المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدخل إلى قراءة القصة القصيرة الحديثة / الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي أنموذجا



ابراهيم درغوثي
04/06/2008, 09:54 PM
مدخل إلى قراءة القصة القصيرة الحديثة
الكتابة القصصية عند: " ابراهيم درغوثي " أنموذجا

د. محمد الناصر العجيمي
كلية الآداب
سوسة / تونس

ليس في نيتنا الخوض في القصة القصيرة في تونس (1) و لا في القصة القصيرة بوجه عام ، لعدم اختصاصنا في هذه و لا في تلك و مع ذلك نقدر أن تجربتنا في مساءلة العلامات الماثلة في نسيج خطابنا الأدبي بمختلف أصنافه و سعينا المتصل إلى تعقب أصداء الدلالة (2) و آثارها من خلالها قد يتيحان إضاءة بعض الجوانب الدالة من الأقصوصة في تونس ، و يثيران التجارب النقدية الساعية إلى الكشف عن خصوصياتها ، لاسيما و أن التجربة الإبداعية الحديثة بمختلف أجناسها أضحت ، في بعض مظاهرها البارزة على الأقل ، من التنوع و التشعب و التداخل ، بحيث لم يعد في وسع الدارس الراغب في البحث الجاد الادعاء بالاختصاص الضيق ما لم يسعفه و يدعمه بمعرفة ثرية بمسالك البحث الحديث المتشابكة و طرائقه الملتوية.
قد يكون خير مثال مجسد لهذه التجربة الإبداعية الجديدة في تونس ، و بالاستتباع ، لعدم كفاية أدوات البحث التقليدية لاستنطاقها و إنتاج الدلالة من خلالها، الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي. و نأمل أن يتيح إقبالنا على دراسة نماذج منها و تحديدا " القيامة ... الآن " و أقاصيصه المضمنة في ' رجل محترم جدا " و " الخبز المر " ، من إضاءة جوانب من إنشائية القص الحديث في تونس لتبوؤ الدرغوثي مكانة مرموقة في هذا الميدان.
و قد يجوز أن نلخص توجهنا في تناول هذه التجربة الإبداعية بالدرس في القول بأنها ، في صورتها الأكثر نضجا و تمردا على نماذج الكتابة التقليدية و سننها المألوفة ، تخلق ضربا جديدا من الإنشائية هي " إنشائية الفوضى ".
و استعمالنا لكلمة " إنشائية " مقصود ، ذلك أن الفوضى المعنية ليست مردفة للاعتباطية المطلقة أو الضرب العشوائي في كل أفق و بلا دليل . فإن بدت كتابة كذلك فالأمر لا يتعدى الظاهر أو بنية الدال السطحية إذ بمجرد أن نتدبرها و نقلب النظر فيها ، حتى نتبين أنها تنهض على نظام خفي يمثل منها بنيتها العميقة. و ستسعى الدراسة إلى استجلاء أهم معالمها و كشف النقاب عن أبرز الخصائص المميزة لها. و لبلوغ هذه الغاية جعلنا الدراسة في مداخل نلح في بعضها ، و بوجه خاص في الأولين منها ، على مظاهر الفوضى أو ما يجري مجراها من أشكال الانزياح عن سنن الكتابة التقليدية المعهودة ، و في أخرى على أصداء الدلالة المستخلصة من مظاهر التشويش هذه المتعددة ، دون أن يعني ذلك إقامتنا حدودا فاصلة بين الشكلي و الدلالي لقناعتنا العميقة بتواشجهما و تداخلهما تداخلا لا امكان معه للفصل بينهما.

أولا : التباس هوية القائم بعملية التلفظ و غموض الملابسات الحافة بهذه العملية :

تعتمد الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي القص بصيغة المتكلم ، إجمالا ، مجارية في ذلك نمطا من القص التقليدي و محققة في الظاهر أحد الشروط الواجب توفرها ، إن احتكمنا إلى بعض النظريات التداولية الموصولة بهذا الموضوع، لإنجاح البلاغ و ضمان التواصل ، و نعني إمكان إرجاع الملفوظ إلى عون محدد بين الحضور ، على نحو ردنا مجرى الماء إلى المنبع الصادر عنه. و هكذا ينتصب عون التلفظ في الكتابة المعنية فاعلا بالقول ، واثقا بنفسه ، مظهرا امتلاكه سلطة معرفية تفرض نفسها.
و لاقتناعنا بذلك و الظفر باعترافنا بهذه السلطة نراه لا يدخر وسعا في استنفار قيم الصدق و الأمانة في ما ينقل. فيعمد إلى توثيق الأحداث المنقولة مستدلا على صحتها بالاحاطة على مصادرها و إسنادها إلى أصحابها المنقول عنهم مشافهة أو عن طريق القراءة المباشرة . و يتفق في حالات أخرى أن يؤكد إطلاعه العيني عليها و معايشته لها أو انخراطه فيها و مشاركته بدور فاعل في تجربتها. كما يدعم هذه السلطة عن طريق الإنتصاب حكما ، فيعقد المقارنات بين الأحداث المروية و بعض معارفه الموسوعية ، و يستجلي وجوه الشبه القائمة بينها احتكاما إلى نظام قيمي معروف عنده(3) . و يبدي موقفه من بعض الأحداث " التاريخية " فيرجح ما يراه أنسب إلى الواقع و أقرب إلى المعقول و بالتالي أدعى إلى التصديق(4) . و لميز الإيهام بمصداقيته و التزامه الأمانة في ما ينقل يتظاهر بأنه يتحاشى الإقدام على المجازفة بإثبات ما لا علم له به على وجه اليقين وما لم يأخذه على " الثقاة " من الرواة أو الكتب الصفراء. فإن التفق أن وجد إضافة مجهولة المصدر صرح بذلك رفعا للالتباس و تجنبا لتحمل المسؤولية (5) . و لم يتردد في الطعن في بعض المصادر إن قدر عدم استقامتها أو مخالفتها للمنطق أو لما تثبت عنده صحته.
لكن ما أن نطمئن إلى ذلك و تتوفر عندنا قناة بأن الكتابة تجري مجرى السنن المعهودة في رواية الأخبار ، و في وصل العلاقة بين عون البث و المتلقي و فق عقد ائتماني يضمن اتصال البلاغ في مستوى " القطب التلفظي( isotopie énonciative). و يتحقق بمقتضاه التماسك ، حتى تطرأ عوامل تشويش تنسف مصداقية البث و تلغي اتساقه.
و لما لم يكن في وسعنا رصد جميع هذه العوامل لكثرتها و لضيق مجال الدراسة اكتفينا بالوقوف على ما نقدر أنه أهمها و أكثرها انتشارا وبروزا:

1 – إن ما أشرنا إليه من نزعة وثوقية عند عون البث و حرص على الوفاء للمصادر المنقول عنها طمعا للفوز بثقة القارئ و إبرام عقد اتصال معه ، لا يتجاوز حدود الظاهر و لا يعدو أنه من قبيل الإيهام ، بل السخرية بالذات و بالمتلقي إذ نتبين بمجرد إلقاء نظرة على الموضوعات المعنية بروايته، أنها من التشتت و الضرب في الخيال و اللامنطق بحيث ينفلت خطاب عون البث من كل قيد و يتناثر في جميع الاتجاهات . فتوثيقه الأخبار عن طريق السند ينتهك أبسط مبادئ التسلسل الزمني ، فضلا عن ضربه عرض الحائط بمنطقه الداخلي المستوجب النقل عن الثقاة و المأثور عنهم سعه المعرفة بالموضوع المعني بالنقل . و أي شيء أكثر إثارة للشعور بالمفارقة من سند من هذا القبيل : " عن مسلم ...وعن سيد قطب و عن أبي هريرة ... و عن أبي سعيد الخدري و عن ابن عباس ... و عن حسن الترابي و عن حسن البنا (6) و ما يثبته من أخبار و يستدل على صحته بإيراد الشواهد الموثقة يبدو غريبا ضاربا في أبعد حدود الخيال و اللامنطق كإثباته أن " سيزيف " ثبت الصخرة فوق جبل " الأولمب " ، و أنه يستدل على ذلك بشهادة تلقاها من " سائح بلجيكي جلس فوقها و أخذت له صديق ثلاث صور فوق الصخرة عرضتها المجلات المهتمة بالدعاية للسياحة في العالم " (7) . و لا يخرج من إطار هذه الغرابة ما يعقده من مقارنات بين الأخبار المنقولة، أو ما يقيمه من علاقات شبه بين ما يرويه و بعض ما يعرفه و يختزنه في موسوعته الثقافية . و هكذا يستوي ما أحدثته قبائل " يأجوج و مأجوج " من حفر في أسفل سور الصين و ما قام به " سيزيف " من تثبيت للصخرة فوق قمة الجبل المذكور. هذا الحدث و ذاك يستويان وما قام به الجنود الصهاينة من توسيع لثغرة " الدفرسوار " و انتشارهم فيها و في غيرها من المواطن حتى ملأوا الأرض.(8)
و يشفع هذا الإجراء في كسر" القطب التلفظي " و بعثرة المصادر التي يحيل عليها بجعل القائم بعملية الكتابة عون التلفظ مشتتا عبر الزمان و المكان فينطلق به في رحلة ينقلنا فيها خطابه من الراوي الخفي المجرد (9) إلى الناقل عن الأوزاعي (10) إلى الناقل عن كعب الأحبار (11) إلى ضمير المتكلم (12) إلى الناقل عن أبي هريرة (13) فعن سائح بلجيكي ، فعن وكالات أنباء أجنبيه و ما جرى مجرى ذلك . و إمعانا منه في التلاعب بالكتابة و الانتهاء بها إلى بعض غايات اللامنطق يحيل إلى أسماء و مصادر لا معرفة للقارئ بها أصلا و إن أوحت الوحدات الصوتية المكونة لها بانتمائها إلى التراث من جهة التسمية . بل إن هوية المسمى قد يضفي عليها غلالة من اللبس و الغموض إلى حد التعتيم و الانتقاض لتماثل مكونات النسب كإحالات الراوي المتكررة على آدم بن آدم الآدمي . و إن بان بعد تفحص و تقليب نظر أنه قد يحيل على الراوي الخفي نفسه باعتباره كائنا بشريا كسائر الناس.
هكذا تتحدى طريقة القائم بعملية الكتابة في رد الأخبار إلى مصادرها جميع المقاييس الوضعية و تنتهك الضوابط التي يؤخذ بها عادة في رواية الأخبار و إسنادها إلى أصحابها المنقول عنهم . و كأن الكتابة عند الدرغوثي تتحين فرصة غفلة القائم بها عنها فتنساق سائبة في كل اتجاه ، متحررة من كل قيد أو عرف منطقي ، محدثة بذلك ، بين مصدر و آخر مسافة لا حد لها ، جاعلة فراغا شديد العتمة ، فإذا النص عنده ، يبدو مباعدا لنفسه ، منزاحا عما يفترض أنه يريد الإفصاح به أو التعبير عنه ، قائما عما يشبه الجزر الصغيرة المستقل في الظاهر بعضها عن بعض و المفارق بعضها لبعض.
2 – إن القائم بعملية الكتابة يتعمد العبث بأعوان التلفظ ، في بعض المواطن من كتاباته ، من جهة إضفاء اللبس على القائمين به أو المسؤولين عنه ، و ذلك عن طريق التراوح المتصل بين أعوان تلفظ مختلفين دون أن يشعرنا بتغير سجل التلفظ أو ينهد له على نحو أو آخر . فلا نستبين بعض معالمه و نقترب من تعرف هويته إلا بشيء غير قليل من الجهد و بالضرب الممعن أحيانا في التأول . و القاعدة المطردة في مثل هذه الحالات أن الشعور باشتباه الواحد بالآخر و بالتداخل بين القائمين بعملية التلفظ يظل على الدوام قائما . هكذا لا تعرف على وجه الدقة ، أيصدر الملفوظ القصصي في " رجل محترم جدا " عن لسان الراوي المستعمل ضمير المتكلم أم عن لسان العاهرة . فإن اتفق أن تعرفنا صوت الأول واجهنا التساؤل عما إذا صدر عنه الخطاب شابا أم يصدر عنه و هو كهل يحضى بالجاه و احترام الناس له ؟ و إن حصلت لنا قناعة أو ما يشبهها بصدور الخطاب عن المرأة انبعث سؤال شبيه بالسابق وهو : هل تتكلم من موقعها الراهن أم الماضي عندما استقبلت الراوي وهي شابة و عالجت جراحه التي أصيب بها في مظاهرة طلابية ؟
و أشد إيغالا في هذا الذي تعرضنا إليه، في التلاعب بعون التلفظ و إضفاء اللبس عن المسؤول عنه حتى التعتيم أن القائم بعملية الكتابة يتعمد ، في بعض المواطن ، المزج بين عون التلفظ المفترض أنه " آدمي " إن رمنا استعمال سجل الدرغوثي التعبيري ، و شخصيات روائية مأخوذة من القصص العربي القديم أو الحديث (14) ، فالروائي يداخل ما يفترض أنه إيهام بالواقع و يتلبسه ، و إذا الفواصل بين الضربين من الشخصيات تتلاشى إلى حد الامحاء و الزوال ، فلا نعرف متى ينتهي الإيهام بالواقع و يبدأ التخييلي أو متى ينتهي هذا ليبدأ ذاك.
و كأن الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي تتعمد التجسيد التجريبي العيني لما يجري ، في المستوى النظري ، من أحكام قائمة على القول بتداخل مستويات التجربة الإبداعية القصصية و التباس بعضها ببعض ، أو ما يصرح به كثير من الكتاب ك ملفيل " " Melville و " بورخس " Borges " من أنهم لا يستطيعون الفصل بين تجربتهم الحياتية المعيشة و تجربتهم الإبداعية المتخيلة و لا يعرفون بمقتضى ذلك أي طرف منهما الخيالي أو أيهما الواقعي ، و يستتبع ذلك عجزهم عن الإجابة عما إذا كانوا هم الحقيقيين أم الشخوص الماثلين في آثارهم الأدبية .
و هكذا ننتقل في " حكاية السندباد " من الراوي الخفي (15) إلى الراوي المستعمل ضمير المتكلم (16) الذي لا يلبث أن ينزاح و يتخلى عن دوره في البث ليفسح مجال الحكي لشخصية شهيرة في القصص العربي هي شخصية شهريار الذي يختفي بدوره ليحل محله السندباد راويا بعض سياحاته و مغامراته في أقاصي الأرض. ثم تتراجع عملية التلفظ إثره لتوكل من جديد إلى الراوي المتكلم بضمير " الأنا " و يزداد الأمر مصدر التلفظ لبسا و هوية المسؤول عنه و القائم بهتعتيما باكتشافنا تراكب مستوياته و أعوانه و إحالة بعضهم على بعض و انسراب خطاب بعضهم في نسيج خطاب الآخرين . فإذا صوت السندباد يستكن في صوت شهريار و يزاحمه ليحل مكانه و ينتصب عوضا عنه ، و إذا صوت هذا و صوت ذاك يندسان في لحمة صوت الراوي المستعمل ضمير المتكلم ، فيرجع صداهما بإلحاح ، و تتناثر بنية البث فيه حتى لا إمكان للفصل الحاسم بين مصادره المختلفة . و يستنتج ذلك أن صور بعضهم تنتقل عن طريق العدوى إلى صور الآخرين لتتشكل في مظهر جديد تتقمص أقنعة أخرى ، دون أن تخفت آثار مصادر التلفظ السابقة أو تمحي رسومها بل تظل ماثلة هاجسة بشدة متحينة الفرصة للانبعاث من جديد و افتكاك مكانتها المغتصبة .
هكذا ترتسم صورة شهريار المجسدة لحب الشهوة إلى حد الحيوانية في صورة الراوي المستعمل ضمير المتكلم . و لا تلبث هذه الصورة أن تطالعنا في صيغة أكثر كثافة و إيغالا في اقتناص اللذة و المتعة الجسدية عند السندباد الذي يأخذنا في رحلة سياحية يروي لنا فيها مغامراته الجنسية و الخليعة في بلاد الثلج ، و انسياقه إلى التجارة بالمخدرات ، و التورط في الصفقات المشبوهة دون قيد و لا التزام بالحد الأدنى من الأعراف الأخلاقية أو القيم الاجتماعية غير تحقيق المصلحة الذاتية و اقتناص المتعة الآنية بل كانت و ساطته في عقد صفقات أسلحة عن طريق تزوير وثائق سببا في مساندة دولته " دار السلام " ترشحه لمنصب دولي رفيع (17) ، ثم يعود القص مرة أخرى إلى الراوي المستعمل ضمير المتكلم ليحكي لنا حدث ضغطه على رقبة شهرزاد حتى قبضه روحها.
و في فصل لاحق يحمل عنوان " الليلة الثانية بعد الألف " يروي لنا حدث خلع شهريار و قتله و انتصاب شهريار جديد مكانه ، فلا نعرف ، على وجه الدقة، أ أهذا الفصل تابع للأقصوصة السابقة ملحق بها أم أنه منفصل عنها قائم بذاته.
و المهم أن الحكي عند الدرغوثي ، ينهض على تعمد إلغاء المسافة بين المثير لأصداء الواقع و الخيالي المستند إلى موروث روائي بالمفهوم العام للكلمة و المزج بينهما ، فإذا القصة تداخل القصة و إذا القص يقوم على عملية تغوير mise en abîme متراكبة تملي علينا قراءة محتوى الحكي المضمن و اشتقاق صورة أحدهما من الآخر لتداخل مستويات التلفظ و انسراب بعضها من أعطاف بعض و تلبسها و إياها.
3 – نأتي إلى مظهر ثالث من عملية التلاعب بعون التلفظ و قد يكون أشدها إيغالا في إضفاء مسحة اللبس عليه و نسف ما به يتحدد ، و بالآستتباع في إرباك القراءة بمفهومها التقليدي ، و يتمثل في توظيف ما عرفه بارت في معرض تحليله ملفوظ " لقد مت " : " je suis mort " الصادر عن إحدى شخصيات إدقار بو E. Poe بأنه من قبيل "التلفظ المستحيل " l'énonciation "impossible (18) و بيانه إسناد القائم بعملية الكتابة التلفظ إلى أعوان لفظوا أنفاسهم روائيا ، و على هذا النحو نتلقى صوتها وهي تعبر عن خواطرها و تبدي مواقفها و تفصح عن مشاعرها و تحكي ما قامت به من أعمال بعد موتها و ما تمر به من تجارب تماما كما لو كانت حية . و من الأمثلة غير القليلة المجسدة لهذه الظاهرة في كتاباته أن الأم القائمة في بعض المواطن من أقصوصة " الخبز المر " بعملية التلفظ تروي بعض ما جرى لها بعد قبض عزرائيل روحها . ومن ذلك أنها طلبت منه ألا يرفع روحها إلى الأعلى و يبقيها على مرأى من جثتها حتى تعرف ما سيكون من موقف زوج ابنها التي كانت تحتفل بختان إبنها و تستعد لتلقي الهدايا أو ما جرى مجراها من الضيوف ، من موتها . فأجابها عزرائيل إلى سؤالها و تم لها ما أرادت و اكتشفت بذلك ما لم تكن تعرفه على وجه اليقين أو ثبت لها ما كانت تحدسه من موقف هذه المرأة . كذلك ما يرويه لنا عون التلفظ المستعمل ضمير المتكلم في بعض مواطن " القيامة ... الآن " من مغادرة روحه جسده بعد إصابته بعضة من " الشهيري " الذي استحال إلى " دراكيلا " و تقمصها شكل طائر كان يرتعد ذعرا لحلوله بعالم آخر لم يألفه ، ثم ما كان منها من سعي إلى النفاذ إلى جثة صاحبها و الاستقرار فيها ، و لما لم تفلح صعدت إلى السماء فوجدت أبوابها موصدة ، فطفقت تتردد بين الأرض و السماء و حصلت لها تجارب عدة يروي لنا الميت بعضها.
و قد يكون من المفيد أن نشير إلى مظهر آخر و ليس أخيرا من مظاهر الآنتهاك المتعمد لسلطة عون التلفظ التقليدية و العبث بسننها ، حاصله محو علامات التنصيص بالنسبة إلى ما يفترض ، انطلاقا من قرائن مضمنة في النص ، أنه من قبيل مقول القول و بذلك يندغم المقول في المسرود ، و يتداخل نسيج الكلام المتلفظ به نسيج الحكي و يتلبس به و يجري مجرى ذلك و ينتظم في إطاره ما يلاحظ من تداخل العلامات الدالة على إسناد عملية التلفظ إلى عونين مختلفين في الحوار ، فتشتبه علينا أقوال المحاورين و لا نتبين على وجه الدقة و اليقين من الذي يتكلم و ربما من يوجه الخطاب ، و إن أمكن في معظم الأحيان الترجيح أو رد الأقوال إلى أصحابها لكن بعد تفحص و إعمال نظر دقيق(19).
هكذا ندرك جسامة المفارقات التي تحدثها كتابة درغوثي القصصية في بنية التلفظ القصصي بمفهومه التقليدي و مدى ما يسببه ذلك من إرباك عند القارئ المطمئن إلى جملة من السنن المألوفة في التعامل مع أعوان التلفظ القصصي . و لما كانت لنا قناعة بأن ضروب الانتهاك التي أتينا على تحليلها ليست اعتباطية ، و بأن كاتبا ممتلكا أدوات القص و أفانينه امتلاك ابراهيم درغوثي لها لا يمكن أن يقدم على مثل هذا التصرف دون أن تكون له رؤية ، إن حاضرة في وعيه و إن غير حاضرة ، يستهدف تأديتها و دون أن يستند إلى خلفية إيديولوجية بالمفهوم الواسع للكلمة ، و جب ألا يكتفي الدارس بالوصف ليتعقب آثار الدلالة و أصداءها المحايثة لعملية التصرف أو الآنتهاك هذه . و ليس في وسعنا لضيق مجال الدراسة ، أن نتطرق إلى هذا الموضوع من بابه الواسع أو أن نخوض في إشكالاته الشائكة و الدقيقة . حسبنا الوقوف على ما نقدر أنه أظهر دلالاتها في مستويات ثلاثة :
1 – في المستوى النفسي : نقدر أن هذا التداخل في عملية التلفظ يشف عن عدم ثبات الهوية ، و عن شعور بتداخل الأنا و الآخر و التباس حضور الذات الواقعي بحضورها الخيالي . فإذا الهوية هويات و إذا الذات تتنازعها ذوات ، فلا نعرف بحكم ذلك الفواصل القائمة بينها و بين الآخرين ، و لا تستوي حضورا واضح المعالم بين الحدود . و لنا في كتابات لاكان " Lacan " تحاليل مستفيضة متصلة بهذا الموضوع.
2 – في المستوى الثقافي العام : انتفت السلطة المعرفية الثابتة و المعترف بها و أضحى الانسان الحديث بمثابة المرآة التي تتلقى فيضا من المعلومات و العلامات الصادرة عن آفاق معرفية مختلفة تلقيا سلبيا . فلم يعد بوسع المتلقي التسليم بصحتها و لا التثبت من مدى صحتها . فإذا هو معلومة من المعلومات و علامة من العلامات أو على الأصح موطن التقاء للعلامات و إرسال لها دون أن يكون له دور فاعل في إنتاجها أو قدرة على السيطرة عليها و التحكم فيها .
3 – في المستوى الإيديولوجي بالمفهوم الضيق للكلمة : تسلط على الفرد ضغوط من المجتمع و من السلطة فيصاب بضرب من العصاب و تتفتت شخصيته شظايا ، فلا يبقى في الذاكرة و لا يستحضر من التجارب إلا ما كان متعلقا بالحضور الجسدي في بحثه المضني عن لقمة العيش ، و في ما يسلط عليه من عذاب و من قمع من قبيل شخوص مختلفي الهوية لكنهم مشتركون أو متشابهون في القسوة .
ثانيا : المزج بين ما يثير صدى الواقع و الخيال :
لئن كانت الكتابة الأدبية تتحدد أساسا بأخذها ، على نحو أو آخر ، بأسباب الخيال فإن التجربة الإبداعية الممتدة أخضعت مظهر التخييل هذا إلى نظام و مقاييس محددة ، إن قليلا و إن كثيرا . و هكذا تميزت الكتابة " الواقعية " التي تمثل عتبة دنيا من استدعاء التخييل بترسمها طريقة تقوم إجمالا على الإيهام بالواقع، فيما تنحو الكتابة العجائبية المجسدة عتبة عليا من مظهر التخييل و الجامعة أنوعا عدة من الكتابة كالفانتستيك " fantastique " و البدائعي " merveilleux " و ما يعرف بالغريب " étrange " و المثير " insolite " وجهة أخرى تنهض على اقتناص المظاهر المثيرة للدهشة و الاستغراب .
و دون أن نخوض في مسألة البحث في الخصائص المميزة لكل نوع من الأنواع المذكورة نكتفي بالإشارة إلى أن موضوع تحديد الفواصل القائمة بين بعضها بعض لا يخرج ، إن احتكمنا إلى دراسة تودوروف الموصولة به (20) من دائرة كيفية تلقي الشخصية الروائية الأحداث الغريبة أو الخارجة عن نظم الحياة الموسومة بالمألوفة ، و صور ارتسامها في ذهننا و استجاباتها لها من ناحية ، و رد فعل المتلقي-القارئ و موقفه من موقف الشخصية الروائية من ناحية أخرى.
و لا نستبعد أن تنتهي بنا دراسة معمقة لكتابات ابراهيم درغوثي القصصية ، من جهة البحث في السجلات بلغة موليني molinié (21) ، الغالبة على هذه الكتابات ، إلى استخلاص الأنواع المذكورة جميعا ، بنسب متفاوتة و مقادير مختلفة من أثر قصصي إلى آخر.
المهم أن نلح ، في سياق ما نحن بصدده ، على أننا مدعوون عندما نلج عالمه القصصي ، إلى التخلي عن مقاييسنا الوضعية و المنطقية و نظمنا المألوفة في قراءتنا للواقع ، بمفهومه المتداول بصرف النظر عن التسمية أو التسميات التي نسندها إليه و نسمه بها . ففي عالمه القصصي لا يستغرب خروج قتيلين من قبرهما و اتساؤهما القهوة مع الذي أقدم على قتلهما و مبادلته عبارات المجاملة ثم عودتهما إلى القبر و كأن شيئا ما لم يحصل . كما لا يثير الدهشة إن اتفق أن يعير فدائي مرسوم على لوحة و حامل بندقية سلاحه للراوي فيقتل به زوجته ثم يعيده إليه ، فيرفع الفدائي اصبعه علامة النصر و يستمر في موضعه من اللوحة من جديد واضعا رأسه بين يديه و كأن الأمر عادي و مألوف . و لا يدهش في هذا العالم الغريب أن يبعث الموتى بمجرد النفخ في مجاريهم الهوائية أو أن يتجول مقطوع الرأس كما لو كان حيا سليما . و على هذا النحو من توظيف الغريب و إحضار الخارق في عالمه القصصي يعمد إلى استحضار شخصيات أسطورية أو مختزنة في المخيلة الشعبية موغلا في اضفاء صور الغرابة و التشويه الخلقي عليها جاعلا إياها تأتي أفعالا و تصدر عنها تصرفات لا قبل لتصورها خارج دائرة الخيال البعيد . فهذا واحد من جماعة " يأجوج و مأجوج " يوصف بالطريقة التالية : " تخلف واحد من الجماعة في حجم حبة الأرز له ذنب ذئب و أنياب خنزير و قرن في وسط رأسه فوق الجبهة . و صار ذلك الرجل-حبة الأرز يخبط السد بقرنه فيسمع له دوي كقصف الرعود . و يعاود الخبط و السد يترنح و يرتج إلى أن فتح ثغرة فعوى... كالذئب و مر إلى الأرض الحرام ، فرد أذنه اليسرى و نام داخلها / كان له شعر كثيف يقيه الحر و البرد و آذان عظام أحدهما وبرة يشتي فيها و الأخرى من جلدة يصيف فيها(22)
أما الكائن " البشري " الذي يتحلق حوله النتاس ليقرأ لهم ما يدعي أن له به معرفة واسعة وعليه اطلاع موسوعيا من آثار القوم الإبداعية ، و انتاج الفكر الأنساني في الفلسفة و الفكر و السياسة فمنظره كريه يذكر بفصيلة الشياطين كما ارتسمت صورتها في المخيلة الشعبية إذ " له رأس ثور و ذيل قصير كذيل المهري يهش به الذباب الذي تكدس على مؤخرته التي تشبه مؤخرة قرود " البابوان " ... وكانت له لحية تيس عجوز معلقة في قذال رأس ثور و على جانبي الرأس قرنان معقوفان ... و الصدر غطاه وبر كوبر الإبل . وجبة الصوف التي ارتداها تصل حد الكعبين " رأيت تحت الجبة حافري بغل " (23) . و كما تضخم الأشكال و الهيئات الجسمانية تضخيما يخرجها عن العادي و يزج بها في دائرة ما وراء الواقع ، تضخم الأفعال إلى حدود أو لا حدود المعقول .
و من الأمثلة الكثيرة المجسدة لهذه الظاهرة نسوق المقطع التالي المتصل ببعض أفعال الصنم الراكب حصانا و المثقل بالنياشين و الأوسمة الدالة على الجاه و العظمة : " ينزل الصنم من عليائه / و يرفس السجد بحذائه البرونزي / يرفسهم على رؤوسهم / و على ظهورهم / و على الأرجل / ثم يستل سيفا من غمده / و يقطع الرؤوس / رأسا / وراء / رأس / فتسيل الدماء أنهارا / و تختلط بالبسمات الصفراء / و بالعيون الساحرة الحوراء / ثم يجمع الرؤوس / رأسا / وراء / رأس / يبني بها قصورا / قصر الهناء / قصر السعادة / قصر الشعب / قصر الحرية / قصر الاستقلال / قصر الكرامة الوطنية / قصر الشتاء/ قصر الصيف / (23)
و من البين أن الدرغوثي لا يتوخى هذا الضرب من الكتابة لمجرد البحث عن أشكال جديدة أو للتجريب الفني المحض الخالي من كل بعد قيمي، لكنه يتجاوز ذلك إلى السعي إلى تحقيق تبادل رمزي بين الواقع بمفهومه العام و الكتابة الفنية ، إن رمنا استعمال سجل بودريار Baudrillard النظري (25) . و يستوي ذلك في استغلال ما يوسم في أدبيات البلاغة الغربية ب " Grotesque " وما قد تستقيم ترجمته ب " التهوين أو التهويل الساخرين " . و قد حصرنا ذلك في الأبواب التالية :


