المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشاعر محمد الشنتوفي يقرأ ( للأزهار رائحة الحزن )



عبده حقي
13/06/2008, 04:27 AM
البنفسج يرفض أن يذبل : قفراءة في ديوان "للأزهار رائحة الحزن"للشاعر ابراهيم قهوايجي
محمد الشنتوفي
http://www.adabfan.com/files.php?file=ghil_k.badal_126671008.jpg

الكلام عن الشعر يعني الكلام عن تجارب انسانية بنظرة عميقة , تلخص الحياة بكل حركيتها داخل الكلمات عبر نطاق اسمه الخيال .
عطفا عليه بالسبب يقول ريلك "ان الشعر ليس أحاسيس ,انه تجارب .فكتابة بيت واحد من الشعر لا تتأتى الا بعد رؤية مدن كثيرة وأناس و أشياء ".
في البدء كانت الكلمة الشاعرة تلك التي ما فتىء الشاعريحاول القبض عليها و امتلاكها بكل ما أوتي من طاقة تخييلية كي يبصر ما حوله بتلك الرغبة الجامحة لاعادة خلقه بلغة جديدة.
وهكذا فكل شاعر وهو يمارس جنونه يصبح أكثر حسا سية لكل ما يحيط به . حساسية رؤية ما وراء الأماكن و الأشياء و الكلمات و حساسية ادراك فحوى الكينونة التي تمكنه من الرؤيا و الحلم .
الشاعر هو الحالم و الطائر البشلاري المحلق فوق العش الأسطوري للكلمة ، تلك الأرض المجازية الرائعة .
ان عالم الشعر مليء بالفرح و كذلك بالحزن ، هذا الحزن الذي يستقر لدىالشاعر في قرار القلب و الذي يدفعه بشدة لتلوين منجزه باللون الرمادي الرهيب .
" صباح الخير أيها الحزن" كما قالت الكاتبة الشهيرة Françoise Segan منذ الملمح الأولي لمدخل الديوان يعلمنا أننا بصدد ولوج عوالم مليئة بالمعاناة و الألم و الحزن .
بدءا بالعنوان "للأزهار رائحة الحزن"(1) الذي جاء عنوانا اشكاليا اسميا بامتياز و خلو العنوان من الأفعال افادة بوعي و اختيار الفاعل لفعله و هو يوحي بحالة ثابتة و مستمرة حد الصفة الملصقة بالكلمة المحورية : الأزهار( Stabilité unilatérale) على حد قول René Char
ولعل اطلاعه الواسع على الأشعار الفرنسية و منجز كل شاعر على حدة و ادراكه لحمولة هذه الكلمة و دلالتها في تاريخ الشعر جعلاه عنوة يبصم بالأزهار.
ان الأزهار تأخد مكانا دالا و مهيمنا في كثير النصوص لدىشعراء كبار وعلى سبيل المثال استأنس معي بهذه الأمثلة :

Poèmes Auteurs
• L’adieu
• Colchiques
• Mai
• Automne
• Rhénane d’automne Apollinaire
• Les lilas et les roses
• La rose du premier de l’an Aragon
• L’invitation au voyage
• Chant d’automne Charles Baudelaire
• Rondel
• Sonnet Mallarmé
• Eté
Rilke

جاء العنوان "للأزهار رائحة الحزن " الذي بعد القراءة يصبح "للذكريات رائحة الحزن ".
فالزهرة ذكرى هي الأب و الابن والتلاميذ و العزلة في انتظار العودة الى "سبع عيون" والنساء المسميات "بحذافيرهن " في العمل الشاعرات منهن و غير الشاعرات اللواتي يقيدن سفره في ملكوت الابداع والمدن المعشوقة .لكن العنوان لم يستبد به أي نص داخل العمل بل تواجدت الكلمة المحورية ضمن ثلاثة قصائد هي :
- بيني و بينك زهر أيلول
- زهرة ترسم خطوات الألف ميل
- لا اسم لها تلك الوردة
كما أنها لفظا هي وفصيلاتها من الزهور وظفت 43 مرة في العمل منتشرة داخل النصوص" لتبيان مدلولات الدال حسب مقولة البنيويين أن الدال ثابت و المدلول متحرك".و ليس موضوع هذه المقاربة هنا أن نتتبع هذه المفردة لملاحظة المدلولات المختلفة لها ونبسط كل نوع منها كأداة تحميل للمعنى واشتغالها وعلاقاتها داخل النصوص بالمفردات الأخرى .
