المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شطط العلمانيين في فهم اجتهادات عمر رضي الله عنه!



طه خضر
13/06/2008, 10:18 AM
شهد "العصر العمري" الانطلاقة الحقيقية للاجتهاد الإسلامي. ففي هذا العصر أبدع عمر رضي الله عنه مفاهيم ضمنية في الاجتهاد الإسلامي، كالعمل بمقاصد الشريعة، وسد الذريعة، والقياس، التي يوضحها بجلاء كتابه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وهو ما جعل هذا العصر قبلة للمجتهدين، ومحك النظر عند بعض الدارسين المعاصرين في المقاصد بخاصة.

علم المقاصد علم أصيل، يقوم على أمرين، كما يوضح كتاب الموافقات للشاطبي: النص الشرعي، وهو ما عبر عنه الشاطبي بكليّات الشريعة على استفصال في ذلك، والمصلحة المرسلة، أو الطارئ والمستجد في حياة المسلمين، الذي عبر عنه بالجزئيات، التي تستوجب من عالم المقاصد تخريج المصلحة في المستجدات على شرط المقصد الشرعي، حتى يثبت حكماً تتحقق فيه المصلحة الشرعية المنضبطة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن خطاب الشارع، كما فُهم نصاً وثبت عملاً، أنه يسع بالضرورة كل المستجدات الحياتية، وهو ما تكرسه النصوص الإسلامية الكثيرة.

هذا الكلام، هو تماماً ما كان فهمه عمر وعمل به، مع جمع غفير من الصحابة رضوان الله عليهم، عند عملهم بمفهومي المقصد والمصلحة، وهو أن تتحقق المصلحة في المقصد الشرعي وتتساوق معه، من دون أي خدش في الاعتبار الشرعي عند دراسة هذه المصلحة والعمل بها، وهو ما يجسّده قوله في أحد خطبه، منكراً على أصحاب الأهواء الباطلة ما وهموا أنه من المصلحة: "ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فأفتوا برأيهم، فضلّوا وأضلّوا، ألا وإنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع".

على هذا الأساس، كرّس عمر رضي الله عنه عمله الاجتهادي على مسارين: مكافحة المغالين في فهم الشريعة، من خلال اتباعه استراتيجية سد الذريعة لتحقيق البعد المصلحي منها بصون الشريعة على المدى البعيد. ومن بعض أمثلة اجتهاداته في ذلك: قطعه شجرة أنواط عندما اتخذها بعض أصحابه مصلى للتبرك بها، وفعله عندما فتح "تستر"، وأمره بدفن النبي دانيال، إذ كان أهل "تستر" يستمطرون به فيمطرون، وكذلك كما فعل في عام الرمادة حين أخذ بيد العباس واستمطر به من دون ذهابه إلى القبر الشريف، قاصداً من هذا عدم تحول الناس عن مبادئ الدين وأصول العقيدة.

أما في مجال المصالح، فمن بعض صور ما اشتهر عنه، أمره في عام الرمادة بعدم قطع أيدي السراق، لاضطرارهم حفظ المهج أيام المجاعة، وجلد شارب الخمر بحد المفتري، وتحريمه زواج المتعة بعد أن كان سائغاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، لأنه رأى زوال شرطه الشرعي، وكذلك فعل في إيقافه سهم "ذوي القربى والمؤلّفة قلوبهم" بعد أن زال شرط التعويض عن ذوي القربى، وشرط التعزيز عن المؤلفة قلوبهم، ومنه جعل الطلاق بلفظة واحدة ثلاث طلقات بعد أن رأى تساهلاً من الناس في أمر الطلاق، ومنه أيضاً تأخير الحد على الجند في بلاد غير المسلمين، خشية لحاقهم بأهل تلك الديار خوفاً من الحد،...الخ.

