هو بصدد إنجازه، وإنّما يعقده على النّصّ المصدر الذي ينسخه. فهو، إذ يوظّف المتناصَّ لـغير ما وُضع له أصلا، يفسح لـنفسه المجال كي يسائله فينقضه أو يزكّيه؛ من ذلك سخريته بعادل الخالدي الذي غالطه سالم العطيوي آمرُ سجن العفير في الآن...هنا وجعله يدفع به العربة لأنّه ذو رِجْل خشبيّة . فالسّارد، إذ ينتقد سذاجة شخصيّة من رواية أخرى، يتعامل معها كما لو كانت شخصيّة في روايته هو؛ والواقع أن لا فرق ما دامت الرّواية النّاسخة قد عارضت الرّواية المصدر وربّما حرّفتها هزليّا.
وهل التّحريف الهزليّ مما يتحاشاه السّارد أو يخفيه؟ كلاّ، إنّه يعتبره من صميم العملية السّرديّة المتمثّلة في استدعاء المتناصّ باعتباره نصّا مصدراً ليجاور خطابه الأوّليّ وربّما لينافسه. والسّارد، إذ يعمِد إلى الاستشهاد أو المعارضة أو الكلام على الكلام أو التّكرار أو ما عداها من أشكال التّطريس يعمل على خداع المسرود له. فهو يبدي له، أنا ساردةً، أنّه غمر جبان يأتمر بأوامر شخصيّةٍ من شخصيّاته، ولكنّ المسرود له، عندما يرى علاقة المماهاة بين السّارد والشّخصيّة، يخفّ إلى الإنكار عليه إيهامه ذاك. فهو، أنا مسرودةً، ذو تجربة في الحياة عميقة وذو سعة اطّلاع وكثرة قراءة. وقد أهّله لهذا كلِّه ما استمدّه من تجارب الشّخصيّات المجاورة وما أفادته به رحلاته المتعدّدة (الدراويش، ص 114 وص 117 ). وإذا ما انطلى على المسرود له مثل هذا الخداع في بداية عهده بالرّواية، فإنّ مواصلته القراءةَ تيسّر عمليّة الكشف ورفع الزّيف. وهو فعلا ما تتغيّاه الرّواية. فهي تخادع لتستفزّ، وتستفزّ كي يُقبِل عليها؛ ومتى فرضت هذا الإقبال استفادت انتشارا وتقبّلا جادّا. وشأنُ المسرود له، يوقف مخادعته عندما تبلغ درجة لا يتحمّلها، شأنُه عندما ينسب السّاردُ كذبا إلى أبي هريرة أحاديث لم يكن هو أصلا فيها. أيفعل ذلك لأنّه يأنس لدى المسرود له قبولا بأنّ الرّجل كثير الوضع ضعيف النّقل أم هو يفعله لحفز همّة المتقبّل إلى التّثبّت؟ إنّه متى أخفى مصادره واكتفى بإيراد محتوياتها، أبدى المسرود له شكّا فيها، إذ كيف السّبيل إلى الإلمام بكلّ تلك المعلومات دون أن يكون هناك رفد من وثيقة وسَنَدٌ من أثر؟ ويستوي في ذلك السّارد من الدّرجة الأولى أو الخارجيّ والسّارد من الدّرجة الثّانية أو الدّاخليّ. فمَن لصاحب ستر الخليفة الوليد بن يزيد أن يعرف صفات أشعب لو لم يستقِـها من أمّهات الكتب ( الأسرار، ص 99 ). وكذا أمره مع المشهرين من المحكوم عليهم في سامرّاء. فهل يمكن أن يقتنع القارئ المحايث بأنّ صاحب السّتر هذا علاّم الغيوب، مادام قادرا على كشف الأستار أو أنّ درويشا بإمكانه أن يتذكّر معرفة كان قد حفظها في عالم المثل الأفلاطونيّ مادام ذا كرامة؟
ومهما يسعَ إليه السّارد من إخفاء، فإنّ المسرود له له بالمرصاد. وهو ما قد يبدو مفارقة غير مقبولة، لكنّ النّقيض هو المطلوب تماما. فبقدر ما يستفزّ السّارد متقبِّلَـه يفلح في لفت انتباهـه وكسب ودّه. ولذلك يميل أحيانا إلى الظّهور بمظهر الموضوعيّ ويفشل حينا آخر في إخفاء انتمائه. فهو قد تكلّم على الوليد بن يزيد، الذي له في المتخيّل الجمعيّ، صورة الخليفة الماجن الخليع، بما يعزّز هذه الصّورة وبما ينقضها في آن معا. وبناءُ درج الحكاية الـمضمّنة على تقابل بين الأسرار والأيّام، الأسرار للنعيم والبذخ، والأيّام للنّكد والبؤس دليل على هذه المعادلة في النّظر إلى سيرة الرّجل. لكنّ بنية هذه المعادلة منخرمة نتيجة الإبطاء في الحديث عن الأسرار والإسراع في الحديث عن الأيّام مما يشي بتعاطف خاصّ من السّارد معه ( الأسرار، ص ص 75-126 ). واختيارُه من النّصوص ما يشي بطيبة الوليد، مدعاة إلى التّساؤل: أهو ينقلها من وثائق تليدة أم هو يبتدعها ابتداعا؟ فالوليد، بقدر ما يسعى إلى أن يكون ذا أريحيّة وإقبال على اللذّة، يدافع عن حقوق الإنسان الرّافض للتّعذيب المقِـرِّ للمعارضين ببعض الحقّ في ممارسة نشاطهم لا السّياسيِّ فحسب، بل الاجتماعيّ أيضا دون مطاردة ولا مضايقة ( الأسرار، ص 107 ). وبذلك يستند السّارد إلى هذه السّيرة يعلن عنها في الوقت الذي تسمح له فيه بتقديم آرائه في السّياسة والاجتماع. وقد لا يسعف الاستشهاد بمثل هذه السّيرة تُـصهَـر في الرّاهن، بإخفاء السّارد ما يبغي إخفاءه فيلجأ آنذاك إلى الفانتاستيكي وبالذّات إلى العجائبيّ يحتمي به حتّى يضلّل أوّلا ويمتع ثانيا. وأبرز شكل للفانتاستيكيّ في رواياته الخلط في الزّمن. فالإماء يجاورن المرسيدس، والبراق يجاور المطار، والسّارد بين هذه الأزمان المتباعدة التاريخيِّ منها والأسطوريِّ يحضُر مرّة مع قطر النّدى والخليفة المعتضد العبّاسيّ ومرّة مع درويــــش ونـمـرة ( الدراويش، ص 33 وص 47 ) . ووجودُ السّارد في هذا الخارق الزّمانيّ يقتضيه تأثيثه بما يتناسب وإيّاه، فإذا درويش يأكل كاميرا مارتال وصوره وإذا به يضع رجليه في النّار التي لا يستطيع أحدٌ القرب منها لشدّة لهيبها ( الدراويش، ص 49 ). ومثل هذا الإيهام بالفانتاستيكيّ يستهدف المسرود له أساسا. ولكنّ هذا المسرود له، الواعيَ بأنّ معظم ما يرد عليه الفانتاستيكيّ في روايات درغوثي لا يخلق شعورا بالحَـيـرة والقلق، ولا يحقّق هلعا ولا خوفا، يطمئنّ إلى أنّ العجائبيّ هو السّائد. ومادام كذلك، فهو يقبل الظواهر الخارقة بلا لِم ولا كيف. وإذ يتعامل المسرود له مع سارده من موقع الفطِن المنتبِه المحلِّل لا يسع السّارد إلاّ أن يثمّن موقفه ويزكّي نشاطه. وما تحديده، منذ بداية رواياته، طبيعة هذا المسرود له مفردا تارة جمعا تارة أخرى، مطلقا حينا محدّدا حينا آخر إلاّ مظهر من مظاهر كسب الودّ إذ هو لا يخرج عن اعتباره كما كان التّراث الحكائيّ يعتبر المرويّ لهم جمهورا منصتا، ومن ثمّ هو يعزّز صلته بالتّراث فيبرّر لِم اختار نصوصه المصادر في أغلبها من ذاك التّراث التّليد.
ومتى عزّز السّارد علاقة المسرود له بالتّراث تليده والطّريف، حقّق للتّطريس الذي خصّه بإنتاجه مبرّر وجوده. فليس ليوجَد فقط للتجاوز النّصّيّ، وإنّما له بتأصيل الكتابة السّرديّة من ناحية، وارتياد تخوم لم تعهدها هذه الكتابة من ناحية ثانية، علاقة متينة. وإذا طرقت الرّوايات موضوعات مختلفة، فقد اتّفقت جميعُها على خصيصة في الكتابة موحّدة، هي النّهوض بالإبداع الرّوائيّ بـجعله يتجدّد على الدّوام.


خـاتــمة
يُعتبَر التّطريسُ، بالكثافة التي حضر بها في روايات درغوثي، نقضا للوهم القائل بأنّ الرّواية، متى التصقت " بالواقع " المعيش تمثِّله، تكون أقرب إلى نفوس القرّاء لأنّها تكون على درجة من الوضوح كبيرة. وتعتبَر دحضا أيضا للتّصوّر الذي يرى أن ليس أيسرَ من التّطريس يُعاد إليه في مظانّـه، فيقع نسخٌ واقتباسٌ وتضمين، وبذلك تصبح الرّواية الحديثة الممثِّلة النّصوصَ الأخرى لعبا وضحكا على الذقون. وإذا ما تغيّا التّطريس في روايات درغوثي هذين الهدفين فحسبُ، ففي ذلك غاية المراد. لكنّه بقدر ما ينقض ويدحض، يبني تصوّرا للكتابة السّرديّة جديدا يُحيي أوّلا تقليدا بلاغيّا قديما هو الجمع بين المنثور والمنظوم، ويحقّق ثانيا نوعا من الاستقلال الفنّيّ للكتابة الرّوائيّة العربيّة عن التّصوّر الغربيّ المركزيّ لمثل هذه الكتابة، وإن كان ذلك يتّضح أكثر ما يتّضح في المتناصّات ذاتها؛ ويبدّد ثالثا وهما بأنّ اللغة تحاكي الواقع، في حين أنّها لا يمكنها أن تحاكي سوى اللغة نفسِها؛ و يعيد أخيرا بذلك بناء العالم باللغة بناء مغايرا عندما يُقبِل على النّصّ المصـدر يستنسخـه أو يقتبسه أو يعارضه أو يحرّفه هزليّا. وإذا كان النصّ المصدر المعود إليه متنوّعا مضمونا متعدّدا شكلا، فإنّ تعامل النّصّ النّاسخ معه يدلّ على أنّ هناك اختيارا حصل؛ اختيارا يتّصل بالمحتوى اتّصاله بالنّصوص السّابقة أو اللاّحقة، المنتمية إلى الذّات أو إلى الآخر، المتعلّقة بهذا المحرّم أو ذاك.
وأيّا ما يكن الأمر، فإنّ للاختيار في الإبداع السّرديّ القيمة الجُلّى مادام المرغوب فيه كتابة على غير مثال سابق.








الفصل الثاني
التطريس في روايات إبراهيم درغوثي

سعت الرواية التونسيّـة منذ ثمانينيّات القرن المنقضي إلى إغناء الرّواية العربيّة بأشكال في الكتابة السّرديّة مخصوصة أفادت من الرّواية العربيّة والعالميّة الحديثة والمعاصرة . وقد كان المبادرَ إلى هذا الصنيع روائيون من أمثال فرج الحوار وصلاح الدين بوجاه وهشام القروي . وأبرز ملامح هذه السّمة المخصوصة في السّرد الرّوائيّ التّونسيّ التّطريس. وهو الذي يعرّفه جينات Genette قائلا:” ما من أثر أدبيّ، في أيّ درجة كان، وبحسب اختلاف قرّائه، إلاّ ويحيل على أثر آخر، ومن ثمّ، فإنّ كلّ الآثار ناسخةٌ“ . ويستخرج للتّجاوز النّـصّيّ Transtextualité- كما ذكرنا سابقا - أصنافا خمسة هي التّضافر النصّيّ، والنصّيّة الموازية، والوصف النّصّيّ ، والنصّيّة الجامعة، والنصّيّة النّاسخة . وعندما نعرّج على ما أولاه فيليب هامون Philippe Hamon من عناية بتـحديد مفهوم الواقعيّة، معتمدا على النّتائج التي أفادت بها اللسانيّات السّيميائيّةَ، نلحظ أنّ بين ما يدعوه الواقعيّة النصّيّة وما يسمّيه جينات التّجاوز النصّيَّ أوالتطريسَ تطابقا. فهو يعتبر أنّ اللغة لا تستطيع أن تحاكي في الواقع إلاّ لغة ملفوظة أو مكتوبة، وأن ليس بمقدور ملفوظ لسانيّ أن ” " يعيد إنتاج " سوى ملفـــوظ أو جزء من ملفوظ لسانيّ مماثل سبق له أن قاله هو نفسُـه؛ من ذلك التّكرار، وتحصيل الحاصل، والإعادة، أو سبق لملفوظ آخر أن قاله كالكلام على الكلام، والاستشهاد، وإعادة النّسخ، والمحاكاة السّاخرة، والمعارضـة “ . ولهذا سنعمد في هذا المبحث، إلى تلمّس تجلّيات الواقعيّة النّصّيّة في روايات أربع لإبراهيم درغوثي توخّى فيها سمت الروائيين الثلاثة السّابقين نفسه، بل لعلّه كان الأبرز في طبع نصوصه الرّوائيّة والأقصوصيّة بهذا الميسم، وهو ما جعل كثيرا ممن تعرّضوا لهذه النّصوص بالنّقد تستوقفهم هذه الظاهرة لأنّها لافتة للانتباه .
والقول بانشغال الرواية التونسيّة المعاصرة بالواقعيّة النصّيّة، ليس قولا مستحدثا، فقد سبق لصلاح الدين بوجاه أن نبّه إلى ذلك . ولكنّ تميّز نصّ درغوثي الرّوائيّ بهذه السّمة المهيمنة يقتضي التوقّف عندها لتبيّن أشكال حضور الواقعيّة النّصيّة وموضوعاتها ومقاصدها، وتلمّس دور السّارد في مثل هذه النّصوص، وتقصّي العلاقة الوارد قيامها بين هذا النمط من الكتابة والدّلالة الممكنة.

