المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سطور من دفتر معلم عتيق



بنت الشهباء
02/10/2006, 11:34 AM
بسم الله الرحمن الرحيم





سطور من دفتر معلم عتيق

بقلم
أ . د : بكري شيخ أمين

وشاء الله أن تبعثني وزارة المعارف في منتصف العقد الخامس والعشرين من عمري أستاذاً لمادة اللغة العربية في المغرب الأقصى مع مجموعة حوالي الثلاثين معلماً ، وفي دمشق نقلتنا السفارة المغربية في سيارة خاصة إلى بيروت ، ومن بيروت ركبنا طائرة الخطوط الجوية الفرنسية إلى باريس ، وفيها نمنا ليلتنا ، وعند الصباح نقلنا إلى طيارة أخرى أخذتنا إلى مطار الرباط .
فوجئنا في مطار الرباط حين رأينا على ساريته علمين مرفرفين : علماً فرنسياً وعلماً أحمر في وسطه نجمة خماسية خضراء ، قالوا : إنه علم المغرب . وتساءلنا عن سبب رفع العلم الفرنسي على السارية ، أليس المغرب بلداً مستقلاً ؟ وإذا كان كذلك ، فلماذا يرفع العلم الفرنسي على السارية ؟
عند سلم الطائرة وقف شاب أسمر ، على كتفه نجمتان ، وكان يقول لكل واحد منا : مرحباً ، السلام عليكم ، مرحبا.. ويكررها ، ويعانق الرجال منا ، ويسلم على النساء سلاماً .
وحين وصلت حقائبنا تقدم ضابط فرنسي له على كتفه ثلاثة نجوم وأمرنا بلغة فرنسية : افتحوا حقائبكم . وتقدم الضابط الأسمر الذي رحب بنا وعانقنا وقال بلغة فرنسية صارمة : لا تفتحوا شيئاً .
سأل الضابط الفرنسي الشاب المغربي : لم لا يفتحون حقائبهم ؟ قال المغربي : أهل البلد لا يفتشون إذا دخلوا بلدهم . قال الفرنسي : ولكن هؤلاء غرباء ، هم سوريون ، وسورية بلد غريب . قال المغربي بلهجة حازمة : إنهم عرب ، وإخوة ، وجاؤوا إلى بلدهم العربي . وأسألك أنت : لماذا لا تفتش حقائب الفرنسيين الذين يدخلون المغرب ، وهل هذا بلدهم ؟ قال الفرنسي : المغرب كالجزائر قطعة من فرنسا . ولذلك فأنا لا أفتشهم . قال الشاب العربي الأسمر : ومن قال هذا الزعم ؟ والتفت إلينا وكرر قوله : لا تفتحوا شيئاً ، أهلاً بكم في بلدكم . قال الفرنسي وقد احمرت أوداجه وبدا عليه الحنق والغضب : أنا الرئيس وآمرهم أن يفتحوا حقائبهم للتفتيش . قال المغربي : أنا ابن البلد ، وآمرك ألا يفتح أحد حقيبته ، ومد يده إلى مسدسه ، ونظر إلى الفرنسي ، فقال الفرنسي حين رأى شرر عينيه : هيا اذهبوا دون تفتيش ودون أن يفتح أحد حقيبة .
كنت أرقب كل شيء وأفهم ما يقوله الرجلان بالفرنسية ، وطرت فرحاً بهذا الاستقبال وبهذه الحفاوة ، وامتلأت نفسي إعجاباً وفخراً بهذا الشاب العربي الذي كاد يشهر مسدسه حفاوة بنا ..