1 – باب أول ذو مدى دلالي وجودي : و حاصله استفضاع الموت و الشعور الحاد بلامعقوليته . و أي شيء أدعى من أن ضربة خفيفة بالمطرقة على مؤخرة الرأس كافية لاحداث قدر ضئيل من النزيف يخرج من الأنف و يقضي أمر المصاب بالضربة نهائيا ؟ هكذا يقدم الحدث في " الجريمة و العقاب " كما لو كان عاديا لا يدعو إلى الاستغراب أو إلى مجرد التساؤل بله الاستنكار و الثورة . و بعد أن يقدم الراوي على قتل العجوزين بالطريقة المذكورة نراهما يخرجان من قبرهما و يعاتبانه بلطف على إقدامه على فعله مؤكدان أنهما كانا يعتزمان تمكينه من وراثة القصر لو أمهلهما قليلا . و كان رد الراوي القاتل أنه قدر أنهما سيموتان ، على أية حال ، بسبب مرضهما العضال ، بعد فترة تطول أو تقصر . فلم داعيا ، و الحالة هذه إلى تركهما يتعذبان و قرر ، عن حسن نية ، تجنيبهما ذلك بالتعجيل باستدعاء ما لا محالة من وقوعه . و الحاصل أن العلاقة بين القاتل و القتيلين لا تبدو مطلقا متوترة ، بل هي لا تخلو من مشاعر العطف و الحرص على التماس المبررات لأفعال وردود الأفعال الصادرة عن الآخر . و لا أدل على استحكام روابط الود بينهما من استجابة الراوي الفورية و اللطيفة لطلب العجوز أن يدثرها في القبر لبرودته.
2 – باب ثاني نميل إلى إكسابه دلالة نفسية : و قد يكون تحليله أذهب في التعقيد و أشد إشكالا لتقديرنا أن خير نموذج مجسد له أقصوصة " الكلب " الضاربة إلى حد بعيد في الاتجاه السوريالي فظاهرة " التهوين أو التهويل الساخرين " تقوم على نقيض الشكل الذي تجلت فيه في المثال السابق ، على التجسيد العيني المفضوح و المضخم لما يفترض أنه إحساس يدرك داخليا و لا يستقيم عادة تشخيصه في شكل مادي محسوس . هكذا يهيمن حضور الكلب بصوره السلبية الكريهة على الأقصوصة المذكورة من أدناها إلى أقصاها . فنباح الكلب ينبعث ، بدءا من الرسالة الموجهة إلى الراوي لإخطاره بارتباط زوجته بعلاقة " غرامية " مع كلب . و يلح عليه الكلب بالنباححتى يقض مضجعه فيعمد إلى اخراجه و إخراج زوجته من سطور الرسالة ليذبحها من الوريد إلى الوريد و ليطعن الكلب بين العينين لكنهما لن يلبثا أن يعودا إلى الرسالة ليسكنا سطورها و يستقرا في ثنياتها من جديد . و يعود الحاح الكلب عليه بالنباح . ثم يطالعنا الكلب في مظهر كريه مزر ، وهو مظهره فيما يذكر الراوي ، عندما وجده في البرية وحيدا بائسا، فأخذه معه إلى بيته و أحاطه برعايته ثم أوكل له مهمة حراسة البيت في غيابه . لكن الكلب لم يرع الذمة ، فها هو يراود زوجته و يقضي منها إربه و يغدو عشيقها . و يستقر الكلب في النهاية ، داخل ثياب الراوي و في صلب كيانه ، فتنبعث منه روائح كريهة تكون سببا في نفور الآخرين منه وابتعادهم عنه ليصبح وحيدا كالبعير المعبد ... أو كالكلب . و تفيد إشارة واردة قبل نهاية الأقصوصة ، أن ما رواه كان من قبيل الحلم المزعج ، مما يبرر اختلاط الواقع و التباس الأمور . لكن الراوي لم يلبث أن أصابته عدوى نباح الكلب فأخذ يعوي و تنتهي الأقصوصة و هو على هذه الحالة .
هكذا يكتسب الكلب بعدا رمزيا كثيف الدلالة مجسدا بحضوره المزري و نباحه المزعج و رائحته الكريهة – ضمن دلالات أخرى – مشاعر اتلاغتباط و الكراهية لتصرفات الآخر الذي يندس في أعطاف الذات ليستقر و " يعشش " فيها " . فإذا هو بمثابة الورم الذي يتضخم و يتعاظم حضوره فيها حتى يداخلها شعور بفظاعتها ، و يسكن الذات شعور بكراهية الذات .
3 – باب ثالث من الظاهرة المعنية نميل إلى وصفه بالمعتقد الديني الشعبي : و الطريقة المتوخاة في تناول هذا المظهر في بعض كتابات الدرغوثي القصصية و منها على وجه التحديد " القيامة ... الآن " ، تتلخص في تقديم ما يعتقد أنه يجري في العالم تقديما مضخما كاريكاتوريا ، و اشتقاق معادلة في مكان يشبه موطنا عربيا . و يستقيم أمر الاشتقاق عكسا، و إذا بصورة ما يجري هنا و صورة ما يجري هناك تتراشحان و تستبدلان المواقع أو تتناوبان المواقع ، فنكتشف من إحداهما دلالة الأخرى و نفهم معنى ما يجري في فضاء إحداهما في ضوء ما يجري في فضاء الأخرى .
و دون أن نعمد إلى استعراض ما يجري في اللوحات المكونة للأثر القصصي المذكور لقناعتنا بعدم إجرائية مثل هذه الطريقة ، نكتفي بالإلمام السريع ببعض الوقائع أو أللاواقع المضمنة فيها على أن نعقب عليها في مرحلة ثانية . فالسماوات خلقت كما لو لم يكن الأمر يتعلق بأكثر من صنع بالونات أو يستغرق أكثر من وقت قصير جدا . و الأرض يحملها إسرافيل على فيه و بواسطة قرن " عظم دائرة فيه كعرض السماء و الأرض " (26) وهو شاخص بها إلى العرش دون أن يصيبه كلل أو يشعر بملل . و القمر يسرق كما لو كان الأمر يتعلق بمجرد سرقة كرة طائرة ... و يأتي جمع يشبهون الجان لتفتيش بيت آدم بن آدم الآدمي محدثين جلبة و ضجيجا هائلين مما أزعج الصبيان النائمين و الكلب الرابض قرب الدار. و يعم الهلع و ترتج الأرض و تتساقط الكتب فيشاهد التوحيدي و ماركس و ابن رشد و حسين مروة و نجيب محفوظ و تولستوي و محمود المسعدي و هم يحترقون و يولولن ألما و احتجاجا ، و الكائنات الجهنمية تفتش في أخفى مواطن البيت عن القمر المسروق . و يعذب آدم أشنع تعذيب ليقر بذنب لم يقترفه . و يتحول أحد زبانية التعذيب في موطن آخر إلى " دراكيلا " و يغرز نابيه في عنق آدم فيفور دمه غزيرا من الجراح و يجثو " دراكيلا " على ركبتيه فوق جثته و يلحس دمه (27) و يكبت المعذب ألمه و سخطه لعجزه عن القيام بأي رد فعل . لكن صراخا مكتوما ينطلق من أعماقه ف : يفجر البراكين / و يغمر السهول و الجبال /و يغرق سفينة نوح / و بوارج الأسطول السادس / و الغواصات الذرية / و الصواريخ العابرة للقارات / و كل سفارات البيت الأبيض / و جواسيس الكريملين / و معابد الرب / و نواقيس العذراء / و المخبرون الصغار بمعاطفهم الشهباء و نظاراتهم العمياء / و المتاجرون بأنياب الفيل و المارغوانا و الحشيش / و أكلة لحوم البشر / و قرصان المحيطات / و العمائم الحريرية / و كتب التدجيل الصفراء " (28) .
و في العالم العلوي الموازي لهذا العالم ، يتصرف المطلق الإرادة كما يحلو له دون قيد و لا ضابط ، فيفني الكون و من عليه و يأمر بقتل أصفيائه و المقربين إليه بمن فيهم إسرافيل حامل الأرض على قرنه و ملك الموت . و لما يجد نفسه و حيدا يعن له أب يبعث الأرض فينفخ نفخة البعث ، فإذا الحلق قيام منتصبون كما كانوا و كأن شيئا لم يحدث . و يعود البلاء ليعم الأرض من جديد بل يعود بأفظع مما كان . و تعرض صور من العظمة المبطنة المبطنة البطش و الجبروت ، منتمية إلى تواريخ و حضارات مختلفة . فنرى ناسا ساجدين ل " صنم راكب على حصان و الحصان يدور / و الأرض تدور حول الشمس / و الشمس تدور حول الصنم / و الشمس تتفتت تتحول إلى مصابيح تضاء بالكهرباء و تزين ساحة الجماجم . عندها يترجل الصنم من الحصان و يذهب إلى المنصة / و يجلس على أريكة كبيرة مصنوعة من خشب التاك / و مزركشة بالعاج المجلوب من افريقيا السوداء / و يجيء عبدان يحملان مروحتين / كل مروحة تحمل سربا من النعام " (29) . و يحصل ما يشبه ذلك في موطن آخر لكن في بيئة رومانية و مع تضخيم لمظاهر الأبهة و الحياة للقيصر المعظم (30) و يجري مجرى ذلك في زمان أسطوري ترجع صداه حكايات ألف ليلة و ليلة و تشخص فيه صورة الحاكم المطلق التصرف و النافذ الإرادة في ذات " ملك الزمان " المصنوع من " البرونز " . و للمظاهر السلطوية الممثلة في سعة الحياة و عظمة القيمة و القدرة الفائقة على إشباع النزوات و الشهوات وجه آخر جماعه القهر و النزوع المرضي إلى القسوة و تسليط العذاب على المارقين دون حد و بلا وازع . و هو وجه تجسده شخصيتا عبد الرحمان منيف الروائيتان " سالم العطيوي " (32) و " الشهيري (33) و الذي يهمنا التنبيه إليه و الإلحاح عليه أن مظهر " التهوين أو التهويل الساخرين " " grotesque " يزاوج كما يستشف من خلال ما وقفنا عليه ، و هو قليل من كثير ، ما يعرف في الأدبيات البلاغية أيضا ب " الاستعراض بالمثال " " Parabole " و حاصله عقد صلة في المستوى الشكلي بين مجموعة من الدوال المتراكبة أو الصور المتراسلة في مستوى المتخيل الروائي و مجموعة من المتصورات المستخلصة من الواقع أو من التاريخ أو من المعتقدات الجارية في الأوساط الاجتماعية عامة أو عند فئة معينة (34) و بذلك لا يدرك " الواقع " بمفهومه العام بطريقة مباشرة و لكن بواسطة . و يفترض ذلك إجراء عملية فصل ووصل أو تبعيد و تقريب . بيان ذلك أن الكتابة المنتجة هذه الوجهة ، و تحديدا " القيامة ... الآن " لا توهم بقول الواقع أو استدعائه بل ، على النقيض من ذلك تماما ، توهم بالانفصال عنه و التحرر منه ، و الانطلاق إلى واقع آخر مفارق له ، منعتق من قيوده و ملابساته و مبادئه السلبية المحكومة بمنطق وضعي للزمان و المكان . فتبدو الكائنات و الأفعال و العلاقات بين الشخصيات غريبة شاذة خارجة عن كل منطق مألوف . و قد وقفنا على نماذج من ذلك . و السؤال الذي يواجهنا تعقيبا على ما قدمنا هو ما هي الآلية الكفيلة بجعلنا نستجلي أو نستشف صورة من الواقع من خلال هذا الضرب من الكتابة ؟ و كيف يشتغل هذا الوسيط حتى يؤدي وظيفته ؟ تقودنا محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات إلى الوقوف على عناصر الوصل و التقريب و تحليل أظهرها و أكثرها حضورا ودلالة .
و في تقديرنا أن أهم السبل المؤدية إلى تحقيق الغرض المنشود تنحصر في ثلاث :
تتمثل الأولى : و هي الأبرز و الأكثر حضورا و جلاء ، في استدعاء ما يعرف ب " اللاتوافق anachronisme " على نطاق واسع . حاصل هذا المظهر أن القائم بعملية الكتابة ينثر ، في مواطن متفرقة لكن مقدرة بعناية ، تعابير أو سجلات كلام ممتدة أو مختصرة ، متسعة أو ضيقة ، خاصيتها أنها مفارقة للسياق الواردة فيه ، منتمية إلى مقامات و سجلات متداولة في خطابنا الثقافي الحديث بمختلف وجوهه فكريا أو دينيا أو سياسيا ، ووظيفتها أنها تذكرنا بأننا لم نبرح الحياة الراهنة و المحيط الذي نعيش فيه . و بذلك تصبح هذه التعابير أو الصور بمثابة المولدات الدلالية أو المحطات الكاشفة التي تأخذ في الانتشار و التسلل إلى أعطاف النص و نسيجه السطحي لتغطيه و تطغى عليه ناسفة على هذا النحو ، دلالته الظاهرة و محتلة موقعه أو على الأصح، مزاحمة دلالته السطحية عن طريق بث عناصر تشويش ملحة في نسيجه . هكذا نكتشف دلالة نص من خلال نص آخر ، و ننفذ إلى الخفي المسكوت عنه بواسطة الخطاب الآخر المغاير المفارق لما يفترض أن يؤديه الخطاب المضمن . و بتوخي هذا الإجراء نعدل عن الدلالة الظاهرة للصنم الراكب الحصان المعبود من قبل الجماهير إلى دلالة حافة مغايرة مثيرة لصدى واقع سياسي كان سائدا في فترة معينة من تاريخ تونس الحديث من خلال قراءتنا المخصوصة لتسميات من قبل " قصر الهناء و قصر السعادة و قصر الاستقلال " و ما شابهها من قصور ، و ندرك ، بالاستتباع ، أن ما تظهره الجماهير من ولاء بل تبديه من تقديس للصنم لا يعدو أنه وليد قهر لها . و هو قهر يستدل عليه ، احتكاما إلى السياق الجديد الذي أنتجته التعابير المفارقة المعنية و استنادا إلى قراءة بالخلف ، بما جاء في النص المضمن من ذكر لقطع الصنم الرؤوس بلا حساب و إسالته الدماء أنهارا . و قس على ذلك ما تخلل خطاب " يوليوس قيصر " من تعابير و تسميات تنتمي إلى سجل الخطاب السياسي السائد في الفترة المذكورة ، من قبيل التنويه بالإنجازات الضخمة التي تمت في عهده السعيد بمباركة من " مسؤولي البنك الدولي " (35) .
أما الطريقة الثانية : المحققة الغاية نفسها المتمثلة في تمكين القارئ من قراءة نص من خلال نص ، و الانسراب إلى نص مسكوت عنه انطلاقا من نص مقروء ظاهر ، فهي أخفى و أشد التباسا و أكثر استعصاء على التأويل . و السبب في ذلك أن القائم بعملية الكتابة لا يضمن نصه المباعد لصدى الواقع المعيش مفردات أو تعابير مفارقة على منوال ما سبق ذكره ، إنما يلتزم سجلا واحدا و يمسك عن كل إيماءة صريحة أو حتى ضمنية تشي بمقاصده الخفية . و من المشروع أن نتساءل ، بهذا الصدد ، عما يبرر تعليقنا بهذا النوع من النصوص مقاصد خفية يتبناها الكاتب ؟ تتلخص الإجابة في القول بأن هذا النوع من الكتابة يتطلب تفحصا مليا للنص حتى يهتدي القارئ إلى خيط يربط بواسطته الدوال و المدلولات المتجلية في سطح النص المتخيل المقروء من ناحية ، و أحداث مرجعية أو صورة منطبقة في الذهن عن واقع معين من ناحية أخرى (36) .
و مع ذلك يظل مظهر الالتباس ، و من ثم التردد في التأويل قائما لتعذر التطابق التام بين وحدات الدال و المدلول في مستوى النص المتخيل و الوحدات الدالة ، إن أمكن استخلاصها ، في المستوى المرجعي . يضاف إلى ذلك أن الكاتب كثيرا ما يعمد إلى التلاعب بالدوال و إضفاء مسحة من التعمية و الغموض لتضليل القارئ و حمله على تفادي الاسقاط و القراءة التبسيطية التي يعقد ، بمقتضاها ، علاقة مباشرة بين وحدة من هذا المستوى ووحدة من ذاك . فضلا عن إن مثل هذا الأجراء الإبداعي يمكنه من : " أن يقول دون أن يقول " ( 37) و بالاستتباع من التنصل من المسؤولية بالاحتماء بظاهر النص ، و التعلل بأن مقاصده لا تتعدى الدلالة التصريحية المتجلية في مستواه السطحي ، فما على المؤول ، و الحالة هذه ، إلا تحمل مسؤولية تأويله.
طريقة أخرى منتظمة في إطار هذا التوجه في صورته العامة ، يتوخاها الدرغوثي في كتاباته القصصية ، و تتمثل في توظيف ما يعرف ب : " الشبه الرمزي allégorie " . و أبرز السمات الفارقة بين هذا النوع من الكتابة الإبداعية و النوع السابق ، أن" الاستعراض بالمثال parabole " يختص بامتداد وحدته الدالة و تراسل صوره ، تراسلا قابلا للانتظام و التشكل في حكاية تامة ، فيما يتحدد " الشبه الرمزي " بقصره و انحصاره في صورة واحدة أو عدد محدود من الصور . و النزعة الغالبة في الكتابات المعنية بالدرس تشخيص نماذج اجتماعية وفق نمطين من الصور الرمزية .
فالنماذج الموسومة بقيمة سلبية تعرض في صور مشوهة مثيرة للنفور و الاشمئزاز . ومن آثر الصور عند الكاتب ، تلك المستحضرة من أشكال الأبالسة و الجان و أكلة لحوم البشر كما بلوتها المخيلة الشعبية . و قد أوردنا في سياق سابق نموذجين منها ، يجسد الأول أدعياء الثقافة في مجتمعنا العربي الحديث ، أما الثاني ، و هو ذاك القادم على تصوير جسد واحد من جماعة " يأجوج و مأجوج " فنرجح أنه يرمز إلى جلادي العالم الجديد ، المتصفين بالحمق و الجشع و الجبروت . و لهذين النمطين أشباه و نظائر كثيرون .
أما الصنف الثاني من الصور الرمزية ، فيتسم ببراءة الهيئة الجسدية و لطف الحضور ، و يختص به من كان يحضى بمحبة الراوي و تعاطفه و من كانت صلته به قائمة على الود و الثقة المتابدلة . و لئن بدا هذا الصنف من الصور أقل حضورا و انتشارا من السابق ، فهو ماثل في كتاباته ، يتخلل نسيجها من حين إلى آخر ، و كأنه يمثل منها محطات استراحة يلتقط فيها الراوي أنفاسه بالسكون إلى من صادفوا من نفسه هوى فحباهم بمحبته بعد العناء الطويل و التوتر المتواصل .
و قد تكون آثار الصور الممثلة لهذا الصنف ، الطائر اللطيف المنظر ، و منه يستصفي " الحمامة " و دون أن نعرض لملابسات هذا الحضور في مواطن مختلفة من أقاصيص الدرغوثي ، نكتفي بالإشارة إلى أن هذا الحضور تحولت إليه شخصية المرأة الفلسطينية (38) و شخصية الأم (39) و شخصية الراوي نفسه (40) .
بقي أن نبدي تعقيبا على هذا التحليل ، ملاحظة مؤداها أنه يتعين ، في جميع حالات التأويل و استقراء الخلفيات المفترض أنها مستكنة في البيئة العميقة للنص ، مراعاة الجانب الأدبي الغني ، و إلا انعدمت فائدة القراءة و استوى النص الأدبي كسائر النصوص المتداولة في الساحة الصحفية و السياسية و الفكرية العامة . و في هذا السياق نرى وجوب التنبيه إلى أن قراءة يعقد ، بموجبها ، ربط آلي بين دال أو صورة من النص الأدبي و حدث مرجعي معين ، أو ما انتظم في إطاره ، تؤول ، لا محالة ، إلى الاجحاف بالعنصر الأدبي ، و من ثم ، إلى افقار النص من جهة أنها تفقده مظهر التكثيف الدلالي المحايث لكل عملية إبداعية جادة . حسبنا ، للإستدلال على ذلك ، ذكر شاهد واحد ، هو أن عقد صلة آلية مباشرة بين " يأجوج و مأجوج " من ناحية و إسرائيل أو أمريكا من ناحية أخرى قد لا يستقيم لأسباب عدة نجملها فيما يلي :
أولا : أن انتشار " يأجوج و مأجوج " في الأرض إلى حد ملئها لا يناسب حجم إسرائيل إلا إذا كان ذلك من قبيل التخييل الذي يتفق أن يستدعي ، كشأنه في هذا السياق ، الإيغال في عقد التشبيه .
ثانيا : أن ربط هذا القوم بأمريكا لا يفضل التأويل السابق لسبب آخر هو أن أمريكا سخرت ، فيما ينطق به النص في بعض المواطن (41) طائراتها الخفية و صواريخها العابرة للقارات و غواصاتها النووية للوقوف في وجه هذا الشر المستطير ورده .
ثالثا : أن طريقة تقديم هذا القوم من جهة التركيز على مدى إفسادهم في الأرض و عبثهم و إحداث الخراب فيها توازيها و تجري مجراها طريقة الراوي في التعامل مع أحداث أخرى مماثلة أو مشابهة لها و منتظمة في إطار مكاني علوي أو أسطوري أو أرضي قريب منا و محيط بنا . إذ تصور في مظهر لا يقل شناعة و فظاعة عما قدم به أولئك .
رابعا : قد يكون أهم هذه الأسباب جميعا ما تتميز به هذه الصورة " المثلية " و أضرابها ، و هي كثيرة تنتشر في معظم كتابات الدرغوثي القصصية ، من كثافة متأتية من كونها موطن التقاء و تقاطع لسلاسل صورية و تداعيات ذهنية صادرة عن فضاءات معرفية و آفاق معرفية متنوعة ، إذ هي تستدعي الأسطوري بدلالاته الحافة الدينية و التخييلية ، و السياسي بمرجعياته العامة الكونية و الخاصة المظروفة بأوضاعنا الراهنة ، و التاريخي القديم منه و الحديث ، و التكنولوجي بإنجازاته المذهلة و المدمرة بالنسبة إلى مقتضى الحال ، و غير ذلك مما يجعل هذا الضرب من الصور المثلية مكتنزا مشحونا بدلالات لا حد لها ، و يكتسب ، بسبب من كل ذلك ، قيمته الأدبية .