لم يشر الشاعر هنا الى لون أو شكل أو نضارة أو ذبول هذه الزهار ،كل الملامح المرتبطة بالهيئة والشكل طواها كي تتخيلها أنت كما تشاء . انه انطلاقا من الذات تنفس منها رائحته هو و خرج علينا بحكم قيمة مطلق أن للأزهار رائحة الحزن كي من خلالها نستشف أحزانه هو .
يوظف الشاعر تيمة الحزن عبر صور شعرية متعددة لكنها جنائزية ممزوجة في لونين : المكان كمنفى والموت ، صور توجد في اللفظ الشعري الذي يتحكم تماما في أشكال البناء الذي يصلح عند الشاعر لقول شعري يأخد الحزن كموضوع مهيمن ( وهنا أتسائل هل الحزن موضوع من مواضيع دراسة الشعر؟) لكن الموضوع هنا غير قابل للامتلاك الكلي و النهائي انه منهدم حد عدم الصلاحية .ان "الدراما الشعرية" هي التي تؤطر النصوص و تفرز كتابة و شاعرا وقصائد مفعمة بالأنا الذي يتجول سيدا كفاعل محفز للنص.
1- القلق
أول قصيدة جاءت لتعبر عن أول مسبب موضوعي لحالته السلبية هاته : الفقدان الذي ولد عنده ذلك الاحساس بالخصاص الوجودي الدافع الى اليأس الشاعر يريد بقوة استرداده والعثور عليه و هي الحالة التي عبر عنها بدقة Maurice Blanchot (2) ، يقول الشاعر:
ستغني للفرح البائت،
ويعود السندباد ،
فتطفوسفينه في البحر المديد
لأكتب في دفتر انكساري
أشعار ميلادي (3)
لكنه مدرك تماما أن هذه "المرحلة من الرؤية في المرآة" ،حسب مقولة فرود Freud ، صعبة واشكالية وبحرفية وذكاء وبفضل سحر الكتابة عرف كيف يداري ألما أزليا و كذلك وحشة المكان بمفهومه الضيق (مكان المعيش) و كذلك بمفهومه الواسع أي الوطن العربي الكبير : ماء الشعر و مسحة الابداع فجاء النص غنيا بالاستعارات و الصور الفاتنة:
ساهما و الحزن يلفني
عدت اليك..
أفتش في جثثي عنك ،
عن مطر ..
يغسلني من أدران مكناس (4).
2- المكان
كل شاعر يحتفظ في قلبه بموقع دافىء للمكان الذي ترعرع فيه، المكان الذي يقيه من العزلة و المنفى و الابتعاد ويشكل له ملاذا في مواجهة الذات و الآخر. لكن المكان عند الشاعر يحكي سيرة ألم رغم كونه مصدرا أساسيا للابداع والسلم النفساني والطمأنينة:
أكتبه قصيدة ..
أخاصمه لغة
لأصالح الكواكب داخلي (5)
هو يعرف أن الشعر لا ينتظر لذا عمد الى الرجوع الى المكان الطفولي كي يلاحقه و يتتبع خطاه
و الآن ،ها أنت تودع حقل السنابل ،
و تمزج اللغة بالألوان ،
وتخطو ،
و نحن ،نعيد ايقاع نبضك ،
و نعاود شريط ذكراك
لعل البرتقال يزهر في بساتين مكناس(6)
لذا تسر لنا قصائده وشاية : انه يحاول أن يمتلك المكان الذي يحيط به .