وحملت الحقائب إلى سيارة خاصة ، وتقدمت باسم البعثة السورية كلها من الضابط العربي لأشد على يديه وأشكره على هذا الاستقبال غير المنتظر ، وأخذت يده أصافحها وأشد عليها ، وسألته عن اسمه فقال : اسمي : أمزيان . وقلت له في نهاية كلامي بلهجتنا العامية السورية : ألله يعطيك العافية .
وحين سمع مني هذه الكلمة تغبرت سحنته ، ونظر إلي مستغرباً ، واصفر وجهه ، وبدا عليه العجب والاستغراب ، وبدأ يرجف غضباً .. ولم ينبس ببنت شفة ، وأدار وجهه ، وتركني دون أن يرد علي شكري وتحياتي ، ومشى مطرقاً وحزيناً ، بل لم يودع البعثة كلها .
تعجبت من موقف الضابط أمزيان ، وتعجبت أكثر من انقلاب سحنته ، وتغير ملامح وجهه ، ولم أعرف لماذا لم يرد علي ، ولماذا أدار ظهره ولم يودعنا ، مع أنه قبل كل واحد منا حين نزلنا الطائرة ؟
البعثة كلها تعجبت ، وكنت أسأل نفسي : ماذا أخطأت ، وماذا فعلت ، وأنا لم أقل أو لم أفعل شيئاً يسيء إليه ، وكل ما فعلته أني شكرته باسم البعثة كلها ، وأني سألت الله عند وداعه أن يمتعه بالصحة والعافية ويحفظه ويحفظ المغرب الذي جئنا لخدمته وأداء واجبنا العربي والإسلامي نحوه ؟
ومرت شهور وشهور على وجودنا بالمغرب ، لكني لم أنس الشاب المغربي أمزيان في المطار ، ولا كيفية استقباله وكيفية وداعه ، وبدأت أتعلم قليلاً قليلاً اللهجة المغربية ، وأخيراً فهمت أني حين قلت لصاحبي : ألله يعطيك العافية ، كانت تعني في لهجتهم : ألله يحرقك بالنار . فالعافية في لهجتهم هي النار . وكان علي أن أقول له : ألله يعطيك الصحـة بدلاً من العافية . وقررت أن أعود إلى مطار الرباط وأفسر لأمزيان معنى العافية في لغة بلدي .. وفعلاً ذهبت إلى المطار ، وفتشت عن أمزيان ، فلم أره ، ولم يعرف أحد عنوانه حتى أذهب إليه وأشرح له مقصودي ، وما تزال هذه الحسرة إلى اليوم في قلبي .
قررتِ الوزارة المغربية بعد الاطلاع على شـهاداتي أن أدرّسَ في جامعة القرويين بمدينة فاس.
كانت الجامعة بزخرفتها وجمالها كأنها أسطورة من الأساطير ، بل كانت مدينة فاس بأجمعها حلُماً من الأحلام ، وعَبَقاً له أول وليس له آخر
ومرت السنة الأولى وكأني في حلُم رائع ، وعشـقت فاس ، وأهلها ، وأرضها ، وسماءها ، وكلَّ حبة رمل فيها .
كنت في كل يوم أكتشف لوناً جديداً من ألوان الجمال ، وكنت أرى في كل طالب من طلاب جامعـة القرويين ميزة من الميزات ، وأخلاقاً ، وسلوكاً ، وفضلاً ، وكرماً ، يدفعني إلى عشق أكبر ، ومحبة أعمق .
كان أهل فاس جميعاً فيهم اللطفُ ، والنعومة ، واللَّثـغـة المميزة بحرف الراء ، وأسألهم عن أصلها فيقولون : إنها من بقايا لثْغـة الأندلس ؛ وأُدْعَى إلى السهرات والأعراس والأفراح ، وأسمعُ المَلْحون ، والموشحات ، فيقولون : إنها مَلحونُ الأندلس ، وموشحات الأندلس ، ونحن ورثناها بالسماع ، والرواية ، والتلقين ، كما حُفِظ القرآن الكريم بالسماع والرواية والتلقين ، وموشحاتُنا هي الأصيلة ، وموشحات الشرق هي الدخيلة .

*****


وجاء رمضان وأنا في مدينة فاس أدرس في جامعة القرويين ، وجاءني من يقول لي : إن سعادة عامل فاس ( ويعني محافظ المدينة ) يدعوك أن يكون إفطارك في اليوم الأول من هذا الشهر المبارك على مائدته . قلت له : سمعاً وطاعة . وذهبت إلى منزله عند المساء ، فاستقبلني خير استقبال ، وقد دعا رئيس الجامعة ، وعميد كلية الآداب فيها ، ولفيفاً من وجوه القوم ، وقال : إن سعادة ضيفنا جاءه رمضان وهو في المغرب ، وفي بلدنا فاس ، ومن غير المعقول والدين والشرف أن نتركه يفطر في هذا الشهر المبارك وحيداً .. وأذكر أنه هيأ لهذا الإفطار طعاماً شرقياً ليكون تكريمه كاملاً من جميع الوجوه .

وحين كنت أودع العامل الفاضل طلب مني رئيس الجامعة أن أقبل دعوته على الإفطار في اليوم التالي على مائدته ، فقبلت شاكراً ممتناً ، ولبيت الدعوة ، وعند توديعه في اليوم التالي طلب مني عميد كلية الآداب أن أقبل دعوته في اليوم التالي ، فقبلت شاكراً ممتناً ، وأقسم أن علية أهل فاس لم يتركوني في رمضان أن آكل لقمة واحدة في بيتي لا عند الإفطـار ، ولا عند السحور .