في العصر الحديث، أخذت كتابات قرّاء النص الديني الجدد، أمثال محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، جمال البنا، سيّد القمني.. وغيرهم، تُبرز اجتهادات عمر وعمله بالمصالح والمقاصد، في سياق مختلف عن التفسيرات الاجتهادية المألوفة من فعله رضي الله عنه، فيظهرونها وكأنها كانت مخالفة للنص الشرعي، ويستعملون ذلك للتدليل على ما يقولونه من تغيّر المصالح بتغيّر الزمان، ولكنهم بذلك شطّوا واتخذوا من هذه الاجتهادات رافعة عمل فكري جديد، تحت مسمى "الثورة على النص الديني" التي تقتضي وجوب استحداث تفسيرات جديدة لهذا النص، تستوجب الإتيان باجتهادات وتشريعات جديدة، بدعوى الاتفاق وروح العصر، ضاربين بذلك على إيقاع حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والحجاب، والحريات الشخصية، وضيق الأعراف والعادات والتقاليد القائمة في الوجدان الإسلامي.

إن من الظلم في حق الخليفة الراشد عمر، أن نساوق بشكل من الأشكال بين فعله وفعل من وظّف فعله لأجل خدمة مشاريع الثورة على النص الديني، من مشاريع النقد والأسطرة، بحجة دخول معترك الحداثة والمعاصرة تبعاً لمنهجيات نقد العقل الغربي وفلسفاته المادية، التي تجعل من النصوص الدينية متوناً تصلح للمتاحف، ولكن لا تصلح للعمل العقلاني.

إن الحقيقة التي يجب أن يفهمها المتعلمنون العرب، أصحاب الدراسات الجديدة للنص الديني، أن عمر رضي الله عنه لم يكن عقلانياً ولا برهانياً ولا فيلسوفاً منخدعاً، بل هو كما عبّر بنفسه عن نفسه "لست بالخب ولا الخب يخدعني"، فقد كان ذا عقلية مسددة على منهاج النبوة، كما كان كل همّه، كما يتضح من سيرته العطرة، هو ترسيخ مبادئ العدل والمساواة والحرية، وضرب البطالة، وتكريس مفهوم الحسبة، وترسخ الشورى في المجتمع الإسلامي، كما انه كان في كل اجتهاداته مستمسكاً بهدي النبوة، وغير مخالف للفطرة الربانية.

اجتهادات عمر، التي أوردنا سابقاً بعضاً منها، واستغلّها قرّاء النص الجدد لتبرير أسطرة النص، لم تكن إلا صوراً نيرة من صور الاجتهاد الإسلامي الملتزم بمفهوم النص، ومنظومه اللغوي، ومراعاة مصالح المجتمع الإسلامي آنذاك، ولم تكن إسقاطات من الفلسفات الفارسية أو الرومانية على النصوص الإسلامية، لتسمى قراءة جديدة للنص، أو فلسفة جديدة للإسلام، باسم المقاصد والمصالح والعمل العقلاني السديد، كما هو الحال عند بعض العلمانيين العرب المعاصرين، الذين يكرّسون بذلك مفهوم العقل المجرد، الذي ينتمي إلى البحث المستقل بذاته، عن اعتبار الوحي وتسديده.

لعله من الإنصاف القول، أن الاندماج في العالم المعاصر قد يتطلب منّا غربلة التراث من جديد، فيما يعتقه من الرتابة والنوم على اجتهادات السابقين، لصالح إبراز صور جديدة للاجتهاد الإسلامي، ولكن لا ينبغي بحال أن نكون دعاة للتخلي عن أصولنا العقدية ومبادئنا الإسلامية المحمّلة بالأخلاق والقيم النبيلة، ومخالفة الفطرة الإنسانية السليمة، لاعتبارات مصلحية اجتهادية مجردة عن النظر الشرعي، والأدلة البيانية، حتى ندخل في عالم العقلانية، سيما إذا عرفنا أنه منذ أن بدأ العقل المجرد بالاشتغال في الغرب، منتصراً للمادة، ومشكّلاً منظومات فكرية بديلة مستقلة عن الوحي، ابتداءً من "بيكون" ومروراً بـ"كانط"، وليس انتهاءً بـ"نيتشة" و"ماركس" و"دريدا"، لم يتوصل أحد منهم إلى حل لمشكلة الأخلاق التي يقتضيها العقل المجرد، فهي لا تتلازم إلا مع الوحي.

محمد العواودة

عن الغد الأردنية