ثالثا : ظاهرة التناص في كتابات الدرغوثي القصصية :



ظاهرة التناص في الإبداع الأدبي ظاهرة مألوفة و طبيعية كذلك . فكل نص يواطئ نصوصا أخرى ليمحوها و يعيد كتابتها مجريا عليها ضروبا من عمليات التأويل فيؤكدها و يثبتها على نحو أو آخر أو ينفيها و يتجاوزها . و في جميع الحالات تظل آثار الكتابات السابقة ورواسبها مستكنة في ثنيات النص مشعة في خفوت ، منتظرة ، من يسلط النظر عليها لتبتعث من سكونها من جديد و تمثل نابضة حياة و قدرة على التجدد الدلالي .
و لعل أهم سمة مميزة لحضور هذه الظاهرة في كتابات الدرغوثي القصصية ، إجمالا ، أنه يتعمد استدعاء أقوال أو عناوين أو مقاطع قصيرة ، عادة ، من نصوص معروفة على نطاق يتسع أو يضيق ليفككها و يزج بها في سياقات مختلفة عن الأصل على نحو يكسبها قيما جديدة و يظهر مباعدته لها و سخريته منها .
و سنسعى ، بدءا إلى استجلاء معالم مما يجوز وسمه بالتناص في مستوى النية الخارجية لنصوصه القصصية . و المقصود بذلك ما يجريه الكاتب ، في صلب خطابه القصصي ، من تقسيم إلى مفاصل أو وحدات مقطعية و يختاره من عناوين لهذه الأقسام ، بل لبعض أقاصيصه ذاتها ، إذ يلفتنا استدعاؤه لعناوين آثار أدبية أو فنية معروفة و متداولة في الساحة الثقافية .
و قد ترد هذه العناوين مطابقة للأصل المأخوذ عنه ك " لمن تقرع الأجراس " و " الجريمة و العقاب " (42) أو هو يعمد بها إلى العدول عن الأصل ، فيجري عليها تحويلا بسيطا لا يحجب ، بصفته هذه ، الأصل . فيصبح عنوان " التوت المر " في أقصوصة له " الخبز المر " و يستحيل عنوان الفيلم المعروف " النازلة... الآن " " apocalyps now " إلى " القيامة ... الآن " و الذي يهمنا لفت النظر إليه و الإلحاح عليه ، في هذا السياق ، أن مضمون المتن القصصي المتعلق بالعناوين المنقولة لا يمت بصلة إلى المتن القصصي المتصل بالعناوين الأصلية . فلا الفواعل و لا العلاقات بين الفواعل و لا الأحداث ، في كلا الإنتاجين الإبداعيين ، متشابهة . و كأن الكاتب يتعمد التضليل و تعتيم المسالك جاعلا من الكتابة عماية قائمة على البطالة ، غير مستهدف من غاية سوى العبث و التلاعب بالنصوص ، أو بالرموز الواسمة لهذه النصوص و المتمثلة في عناوينها ، كيفما اتفق . و مع ذلك ، فلا شيء أكثر جدا من العبث بكتابات الآخرين أو عناوين كتاباتهم ، في آثار الدرغوثي القصصية . فلئن بدت العناوين المأخوذه باطلة غير مبررة التوظيف للسبب المذكور سابقا ، فإن مجرد قراءة النصوص القصصية الموصولة بها يكشف ترابطا وثيقا قائما بين المتن القصصي و العنوان الموصول به . و يستتبع ذلك أن وضع العنوان ليس اعتباطيا .
هكذا تتلخص أقصوصة " الجريمة و العقاب " في إقدام شخص هو الراوي على قتل زوجين و اكتشاف أمره ، في نهاية المطاف ، و تسليط عقوبة عليه . كذلك يشي عنوان " الخبز المر " بمدى ما يواجه الفرد ، في النص القصصي المعني أو الراوي المنتمي إلى شريحة اجتماعية متواضعة ، من عناء و يتحمله من مشقة للفوز بقوت يومه و كسب الكفاف من الرزق . و تعرض قصة " القيامة ... الآن " صورا من الجحيمين السماوي و الأرضي . و يجري مجرى هذا الاتصال الحميم بين العنوان و الأحداث المروية في المتن القصصي بالنسبة إلى العناوين المذكورة الأخرى ، و إن من جهات مختلفة يتطلب التوفر عليها توسعا في التحليل لا يمكن إجراؤه في حدود هذه الدراسة لا سيما و أن غرضنا الرئيسي ، في سياق ما نحن بصدده ، لا يتعلق رأسا بتحليل النصوص المعنية في ما يشدها من صلات بالعناوين الموضوعة لها ، و بما يثيره ذلك من قضايا ، لكنه لا يتعدى مجرد التدليل ، من خلال نماذج قليلة على وجود صلة وثيقة بين العناوين المنقولة المسمية بعض أقاصيص الدرغوثي و المضامين الحدثية لهذه الأقاصيص ، على نحو ينقض ما قد يتبادر إلى الذهن من اعتباطية هذه العناوين
و الذي يبدو أهم مما قمنا بتحليله أن العلاقة بين نصوص الأقاصيص الحاملة عناوين منقولة و النصوص القصصية الحاملة العناوين الأصلية لئن بدت ، كما أشرنا ، واهية بل منعدمة في مستوى الظاهر ، فهي ، متى تأملناها و أمعنا النظر فيها ليست كذلك ، في مستوى البنية العميقة ، بل هي مستحكمة وثيقة لكن من وجهة أخرى .
و هكذا لا تختلف أقصوصة " الجريمة و العقاب " للدرغوثي عن رواية دستوفسكي الحاملة العنوان نفسه من جهة التساؤل عما إذا لم تكن النزعة العدائية و العدوانية متأصلة في الانسان مركوزة في طبعه، و عما إذا انتفت إمكانية تبريرها بغير رغبة الإنسان الملحة و العميقة في تحقيق مآربه الشخصية و إشباع نزواته الأنانية . غير أن الإختلاف البين بين الخطابين القصصيين يكمن في كيفية التعامل مع هذا العامل النفسي و طريقة تقديمه و تشكيله في قالب فني . ففيما يغلب التوتر و تحتد الانفعالات و الخلافات بين القائمين بالفعل في رواية دستوفسكي المذكورة ، تبدو العلاقات بين الفواعل في أقصوصة درغوثي متحررة من كل انفعال ، بعيدة عن كل توتر بل يجري الحدث في جو عادي مألوف تغلب عليه أسباب التعاطف و مشاعر الود . و يقودنا ذلك إلى استخلاص نتيجة حاصلها تداخل الجدي و الهزلي في هذه الأقصوصة و امتزاج أحدهما بالآخر حتى لا إمكان للفصل بينهما . فإذا بدستوفسكي يتقمص قناع الدرغوثي ، و الدرغوثي يتقمص قناع دستوفسكي و يتلبسه . كتابة أحدهما تصب في كتابة الآخر و تعدل بها عن مجراها . الجد يصبح هزلا و سخرية ، و الهزلا يغدو جدا ومأساة . الواحد ينظر بعيني الآخر و يندس في إهابه . و الحدث المفرد يمكن أن نسبغ عليه مسحة جادة أو ساخرة بحسب وجهة نظرنا و طريقة قراءتنا للأشياء و رؤيتنا إلى العالم . و قس على ذلك بين " النازلة ... الآن " و " القيامة ... الآن " و إن تغير مضمون البنية العميقة و اكتسب بعدا ايديولوجيا بالمفهوم الواسع للكلمة ، و كذلك " لمن تقرع الأجراس " ، و إن انتقلت بنية مضمونها عند الدرغوثي إلى التساؤل عن وضع المثقف ووظيفته في المجتمع الحديث. و يجري الحكم نفسه على " الحدأة و الصياد " و إن قلب الدرغوثي الحكاية من مسحتها التعليمية المدرسية إلى البحث عن كيفية معايشتها للتجربة المأساوية الفلسطينية . و في جميع هذه الحالات لا تخرج الكتابة القصصية عند الدرغوثي من دائرة التعامل العابث الساخر المتجاوز ، على الدوام للظرفي العابر و النافد إلى صلب القضايا المتناولة من خلال تجارب الآخرين الإبداعية ليحقق التبادل الرمزي الموسوم بطابع الهزل بين تجربته و تجربة هؤلاء من ناحية ، و الواقع المظروف مكانيا و زمانيا و الحضور الإنساني في الكون من ناحية أخرى
ظاهرة ثانية تلفت انتباه القارئ لأقاصيص الدرغوثي ، في المستوى الذي نحن بصدد تحليله ، و تتمثل في تقسيم الخطاب القصصي إلى مقاطع أو مفاصل تتفاوت طولا ، و تصديرها بعناوين فرعية . و لهذه الطريقة في التعامل مع القص مصادر عدة نكتفي بالوقوف على مصدرين منها :
يتصل الأول باطريقة المعهودة في تقديم الأخبار . و هي طريقة تقوم على الفصل و المباعدة بين خبر و آخر ، فيبدو الواحد منها منقطعا معزولا عن السابق له و اللاحق ، قائما بذاته ، دون أن ينفي ذلك إمكان اتصال هذه الأخبار من وجهة أو وجهات أخرى كالاشتراك في الموضوع أو في الحدث أو في القائمين بالفعل .
و لئن تراشح المظهران في كلا الصنفين من الأعمال فارتسمت معالم كتابة الأخبار و رجعت أصداؤه بشيء يكثر أو يقل من الإلحاح في بعض أقاصيص الدرغوثي ، فالأمر لا يتعدى شكل المادة من بعض جوانبها ، أما مادة الشكل فتقوم على الانتهاك المتعمد لتلك الأخبار عن طريق تضمين أحداث و معالجة موضوعات لا تمت بصلة للأخبار المعنية و من جهة طي ما يؤخذ منها و نشره بشكل يفضح مباعدة الراوي لها و سخريته منها . و مع ذلك تظل آثار هذه الأخبار و أصداؤها حية نابضة مشعة بدلالات حافة ثرية جماعها أننامسكونون ببقايا من الماضي محكومون به لا نستطيع منه فكاكا و لا انعتاقا .
أما المصدر الثاني و لعله الأظهر و الأعم فيتمثل في استدعاء عناوين فرعية في صلب بعض أقاصيصه ، و منها بوجه خاص " القيامة ... الآن " على الطريقة المجراة في مسرحيات " بريشت " ذات التوجه التعليمي . على أن ما يلفتنا في توظيف الدرغوثي لهذا الضرب من العناوين أنه لا يلتزم مبادئ الاتجاه المذكور التزاما كاملا و لا يفي بشروطه وفاء تاما ، لكنه يتعمد ، على التعامل في النصوص المستحضرة ، انتهاكها و السخرية منها ، و إن لم يكن ذلك إلا من وجهة إضفاء مسحة فنية تشي بحضور الشكل السردي لحكايات ألف ليلة و ليلة مستكنا في تضاعيفها . و هكذا تضاعف السخرية عند بريشت بسخرية الدرغوثي و تكثفها فإذا نحن نقرأ الدرغوثي من خلال بريشت و نقرأ بريشت من خلال الدرغوثي ، نص يجذب نصا و يداخله ، نص يباعد نصا و يزاحمه . و للتوفر على طريقته في التلاعب و من خلال ذلك في جعل بعضها ، بسبب من بعض و في الآن ذاته ، مفارقا لها ، نسوق المثال التالي ثم نعقب عليه :
" آدم بن آدم الآدمي يريد شراء سندات في بنوك وول ستريت و زوجته حياة النفوس تذكره بأنهما في الجنة " (43) . فهذا العنوان الفرعي يستدعي طائفة من الملاحظات نجملها في ما يلي :
1 – إنه ، من حيث بنيته الشكلية ، يتوخى الطريقة السردية في التعبير ، و يجاري نماذج العناوين السائدة في بعض أصناف الكتب التعليمية المدرسية ، و بحكمه هذا يتأثر أسلوبه بأسلوب بريشت في وضع العناوين الفرعية ، داخل مسرحياته .
2 – إن الكاتب يجاري طريقة بريشت كذلك من جهة " التغريب " في مستوى التسميات المسندة إلى الشخصيات . ظاهرة التغريب المعنية يقصد بها إطلاق تسميات تلفت الانتباه و تثيره من جهة وقعها غير المألوف أو مباعدتها للأسماء المتداولة أو للسياق النصي أو لغرابة دلالتها المعجمية . و ينطبق ذلك بشكل أو آخر على الاسمين المعنيين في العنوان المذكور .
3 – يسترعي انتباهنا على صعيد آخر ، أن هذا العنوان يباعد الطريقة البريشتية في وضع العناوين من وجهتين :
تتمثل الأولى في إمعان الدرغوثي في تغريب السياق على نحو لم نعهده عند بريشت و يعد ذلك تجاوزا له . حاصل هذا الضرب من " التغريب " جعله الأحداث تجري في عالم فوقي ماورائي . و تتمثل الثانية في الإيغال في المفارقة التعبيرية " anachronisme " المتمثلة في انطاق الشخصية لغة تنتمي إلى السجل الإقتصادي الحديث ، إذ تتحدث عن " وول ستريت " و الحال أنها في الجنة .
4 – تتجاوز سخرية العنوان المعني السخرية بوضع طبقي في الحياة الإجتماعية المضروفة بحدود الزمان و المكان لتطول من في الجنة و تسعى إلى القيم الدينية . فالآدمي الموجود في الجنة ظل يفكر تفكير من في الأرض ، فيعبر عن رغبته في تزكية ماله و إنمائه بصرف النظر عن الوجهة التي يأخذها المال و الطريقة التي بها ينمو ناسيا أو متناسيا أنه في الجنة . و تطلب الأمر تدخل عشيقته لتذكيره بالموطن المقيمين فيه .
5 – يبده للقارئ أخيرا أن علاقة العنوان المعني بالفصل القصصي الموصول به تختلف جذريا عن علاقة العناوين التي يصدر بها بريبشت مفاصل مسرحياته من جهة أنها تنتظم في إطار حبكة متصلة الحلقات ، تمثل الواحدة منها تتويجا لفعل ( بالمفهوم البريشتي للكلمة ) ، و تمهيدا لفعل لاحق ، في اتجاه التدهور لوضع شخصية أو شخصيات منتمية ، عادة ، إلى شرائح متواضعة من المجتمع من ناحية ، و بداية تبلور وعيها بوضعيتها و بالأسباب التي أدت إلى حالة التدهور هذه من ناحية أخرى فيما تبدو تلك ( و نعني المفاصل المكونة للأثر القصصي عند الدرغوثي ، منقطعم من كل حبكة إلا ما كان من قبيل السياق العام و الرؤية الكلية إلى العالم ، فلا تتعدى العلاقة بين الوحدة القصصية و الأخرى المجاورة لها مجرد العلاقة المكانية ، و لا تشد إليها إلا بأسباب واهية في مستوى ظاهر البنية ، لكنها دالة على أنحاء أخرى في مستوى البنية العميقة . و قد كنا ألممنا بمظاهر من إنتاجها الدلالة في مواطن سابقة .
ما يهمنا الإلحاح عليه ، في مستوى ما نحن بصدده أن طريقة الدرغوثي الطريفة في العامل مع نصوص " بريشت " و نصوص غيره ، تنعطف بعملية التناص إلى مسالك أخرى مستحدثة و تخضعها إلى تجربة مغايرة للتجارب التقليدية و مؤسسة لإنسائية جديدة .
فإن انتقلنا إلى التناص في البنية الداخلية ، و المقصود به علاقة المادة الحدثية في حد ذاتها بنصوص أخرى و إن كانت الحدود بين كلا الصنفين من التناص متداخلة و متوالجة في كثير من الأحيان ، ألفيناه عريضا متشعب المسالك . و قد كنا استجلينا مظاهر منه في مواطن سابقة خاصة منها تلك المتصلة بالصور المثلية و ما جرى مجراها . فلا نرى داعيا إلى العودة إليها حرصاعلى تجنب الإطالة و لتحقيق الغاية نفسها سنكتفي بالوقوف على ما نعتبره أظهر مقومات هذا الضرب من التناص .
فمما يشدنا في كتابات الدرغوثي ، في المستوى الذي نحن بصدده انتشار الاستطراد على نطاق واسع . و السمة المحددة لهذا الضرب من الكتابة الانتقال المفاجئ من حدث إلى آخر و من موضوع إلى موضوع لا يبدو أن له به صلة ظاهرة مما يضفي على طريقته في السرد ، و بوجه خاص في " القيامة ... الآن " سمة التعاقب السريع للصور ، و هي طريقة تذكرنا بما يتميز به تركيب بعض الأفلام الحديثة من اعتماد اللقطات المتنوعة و المتلاحقة بسرعة ( 44) . فننتقل في القصة المذكورة من سجل أسطوري إلى سجل سياسي إلى سجل بوليسي دون أن يعني ذلك ، كما ألمعنا سابقا ، عدم ارتباط بعضها ببعض و تراسل بعضها مع بعض بوجوه مختلفة ، كما وقفنا على بعضها و سنسعى إلى رصد عدد آخر منها في ما يلي :
1 – النصوص الدينية : كالآيات القرآنية و الأحاديث التي يسوقها الراوي في كثير من الأحيان في مفاصل تبدو مستقلة أو تكون بمثابة محطات تستريح فيها الكتابة و ترتد إلى مرجعية دينية ، تتجلى عند إمعان النظر في علاقاتها بغيرها مولدا لفصل قصصي يكتسي عادة شكلا خرافيا مضخما قائما على التهويل العابث
و للاستدلال على ذلك بمثال واحد نشير إلى أن نص " الآية " : " و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة في الأرض تكلمهم " (45) يشفع ، في فصل لاحق، بظهور دابة ذميمة الخلقة ، مشوهة الأعضاء ، عظيمتها تسعى في الأرض فتحدث فيها دمارا رهيبا . و قد لا نحتاج إلى كثير تدبر لنستحضر من خلالها صورة ذلك الوحش المرعب في فيلم " كيتغ كونغ " ، و بالفعل لا نلبث أن نتبين أن الكتابة تصرح بمصدرها و تحيل عليه ، فيذكر هذا الاسم في معرض الفصل . و للإمعان في التلاعب بالمرجعيات المحيل عليها و إكسابها مسحة ساخرة يسند ما جاء بشأن هذه الدابة من وصف لمظهرها و أفعالها إلى الثعالبي و الماوردي (46) .
فلئن كان الاستطراد قائما في نص الدرغوثي المعني على مباعدة الكلام بعضه لبعض و بعثرته في اتجاهات مختلفة ، فهو يكتسب متى تأملناه بدقة وظيفة تفسيرية ، و يصبح بالاستتباع أداة صالحة للكشف " heuristique " و ذلك أنه يتيح قراءة بعض الوحدات في ضوء بعض و إكساب بعضها قيمة بالقياس إلى بعض . و النتيجة أننا نحصل على بعض الصور المتراشحة التي يصب بعضها في مجرى بعض و يضام بعضها مع بعض في إطار عمليات تعليب و تضمين لوسائط متراكبة و متداخلة . و هكذا فما يجري في عوالم مختلفة و متباعدة ، و هي على وجه التحديد العالم العلوي و العالم الأرضي " الواقعي " و " العالم الروائي " المنتصب في منزلة الوسيط بين هذا و ذاك ، يرتد إلى صور متراسلة أو مسارات صورية محدودة العدد نسبيا . و من أكثر هذه المسارات الصورية حضورا في " القيامة ... الآن " المظاهر الاحتفالية التي تذكرنا في أشكالها المتجلية في النص بالمراسم الطقسية الوثنية عند القبائل البدائية ، و القائمة في صورتها العامة على رتابة الأفعال و الحركات والأقوال فيها و قصرها . و الطريف في طريقة الاستدعاء أن الراوي يزاوج بين هذه الأشكال الطقسية البدائية و المعتقدات الدينية الشعبية عندنا جاعلا بعضها يأخذ بأسباب من بعض و يواطئه و ينشر ذلك بطريقة توليدية فيعم العوالم المذكورة جميعا . و النتيجة أن ما يجري في هذه العالم يجري في نظيره الشكلي في عالم آخر . و يستقيم ذلك عكسا بداهة . فإن أجرينا عملية مسح للمظاهر المتصاقبة انتهينا إلى استجلاء ما يلي :
ففي مستوى القائمين بالفعل تطالعنا ، في هذه العوالم جميعا ، صورة الطاغية المطلق الإرادة المتصرف حسب أهوائه ، مجسدة في الحضور الإلهي في العالم الغيبي و في الصنم القاهر المهاب في العالم الأرضي و في شخص الشهيري في العالم الروائي البسيط بين هذا و ذاك . و من أهم المظاهر اللافتتة في تصوير هيبة هؤلاء و عظمة حضورهم أنهم يظهرون محاطين بالأعوان و المقربين المختلفي الهوية بحسب موقعهم في العوالم المذكورة ، لكن السمة المشتركة بين هؤلاء الأعوان جميعا أنهم يقومون من صاحبهم المعظم مقام " الجوقة " من الشخصية المأساوية و إن اختلف مضمون الشكل بين هذا السياق و ذاك .
تتكون الجوقة القائمة في العالم العلوي من الملائكة و الجان و المبعوثين من الناس في العالم الآخر . فهم جميعا يبتهلون إلى ربهم و يلهجون بذكره و يرسلون عبارات الحمد و التقديس له . و للصنم عبيده و حشمه و المنفذون لأوامره . كما يطالعنا " الشهيري " محفوفا بالجلادين و بمن يسميهم " بالجلاوزة " (47).
و كما يستوجب المقام في مثل هذه الحالات فإن العلامات الدالة على الولاء لل ( معبود) و خفض جناح الذل له كثيلرة . فهؤلاء الملائكة يسبحون إلى ربهم فيرسلون تسبيحهم و ابتهالاتهم بطريقة شعائرية طقسية :
" العرش على مناكبهم / يقولون / سبحان ذي العرش و الجبروت / سبحان ذي الملك و الملكوت / سبحان الحي الذي لا يموت / سبوح / قدوس / قدوس / سبوح / سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة و الروح / سبحان الذي يميت الخلق و لا يموت ( 48 ) .
و هؤلاء الوزراء و الأعوان المقربون ينخرطون في الغزف و في الرقص البهلواني على طريقة الدراويش ، بعد اعدادهم المحكم لمراسم استقبال الصنم الراكب الحصان : ( فجأة هز الساحة دوي كالرعد القاصف / " " اضرب البندير يا وزير " ) . ضرب الوزير البندير : دج / دق / دج / دج/ دق / زد في ضرب البندير ، دق / دج / دق / دج / دج / أكثر أكثر يا وزير /دج / دق / دج ...دج / دق / و تنهال أكف بقية الوزراء على البنادير تضربها بلا رحمة ، و تنهال الأكف على الأكف ، تصفق : تاء مرفوعة / ص – صفق / ص/ ف / ق / فا / قف/ ق / تصفق صفق تصفيقا . و ترتفع المدائح و الأذكار / تمجد السيد الذي قهر الكفار / و طهر الديار / و ضرب الدينار / و حرر الكبار و الصغار ( 49 ).
و قد تصدر الأوامر من " القاهر "بطريقة غنائية تدل عليها أو تشي بها صورة التفضية في الكتابة القائمة على الفصل بمساحات عريضة بيضاء بين الدوال و تواتر الوحدات الصوتية المتشابهة الإيقاع : ثم يقول " ليحيا جبريل / و ميكائيل / و إسرافيل / فيحيون / ... و يأمر إسرافيل أن ينفخ " نفخة البعث " فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء و الأرض / فيقول الله : و عزتي و جلالي / و عزتي و جلالي / و عزتي و جلالي / لترجعن كل روح إلى جسدها / (50) .
و كما جرت العادة في التقاليد الوثنية البدائية فقد تؤدى رقصات حول الضحية التي يستعد لتقديمها قربانا للمعبود : " جثا ( لشهيري – دراكيلا ) على ركبتيه فوق جثة و راح يلحس الدم / وداويش قونيا حولي / حركوا طرابيشهم العالية و أمالوا الرؤوس يمنة و يسرة / و بدأت حركة الرقص تضيق " ( 51) .
و لا شك في أن أكثر المحتفين بما يشاهد و يقام من شعائر المجد و مظاهر القهر و الإذلال هو الراوي سواء كان منخرطا في المشهد " المسرحي " أو شاهدا عليه ملاحظا له . و كأنه يبارك ما يجري و يستمتع بما يشاهد أو يتعرض له من محن فيسري في خطابه نفس شعائري نفس شعائري و تمتزج به نبرة غنائية مبطنة بالألم . مثل فعله بالكلام في ذلك مثل من حول ما يدعو إلى الأسى أو يثير الإحساس بالشقاوة إلى أنشودة طقسية النغمة . و كأن ما يحدث يخرج من دائرة المنطق إلى حد لم يعد معه يدعو إلى الثورة أو إلى مجرد المعارضة بل غدا هو المعقول ذاته و اكتسب قيمة ما لم يمكن أن يكون أحسن مما هو قائم . فها هو يصف الصنم بطريقة تمتزج فيها السخرية بالألم و المرارة.
لبس البرونز / و امتطى صهوة الجواد / و عاد الحصان يدور في الساحة / و الأرض تدور حول نفسها / و الأرض تدور حول الشمس / و الشمس تراقب الصنم من بعيد / و الصنم صامت / و الصنم ساكن / و قصر الجماجم يراقب المشهد المثير / (52) .
2 – النصوص التراثية : ظاهرة أخرى تلفتنا في المستوى الذي نحن بصدد تحليله هي ميل القائم بعملية الكتابة إلى اختيار ما يبدو قائما من نصوص التراث ، على البعيد عن كل منطق، خارقا لأبسط مبادئ المعقول مستصفيا من هذا المظهر ما كان منه محكوما بمنطق أو لا منطق القوة و البطش و التهويل . و كأن العالم حلت به كارثة فاستحال إلى جهنم . و أي صورة أدعى إلى إثارة مثل هذا الشعور باللامعقول من إيراد الراوي نصا لأحد المفسرين يؤكد فيه أن الكائنات الحية بمختلف فصائلها تحشر يوم الحساب للقصاص (53) و لا يخرج عن هذا الإطار ما ينقله من أحاديث متصلة بالسيرة النبوية من قبيل ما يلي : " حدث أبو سعيد الخدري أن رسول الله قام يصلي صلاة الصبح و هو يقرأ خلفه ، فالتبست عليه القراءة ، فلما فرغ من صلاته قال : لو رأيتموني و إبليس ، فهويت بيدي ، فمازلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصابعي هاتين الإبهام و التي تليها و لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة ( ابن كثير / البداية و النهاية ، باب خلق الجان و قصة الشياطين " (54) . و كما يلاحظ من خلال نقل مثل هذه الأخبار ، فالقائم بعملية الكتابة يبدو وفيا لمصادره ملتزما بنصها محيلا بدقة على المواطن الواردة فيها من كتب التراث . فلا يضمن قرائن تومئ إلى حضوره الخفي و تشي به . و مع ذلك فطريقة وضعها في سياق معين ، و ضمها إلى أحداث نستشف حضوره الضمني الساخر من خلالها ، تحملنا على استنتاج أنه يباعد بينه و بينها ، و بالاستتباع ، أنه يسخر منها . و تحصل لنا قناعة باستقامة هذا الحكم متى هذتنا القراءة إلى ما يحل محل القرائن الدالة على هذه السخرية و المتمثلة في تعمد المزج بين " الحديث " ( أو ما يثير صدى الحديث ) و خطاب القائم بعملية الكتابة الناضح بسخرية ، فيغطي هذا ذاك و ينسفه بإظهار جانب اللامعقول المستكن فيه . و تأتي السخرية من جهتين تتمثل الأولى في التلاعب بالكلمات على الطريقة الشعبية المألوفة القائمة على استبدال حرف بحرف من اسم ما فيتداخل متصور دال بمتصور دال آخر كقوله" مخدوش / مكدوش " (55) . أما الثانية ، و هي الأهم ، فحاصلها التقريب بين شيئين لا يعقل أن يلتقيا أو يتقاربا لانتهاك عملية الجمع هذه منطقنا " الوضعي " في إدراك الزمن من ناحية و ابتعادها عن الأعراف المألوفة للتشبيه في النصوص الدينية . و هكذا فتأكيد الراوي أنه وقع على توقيع للشعراوي يثبت فيه ما جاء في وثيقة مخطوطة من أن " سرعة المار على السراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ عابر للقارات " (56) لا يجوز قبوله للسببين المذكورين سابقا . و لما كنا ننطلق من مصادرة نعتبر ، بمقتضاها ، أن للقائم بعملية الكتابة لا يسوق الكلام كيفما اتفق و أنه يلتزم بمدأي الإفادة و مراعاة مقتضى المقام ، و جب حمل كلامه على أنه ينطوي على مقاصد مسكوت عنها و بالاستتباع تأويله وفق ما يقتضيه السياق . و هكذا يستقسم الملفوظ المعني دالا متى اعتبرناه قائما على مباعدته ملفوظ باث خفي يعارضه الراوي ، أي المتكلم بمفهوم ديكرو Ducrot و يسخر منه .
و آخر ما نعرض له في مستوى التناص ظاهرة استدعاء نصوص أدبية . و هي ، في كتابات الدرغوثي القصصية من صنفين : شعرية وروائية .
3 – النصوص الشعرية : و هي مأخوذ من الإنتاج الشعري القديم و دون أن نقوم بعملية مسح شاملة للمواطن التي يرد فيها ، و هذه المواطن قليلة الانتشار نسبيا ، نكتفي بالتعليق على واحد منها نقدر أنه أهمها . و هو ذاك الذي تعرض فيه شخصية ذميمة المنظر تدعي أن لها معرفة واسعة بالشعر العربي قديمه و حديثه و بالفكر الإنساني على امتداد تاريخه . ما يهمنا إجراؤه ، في سياق ما نحن بصدده ، إنمايتلخص في استقراء الدلالة من خلال تحليل الطريقة التي تتعامل بها الشخصية المعنية مع الشعر العربي القديم و صورة عرضه على المتلقين المتحلقين حولها و المنصتين إليها بانتباه و إعجاب شديدين . و تستدعي هذه الطريقة جملة من الملاحظات نلخصها فيما يلي :
أ – الشخصية القائمة بعملية التلفظ و الوسومة بصفات خاقية تقربها من فصيلة الشياطين ، و قد أشرنا إلى دلالات هذه الصفات الحافة و المزية في غير هذا السياق ، تقوم باقتطاع أبيات أو أجزاء أبيات بطريقة اعتباطية على نحو يحدث مفارقة بينها و بين السياق الواردة فيه . فإذا هي تبدو معلقة ، قائمة في فراغ مجردة من كل مبرر . و إنشادها جزء البيت التالي " و أفردت إفراد البعير المعبد " ليس اعتباطيا لكنه يعكس سخرية مبطنة من قبل الراوي الثاوي وراءها و المنظم لعملية الكتابة .
ب – نلحظ مباعدة بين الشعر و الوضع الجسدي المحايث لعملية الإلقاء . فقد جرت العادة عند إلقاء الشعر أن يتخذ القائم بها وضعا جسديا لائقا بالمقام و يأتي حركات معبرة تسهم في تأدية الدلالة . أما صاحبا المعني بالعملية في النص فهو يلقي البيت أو مجموعة الأبيات ثم " يتنهد " و يمسح اللعاب عن لحيته أو يلوح في الهواء بسيف يستله من تحت جبته " (57) .
و في سياق لاحق يشير الراوي إلى أنه " يخرج من فيه صوتا كالضراط " . فعن طريق هذه المفارقة ، و بإحداث مسافة بين ما يقتضيه الموقف من جدية و ما يحايث عملية الإلقاء من أفعال مزرية و منتمية إلى عصر غير عصرنا يظهر الراوي الخفي لفظ الشعر للمتلفظ به و اغترابه عنه و يثير عند المتلقي شعورا بالاشمئزاز.
ج – نتبين مفرقة أخرى حاصلها التباين الشديد بين الشعر المستحضر و الأسئلة المفترض أن يثيرها هذا الشعر و يستدعيها إنتاجه. و صاحبنا يجمع بين قول الشاعر " مكر مفر مقبل مدبر " و الحديث عن جنس الملائكة و " هل يدخل مسلمو الجان يوم القيامة إلى الجنة ، و هل تقبيل صورة ( نادية الجندي ) على شاشة التلفاز حلال أم حرام ؟ (58) .
و بهذه الطريقة في الجمع بين الجاد القيم و التافه يفضح الراوي زيف القائم بفعل الكلام و يكشف جهله .
3 – النصوص الروائية : أما التناص في استدعاء نصوص روائية فأهم ما يميزه في " القيامة ... الآن " تحديدا تضمين شخصيات ثلاث مأخوذة من رواية لعبدالرحمان منيف . هذه الشخصيات هي : الشهيري و سالم العطيوي و عادل الخالدي . و إذا كان استحضاره للشخصية الثالثة عابرا (59) فإن حضور الشخصيتين الأخريين و خاصة الأولى منهما أكثر انتشارا . و دون التبسط في تحليل مواطن هذا الحضور و مداه و كيفيات تشكله نكتفي بالإشارة إلى أن القائم بعملية الكتابة يضخم صورتيهما و يمعن في تشويههما على نحو يتجليان فيه بمثابة الجلادين المشبعين رغبة في الانتقام و التعذيب ، و المجردين من كل عاطفة أو شعور بوجوب الالتزام بالحد الأدنى من القيم الإنسانية . و الذي يبدو أكثر طرافة أننا نستشف مدى ما يداخل الراوي من رغبة في التشفي منهما بجعلهما يدخلان النار في الآخرة و جعلهما في هيئة جسدية مثيرة للشعور بالقرف الشديد . فعملية التغوير mise en abime المعتمدة في هذا السياق لا تقوم على جرد احتواء نص لنص أو إعادة كتابة نص بإثباته و تأكيده أو نفيه و معارضته و لكن تنهض على الغوص إلى البنية العميقة للنص المستدعى لآستجلائها و تفسيرها عن طريق العرض المثلي المشخص . و هكذا يواطئ نص درغوثي نص منيف ليضيئه ، و بعملية معاكسة ليضاء بواسطته . فينتج ما يشبه المكاشفة المتبادلة و يتراشح النصان مستعيرين قناع بعضهما بعضا .