I – أشكال حضور الواقعيّة النّـصّـيّـة
إنّ حضور الواقعيّة النصّيّة Réalisme textuel بكثافة في نصّ درغوثي يقتضي تحديد الـمواقع التي فيها تظهر، وذلك لأن للواقعيّة النصّيّة أوجهاً مختلفةً، فهي التّصدير تُفتتح به النّصوص، وهي الخواتم تنغلق عليها . وتعدّد الأمكنة لا يخصّ إلاّ المعلن من هذه النصوص المصادر التي يكشف عنها نصّ درغوثي الناسخ. أمّا ما امتصّه منها ثمّ تجاوزه فمبثوث في مظانّ نصوصه، للقارئ، حسب درجة معرفته، واختلاف بديهته، أن يضع عليها إصبعه منتشيا بنصره على الكاتب الواقعيّ الذي بثّها آملا في ألاّ ينتبه إليها أحد ما دام قد تمثّل النصّ المصدر فتجاوزه.
أفتكون الواقعيّة النصّيّة وجوبا امتصاصا لنصوص سبقت وتجاوزا لها؟ ألا يمكن أن تكون اجترارا محضا للنصوص المصادر يكتفي النصّ النّاسخ بنقلها ومحاكاتها؟ وبذلك تكون هذه الواقعيّة النصّيّة في الدرجة الأولى من التطريس؛ فقد يكفي أن يُزال الـطَّفْـل عن الطرس حتّى تظهر آثار الكتابة السّالفة. أوليس هذا ما دعا إليه درويش سارده أن يفعل؟ . إن يكن في هذا سخرية، فهو لا يخلو – في نظر الأنا المسرودة – من جدّ، وفي نظر الأنا الساردة من تصديق. فالنّسخ الذي بمعنى النّقل الحرفيّ لا بمعنى الإزالة و الإبطال، هو المظهر الأوّل للواقعيّة النّصّيّة ما دام محاكاة للواقع. ولا إمكان لوجود واقع خارج اللغة . إلا أنّ هذا الصّنف من الواقعيّة النصّيّة، مهما يكن تواضع السارد إزاءه وادعاؤه إيّاه لا وجود له حقيقيّا لأن النصّ المستنسخ بمجرّد أن يتـنـزّل في إطار جديد يفتقد سمته الأصليّة، فيدخل آنذاك عالم النسخ بما هو إزالة وإبطال. ولا تعني الإزالة والإبطال امّحاء النصّ بل حلول آخر محلَّه وهو ما نعبّر عنه بالتّجاوز النّصّيّ الغالب على نصوص درغوثي الروائيّة.
إنّ ما يلفت الانتباه في هذه النصوص أنّ الواقعيّة النّصّيّة، تماما مثل الوصف في الواقعية الوصفية، تحتاج إلى وظيفة ذريعة هي بمثابة المنشّط لدخولها في النّصّ. فقد يكون في إدراج ملفوظ لسانيّ سابق دون التّمهيد له بما يستوجب حضوره، إثقال لكاهل النصّ وتنفيرٌ للمسرود له. لذلك يلجأ السّارد إلى إعداد العدّة لتضمين ما يبغي تضمينه شاهدا كان أو تنويعا عليه. ومتى اعتاد السارد افتتاح روايته أو فصولها بتصدير، فإنّه يسعى جاهدا إلى ألاّ يخلِف وعده، وإن كان كثيرا ما يفعل. ففي الدراويش، يصرّ على استعمال التّصدير لا عند ظهور باب في الرواية جديد، بل حتى عند ظهور تحوّل ما، كذاك الذي حدث بين رفض " نمرة " الوقوع " لدرويش " وتذكّره زفاف قطر النّدى للخليفة المعتضد العبّاسي. ففي ذلك البرزخ من النصّ يورد حكمة هنديّة ( ص 44 ).
وقد لا يساق التصدير المختار دوما بتقصّد، بل قد يرد عفو الخاطر حيثما اتفق؛ أي إنّ السّارد لا يتوخّى نسقا بعينه يسير على هديه في إيراد تصديراته، بل هو يترك ذلك للصِّدفة شأنه مع مقطوعة للوليد بن يزيد يصدّر بها خبرا / وثيقة من كتاب الكامل في التاريخ. وما وردت مثل هذه المقطوعة أصلا في الكتاب المشار إليه، إنّما شغف السّارد / الشخصيّة بشعر الوليد هو الذي حفزه على أن يسوقها تعبيرا منه عن لذّته بقراءتها وإمتاعا للمسرود له معه بها ( الأسرار، ص 127 ) . أمّا إذا ورد التّصدير في خاتمة النصّ / الرّواية، فذاك مدعاة إلى طرح سؤال التسمية. أليس التّصدير أصلا يرد في الصّدر، وهو الأعلى، وفي الرّواية عند فاتحتها؟ أوَليس التّصدير آنذاك سوى خاتمة، ولكنّها ليست خاتمة للنصّ الأصليّ، بل خاتمة مضمّنة؟ فقد ورد في آخر الدراويش- كما جاء في هامش سابق - قصيدة لقسطنطين كفافي وردت تحت عنوان " بعد النّهاية ". وأن تُـنهى الرّواية بتضمينها نصّا ليس منها فلأنّه ربّما يكفي لاختزال دلالتها، ولكنْ أن يكون فتحا لمغامرة جديدة يهيمن عليها الشّعور بالإحباط واليأس فذاك ينفي عنها هذه الوظيفة ليكون تبشيرا برواية جديدة، وربما تكون القصيدة المضمّنة فاتحتها، خصوصا وهي ترد مرّتين، مرة أولى في درج الرّواية وأخرى على ظهر الغلاف الخارجيّ.
وليس هذا الصّنيع هو القاعدة إذ كثيرا ما يتحيّن السّارد اللحظة المناسبة كي يسوق نصوصه المصادر، شأنَه عند الكلام على فتح شبابيك أربعة عند سرد قصّة أبي البركات. فالشبابيك التي تحيل على عنوان الرّواية لا تفتح إلاّ عندما تتوفّر الفرصة لحضور مثل تلك النّصوص المحال عليها، وتصبح الواقعية النّصّيّة سيّدة الموقف ( ص 83 ). كل ذلك يعني أن لا بدّ من توفير مناسبة ما تسهّل حضورها الواقعيةُ الوصفيّة. فالقلق الذي يعاني منه الأمير مثلا في أسرار صاحب السّتر يتناسب وقراءة آية من القرآن فيها وعيد وتهديد ( ص 117 )، ووجود مجلس أنس وطرب يفترض إيراد بيت من الشعر يغنّى (الأسرار، ص 35). وكثيرا ما يمثّـل التّذكّر أفضل الظّروف مناسبة؛ فحصول واقعة بعينها تذكّر السّارد إمّا بواقعة شبيهة يوردها من بطون الكتب، محيلا عليها تارة، غافلا عنها أخرى، وإمّا بضرورة مسايرة التّوقيع الذي بدأ بعد. فذكر فرانسوا مارتال في الدراويش أنّ درويشًا أكل صور بدء الخليقة التي أخذها له وهو بالساحة تلتهم النّار رجليه، أحال السّارد مباشرة على أسطورة التكوين فأورد نصّا مرويّا عن ابن عبّاس في الموضوع ( ص ص29-30). وإذا كانت هذه الإحالة ممّا قد يكون تواردًا للخواطر ، فإنّ تصريح السّارد بأنّه يتذكّر حياته السّابقة كما يتذكّر طفـلٌ صغيـر حلما جميـلا (ص 44)، يدلّ على أنّ ما أورده من نصّ عن بذخ الولاة في تزويجهم بناتهم قد تمّ بسبق إضمار، وكذا أمره مع الأهازيج الشّعبيّة التي أوردها بمناسبة زفاف نمرة لدرويش (ص 52). وقد لا تتوفّر الواقعيّة النصّيّة هادئةً، بل قد تتدفّق النّصوص المحالُ عليها وتتدافع كما لو كانت شكلا من أشكال التدّاعي الحرّ أو تيّار الوعي في الرّوايات النّفسيّة. فللنّصوص المصادر سطوتُـها وللواقعيّة النصّية تحكُّـمُـها. فقد ترد في الآن نفسه أسماء كتب وذكريات وتداعيات تثيرها عناوينها، وآيات من القرآن يعسر على المتقبّل أن يجمع بينها لـلحظة معيّنة، ولكنّ السّارد يقسره على الرّبط بين أواصرها، فتكتسب آنذاك دلالتها من كثافة حضورها ومن سرعة الانتقال بين نصّ منها ونصّ آخر. فهذه النّصوص جميعها، ذُكِر مصدرها أو أهمل ذكره، وردت مفردةً أو جمعا، تشي بأنّ النصوص المصادر التي يهضمها النصّ الناسخ ترد بمناسبة تقتضيها القصّة، غير أنّ ما يقتضيه الخطاب يتمثّل في ارتباط النصّ المحال عليه بالجوار الصّوتيّ، وهو ما يقتضيه في أحيان بعينها السّياق نفسُـه. ومثالُ ذلك ما ورد في الدراويش من وليمة أقامها النّعمانُ بنُ المنذر على شرف زوّار الحيرة. فعند الرّقص، يبلغ الجذل بالجميع حدّا تنفجر معه في ذهن السّارد أسطورة هاجر وانبجاس الماء نبعا سلسبيلا بين الصّفا والمروى لتعود الرّقصة بعدئذ إلى سالف عهدها ( ص ص 73-74) .

