المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : استفهامية الأيام/ طه حسين



عبدالكريم يحيى الزيباري
14/06/2008, 02:16 PM
استفهامية الأيام/ طه حسين
عبدالكريم يحيى الزيباري
الدكتور إحسان عبَّاس، بدأ قارئاً للسيرة الذاتية، ثمَّ نقد السيرة في(فن السيرة/1956)ثم كتب السيرة الغيرية في(بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره)، وبعد تجربتين وخبرة اكتسبها، كتب سيرته الذاتية(غربة الراعي/1996)وهو يبلغ من العمر(76) عاماً.
أجرى الدكتور إحسان عباس مقارنة بين(الأيام/ طه حسين1889-1973) و(حياتي/أحمد أمين1886-1957) في(فن السيرة/1956):(ومن يقرأ سيرة أحمد أمين يجد أنَّ الكاتب يتصور نتيجة التغير، وينص عليها، دون أن يجعل من أحداث حياته ما يفسِّر هذا التغير، فهو أشبه بمن يقول لك(هكذا جرت الأقدار)..فأحمد أمين يمثل دور المستفيد الذي يسمع ويقرأ ويلتقي الناس، وتتكيف حياته من نفسها دون دوافع ذاتية قوية، أما طه فيصطدم بالناس، ويقلق وينزعج ويسوء ظنه فيهم. وهو يحس أن كل المنغصات الخارجية ترسب في ذاكرته، فتظل تبتعد به عنهم، وتحفزه للهجوم عليهم حين تحين الفرصة.....فأحمد أمين تقريري يميل إلى ذكر الحقيقة كما هي، وطه حسين يميل إلى تصويرها كما أحسها ذات يوم، إن صاحب "الأيام" يصور نموه النفسي الداخلي، وصاحب "حياتي" يصور علاقاته الخارجية بالناس والأماكن .. وبينما تستطيع أن تبني من كل "الأيام" صورة لشخصية كاتبه، تجد أنَّ أحمد أمين رسم صورته وطبيعته في بضع صفحات(أنظر حياتي 330-336)..فأسلوب طه حسين موسيقي مرنم..وأسلوب أحمد أمين بسيط هادئ إخباري) . هذا الوصف يدلُّ على أنَّ طه حسين متلبِّسٌ بطيف سمك القرش العدواني، نشر أحمد أمين سيرته(حياتي)عام 1950، وله من العمر 64 عاماً، قضى أكثر من خمسين عاماً بين الكتب قراءةً وتأليفا وترجمة، ولم يكتسب خبرةً تؤهله لكتابة سيرته بشكل فني؟ وكتب طه حسين الأيام عام 1926 وهو في سن السابعة والثلاثين، هل تعيب التقريرية النص الأدبي؟
التقريرية هي الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب، بعكس الإنشاء والطلب اللذان لا يحتملان ذلك.(نظريات أوستن عن الأفعال القولية تنبثق من التفريق بين الكلام التقريري والكلام الأدائي أو الإنشائي في(أعدكَ بالقدوم غداً)فهذه الجملة تقرر أنَّ فعلاً سيقع، ولا تتحدث عن خبر وقع...نظرية أوستن لا تختلف عن تقسيم العرب للكلام إلى إنشاء وخبر، والإنشاء عند العرب، أفعال الأمر والنداء والدعاء وكلها لا تحتمل الصدق والكذب) . وبحسب برنس تكون السير ذاتية كلها تقريرية، لأنها إخبار عمَّا مضى وأفعال وقعت، تحتمل الصدق والكذب، فمن غير المعقول أن تكون سيرة ذاتية مؤلفة من أفعال أمر أو تخيلات لأمور لم تقع، حين قرأت الأيام، قرأت أحداثاً وقعت تعطي تصويراً دقيقاً لعلاقة طه حسين بالآخرين، ويحكي أحمد أمين في حياتي، كيفية تأسيسه لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1914، إلى عام كتابة سيرته 1953، وكيف أنَّه أراد الاستقالة لكنَّ زملاءه أصروا على بقائه، وَيحاول أن يتجرَّد في سيرته، وكثيراً ما نجح، فيستسري حياته الزوجية دون أيِّ تبجيلٍ ولا تفخيم لزوجته، بل على العكس كان يصفها بغير المثقفة، ويقول أحمد أمين(ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر مَنْ رأيت مِن السيدات، فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب، وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أيَّ معاند، وتلزم أيَّ مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن، تقول: إن الأوفق أن تتصرف في هذا الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة، وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك، وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب، وتتصرف التصرفات الحكيمة فتؤولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة، وهكذا أدركت أنَّ مِن الواجب إلا التزم المنطق، وإني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضحِّ بالمنطق أحياناً، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة) . وهذا صحيح فكذب الزوج على زوجته، حسنةٌ يثاب عليها، إذا كانت تُصْلِحُ ذات البين.