شعرية القص في كتابات الدرغوثي القصصية :



رأينا على امتداد التحليل السابق أن الكتابة القصصية عند الدرغوثي ليست ، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى ، ضاربة في الفوضى بطريقة اعتباطية . و لكنها وليدة رأية أخرى للإبداع محضت إنشائية جديدة و أخصبت ، بالاستتباع نظاما مختلفا في إنتاج المعنى أو في إثارة أصدائه . و لئن انصب اهتمامنا في الأبواب السابقة على مساءلة هذا التوجه المستحدث في الإبداع واستنطاقه الدلالة من خلال نسيجه الدال و مسالك التعبير فيه ، فإن ما يهمنا الوقوف عليه ، في هذا الباب ، إنما يتركز أساسا على إبراز كيفية إنتاج هذا الضرب من الكتابة شعرية جديدة ، لقناعتنا بأن مفهوم الإنشائية يفترض إضافة إلى استحداث نظام من الدلالة توليد جنس من الشعرية . و لئن أمكننا في مواطن مختلفة من هذا البحث كشف مظاهر من شعرية القص في كتابات الدرغوثي القصصية أو تعرفها دون تسميتها ، فإن ما يبقى في حاجة إلى مزيد من المحاصرة و الإضاءة إنما يخص معالم الشعرية بالمفهوم الدقيق للكلمة . وذلك عن طريق التوفر على هذه الكتابات في كليتها و تسليط نظرة عمودية تسعى إلى الغوص إلى آلية توليد الشعرية في كتابته . و من خلالها نكتشف بعض الإواليات " mécanismes " المتحكمة في الإنشاء القصصي الحديث عامة و في التجارب المجراة لاختبار الطاقة الشعرية المستكنة عند المبدع الحديث و إمكاناتها في استكشاف آفاق إبداعية أبدا متجددة . و حرصا منا على تجنب الاسهاب سنقتصر في تناولنا لهذه الظاهرة على الوقوف على ما نعتبره وظيفيا مضيئا جوانب من هذه الطاقة و مما لم نتوقف عنده ، بوضوح ، في معرض تحليلنا السابق :
1 – إن أول ما يلفت القارئ المقبل على كتابات درغوثي في المستوى المعني في هذا الباب ، طريقته في التفضية espacement de texte" " . فعلى النقيض مما درجت على إتباعه الكتابة القصصية التقليدية من استرسال سطورها إلى نهاياتها المقدرة في آخر الصفحة ، فإن الدرغوثي يعمد إلى ضرب من تقطيع " أوصال " الكتابة ، و من خلالها اللغة متوخيا مبدأ الانفصال لا الاتصال ، محدثا جنسا من القطيعة بين الوحدة الدالة و متعلقاتها بين الملفوظ و ما يتصل به تركيبيا أو معجميا أو دلاليا و ذلك عن طريق الفصل بمساحة فارغة بيضاء . و ينسحب ذلك على النص توليديا حتى ليبدو هذا بمثابة البقع السوداء المنتشرة على الصفحة البيضاء أو الجزر الصغيرة المستقل بعضها عن بعض و المباعد بعضها لبعض . فلا شيء في كتابة الدرغوثي ، على الأقل في أكثرها إقتناصا لهذه الظاهرة و استغلالها ، يعطى جاهزا مكتمل الحضور بين الدلالة ، و حتى البيت الشعري المستدعى يطرأ عليه عامل الكسر و الفصل فيقدم في صورة أخرى غير صورته الأصلية ( 60) .
و لئن كان المعنى قائما ، في كل نص على عملية بناء ، فنحن إلى هذه العملية ، بالنسبة إلى كتابة الدرغوثي ، أحوج ، بل إن هذه الكتابة تستفز القارئ، تثيره و تدعوه بإلحاح إلى التخلي على النظرة التقليدية إلى النص الأدبي و إلى استنفار أدوات أخرى لاستنطاقه و استجلاء أصداء دلالاته . و في تقديرنا أن عملية التفضية المعنية و المباعدة بين وحدات لغوية ترد عادة متضامة و متجاورة ، بواسطة فراغ أو مساحة بيضاء دالة على دعوة ضمنية إلى نبذ قوالب التفكير المعتادة و استنباط نماذج من التفكير جديدة و طرق مستحدثة في التعامل مع المحيط المظروف زمانيا و مكانيا و الوجود بمفهومه العام . فالسطر القصصي عند الدرغوثي ، يحمل في تصورنا شحنة من الانفعالات ، قد لا نجازف إن اعتبرنا أنها مزيج من السخط و الغضب و الشعور بالإحباط و المرارة و في الآن ذاته من الأمل و التطلع إلى علاقات اجتماعية و بشرية جديدة مبنية على مبادئ المحبة و قيم الأخوة(61) .
2 – إن هذه الطريقة الجديدة في الكتابة القصصية تحدث جنسا من الإيقاع مغايرا لنمط الإيقاع التقليدي و مواطئا لضروب الإبداع الشعري الحديث من بعض الوجوه على الأقل . و سيطول بنا التحليل إن رمنا التوفر على خصائصه بدقة من جهة كيفيات توزيع الخطاب القصصي على الصفحة و صور تشكله ووجوه ترجيع النغمة و أنماط انتظام حزم الجمل ( périodes ) و نوعية الأسباب الرابطة بينها في مستوى التنغيم أو التركيب النحوي أو الدلالة . لذا فسنقتصر على إيراد مقطع واحد و نعقب عليه بجملة من الملاحظات لنتعرف بعض معالم الشعرية التي تنتجها كتابته :
" يحرك الشهيري " عصا المايسترو " و يرقص / فيرقص جلاوزته رقصة المجانين / يدورون حولي في حلقات / حلقة داخل حلقة / يضربون بالسياط / و بقضبان الحديد / يملأون وجهي بصاقا / يملأون الغرفة روائح كريهة / تخرج من أفواههم / و من تحت آباطهم / و يضربون / يشدون شعر الرأس / و يضربون / و يضعون أصابعهم في عيني / و يضربون / و يضربون كمن يضرب حجرا بحجر / و يضربون / و يطلبون مني أن أدور معهم داخل الحركة الكبيرة / يضعون عصابة على عيني و يطلبون مني أن أدور داخل الحلقة دوران الدراويش أصحاب الطرابيش العالية / و أدور و يدور معي العالم " (62).
فالظاهرة المهيمنة على هذا النص المقتطف هي محاكاة الصياغة التعبيرية ، في مستويات مختلفة للفعل المشخص في المشهد و المستدعي صورة رقصة بدائية . و يتجلى ذلك من خلال الأسباب التالية :
أ – تتشكل الأسطر في قالب صور متفاوتة الطول ، و على نحو متموج نستحضر من خلاله دائرية الحركات أو شبه دائريتها وعودة بعضها على عقب بعض.
ب – تتواتر بعض المصوتات المتشابهة بطريقة لا تخلو من انتظام . و يطرأ ذلك أحيانا في خاتمة الجمل " كحلقات / سياط " و " أفواههم / آباطهم " أو في بدايتها ك " يضربون / بقضبان " و " يملؤون / يضربون " / يضعون " .
و يجري في مستوى التركيب النحوي نظير ما يجري في المستوى السابق من تواتر و تنويع يتأتى من الاستبدال كاستبدال حرف بحرف كما في قوله " من أفواههم / تحت آباطهم " أو استبدال كلمة بكلمة في تركيبين متشابهين كذلك و هو المظهر الأكثر انتشارا كاستبدال " يشدون " ب " يضعون " و " شعر " ب " أصابعهم " أو إضافة وحدات تعبيرية أخرى على سبيل التوسع ك " إضافة صفة في الجملة الثانية من الجملتين التاليتين : يملؤون و جهي بصاقا / يملؤن الغرفة روائح كريهة " أو إضافة مركب مجرور" يشدون الرأس " / يضعون أصابعهم في عيني " أو تغيير في الصياغة الصرفية كالانتقال من الفعل من المصدر " أدور / دوران " أو في الضمائر كالانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب " أدور / يدور " .
ج – قد تكون من أظهر ما يشد انتباه الفارئ في المستوى الذي نحن بصدد تحليله تكرار اللفاظم و منها بوجه خاص " يضربون " . و الذي يشدنا أكثر أنم تكرار هذا اللفظم يفصل في مرحلة أولى بجمل تكثر أو تقل ثم مع اشتداد الحركة و تكثف عملية الدوران و الضغط المادي على الضحية ، يسارع تواتر الفعل و يكثر وروده مما يضفي مسحة من التوتر التعبيري المحاكي لتوتر المتصور و تعاظم حدة كابوسه .
د – نلمس من خلال هذا النص و من خلال نصوص أخرى كثيرة للكاتب نفس عنفا مسلطا على الرموز . و لئن كانت الكتابة تقوم ، في صورتها العامة على عنف من قبيل ما ذكرنا (63) فلعلها في هذه الكتابة أشد حضورا و أكثر كثافة . و يأتي مظهر العنف من وجهات متعددة من أظهرها تغيير علاقة الرموز بالمراجع التي تحيل عليها ، و التصرف فيها حسب مشيئة ووفق رؤية مغايرة ، فتطوي مراجعها أو تنشرها ، تكدسها أو تنثرها ، تكثف حضورها أو تخففه ، تفصل المتصل منها أو تصل المتباعد المنفصل ، و في جميع الحالات تخرجها مخرجا جديدا مستجيبا للمختلف المعدول به عن الواحد الثابت و السائد و تكسبها من ثم قيما جديدة .
و هكذا يستحيل مشهد التعذيب و ما يجري فيه من أفعال فضيعة مؤذية للحس الإنساني تدل عليها الحقول المعجمية (64) المتخللة نسيج النص المعني إلى مشهد رقص تؤتي فيه حركات و تنشد أناشيد و تةقع أنغام . و لو اكتفى القائم بعملية الكتابة بذلك لكانت عملية التحويل دالة معبرة عن رؤية ساخرة و طاقة في التصرف في الأحداث غير هينة الشأن . لكنه يتجاوز ذلك إلى إجراء عملية تبعيد تضاعف الصور المنتجة المذكورة و تكثف دلالتها ، و ذلك عن طريق دس مظاهر طقسية تنتمي إلى عصر غير عصرنا ، فإذا الصور المتناقضة و المباعد بعضها لبعض مكانيا وزمانيا ودلاليا تتراشح و يتقمص بعضها قناع بعض و يتلبس لحمته و سداه . و بهذه الطريقة الساخرة في اشتقاق شيء من رحم شيء و تحويل الواحد إلى الآخر و العكس يفضح الضغوط المسلطة و يحدث سلطة جديدة هي سلطة الكتابة .





المصادر و المراجع :

1 – ألقيت هذه المداخلة في إطار الندوة التي نظمها فرع إتحاد الكتاب التونسيين بقفصة أيام 26 و 27 و 28 ديسمبر 1997 حول القصة القصيرة في تونس
2 – نستعمل " أصداء الدلالة " أو " أصداء دلالية " effet de sens " لقناعتنا بعدم وجود دلالة بالمفهوم التقليدي للكلمة . و أن ما ينتهي لنا منها أو نستقرئه من الخطاب إنما لا يعدو أنه أصداء لها و آثار منها .
3 – من ذلك قول الراوي في " القيامة ... الآن " ( اللاذقية دار الحوار 1994 ص 13 ) هي " أي الصخرة " اليوم ثابتة هناك بشهادة سائح بلجيكي جلس فوقها و أخذت له صديقته ثلاث صور فوق الصخرة عرضتها المجلات المهتمة بالدعاية للسياحة في العالم / و كما ثبت سيزيف الصخرة ، حفر قبائل " يأجوج " و " مأجوج " حفرة في السد و خرجو إلى الأرض الحرام .
4 – من ذلك قوله : " أثبت التاريخ أن صور الصين قائم قبل وصول ذو القرنين إلى أطراف الدنيا القديمة . و أنا أرجح أن عدة كيلومترات قد تهدمت منه " ( القيامة ... الآن ) ص 74 .
5 – من ذلك تعقيبا على حديث ذكره بنصه : " و لم أفهم قصد كاتب هذه الإضافة / فقد أردت إيصالها للقارئ الكريم عله يفهم ما فاتني فهمه . ( القيامة ... الآن ) ص 74.
6 – ( رجل محترم جدا ) تونس / دار سحر للنشر ص 47 . و بالرغم من أن هذا السند جاء للسخرية بأدعياء الثقافة فهو يبرز ما تتميز به طريقته من عبث متعمد بهذا الإجراء المتخذ قاعدة في رواية الأخبار في التراث .
7 – ( القيامة ... الآن ) ص 13 .
8 – نفسه ص 14 " في الغد ، جاءت يأجوج و مأجوج و جدوا ضوءا ينبعث من وراء السد و رأوا الثغرة ، و سعوها كما وسع جنود داود ثغرة " الدفرسوار " " و خرجوا فملأوا الدنيا "
9 – نفسه ص 11
10 – نفسه ص 14
11 – نفسه ص 17
12 – نفسه ص 18
13 – نفسه ص 31
14 – و يتجلى ذلك في استدعاء شخصيات شهريار و شهرزاد و الشهيري و سالم العطيوي و غيرها .
15 – ( الخبز المر ) قصص قصيرة / دار صامد صفاقس / تونس 1990 ص 43 .
16 – نفسه ص 52.
17 - * analyse textuelle d'un texte d'E. Poé.in
Sémiotique narrative . Coll Larousse 1973 p : 48
18 – من المواطن المجسدة لهذه الظاهرة إضافة إلى الخلط المتعمد بين الماضي و الحاضر المقطع التالي من " رجل محترم جدا " ص 23 :
" و يمشي السعاة أمامي و خلفي / يحملون لي القهوة و الشاي / و يوشوشون في أذني كلاما كثيرا / سي علي يحكي عن الإضرابات / و سي عمار يدين تدخل أمريكا في بنما / و سي عبدالوهاب هرب من العمل قبل الدوام / و فاطمة تغازل رئيس القسم الفلاني / و خديجة تقول إن ثمن كيلو اللحم ارتفع كثيرا / و ... أهلكتني السياسة يا صالحة / طلبت من البنت أن تنادي صالحة ...
19 – T.Todorov " Introduction à la littérature fantastique.
Ed. du seuil 1970.
20 – يستعمل موليني في كتابه : La stylistique PUF 1993
خاصة ص 45-47 كلمة " سجل " régime " لتجاوز ما يثيره مفهوم " الأدب " من اشكال في مستوى تحديده و محاصرة الخصائص التي يقوم عليها مقدرا أن الكلمة المعنية تشي بحضور أظهر لنوعية الخطاب في نص معين .
21 – القيامة ... الآن ص 13
22 – رجل محترم جدا ص 46
23 – القيامة ... الآن ص 55
24 – Baudrillard : L'échange symbolique et la mort
Gallimard 1976 en particulier P143 et suivantes.
25 – القيامة الآن ص 31
26 – نفسه ص 47
27 – نفسه ص 48
28 – نفسه ص 64
29 – نفسه ص 80/85
30 – نفسه ص 69
31 – نفسه ص 60/63
32 – نفسه ص 43/47
33 – من أهم الدراسات التي تعرضت إلى تحليل " مفاهيم " الاستعراض بالمثال " " Paraboleو " التهوين الساخر " " Grotesque " و " الشبه الرمزي " "Allégorie"بالتحليل دراسة سارازاك الموسومة ب :
J.P.Sarrazac: L'avenir du drame.Editionde l'airelaysanne/98P155-163
34 – القيامة ... الآن
35 – قد تكون من خير النماذج المجسدة لهذه الطريقة في التأليف ، مسرحية بريشت الحاملة عنوان: L'ascension du roi in " " إذ يجري الكاتب حدث ارتقاء هتلر إلى أعلى منصب في السلطة في بيئة أمريكية مباعدة تماما للأوضاع السياسية القائمة في ألمانيا ، بيئة يهيمن عليها المحتكرون و عصابات المافيا . و استقراء الحدث المذكور من خلال الوقائع الجارية في هذه البيئة يحتاج ، كما أشرنا ، إلى دقة نظر و نفاذ رؤية .
36 – و هو تصرف يقتضيه السياق لكتاب ديكو المعروف : " dire ne pas dire "
37 – رجل محترم جدا ص 64/65
38 – الخبز المر ص 37
39 – القيامة ... الآن ص 52
40 – نفسه ص 16
41 – يمكن أن نضيف إليها قصة : " الحدأة و الصياد "
42 – القيامة ... الآن ص 96
43 – يستلهم الدرغوثي هذه الطريقة من بريشت الذي وظف طريقة التركيب المستعملة في الأفلام ، في مسرحياته و هو ما يعرف عنده ب : montage و ما فصل مبادئه في بعض مواطن كتاباته النظرية المتعددة منها ص 125 و ما بعدها من كتابه :
Ecrits sur le théâtre français de J. Tailleur . Paris .L'arche 1964
44 – القيامة ... الآن ص 22
45 –نفسه ص 23
46 – نفسه ص 40
47 – نفسه ص 64
48 – نفسه ص 68
49 – نفسه ص 54
50 – نفسه ص 48
51 – نفسه ص 62
52 – و لا تشذ عن ذلك الدواب بمختلف فصائلها بل و حتى الذباب : قال أحد المفسرين : يحشر الخلق و الوحوش كلها و سائر الدواب / حتى الذباب للقصاص / القيامة ... الآن ص 71
53 – القيامة ... تالآن ص 71
54 – القيامة ... الآن ص 74 و ذلك ضمن النص التالي : " فناج سالم / و مخدوش / ومكدوش على وجهه في جهنم / ملاحظة : ( و جدت في مخطوط مكتوب برسم فارسي حديث أن سرعة المار فوق السراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ من الصواريخ العابرة للقارات . و قد أكد الشيخ الشعراوي هذا الخبر ووقع تحته " .
55 – رجل محترم جدا ص 47
56 – نفسه ص 49
57 – يلتقيه الراوي في العالم الآخر و يقول إن أحدهما سكن الآخر مما يدل على انتظام علاقة تواصل و اتصال حميمة بينهما ( القيامة ... الآن ص 52 )
58 – من ذلك ما يعمد إليه من فصل بين الوحدات الدالة المكونة للأبيات التالية : ما شئت / لا ما شاءت الأقدار / فاحكم / فأنت الواحد القهار / و كأنما أنت النبي محمد / و كأنما أنصارك الأنصار " القيامة ... الآن ص 57 "
أو : " ألا فاسقني خمرا / و لا تقل لي هي الخمر / و لا تسقني سرا / إذا أمكن الجهر / فعيش الفتى / في سكرة / بعد سكرة / فإن طال هذا عنده / قصر العمر " نفسه ص 70 .
59 – تستحضر من الوسائل المعتمدة عنده و الدالة على ما أشرنا إليه رسمه بالعلامات المكتوبة صورة طائر حمام ( رجل محترم جدا ص 53 )
60 – القيامة ... الآن ص 40/41
61 – نكتفي بالإحالة على موطن واحد مما كتب في هذا الصدد و يخص بارت في كتابه " حفيف اللغة ".
Ed.Seuil 1984 , P179 le bruissement de la langue
62 – من أظهرها الأدوات المستعملة للتعذيب ( السياط ، و قضبان الحديد ) و الأفعال التي يأتيها الجلاوزة : ( الدوران بالضحية و ملئ الوجه بالبصاق ووضع الأصابع في العينين و الضرب المبرح ) .