I .2 – طبيعة النّصوص المصادر
تختلف هذه النّصوص المُـحالُ عليها جِدّةً وقدما اختلافَـها دنيويّةً وقدسيّةً. فمن النصوص القديمة ما أقام عليه سارد الأسرار من موازاة بين التّنقيب عن آثار تحت المسجد وقصّة الخليفة الوليد ابن يزيد استقاها – كما ادّعى – من المخطوطات التي حواها الصّندوق المعثور عليه (ص 32). ومن النصوص الحديثة ما كان ركنا ركينا في القيامة...الآن، نصُّ عبد الرحمن منيف الآن...هنا. أمّا النّصوص الدّنيويّة، فلدوستويفسكي منها نصيب، والنّصوص المقدّسة تحيل على القرآن والحديث النّبويّ . واجتماع هذه النّصوص المصادر من أنحاء شتّى يعني أنّ النّصّ النّاسخ، وهو يتعامل معها بكيفيّات مختلفة، لا يتقيّد بنمط من النّصوص بعينه، مما يسمح له بهامش من المناورة كبير. فأيّ شكل من أشكال التّجاوز النّصّيّ متروك له أمر التّصرّف فيه. وما بدا من النصوص المعلن عنها خارجا عن نطاق النّصّ الأصليّ، ليس سوى وهم لأنّ السّارد، وهو يقسر النصوص المصادر على الدخول في نصّـه، إنّما يُكسِـبها دلالة جديدة بحكم السّياق الجديد الذي تتنـزّل فيه؛ وهو ما يجعل النصّ السّرديّ مختلفا كلّ الاختلاف عن النصّ العلميّ، ويقترب منه ظاهرا ويبتعد عنه جوهرا.
ومما يوفِّـر للواقعيّة النصّيّة سبل الانصهار في النّصّ النّاسخ تكرار ورودها بشكل يكاد يتطابق في أكثر من نصّ روائيّ لـدرغوثي. فما أُشير إليه في الدراويش من إشعال المصابيح بمجرّد النّـظر إليها ورد ذكره في الأسرار حرفيّا تقريبا: ” يشعل المصابيح حين يركّز عليها نظراته “ ( الأسرار، ص 96 ). وما أشير إليه في الدراويش من تعليق الوليد المصحف في الشجرة وضربه إيّاه بالنبال، جاء ذكره تفصيلا وتدقيقا في الأسرار: ” انصبوا هذا المصحف على الشجرة المقابلة لمجلسي هناك بعيدا وآتوني بقوسي ونشّابي “ ( الأسرار، ص 117 ). وأن ترجّع نصوص صدى أخرى دليل على أنّ وراء السّارد التّخييليّ في كلا النصّين ساردا واقعيّا واحدا، عندما يتخيّل، تتدافع الصّور لديه، فتطفو نصوص انقضت أمامه وهو بصدد إبداع نصّ لمّا يكتملْ. وغالبا ما يبدأ التّجاوز النّـصّيّ بالإشارة إلى المكتبات والكتب والقراءة، شأن ما ورد في الأسرار، ليعقب ذلك تفصيل لمحتويات هذه الكتب كما هو الشأن في الشّبابيك، فقد أشير إلى كتب الحديث، والفقه، والنحو، والصرف، وأدب الرّحلات، وشعر المتصوّفة الكبار، وكتب البلاغة، وكتب التّاريخ ( ص 27 ). وكثيرة هي المرّات التي تُعرَض فيها العناوين نفسُـها في هذه الرّواية و في تلك ؛ وكأنّ القارئ لا يسعه التّعامل مع النّصوص النّاسخة إلاّ إذا أحسن الاطلاع على النّصوص المصادر تلك.
وقد لا يستوفي السّارد ذكر الكتب جميعها وإنّما يعمِـد أحيانا إلى إخفاء مصدره، رغم سهولة الانكشاف؛ ولعلّ تصاديَ القيامة...الآن مع رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي دليل.فبما أنّ موضوع القيامة...الآن هو الأخرويّات فإنّ أقرب النّصوص العربيّة إليها رسالة الغفران. لكنّ السّارد لا يعرّج عليها البتّة، لأنه قد يظنّ بالمسرود له خيرا إذ يعتبر أنّ له من الفطنة ما يؤهّله لاقتناص هذه المعلومة منذ اللحظة الأولى. ولعلّ عبارة ” بم غُفِر لك؟ “ الشّهيرة في أكثر من مقطع من مقاطع الرّسالة السّرديّة، حاضرة في سؤال حياة النّفوس: ” كيـف دخلـت الجنّـة يا آدم؟ “ ( القيامة، ص 93). هذا بالطبع إلى جانب الجوّ الإسكاتولوجيّ الطّاغي سواء ما تعلّق منه بالـمحشر أو بجهنّم.
والمزاوجة بين المنثور والمنظوم في إطار الحكاية، تذكّر بنصّ الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني الذي لم يُحِل عليه السّارد بالاسم، لكنّ إيراده أشعارا تُغنّى، وطريقته في السّرد، يفرضان حضور أبي الفرج . ولعلّ ممّـا يؤكِّد ذلك، الجردَ بأسماء المغنّين: ” هذا ابن عائشة [...] وقد سمعت قبله غناء معبد والهذليّ وعمر الوادي وأبي كامل وسلاّمة وحبابة“ ( الأسرار، ص 84 ). وبهذا يعجز تكتّم السارد عن مصادره، عن إخفائها حقّا، إذ لا بدّ أن يكون للمسرود له، المتقبّلِ خطابَ سارده بعضُ الزّاد المعرفيّ الذي يخوّل له التّواصل معه. وليس يمكن أن يكون السّارد بغافل عن مثل هذا الصّنيع؛ فهو يعي عثراته، ولذلك يخفّ أحيانا إلى دعوة قارئه إلى ألاّ يتعجّل فيتّهمه بالسطو على بعض الكتب التي ذكر منها نبذا، ويعتبر أنّ ما يرد في نصوصه النّاسخة من واقعيّة نصّيّة سرقة تؤدّي به إلى السّجن .
غير أنّ السّارد لا يلزم نفسه – في أكثر من موقع – بنسبة الكلام إلى قائله سواء بإرداف النّصّ المضمّن بالعلَم الذي قاله وهو يستعمل لذلك صيغة الخطاب المنقول discours rapporté حيث الأمانة أوفر ما تكون، أو بتسريده ملفوظ من يأخذ عنه فتضعف، بالضرورة، أمانة النّقل، إذ حرفيّة المقول تنتفي . ويربكه هذا الشعورُ بالسطو على أقوال الآخرين، فيورد في عجلة ما به يتخلّص من عبء الأمانة تلك ويتحلّل من واجب عليه أداؤه . لكنّه لا يستسلم لهذا الشّعور بالخوف، فيتطاول على بعض النّصوص خاصّة منها تلك التي له، ولكنّها ليست وجوبا تلك النّصوص التي سبقت، وإنّما هي النّصوص المرشّحة للكتابة. وأوْلى النّاس بمعرفة هذه النّصوص من يعزم على إنجازها فعلا. فلم تجر العادة بأن يعِـد روائيٌّ في نصِّـه بمشاريعه المستقبليّة، وإن فسحت الحكاية الواصفة اليوم هذه السّبيل، وإنّما كان يذكر ذلك في نصّ مواز حديثا يُدلي به أو استجوابا يضمّـنه آراءه. إلاّ أنّ درغوثي قد تجاوز هذه وتلك من الطرق السّالكة، ومال إلى الإعلان عن نصّـه اللاحق في إطار حديث نمرة عن جنونها، لدرويش: ” ...ودخلتُ المغارة ولم أخرج منها إلاّ بعد أن دقّت نواقيس القيامة “( الدراويش، ص 128 ). وليس في هذه الرّواية أيّ علاقة بالقيامة متى فهمت بالطبع في معناها الحقيقيّ؛ وحتّى معناها المجازيُّ لا يستقيم استقامتَـه في القيامة...الآن ، وهو ما يُعتبَـر استشرافا سيأتي النّصّ اللاحق ليحقّقه. وهكذا يتوفّر بين النّصوص تصادٍ يفرض على المتقبّل أن يرى القواسم المشتركة بينها وينتبه إلى الكيفيّة التي عليها جاء اللاحق من النّصوص مقارنة بالسّابق.
إنّ تعامل السارد مع النّصوص المحال عليها تعامل واعٍ غايته تحقيق بنية روائية متماسكة تعلن بصوت عالٍ أنّ ما من نصّ من نصوصه إلاّ وجاوز آخر أو أخرى يوجد لها أثر ملموس في خطابه الروائيّ. وليست الواقعيّة النّصّيّة بمقتصرة على نصوص لدرغوثي تـتصادى، وإنّما قد تتجاوز ذلك إلى النصّ الواحد يكرّر جانبٌ منه جانبا آخر.ففي الشبابيك، أقام السارد اختياره للنماذج البشرية الثلاثة المختلفة على تصيّد المتطرّف من السّلوكات لديها . فالأوّل متطرّف في الحبّ إلى الحدّ الذي يدفن فيه نفسه حيّا إلى جوار عشيقته، ومتطرّف في الكره إلى الحدّ الذي يرفض فيه مكالمة ابنه طوال ثلاثين سنة حتّى مماته. والثاّني متطرّف في عربدته وفسقه وكرائه عورته للسائحات المشتهيات بأرفع الأثمان. والأخير متطرّف في إنكار أشكال التّقدّم والتّطوّر التّكنولوجيّ. ولعلّ هذا الاشتراك في السّلوك أن يكون من قبيل الموضوعات؛ غير أنّ بناء التّوازي القائمة عليه رواية الشبابيك والتّكرار المستفاد من أسماء الأبناء الثلاثة الأعلام أن يؤكّد البعد التّكراريّ لهذه النّصوص ومن ثمّ النّصّيّة الذّاتيّة. ولعل في حضور السارد / الشخصيّة في الكتب الثلاثة، يعيد على المسرود له صفة من صفاته، تشديدا للربط بين الأجزاء المتناثرة. فهو يفسّر المغلق من الظواهر حينا ويذكّر بما قد يكون المسرود له قد نسيه حينا آخر .
ولا ترد الواقعيّـة النّـصّـيّـة هنا أو هناك من النصّ النّاسخ اعتباطا، وإنّما قد تقود الغايةُ السّاردَ إلى ضبط موقعها. فإذا ما وردت تصديرا فبنيّـة الإنباء بما عسى أن يكون في درج الرّواية شأنها في ذلك شأن الفاتحة في النّصوص الرّوائيّة عامّة. فعندما أورد السّارد مقتطفا من نصّ لشتراوس في صدر الدراويش اختاره لأنّ له علاقة باللاعقلانيّ، ومن ثمّ بوجود خارق يُعِدّ السّارد المسرود له لتلقّيه، وكذا شأنه مع ما ضمّنه القيامة...الآن من نصّ لدوستويفسكي يقوم على نفَس زهديّ واضح يذكّر بتوبة أبي نواس المشهورة. وما ذاك النصّ إلاّ تماش مع ما سيرد في درج الرّواية من مغفرة وشفاعة وعذاب ونعيم. وإذا كان موقع التّصدير وحده كافيا للإيحاء بما عسى أن يكون، فإنّ ورود الواقعيّة النّصّيّة في درج الرّواية قد يمرّ دون تعليق من السّارد لما يمكن أن يكون عليه من وضوح دلالة؛ وقد يتوقّف عنده للتّعقيب وإبداء الرّأي شأنه مع الحكاية التي أوردها عن الجاحظ والمتعلّقة بفضل إناث الحيوان على إناث البشر .
إنّ معرفتنا بالظروف التي تنشأ فيها الواقعيّة النصيّة في الرّوايات تقتضي وجوبا التساؤل عن الكيفيّة التي ترد عليها، أهي مجرّد اجترار أم امتصاص أم تجاوز؟ فتضمين الشّواهد في النصّ إنْ بـنيّة البرهنة بحجّـة سلطة، وإنْ بـنيّـة المتعة تتحقّق للباثّ والمتقبّل معا، يعتبر من قبيل التّضافر النّصّيّ أو ما نصطلح عليه بالتناصّ؛ لكنّه لا يخرج عن نطاق الواقعيّة النّصّيّة ما دام إعادة إنتاج لنصّ سابق. وهو ما يشترك في هذا مع الكلام على الكلام ومع المعارضة والمحاكاة السّاخرة وسواها. وعندما نجد أنّ الواقعيّة النصية في روايات درغوثي معلنةٌ، قد يتبادر إلى أذهان بعضنا أنّه اكتفى بمجرّد الاجترار، وهو ما قد يفوّت علينا فرصة الانتباه إلى الأشكال التي بها تصرّف في النصّ المصدر مما لم يشر إليه وإنّما أبقاه سرّا بينه وبين نفسه. وحتى هذه النصوص المضمّنة اللافتة النّظر بتعدّدها لا يمكنها في نصّ سرديّ أن تكون في نشاز مع خطاب السّارد الأوّليّ؛ وهو ما يعني أنّها انصهرت في النّصّ النّاسخ حتّى كادت أن تكون منه؛ وهذا ما نعتبره من قبيل الامتصاص. فما يبدو في الظاهر منسوبا إلى نصّ مقدّس أو إلى نصّ دنيويّ لم يعد كذلك ما دام قد اندغم في النّصّ النّاسخ الذي حوّر له دلالته بتـنـزيله إيّاه في سياق لم يكن له أصلا. وهو ما قد يسمح بنعته بالتجاوز إذ توظيف النّصّ المصدر لدلالة يتغيّاها النصّ الناسخ يذوّب المضمّن في الجديد؛ من ذلك الكلام على يأجوج ومأجوج في القيامة...الآن. فقد وردت الإشارة إليهم من خلال عرض السّارد علامات القيامة، وهم أولى العلامات؛ والسّارد في ذلك إنّما يُـحيي تصوّرا تراثيّا لقيام الساعة لدى المسلمين استقاه من القرآن، وممّا عداه من الكتب التي خصّصت للأخرويات أو الإسكاتولوجيا. وإيراد التّصوّرات التّراثيّة عن يأجوج ومأجوج، ما كان ترديدا لما هو سائد في التّراث الرّسميّ أو الشّعبيّ مما تتناقله الأجيال، وإنّما هو إعادة إنتاج لعلامة السّاعة هذه. فيأجوج ومأجوج إنّما هم سكّان المعمورة ممّن ينغّصون على الأمم المتقدّمة لذّة الاستمتاع بالخير العميم الذي ترفل فيه . ويتضح الأمر نفسُـه من خلال توظيف الواقعيّة النصّية لخدمة الواقعيّة الوصفيّة. فاستدعاء شخصيّات الآن ...هنا، وهي في الأصل شخصيّات ورقيّة، يعتبر من قبيل الواقعيّة النّصّيّة، لكنّ دمج هذه الشّخصيّات، وقد استحالت في القيامة...الآن شخصيّات جديدة، ضمن العالم القصصيّ، يكسبها دلالة لم تكن لها أصلا. فبعثها بعد موتها المفترَض ما دامت تنتمي إلى عالم الدّنيا، في الآخرة، يجعلها مرشّحة للحساب والعقاب كما يقتضي ذلك التّصوّر الأخرويّ الإسلاميّ. وهكذا تتحوّل الشّخصيّة من ورقيّة تخييلية إلى مرجعيّة تاريخية شبيهة بالمسرح الرّومانيّ بقرطاج، ويوليوس قيصر، والمشروبات الغازيّة الأمريكيّة. وبذلك يفقد النّصّ المصدر دلالته الأصل ليتّخذ له دلالة جديدة بحكم السّياق الجديد. ومثل هذا التّحوير الذي تدخله الواقعيّة النّصّيّة على العالم القصصيّ في روايات درغوثي لايتعلّق فقط بإضفاء دلالة جديدة على نصّ قديم، بل قد يتمّ من خلال إيراد نصوص مصادر عديدة يمتنع السّارد عن وضع فاصل بينها مهما يكن محدودا إن قبل النّصّ وإن بعده. ولا يميّز آنذاك مقولَ المضمّن من مقول السّارد الأوّليّ إلاّ أمارات من قبيل التّحوّل في الزّمن أو تحويل مجرى الحديث أو تغيّر الضّمير .