في يوم من أيام رمضان دعاني أحد وجهاء المدينة على الإفطار ذلك المساء ، فاعتذرت منه لارتباطي بدعوة ، وذكرت له اسم من كنت مدعواً عنده ، فقال : إذن في اليوم التالي ، قلت له : أقسم لك أني مدعو عند فلان ، وذكرت له اسمه ، فقال : إذن في اليوم التالي ، فقلت له : مدعو .. وأخبرته أني طوال شهر رمضان مدعو ، وفجأة سحب مسدسه وصوبه إلى وجهي وقال : والله أقتلك إن لم تلب دعوتي .. قلت له : خف الله يا هذا ! قال الرجل : لقد دخلت بيت فلان ، وبيت فلان ، وبيت فلان ، وعدد أسماء من دعوني ، وهم جميعاً من الشرفاء ، ولم تدخل بيتي ، أتريد أن يعيرني الناس في فاس أن غريباً جاء معلما ًفي القرويين ولم يدخل بيتك في رمضان ، أتريد أن يسخر الناس مني وأنا شريف من الشرفاء ؟ أنا أدافع عن شرفي . قلت له : إذن آتيك بعد المغرب بقليل ، ألبي دعوة صاحبي ، ثم ألبي دعوتك في اليوم نفسه ، وسأبقى عندك حتى السحور .. ففرح واتفقنا .

سمعت عن قصة المفتاح الأندلسيِّ المتوارث ، ورُحت أبحث عن هذا المفتاح ، وأصلِه ، وفصلِه ، وبقيت زماناً أفتش عنه دون جدوى ، وأخيراً وقعت على مفتاح أندلسي موروث ..









قصة هذا المفتاح هو مفتاح دار أندلسية ، كان يسكنها أسرة هادئة مطمئنة ، ويوم أن سلَّم عبد الله الصغير لفرديناند وإيزابيلا مفتاح الأندلس كلها ، وغادر البلادَ وهو يبكي ، وأمه تقول له :



اِبْكِ مِثْلَ النساءِ مُلْكاً مُضاعاً لم تحُافظْ عليه مثلَ الرجالِ

حمَل كثيرٌ من المهاجرين مفاتيحَ دُورهم ، وكان أحدُهم يجمع أولادَه حين يشعر بدنُوِّ أجَلِه ، فيسلمُهم مفتاحَ الدار التي غادروها في الأندلس ، ويستحلفهم بالله أن يعملوا بجد وإخلاص على استعادة الدار ، ويسلِّمُ الأولادُ للأحفاد هذا الميراث ، جيلاً بعد جيل ، وما يزال هذا المفتاح على حاله . ونسيَ الكثيرون هذا المفتاح ، ورمزَه ، والأندلسَ وأرضَ الآباء والأجداد ، حتى إني بقيتُ أكثرَ من عام أفتش عن مفتاح أندلسي ، فلم يعرفه الكثيرون ، ولم يعرفوا القصة من أولها إلى آخرها .

أترانا سنحمل اليوم مفتاحاً من فلسطين ، أم سنحمل مفتاحاً من الديار العراقية ، أم من سواها ؟