ابراهيم درغوثي
04/06/2008, 09:54 PM
مدخل إلى قراءة القصة القصيرة الحديثة
الكتابة القصصية عند: " ابراهيم درغوثي " أنموذجا

د. محمد الناصر العجيمي
كلية الآداب
سوسة / تونس

ليس في نيتنا الخوض في القصة القصيرة في تونس (1) و لا في القصة القصيرة بوجه عام ، لعدم اختصاصنا في هذه و لا في تلك و مع ذلك نقدر أن تجربتنا في مساءلة العلامات الماثلة في نسيج خطابنا الأدبي بمختلف أصنافه و سعينا المتصل إلى تعقب أصداء الدلالة (2) و آثارها من خلالها قد يتيحان إضاءة بعض الجوانب الدالة من الأقصوصة في تونس ، و يثيران التجارب النقدية الساعية إلى الكشف عن خصوصياتها ، لاسيما و أن التجربة الإبداعية الحديثة بمختلف أجناسها أضحت ، في بعض مظاهرها البارزة على الأقل ، من التنوع و التشعب و التداخل ، بحيث لم يعد في وسع الدارس الراغب في البحث الجاد الادعاء بالاختصاص الضيق ما لم يسعفه و يدعمه بمعرفة ثرية بمسالك البحث الحديث المتشابكة و طرائقه الملتوية.
قد يكون خير مثال مجسد لهذه التجربة الإبداعية الجديدة في تونس ، و بالاستتباع ، لعدم كفاية أدوات البحث التقليدية لاستنطاقها و إنتاج الدلالة من خلالها، الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي. و نأمل أن يتيح إقبالنا على دراسة نماذج منها و تحديدا " القيامة ... الآن " و أقاصيصه المضمنة في ' رجل محترم جدا " و " الخبز المر " ، من إضاءة جوانب من إنشائية القص الحديث في تونس لتبوؤ الدرغوثي مكانة مرموقة في هذا الميدان.
و قد يجوز أن نلخص توجهنا في تناول هذه التجربة الإبداعية بالدرس في القول بأنها ، في صورتها الأكثر نضجا و تمردا على نماذج الكتابة التقليدية و سننها المألوفة ، تخلق ضربا جديدا من الإنشائية هي " إنشائية الفوضى ".
و استعمالنا لكلمة " إنشائية " مقصود ، ذلك أن الفوضى المعنية ليست مردفة للاعتباطية المطلقة أو الضرب العشوائي في كل أفق و بلا دليل . فإن بدت كتابة كذلك فالأمر لا يتعدى الظاهر أو بنية الدال السطحية إذ بمجرد أن نتدبرها و نقلب النظر فيها ، حتى نتبين أنها تنهض على نظام خفي يمثل منها بنيتها العميقة. و ستسعى الدراسة إلى استجلاء أهم معالمها و كشف النقاب عن أبرز الخصائص المميزة لها. و لبلوغ هذه الغاية جعلنا الدراسة في مداخل نلح في بعضها ، و بوجه خاص في الأولين منها ، على مظاهر الفوضى أو ما يجري مجراها من أشكال الانزياح عن سنن الكتابة التقليدية المعهودة ، و في أخرى على أصداء الدلالة المستخلصة من مظاهر التشويش هذه المتعددة ، دون أن يعني ذلك إقامتنا حدودا فاصلة بين الشكلي و الدلالي لقناعتنا العميقة بتواشجهما و تداخلهما تداخلا لا امكان معه للفصل بينهما.

أولا : التباس هوية القائم بعملية التلفظ و غموض الملابسات الحافة بهذه العملية :

تعتمد الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي القص بصيغة المتكلم ، إجمالا ، مجارية في ذلك نمطا من القص التقليدي و محققة في الظاهر أحد الشروط الواجب توفرها ، إن احتكمنا إلى بعض النظريات التداولية الموصولة بهذا الموضوع، لإنجاح البلاغ و ضمان التواصل ، و نعني إمكان إرجاع الملفوظ إلى عون محدد بين الحضور ، على نحو ردنا مجرى الماء إلى المنبع الصادر عنه. و هكذا ينتصب عون التلفظ في الكتابة المعنية فاعلا بالقول ، واثقا بنفسه ، مظهرا امتلاكه سلطة معرفية تفرض نفسها.
و لاقتناعنا بذلك و الظفر باعترافنا بهذه السلطة نراه لا يدخر وسعا في استنفار قيم الصدق و الأمانة في ما ينقل. فيعمد إلى توثيق الأحداث المنقولة مستدلا على صحتها بالاحاطة على مصادرها و إسنادها إلى أصحابها المنقول عنهم مشافهة أو عن طريق القراءة المباشرة . و يتفق في حالات أخرى أن يؤكد إطلاعه العيني عليها و معايشته لها أو انخراطه فيها و مشاركته بدور فاعل في تجربتها. كما يدعم هذه السلطة عن طريق الإنتصاب حكما ، فيعقد المقارنات بين الأحداث المروية و بعض معارفه الموسوعية ، و يستجلي وجوه الشبه القائمة بينها احتكاما إلى نظام قيمي معروف عنده(3) . و يبدي موقفه من بعض الأحداث " التاريخية " فيرجح ما يراه أنسب إلى الواقع و أقرب إلى المعقول و بالتالي أدعى إلى التصديق(4) . و لميز الإيهام بمصداقيته و التزامه الأمانة في ما ينقل يتظاهر بأنه يتحاشى الإقدام على المجازفة بإثبات ما لا علم له به على وجه اليقين وما لم يأخذه على " الثقاة " من الرواة أو الكتب الصفراء. فإن التفق أن وجد إضافة مجهولة المصدر صرح بذلك رفعا للالتباس و تجنبا لتحمل المسؤولية (5) . و لم يتردد في الطعن في بعض المصادر إن قدر عدم استقامتها أو مخالفتها للمنطق أو لما تثبت عنده صحته.
لكن ما أن نطمئن إلى ذلك و تتوفر عندنا قناة بأن الكتابة تجري مجرى السنن المعهودة في رواية الأخبار ، و في وصل العلاقة بين عون البث و المتلقي و فق عقد ائتماني يضمن اتصال البلاغ في مستوى " القطب التلفظي( isotopie énonciative). و يتحقق بمقتضاه التماسك ، حتى تطرأ عوامل تشويش تنسف مصداقية البث و تلغي اتساقه.
و لما لم يكن في وسعنا رصد جميع هذه العوامل لكثرتها و لضيق مجال الدراسة اكتفينا بالوقوف على ما نقدر أنه أهمها و أكثرها انتشارا وبروزا:

1 – إن ما أشرنا إليه من نزعة وثوقية عند عون البث و حرص على الوفاء للمصادر المنقول عنها طمعا للفوز بثقة القارئ و إبرام عقد اتصال معه ، لا يتجاوز حدود الظاهر و لا يعدو أنه من قبيل الإيهام ، بل السخرية بالذات و بالمتلقي إذ نتبين بمجرد إلقاء نظرة على الموضوعات المعنية بروايته، أنها من التشتت و الضرب في الخيال و اللامنطق بحيث ينفلت خطاب عون البث من كل قيد و يتناثر في جميع الاتجاهات . فتوثيقه الأخبار عن طريق السند ينتهك أبسط مبادئ التسلسل الزمني ، فضلا عن ضربه عرض الحائط بمنطقه الداخلي المستوجب النقل عن الثقاة و المأثور عنهم سعه المعرفة بالموضوع المعني بالنقل . و أي شيء أكثر إثارة للشعور بالمفارقة من سند من هذا القبيل : " عن مسلم ...وعن سيد قطب و عن أبي هريرة ... و عن أبي سعيد الخدري و عن ابن عباس ... و عن حسن الترابي و عن حسن البنا (6) و ما يثبته من أخبار و يستدل على صحته بإيراد الشواهد الموثقة يبدو غريبا ضاربا في أبعد حدود الخيال و اللامنطق كإثباته أن " سيزيف " ثبت الصخرة فوق جبل " الأولمب " ، و أنه يستدل على ذلك بشهادة تلقاها من " سائح بلجيكي جلس فوقها و أخذت له صديق ثلاث صور فوق الصخرة عرضتها المجلات المهتمة بالدعاية للسياحة في العالم " (7) . و لا يخرج من إطار هذه الغرابة ما يعقده من مقارنات بين الأخبار المنقولة، أو ما يقيمه من علاقات شبه بين ما يرويه و بعض ما يعرفه و يختزنه في موسوعته الثقافية . و هكذا يستوي ما أحدثته قبائل " يأجوج و مأجوج " من حفر في أسفل سور الصين و ما قام به " سيزيف " من تثبيت للصخرة فوق قمة الجبل المذكور. هذا الحدث و ذاك يستويان وما قام به الجنود الصهاينة من توسيع لثغرة " الدفرسوار " و انتشارهم فيها و في غيرها من المواطن حتى ملأوا الأرض.(8)
و يشفع هذا الإجراء في كسر" القطب التلفظي " و بعثرة المصادر التي يحيل عليها بجعل القائم بعملية الكتابة عون التلفظ مشتتا عبر الزمان و المكان فينطلق به في رحلة ينقلنا فيها خطابه من الراوي الخفي المجرد (9) إلى الناقل عن الأوزاعي (10) إلى الناقل عن كعب الأحبار (11) إلى ضمير المتكلم (12) إلى الناقل عن أبي هريرة (13) فعن سائح بلجيكي ، فعن وكالات أنباء أجنبيه و ما جرى مجرى ذلك . و إمعانا منه في التلاعب بالكتابة و الانتهاء بها إلى بعض غايات اللامنطق يحيل إلى أسماء و مصادر لا معرفة للقارئ بها أصلا و إن أوحت الوحدات الصوتية المكونة لها بانتمائها إلى التراث من جهة التسمية . بل إن هوية المسمى قد يضفي عليها غلالة من اللبس و الغموض إلى حد التعتيم و الانتقاض لتماثل مكونات النسب كإحالات الراوي المتكررة على آدم بن آدم الآدمي . و إن بان بعد تفحص و تقليب نظر أنه قد يحيل على الراوي الخفي نفسه باعتباره كائنا بشريا كسائر الناس.
هكذا تتحدى طريقة القائم بعملية الكتابة في رد الأخبار إلى مصادرها جميع المقاييس الوضعية و تنتهك الضوابط التي يؤخذ بها عادة في رواية الأخبار و إسنادها إلى أصحابها المنقول عنهم . و كأن الكتابة عند الدرغوثي تتحين فرصة غفلة القائم بها عنها فتنساق سائبة في كل اتجاه ، متحررة من كل قيد أو عرف منطقي ، محدثة بذلك ، بين مصدر و آخر مسافة لا حد لها ، جاعلة فراغا شديد العتمة ، فإذا النص عنده ، يبدو مباعدا لنفسه ، منزاحا عما يفترض أنه يريد الإفصاح به أو التعبير عنه ، قائما عما يشبه الجزر الصغيرة المستقل في الظاهر بعضها عن بعض و المفارق بعضها لبعض.
2 – إن القائم بعملية الكتابة يتعمد العبث بأعوان التلفظ ، في بعض المواطن من كتاباته ، من جهة إضفاء اللبس على القائمين به أو المسؤولين عنه ، و ذلك عن طريق التراوح المتصل بين أعوان تلفظ مختلفين دون أن يشعرنا بتغير سجل التلفظ أو ينهد له على نحو أو آخر . فلا نستبين بعض معالمه و نقترب من تعرف هويته إلا بشيء غير قليل من الجهد و بالضرب الممعن أحيانا في التأول . و القاعدة المطردة في مثل هذه الحالات أن الشعور باشتباه الواحد بالآخر و بالتداخل بين القائمين بعملية التلفظ يظل على الدوام قائما . هكذا لا تعرف على وجه الدقة ، أيصدر الملفوظ القصصي في " رجل محترم جدا " عن لسان الراوي المستعمل ضمير المتكلم أم عن لسان العاهرة . فإن اتفق أن تعرفنا صوت الأول واجهنا التساؤل عما إذا صدر عنه الخطاب شابا أم يصدر عنه و هو كهل يحضى بالجاه و احترام الناس له ؟ و إن حصلت لنا قناعة أو ما يشبهها بصدور الخطاب عن المرأة انبعث سؤال شبيه بالسابق وهو : هل تتكلم من موقعها الراهن أم الماضي عندما استقبلت الراوي وهي شابة و عالجت جراحه التي أصيب بها في مظاهرة طلابية ؟
و أشد إيغالا في هذا الذي تعرضنا إليه، في التلاعب بعون التلفظ و إضفاء اللبس عن المسؤول عنه حتى التعتيم أن القائم بعملية الكتابة يتعمد ، في بعض المواطن ، المزج بين عون التلفظ المفترض أنه " آدمي " إن رمنا استعمال سجل الدرغوثي التعبيري ، و شخصيات روائية مأخوذة من القصص العربي القديم أو الحديث (14) ، فالروائي يداخل ما يفترض أنه إيهام بالواقع و يتلبسه ، و إذا الفواصل بين الضربين من الشخصيات تتلاشى إلى حد الامحاء و الزوال ، فلا نعرف متى ينتهي الإيهام بالواقع و يبدأ التخييلي أو متى ينتهي هذا ليبدأ ذاك.
و كأن الكتابة القصصية عند ابراهيم درغوثي تتعمد التجسيد التجريبي العيني لما يجري ، في المستوى النظري ، من أحكام قائمة على القول بتداخل مستويات التجربة الإبداعية القصصية و التباس بعضها ببعض ، أو ما يصرح به كثير من الكتاب ك ملفيل " " Melville و " بورخس " Borges " من أنهم لا يستطيعون الفصل بين تجربتهم الحياتية المعيشة و تجربتهم الإبداعية المتخيلة و لا يعرفون بمقتضى ذلك أي طرف منهما الخيالي أو أيهما الواقعي ، و يستتبع ذلك عجزهم عن الإجابة عما إذا كانوا هم الحقيقيين أم الشخوص الماثلين في آثارهم الأدبية .
و هكذا ننتقل في " حكاية السندباد " من الراوي الخفي (15) إلى الراوي المستعمل ضمير المتكلم (16) الذي لا يلبث أن ينزاح و يتخلى عن دوره في البث ليفسح مجال الحكي لشخصية شهيرة في القصص العربي هي شخصية شهريار الذي يختفي بدوره ليحل محله السندباد راويا بعض سياحاته و مغامراته في أقاصي الأرض. ثم تتراجع عملية التلفظ إثره لتوكل من جديد إلى الراوي المتكلم بضمير " الأنا " و يزداد الأمر مصدر التلفظ لبسا و هوية المسؤول عنه و القائم بهتعتيما باكتشافنا تراكب مستوياته و أعوانه و إحالة بعضهم على بعض و انسراب خطاب بعضهم في نسيج خطاب الآخرين . فإذا صوت السندباد يستكن في صوت شهريار و يزاحمه ليحل مكانه و ينتصب عوضا عنه ، و إذا صوت هذا و صوت ذاك يندسان في لحمة صوت الراوي المستعمل ضمير المتكلم ، فيرجع صداهما بإلحاح ، و تتناثر بنية البث فيه حتى لا إمكان للفصل الحاسم بين مصادره المختلفة . و يستنتج ذلك أن صور بعضهم تنتقل عن طريق العدوى إلى صور الآخرين لتتشكل في مظهر جديد تتقمص أقنعة أخرى ، دون أن تخفت آثار مصادر التلفظ السابقة أو تمحي رسومها بل تظل ماثلة هاجسة بشدة متحينة الفرصة للانبعاث من جديد و افتكاك مكانتها المغتصبة .
هكذا ترتسم صورة شهريار المجسدة لحب الشهوة إلى حد الحيوانية في صورة الراوي المستعمل ضمير المتكلم . و لا تلبث هذه الصورة أن تطالعنا في صيغة أكثر كثافة و إيغالا في اقتناص اللذة و المتعة الجسدية عند السندباد الذي يأخذنا في رحلة سياحية يروي لنا فيها مغامراته الجنسية و الخليعة في بلاد الثلج ، و انسياقه إلى التجارة بالمخدرات ، و التورط في الصفقات المشبوهة دون قيد و لا التزام بالحد الأدنى من الأعراف الأخلاقية أو القيم الاجتماعية غير تحقيق المصلحة الذاتية و اقتناص المتعة الآنية بل كانت و ساطته في عقد صفقات أسلحة عن طريق تزوير وثائق سببا في مساندة دولته " دار السلام " ترشحه لمنصب دولي رفيع (17) ، ثم يعود القص مرة أخرى إلى الراوي المستعمل ضمير المتكلم ليحكي لنا حدث ضغطه على رقبة شهرزاد حتى قبضه روحها.
و في فصل لاحق يحمل عنوان " الليلة الثانية بعد الألف " يروي لنا حدث خلع شهريار و قتله و انتصاب شهريار جديد مكانه ، فلا نعرف ، على وجه الدقة، أ أهذا الفصل تابع للأقصوصة السابقة ملحق بها أم أنه منفصل عنها قائم بذاته.
و المهم أن الحكي عند الدرغوثي ، ينهض على تعمد إلغاء المسافة بين المثير لأصداء الواقع و الخيالي المستند إلى موروث روائي بالمفهوم العام للكلمة و المزج بينهما ، فإذا القصة تداخل القصة و إذا القص يقوم على عملية تغوير mise en abîme متراكبة تملي علينا قراءة محتوى الحكي المضمن و اشتقاق صورة أحدهما من الآخر لتداخل مستويات التلفظ و انسراب بعضها من أعطاف بعض و تلبسها و إياها.
3 – نأتي إلى مظهر ثالث من عملية التلاعب بعون التلفظ و قد يكون أشدها إيغالا في إضفاء مسحة اللبس عليه و نسف ما به يتحدد ، و بالآستتباع في إرباك القراءة بمفهومها التقليدي ، و يتمثل في توظيف ما عرفه بارت في معرض تحليله ملفوظ " لقد مت " : " je suis mort " الصادر عن إحدى شخصيات إدقار بو E. Poe بأنه من قبيل "التلفظ المستحيل " l'énonciation "impossible (18) و بيانه إسناد القائم بعملية الكتابة التلفظ إلى أعوان لفظوا أنفاسهم روائيا ، و على هذا النحو نتلقى صوتها وهي تعبر عن خواطرها و تبدي مواقفها و تفصح عن مشاعرها و تحكي ما قامت به من أعمال بعد موتها و ما تمر به من تجارب تماما كما لو كانت حية . و من الأمثلة غير القليلة المجسدة لهذه الظاهرة في كتاباته أن الأم القائمة في بعض المواطن من أقصوصة " الخبز المر " بعملية التلفظ تروي بعض ما جرى لها بعد قبض عزرائيل روحها . ومن ذلك أنها طلبت منه ألا يرفع روحها إلى الأعلى و يبقيها على مرأى من جثتها حتى تعرف ما سيكون من موقف زوج ابنها التي كانت تحتفل بختان إبنها و تستعد لتلقي الهدايا أو ما جرى مجراها من الضيوف ، من موتها . فأجابها عزرائيل إلى سؤالها و تم لها ما أرادت و اكتشفت بذلك ما لم تكن تعرفه على وجه اليقين أو ثبت لها ما كانت تحدسه من موقف هذه المرأة . كذلك ما يرويه لنا عون التلفظ المستعمل ضمير المتكلم في بعض مواطن " القيامة ... الآن " من مغادرة روحه جسده بعد إصابته بعضة من " الشهيري " الذي استحال إلى " دراكيلا " و تقمصها شكل طائر كان يرتعد ذعرا لحلوله بعالم آخر لم يألفه ، ثم ما كان منها من سعي إلى النفاذ إلى جثة صاحبها و الاستقرار فيها ، و لما لم تفلح صعدت إلى السماء فوجدت أبوابها موصدة ، فطفقت تتردد بين الأرض و السماء و حصلت لها تجارب عدة يروي لنا الميت بعضها.
و قد يكون من المفيد أن نشير إلى مظهر آخر و ليس أخيرا من مظاهر الآنتهاك المتعمد لسلطة عون التلفظ التقليدية و العبث بسننها ، حاصله محو علامات التنصيص بالنسبة إلى ما يفترض ، انطلاقا من قرائن مضمنة في النص ، أنه من قبيل مقول القول و بذلك يندغم المقول في المسرود ، و يتداخل نسيج الكلام المتلفظ به نسيج الحكي و يتلبس به و يجري مجرى ذلك و ينتظم في إطاره ما يلاحظ من تداخل العلامات الدالة على إسناد عملية التلفظ إلى عونين مختلفين في الحوار ، فتشتبه علينا أقوال المحاورين و لا نتبين على وجه الدقة و اليقين من الذي يتكلم و ربما من يوجه الخطاب ، و إن أمكن في معظم الأحيان الترجيح أو رد الأقوال إلى أصحابها لكن بعد تفحص و إعمال نظر دقيق(19).
هكذا ندرك جسامة المفارقات التي تحدثها كتابة درغوثي القصصية في بنية التلفظ القصصي بمفهومه التقليدي و مدى ما يسببه ذلك من إرباك عند القارئ المطمئن إلى جملة من السنن المألوفة في التعامل مع أعوان التلفظ القصصي . و لما كانت لنا قناعة بأن ضروب الانتهاك التي أتينا على تحليلها ليست اعتباطية ، و بأن كاتبا ممتلكا أدوات القص و أفانينه امتلاك ابراهيم درغوثي لها لا يمكن أن يقدم على مثل هذا التصرف دون أن تكون له رؤية ، إن حاضرة في وعيه و إن غير حاضرة ، يستهدف تأديتها و دون أن يستند إلى خلفية إيديولوجية بالمفهوم الواسع للكلمة ، و جب ألا يكتفي الدارس بالوصف ليتعقب آثار الدلالة و أصداءها المحايثة لعملية التصرف أو الآنتهاك هذه . و ليس في وسعنا لضيق مجال الدراسة ، أن نتطرق إلى هذا الموضوع من بابه الواسع أو أن نخوض في إشكالاته الشائكة و الدقيقة . حسبنا الوقوف على ما نقدر أنه أظهر دلالاتها في مستويات ثلاثة :
1 – في المستوى النفسي : نقدر أن هذا التداخل في عملية التلفظ يشف عن عدم ثبات الهوية ، و عن شعور بتداخل الأنا و الآخر و التباس حضور الذات الواقعي بحضورها الخيالي . فإذا الهوية هويات و إذا الذات تتنازعها ذوات ، فلا نعرف بحكم ذلك الفواصل القائمة بينها و بين الآخرين ، و لا تستوي حضورا واضح المعالم بين الحدود . و لنا في كتابات لاكان " Lacan " تحاليل مستفيضة متصلة بهذا الموضوع.
2 – في المستوى الثقافي العام : انتفت السلطة المعرفية الثابتة و المعترف بها و أضحى الانسان الحديث بمثابة المرآة التي تتلقى فيضا من المعلومات و العلامات الصادرة عن آفاق معرفية مختلفة تلقيا سلبيا . فلم يعد بوسع المتلقي التسليم بصحتها و لا التثبت من مدى صحتها . فإذا هو معلومة من المعلومات و علامة من العلامات أو على الأصح موطن التقاء للعلامات و إرسال لها دون أن يكون له دور فاعل في إنتاجها أو قدرة على السيطرة عليها و التحكم فيها .
3 – في المستوى الإيديولوجي بالمفهوم الضيق للكلمة : تسلط على الفرد ضغوط من المجتمع و من السلطة فيصاب بضرب من العصاب و تتفتت شخصيته شظايا ، فلا يبقى في الذاكرة و لا يستحضر من التجارب إلا ما كان متعلقا بالحضور الجسدي في بحثه المضني عن لقمة العيش ، و في ما يسلط عليه من عذاب و من قمع من قبيل شخوص مختلفي الهوية لكنهم مشتركون أو متشابهون في القسوة .
ثانيا : المزج بين ما يثير صدى الواقع و الخيال :
لئن كانت الكتابة الأدبية تتحدد أساسا بأخذها ، على نحو أو آخر ، بأسباب الخيال فإن التجربة الإبداعية الممتدة أخضعت مظهر التخييل هذا إلى نظام و مقاييس محددة ، إن قليلا و إن كثيرا . و هكذا تميزت الكتابة " الواقعية " التي تمثل عتبة دنيا من استدعاء التخييل بترسمها طريقة تقوم إجمالا على الإيهام بالواقع، فيما تنحو الكتابة العجائبية المجسدة عتبة عليا من مظهر التخييل و الجامعة أنوعا عدة من الكتابة كالفانتستيك " fantastique " و البدائعي " merveilleux " و ما يعرف بالغريب " étrange " و المثير " insolite " وجهة أخرى تنهض على اقتناص المظاهر المثيرة للدهشة و الاستغراب .
و دون أن نخوض في مسألة البحث في الخصائص المميزة لكل نوع من الأنواع المذكورة نكتفي بالإشارة إلى أن موضوع تحديد الفواصل القائمة بين بعضها بعض لا يخرج ، إن احتكمنا إلى دراسة تودوروف الموصولة به (20) من دائرة كيفية تلقي الشخصية الروائية الأحداث الغريبة أو الخارجة عن نظم الحياة الموسومة بالمألوفة ، و صور ارتسامها في ذهننا و استجاباتها لها من ناحية ، و رد فعل المتلقي-القارئ و موقفه من موقف الشخصية الروائية من ناحية أخرى.
و لا نستبعد أن تنتهي بنا دراسة معمقة لكتابات ابراهيم درغوثي القصصية ، من جهة البحث في السجلات بلغة موليني molinié (21) ، الغالبة على هذه الكتابات ، إلى استخلاص الأنواع المذكورة جميعا ، بنسب متفاوتة و مقادير مختلفة من أثر قصصي إلى آخر.
المهم أن نلح ، في سياق ما نحن بصدده ، على أننا مدعوون عندما نلج عالمه القصصي ، إلى التخلي عن مقاييسنا الوضعية و المنطقية و نظمنا المألوفة في قراءتنا للواقع ، بمفهومه المتداول بصرف النظر عن التسمية أو التسميات التي نسندها إليه و نسمه بها . ففي عالمه القصصي لا يستغرب خروج قتيلين من قبرهما و اتساؤهما القهوة مع الذي أقدم على قتلهما و مبادلته عبارات المجاملة ثم عودتهما إلى القبر و كأن شيئا ما لم يحصل . كما لا يثير الدهشة إن اتفق أن يعير فدائي مرسوم على لوحة و حامل بندقية سلاحه للراوي فيقتل به زوجته ثم يعيده إليه ، فيرفع الفدائي اصبعه علامة النصر و يستمر في موضعه من اللوحة من جديد واضعا رأسه بين يديه و كأن الأمر عادي و مألوف . و لا يدهش في هذا العالم الغريب أن يبعث الموتى بمجرد النفخ في مجاريهم الهوائية أو أن يتجول مقطوع الرأس كما لو كان حيا سليما . و على هذا النحو من توظيف الغريب و إحضار الخارق في عالمه القصصي يعمد إلى استحضار شخصيات أسطورية أو مختزنة في المخيلة الشعبية موغلا في اضفاء صور الغرابة و التشويه الخلقي عليها جاعلا إياها تأتي أفعالا و تصدر عنها تصرفات لا قبل لتصورها خارج دائرة الخيال البعيد . فهذا واحد من جماعة " يأجوج و مأجوج " يوصف بالطريقة التالية : " تخلف واحد من الجماعة في حجم حبة الأرز له ذنب ذئب و أنياب خنزير و قرن في وسط رأسه فوق الجبهة . و صار ذلك الرجل-حبة الأرز يخبط السد بقرنه فيسمع له دوي كقصف الرعود . و يعاود الخبط و السد يترنح و يرتج إلى أن فتح ثغرة فعوى... كالذئب و مر إلى الأرض الحرام ، فرد أذنه اليسرى و نام داخلها / كان له شعر كثيف يقيه الحر و البرد و آذان عظام أحدهما وبرة يشتي فيها و الأخرى من جلدة يصيف فيها(22)
أما الكائن " البشري " الذي يتحلق حوله النتاس ليقرأ لهم ما يدعي أن له به معرفة واسعة وعليه اطلاع موسوعيا من آثار القوم الإبداعية ، و انتاج الفكر الأنساني في الفلسفة و الفكر و السياسة فمنظره كريه يذكر بفصيلة الشياطين كما ارتسمت صورتها في المخيلة الشعبية إذ " له رأس ثور و ذيل قصير كذيل المهري يهش به الذباب الذي تكدس على مؤخرته التي تشبه مؤخرة قرود " البابوان " ... وكانت له لحية تيس عجوز معلقة في قذال رأس ثور و على جانبي الرأس قرنان معقوفان ... و الصدر غطاه وبر كوبر الإبل . وجبة الصوف التي ارتداها تصل حد الكعبين " رأيت تحت الجبة حافري بغل " (23) . و كما تضخم الأشكال و الهيئات الجسمانية تضخيما يخرجها عن العادي و يزج بها في دائرة ما وراء الواقع ، تضخم الأفعال إلى حدود أو لا حدود المعقول .
و من الأمثلة الكثيرة المجسدة لهذه الظاهرة نسوق المقطع التالي المتصل ببعض أفعال الصنم الراكب حصانا و المثقل بالنياشين و الأوسمة الدالة على الجاه و العظمة : " ينزل الصنم من عليائه / و يرفس السجد بحذائه البرونزي / يرفسهم على رؤوسهم / و على ظهورهم / و على الأرجل / ثم يستل سيفا من غمده / و يقطع الرؤوس / رأسا / وراء / رأس / فتسيل الدماء أنهارا / و تختلط بالبسمات الصفراء / و بالعيون الساحرة الحوراء / ثم يجمع الرؤوس / رأسا / وراء / رأس / يبني بها قصورا / قصر الهناء / قصر السعادة / قصر الشعب / قصر الحرية / قصر الاستقلال / قصر الكرامة الوطنية / قصر الشتاء/ قصر الصيف / (23)
و من البين أن الدرغوثي لا يتوخى هذا الضرب من الكتابة لمجرد البحث عن أشكال جديدة أو للتجريب الفني المحض الخالي من كل بعد قيمي، لكنه يتجاوز ذلك إلى السعي إلى تحقيق تبادل رمزي بين الواقع بمفهومه العام و الكتابة الفنية ، إن رمنا استعمال سجل بودريار Baudrillard النظري (25) . و يستوي ذلك في استغلال ما يوسم في أدبيات البلاغة الغربية ب " Grotesque " وما قد تستقيم ترجمته ب " التهوين أو التهويل الساخرين " . و قد حصرنا ذلك في الأبواب التالية :