I. 3 – أشكال التّحوّل الأجناسيّ
إذا كان معظم أشكال التّضافر النّصّيّ تضمينا يرد في شكل شواهد شعريّة كانت أو نثريّة، مقدّسة كانت أو دنيويّة، فإنّ ذلك لا يمنع السّارد من أن يمتصّ النّصّ المصدر فينقله من سياق إلى آخر ليضمّنه دلالة جديدة. فأسطورة آدم وأكله من الثّمر المحرّم وعقابه اتخذت في الدراويش لبوسا جديدا هو ما يمكن أن نسمّيه بالاقـتباس. فقد نقل السّارد التفّاح الذي بسببه نزل آدم الأرض إلى تفّاح تركيّ يُلتَـهَم بشهيّة في حفلة شطح وخمر في بيت فرانسوا مارتال ( الدّراويش، ص ص 61-65 ). لكنّ السّارد، كي يزيد المقتبَسَ تبعيدا يردفه بما تيسّر من سورة الأعراف. فيتفق في اللحظة تلك، المقتبَسُ والمضمّنُ في آن معا. وتتجاوز الواقعيّة النّصّيّة هذين الصّنفين لتشمل المعارضة. فقد أوهم السّارد بأنّ ما أورده في الباب التاسع من الدّراويش من موجز لجامع كرامات الأولياء هو مقتطفات من كراماتهم فعلا. وقد أطلق على كلّ كرامة منها عنوانا، لكنّه لم يُحِل على أيّ كتاب منه اقتطفها؛ ومنطوق الخطاب يشي بأنّها جميعها من وضع السّارد سعى فيها إلى معارضة جنس الكرامة المعروف. فقد أوردها على لسان درويش، ودرويش شخصيّة ورقيّة، وجعل المكان في الشام تارة وفي مصر أخرى، وفي الهند تارة وفي تونس أخرى، وجعل الزّمان متفاوتا؛ وهذا التّباين في المكان والزّمان وإحالة السّرد إلى درويش يكذّبان أن تكون النّصوص مصادر، وإنّما هي نصوص ناسخةٌ غيرَها مما يرد في كتب الكرامات قاسمُها المشترك معه العجائبيّ والرّطانة بغريب اللفظ شأن ما ترطن به صاهبّاء في السّدّ محاكية بذلك فواتح السّور القرآنيّة ( الدراويش، ص ص 93-102 ).ومتى تشكّك المتقبّل في متن المضمّن أصبح شكُّه في المنسوب إليهم النّصّ كبيرا هو أيضا. فهو يتساءل عمّا إذا كان المقتطف عنهم حقيقيين أم تخييليين. فمن محمّد الحنفيّ والشّعر المنسوب إليه أهو لـه أم لغيره ( الدراويش، ص 99 )؟ ومن الفرغل ( ص 100 )؟ ومن محمّد الحافي؟ أيمكن أن يكونوا دراويش مغمورين وميزة الرّواية أنّها تبعثهم من ضياعهم؟ لِمَ لا؟ ولكنّ ذلك مشروط بالتثبّت في كتب الكرامات ومقامات الصّوفيّة !
ولقد أشار السّارد إلى إمكان أن يكون مجرّد ناسخ لما يُملى عليه، وتبيّن أنّه إذ يحاكي نصوصا سلفت يتصرّف في موقعها وينوّع في كيفيّة التّعامل معها ويكيّف، من ثمّ، دلالتها. ولكن ما أدرانا أنّه فعلا يقوم بذلك، أليس يمكنه أن يوهمنا بأنّه يضمّن نصّه نصّا هو في الحقيقة ليس لصاحبه الذي ادّعى أنّه إليه يُنمى؟ ومادام صنيعه ليس محاكاة واقتباسا ولا معارضة، فما عساه يكون؟ أيمكن أن يكون محاكاة ساخرة؟ لِمَ لا والنصوص الناسخة ملأى بالخارق عجائبيّا وغرائبيّا. ولعلّ ما يسعف المسرود له بالحسم انتباهه إلى التّحريف الـهزليّ لأكثر من نصّ رفيع ليعود به السّارد إلى الأسلوب الوضيع على حدّ تقسيم جينات للأساليب . فما يبرهن مثلا أنّ قصّة موت الكلبيّ في الأسرار مختلقةٌ قول الأمير:”قيّدوا الحادثة ضدّ مجهول وأقفلوا المحضر “ ( ص 98 ). ولم تكن المخطوطات التي أقام عليها السّارد رواية الأسرار كلّها سوى سخرية لاذعة؛ فقد أنكرت زوج عالم الآثار أن تكون قد وجدت مع زوجها في سيّارة الجيب مخطوطات. وهو ما يعني أنّ الرّواية في آخرها تكذّب أوّلها، وتُشهِد شخصيّاتِها وقرّاءَها على أنّها تخييلٌ محضٌ. وهو ما يشكّك بالتالي في ما ورد فيها من نصوص مصادر نُسِبت إلى هذا الطرف أو ذاك. فما ادعى السّارد أنّ عالم الآثار يقرأه من مخطوطات ( الأسرار، ص 32 ) لم يكن إلاّ محض وهم.
ولعلّ تعامل النّصّ النّاسخ مع النصّ المصدر وهو يتراوح بين النسخ والاقتباس والمعارضة والتّحريف الهزليّ يقتضي اتخاذ علامات خاصّة ترسم له حدودا فاصلة بينه وبين النصّ المضمّن متى كان التّضمين هو الميسمَ الغالبَ عليه. فمثلما تلفت الواقعيّة النّصّيّة الأنظار بكثافة حضورها يلفت الشكل الذي يتعامل به النّصّ النّاسخ معها الانتباه أيضا. فهي قد تأتي مكتوبة بالبنط الغليظ تمييزا لها من خطاب السّارد الأوّليّ. من ذلك أنّه بمجرّد ما ادّعى السّارد أنّ عالِم الآثار في الأسرار بدأ يقرأ حتى غيّر في طبيعة الحرف، فإذا الفصول المكتوبة بالبنط الغليظ جميعها أو هكذا به يوهم هي قراءة محض، ومن ثمّ هي نسخ لما في المخطوطات. ولكنّ شيئا من هذا لم يقع إذ – كما أشير سالفا – نفت الرّواية في آخرها عنها طابع النسخ هذا. وقد ادّعى السّارد – في الحقيقة – ما ادعى قصد الإيهام بواقع الحدث، ولكنّها فرصة بالنسبة إليه كي يقدّم نموذجا للواقعيّة النصّيّة فريدا.
وقد يلجأ هذا الصّنف من التّطريس إلى كتابة ما تضمّنه بين معقّفين كما لو كان ذلك تخفّفا من ثقل ينوء به السّارد؛ إذ سرعان ما يواصل كلامه؛ وبين العبارة المضمّنة والأخرى، يسترجع الكلمة فيظهر التّضافر النّصّيّ بمثابة الخطاب المباشر discours immédiat، إذ يتطاول النصّ المصدر على النصّ النّاسخ فيظهر عنوة، لكنّ الآخر يروّضه فيضعه مُعلَما بمعقّف من أمام وآخر من خلف . إلاّ أنّ أبرز ما يلفت الانتباه في ظهور التّطريس في روايات درغوثي هو الفضاء النّصّيّ أو التّشكيل البصريّ. وقد انتبه إلى ذلك محمّد النّاصر العجيمي في دراسته المشار إليها آنفا عندما تكلّم على التّفضية . ولعلّ ما به يعلن السّارد عن إيراده نصّا من خارج، تصرّفُه في الفضاء النّصّيّ بحيث يبدو للناظر قبل القارئ أنّه يعلن عن نفسه. فهو يكتب الشّعر العموديّ الموزون المقفّى على غرار ما يكتب شعراء التفعيلة شعرهم، تطول أسطرهم وتقصر، ويبدأ السّطر النّثريّ في وسط الصّفحة لئلاّ ينتهي في آخرها، وإنّما يتخذ منها الوسط، فتظهر مساحة من السّواد في المركز تحفّ بها من أعلى ومن أسفل مساحة بيضاء عريضة. وقد لا يرد، في السّطر الواحد، سوى كلمة واحدة . وإذا كان ما يميّز الشّعر المضمّن من النّصّ النّاسخ كتابته على غرار قصيدة التّفعيلة؛ فما يميّز النّثر كتابتُـه في أسطر قصيرة لا تتجاوز فيها الكلمات الثلاث أو الأربع. وتخفّف الصّفحة من السّواد يقرّب النّصّ/الرواية من الشّعر كما يظهر في المجاميع الحديثة. ولا تتميّز في ذلك رواية من أخرى، فكلّها في الفضاء النصّيّ سواء. فما ورد من استهلال معلّقة عمرو بن كلثوم في شكل مقاطع لا أبيات سرعان ما تلاشى لِـيُـكتَبَ البيتُ كلمة في كلّ سطر (الدراويش، ص ص 72-73) . وهذا شكلٌ من نثر المنظوم ونظم المنثور.
ولعلّ الميل إلى إعادة التّشكيل البصريّ داخل النّصّ/ الرواية لا يعني فقط تمايزا بين نصّين مصدر وناسخ، وإنما هو يعني رغبة في تجديد الكتابة السّرديّة في وقت تقترب فيه الحدود بين الأجناس وتزول بين صنوف القول. وهو ما يجعل للتّطريس غاية يطمح إلى بلوغها، وهي تبديد القول بمحاكاة اللغة الواقع المعيش لإثبات أنّ اللغة لا يسعها أن تحاكي إلاّ اللغة فيكون بذلك واقعيّة نصّيّة حقًّا. وفي هذا الحيّز وحده، تتمّ اللعبة كلُّـها من التقاء نصوص قديمة وحديثة، ونصوص عربيّة وأجنبيّة، ونصوص مقدّسة ودنيويّة، ونصوص ذاتيّة وأخرى مغايرة. وحيثما تظهر هذه النّصوص تقتضي وظيفة ذريعة لورودها. وقد يكفي موقعها للإيحاء بدلالتها؛ كما أنّ سوقَـها هنا أو هناك يكون لها بمثابة المنشّط إلى الـتّعليق عليها أو استدعاء نصوص أخرى ما كان بالإمكان حضورها لولا الانسياق مع التّوفيق الذي تفرضه. وحضور نصوص سلفت ذُكِرت أو لم تُذكَر، أُنجِزت فعلا أو هي في طور الإنجاز، لا يمكن أن تظلّ على حالها، ولا بدّ لها من أن تشهد تحويلا أبسطُه النسخ والمحاكاة وأعقدُه التّحريف الهزليّ مرورا بالاقتباس والمعارضة. وأياّ ما يكن الجنس الأدبيّ الذي يغيّر طبيعتها ويصهرها في صلبه، فهي تظلّ تزاحمه إذ تشعر، وهي تفقد هويّتها، بالضّيق، فيروّضها السّارد الجديد ويضع لها علامات يؤطّرها بها، وكأنّه بذلك يحدّ من تطاولها.

II.موضوعات التّطريس
تستدعي الواقعيّة النصّيّة في النّصوص التي تتنـزّل فيها اختيارا لدى السّارد الواقعيّ واعيا أو غير واع لنصوص قرأها فآنس في نفسه ميلا إليها وشغفا بها. فاستلهام هذه النّصوص التي مضت يستوجب أن يكون البحث عن الواقع إراديّا. أمّا ما يمرّ من النّصوص دون إحالة عليه ولا تنبيه إليه شأن رسالة الغفران مع القيامة... الآن والأغاني مع الأسرار، فقد امتصّه السّارد ثمّ تمثّله وأصبح الخطابُ السرديُّ فيهما جزءا لا يتجزّأ من خطابه . وقد لا يكون السّارد الواقعيّ مطّلعا على هذه النّصوص وجوبا، وإنّما قد يكون للقارئ الذي له بها سابق معرفة أن يفترض اطّلاع السّارد عليها. وبذلك يصبح التّطريس لا شأنا خاصّا بالباث وحده، وإنّما قد يكون للقارئ نصيبٌ في تأسيسه. وكلّما كان اطّلاع القارئ أكبر، كان اكتشافه للنّصوص المخزونة أيسر. وأيسرُ من ذلك بالطبع تصريح السّارد، لسانِ حال الكاتب بمصادره. ولكن حتى في هذه الحالة، لن تبقى النّصوص المصادر على حالها، بل سيداخلها تحويرٌ وتحويلٌ يستحيل معهما على المسرود له أن يميّز بين ما كان أصلا، وأصبح فرعا. وحرّية سارد النصّ النّاسخ في التّصرّف في النصّ المصدر تعود إلى أنّه ليس مطالبا بما يطالَب به الباحث الأكاديمي من دقّة في النّقل وصرامة في البحث لأنّه إنّما ينشئ نصّا إبداعيّا ميزته الرّئيسة أنّه يُكتَب على غير مثال سابق ويتغيّا خرقا للسّائد الأدبيّ والمؤسّساتيّ على حدّ سواء. هذا، إذًا، هو المفترَض في نصّ سرديّ يُبتَدع، لكن هل هذا هو شأن النّصوص السّرديّة جميعِـها؟
ولئن كانت الواقعيّة النّصّيّة قديمةً قدمَ الإبداع الأدبيّ، فقد شهدت في العصر الحديث نموّا متزايدا عندما تخلّت عن أن تكون رجع صدى لنصوص سبقت تمثّل في نظر الإنشائيين الأدب الرّفيع أو الأدب الرّسميّ، لتعلن عن وجود عينيّ لنصوص سابقة ضمن النّصّ النّاسخ. ولعلّ المبادر إلى هذا الصّنيع الدّادائيّون والسّرياليّون في الغرب، عندما أسّسوا حركتين فنّيّتين رافضتين، وبادروا بتقويض كلّ أشكال النّظام والتّقاليد المـنطقيّة والأخلاقيّـة والاجتماعيّة عارضين قيم الحلم والغريزة والرّغبة والتّمرّد، في التّعبير عن”الاشتغال الحقيقيّ للفكر “ . وقد استعملوا لهذا الغرض ما بدا وقتها نشاطا لَـعِبِـيًّـا، وهو الإلصاق (Collage) والتركيب (Montage). وقد أحيى صنع الله إبراهيم هذه النّزعة في التّقليد العربيّ في بيروت، بيروت وفي نجمة أغسطس عندما وردت الواقعيّة النصية محاطةً بخطّ من أعلى ومن أسفل في طبعة، ومكتوبةً بحرف مغاير في طبعة أخرى. وإذا استهدف كلٌّ من السّرياليّين وصنع الله إبراهيم السّخرية من النّظام، فقد كان هدف مجموعة من الرّوائيين العرب الآخرين – ومن بينهم إبراهيم درغوثي – الإسهام في تأسيس شكل للكتابة السّرديّة يحيي أجناسا سرديّة وأدبيّة تراثيّة ويخلّص الرّواية العربيّة من هيمنة الأنموذج الغربيّ. ولكن هذه الرّغبة في التّأسيس النّوعيّ لا تنفي انخراط درغوثي في التّصدّي للسائد وتقويضه. وأبرز ما يظهر عليه استدعاء الواقعيّة النصّيّة في رواياته البحث، في مظانّ الكتب، قديمها والحديث، عمّا يتصدّى للثالوث المحرّم الدينيّ السّياسيّ الجنسيّ.