*****

ولما كان المغرب ملاصقاً أرض الأندلس ، ولا يفصله عنها سوى مضيق جبل طارق .. رحت أزور الأندلس كلما سنحت لي فرصة ، وكلما مُنِحْنا إجازة فصلية أو صيفية ، وقيض الله لي أن أزور الأندلس عشر مرات أو يزيد ، واحتفظت لنفسي بكثير من ذكرياتها ، وها أنا ذا أعرض بعضاً منها .
وتظل ذكريات الأندلس حلماً يداعب عيون العرب المحبين ، ويظل الشوق إلى تنفس عَبَق تلك الديار ما دام في القلب دم يجري ، ونَفَسٌ يتردد . وإذا ما خُيِّر المرءُ زيارةً حبيبة اختار الديار الأندلسية برهة يعيش فيها أريج الماضي وعَبَق الذكريات .
ولست مستغرباً من شبابنا الذين يدرسون الأدبَ العربي كيف يتفاعلون مع الأدب الأندلسي ، وكيف يعشقون دروسَ التاريخ الأندلسي ، وكيف يُصيخون إلى كل صغيرة وكبيرة من هذا التاريخ وهذا الأدب ، وكأنهم في حلُم سحري وعالَم من الأساطير .
كنت في مدينة غرناطة يوماً أتسكع من مكان إلى مكان ، وأقف أمام واجهة كل حانوت ، أتفرج على المعروضات ، وأتملى بأشغال أهل تلك البلاد ، وأربط بين معروضات بلادي ومعروضات هذه البلاد الإسبانية ، وأقارن بين ما هو موجود عندنا وما هو معروض في تلك الحوانيت ، فأرى تقارباً وتشابها في بعضها ، وغرابة وبعداً في بعضها الآخر .
ولفت نظري في أحد المحلات وجه امرأة صاحبة الحانوت ، كانت أجمل من الجميلات ، وأحلى من الحلوات ، بل كانت فتنة من الفتن تجذب مثلي إلى الدخول في حانوتها ، وشراء أي شيء معروض دون مفاصلة أو جدال .
وكان يزيدها حسنَا وجمالاً صباها وشبابُها وبسمتُها الآسرة والسالبة لكل لب .
دخلت ووقفت أتطلع إلى المعروضات في الظاهر ، لكن عيني كانت تذهب إلى البنت ، وتقدمت فسألتني بلغة إسبانية عما أرغب ، قلت لها بلغة فرنسية : أنا لا أعرف اللغة الإسبانية ، قالت لي : هل تريد أن نتحدث بالفرنسية ، أو بأي لغة ؟ قلت : بالفرنسية . فهزت رأسها ورحبت بي بلغة فرنسية آسرة .
قلت لها ممازحاً : يا سيدتي ! أؤمن أن الله عادل ، قالت : ماذا تعنى بكلامك ؟ قلت : لقد وهب الله كل بلد جمالاً وحسناً ، وعهدي بالجمال موزعاً بالتساوي بين البشر ، فلماذا اختص بلادك عامة وغرناطة بشكل خاص بالنصيب الأكبر من الجمال؟ قالت : أتغازلني أم تتكلم الحقيقة ؟ أجبتها ـ وأنا أتصنع العلمية والموضوعية ـ : بل أتكلم الحقيقة والصدق . قالت : فلتعلم يا سيدي ـ إذا كنت تقصدني ـ أني من أصل نبيل وشريف وجميل . قلت : وما أصل هذا الجمال ، ومن أين منبعه ؟ قالت بلكنة فرنسية لا أحلى منها وأمتع : أنا من أرومة كلها حسن وجمال ، أنا من أصل عربي ، أنا من الذين وفدوا مع الطليعة العربية الأولى ، مع عبد الملك بن قَطَن ... هل سمعت بعبد الملك بن قَطَن ؟ أجبت ـ وأنا أتصنع السخرية ـ : ومن هم العرب ؟ ومن هو عبد الملك بن قطن ؟
عند هذه الكلمة انقلبت سحنة الحسناء الفاتنة إلى وجه لبوة تريد أن تنقض وتنشب أنيابها .. وشعرت أن الجو تكهرب ، وأردفت تقول : إذا كنت تريد التحرش ، فلست أنا التي تبتغيها ، والدنيا مليئة بالغانيات والساحرات والرخيصات ، وإذا كنت تقصد معرفة سبب جمال هذا البلد ، ورغبة معظم سياح العالم بالمجيء إليه ، فاعلم أنهم يريدون أن يروا بلاد الأندلس بالدرجة الأولى ، لا المدن الإسبانية ، لأن بلادهم قد تكون أجمل من بعض المدن الإسبانية ، ولكن العظمة والفخامة والروعة والجمال والفن والحلاوة كلها مركزة في الأندلس ، وفي الآثار العربية ، والحضارة العربية ..
أتعرف أيها السيد أن عدد الذين يزورون الأندلس سنوياً يصل إلى ستين مليون سائح ، وأن رغبتهم تنحصر في الوقوف على حضارة أبناء عبد الملك بن قطن وذويه الباذخة التي أدهشت العالم ؟
هل تعرف أن معظم ميزانية إسبانيا تأتي من الناس الذين يزورون بلدنا للتمتع بالآثار التي خلفها العرب ؟
أيها السيد !
إن كنت قدمت إلى بلدنا لترى النساء الجميلات ففي بلاد الله خير من كثير من نساء بلدنا ، وفي كثير من أزقة العالم وشوارعه ما تريد وتسعى ، ولكن ليس في العالم كله ما في بلدنا من روائع فن وخوارق جمال .
قلت : لا تستعجلي يا سيدتي ، ولا تفهميني خطأً ، فما أنا طالب نساء ، ولا اللاهث خلف تـنانير النساء ، ولكني امرؤ رأيت جمالاً وحسناً فلم أملك نفسي دون أن أعبر عن هذا الإعجاب .. ومددت يدي إلى جيبي وأخرجت جواز سفري وقلت لها : أنا عربي من بلاد الشام ، ومن بلد جدك عبد الملك بن قَطَن ، فأصلك أصلي ، ودمك دمي ، وما يدريني أن أكون أنا بعض أهلك ، أو فرعاً من فروع جذورك ، وما كلماتي السابقات إلا استثارة واستفزاز حبيب ؟ ...
وهنا كانت المفاجأة الكبرى .