1 – باب أول ذو مدى دلالي وجودي : و حاصله استفضاع الموت و الشعور الحاد بلامعقوليته . و أي شيء أدعى من أن ضربة خفيفة بالمطرقة على مؤخرة الرأس كافية لاحداث قدر ضئيل من النزيف يخرج من الأنف و يقضي أمر المصاب بالضربة نهائيا ؟ هكذا يقدم الحدث في " الجريمة و العقاب " كما لو كان عاديا لا يدعو إلى الاستغراب أو إلى مجرد التساؤل بله الاستنكار و الثورة . و بعد أن يقدم الراوي على قتل العجوزين بالطريقة المذكورة نراهما يخرجان من قبرهما و يعاتبانه بلطف على إقدامه على فعله مؤكدان أنهما كانا يعتزمان تمكينه من وراثة القصر لو أمهلهما قليلا . و كان رد الراوي القاتل أنه قدر أنهما سيموتان ، على أية حال ، بسبب مرضهما العضال ، بعد فترة تطول أو تقصر . فلم داعيا ، و الحالة هذه إلى تركهما يتعذبان و قرر ، عن حسن نية ، تجنيبهما ذلك بالتعجيل باستدعاء ما لا محالة من وقوعه . و الحاصل أن العلاقة بين القاتل و القتيلين لا تبدو مطلقا متوترة ، بل هي لا تخلو من مشاعر العطف و الحرص على التماس المبررات لأفعال وردود الأفعال الصادرة عن الآخر . و لا أدل على استحكام روابط الود بينهما من استجابة الراوي الفورية و اللطيفة لطلب العجوز أن يدثرها في القبر لبرودته.
2 – باب ثاني نميل إلى إكسابه دلالة نفسية : و قد يكون تحليله أذهب في التعقيد و أشد إشكالا لتقديرنا أن خير نموذج مجسد له أقصوصة " الكلب " الضاربة إلى حد بعيد في الاتجاه السوريالي فظاهرة " التهوين أو التهويل الساخرين " تقوم على نقيض الشكل الذي تجلت فيه في المثال السابق ، على التجسيد العيني المفضوح و المضخم لما يفترض أنه إحساس يدرك داخليا و لا يستقيم عادة تشخيصه في شكل مادي محسوس . هكذا يهيمن حضور الكلب بصوره السلبية الكريهة على الأقصوصة المذكورة من أدناها إلى أقصاها . فنباح الكلب ينبعث ، بدءا من الرسالة الموجهة إلى الراوي لإخطاره بارتباط زوجته بعلاقة " غرامية " مع كلب . و يلح عليه الكلب بالنباححتى يقض مضجعه فيعمد إلى اخراجه و إخراج زوجته من سطور الرسالة ليذبحها من الوريد إلى الوريد و ليطعن الكلب بين العينين لكنهما لن يلبثا أن يعودا إلى الرسالة ليسكنا سطورها و يستقرا في ثنياتها من جديد . و يعود الحاح الكلب عليه بالنباح . ثم يطالعنا الكلب في مظهر كريه مزر ، وهو مظهره فيما يذكر الراوي ، عندما وجده في البرية وحيدا بائسا، فأخذه معه إلى بيته و أحاطه برعايته ثم أوكل له مهمة حراسة البيت في غيابه . لكن الكلب لم يرع الذمة ، فها هو يراود زوجته و يقضي منها إربه و يغدو عشيقها . و يستقر الكلب في النهاية ، داخل ثياب الراوي و في صلب كيانه ، فتنبعث منه روائح كريهة تكون سببا في نفور الآخرين منه وابتعادهم عنه ليصبح وحيدا كالبعير المعبد ... أو كالكلب . و تفيد إشارة واردة قبل نهاية الأقصوصة ، أن ما رواه كان من قبيل الحلم المزعج ، مما يبرر اختلاط الواقع و التباس الأمور . لكن الراوي لم يلبث أن أصابته عدوى نباح الكلب فأخذ يعوي و تنتهي الأقصوصة و هو على هذه الحالة .
هكذا يكتسب الكلب بعدا رمزيا كثيف الدلالة مجسدا بحضوره المزري و نباحه المزعج و رائحته الكريهة – ضمن دلالات أخرى – مشاعر اتلاغتباط و الكراهية لتصرفات الآخر الذي يندس في أعطاف الذات ليستقر و " يعشش " فيها " . فإذا هو بمثابة الورم الذي يتضخم و يتعاظم حضوره فيها حتى يداخلها شعور بفظاعتها ، و يسكن الذات شعور بكراهية الذات .
3 – باب ثالث من الظاهرة المعنية نميل إلى وصفه بالمعتقد الديني الشعبي : و الطريقة المتوخاة في تناول هذا المظهر في بعض كتابات الدرغوثي القصصية و منها على وجه التحديد " القيامة ... الآن " ، تتلخص في تقديم ما يعتقد أنه يجري في العالم تقديما مضخما كاريكاتوريا ، و اشتقاق معادلة في مكان يشبه موطنا عربيا . و يستقيم أمر الاشتقاق عكسا، و إذا بصورة ما يجري هنا و صورة ما يجري هناك تتراشحان و تستبدلان المواقع أو تتناوبان المواقع ، فنكتشف من إحداهما دلالة الأخرى و نفهم معنى ما يجري في فضاء إحداهما في ضوء ما يجري في فضاء الأخرى .
و دون أن نعمد إلى استعراض ما يجري في اللوحات المكونة للأثر القصصي المذكور لقناعتنا بعدم إجرائية مثل هذه الطريقة ، نكتفي بالإلمام السريع ببعض الوقائع أو أللاواقع المضمنة فيها على أن نعقب عليها في مرحلة ثانية . فالسماوات خلقت كما لو لم يكن الأمر يتعلق بأكثر من صنع بالونات أو يستغرق أكثر من وقت قصير جدا . و الأرض يحملها إسرافيل على فيه و بواسطة قرن " عظم دائرة فيه كعرض السماء و الأرض " (26) وهو شاخص بها إلى العرش دون أن يصيبه كلل أو يشعر بملل . و القمر يسرق كما لو كان الأمر يتعلق بمجرد سرقة كرة طائرة ... و يأتي جمع يشبهون الجان لتفتيش بيت آدم بن آدم الآدمي محدثين جلبة و ضجيجا هائلين مما أزعج الصبيان النائمين و الكلب الرابض قرب الدار. و يعم الهلع و ترتج الأرض و تتساقط الكتب فيشاهد التوحيدي و ماركس و ابن رشد و حسين مروة و نجيب محفوظ و تولستوي و محمود المسعدي و هم يحترقون و يولولن ألما و احتجاجا ، و الكائنات الجهنمية تفتش في أخفى مواطن البيت عن القمر المسروق . و يعذب آدم أشنع تعذيب ليقر بذنب لم يقترفه . و يتحول أحد زبانية التعذيب في موطن آخر إلى " دراكيلا " و يغرز نابيه في عنق آدم فيفور دمه غزيرا من الجراح و يجثو " دراكيلا " على ركبتيه فوق جثته و يلحس دمه (27) و يكبت المعذب ألمه و سخطه لعجزه عن القيام بأي رد فعل . لكن صراخا مكتوما ينطلق من أعماقه ف : يفجر البراكين / و يغمر السهول و الجبال /و يغرق سفينة نوح / و بوارج الأسطول السادس / و الغواصات الذرية / و الصواريخ العابرة للقارات / و كل سفارات البيت الأبيض / و جواسيس الكريملين / و معابد الرب / و نواقيس العذراء / و المخبرون الصغار بمعاطفهم الشهباء و نظاراتهم العمياء / و المتاجرون بأنياب الفيل و المارغوانا و الحشيش / و أكلة لحوم البشر / و قرصان المحيطات / و العمائم الحريرية / و كتب التدجيل الصفراء " (28) .
و في العالم العلوي الموازي لهذا العالم ، يتصرف المطلق الإرادة كما يحلو له دون قيد و لا ضابط ، فيفني الكون و من عليه و يأمر بقتل أصفيائه و المقربين إليه بمن فيهم إسرافيل حامل الأرض على قرنه و ملك الموت . و لما يجد نفسه و حيدا يعن له أب يبعث الأرض فينفخ نفخة البعث ، فإذا الحلق قيام منتصبون كما كانوا و كأن شيئا لم يحدث . و يعود البلاء ليعم الأرض من جديد بل يعود بأفظع مما كان . و تعرض صور من العظمة المبطنة المبطنة البطش و الجبروت ، منتمية إلى تواريخ و حضارات مختلفة . فنرى ناسا ساجدين ل " صنم راكب على حصان و الحصان يدور / و الأرض تدور حول الشمس / و الشمس تدور حول الصنم / و الشمس تتفتت تتحول إلى مصابيح تضاء بالكهرباء و تزين ساحة الجماجم . عندها يترجل الصنم من الحصان و يذهب إلى المنصة / و يجلس على أريكة كبيرة مصنوعة من خشب التاك / و مزركشة بالعاج المجلوب من افريقيا السوداء / و يجيء عبدان يحملان مروحتين / كل مروحة تحمل سربا من النعام " (29) . و يحصل ما يشبه ذلك في موطن آخر لكن في بيئة رومانية و مع تضخيم لمظاهر الأبهة و الحياة للقيصر المعظم (30) و يجري مجرى ذلك في زمان أسطوري ترجع صداه حكايات ألف ليلة و ليلة و تشخص فيه صورة الحاكم المطلق التصرف و النافذ الإرادة في ذات " ملك الزمان " المصنوع من " البرونز " . و للمظاهر السلطوية الممثلة في سعة الحياة و عظمة القيمة و القدرة الفائقة على إشباع النزوات و الشهوات وجه آخر جماعه القهر و النزوع المرضي إلى القسوة و تسليط العذاب على المارقين دون حد و بلا وازع . و هو وجه تجسده شخصيتا عبد الرحمان منيف الروائيتان " سالم العطيوي " (32) و " الشهيري (33) و الذي يهمنا التنبيه إليه و الإلحاح عليه أن مظهر " التهوين أو التهويل الساخرين " " grotesque " يزاوج كما يستشف من خلال ما وقفنا عليه ، و هو قليل من كثير ، ما يعرف في الأدبيات البلاغية أيضا ب " الاستعراض بالمثال " " Parabole " و حاصله عقد صلة في المستوى الشكلي بين مجموعة من الدوال المتراكبة أو الصور المتراسلة في مستوى المتخيل الروائي و مجموعة من المتصورات المستخلصة من الواقع أو من التاريخ أو من المعتقدات الجارية في الأوساط الاجتماعية عامة أو عند فئة معينة (34) و بذلك لا يدرك " الواقع " بمفهومه العام بطريقة مباشرة و لكن بواسطة . و يفترض ذلك إجراء عملية فصل ووصل أو تبعيد و تقريب . بيان ذلك أن الكتابة المنتجة هذه الوجهة ، و تحديدا " القيامة ... الآن " لا توهم بقول الواقع أو استدعائه بل ، على النقيض من ذلك تماما ، توهم بالانفصال عنه و التحرر منه ، و الانطلاق إلى واقع آخر مفارق له ، منعتق من قيوده و ملابساته و مبادئه السلبية المحكومة بمنطق وضعي للزمان و المكان . فتبدو الكائنات و الأفعال و العلاقات بين الشخصيات غريبة شاذة خارجة عن كل منطق مألوف . و قد وقفنا على نماذج من ذلك . و السؤال الذي يواجهنا تعقيبا على ما قدمنا هو ما هي الآلية الكفيلة بجعلنا نستجلي أو نستشف صورة من الواقع من خلال هذا الضرب من الكتابة ؟ و كيف يشتغل هذا الوسيط حتى يؤدي وظيفته ؟ تقودنا محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات إلى الوقوف على عناصر الوصل و التقريب و تحليل أظهرها و أكثرها حضورا ودلالة .
و في تقديرنا أن أهم السبل المؤدية إلى تحقيق الغرض المنشود تنحصر في ثلاث :
تتمثل الأولى : و هي الأبرز و الأكثر حضورا و جلاء ، في استدعاء ما يعرف ب " اللاتوافق anachronisme " على نطاق واسع . حاصل هذا المظهر أن القائم بعملية الكتابة ينثر ، في مواطن متفرقة لكن مقدرة بعناية ، تعابير أو سجلات كلام ممتدة أو مختصرة ، متسعة أو ضيقة ، خاصيتها أنها مفارقة للسياق الواردة فيه ، منتمية إلى مقامات و سجلات متداولة في خطابنا الثقافي الحديث بمختلف وجوهه فكريا أو دينيا أو سياسيا ، ووظيفتها أنها تذكرنا بأننا لم نبرح الحياة الراهنة و المحيط الذي نعيش فيه . و بذلك تصبح هذه التعابير أو الصور بمثابة المولدات الدلالية أو المحطات الكاشفة التي تأخذ في الانتشار و التسلل إلى أعطاف النص و نسيجه السطحي لتغطيه و تطغى عليه ناسفة على هذا النحو ، دلالته الظاهرة و محتلة موقعه أو على الأصح، مزاحمة دلالته السطحية عن طريق بث عناصر تشويش ملحة في نسيجه . هكذا نكتشف دلالة نص من خلال نص آخر ، و ننفذ إلى الخفي المسكوت عنه بواسطة الخطاب الآخر المغاير المفارق لما يفترض أن يؤديه الخطاب المضمن . و بتوخي هذا الإجراء نعدل عن الدلالة الظاهرة للصنم الراكب الحصان المعبود من قبل الجماهير إلى دلالة حافة مغايرة مثيرة لصدى واقع سياسي كان سائدا في فترة معينة من تاريخ تونس الحديث من خلال قراءتنا المخصوصة لتسميات من قبل " قصر الهناء و قصر السعادة و قصر الاستقلال " و ما شابهها من قصور ، و ندرك ، بالاستتباع ، أن ما تظهره الجماهير من ولاء بل تبديه من تقديس للصنم لا يعدو أنه وليد قهر لها . و هو قهر يستدل عليه ، احتكاما إلى السياق الجديد الذي أنتجته التعابير المفارقة المعنية و استنادا إلى قراءة بالخلف ، بما جاء في النص المضمن من ذكر لقطع الصنم الرؤوس بلا حساب و إسالته الدماء أنهارا . و قس على ذلك ما تخلل خطاب " يوليوس قيصر " من تعابير و تسميات تنتمي إلى سجل الخطاب السياسي السائد في الفترة المذكورة ، من قبيل التنويه بالإنجازات الضخمة التي تمت في عهده السعيد بمباركة من " مسؤولي البنك الدولي " (35) .
أما الطريقة الثانية : المحققة الغاية نفسها المتمثلة في تمكين القارئ من قراءة نص من خلال نص ، و الانسراب إلى نص مسكوت عنه انطلاقا من نص مقروء ظاهر ، فهي أخفى و أشد التباسا و أكثر استعصاء على التأويل . و السبب في ذلك أن القائم بعملية الكتابة لا يضمن نصه المباعد لصدى الواقع المعيش مفردات أو تعابير مفارقة على منوال ما سبق ذكره ، إنما يلتزم سجلا واحدا و يمسك عن كل إيماءة صريحة أو حتى ضمنية تشي بمقاصده الخفية . و من المشروع أن نتساءل ، بهذا الصدد ، عما يبرر تعليقنا بهذا النوع من النصوص مقاصد خفية يتبناها الكاتب ؟ تتلخص الإجابة في القول بأن هذا النوع من الكتابة يتطلب تفحصا مليا للنص حتى يهتدي القارئ إلى خيط يربط بواسطته الدوال و المدلولات المتجلية في سطح النص المتخيل المقروء من ناحية ، و أحداث مرجعية أو صورة منطبقة في الذهن عن واقع معين من ناحية أخرى (36) .
و مع ذلك يظل مظهر الالتباس ، و من ثم التردد في التأويل قائما لتعذر التطابق التام بين وحدات الدال و المدلول في مستوى النص المتخيل و الوحدات الدالة ، إن أمكن استخلاصها ، في المستوى المرجعي . يضاف إلى ذلك أن الكاتب كثيرا ما يعمد إلى التلاعب بالدوال و إضفاء مسحة من التعمية و الغموض لتضليل القارئ و حمله على تفادي الاسقاط و القراءة التبسيطية التي يعقد ، بمقتضاها ، علاقة مباشرة بين وحدة من هذا المستوى ووحدة من ذاك . فضلا عن إن مثل هذا الأجراء الإبداعي يمكنه من : " أن يقول دون أن يقول " ( 37) و بالاستتباع من التنصل من المسؤولية بالاحتماء بظاهر النص ، و التعلل بأن مقاصده لا تتعدى الدلالة التصريحية المتجلية في مستواه السطحي ، فما على المؤول ، و الحالة هذه ، إلا تحمل مسؤولية تأويله.
طريقة أخرى منتظمة في إطار هذا التوجه في صورته العامة ، يتوخاها الدرغوثي في كتاباته القصصية ، و تتمثل في توظيف ما يعرف ب : " الشبه الرمزي allégorie " . و أبرز السمات الفارقة بين هذا النوع من الكتابة الإبداعية و النوع السابق ، أن" الاستعراض بالمثال parabole " يختص بامتداد وحدته الدالة و تراسل صوره ، تراسلا قابلا للانتظام و التشكل في حكاية تامة ، فيما يتحدد " الشبه الرمزي " بقصره و انحصاره في صورة واحدة أو عدد محدود من الصور . و النزعة الغالبة في الكتابات المعنية بالدرس تشخيص نماذج اجتماعية وفق نمطين من الصور الرمزية .
فالنماذج الموسومة بقيمة سلبية تعرض في صور مشوهة مثيرة للنفور و الاشمئزاز . ومن آثر الصور عند الكاتب ، تلك المستحضرة من أشكال الأبالسة و الجان و أكلة لحوم البشر كما بلوتها المخيلة الشعبية . و قد أوردنا في سياق سابق نموذجين منها ، يجسد الأول أدعياء الثقافة في مجتمعنا العربي الحديث ، أما الثاني ، و هو ذاك القادم على تصوير جسد واحد من جماعة " يأجوج و مأجوج " فنرجح أنه يرمز إلى جلادي العالم الجديد ، المتصفين بالحمق و الجشع و الجبروت . و لهذين النمطين أشباه و نظائر كثيرون .
أما الصنف الثاني من الصور الرمزية ، فيتسم ببراءة الهيئة الجسدية و لطف الحضور ، و يختص به من كان يحضى بمحبة الراوي و تعاطفه و من كانت صلته به قائمة على الود و الثقة المتابدلة . و لئن بدا هذا الصنف من الصور أقل حضورا و انتشارا من السابق ، فهو ماثل في كتاباته ، يتخلل نسيجها من حين إلى آخر ، و كأنه يمثل منها محطات استراحة يلتقط فيها الراوي أنفاسه بالسكون إلى من صادفوا من نفسه هوى فحباهم بمحبته بعد العناء الطويل و التوتر المتواصل .
و قد تكون آثار الصور الممثلة لهذا الصنف ، الطائر اللطيف المنظر ، و منه يستصفي " الحمامة " و دون أن نعرض لملابسات هذا الحضور في مواطن مختلفة من أقاصيص الدرغوثي ، نكتفي بالإشارة إلى أن هذا الحضور تحولت إليه شخصية المرأة الفلسطينية (38) و شخصية الأم (39) و شخصية الراوي نفسه (40) .
بقي أن نبدي تعقيبا على هذا التحليل ، ملاحظة مؤداها أنه يتعين ، في جميع حالات التأويل و استقراء الخلفيات المفترض أنها مستكنة في البيئة العميقة للنص ، مراعاة الجانب الأدبي الغني ، و إلا انعدمت فائدة القراءة و استوى النص الأدبي كسائر النصوص المتداولة في الساحة الصحفية و السياسية و الفكرية العامة . و في هذا السياق نرى وجوب التنبيه إلى أن قراءة يعقد ، بموجبها ، ربط آلي بين دال أو صورة من النص الأدبي و حدث مرجعي معين ، أو ما انتظم في إطاره ، تؤول ، لا محالة ، إلى الاجحاف بالعنصر الأدبي ، و من ثم ، إلى افقار النص من جهة أنها تفقده مظهر التكثيف الدلالي المحايث لكل عملية إبداعية جادة . حسبنا ، للإستدلال على ذلك ، ذكر شاهد واحد ، هو أن عقد صلة آلية مباشرة بين " يأجوج و مأجوج " من ناحية و إسرائيل أو أمريكا من ناحية أخرى قد لا يستقيم لأسباب عدة نجملها فيما يلي :
أولا : أن انتشار " يأجوج و مأجوج " في الأرض إلى حد ملئها لا يناسب حجم إسرائيل إلا إذا كان ذلك من قبيل التخييل الذي يتفق أن يستدعي ، كشأنه في هذا السياق ، الإيغال في عقد التشبيه .
ثانيا : أن ربط هذا القوم بأمريكا لا يفضل التأويل السابق لسبب آخر هو أن أمريكا سخرت ، فيما ينطق به النص في بعض المواطن (41) طائراتها الخفية و صواريخها العابرة للقارات و غواصاتها النووية للوقوف في وجه هذا الشر المستطير ورده .
ثالثا : أن طريقة تقديم هذا القوم من جهة التركيز على مدى إفسادهم في الأرض و عبثهم و إحداث الخراب فيها توازيها و تجري مجراها طريقة الراوي في التعامل مع أحداث أخرى مماثلة أو مشابهة لها و منتظمة في إطار مكاني علوي أو أسطوري أو أرضي قريب منا و محيط بنا . إذ تصور في مظهر لا يقل شناعة و فظاعة عما قدم به أولئك .
رابعا : قد يكون أهم هذه الأسباب جميعا ما تتميز به هذه الصورة " المثلية " و أضرابها ، و هي كثيرة تنتشر في معظم كتابات الدرغوثي القصصية ، من كثافة متأتية من كونها موطن التقاء و تقاطع لسلاسل صورية و تداعيات ذهنية صادرة عن فضاءات معرفية و آفاق معرفية متنوعة ، إذ هي تستدعي الأسطوري بدلالاته الحافة الدينية و التخييلية ، و السياسي بمرجعياته العامة الكونية و الخاصة المظروفة بأوضاعنا الراهنة ، و التاريخي القديم منه و الحديث ، و التكنولوجي بإنجازاته المذهلة و المدمرة بالنسبة إلى مقتضى الحال ، و غير ذلك مما يجعل هذا الضرب من الصور المثلية مكتنزا مشحونا بدلالات لا حد لها ، و يكتسب ، بسبب من كل ذلك ، قيمته الأدبية .