(فأحمد أمين تقريري يميل إلى ذكر الحقيقة كما هي، وطه حسين يميل إلى تصويرها كما أحسها ذات يوم، فصاحب "الأيام" يصور نموه النفسي الداخلي، وصاحب "حياتي" يصور علاقاته الخارجية بالناس والأماكن..وبينما تستطيع أن تبني من كل "الأيام" صورة لشخصية كاتبه، تجد أنَّ أحمد أمين رسم صورته وطبيعته في بضع صفحات(أنظر حياتي 330-336)..فأسلوب طه حسين موسيقي مرنم..وأسلوب أحمد أمين بسيط هادئ إخباري) كيف عثر على ست صفحات تختصر الكتاب ولم يعثر في الأيام على هكذا صفحات؟ علماً لم أجد في(حياتي)هذه الصفحات..
طه يصور نموه النفسي الداخلي، أحمد يصور العلاقات الخارجية؟ كيف هذا؟ ويكاد الجزء الثالث من الأيام لا يعدو أن يكون شكراً وعرفاناً للأشخاص الذين ساعدوه فبعد شهر عسل في صيف بالجنوب لم يتهيأ للامتحان(ويقبل صاحبنا على الامتحان مشفقاً منه أعظم الإشفاق... ويقبل صاحبنا ترافقه زوجه، فإذا أخذت ورقة ودفعتها إلى الأستاذ، نظر فيها ثمَّ ابتسم، ثم قال في صوتٍ عذب: لقد أسعدك الحظ بمرافقة هذه الآنسة. حدثني إذن عن الإمبراطورية العربية أيام بني أمية، وما أرى إلا أنك تعرفها خيراً مما أعرفها....وإن قلب الفتى ليخفق فرقاً وقلقاً، وكيف لا وهو مقبلٌ على امتحان الجغرافيا بعد قليل؟ ...ويقول الأستاذ في هذه المداعبة الرفيقة التي يتكلفها الممتحنون عادةً: مسيو حسين، صف لي مجرى نهر الرون..وإذا هو يرفض الإجابة عن هذا السؤال في صوت لا تردد فيه ولا اضطراب، قال الأستاذ متلطفاً: فإنَّ من الحق عليك أن تجيب حين تسأل، قال الفتى: ولكني لن أجيب، قال الأستاذ: فقط اكتفيت. ودعا طالباً آخر...فلم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه-الأيام/ج3-ص133-134)، ماذا كُتِبَ في تِلَكَ الورقة التي جعلت الأستاذ الفرنسي يبتسم؟ ولماذا لم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه بحسب اعترافه الشخصي؟ يقول أديب الجزائر محمد الصالح الصديق (زار طه حسين تونس عام 1957 وألقى محاضرة في إحدى القاعات الكبرى بالعاصمة، وتحدث عن الثورتين التونسية والمغربية، ولم يقل كلمةً واحدةً عن الثورة الجزائرية العملاقة وهي تزحف بقوة على مقربة منه...وكاشفته في تونس وفي بيته في القاهرة عندما زرته،... وأعتقد أن التزام طه حسين الصمت عن الثورة الجزائرية كأنَّه لا يريد أن يغضب الفرنسيين لسببٍ أو لآخر) ، هل كان لطه حسين التزام أخلاقي تجاه فرنسا التي احتضنته لسنوات وتزوج منها فتاة رافقته طيلة عمره؟ كان يعيش في فرنسا، مع زوجته وابنته آمنة حياة متقشفة، استمرت حتى بعد عودته، يساعده صديق لم يذكر اسمه لتأخر الإبحار، ثمَّ محافظ الإسكندرية، ثم شقيقه، ثم محمد رمضان ثمَّ شكري باشا رئيس الديوان، ثمَّ التقى ملك مصر أحمد فؤاد مرتين، ذكر في المقابلة الأولى كيف رفض طلب الأمير أحمد فؤاد مؤسس جامعة القاهرة عام 1908، لإلقاء كلمة في مؤتمر يبحث في شؤون العميان ليظهروا أن العرب سبقوا إلى اختراع الكتابة البارزة للعميان، وثالثة يطلب