خذ من حلمي وردة
تهش بها على شوارعك
المرسومة على خارطة السواد
ليبدأ فيك تاريخ الفرح..(7)
يحب الكلمات التي تتعدى ما هو عادي و مبتذل ، الكلمات التي توحي بصور شعرية قوية للحياة بالوجه الذي يفشي حبه للجذور ،الوجه الذي يرصد المكان الذي يولد الذكرى البعيدة وينشد مقامات أورفيوس الساحرة الآسرة و قبل كل شيءوجه الوجود بمعناه الشعري .
3- الوعي بجدوى التواجد
ان ابراهيم القهوايجي عبر مساره الابداعي كشاعر و كناقد يرسم معالم نهج خاص به ،نهج متحرك وذلك بصبر وأناة لأن الشاعر كما قال Paul Valery يظل طيلة حياته يبحث عن القصيدة كالرسام الذي هو كذلك يروم رسم اللوحة التي تقول كل شيء. انه يكتب هذاالحزن ( (Spleen Baudelairienالذي يتسرب عنده عبر الأنامل يرسم به لوحات شعرية مقتبسة من الواقع أو سريالية ، لوحات ملأى بالحياة فالشاعرهو دوما بطبعه حزين وعلى حد قول الفرنسيين لغة الشعر دائما تتميز بنغمة الناي .
ان للشاعر وعي مزدوج : وعي بكونه سارق النار يؤمن بسحر الكلمة ولا يجرؤ على قس أجنحتها لذا هو قادر على أن يترجم الحزن والألم بل أكثر من ذلك أن يبدعه لأن الألم أداة لاعادة قراءة المعيش و الطفولة.
هي ذي الحياة
صرخة يتناسل
من جمالها الموت
مساحة للحب
على نعش الحزن(8)
ولكي يؤجج مصادر المعنى في ذاته نجد الشاعر في حاجة الى مزود للجمال :
فأحتاج لزهر
يبرعم في داخلي
كي يجفف غربتي (9)
أما الوعي الثاني فيشكل عنده رسالة : انه يكتب وهو يلتفت بعين ثالثة الى ما حوله من منجز شعري للآخر ،سلطة فادحة لا تخلو من التباسات خطرة : هو ناقد مدرك لأسرار و خيوط و تلاوين الشعر لذا نلمس جليا في شعره الحبكة ،حبكة من يروم ابداع عالم متخيل بالكلمات تأكيدا ،لكن هذا العالم يعكس حيزا كبيرا للماضي الذي عاشه بكل التفاصيل :
ويحكي السنونو
ذكراك القديمة في مواسم العشق ،
و على انبساطك
يضاجع البجع
فرحي المعلق في
السماء
ليستسلم للسنديانة
و حكايات البرتقال
كم يساقط ليلك
بشروخ العتمات ،
كما يسقط الحلم من ذاكرة الأشياء (10)
4- النساء
ما الاسم
اذا كان همسا
مسربلا بالبوح
و الشعر..؟ (11)
تحتل المرأة على مر الفترات التاريخية مكانة متميزة في وجدان الشعراء العرب وغيرهم إلا أن تناول المرأة في أشعارهم لم يرق إلي نفس درجة الوعي فهي ليست مجرد موضوع لتشكيل القصيدة أو لتأثيتهاعلى حد قول الشاعر نزار قباني:
اشكري الشعر كثيرا..
أنت، لولا الشعر، يا سيدتي
لم يكن اسمك مذكورا
هي كما قال أدونيس:
" المرأة هي بذرة الشعر بنظري، فصفاتها خصبة مثلها وشاملة، فالأرض أنثى والكلمة أنثى، الذاكرة أنثى، الحياة أنثى، ولا يمكن ان يحيا الشعر دون أرض وكلمة وذاكرة وحياة..
اكتب دائما عن المرأة لأحيا بخصبها، وأحيانا لأقتل وجودها في داخلي، فهي متعبة لانها نبض دائم...