ثالثا : ظاهرة التناص في كتابات الدرغوثي القصصية :



ظاهرة التناص في الإبداع الأدبي ظاهرة مألوفة و طبيعية كذلك . فكل نص يواطئ نصوصا أخرى ليمحوها و يعيد كتابتها مجريا عليها ضروبا من عمليات التأويل فيؤكدها و يثبتها على نحو أو آخر أو ينفيها و يتجاوزها . و في جميع الحالات تظل آثار الكتابات السابقة ورواسبها مستكنة في ثنيات النص مشعة في خفوت ، منتظرة ، من يسلط النظر عليها لتبتعث من سكونها من جديد و تمثل نابضة حياة و قدرة على التجدد الدلالي .
و لعل أهم سمة مميزة لحضور هذه الظاهرة في كتابات الدرغوثي القصصية ، إجمالا ، أنه يتعمد استدعاء أقوال أو عناوين أو مقاطع قصيرة ، عادة ، من نصوص معروفة على نطاق يتسع أو يضيق ليفككها و يزج بها في سياقات مختلفة عن الأصل على نحو يكسبها قيما جديدة و يظهر مباعدته لها و سخريته منها .
و سنسعى ، بدءا إلى استجلاء معالم مما يجوز وسمه بالتناص في مستوى النية الخارجية لنصوصه القصصية . و المقصود بذلك ما يجريه الكاتب ، في صلب خطابه القصصي ، من تقسيم إلى مفاصل أو وحدات مقطعية و يختاره من عناوين لهذه الأقسام ، بل لبعض أقاصيصه ذاتها ، إذ يلفتنا استدعاؤه لعناوين آثار أدبية أو فنية معروفة و متداولة في الساحة الثقافية .
و قد ترد هذه العناوين مطابقة للأصل المأخوذ عنه ك " لمن تقرع الأجراس " و " الجريمة و العقاب " (42) أو هو يعمد بها إلى العدول عن الأصل ، فيجري عليها تحويلا بسيطا لا يحجب ، بصفته هذه ، الأصل . فيصبح عنوان " التوت المر " في أقصوصة له " الخبز المر " و يستحيل عنوان الفيلم المعروف " النازلة... الآن " " apocalyps now " إلى " القيامة ... الآن " و الذي يهمنا لفت النظر إليه و الإلحاح عليه ، في هذا السياق ، أن مضمون المتن القصصي المتعلق بالعناوين المنقولة لا يمت بصلة إلى المتن القصصي المتصل بالعناوين الأصلية . فلا الفواعل و لا العلاقات بين الفواعل و لا الأحداث ، في كلا الإنتاجين الإبداعيين ، متشابهة . و كأن الكاتب يتعمد التضليل و تعتيم المسالك جاعلا من الكتابة عماية قائمة على البطالة ، غير مستهدف من غاية سوى العبث و التلاعب بالنصوص ، أو بالرموز الواسمة لهذه النصوص و المتمثلة في عناوينها ، كيفما اتفق . و مع ذلك ، فلا شيء أكثر جدا من العبث بكتابات الآخرين أو عناوين كتاباتهم ، في آثار الدرغوثي القصصية . فلئن بدت العناوين المأخوذه باطلة غير مبررة التوظيف للسبب المذكور سابقا ، فإن مجرد قراءة النصوص القصصية الموصولة بها يكشف ترابطا وثيقا قائما بين المتن القصصي و العنوان الموصول به . و يستتبع ذلك أن وضع العنوان ليس اعتباطيا .
هكذا تتلخص أقصوصة " الجريمة و العقاب " في إقدام شخص هو الراوي على قتل زوجين و اكتشاف أمره ، في نهاية المطاف ، و تسليط عقوبة عليه . كذلك يشي عنوان " الخبز المر " بمدى ما يواجه الفرد ، في النص القصصي المعني أو الراوي المنتمي إلى شريحة اجتماعية متواضعة ، من عناء و يتحمله من مشقة للفوز بقوت يومه و كسب الكفاف من الرزق . و تعرض قصة " القيامة ... الآن " صورا من الجحيمين السماوي و الأرضي . و يجري مجرى هذا الاتصال الحميم بين العنوان و الأحداث المروية في المتن القصصي بالنسبة إلى العناوين المذكورة الأخرى ، و إن من جهات مختلفة يتطلب التوفر عليها توسعا في التحليل لا يمكن إجراؤه في حدود هذه الدراسة لا سيما و أن غرضنا الرئيسي ، في سياق ما نحن بصدده ، لا يتعلق رأسا بتحليل النصوص المعنية في ما يشدها من صلات بالعناوين الموضوعة لها ، و بما يثيره ذلك من قضايا ، لكنه لا يتعدى مجرد التدليل ، من خلال نماذج قليلة على وجود صلة وثيقة بين العناوين المنقولة المسمية بعض أقاصيص الدرغوثي و المضامين الحدثية لهذه الأقاصيص ، على نحو ينقض ما قد يتبادر إلى الذهن من اعتباطية هذه العناوين
و الذي يبدو أهم مما قمنا بتحليله أن العلاقة بين نصوص الأقاصيص الحاملة عناوين منقولة و النصوص القصصية الحاملة العناوين الأصلية لئن بدت ، كما أشرنا ، واهية بل منعدمة في مستوى الظاهر ، فهي ، متى تأملناها و أمعنا النظر فيها ليست كذلك ، في مستوى البنية العميقة ، بل هي مستحكمة وثيقة لكن من وجهة أخرى .
و هكذا لا تختلف أقصوصة " الجريمة و العقاب " للدرغوثي عن رواية دستوفسكي الحاملة العنوان نفسه من جهة التساؤل عما إذا لم تكن النزعة العدائية و العدوانية متأصلة في الانسان مركوزة في طبعه، و عما إذا انتفت إمكانية تبريرها بغير رغبة الإنسان الملحة و العميقة في تحقيق مآربه الشخصية و إشباع نزواته الأنانية . غير أن الإختلاف البين بين الخطابين القصصيين يكمن في كيفية التعامل مع هذا العامل النفسي و طريقة تقديمه و تشكيله في قالب فني . ففيما يغلب التوتر و تحتد الانفعالات و الخلافات بين القائمين بالفعل في رواية دستوفسكي المذكورة ، تبدو العلاقات بين الفواعل في أقصوصة درغوثي متحررة من كل انفعال ، بعيدة عن كل توتر بل يجري الحدث في جو عادي مألوف تغلب عليه أسباب التعاطف و مشاعر الود . و يقودنا ذلك إلى استخلاص نتيجة حاصلها تداخل الجدي و الهزلي في هذه الأقصوصة و امتزاج أحدهما بالآخر حتى لا إمكان للفصل بينهما . فإذا بدستوفسكي يتقمص قناع الدرغوثي ، و الدرغوثي يتقمص قناع دستوفسكي و يتلبسه . كتابة أحدهما تصب في كتابة الآخر و تعدل بها عن مجراها . الجد يصبح هزلا و سخرية ، و الهزلا يغدو جدا ومأساة . الواحد ينظر بعيني الآخر و يندس في إهابه . و الحدث المفرد يمكن أن نسبغ عليه مسحة جادة أو ساخرة بحسب وجهة نظرنا و طريقة قراءتنا للأشياء و رؤيتنا إلى العالم . و قس على ذلك بين " النازلة ... الآن " و " القيامة ... الآن " و إن تغير مضمون البنية العميقة و اكتسب بعدا ايديولوجيا بالمفهوم الواسع للكلمة ، و كذلك " لمن تقرع الأجراس " ، و إن انتقلت بنية مضمونها عند الدرغوثي إلى التساؤل عن وضع المثقف ووظيفته في المجتمع الحديث. و يجري الحكم نفسه على " الحدأة و الصياد " و إن قلب الدرغوثي الحكاية من مسحتها التعليمية المدرسية إلى البحث عن كيفية معايشتها للتجربة المأساوية الفلسطينية . و في جميع هذه الحالات لا تخرج الكتابة القصصية عند الدرغوثي من دائرة التعامل العابث الساخر المتجاوز ، على الدوام للظرفي العابر و النافد إلى صلب القضايا المتناولة من خلال تجارب الآخرين الإبداعية ليحقق التبادل الرمزي الموسوم بطابع الهزل بين تجربته و تجربة هؤلاء من ناحية ، و الواقع المظروف مكانيا و زمانيا و الحضور الإنساني في الكون من ناحية أخرى
ظاهرة ثانية تلفت انتباه القارئ لأقاصيص الدرغوثي ، في المستوى الذي نحن بصدد تحليله ، و تتمثل في تقسيم الخطاب القصصي إلى مقاطع أو مفاصل تتفاوت طولا ، و تصديرها بعناوين فرعية . و لهذه الطريقة في التعامل مع القص مصادر عدة نكتفي بالوقوف على مصدرين منها :
يتصل الأول باطريقة المعهودة في تقديم الأخبار . و هي طريقة تقوم على الفصل و المباعدة بين خبر و آخر ، فيبدو الواحد منها منقطعا معزولا عن السابق له و اللاحق ، قائما بذاته ، دون أن ينفي ذلك إمكان اتصال هذه الأخبار من وجهة أو وجهات أخرى كالاشتراك في الموضوع أو في الحدث أو في القائمين بالفعل .
و لئن تراشح المظهران في كلا الصنفين من الأعمال فارتسمت معالم كتابة الأخبار و رجعت أصداؤه بشيء يكثر أو يقل من الإلحاح في بعض أقاصيص الدرغوثي ، فالأمر لا يتعدى شكل المادة من بعض جوانبها ، أما مادة الشكل فتقوم على الانتهاك المتعمد لتلك الأخبار عن طريق تضمين أحداث و معالجة موضوعات لا تمت بصلة للأخبار المعنية و من جهة طي ما يؤخذ منها و نشره بشكل يفضح مباعدة الراوي لها و سخريته منها . و مع ذلك تظل آثار هذه الأخبار و أصداؤها حية نابضة مشعة بدلالات حافة ثرية جماعها أننامسكونون ببقايا من الماضي محكومون به لا نستطيع منه فكاكا و لا انعتاقا .
أما المصدر الثاني و لعله الأظهر و الأعم فيتمثل في استدعاء عناوين فرعية في صلب بعض أقاصيصه ، و منها بوجه خاص " القيامة ... الآن " على الطريقة المجراة في مسرحيات " بريشت " ذات التوجه التعليمي . على أن ما يلفتنا في توظيف الدرغوثي لهذا الضرب من العناوين أنه لا يلتزم مبادئ الاتجاه المذكور التزاما كاملا و لا يفي بشروطه وفاء تاما ، لكنه يتعمد ، على التعامل في النصوص المستحضرة ، انتهاكها و السخرية منها ، و إن لم يكن ذلك إلا من وجهة إضفاء مسحة فنية تشي بحضور الشكل السردي لحكايات ألف ليلة و ليلة مستكنا في تضاعيفها . و هكذا تضاعف السخرية عند بريشت بسخرية الدرغوثي و تكثفها فإذا نحن نقرأ الدرغوثي من خلال بريشت و نقرأ بريشت من خلال الدرغوثي ، نص يجذب نصا و يداخله ، نص يباعد نصا و يزاحمه . و للتوفر على طريقته في التلاعب و من خلال ذلك في جعل بعضها ، بسبب من بعض و في الآن ذاته ، مفارقا لها ، نسوق المثال التالي ثم نعقب عليه :
" آدم بن آدم الآدمي يريد شراء سندات في بنوك وول ستريت و زوجته حياة النفوس تذكره بأنهما في الجنة " (43) . فهذا العنوان الفرعي يستدعي طائفة من الملاحظات نجملها في ما يلي :
1 – إنه ، من حيث بنيته الشكلية ، يتوخى الطريقة السردية في التعبير ، و يجاري نماذج العناوين السائدة في بعض أصناف الكتب التعليمية المدرسية ، و بحكمه هذا يتأثر أسلوبه بأسلوب بريشت في وضع العناوين الفرعية ، داخل مسرحياته .
2 – إن الكاتب يجاري طريقة بريشت كذلك من جهة " التغريب " في مستوى التسميات المسندة إلى الشخصيات . ظاهرة التغريب المعنية يقصد بها إطلاق تسميات تلفت الانتباه و تثيره من جهة وقعها غير المألوف أو مباعدتها للأسماء المتداولة أو للسياق النصي أو لغرابة دلالتها المعجمية . و ينطبق ذلك بشكل أو آخر على الاسمين المعنيين في العنوان المذكور .
3 – يسترعي انتباهنا على صعيد آخر ، أن هذا العنوان يباعد الطريقة البريشتية في وضع العناوين من وجهتين :
تتمثل الأولى في إمعان الدرغوثي في تغريب السياق على نحو لم نعهده عند بريشت و يعد ذلك تجاوزا له . حاصل هذا الضرب من " التغريب " جعله الأحداث تجري في عالم فوقي ماورائي . و تتمثل الثانية في الإيغال في المفارقة التعبيرية " anachronisme " المتمثلة في انطاق الشخصية لغة تنتمي إلى السجل الإقتصادي الحديث ، إذ تتحدث عن " وول ستريت " و الحال أنها في الجنة .
4 – تتجاوز سخرية العنوان المعني السخرية بوضع طبقي في الحياة الإجتماعية المضروفة بحدود الزمان و المكان لتطول من في الجنة و تسعى إلى القيم الدينية . فالآدمي الموجود في الجنة ظل يفكر تفكير من في الأرض ، فيعبر عن رغبته في تزكية ماله و إنمائه بصرف النظر عن الوجهة التي يأخذها المال و الطريقة التي بها ينمو ناسيا أو متناسيا أنه في الجنة . و تطلب الأمر تدخل عشيقته لتذكيره بالموطن المقيمين فيه .
5 – يبده للقارئ أخيرا أن علاقة العنوان المعني بالفصل القصصي الموصول به تختلف جذريا عن علاقة العناوين التي يصدر بها بريبشت مفاصل مسرحياته من جهة أنها تنتظم في إطار حبكة متصلة الحلقات ، تمثل الواحدة منها تتويجا لفعل ( بالمفهوم البريشتي للكلمة ) ، و تمهيدا لفعل لاحق ، في اتجاه التدهور لوضع شخصية أو شخصيات منتمية ، عادة ، إلى شرائح متواضعة من المجتمع من ناحية ، و بداية تبلور وعيها بوضعيتها و بالأسباب التي أدت إلى حالة التدهور هذه من ناحية أخرى فيما تبدو تلك ( و نعني المفاصل المكونة للأثر القصصي عند الدرغوثي ، منقطعم من كل حبكة إلا ما كان من قبيل السياق العام و الرؤية الكلية إلى العالم ، فلا تتعدى العلاقة بين الوحدة القصصية و الأخرى المجاورة لها مجرد العلاقة المكانية ، و لا تشد إليها إلا بأسباب واهية في مستوى ظاهر البنية ، لكنها دالة على أنحاء أخرى في مستوى البنية العميقة . و قد كنا ألممنا بمظاهر من إنتاجها الدلالة في مواطن سابقة .
ما يهمنا الإلحاح عليه ، في مستوى ما نحن بصدده أن طريقة الدرغوثي الطريفة في العامل مع نصوص " بريشت " و نصوص غيره ، تنعطف بعملية التناص إلى مسالك أخرى مستحدثة و تخضعها إلى تجربة مغايرة للتجارب التقليدية و مؤسسة لإنسائية جديدة .
فإن انتقلنا إلى التناص في البنية الداخلية ، و المقصود به علاقة المادة الحدثية في حد ذاتها بنصوص أخرى و إن كانت الحدود بين كلا الصنفين من التناص متداخلة و متوالجة في كثير من الأحيان ، ألفيناه عريضا متشعب المسالك . و قد كنا استجلينا مظاهر منه في مواطن سابقة خاصة منها تلك المتصلة بالصور المثلية و ما جرى مجراها . فلا نرى داعيا إلى العودة إليها حرصاعلى تجنب الإطالة و لتحقيق الغاية نفسها سنكتفي بالوقوف على ما نعتبره أظهر مقومات هذا الضرب من التناص .
فمما يشدنا في كتابات الدرغوثي ، في المستوى الذي نحن بصدده انتشار الاستطراد على نطاق واسع . و السمة المحددة لهذا الضرب من الكتابة الانتقال المفاجئ من حدث إلى آخر و من موضوع إلى موضوع لا يبدو أن له به صلة ظاهرة مما يضفي على طريقته في السرد ، و بوجه خاص في " القيامة ... الآن " سمة التعاقب السريع للصور ، و هي طريقة تذكرنا بما يتميز به تركيب بعض الأفلام الحديثة من اعتماد اللقطات المتنوعة و المتلاحقة بسرعة ( 44) . فننتقل في القصة المذكورة من سجل أسطوري إلى سجل سياسي إلى سجل بوليسي دون أن يعني ذلك ، كما ألمعنا سابقا ، عدم ارتباط بعضها ببعض و تراسل بعضها مع بعض بوجوه مختلفة ، كما وقفنا على بعضها و سنسعى إلى رصد عدد آخر منها في ما يلي :
1 – النصوص الدينية : كالآيات القرآنية و الأحاديث التي يسوقها الراوي في كثير من الأحيان في مفاصل تبدو مستقلة أو تكون بمثابة محطات تستريح فيها الكتابة و ترتد إلى مرجعية دينية ، تتجلى عند إمعان النظر في علاقاتها بغيرها مولدا لفصل قصصي يكتسي عادة شكلا خرافيا مضخما قائما على التهويل العابث
و للاستدلال على ذلك بمثال واحد نشير إلى أن نص " الآية " : " و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة في الأرض تكلمهم " (45) يشفع ، في فصل لاحق، بظهور دابة ذميمة الخلقة ، مشوهة الأعضاء ، عظيمتها تسعى في الأرض فتحدث فيها دمارا رهيبا . و قد لا نحتاج إلى كثير تدبر لنستحضر من خلالها صورة ذلك الوحش المرعب في فيلم " كيتغ كونغ " ، و بالفعل لا نلبث أن نتبين أن الكتابة تصرح بمصدرها و تحيل عليه ، فيذكر هذا الاسم في معرض الفصل . و للإمعان في التلاعب بالمرجعيات المحيل عليها و إكسابها مسحة ساخرة يسند ما جاء بشأن هذه الدابة من وصف لمظهرها و أفعالها إلى الثعالبي و الماوردي (46) .
فلئن كان الاستطراد قائما في نص الدرغوثي المعني على مباعدة الكلام بعضه لبعض و بعثرته في اتجاهات مختلفة ، فهو يكتسب متى تأملناه بدقة وظيفة تفسيرية ، و يصبح بالاستتباع أداة صالحة للكشف " heuristique " و ذلك أنه يتيح قراءة بعض الوحدات في ضوء بعض و إكساب بعضها قيمة بالقياس إلى بعض . و النتيجة أننا نحصل على بعض الصور المتراشحة التي يصب بعضها في مجرى بعض و يضام بعضها مع بعض في إطار عمليات تعليب و تضمين لوسائط متراكبة و متداخلة . و هكذا فما يجري في عوالم مختلفة و متباعدة ، و هي على وجه التحديد العالم العلوي و العالم الأرضي " الواقعي " و " العالم الروائي " المنتصب في منزلة الوسيط بين هذا و ذاك ، يرتد إلى صور متراسلة أو مسارات صورية محدودة العدد نسبيا . و من أكثر هذه المسارات الصورية حضورا في " القيامة ... الآن " المظاهر الاحتفالية التي تذكرنا في أشكالها المتجلية في النص بالمراسم الطقسية الوثنية عند القبائل البدائية ، و القائمة في صورتها العامة على رتابة الأفعال و الحركات والأقوال فيها و قصرها . و الطريف في طريقة الاستدعاء أن الراوي يزاوج بين هذه الأشكال الطقسية البدائية و المعتقدات الدينية الشعبية عندنا جاعلا بعضها يأخذ بأسباب من بعض و يواطئه و ينشر ذلك بطريقة توليدية فيعم العوالم المذكورة جميعا . و النتيجة أن ما يجري في هذه العالم يجري في نظيره الشكلي في عالم آخر . و يستقيم ذلك عكسا بداهة . فإن أجرينا عملية مسح للمظاهر المتصاقبة انتهينا إلى استجلاء ما يلي :
ففي مستوى القائمين بالفعل تطالعنا ، في هذه العوالم جميعا ، صورة الطاغية المطلق الإرادة المتصرف حسب أهوائه ، مجسدة في الحضور الإلهي في العالم الغيبي و في الصنم القاهر المهاب في العالم الأرضي و في شخص الشهيري في العالم الروائي البسيط بين هذا و ذاك . و من أهم المظاهر اللافتتة في تصوير هيبة هؤلاء و عظمة حضورهم أنهم يظهرون محاطين بالأعوان و المقربين المختلفي الهوية بحسب موقعهم في العوالم المذكورة ، لكن السمة المشتركة بين هؤلاء الأعوان جميعا أنهم يقومون من صاحبهم المعظم مقام " الجوقة " من الشخصية المأساوية و إن اختلف مضمون الشكل بين هذا السياق و ذاك .
تتكون الجوقة القائمة في العالم العلوي من الملائكة و الجان و المبعوثين من الناس في العالم الآخر . فهم جميعا يبتهلون إلى ربهم و يلهجون بذكره و يرسلون عبارات الحمد و التقديس له . و للصنم عبيده و حشمه و المنفذون لأوامره . كما يطالعنا " الشهيري " محفوفا بالجلادين و بمن يسميهم " بالجلاوزة " (47).
و كما يستوجب المقام في مثل هذه الحالات فإن العلامات الدالة على الولاء لل ( معبود) و خفض جناح الذل له كثيلرة . فهؤلاء الملائكة يسبحون إلى ربهم فيرسلون تسبيحهم و ابتهالاتهم بطريقة شعائرية طقسية :
" العرش على مناكبهم / يقولون / سبحان ذي العرش و الجبروت / سبحان ذي الملك و الملكوت / سبحان الحي الذي لا يموت / سبوح / قدوس / قدوس / سبوح / سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة و الروح / سبحان الذي يميت الخلق و لا يموت ( 48 ) .
و هؤلاء الوزراء و الأعوان المقربون ينخرطون في الغزف و في الرقص البهلواني على طريقة الدراويش ، بعد اعدادهم المحكم لمراسم استقبال الصنم الراكب الحصان : ( فجأة هز الساحة دوي كالرعد القاصف / " " اضرب البندير يا وزير " ) . ضرب الوزير البندير : دج / دق / دج / دج/ دق / زد في ضرب البندير ، دق / دج / دق / دج / دج / أكثر أكثر يا وزير /دج / دق / دج ...دج / دق / و تنهال أكف بقية الوزراء على البنادير تضربها بلا رحمة ، و تنهال الأكف على الأكف ، تصفق : تاء مرفوعة / ص – صفق / ص/ ف / ق / فا / قف/ ق / تصفق صفق تصفيقا . و ترتفع المدائح و الأذكار / تمجد السيد الذي قهر الكفار / و طهر الديار / و ضرب الدينار / و حرر الكبار و الصغار ( 49 ).
و قد تصدر الأوامر من " القاهر "بطريقة غنائية تدل عليها أو تشي بها صورة التفضية في الكتابة القائمة على الفصل بمساحات عريضة بيضاء بين الدوال و تواتر الوحدات الصوتية المتشابهة الإيقاع : ثم يقول " ليحيا جبريل / و ميكائيل / و إسرافيل / فيحيون / ... و يأمر إسرافيل أن ينفخ " نفخة البعث " فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء و الأرض / فيقول الله : و عزتي و جلالي / و عزتي و جلالي / و عزتي و جلالي / لترجعن كل روح إلى جسدها / (50) .
و كما جرت العادة في التقاليد الوثنية البدائية فقد تؤدى رقصات حول الضحية التي يستعد لتقديمها قربانا للمعبود : " جثا ( لشهيري – دراكيلا ) على ركبتيه فوق جثة و راح يلحس الدم / وداويش قونيا حولي / حركوا طرابيشهم العالية و أمالوا الرؤوس يمنة و يسرة / و بدأت حركة الرقص تضيق " ( 51) .
و لا شك في أن أكثر المحتفين بما يشاهد و يقام من شعائر المجد و مظاهر القهر و الإذلال هو الراوي سواء كان منخرطا في المشهد " المسرحي " أو شاهدا عليه ملاحظا له . و كأنه يبارك ما يجري و يستمتع بما يشاهد أو يتعرض له من محن فيسري في خطابه نفس شعائري نفس شعائري و تمتزج به نبرة غنائية مبطنة بالألم . مثل فعله بالكلام في ذلك مثل من حول ما يدعو إلى الأسى أو يثير الإحساس بالشقاوة إلى أنشودة طقسية النغمة . و كأن ما يحدث يخرج من دائرة المنطق إلى حد لم يعد معه يدعو إلى الثورة أو إلى مجرد المعارضة بل غدا هو المعقول ذاته و اكتسب قيمة ما لم يمكن أن يكون أحسن مما هو قائم . فها هو يصف الصنم بطريقة تمتزج فيها السخرية بالألم و المرارة.
لبس البرونز / و امتطى صهوة الجواد / و عاد الحصان يدور في الساحة / و الأرض تدور حول نفسها / و الأرض تدور حول الشمس / و الشمس تراقب الصنم من بعيد / و الصنم صامت / و الصنم ساكن / و قصر الجماجم يراقب المشهد المثير / (52) .
2 – النصوص التراثية : ظاهرة أخرى تلفتنا في المستوى الذي نحن بصدد تحليله هي ميل القائم بعملية الكتابة إلى اختيار ما يبدو قائما من نصوص التراث ، على البعيد عن كل منطق، خارقا لأبسط مبادئ المعقول مستصفيا من هذا المظهر ما كان منه محكوما بمنطق أو لا منطق القوة و البطش و التهويل . و كأن العالم حلت به كارثة فاستحال إلى جهنم . و أي صورة أدعى إلى إثارة مثل هذا الشعور باللامعقول من إيراد الراوي نصا لأحد المفسرين يؤكد فيه أن الكائنات الحية بمختلف فصائلها تحشر يوم الحساب للقصاص (53) و لا يخرج عن هذا الإطار ما ينقله من أحاديث متصلة بالسيرة النبوية من قبيل ما يلي : " حدث أبو سعيد الخدري أن رسول الله قام يصلي صلاة الصبح و هو يقرأ خلفه ، فالتبست عليه القراءة ، فلما فرغ من صلاته قال : لو رأيتموني و إبليس ، فهويت بيدي ، فمازلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصابعي هاتين الإبهام و التي تليها و لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة ( ابن كثير / البداية و النهاية ، باب خلق الجان و قصة الشياطين " (54) . و كما يلاحظ من خلال نقل مثل هذه الأخبار ، فالقائم بعملية الكتابة يبدو وفيا لمصادره ملتزما بنصها محيلا بدقة على المواطن الواردة فيها من كتب التراث . فلا يضمن قرائن تومئ إلى حضوره الخفي و تشي به . و مع ذلك فطريقة وضعها في سياق معين ، و ضمها إلى أحداث نستشف حضوره الضمني الساخر من خلالها ، تحملنا على استنتاج أنه يباعد بينه و بينها ، و بالاستتباع ، أنه يسخر منها . و تحصل لنا قناعة باستقامة هذا الحكم متى هذتنا القراءة إلى ما يحل محل القرائن الدالة على هذه السخرية و المتمثلة في تعمد المزج بين " الحديث " ( أو ما يثير صدى الحديث ) و خطاب القائم بعملية الكتابة الناضح بسخرية ، فيغطي هذا ذاك و ينسفه بإظهار جانب اللامعقول المستكن فيه . و تأتي السخرية من جهتين تتمثل الأولى في التلاعب بالكلمات على الطريقة الشعبية المألوفة القائمة على استبدال حرف بحرف من اسم ما فيتداخل متصور دال بمتصور دال آخر كقوله" مخدوش / مكدوش " (55) . أما الثانية ، و هي الأهم ، فحاصلها التقريب بين شيئين لا يعقل أن يلتقيا أو يتقاربا لانتهاك عملية الجمع هذه منطقنا " الوضعي " في إدراك الزمن من ناحية و ابتعادها عن الأعراف المألوفة للتشبيه في النصوص الدينية . و هكذا فتأكيد الراوي أنه وقع على توقيع للشعراوي يثبت فيه ما جاء في وثيقة مخطوطة من أن " سرعة المار على السراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ عابر للقارات " (56) لا يجوز قبوله للسببين المذكورين سابقا . و لما كنا ننطلق من مصادرة نعتبر ، بمقتضاها ، أن للقائم بعملية الكتابة لا يسوق الكلام كيفما اتفق و أنه يلتزم بمدأي الإفادة و مراعاة مقتضى المقام ، و جب حمل كلامه على أنه ينطوي على مقاصد مسكوت عنها و بالاستتباع تأويله وفق ما يقتضيه السياق . و هكذا يستقسم الملفوظ المعني دالا متى اعتبرناه قائما على مباعدته ملفوظ باث خفي يعارضه الراوي ، أي المتكلم بمفهوم ديكرو Ducrot و يسخر منه .
و آخر ما نعرض له في مستوى التناص ظاهرة استدعاء نصوص أدبية . و هي ، في كتابات الدرغوثي القصصية من صنفين : شعرية وروائية .
3 – النصوص الشعرية : و هي مأخوذ من الإنتاج الشعري القديم و دون أن نقوم بعملية مسح شاملة للمواطن التي يرد فيها ، و هذه المواطن قليلة الانتشار نسبيا ، نكتفي بالتعليق على واحد منها نقدر أنه أهمها . و هو ذاك الذي تعرض فيه شخصية ذميمة المنظر تدعي أن لها معرفة واسعة بالشعر العربي قديمه و حديثه و بالفكر الإنساني على امتداد تاريخه . ما يهمنا إجراؤه ، في سياق ما نحن بصدده ، إنمايتلخص في استقراء الدلالة من خلال تحليل الطريقة التي تتعامل بها الشخصية المعنية مع الشعر العربي القديم و صورة عرضه على المتلقين المتحلقين حولها و المنصتين إليها بانتباه و إعجاب شديدين . و تستدعي هذه الطريقة جملة من الملاحظات نلخصها فيما يلي :
أ – الشخصية القائمة بعملية التلفظ و الوسومة بصفات خاقية تقربها من فصيلة الشياطين ، و قد أشرنا إلى دلالات هذه الصفات الحافة و المزية في غير هذا السياق ، تقوم باقتطاع أبيات أو أجزاء أبيات بطريقة اعتباطية على نحو يحدث مفارقة بينها و بين السياق الواردة فيه . فإذا هي تبدو معلقة ، قائمة في فراغ مجردة من كل مبرر . و إنشادها جزء البيت التالي " و أفردت إفراد البعير المعبد " ليس اعتباطيا لكنه يعكس سخرية مبطنة من قبل الراوي الثاوي وراءها و المنظم لعملية الكتابة .
ب – نلحظ مباعدة بين الشعر و الوضع الجسدي المحايث لعملية الإلقاء . فقد جرت العادة عند إلقاء الشعر أن يتخذ القائم بها وضعا جسديا لائقا بالمقام و يأتي حركات معبرة تسهم في تأدية الدلالة . أما صاحبا المعني بالعملية في النص فهو يلقي البيت أو مجموعة الأبيات ثم " يتنهد " و يمسح اللعاب عن لحيته أو يلوح في الهواء بسيف يستله من تحت جبته " (57) .
و في سياق لاحق يشير الراوي إلى أنه " يخرج من فيه صوتا كالضراط " . فعن طريق هذه المفارقة ، و بإحداث مسافة بين ما يقتضيه الموقف من جدية و ما يحايث عملية الإلقاء من أفعال مزرية و منتمية إلى عصر غير عصرنا يظهر الراوي الخفي لفظ الشعر للمتلفظ به و اغترابه عنه و يثير عند المتلقي شعورا بالاشمئزاز.
ج – نتبين مفرقة أخرى حاصلها التباين الشديد بين الشعر المستحضر و الأسئلة المفترض أن يثيرها هذا الشعر و يستدعيها إنتاجه. و صاحبنا يجمع بين قول الشاعر " مكر مفر مقبل مدبر " و الحديث عن جنس الملائكة و " هل يدخل مسلمو الجان يوم القيامة إلى الجنة ، و هل تقبيل صورة ( نادية الجندي ) على شاشة التلفاز حلال أم حرام ؟ (58) .
و بهذه الطريقة في الجمع بين الجاد القيم و التافه يفضح الراوي زيف القائم بفعل الكلام و يكشف جهله .
3 – النصوص الروائية : أما التناص في استدعاء نصوص روائية فأهم ما يميزه في " القيامة ... الآن " تحديدا تضمين شخصيات ثلاث مأخوذة من رواية لعبدالرحمان منيف . هذه الشخصيات هي : الشهيري و سالم العطيوي و عادل الخالدي . و إذا كان استحضاره للشخصية الثالثة عابرا (59) فإن حضور الشخصيتين الأخريين و خاصة الأولى منهما أكثر انتشارا . و دون التبسط في تحليل مواطن هذا الحضور و مداه و كيفيات تشكله نكتفي بالإشارة إلى أن القائم بعملية الكتابة يضخم صورتيهما و يمعن في تشويههما على نحو يتجليان فيه بمثابة الجلادين المشبعين رغبة في الانتقام و التعذيب ، و المجردين من كل عاطفة أو شعور بوجوب الالتزام بالحد الأدنى من القيم الإنسانية . و الذي يبدو أكثر طرافة أننا نستشف مدى ما يداخل الراوي من رغبة في التشفي منهما بجعلهما يدخلان النار في الآخرة و جعلهما في هيئة جسدية مثيرة للشعور بالقرف الشديد . فعملية التغوير mise en abime المعتمدة في هذا السياق لا تقوم على جرد احتواء نص لنص أو إعادة كتابة نص بإثباته و تأكيده أو نفيه و معارضته و لكن تنهض على الغوص إلى البنية العميقة للنص المستدعى لآستجلائها و تفسيرها عن طريق العرض المثلي المشخص . و هكذا يواطئ نص درغوثي نص منيف ليضيئه ، و بعملية معاكسة ليضاء بواسطته . فينتج ما يشبه المكاشفة المتبادلة و يتراشح النصان مستعيرين قناع بعضهما بعضا .