نظرت الفتاة في الجواز ، وابتسمت ، وقالت : سامحك الله ، وسامحني ، وأضافت قائلة : هل عندك شيء من وقت ؟ قلت لها : كل الوقت في سبيلك ـ يا أختاه ! ـ يهون ويرخص . وحينئذٍ فتحت الحاجز الذي يسمح للداخل أن يكون في قلب المتجر وبجانبها ، وطلبت مني الدخول . وقدمت لي كرسياً لأجلس عليه . واستدارت إلى الهاتف ، وأدارت القرص ، وتكلمت بسرعة بالإسبانية ، وقالت : استدعيت زوجي . ثم فتحت كوة في المتجر ونادت أمها .
وما هي إلا دقائق حتى حضر على دراجة نارية شاب وسيم ، ودخلت أمها من باب من قلب المتجر ، وجلسنا جميعاً ًمتحلقين .
كانت الأم والزوج يتكلمان بالإسبانية ، وكانت تتحدث بالفرنسية بطلاقة ، وتترجم لي ترحيبهم وسلاماتهم ، وتترجم كلامي بالرد عليهم . وجاءت الأم بدلة من القهوة التي نشربها نحن ، وبدأت الحسناء تسألني عن العرب ، وعن دمشق ، وسألتني ـ من جملة ما سألتني ـ عن سوق ساروجة بشكل خاص .. وقالت : حدثني عن الشام ، عن الزهور ، عن الرياحين ، عن الياسمين ، عن ألف ليلة وليلة .. ثم قالت : أتعرف يا صديقي أنهم يقولون عني جميلة ، فابتسمت أنا وقلت لها : صادقون هم . قالت : لقد عرض علي أن أذهب إلى ألمانيا ، وأمثل فيلماً من الأفلام ، فاعتذرت ، ولكن أملي أن أزور بلاد الشام ، وأعيش حيناً من الزمن في جو ألف ليلة وليلة .. آه ! كم أتمنى أن أزور بغداد والشام . بالله عليك .. حدثني .. عن آبائي .. وأجدادي ، والغوطة وبلاد الحب والجمال . .
يا هذا الذي جاء من المجهول واخترق تاريخي بغير ميعاد ! كم أتمنى أن أزور الشرق الذي أحلم به ، وأدفن تحت ترابه !
كانت عاطفتها أكبر مما كنت أتصور ، كان من واجبي ألا أخيب ظنونها ، ولا أسرق منها أحلامها ، ولا أفجعها بشيء . وبدأت أكذب عليها ، وأحكي لها عما أعرفه من أساطير ألف ليلة وليلة ، وعن الشرق الحالم ، وكان عقلي يقول لي : حرام عليك كل هذا الكذب والغش ، أليس من حق الفتاة أن تعرف الصعوبات التي يعيشها الناس في بلادك . بل ألست أنت تركت وطنك وجئت إلى المغرب الأقصى من أجل لقمة عيشك ، وكم من عشرات الآلاف أمثالك الذين ينتشرون تحت كل نجم باحثين عن الأمن والأمان ولقمة العيش والسلام ؟ ودعوت الله في قلبي ألا يمكن فتاتي من أن تزور الشرق ، حتى لا ترى ما يعانيه الناس في هذا الشرق الحزين .
وحين الوداع قدمت لي الفتاة قطعة من شال حريري ، وعدداً من نحاسيات تمثل غرناطة ، وقالت : لتكن هذه ذكرى ساعة من حلم جميل
في إحدى زياراتي لغرناطة كنت مع مجموعة فرنسية نطوف بقصر الحمراء وراء الدليل الإسباني الذي كان يشرح للمجموعة باللغة الفرنسية معالم القصر ، وكلما جاء إلى رائعة من روائعه ردها إلى ألبرتو أو روبرتو من حكام إسبانيا ، وبين الحين والحين يقول : هذه من بقايا المورو ، ويقصد بها المغاربة أو العرب ، ويختصر الشرح ، ويطمس الحقائق ، ويدلس الحقائق على السائحين .
وحين دخلنا قاعةَ العرش الجميلة ، وكانت مُؤَطَّرَةً بشعر عربي جميل محفور على الرخام ، وفيها زينات تأخذ بالألباب ، لم يزد الدليل حين سئل عن هذه الكتابة على أن قال : كتابة مورو .
واشتد بي الحنق ، وثارت بي الكرامة ، فقلت للدليل : أتسمح لي أن أقرأَ هذه الكتابة ، فأنا أعرفها ، وهل تسمح لي أن أترجمها للسادة الحاضرين ؟ فقال : لا مانع ، فتفضل .
ورحت أقرأ الأشعار ، وأسبِكُها بكل ما أوتيت من براعة وجمال ترجمة إلى الفرنسية . وضج الجميع بالإعجاب حتى الدليلُ الإسباني .
قلت له : أتسمح لي أن أنقل الجماعة إلى غرفة الأسرار العربية ، فهي تستحق الزيارة ؟ فقال بوجه باش : اعتبر نفسَك أنت الدليل ، وافعل ما تشاء ، فأنا مسرور منك ومن حديثك .
أخذت المجموعة إلى غرفة الأسرار ، وشرحت لهم كيف كان الملك العربي يجلس في زاوية ، ووزراؤُه يجلسون في الزاوية المقابلة ، ويجلس الملكُ الضيف في الزاوية الأخرى ، ويجلس وزراؤُه ومستشاروه في الزاوية المقابلة له ، وتبدأ المحادثات ، حتى إذا احتاج أحدُ المليكين إلى الوزراء أو المستشارين همس في الجدار الذي وراءه بما يريد ، فيُصيخ وزراؤه ، ويتكلمُ همساً ، فيسمعون بوضوح كلَّ ما يقول ، ويجيبونه بنفس الطريقة من الجدار ، والملك الآخر لا يسمع شيئاً ، وكذلك يفعل هو مع وزرائه حين يريد .
واغتنمت المناسبة لأتحدث عن الحضارة العربية في الأندلس ، والروائع التي خلفوها ، وأفضت في الحديث . وأخذت الجميع إلى حمَّام القصر ، وحدثتُهم عن البَرَّاني والوَسْطاني والجُواني ، وبركةِ الماء الساخن ، وحنفياتِ الماء الساخن والبارد ، وعن الحنفية الثالثة المخصصةِ للعطر ، تستحم به الأميرةُ بعد انتهائها من حمامها العادي .
الطريف في ختام هذه الزيارة أن معظم الموجودين أرادوا أن يدفعوا لي إكرامية كما يفعلون مع الأدلة ، فاعتذرت منهم وقلت : ما أنا إلا سائح مثلُكم ، ولكني من نسل هؤلاء الذين شيَّدوا هذا القصر ، وعمَـروا الأندلس ، وأفاضوا النور في كل العالم يوم كانوا يحكمون العالم ، أنا عربي صميم .