الشاعر ابراهيم القهواجي تناولها في نصوصه كامرأة بصرف النظر عن أي اعتبار آخر( لم يعتبر أن المرأة هي القصيدة ولا وجود لها بدون القصيدة) كائن له مقوماته الإنسانية و خصوصيته الأنثوية ، حية متواجدة :
تغلقين، يا سيدتي الجميلة، نوافذك،
و تفتحين اسرارك لمريم و الدجى ،
والقوافل تمر بأعتابك رافلة بالدعاء .
و حين رأيتهم يزدحمون في
بيتك
ويبتسمون
أدركت أنهم يمتزجون في نارك
ويولدون من رمادك،
وأنت مدينة تريدها العواصم شرقا و غربا.(12)
وكذلك راحلة (ثنائية الموت- الغياب):
مليكة زيتها اشتعل بلا كبريت
وانطفأ
في الغبار..
فاطمة كانت تسبح ضد التيار
فوقعت وليمة لأعشاب البحر..
في القرار..(13)
النساء دها ليزو أروقة و مسافات متواترة لكنهن عطاء بلا حدود ولا شروط هكذا يقول ابراهم القهوايجي لعله قرأما قال الشاعر في الأم :
أذكرها أمي.. حين لم يعد لديها نقود
تناولت الجنة من تحت قدميها ودسّتها في جيبي...
النساء أزهار أي معاني للحب وأحواله و درجاته :
قلت :
حسبك
أن لك في كل طلعة بهية
رائحة و هوية ،
كباقة ورد
يراودني عطرها.. (14)
و الطهر العذري و العفاف :
يا مريم
أشهري وجهك فينا
لتحترق الكلمات (15)
كان بيرون يقول "لكي يصبح المرء شاعرا يجب أن يكون محبا أو شقيا وقد كنت الاثنين حين كتبت"
نساء توزعن عبر النصوص كفصوص مضيئة بوعي شعري دقيق و مقصود و حب كبير حد شساعة الوجدان و قصيدة هاربة منفلتة تربطها مع المرأة و الوجدان خيوط رفيعة من المعنى و الحياة عطفا على ما قالت الشاعرة العراقية أمنة علد العزيز:
"اجد في هذه الثلاثية كنقطة ارتكاز لالهامي فإذا ما فصلنا المرأة عن الحب لن يكون هناك شعر واذ ما فصلنا الحب عن الشعر لن تكون هناك امرأة واذا ما فصلنا الشعر عن المرأة لن يكون هناك حب فهذا الثلاثي اوجدته الطبيعة البشرية لكي تكتمل صورة الحياة."

ان الشاعر يشكل خيطا جميلا في نسيج الشعر و موروثه يخلق العالم برمزية الرؤيا وحدائقه الجميلة معطرة بذكرى النساء . شعره يدفعني أن أجمع حقائبي و أسافر معه .






هوامش:
1- ابراهيم قهوايجي ، للأزهار رهئحة الحزن ،منشورات دار الاختلاف ،مطبعة سجلماسة مكناس
2 - Quelqu’un se met à écrire, déterminé par le désespoir ne peut rien déterminer, (…) et, de même, écrire ne saurait avoir son origine que dans le vrai désespoir. Ce désespoir qui pousse dans un moment le poète à regarder son visage dans un miroir mythique, celui qui lui aide à reconstruire son état d’âme et continuer son chemin avec certitude. Le poète veut aussi se rencontrer avec lui-même. Il veut trouver son être perdu.
3- ابراهيم قهوايجي ، للأزهار رائحة الحزن ،منشورات دار الاختلاف ،مطبعة سجلماسة مكناس ص 14
4- نفسه ص 14
5- نفسه ص 20
6- نفسه ص 23
7- نفسه ص 19
8- نفسه ص 46
9- نفسه ص 57
10- نفسه ص 58
11- نفسه ص 60
12- نفسه ص 35
13- نفسه ص 64
14- نفسه ص 59-60
15- نفسه ص 62