شعرية القص في كتابات الدرغوثي القصصية :



رأينا على امتداد التحليل السابق أن الكتابة القصصية عند الدرغوثي ليست ، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى ، ضاربة في الفوضى بطريقة اعتباطية . و لكنها وليدة رأية أخرى للإبداع محضت إنشائية جديدة و أخصبت ، بالاستتباع نظاما مختلفا في إنتاج المعنى أو في إثارة أصدائه . و لئن انصب اهتمامنا في الأبواب السابقة على مساءلة هذا التوجه المستحدث في الإبداع واستنطاقه الدلالة من خلال نسيجه الدال و مسالك التعبير فيه ، فإن ما يهمنا الوقوف عليه ، في هذا الباب ، إنما يتركز أساسا على إبراز كيفية إنتاج هذا الضرب من الكتابة شعرية جديدة ، لقناعتنا بأن مفهوم الإنشائية يفترض إضافة إلى استحداث نظام من الدلالة توليد جنس من الشعرية . و لئن أمكننا في مواطن مختلفة من هذا البحث كشف مظاهر من شعرية القص في كتابات الدرغوثي القصصية أو تعرفها دون تسميتها ، فإن ما يبقى في حاجة إلى مزيد من المحاصرة و الإضاءة إنما يخص معالم الشعرية بالمفهوم الدقيق للكلمة . وذلك عن طريق التوفر على هذه الكتابات في كليتها و تسليط نظرة عمودية تسعى إلى الغوص إلى آلية توليد الشعرية في كتابته . و من خلالها نكتشف بعض الإواليات " mécanismes " المتحكمة في الإنشاء القصصي الحديث عامة و في التجارب المجراة لاختبار الطاقة الشعرية المستكنة عند المبدع الحديث و إمكاناتها في استكشاف آفاق إبداعية أبدا متجددة . و حرصا منا على تجنب الاسهاب سنقتصر في تناولنا لهذه الظاهرة على الوقوف على ما نعتبره وظيفيا مضيئا جوانب من هذه الطاقة و مما لم نتوقف عنده ، بوضوح ، في معرض تحليلنا السابق :
1 – إن أول ما يلفت القارئ المقبل على كتابات درغوثي في المستوى المعني في هذا الباب ، طريقته في التفضية espacement de texte" " . فعلى النقيض مما درجت على إتباعه الكتابة القصصية التقليدية من استرسال سطورها إلى نهاياتها المقدرة في آخر الصفحة ، فإن الدرغوثي يعمد إلى ضرب من تقطيع " أوصال " الكتابة ، و من خلالها اللغة متوخيا مبدأ الانفصال لا الاتصال ، محدثا جنسا من القطيعة بين الوحدة الدالة و متعلقاتها بين الملفوظ و ما يتصل به تركيبيا أو معجميا أو دلاليا و ذلك عن طريق الفصل بمساحة فارغة بيضاء . و ينسحب ذلك على النص توليديا حتى ليبدو هذا بمثابة البقع السوداء المنتشرة على الصفحة البيضاء أو الجزر الصغيرة المستقل بعضها عن بعض و المباعد بعضها لبعض . فلا شيء في كتابة الدرغوثي ، على الأقل في أكثرها إقتناصا لهذه الظاهرة و استغلالها ، يعطى جاهزا مكتمل الحضور بين الدلالة ، و حتى البيت الشعري المستدعى يطرأ عليه عامل الكسر و الفصل فيقدم في صورة أخرى غير صورته الأصلية ( 60) .
و لئن كان المعنى قائما ، في كل نص على عملية بناء ، فنحن إلى هذه العملية ، بالنسبة إلى كتابة الدرغوثي ، أحوج ، بل إن هذه الكتابة تستفز القارئ، تثيره و تدعوه بإلحاح إلى التخلي على النظرة التقليدية إلى النص الأدبي و إلى استنفار أدوات أخرى لاستنطاقه و استجلاء أصداء دلالاته . و في تقديرنا أن عملية التفضية المعنية و المباعدة بين وحدات لغوية ترد عادة متضامة و متجاورة ، بواسطة فراغ أو مساحة بيضاء دالة على دعوة ضمنية إلى نبذ قوالب التفكير المعتادة و استنباط نماذج من التفكير جديدة و طرق مستحدثة في التعامل مع المحيط المظروف زمانيا و مكانيا و الوجود بمفهومه العام . فالسطر القصصي عند الدرغوثي ، يحمل في تصورنا شحنة من الانفعالات ، قد لا نجازف إن اعتبرنا أنها مزيج من السخط و الغضب و الشعور بالإحباط و المرارة و في الآن ذاته من الأمل و التطلع إلى علاقات اجتماعية و بشرية جديدة مبنية على مبادئ المحبة و قيم الأخوة(61) .
2 – إن هذه الطريقة الجديدة في الكتابة القصصية تحدث جنسا من الإيقاع مغايرا لنمط الإيقاع التقليدي و مواطئا لضروب الإبداع الشعري الحديث من بعض الوجوه على الأقل . و سيطول بنا التحليل إن رمنا التوفر على خصائصه بدقة من جهة كيفيات توزيع الخطاب القصصي على الصفحة و صور تشكله ووجوه ترجيع النغمة و أنماط انتظام حزم الجمل ( périodes ) و نوعية الأسباب الرابطة بينها في مستوى التنغيم أو التركيب النحوي أو الدلالة . لذا فسنقتصر على إيراد مقطع واحد و نعقب عليه بجملة من الملاحظات لنتعرف بعض معالم الشعرية التي تنتجها كتابته :
" يحرك الشهيري " عصا المايسترو " و يرقص / فيرقص جلاوزته رقصة المجانين / يدورون حولي في حلقات / حلقة داخل حلقة / يضربون بالسياط / و بقضبان الحديد / يملأون وجهي بصاقا / يملأون الغرفة روائح كريهة / تخرج من أفواههم / و من تحت آباطهم / و يضربون / يشدون شعر الرأس / و يضربون / و يضعون أصابعهم في عيني / و يضربون / و يضربون كمن يضرب حجرا بحجر / و يضربون / و يطلبون مني أن أدور معهم داخل الحركة الكبيرة / يضعون عصابة على عيني و يطلبون مني أن أدور داخل الحلقة دوران الدراويش أصحاب الطرابيش العالية / و أدور و يدور معي العالم " (62).
فالظاهرة المهيمنة على هذا النص المقتطف هي محاكاة الصياغة التعبيرية ، في مستويات مختلفة للفعل المشخص في المشهد و المستدعي صورة رقصة بدائية . و يتجلى ذلك من خلال الأسباب التالية :
أ – تتشكل الأسطر في قالب صور متفاوتة الطول ، و على نحو متموج نستحضر من خلاله دائرية الحركات أو شبه دائريتها وعودة بعضها على عقب بعض.
ب – تتواتر بعض المصوتات المتشابهة بطريقة لا تخلو من انتظام . و يطرأ ذلك أحيانا في خاتمة الجمل " كحلقات / سياط " و " أفواههم / آباطهم " أو في بدايتها ك " يضربون / بقضبان " و " يملؤون / يضربون " / يضعون " .
و يجري في مستوى التركيب النحوي نظير ما يجري في المستوى السابق من تواتر و تنويع يتأتى من الاستبدال كاستبدال حرف بحرف كما في قوله " من أفواههم / تحت آباطهم " أو استبدال كلمة بكلمة في تركيبين متشابهين كذلك و هو المظهر الأكثر انتشارا كاستبدال " يشدون " ب " يضعون " و " شعر " ب " أصابعهم " أو إضافة وحدات تعبيرية أخرى على سبيل التوسع ك " إضافة صفة في الجملة الثانية من الجملتين التاليتين : يملؤون و جهي بصاقا / يملؤن الغرفة روائح كريهة " أو إضافة مركب مجرور" يشدون الرأس " / يضعون أصابعهم في عيني " أو تغيير في الصياغة الصرفية كالانتقال من الفعل من المصدر " أدور / دوران " أو في الضمائر كالانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب " أدور / يدور " .
ج – قد تكون من أظهر ما يشد انتباه الفارئ في المستوى الذي نحن بصدد تحليله تكرار اللفاظم و منها بوجه خاص " يضربون " . و الذي يشدنا أكثر أنم تكرار هذا اللفظم يفصل في مرحلة أولى بجمل تكثر أو تقل ثم مع اشتداد الحركة و تكثف عملية الدوران و الضغط المادي على الضحية ، يسارع تواتر الفعل و يكثر وروده مما يضفي مسحة من التوتر التعبيري المحاكي لتوتر المتصور و تعاظم حدة كابوسه .
د – نلمس من خلال هذا النص و من خلال نصوص أخرى كثيرة للكاتب نفس عنفا مسلطا على الرموز . و لئن كانت الكتابة تقوم ، في صورتها العامة على عنف من قبيل ما ذكرنا (63) فلعلها في هذه الكتابة أشد حضورا و أكثر كثافة . و يأتي مظهر العنف من وجهات متعددة من أظهرها تغيير علاقة الرموز بالمراجع التي تحيل عليها ، و التصرف فيها حسب مشيئة ووفق رؤية مغايرة ، فتطوي مراجعها أو تنشرها ، تكدسها أو تنثرها ، تكثف حضورها أو تخففه ، تفصل المتصل منها أو تصل المتباعد المنفصل ، و في جميع الحالات تخرجها مخرجا جديدا مستجيبا للمختلف المعدول به عن الواحد الثابت و السائد و تكسبها من ثم قيما جديدة .
و هكذا يستحيل مشهد التعذيب و ما يجري فيه من أفعال فضيعة مؤذية للحس الإنساني تدل عليها الحقول المعجمية (64) المتخللة نسيج النص المعني إلى مشهد رقص تؤتي فيه حركات و تنشد أناشيد و تةقع أنغام . و لو اكتفى القائم بعملية الكتابة بذلك لكانت عملية التحويل دالة معبرة عن رؤية ساخرة و طاقة في التصرف في الأحداث غير هينة الشأن . لكنه يتجاوز ذلك إلى إجراء عملية تبعيد تضاعف الصور المنتجة المذكورة و تكثف دلالتها ، و ذلك عن طريق دس مظاهر طقسية تنتمي إلى عصر غير عصرنا ، فإذا الصور المتناقضة و المباعد بعضها لبعض مكانيا وزمانيا ودلاليا تتراشح و يتقمص بعضها قناع بعض و يتلبس لحمته و سداه . و بهذه الطريقة الساخرة في اشتقاق شيء من رحم شيء و تحويل الواحد إلى الآخر و العكس يفضح الضغوط المسلطة و يحدث سلطة جديدة هي سلطة الكتابة .





المصادر و المراجع :

1 – ألقيت هذه المداخلة في إطار الندوة التي نظمها فرع إتحاد الكتاب التونسيين بقفصة أيام 26 و 27 و 28 ديسمبر 1997 حول القصة القصيرة في تونس
2 – نستعمل " أصداء الدلالة " أو " أصداء دلالية " effet de sens " لقناعتنا بعدم وجود دلالة بالمفهوم التقليدي للكلمة . و أن ما ينتهي لنا منها أو نستقرئه من الخطاب إنما لا يعدو أنه أصداء لها و آثار منها .
3 – من ذلك قول الراوي في " القيامة ... الآن " ( اللاذقية دار الحوار 1994 ص 13 ) هي " أي الصخرة " اليوم ثابتة هناك بشهادة سائح بلجيكي جلس فوقها و أخذت له صديقته ثلاث صور فوق الصخرة عرضتها المجلات المهتمة بالدعاية للسياحة في العالم / و كما ثبت سيزيف الصخرة ، حفر قبائل " يأجوج " و " مأجوج " حفرة في السد و خرجو إلى الأرض الحرام .
4 – من ذلك قوله : " أثبت التاريخ أن صور الصين قائم قبل وصول ذو القرنين إلى أطراف الدنيا القديمة . و أنا أرجح أن عدة كيلومترات قد تهدمت منه " ( القيامة ... الآن ) ص 74 .
5 – من ذلك تعقيبا على حديث ذكره بنصه : " و لم أفهم قصد كاتب هذه الإضافة / فقد أردت إيصالها للقارئ الكريم عله يفهم ما فاتني فهمه . ( القيامة ... الآن ) ص 74.
6 – ( رجل محترم جدا ) تونس / دار سحر للنشر ص 47 . و بالرغم من أن هذا السند جاء للسخرية بأدعياء الثقافة فهو يبرز ما تتميز به طريقته من عبث متعمد بهذا الإجراء المتخذ قاعدة في رواية الأخبار في التراث .
7 – ( القيامة ... الآن ) ص 13 .
8 – نفسه ص 14 " في الغد ، جاءت يأجوج و مأجوج و جدوا ضوءا ينبعث من وراء السد و رأوا الثغرة ، و سعوها كما وسع جنود داود ثغرة " الدفرسوار " " و خرجوا فملأوا الدنيا "
9 – نفسه ص 11
10 – نفسه ص 14
11 – نفسه ص 17
12 – نفسه ص 18
13 – نفسه ص 31
14 – و يتجلى ذلك في استدعاء شخصيات شهريار و شهرزاد و الشهيري و سالم العطيوي و غيرها .
15 – ( الخبز المر ) قصص قصيرة / دار صامد صفاقس / تونس 1990 ص 43 .
16 – نفسه ص 52.
17 - * analyse textuelle d'un texte d'E. Poé.in
Sémiotique narrative . Coll Larousse 1973 p : 48
18 – من المواطن المجسدة لهذه الظاهرة إضافة إلى الخلط المتعمد بين الماضي و الحاضر المقطع التالي من " رجل محترم جدا " ص 23 :
" و يمشي السعاة أمامي و خلفي / يحملون لي القهوة و الشاي / و يوشوشون في أذني كلاما كثيرا / سي علي يحكي عن الإضرابات / و سي عمار يدين تدخل أمريكا في بنما / و سي عبدالوهاب هرب من العمل قبل الدوام / و فاطمة تغازل رئيس القسم الفلاني / و خديجة تقول إن ثمن كيلو اللحم ارتفع كثيرا / و ... أهلكتني السياسة يا صالحة / طلبت من البنت أن تنادي صالحة ...
19 – T.Todorov " Introduction à la littérature fantastique.
Ed. du seuil 1970.
20 – يستعمل موليني في كتابه : La stylistique PUF 1993
خاصة ص 45-47 كلمة " سجل " régime " لتجاوز ما يثيره مفهوم " الأدب " من اشكال في مستوى تحديده و محاصرة الخصائص التي يقوم عليها مقدرا أن الكلمة المعنية تشي بحضور أظهر لنوعية الخطاب في نص معين .
21 – القيامة ... الآن ص 13
22 – رجل محترم جدا ص 46
23 – القيامة ... الآن ص 55
24 – Baudrillard : L'échange symbolique et la mort
Gallimard 1976 en particulier P143 et suivantes.
25 – القيامة الآن ص 31
26 – نفسه ص 47
27 – نفسه ص 48
28 – نفسه ص 64
29 – نفسه ص 80/85
30 – نفسه ص 69
31 – نفسه ص 60/63
32 – نفسه ص 43/47
33 – من أهم الدراسات التي تعرضت إلى تحليل " مفاهيم " الاستعراض بالمثال " " Paraboleو " التهوين الساخر " " Grotesque " و " الشبه الرمزي " "Allégorie"بالتحليل دراسة سارازاك الموسومة ب :
J.P.Sarrazac: L'avenir du drame.Editionde l'airelaysanne/98P155-163
34 – القيامة ... الآن
35 – قد تكون من خير النماذج المجسدة لهذه الطريقة في التأليف ، مسرحية بريشت الحاملة عنوان: L'ascension du roi in " " إذ يجري الكاتب حدث ارتقاء هتلر إلى أعلى منصب في السلطة في بيئة أمريكية مباعدة تماما للأوضاع السياسية القائمة في ألمانيا ، بيئة يهيمن عليها المحتكرون و عصابات المافيا . و استقراء الحدث المذكور من خلال الوقائع الجارية في هذه البيئة يحتاج ، كما أشرنا ، إلى دقة نظر و نفاذ رؤية .
36 – و هو تصرف يقتضيه السياق لكتاب ديكو المعروف : " dire ne pas dire "
37 – رجل محترم جدا ص 64/65
38 – الخبز المر ص 37
39 – القيامة ... الآن ص 52
40 – نفسه ص 16
41 – يمكن أن نضيف إليها قصة : " الحدأة و الصياد "
42 – القيامة ... الآن ص 96
43 – يستلهم الدرغوثي هذه الطريقة من بريشت الذي وظف طريقة التركيب المستعملة في الأفلام ، في مسرحياته و هو ما يعرف عنده ب : montage و ما فصل مبادئه في بعض مواطن كتاباته النظرية المتعددة منها ص 125 و ما بعدها من كتابه :
Ecrits sur le théâtre français de J. Tailleur . Paris .L'arche 1964
44 – القيامة ... الآن ص 22
45 –نفسه ص 23
46 – نفسه ص 40
47 – نفسه ص 64
48 – نفسه ص 68
49 – نفسه ص 54
50 – نفسه ص 48
51 – نفسه ص 62
52 – و لا تشذ عن ذلك الدواب بمختلف فصائلها بل و حتى الذباب : قال أحد المفسرين : يحشر الخلق و الوحوش كلها و سائر الدواب / حتى الذباب للقصاص / القيامة ... الآن ص 71
53 – القيامة ... تالآن ص 71
54 – القيامة ... الآن ص 74 و ذلك ضمن النص التالي : " فناج سالم / و مخدوش / ومكدوش على وجهه في جهنم / ملاحظة : ( و جدت في مخطوط مكتوب برسم فارسي حديث أن سرعة المار فوق السراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ من الصواريخ العابرة للقارات . و قد أكد الشيخ الشعراوي هذا الخبر ووقع تحته " .
55 – رجل محترم جدا ص 47
56 – نفسه ص 49
57 – يلتقيه الراوي في العالم الآخر و يقول إن أحدهما سكن الآخر مما يدل على انتظام علاقة تواصل و اتصال حميمة بينهما ( القيامة ... الآن ص 52 )
58 – من ذلك ما يعمد إليه من فصل بين الوحدات الدالة المكونة للأبيات التالية : ما شئت / لا ما شاءت الأقدار / فاحكم / فأنت الواحد القهار / و كأنما أنت النبي محمد / و كأنما أنصارك الأنصار " القيامة ... الآن ص 57 "
أو : " ألا فاسقني خمرا / و لا تقل لي هي الخمر / و لا تسقني سرا / إذا أمكن الجهر / فعيش الفتى / في سكرة / بعد سكرة / فإن طال هذا عنده / قصر العمر " نفسه ص 70 .
59 – تستحضر من الوسائل المعتمدة عنده و الدالة على ما أشرنا إليه رسمه بالعلامات المكتوبة صورة طائر حمام ( رجل محترم جدا ص 53 )
60 – القيامة ... الآن ص 40/41
61 – نكتفي بالإحالة على موطن واحد مما كتب في هذا الصدد و يخص بارت في كتابه " حفيف اللغة ".
Ed.Seuil 1984 , P179 le bruissement de la langue
62 – من أظهرها الأدوات المستعملة للتعذيب ( السياط ، و قضبان الحديد ) و الأفعال التي يأتيها الجلاوزة : ( الدوران بالضحية و ملئ الوجه بالبصاق ووضع الأصابع في العينين و الضرب المبرح ) .

ناهد يوسف حسن
04/06/2008, 10:25 PM
الكاتب الأديب ابراهيم درغوثي
أجدت الشرح والقراءة المستفيضة في القصة القصيرة
مع ضرب الأمثلة
مجهود واضح تشكر عليه
بارك الله بك

ناهد يوسف حسن
04/06/2008, 10:25 PM
الكاتب الأديب ابراهيم درغوثي
أجدت الشرح والقراءة المستفيضة في القصة القصيرة
مع ضرب الأمثلة
مجهود واضح تشكر عليه
بارك الله بك

ابراهيم درغوثي
27/06/2008, 06:56 PM
أختنا ناهد

سعدت بمرورك و قراءتك للدراسة
لك ودي و تقديري

الدكتور أسعد الدندشلي
27/06/2008, 08:39 PM
حضرة الأستاذ الأديب ابراهيم درغوثي المحترم
تحية الإحترام والتقدير على هذا البحث المنهجي القيم، وشكرا على هذا المجهود الرائع
مع وافر محبتي واحترامي وتقديري

ابراهيم درغوثي
29/06/2008, 01:01 AM
د. أسعد

أسعدتني بهذا التعليق
دم في ألق الابداع

ابراهيم درغوثي
29/06/2008, 01:01 AM
د. أسعد

أسعدتني بهذا التعليق
دم في ألق الابداع