*****

طليطلة قريةٌ صغيرة تقع جنوب مدريد بثمانين كيلو متراً ، وتمتاز طليطلة بكاتدرائيتها العجيبة . وهي كنيسةٌ كبيرة ، فيها آلاف التماثيل المرمرية المنحوتة التي تصور الملائكة ـ في زعمهم ـ والقديسين . وهي مبثوثة على جدرانها من الخارج والداخل ، كما تمتاز بتاج ملكة بريطانيا الذي أهدته إلى هذه الكاتدرائية ، وهو متربع في إحدى زواياهـا ، وفي الزاوية المقابلة وضعت مجموعة الذهب الذي جلبه كريستوف كولومبوس من أمريكا بوم أكتشفها .
وأزهى من كل هذا تلك القاعة البلورية التي عُلِّقت في خزائنها الشفافة ملابسُ الملوك العرب المسلمين الذين حكموا الأندلس .
فهذه ثياب عبد الرحمن الناصر ، وهذه ثياب المنصورِ بنِ أبي عامر ، وهذه ثياب الحَكَمِ بنِ هشام ، وهذه ثيابُ عبدِ الله الصغير آخرِ ملوك الأندلس ، مطرزةً جميعُها بالذهب ، وبعبارة " لا غالب إلا الله " على أردانِها وحواشيها . وحين تتأمل هذه الملابس ، وتقرأ تلك الأسماء اللامعة لا تملك إلا أن تذرف دمعة ، وهيهات أن تحبسها .