II. 1- المحرّم الدّينيّ
يجمع السّارد في هذا المحرّم بين ما يرد في القرآن والسّنّة وكتب الأخرويّات التّراثيّـة، يستقي منها ما يتناسب وموضوع قيام السّاعة للتعبير عن القيامة...الآن. وإذا كانت آيات القرآن مما يعلَـن عنه، فإنّ أحاديث النبيّ تتخذ أشكالا متباينة، فهي حديث نبويّ تارة ( القيامة...الآن، ص 91 )، وهي حديث ثانية ( ص 103 )، وهي منسوبة إلى أبي هريرة تارات ( ص ص 41-42 على سبيل المثال ). أمّا كتب التّراث وما يتعلّق فيها بقيام السّاعة فللقتبيّ والثّعالبيّ والماورديّ والغزّاليّ منها نصيب ( ص 22 وص 23 وص 50 ). واختيار السّارد من النصّ التأسيسيّ والنصوص المفسّرة، ما يخدم موضوعه يعني أنّه يسوّي بينها وبين النّصوص الدنيويّة العديدة الأخرى. فكونها هي وغيرِها نصوصا مصادر لنصّـه الناسخ أبرز مظهر لتطاوله على المحرّم الدّينيّ. لكنّه، لِـوعيِـه بأنّ ذلك قد يُشكِل على المتقبّل يلجأ إلى حيل بها يداري تطاوله هذا. لذلك يلحّ على التمييز بين الحديث النبويّ، والحديث، وما يقوله أبو هريرة. ومعظم ما يستشهد به من آراء تتعلّق بالإسكاتولوجيا، منسوب إلى أبي هريرة، ربّما لكونه اشتهر بضعف أحاديثه بل ووضعها. غير أنّ هذا الإصرار على التمييز بين الموضوع والصّحيح من الحديث لا ينفي التّطاول على المحرّم الدّينيّ. وأبرز ما يتّضح ذلك في ادّعاء السّارد تنـزيهه الله عن أن يكون كما يصفه المشبّهة، ينـزل في الظلام من الغمام، يسبّح الملائكة من حوله. لكنّه، وهو يعيد إنتاج المشهد كما ورد على لسان أبي هريرة يخرج به عن الصورة المقدّسة إلى صورة السلطان يحيط به زبانيتُه يسبّحون بحمده.
وتدنيس المقدّس وادّعاء التـنـزيه وسيلتان يحقّق بهما السّارد هدفه، الإزراء بالدينيّ، وتفصّيه من مسؤولية هذا الإزراء، ما دام الكلام المتطاول كلّـه واردا على لسان أبي هريرة ينقل ذلك عن رسول الله ( القيامة...، ص ص63-64 ). كما يتضح هذا التطاول في التجسيم، وهو تحوّل العبارة كائنا حقيقيّا كالدابّة التي ورد ذكرها في الآية الثانية والثمانين من سورة النمل، تطارد الناس وتسم بخاتم " سليمان بن داود " الكفّار وتجلو على وجه المؤمنين بعصا " موسى بن عمران " ( القيامة...، ص ص 22-23 ). وربما يكون هذا التّجسيم مما داخل النّصوص التّراثيّة من إسرائيليّات روّجها القصّاص نظرا إلى ما فيها من عجائبيّ يلذّ للجمهور سماعُـه، لكنّه، في المنظور السّنّيّ، مما يُستقبَح ذكره. وأن يلحّ عليه السّارد، فللتطاول على المقدّس من ناحية ولخدمة الأثر الفنّيّ من ناحية أخرى. ولعلّ انتماء التجسيم إلى الإيهام بالفانتاستيكيّ نظرا إلى توفّره على الهلع يصيب الشّخصيّة والسّارد والمسرود له معا، هو الذي يحقّق التّحوّل من النصّ المصدر إلى النصّ النّاسخ. ومما يعزّز هذه الرغبة في الإيهام بالفانتاستيكيّ أو بأحد جنسيْـه المجاورين العجائبيّ والغرائبيّ إصرار السّارد على عدم الانضباط إلى ما أقرّه الإنشائيّون عند حديثهم عن الأجناس الثلاثة هذه، من استثناء المعجزات الدينيّـة. فإبراء عيسى بن مريم المرضى يتجسّد في النصّ الناسخ حاويا هو الأعور الدجّالُ ينشر فتاة ثمّ يعيدها صورتها الأولى ( القيامة...، ص ص 20-21 ). وبذلك يسوّي السّارد بين المعجزة الإلهيّة وفعل السّحر البشريّ.
وإذا كان المتحكّم في اصطفاء النصوص المصادر كي تحلّ من النصّ الناسخ محلاّ معلّى هو خضوعها لموضوعه فقد مال السارد إلى البحث عن النصوص الدينيّـة ذات الصلة المتينة بالتعذيب. وقد توفّرت السُّنّـة على كمّ هائل من الأحاديث التي تصف عذاب الجحيم ( القيامة...، ص 107)، وجد فيها السارد ضالّته. فهل قصرت مخيّلته عن تصوّر أشكال للتعذيب يمارسه البشر الآن وهنا فاستقاها من النّصوص الدّينيّة؟ أليست المبالغة في نسبة أصناف التّعذيب المتعدّدة إلى الحديث شكلا من أشكال التطاول عليه؟ فليست هذه الأحاديث منسوبة إلى أبي هريرة كي يتخلّص منها، ولا هي منسوبة إلى السّارد ذاته. وحتّى إذا اعتبرت مسألة السّند ثانويّة، فإنّ انتقاء أحاديث تتكلّم على التّعذيب وتجميعَـها في فضاء نصّيّ واحد، هو الرّواية يبشّع صورة الدّين وينفّر من الإيمان به. وعلى النقيض من هذه الصورة البشعة للجحيم، ترد على لسان الرسول صورةَ‎ُ‎ٌ أخرى مرغّبةٌ، هي صورة النّعيم ( القيامة، ص 99 ). وأوّل ما يتبادر إلى ذهن المتقبّل لدى قراءته النصّ التساؤل عن مدى صحّته وعن حقيقة نسبته إلى الرسول. أهو من كتب الصّحاح أم من كتب السّيرة أم مما وُضِع عن النبيّ إذ كان الرسول فيه يباهي بما يمنحه الله عباده الأتقياء من طاقة ليبيدية لا تمارى. إلاّ أنّ السّارد، وهو يتوقّع من المسرود له هذا الرّدّ، يخفّ إلى البرهنة على أنّه جادٌّ بعرضه رواية عن يحيى بن معاذ؟ ! يسوّي فيها نسبيّا بين النعيم والجحيم مادام المرء فيهما مخلّدا، وهو ما تضيق به النفوس ولا تحتمله القلوب ( القيامة...، ص 92 ). فمن يحيى بن معاذ هذا، هو ليس من رواة الحديث، ولا ممن خلّد التاريخ ذكرهم إن عدلا وإن تجريحا، إنّ وقوفه ندّا للقتبيّ وأبي هريرة، بل وللقرآن والحديث يجعل منه شخصية في النصّ النّاسخ فاعلة. ومادامت كذلك، فهي تعزّز بما تُـعـلِّق به، موقفَ الإزراء بالدينيّ والتطاول على المقدّس. وإذا كان السارد في القيامة...الآن قد برهن على هذا التطاول على مستوى العبارة المنسوبة إلى النّصّ التّأسيسيّ ولنصوصه المفسّرة، فإنّه قد عمد في الأسرار إلى الوقائع يصطفيها مما كان يأتيه الزّنادقة، يُـحِـلّه من نصّه الناسخ المحلَّ الأرفعَ. ذلك أنّ اختيار السارد الوليدَ بنَ يزيد، في تقواه وورعِـه، وفي عربدتِـه وزندقته، شخصيةَ ما أوهم بأنّه نصُّـه المصدرُ، وتركيزَه على الجانب الثاني منه بالذّات، إنّما هما اختيار غير بريء. وتشديدُه على ما أتاه من تطاول على الدّين أوامرَ ونواهيَ، بل وعلى المصحف ذاته يعلّقه ليقطعه بـنشّـابه إربا تنكيلا به ورفضا لوعيده وتهديده ( الأسرار، ص 117 ) إنما هو تطاول من النصّ النّاسخ ذاته على المقدّس. ولكن هل هذه هي غاية سارديْ النّصّـين؟ كلاّ، إنّ همّ السارد الرّئيس في القيامة...الآن هو تحويل الأنظار عن القيامة إلى الآن، وعن العذاب الأخرويّ إلى العذاب الدّنيويّ، وعن تعذيب الزّبانية إلى تعذيب الجلاّدين. وهمُّ سارد الأسرار الكشف عن سِـيَرٍ حرّم التّقليد التداول بشأنها إذ نسب فعل من يأتي صنيعَ المترجَم له إلى الكفر والزندقة موجبا إخراجه من الملّة إنكارا لحقّـه في الاختلاف وإجبارا له على الرؤية الواحدة.

II. 2 – المحرّم السّياسيّ
يلجأ السارد إلى نصوص مصادر بعينها يطوّعها لخدمة نصِّه الناسخ؛ ومتى كان بين نصِّـه المزمع إنشاؤه والنصّ المصدر تصادٍ وائتلاف في الرؤية كان الأمر أيسر، أمّا إذا كان بين النصّين تباينٌ عرّض وورّى. فللقيامة صلة بالأخرويات فيها – كما في المتصوّرات الدينيّة – الحساب والعقاب. ولكن هذه القيامة بعيدة عن التحقّق اليوم، وقد يقرأ لها الناس حسابا، فيزهدون في الدنيا ويخشعون لله، وكثيرا ما لا يقرؤون فيتهافتون على اللذّات ويسيئون إلى غيرهم في سبيل تحقيق مآربهم وقطع دابر كلّ من يقف في طريقهم حجر عثرة. وتحويلُ السارد هذا المفهوم مما هو أخرويّ إلى ما هو دنيويّ يقتضي منه تحويلا في الدّلالة. فإذا كانت الدلالة الإيحائيّة للقيامة حسابا وعقابا، فهي، في الدنيا، عذابٌ وثبور. وإذا كان المؤهّل للحساب والعقاب، والذي لا يهضم حقّا و لا يعتدي، هو الله، فإن الذي يعذّب في الدّنيا هو الحاكم وأعوانُـه. وعندما يسود هذا المفهوم المعدول عنه للقيامة ليتعلّق بالآن توظَّف كلّ الوسائل الأخرى المحقّقة هذه الغايةَ؛ ومن بينها الفزع الذي ينتاب الإنسان من قيام السّاعة. فهو يصبح فزَعا من أشكال التعذيب يوقعها الجلاّدون بمن يخالف سادتهم الرّأي (القيامة...، ص ص 39-40). وإذا ظلّت دلالة القيامة التصريحيّة قائمة في ذهن المتقبّل لا يتحوّل عنها، يسعى السّارد إلى تبديدها عبر التركيز على الشّقّ الثّاني من العنوان، وهو الآن، وعبر الإيهام بالفانتاستيكيّ مستحضرا نصوصا أخرى حديثةً لا علاقة لها بالإسكاتولوجيا كدراكولا ومصّاصي الدّماء (القيامة،ص 47). وما اللجوء إلى هذا التمويه إلاّ شكل من أشكال التبعيد، والقصد واضح؛ مما قد يوهم بأن للنصّ النّاسخ، وهو يُحِلّ التّناصّ محلَّه منه، ظاهرا وباطنا. و قد لا يلجأ السارد إلى التلميح، بل إلى التصريح شأنه عندما أورد مجلس أنس للوليد بن يزيد غنّى فيه أشعب مقطوعة جنسيّـة فطرب الأمير حتى كفر ( الأسرار، ص ص 100-101 ). إنّ اندراج هذا المقطع السّرديّ في النصّ النّاسخ لا يتغيّا منه السّارد إيفاء المسرود له بما كان يدور في قصور الخلفاء من مجون وعربدة، فهذا مشهور، وإنّما همُّ السّارد من وراء ذلك إقامة صلة ما بين ما وقع أمس وما عسى أن يقع اليوم، هذا إن وقع فعلا ما وقع. فالنصّ النّاسخ، إذ يهضم النصّ المصدر، يفقد هذا دلالتَـه الأصل لأنّه يحلّ في مقام وسياق لم يكونا له أصلا؛ وإلحاح السّارد على مظاهرَ بعينها يعني أنّه يلفت الانتباه إليها، فيصبح التّطريس وحده ناطقا ويتحاشى النصّ الناسخ المباشرة. ولذلك ترى السارد يعمِد إلى السلوك النمطيّ يعلنه كالفضاعات التي تحصل إبّان التّعذيب ( الأسرار، ص 47، والدراويش، ص 8) والتخلّص من الأعداء السّياسيين بـقتلهم وهم في السّجن ( الأسرار، ص48 ) وأشكال التعذيب النّفسيّ الذي يُلحِـقه المحقّقون بمن يخالفون الحاكم الرّأي ( القيامة، ص 44 ). ولعلّ بناء القيامة...الآن على معارضة الآن...هنا يشي بهذا التواشج لا بين النصّيْن بل بين الموضوعين مع تعديل كبير واضح هو ضرورة الإقلاع عن انتظار القيامة للاقتناع بأنّها حالّـة بعدُ.
وقد سعى السارد في نصّه النّاسخ إلى إيلاء مجموع ما كُتِب عن الآخرة في النصّ التأسيسيّ وفي النصوص المفسّرة له الأهميّة الكبرى؛ بل ذهب إلى حدّ المطابقة بين نصّـه وبينها. فقـسّـمه إلى أجزاء أربعة هي علاماتُ القيامة، والبعث والنّشور، ونعيم الفردوس، وأبواب الجحيم. وهذه الأقسام لا تتناسب والقيامة في المنظور الإسلاميّ فقط بل تتطابق أيضا مع المنظور الإسكاتولوجي الفرديّ والكونيّ في آن معًا . غير أنّ هذه المماهاة ليست سوى تورية عمّا يبغي السارد توكيده، وهو حصول القيامة الآن. فليس الضّيم الذي يلحقـه الحكّام بـمحكوميهم مقصورا على التّعذيب، وإنّما هو يتجاوزه إلى مراقبتهم وبثّ العيون في الأمصار تلتقط عليهم أنفاسهم. ولهؤلاء المراقبين تسمية راجت منذ الزيني بركات لجمال الغيطاني هي البصّاصون؛ وقد أصرّ السارد على استعمالها، رغم ما قد يداخلها في التّعبير التّونسيّ من دلالة إيحائيّة تخرج بها عن دلالتها التّصريحيّة في التّعبير المصريّ ( الأسرار، ص 67 ). وإذا كانت المراقبة والتعذيب والقتل حتّى، مما يبرّره الحكّام نظرا إلى أنّهم يخافون على أمن الدولة من الانهيار، فإنّ عموم المحكومين لا يسلَمون من خنق هم أيضا، عندما تُرهَق كواهلهم بالضّرائب تُملأ بها خزائن الدولة ( الأسرار، ص 60 ). وهل بوسع الحكّام تمرير سياستهم تلك، لولا إحاطتهم أنفسَـهم بالمؤيّدين والمصفّقين، يغدقون عليهم الأعطيات ليجدوا منهم إبّان كلّ خطبة تأييدا ومناداة بأسمائهم ودعاء لهم (الأسرار، ص ص 64-65 )؟ وهل يخلو مجتمع من مثل هؤلاء؟ ومتى نسب سارد النصّ الناسخ هذا إلى الوليد بن يزيد مثلا، لم يكن ذلك منه سوى تمويه لأنّ تعريضه صريح. فالتقاط السارد الأخبار المنبثّة في هذا النصّ المصدر أو ذاك، تتخذ في نصّـه النّاسخ سمة الواقعيّة النصّيّة مباشرة، تارة، تورية تارة أخرى، لا يمكن إلاّ أن يكون كاشفا وجهة نظره، ومعبِّرا عن تطاوله على المحرّم السّياسيّ، بل يفرضها الاعتبار الفنّيّ، إذ التّضافر النّصّيّ، وهو يخدم نيّة السّارد، لا يمكنه إلاّ أن يُذوَّب في صلب النصّ الناسخ. وقيمة هذا النصّ في نفي البعد المباشر عنه لأنّه كلّما أوحى ولمّح كان أفعل. والتّطريس يلعب، في هذه الحال، دورا مزدوجا هو التبعيد والتّقريب في آن معًا. فمن شاء أن يرى فيه استعارة تمثيليّة ( ألّيغوريا ) كان له ذلك، ومن شاء أن يرى فيه تعبيرا صريحا عن الآن وهنا، أمكنه ذلك أيضا.