****


الأسكوريال قصر يقع جنوب مدريد ، ويبعُدُ عنها نحو ثمانين كيلو متراً . أصله قصر ملكيٌّ أندلسي ، له أربعةُ أدوار ، وفي كل طابقٍ حوالي خمسين غرفة ، وكلها مفتوحة إلى بعضها ، حتى لَيَمْكِنُ للزائر أن يدخل من الأولى ويخرج من الأخيرة . ويمر خلال هذه الغرف على أجنحة الملوك السابقين ، وأجنحةِ الملِكات ، وولاةِ العهد مع توالي الأزمان ، ومن جملتها غرفةُ الملك العربي ، وأجنحةُ نسائه وخدمه وحشَمه ومحظياته .
أما في الطابق السفلي ، وهو القبو ، ففيه مقابر الملوك والملكات الإسبان ، كل واحد له قبرٌ خاص ، وهو حين يموت توضع جثته في مكان معين ، وتظل على حالها حتى يصيبَها البِلى ، وحينئذ تُنقَل العظام إلى ناووس مرمري خاص ، مُسجل على طرفه اسم الملك وتاريخ مولده ووفاته ، وكذلك الملكات ، حتى الملك الحالي خوان كارلوس فإن له ناووساً خاصاً ، سوف توضع عظامه فيه بعد أن يموت ويبلى .
في الأسكوريال مكتبة عربية ضخمة وفخمة ، تحوي مجلدات مخطوطة ، ولها فهرسٌ بمجلدين ضخمين ، ومن عجب أن كثيراً من هذه المخطوطات لم نسمع بها ، ولم نعرفها ، ولم تُحقق ، أو تُنشر ، وقليل من هذه المخطوطات من تأليف المشارقة ، ولا سيما الأعلام ، في جميع العلوم والفنون .
أروع ما في الأسكوريال تلك اللوحة المرسومة في سقف الصالة الكبرى ، وهي بيضاوية الشكل ، وتمثل عبد الله الصغير ، آخرَ ملك عربي من بني الأحمر حَكَمَ الأندلس ، ووراءه جيشٌ كلُّه معمَّم أو على رأسه عقال ، وعبد الله مترجلٌ من على فرسه ، وفرسُه الأحمرُ مطرقُ الرأس ، كذلك الجيشُ العربي .. وفي يد عبد الله مفتاح كبير ، هو رمز الأندلس ، يقدمه إلى فرديناند ، الراكبِ على فرس ، وزوجته إيزابيللا على فرس آخر , وفرساهما شامخا رأسيْهما ، ويمد فرديناند يده ليتسلم المفتاح .
وفي طرف اللوحة صورة لإسباني يرفع رجله فوق رأس جندي عربي ، ويركله برجله ، فيسقط العربي على ظهره ، وينزلق رأسه إلى جهنم المرسومة خلفه ، وعيناه جاحظتان ، ويداه مرفوعتان إلى أعلى من شدة الرعب .
وتحدق في الصورة أكثر وأكثر ، وتعيش معها فترة ، فتنسى نفسك أنك أمام صورة ، وترى أنك تراجعت إلى وراء ، خشية أن يقع الفارس عليك . وحين تعود إلى نفسك تجد دموعك غسلت وجهك ، وتقول في نفسك : ترى أهذه آخر لوحة ترسم في تاريخنا ، أم أن لوحات كثيرة سوف ترسم وترسم ؟

حلب المحروسة
الفاتح من المحرم 1427هـ
الثاني من شباط 2006 م بكري شيخ أمين

monashazly
16/12/2007, 08:05 PM
أنت رائعة فيما تخطينه في صفحات واتا الادبية

بنت الشهباء
16/12/2007, 09:44 PM
أنت رائعة فيما تخطينه في صفحات واتا الادبية

بداية أشكرك يا أختي على مرورك الكريم على هذه الصفحة التي طالما أنا أعتز وأفتخر بها
لأنني كلما قرأتها أحس بالانتماء الحقيقي للأمة العربية جمعاء
فلا فرق بين مصري , ولا سوري ولا مغربي ولا أردني ...
وقد جلست طويلا مع عمي العزيز بالرضاعة " ابن عمة والدي " الدكتور بكري شيخ آمين وهو يحدثني عن أجمل ذكرياته في المغرب العربي الأصيل ......
وكيف أنه كان في جامعة القروين أستاذا ما بين عام 1956 – 1959
وذلك حينما عاد الملك محمد الخامس من منفاه بسبب رفضه التمييز بين العرب والبربر , وكيف استقبله الناس في المطار , وقد كانت أرضه مبللة كلها بدموع أهل المغرب العربي ..
وذكر لي أيضا أن خلال السنوات الثلاث التي نفي بها الملك , وأبعدوه عن الوطن لم يتزوج أحد من أهل المغرب , ولم يحلق لحيته , وتوقف القتال ما بين البربر والعرب ...
حتى إن له ذكريات مع الملك محمد الخامس الذي كان يطعمه بيديه , ويجلسه بقربه ساعات طويلة
وذكر لي حادثة أغادير عام 1959 وكيف أذاع الخبر الملك الخامس الأول وهو يبكي
والشعب كله حينها كان يبكي ....