II. 3 – المحرّم الجنسيّ
لعلّ أكثر ما تطاول عليه الإبداع الفنّيّ في تونس هو المحرّم الجنسيّ لما في المحرّمين الدّينيّ والسّياسيّ من مخاطر يربأ المبدعون بأنفسهم – مهما تحاشوا المباشرة – عن أن يتورّطوا فيها. ولئن لم تخل روايات درغوثي من مثل هذا المحرّم، فإنّ المطلوب هو البحث عنه في إطار الواقعيّة النصّيّة. فأن يرد الكلام عليه في خطاب السّارد الأوّليّ، بقصد بلورة العالم القصصيّ، متوفّر، ولكنّه، في ما يتعلّق بالواقعيّة النّصّيّة، أضأل حضورا من سابقيْه فالسارد قد يكتفي حينا بالإحالة في الهامش على نصّ جنسيّ مشهور وليمرّ سريعا، شأنَـه مع الليلة الثّامنة عشرةَ من الإمتاع والمؤانسة (القيامة، ص35)، وقد يتبسّط حينا آخر، شأنَـه مع الحديث عن عربدة الوليد بن يزيد في مجالس أنسه، ويصبح آنذاك الكلام الجنسيّ بمثابة العملة الرّائجة ( الأسرار، ص ص 100-103 ). ويُعِـدّ السّارد لذلك العدّة فيدّعي أنّه قد تسنّى له، ساردا شخصيّة، منقّبا عن الآثار، أن يحصل على صنـدوق به مخطوطات، أو هكذا به أوهم؛ ويقتضيه واجبه أن يفيد مما استفاد؛ وهو ما يجعل النيّة من التّنقيب لا اكتشاف معلَم أثريّ متوقَّع أو غير متوقَّع، بل الكشف عن نصوص محرّمة يقرأها القرّاء مثلما يقرؤون غيرها. وقد يتكلّف الإشارة إلى القراءة كلّما عنّ له إيراد مقتطفات من نصوص تليدة قد لا تتسنّى للمسرود له فرصة الاطّلاع عليها. وهو ما فعله في الشبابيك عندما تحدّث عن قراءته ما احتوته مكتبة الأسرة العامرةُ بكتب التّراث (ص ص27-28). وهو في الحالتين، منقّبا أو قارئا، أوّل القرّاء مادام قد نقل النّصّ المصدر وأحلّـه من نصّـه النّاسخ محلَّ الواقعيّة النصّيّة تسهم مع غيرها من الواقعيّات الوصفيّة والرّمزيّة في إنتاج الدّلالة.
ولعلّ ما يثير انتباه المسرود له إصرارَ السارد على إيراد هذه النّصوص بعينها وهو يعلم علم اليقين أنّ الرّقابة تستهجنها وتمانع في صدور النّصوص التي تحويها . أفيبدي تطاولا على المقدّس لِـيُـعليَ من شأن المدنّس أم هو يصرّ على إيفاء متقبّلِـه بما يراه ممتنعا عنه؟ ويحار هذا المسرود له أيضا إزاء النّصّيّة النّاسخة، لِم جاءت في المحرّميْـن الدينيّ والسياسيّ أوفر مما جاءت في المحرّم الجنسيّ؟ وإذا ما استبعَد الخـجـلَ مبرّرا إذ الإباحيّة في النّصوص طاغية، لا يسعه أن يفسّر ذلك بشحّ النصوص المصادر بمثل هذا المحرّم، فهي به غنيّةٌ غناها بالمحرّمين الآخريْن. لكنّه قد يرتاح إلى أنّ النصّ الروائيّ لا تؤسّسه واقعيّة واحدة، بل واقعيّات، وإذا ما رجحت كفّة إحداها في نصّ خفّت وجوبا في نصّ آخر. ولعلّ خفوت صوت السياسة والدّين نسبيّا في الشبابيك قد عوّضه حضور الجنس بشكل لافت للانتباه. وإذا ما هيمنت الواقعيّة النصّيّة في القيامة والأسرار خفّ أثرها في الشبابيك والدّراويش بل قل تحوّلت الواقعيّة النّصّيّة إلى معارضة بله تحريف هزليّ.
وأيًّا ما يكن الجنس الأدبيّ الذي يمتصّ المتناصّ ليتجاوزه، فإنّه لا يدلّ على أنّ السّارد يستخدمـه عابثا فحسب أي محوّلا الرّفيع إلى وضيع، وإنّما هو يستعمل هذا الجنس الأدبيّ أو ذاك قصد تسريب الفكرة التي يبغي تسريبها سواء كان في ذلك تطاول على المقدّس أو لم يكن. ولا يني السّارد ينبّه المسرود له إلى أنّه قد يبدو متهكّما مزريا بالقيم الأجناسيّة والمؤسّساتيّة؛ فهو كثيرا ما يبدي اعتذارا عن زلّة لسان وقع فيها هو أو إحدى شخصيّاته، شأنَـه مع عالِم الآثار يعتبر أنّ عقبة ابن نافع غزا بلاد إفريقيّة ( الأسرار، ص 19 ). وإذ يتراجع، ينبّه المسرود له إلى أنّه قد تعمّد التّطاول في القول. ولو لم يفعل، لكان انتباه المسرود له مشكوكا فيه، إن لم يكن منتفيا تماما. وشأن السارد في الأسرار شأنه في الدراويش عندما حمله الجريُ وراء السجع والوزن فـزلّ لسانه: جِمالٌ مذبوحة. / ورجالٌ مذبوحة. / عفوا! غلّطني الوزن! / عذرا مرّة أخرى ! / جعلني الوزن أغلط ! (الدراويش، ص ص 70-71 ). إنّ عودة السّارد، وهو يرى قصّة الوليمة في حِيرة المنذر بن النّعمان، إلى الخطإ والاعتذار، إنّما هي مخادعة وتضليل. وهو، إذ يفعل ذلك، يُصِرّ على أن ترسخ الفكرة في الذّهن. وإذا ما ربطنا هذه الزّلاّت يُـعتذر عنها بالتّطريس يَـتّخذ له سَمتًا محدّدا أصبح من غير المشكوك فيه أنّ السّارد جادٌّ غير عابث، مهموم بفكرة يريدها أن تبلغ من يريد أن تبلغهم. ولا تتوقّف مناورته عند حدّ، فهو يدّعي أنّه يخاف القلم والقرطاس ( الدراويش، ص 7 ) وأنّه بطبعه رجلٌ جبانٌ يكاد يخاف من ظلِّه في بعض الأوقات ( نفسه، ص 8 ). وكلّما ألحّ على ادّعاء البراءة والعجز زاد تورّطه. وأبرز مظهر لتورّطه اصطفاؤه نصوصا بعينها. فهو إن لم يعلن عن مواقفه صراحةً، لم يجد المسرود له عسرا في اكتشافها، وإن ضلّل لم يجد منه أذنا صاغية. ولعلّ ذلك هدفٌ يتغيّاه السّارد من وراء صنيعه ذاك.