وفي حينها كانت الوحدة مع مصر وسوريا , وقد قررت الجمهورية المتحدة إرسال معونات إلى شعب أغادير ....
قصص وقصص رواها لي بعين حبه , وحس انتماءه العربي , وشغف قلبه وكأنه اليوم يعيش معها ........

لطفي منصور
17/12/2007, 08:21 PM
أختي بنت الشهباء ...
يا لك من مباركة فيما تكتبين ..
ويا لسعادتي بما قرأت ....
الصدق يتقافز من جنباته .. والروعة تحضن كلماته ..
والجمال يعانق صوره وأفكاره ...
أسعدتني بما نقلت عن عمك وأشجيتني في آن ..
اين ولت مفاتيحنا وإلى من آلت ؟؟!!!
لله درك على هذا الاختيار ما أحكمه وما أجمله ...
عشت معه ساعة من الذكرى لمجد قد غبر نرجو له ألق عودة ..
لا أريد أن أطيل .. وليس لي إلا أن أقول لك :
أحييك وأحترم قلمك وأهديك سلامي ....

لطفي منصور

بنت الشهباء
18/12/2007, 12:15 AM
أختي بنت الشهباء ...
يا لك من مباركة فيما تكتبين ..
ويا لسعادتي بما قرأت ....
الصدق يتقافز من جنباته .. والروعة تحضن كلماته ..
والجمال يعانق صوره وأفكاره ...
أسعدتني بما نقلت عن عمك وأشجيتني في آن ..
اين ولت مفاتيحنا وإلى من آلت ؟؟!!!
لله درك على هذا الاختيار ما أحكمه وما أجمله ...
عشت معه ساعة من الذكرى لمجد قد غبر نرجو له ألق عودة ..
لا أريد أن أطيل .. وليس لي إلا أن أقول لك :
أحييك وأحترم قلمك وأهديك سلامي ....

لطفي منصور

أستاذنا الفاضل , والشاعر المميز المتألق
لطفي منصور
الصدق والروعة والجمال هي معاني سامية , ورباط قويّ نحس به أينما كنا بأننا أبناء وطن واحد ... همومنا وآلامنا , وأحلامنا وآمالنا مشتركة
وهذا ما يميزنا عن باقي الشعوب الأخرى ...
فالانتماء والحس الوطني هو الذي يربط الشعوب بعضها ببعض ...
ولكن الاستعمار بكل أشكاله القديمة والحديثة أراد أن يفصل بيننا , ويقيم الحواجز المصطنعة بهدف التفرقة والتجزئة , وضياع وجودنا ...
لكنه بالرغم من حملاته الشرسة الماكرة الخبيثة بفصل الحدود لم يستطع أن يفرق بين أرواحنا وأفكارنا ... لأننا سنبقى ونبقى أمة واحدة تفخر بانتمائها العريق ....
وكلما التقينا في جلسات عائلية مع عمي الغالي أحاول أن أستزيد منه , وأنهل من علومه وهو يحدثني عن ذكرياته في المغرب العربي ,ولبنان , والمملكة العربية السعودية وووو...... وأحس بأنني والله ابنة هذا الوطن العربي الكبير , وأنا آمل أن تعود لنا وحدتنا وكرامتنا وعزتنا ....
أما عن مفاتيحنا التي ولت إلى خبر كان لم يكن سببها سوى الضعف والبذخ والترف وووو.......
فأين نحن اليوم من غرناطة !!!!؟؟؟....
وأين نحن الآن من العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان وتركستان ووو.....!!!!؟؟؟......
ضاعت البلاد , وضاعت الأمة ........

وكم أسعدني يا أستاذنا الفاضل هذا الرد الطيب المتوج بحروف من نور ازدانت بالوعي الحر والنزيه
فلك مني جزيل الشكر والتقدير
وكل عام وأنت بألف خير