III. غائيّـة التّطريس
لا يخلو ميل درغوثي إلى تخصيصه للتّضافر النّصّيّ من نصوصه النّاسخة حيّزا كبيرا من دلالة نبّه إليها محمّد الناصر العجيمي في مقاله. ولعلّ ما أشار إليه هذا الباحث من تجريب في الكتابة السّرديّة على أنّه من تحصيل الحاصل هو المقصد الأبرز من مثل هذا الصّنيع. فالكاتب وهو يتخيّل عالَمه الرّوائيّ ويوكل إلى سارد بعينه أمر تنفيذه، لا يني يؤكّد حضوره الموارب وراء هـذا السّـارد أو ذاك. فإذا كانت الواقعيّة الوصفيّة تقتضي من ذات التّلفّظ الامحاء ما أمكنها ليكون الخطاب الذي تتوجّه به إلى المتقبّل واضحا جليّا، فإنّها، باستعمالها الواقعيّة النصّيّة تلتفّ على هذا الاقتضاء بل تضرب به عرض الحائط. فإيراد حكاية للجاحظ هنا وكرامة لدرويش هناك وقصيدة لكفافي هنالك إنّما هو دليل على أنّ الكاتب ينتقض على دور التّخيّل المناط بعهدته ليحقّق لأناه جانبا مما تحتاج إليه من الاعتراف بها. ومَن أولَى بتلبية هذه الرّغبة غيرُ الذّات نفسها؟ ألم تبذل جهدا شديدا في القراءة والنّبش في الوثائق، حتّى إذا امتلأت بما تحويه، تسنّى لها أن تضمّنها في هذا النّصّ أو ذاك؟ (الأسرار، ص 127 ). والميل إلى تقديم جرد بالكتب في هذه الرّواية أو في تلك ليس مجّانا، وإنّما هو لتوكيد الذّات الكاتبة، من خلال السّردة الموكول إليهم مهمّة الكلام، أنّها تستحقّ التّقدير لأنّ النّصّ النّاسخ الذي امتصّ النّصوص المصادر وتمثّلها، ما كان بإمكانه أن ينجَز لولا هذا الجهد. وإذا كانت مشاقّ الكتّاب في إعداد رواياتهم قديما يُـتحدّث عنها في مجال النّصّ الموازي، فإنّ الرّواية اليوم عموما، ورواية درغوثي خصوصا، تفرض أن يكون ذاك في صلبها هي بالذات إن في شكل حكاية واصفة Metafiction ، وإن في شكل واقعيّة نصّيّة ( الدراويش، ص 56 ). وبذلك، تنتقض الواقعيّة النّصّيّة على الواقعيّة الوصفيّة، مادام ما تتّسم به من شفافيّة الخطاب وانعدام التّشويش عليه لتيسير مقروئيته ، قد رفضته الواقعيّة النصّيّة بحضورها المكثّف في النّصوص بله في النّصّ الواحد. واستعانة الخطاب الواقعيّ ( الوصفيّ ) بوسيط من خطاب آخر منتفية أو تكاد . ولذلك تلجأ الواقعيّة النصّيّة بما هي مماهية للتّطريس، إصرارا منها على استبعاد الواقعيّة الوصفيّة، إلى الاستعاضة عن تحاور الشخصيّات بتحاور النّصوص، ويكتفي السّارد، مثلما هو شأنه في الواقعيّة الوصفيّة، بإحالة الكلمة إلى هذا النصّ أو ذاك. فالحديث المرويّ عن أبي هريرة مثلا، يجاور آيا من القرآن، تجاور هي بدورها نصّا لابن منظور من لسان العرب (القيامة، ص 71 )، محقّقةً بذلك دور الحوار في النصّ الواقعيّ الوصفيّ إيهاما بالواقع، وتحقيقا لتواصل مباشر بين النّصوص المتحاورة والقارئ.
ولا يزري التّضافر النّصّيّ بالواقعيّة الوصفيّة في تشويش المقروئيّة وفي حرف الحوار عن دوره الأصليّ فقط، بل هو يعمل على تتفيهها بنفي ما توليه، في إطار هدفها التّوضيحيّ، من أهمّيّة للاسم العلم. فالسّارد / الشّخصيّة في القيامة...الآن، ظلّ خفيّ الاسم، وإن كان بينه وبين آدم بن آدم الآدميّ شبه بل مطابقة؛ فقد أدخله السّلاطين المارستان، ووضعوا على جبينه صفة مجنون، تماما مثلما حصل لآدم؛ وفضلا عن ذلك، لعب آدم في بعض المقاطع دور السّارد. لكنّ الفرق الجوهريّ بينه وبين السّارد الخفيّ الاسم أنّه داخليّ في حين أنّ الآخر خارجيّ. فهذا يتكلّم على السّابق بضمير الغائب كأن يقول: ” آدم بن آدم ...يلتقي “ ( القيامة، ص 93 ) أو يقول: ” آدم بن آدم ...يريـد “ ( نفسه، ص 96 ). ولعل إبقاء هذا السّارد مغمورَ الاسم، متّفقَ الصّفات مع آدم بن آدم ومع بقيّة شخصيّات الآن...هنا، مشتركَ الصّفات ّ مع المستضعفين، له ما لهم من هوّامات، غايتُه الإشعار بأنّ ما تصرّ عليه الواقعيّة الوصفيّة، يمكن التّخلّي عنه دون الإضرار بمقوّمات الكتابة السّرديّة. أفليس بالإمكان تحقيق الإيهام بالواقع من خلال الاستشهاد بنصوص أخرى ينسخها النّصّ الجديد؟ إنّ استدعاء العطيوي والشهيري وهما آمر السّجن والمحقّق في الآن ...هنا ليتصارعا ويصرع أحدهما الآخر ( القيامة، ص ص 84-85 ) أدّى دور الواقعيّة الوصفيّة والتّضافر النّصّيّ في آن معا، ولبّى للسّارد هوّامه بأن يرى معذّبي الدّنيا يُقتَصّ منهم في الآخرة. وبذلك لا تكون القيامة...الآن مجرّد اجترار لنصوص تتحدّث عن الإسكاتولوجيا كونيّةً كانت أو فرديّةً بقدر ما هي انتقام للمساجين السّياسيّين من أولئك الذين نكّلوا بهم، ولكن بدل قول ذاك مباشرة يقع اللجوء إلى وسيط نصّيّ لتحقيقه.
وعندما تتجاور الواقعيّة الوصفية مع التّضافر النّصّيّ، يؤثّر أحدهما في الآخر، غير أنّ تأثير التّضافر النّصّيّ في الواقعيّة الوصفيّة أكبر لأنّه يفقدها سمتها الممـيّـزة، وهي الشّفافيّة والمقروئيّة. فما أورده سارد الدراويش من موجز لجامع كرامات الأولياء ( ص ص 93-102 ) قد يوحي بأنّ الرّواية جِماع منتخبات من النّصوص الصّوفيّة قديمةً كانت أو حديثة؛ بيد أنّ هذه المنتخبات، عندما تحلّ في الرّواية متناصّا، تفقد سمتها الأصل لتخدم دلالة هي العودة من* المنفى. وعندما يتّضح أنّ هذا الرّجوع غير ذي نفع ولا قدرة على التّصدّي للتّخريب الحاصل، تقع العودة إلى* المنفى ثانية .
ومتى اتضح أنّ بين الواقعيّتين صراعا، فيه يقف السّارد مناصرا التّضافرالنّصّيّ على حساب الواقعيّة الوصفيّة، يتكشّف أنّ هناك تبشيرا بطريقة في الكتابة السّرديّة جديدة. فهي لا تقتصر على صهر النّصّ المصدر في النّصّ النّاسخ فقط، بل هي تقدّم بلاغة جديدة، هي في الأصل قديمة، وهي الجمع بين المنثور والمنظوم. فميل السّارد إلى تضمين نصوصه شعرا ، ومواقف ومخاطبات في وقت يهيمن فيه الخطاب النّثريّ على مدوّنته يشي بالرّغبة في إحياء البلاغة القديمة من ناحية، وفي التّبشير بنفي الحدود بين أصناف القول والأجناس الأدبيّة من ناحية أخرى. غير أنّ الحاصل من عمليّة الصّهر هذه خطابٌ هجينٌ يتناسب وهُجنةَ الرّواية ذاتها، تلك التي بإمكانها استيعاب الخطابات المختلفة. ولعلّ استدعاء الفانتاستيكيّ وما يتمخّض عنه من عجائبيّ غالبا وغرائبيّ لِماما، يسهم في استكمال أوجه هذا الجنس الهجين الوليد. فهو يجمع من أصناف القول المتنافر، ومن أجناس الأدب المتباعد بما يحقّق للنّصّ غِناه من حيث الأجناس، ففيه الأسطوريّ، والخرافيّ، والعجائبيّ، والواقعيّ، والتّاريخيّ ناهيك عن المقدّس والمدنّس، كلّ ذلك في خلطة واحدة، تقبل بها الرّواية وتستوعبها لأنها قدرت على أن تخلق ما يُدعَى بالمحتمل الفنّيّ le vraisemblable. فلم يكن همّ الرّواية أن تتخذ لها سمتا معيّنا بحيث يهيمن جنس بعينه أو صنف قول بذاته، وإنّما تتراشح الخطابات والأجناس تراشُحَ النّصوص المصادر والنّصوص النّاسخة، وتراشُحَ الواقعيّة الوصفيّة والواقعيّة النّصّيّة. والقول بالتّراشح يعني التّنابذ مثلما يعني التّّجاذب. والمستهدف من وراء ذلك كلِّه إنّما هو القارئ ضمنيّا كان أو واقعيّا يُدعَى إلى تبيّن الكيفيّة التي تمّ بها الصّهر ومدى الإفلاح الذي حقّقته . فالقارئ لا يفيد من التطريس نصوصا أُحيل عليها، وطُلِب منه مطالعتُها فحسبُ، وإنّما هو يُطالَب بأن يرى كيفيّة نسخها النّصوص المصادر أاجترّتها أم امتصّتها أم تجاوزتها؟ ومتى دعت الرّواية المسرود له إلى النّهوض بهذا الدّور، تكون قد حقّقت قفزة نوعيّة في تحويل القراءة من السّلب إلى الإيجاب. فهي إذ تقلّص شفافية الخطاب وتشوّش مقروئيّته، وإذ تنتصر للواقعيّة النّصّيّة لحظةَ صراعها مع الواقعيّة الوصفيّة، وإذ تحقّق محتملا فنّيّا بصهرها المتناقض في المتوائم، تعلن عن ميلاد شكل في الكتابة السّرديّة غير مسبوق.

IV. صورة السّارد والمسرود له:
إنّ الحديث عن حضور التّطريس في روايات درغوثي بكمّ غزير وحسب أشكال وغايات معيّنة للتّعبير عن موضوعات بعينها يقتضي النّظر في صانع هذا كلِّـه أي السّارد. فالخطاب الرّوائيّ لا يستوي نصّا إلاّ متى استُكمِل التّلفّظ ليصبح ملفوظا. والخطاب أو التّلفّظ إنّما هو من مشمولات هذه الشّخصيّة الواصلة المسمّاة ساردا. فبأيّ صورة تظهر في رواية درغوثي؟
إنّنا متى حدّدنا صورة هذا السّارد اتّضحت لنا معالم المسرود له الموجود معه في مستوى واحد. فما من مخاطِب إلاّ ويستهدف مخاطَبا يقنعه بوجهة نظر أو يؤثّر فيه بموقف أو يمتعه بتعبير. وهو إذ يتلفّظ، يقيم ملفوظه على بنية معيّنة تجلب انتباه المسرود له فتحضّه على أن يبحث فيها، كما في غيرها من عناصر الملفوظ الأخرى، عن الدّلالة. فبين طريقة السّارد في الكلام والدّلالة التي يتغيّاها منها علاقة جدليّة تبيُّـنُـها مرتهن بتحليل أبعادها. وأوّل ما يجب التّنبيه إليه أنّ المتن الرّوائيّ، لئن كان في مجموعه لِـمؤلِّف واحد هو إبراهيم درغوثي، فإنّ السّارد لسان حاله، فيه، متغيِّر السِّمات. بيد أنّ هذا التّغيّر لا يعني التّناقض المطلق، وإنّما هو التّغيّر الذي يفرضه اختلاف التّخيّل، عملِ الـمؤلِّف الأساسيّ. فمادامت السّمة الغالبة على الرّوايات الممثِّلة المتنَ حضورَ التّطريس بكثافة، فإنّ التماثل بين السّـردة المتعدّدين أشدّ من التّعارض؛ وذلك لأنّ الصّورة التي يبغون إخراج نصوصهم عليها واحدةٌ أو تكاد. وليس ذلك يعني تكرار نصّ آخر بقدر ما يعني تمييز متن روائيّ من سواه. وقد يشترك ساردان أو أكثرُ في سمة موحّدة، تمثّل هي بذاتها، تقويةً للواقعيّة النّصّيّة مدارِ الاهتمام. فإذا كان السّارد في النّصوص جميعها ذا تجربة ومعرفة عميقتين، فإنّ في ذلك تكريسا للتّصادي بين نصوص درغوثي نفسِها. ومتى كان السّـرَدَة ميّالين إلى العجائبيّ يبنون عليه الرّوايات، فذاك مؤشِّر آخر على التّماهي القائم بينهم مما يجعلهم مفردا في صيغة الجمع. ويصبح آنذاك الكلام على السّارد في روايات درغوثي أمرا مقبولا.
وأكثر ما يلفت الانتباه في السّارد أنّه مماثلٌHomodiégétique في الرّوايات الأربع، ويتّضح ذلك من خلال استعماله ضمير المتكلّم، ولا تعني مماثلته وجوبا مشاركته في الأحداث، بل قد يقتصر فيها على شاهد العيان. وليس بالإمكان الحسم بنسبته إلى هذا اللون أو ذاك، لأنّه قد يشارك فعليّا في الأحداث تارة، وقد يكتفي بالمشاهدة أخرى. وتسعفه مشاركته بأن يبئِّر الحكاية تبئيرا صفرا focalisation zéro، ومشاهدته بأن يبئِّرها تبئيرا خارجيّا focalisation externe وهو السّمة الطاغية عليه في الغالب. ولعلّ مما يفرض هذا النّمط من التّبئير النّصّيّةَ النّاسخةَ نفسَها. فالسّارد الذي ينسخ نصّا، إنّما يتعامل معه على أنّه مُدرَك مرئيّ يقرأه أوّلا وينقله بعدئذ؛ وعندما يحيل الكلمة إلى سارد داخليّ، يتكفّل هو بتسجيل ملفوظه فقط، وقد أدركه سماعا. وهذا ما نبّه إليه درويش عندما دعا السّاردَ إلى النّسخ، على أن يتولّى هو الإملاء (الدراويش، ص 11). وحتّى إذا روى السّارد الدّاخليّ، فإنّه يمارس ممارسة الخارجيّ سواء بسواء، شأن صاحب ستر الخليفة في الأسرار يكتفي بدور الحراسة والمراقبة لما يدور خلف الأستار. ومتى امتنعت عنه رؤية شيء ما سكت عن ذكر ما لا يراه، حتّى إذا عادت الرّؤية ممكنة استأنف تصويره .
وهذا التّواضع المعرفيّ من جانب ذات التّلفّظ لا يعني أنّها، ذاتَ ملفوظ، كذلك. فهي على العكس تماما، ذاتُ اطلاع على التّراث كبير وعلم بما في بطون الكتب قديمها والحديث غزير. ولكنّه التّواضعُ الذي تفرضه الرّغبة في الإزراء بالرّواية التّقليديّة حيث يبدو السّارد كلّيّ المعرفة كلّيّ الحضور. فالسّارد الحديث هو ذاك المؤمن بأنّه لم يؤت من العلم إلاّ قليلا، ولذلك هو يلجأ إلى نصوص تليدة أو طريفة يستنجد بها حتى إذا أفاد منها صهَرَها في نصِّه النّاسخ حتّى لا فصلَ بينها وبينه. وإذا كانت قدرتُه على الصّهر هي التي تكشف عن مدى إبداعه، فإنّ في ذلك غمزا في الرّواية التّقليديّة التي ترفع الكاتب إلى درجة الخالِق مادام يعتبر الكتابة أمرا ميسورا. فمن اطّلع على النّصّ جاهزا بدا له أن لا صعوبة في الكتابة حتى إذا أراد أن يقلّد فيكتب على منوال من قرأ لهم وجد أنّ الرّواية ليست تنفيذا لما وقع بعدُ تجهيزُه، وإنّما هي على العكس، تتمّ لحظة القيام بالكتابة ذاتِها .
صحيح أنّ إشارات كثيرةً ترد في أوّل الرّواية مفادها أنّ الرّواية قد اكتملت – على الأقلّ في ذهن السّارد – ولكنّ ذلك وهم أيضا، إذ الإشارات التي تتجلّى للمتقبّل في مستوى الملفوظ هي من خدع المتلفّظ إذ يقدّم ما يستأهل التأخير ويؤخّر ما يستدعي التّقديم. والسّارد، في ذلك، يتحوّل من دوره ساردا، إلى دور النّاقد يعلّق على روايته ولمّا تبدأْ، ويخاصم شخصيّاتها أو تخاصمه ولمّا يعرفْ المسرود له إلام يعود ذلك . وقد لا يتمّ تعامل السّارد مع نصّه الذي هو بصدد إنجازه، وإنّما يعقده على النّصّ المصدر الذي ينسخه. فهو، إذ يوظّف المتناصَّ لـغير ما وُضع له أصلا، يفسح لـنفسه المجال كي يسائله فينقضه أو يزكّيه؛ من ذلك سخريته بعادل الخالدي الذي غالطه سالم العطيوي آمرُ سجن العفير في الآن...هنا وجعله يدفع به العربة لأنّه ذو رِجْل خشبيّة . فالسّارد، إذ ينتقد سذاجة شخصيّة من رواية أخرى، يتعامل معها كما لو كانت شخصيّة في روايته هو؛ والواقع أن لا فرق ما دامت الرّواية النّاسخة قد عارضت الرّواية المصدر وربّما حرّفتها هزليّا.
وهل التّحريف الهزليّ مما يتحاشاه السّارد أو يخفيه؟ كلاّ، إنّه يعتبره من صميم العملية السّرديّة المتمثّلة في استدعاء المتناصّ باعتباره نصّا مصدراً ليجاور خطابه الأوّليّ وربّما لينافسه. والسّارد، إذ يعمِد إلى الاستشهاد أو المعارضة أو الكلام على الكلام أو التّكرار أو ما عداها من أشكال التّطريس يعمل على خداع المسرود له. فهو يبدي له، أنا ساردةً، أنّه غمر جبان يأتمر بأوامر شخصيّةٍ من شخصيّاته، ولكنّ المسرود له، عندما يرى علاقة المماهاة بين السّارد والشّخصيّة، يخفّ إلى الإنكار عليه إيهامه ذاك. فهو، أنا مسرودةً، ذو تجربة في الحياة عميقة وذو سعة اطّلاع وكثرة قراءة. وقد أهّله لهذا كلِّه ما استمدّه من تجارب الشّخصيّات المجاورة وما أفادته به رحلاته المتعدّدة (الدراويش، ص 114 وص 117 ). وإذا ما انطلى على المسرود له مثل هذا الخداع في بداية عهده بالرّواية، فإنّ مواصلته القراءةَ تيسّر عمليّة الكشف ورفع الزّيف. وهو فعلا ما تتغيّاه الرّواية. فهي تخادع لتستفزّ، وتستفزّ كي يُقبِل عليها؛ ومتى فرضت هذا الإقبال استفادت انتشارا وتقبّلا جادّا. وشأنُ المسرود له، يوقف مخادعته عندما تبلغ درجة لا يتحمّلها، شأنُه عندما ينسب السّاردُ كذبا إلى أبي هريرة أحاديث لم يكن هو أصلا فيها. أيفعل ذلك لأنّه يأنس لدى المسرود له قبولا بأنّ الرّجل كثير الوضع ضعيف النّقل أم هو يفعله لحفز همّة المتقبّل إلى التّثبّت؟ إنّه متى أخفى مصادره واكتفى بإيراد محتوياتها، أبدى المسرود له شكّا فيها، إذ كيف السّبيل إلى الإلمام بكلّ تلك المعلومات دون أن يكون هناك رفد من وثيقة وسَنَدٌ من أثر؟ ويستوي في ذلك السّارد من الدّرجة الأولى أو الخارجيّ والسّارد من الدّرجة الثّانية أو الدّاخليّ. فمَن لصاحب ستر الخليفة الوليد بن يزيد أن يعرف صفات أشعب لو لم يستقِـها من أمّهات الكتب ( الأسرار، ص 99 ). وكذا أمره مع المشهرين من المحكوم عليهم في سامرّاء. فهل يمكن أن يقتنع القارئ المحايث بأنّ صاحب السّتر هذا علاّم الغيوب، مادام قادرا على كشف الأستار أو أنّ درويشا بإمكانه أن يتذكّر معرفة كان قد حفظها في عالم المثل الأفلاطونيّ مادام ذا كرامة؟
ومهما يسعَ إليه السّارد من إخفاء، فإنّ المسرود له له بالمرصاد. وهو ما قد يبدو مفارقة غير مقبولة، لكنّ النّقيض هو المطلوب تماما. فبقدر ما يستفزّ السّارد متقبِّلَـه يفلح في لفت انتباهـه وكسب ودّه. ولذلك يميل أحيانا إلى الظّهور بمظهر الموضوعيّ ويفشل حينا آخر في إخفاء انتمائه. فهو قد تكلّم على الوليد بن يزيد، الذي له في المتخيّل الجمعيّ، صورة الخليفة الماجن الخليع، بما يعزّز هذه الصّورة وبما ينقضها في آن معا. وبناءُ درج الحكاية الـمضمّنة على تقابل بين الأسرار والأيّام، الأسرار للنعيم والبذخ، والأيّام للنّكد والبؤس دليل على هذه المعادلة في النّظر إلى سيرة الرّجل. لكنّ بنية هذه المعادلة منخرمة نتيجة الإبطاء في الحديث عن الأسرار والإسراع في الحديث عن الأيّام مما يشي بتعاطف خاصّ من السّارد معه ( الأسرار، ص ص 75-126 ). واختيارُه من النّصوص ما يشي بطيبة الوليد، مدعاة إلى التّساؤل: أهو ينقلها من وثائق تليدة أم هو يبتدعها ابتداعا؟ فالوليد، بقدر ما يسعى إلى أن يكون ذا أريحيّة وإقبال على اللذّة، يدافع عن حقوق الإنسان الرّافض للتّعذيب المقِـرِّ للمعارضين ببعض الحقّ في ممارسة نشاطهم لا السّياسيِّ فحسب، بل الاجتماعيّ أيضا دون مطاردة ولا مضايقة ( الأسرار، ص 107 ). وبذلك يستند السّارد إلى هذه السّيرة يعلن عنها في الوقت الذي تسمح له فيه بتقديم آرائه في السّياسة والاجتماع. وقد لا يسعف الاستشهاد بمثل هذه السّيرة تُـصهَـر في الرّاهن، بإخفاء السّارد ما يبغي إخفاءه فيلجأ آنذاك إلى الفانتاستيكي وبالذّات إلى العجائبيّ يحتمي به حتّى يضلّل أوّلا ويمتع ثانيا. وأبرز شكل للفانتاستيكيّ في رواياته الخلط في الزّمن. فالإماء يجاورن المرسيدس، والبراق يجاور المطار، والسّارد بين هذه الأزمان المتباعدة التاريخيِّ منها والأسطوريِّ يحضُر مرّة مع قطر النّدى والخليفة المعتضد العبّاسيّ ومرّة مع درويــــش ونـمـرة ( الدراويش، ص 33 وص 47 ) . ووجودُ السّارد في هذا الخارق الزّمانيّ يقتضيه تأثيثه بما يتناسب وإيّاه، فإذا درويش يأكل كاميرا مارتال وصوره وإذا به يضع رجليه في النّار التي لا يستطيع أحدٌ القرب منها لشدّة لهيبها ( الدراويش، ص 49 ). ومثل هذا الإيهام بالفانتاستيكيّ يستهدف المسرود له أساسا. ولكنّ هذا المسرود له، الواعيَ بأنّ معظم ما يرد عليه الفانتاستيكيّ في روايات درغوثي لا يخلق شعورا بالحَـيـرة والقلق، ولا يحقّق هلعا ولا خوفا، يطمئنّ إلى أنّ العجائبيّ هو السّائد. ومادام كذلك، فهو يقبل الظواهر الخارقة بلا لِم ولا كيف. وإذ يتعامل المسرود له مع سارده من موقع الفطِن المنتبِه المحلِّل لا يسع السّارد إلاّ أن يثمّن موقفه ويزكّي نشاطه. وما تحديده، منذ بداية رواياته، طبيعة هذا المسرود له مفردا تارة جمعا تارة أخرى، مطلقا حينا محدّدا حينا آخر إلاّ مظهر من مظاهر كسب الودّ إذ هو لا يخرج عن اعتباره كما كان التّراث الحكائيّ يعتبر المرويّ لهم جمهورا منصتا، ومن ثمّ هو يعزّز صلته بالتّراث فيبرّر لِم اختار نصوصه المصادر في أغلبها من ذاك التّراث التّليد.
ومتى عزّز السّارد علاقة المسرود له بالتّراث تليده والطّريف، حقّق للتّطريس الذي خصّه بإنتاجه مبرّر وجوده. فليس ليوجَد فقط للتجاوز النّصّيّ، وإنّما له بتأصيل الكتابة السّرديّة من ناحية، وارتياد تخوم لم تعهدها هذه الكتابة من ناحية ثانية، علاقة متينة. وإذا طرقت الرّوايات موضوعات مختلفة، فقد اتّفقت جميعُها على خصيصة في الكتابة موحّدة، هي النّهوض بالإبداع الرّوائيّ بـجعله يتجدّد على الدّوام.


خـاتــمة
يُعتبَر التّطريسُ، بالكثافة التي حضر بها في روايات درغوثي، نقضا للوهم القائل بأنّ الرّواية، متى التصقت " بالواقع " المعيش تمثِّله، تكون أقرب إلى نفوس القرّاء لأنّها تكون على درجة من الوضوح كبيرة. وتعتبَر دحضا أيضا للتّصوّر الذي يرى أن ليس أيسرَ من التّطريس يُعاد إليه في مظانّـه، فيقع نسخٌ واقتباسٌ وتضمين، وبذلك تصبح الرّواية الحديثة الممثِّلة النّصوصَ الأخرى لعبا وضحكا على الذقون. وإذا ما تغيّا التّطريس في روايات درغوثي هذين الهدفين فحسبُ، ففي ذلك غاية المراد. لكنّه بقدر ما ينقض ويدحض، يبني تصوّرا للكتابة السّرديّة جديدا يُحيي أوّلا تقليدا بلاغيّا قديما هو الجمع بين المنثور والمنظوم، ويحقّق ثانيا نوعا من الاستقلال الفنّيّ للكتابة الرّوائيّة العربيّة عن التّصوّر الغربيّ المركزيّ لمثل هذه الكتابة، وإن كان ذلك يتّضح أكثر ما يتّضح في المتناصّات ذاتها؛ ويبدّد ثالثا وهما بأنّ اللغة تحاكي الواقع، في حين أنّها لا يمكنها أن تحاكي سوى اللغة نفسِها؛ و يعيد أخيرا بذلك بناء العالم باللغة بناء مغايرا عندما يُقبِل على النّصّ المصـدر يستنسخـه أو يقتبسه أو يعارضه أو يحرّفه هزليّا. وإذا كان النصّ المصدر المعود إليه متنوّعا مضمونا متعدّدا شكلا، فإنّ تعامل النّصّ النّاسخ معه يدلّ على أنّ هناك اختيارا حصل؛ اختيارا يتّصل بالمحتوى اتّصاله بالنّصوص السّابقة أو اللاّحقة، المنتمية إلى الذّات أو إلى الآخر، المتعلّقة بهذا المحرّم أو ذاك.
وأيّا ما يكن الأمر، فإنّ للاختيار في الإبداع السّرديّ القيمة الجُلّى مادام المرغوب فيه كتابة على غير مثال سابق.

محمد نجيب العمامي
08/12/2006, 09:30 PM
عمل يمتاز بالدقة وبالتحكّم في آليات المبحث. ولكن قول الكاتب "وأيّا ما يكن الأمر، فإنّ للاختيار في الإبداع السّرديّ القيمة الجُلّى مادام المرغوب فيه كتابة على غير مثال سابق." قد يحتاج إلى وقفة. إنّ عبارة كتابة على غير مثال سابق تعيد في صياغة جديدة لفظة الإبداع وكلتاهما تتعارض والتطريس مفهوما وممارسة. فكيف إذن يمكن الجمع بين ما لا يجتمع ؟
إنّ حضور نصوص أخرى في نصّ أي كاتب لا تنفي تفرّده ولا تميّزه أحيانا ولعلّه يجدر الحديث عن مجهود شخصيّ وعن قدرة الكاتب على الكتابة الجيّدة عوض الحديث عن إبداع. ومن أسباب توفّق الباحث أحمد السماوي في عمله اهتمامه بنصوص إبراهيم درغوثي. وهي نصوص لها في السرد التونسي المعاصر منزلة مهمّة.
تحيّاتي إلى الصديقين أحمد وإبراهيم.

ابراهيم درغوثي
09/12/2006, 01:22 AM
أشكر لك مرورك على نص العزيز أحمد السماوي
وأشكر لك اهتمامك بالنص الابداعي التونسي
وأتمنى أن يواصل أساتذتنا في الجامعة التونسية المجهود
الذي يبذله أمثالكما في العناية بالنص القصصي والروائي
التونسي الحديث
ودمت لأحبابك

نضال سيف الدين خالد
31/03/2008, 08:24 AM
حكمة اليوم
two in distress make sorrow less
من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته
و تفضلول بقبول فائق الإحترام و التقدير
مع تحيات نضال سيف الدين خالد
مستشار و مترجم