الفتى الضرير مقابلة الملك أحمد فؤاد، حتى أنَّ ثلاثية الأيام لطه حسين بأشدِّ الحاجة إلى فهرست الأعلام، أصدر عباس كتابه فن السيرة عام 1956 وطه حسين في أوج القمة، والدكتور أحمد أمين يحتضر، فاز طه حسين بتعيينه وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950-1952، ثمَّ رئيساً للمجمع اللغوي عام 1956، وعضوية المجمع اللغوي العراقي والسوري ومعظم جامعات الدول الغربية كانت تحتفي به، وتمنحه الدكتوراه الفخرية...وأين التقريرية في حياتي؟ يقول أحمد أمين في بداية حياتي(ما أنا إلا نتيجة حتمية لكلِّ ما مرَّ عليَّ وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلل في تراب الأرض فتغذي النبات والأشجار، قد يتحول النبات والأشجار إلى فحم، ويتحول الفحم إلى نار، وتتحول النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الأشجار تُختزن في الظلام، فإذا سُلطت عليها النار تحولت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى) . ويقول طه حسين في بداية الأيام-ج1(لا يذكر لهذا اليوم اسماً ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، إنما يقرِّبُ ذلك تقريبا، وأكبر ظنه أنَّ هذا الوقت كان يقع في ذلك اليوم في فجره أو في عشائه)وأنا متأكد لو أنَّ هذا الكلام لم ينسب إلى طه حسين لقال عنه الناس بالإجماع: تقريري، لا يصلح للأدب، لكنَّ السيرة يكتبها الذين يظنون أنفسهم عظماء، أو يظنهم الناس كذلك، ولهذا فهم مِن القداسة، فوق النقد، وفوق الحقيقة، وحتى وإنْ اعترفوا هم بذنبٍ خطير، فإنَّ مريدوهم سرعان ما يؤولون هذا الذنب حسنةً عظيمة، فطه حسين في فرنسا نجح بفضل زوجته، لا لأنَّها كانت تقرأ له فحسب، وهو يقول(على أنّ صبيَّنا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم، لونا آخر جديداً، وهو علم السِّحْر والطلاسم، فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليطٍ من الأسفار، ....وشمس المعارف الكبرى في السحر...لقد قُرِئَ لصاحبنا من هذا كلِّه، فحفِظَ منه الشيء الكثير، ولكنه عُني بشيئين عنايةً خاصة: عُنِي بالسحر وعُني بالتصوف، ولم يكن في الجمع بين هذين اللونين من العلم شيءٌ من الغرابة ولا من العُسْر، فإِن التناقض الذي يظهر بينهما ليس إلاَّ صوريَّاً في حقيقة الأمر. أليس الصوفي يزعمُ لنفسه وللناس أنه يخترق حجب الغيب، وينبئُ بما كان وسيكون...والساحر ماذا يصنع؟ أليس يزعمُ لنفسه القدرة على الإخبار بالغيب. ..بلى! كل ما يوجد من الفرق بين الساحر والصوفيِّ هو أن هذا يتّصل بالملائكة، وذلك يتصل بالشياطين) ، لم أسمع في حياتي صوفياً اتصل بالملائكة، حتى في كتاب شطحات الصوفية للدكتور عبدالرحمن البدوي لم يذكر فيه شيءٌ من هذا القبيل، وكيف يتصل بهم؟ وكيف لا يوجد فرق بين المتصوف والساحر؟ فالساحر يرغب بالدنيا، والمتصوف يرفضها، وإذا أردنا الخوض في سطحية ما أراد منمصطلح التصوف، سنحتاج إلى الكثير، لكن طه حسين ربما قَصَدَ أدعياء التصوف، ويكمل طه حسين (وكذلك كان الأمر في نفس صاحبنا، فقد كان يتصوَّف ويتكلَّف السحر، وهو واثقٌ بأنَّه سيرضي الله، ويظفر من الحياة بأحبِّ لذَّاتها إليه-الأيام/ج1-ص100) وإذا كان الجزء الأول من الأيام سيرة ذاتية، تنتهي بـ(مضى به أخوه بعد ذلك إلى الأزهر- ص144) وهذا في الحلقة(19/ج1)ثم في الحلقة(20)والأخيرة يوجه رسالة إلى ابنته آمنة وهي في التاسعة من عمرها، عن المآسي التي عاناها والدها في طفولته، فإنَّ الجزء الثاني سيرة فكرية حيث يتكلم عن نشأته في الأزهر، والجزءان يجتمعان بعدم عنونة الأقسام فقط بالأرقام، ولكل جزء منهما(20)قسم، لكن في الجزء الثالث يبدأ بعنونة تبدأ بالفصل الأول(على باب الأزهر)وتنتهي بالفصل العشرين(إيمان بالثورة)ويقول عنها(كانت ثورة لم يعرف التاريخ لها نظيراً إلا الثورة الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر- ص165/ج3) ثم يستشهد بأبيات لدريد بن الصمة الشهيرة التي يرثي فيها أخاه عبدالله، دونما أن يذكر اسمه بل أشار إليه بذلك الشاعر الجاهلي، وهو يقصد الثورة ضد الإنكليز، التي أجبرتهم على إعادة سعد زغلول من منفاه، لكن طه حسين يرى الخلاف حول من الأحق بإجراء المفاوضات(فريق منهم مال إلى الوفد وقال مع القائلين(لا رئيس لا سعد) وفريق آخر مال إلى الوزارة وقال مع القائلين إنما المفاوضات لمن وليَ الحكم- ص168/ج3)ويقف مع السلطة التي كانت بيد عدلي باشا(ويرى صاحبنا نفسه ذات يوم في محطة القاهرة مع المستقبلين لعدلي باشا وهو يصيح مع الصائحين(ليحيى عدلي باشا- الأيام/ج3/ ص169).
ولد طه حسين في 1889 وفي عام 1902 سافر إلى القاهرة, والتحق بالأزهر, وفصل منه عام 1908، فالتحق فوراً بالجامعة المصرية التي فتحت أبوابها وحصل على ليسانس الآداب، 1914 حصل على درجة الدكتوراه عن(أبي العلاء المعري)، وفي تشرين الثاني 1914 سافر في بعثة إلى فرنسا ودرس في جامعتي مونبلييه والسوربون. وفي عام 1918 حصل على الدكتوراه من السوربون عن رسالته (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون)، عام 1915 تعرف في مونبلييه على سوزان الفرنسية، وتزوجها عام 1917، وأنجبت له (أمينة) . التي أصبحت فيما بعد زوجة للدكتور محمد حسن الزيات, سفير مصر السابق في أمريكا، ومؤنس الذي أصبح أستاذا في الجامعات الفرنسية، وهو لا يعرف العربية ولا أمه، وفي عام 1919 عاد طه حسين من باريس إلى مصر ليعمل أستاذا بكلية الآداب. وفي عام 1926 أصدر كتابه(في الشعر الجاهلي) الذي كان وراء شهرته، وأحدث معركة مستمرة إلى يومنا، والكتاب يمثل مرحلة مهمة سيرة طه حسين الذي كان آنذاك منبهراً ومُتَلَبِّساً بنظرية ديكارت(1596-1650)في الشك باعتباره أول خطوة في التأمل الفلسفي عند ديكارت، والسبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، كما يقول ديكارت(لقد كنا أطفالاً قبل أن نصبح رجالاً، وحيث أننا قد أصبنا أحياناً، وأخطأنا أحياناً أخرى في أحكامنا على الأشياء المعروضة لحواسنا، عندما كنا لم نصل بعد إلى تكوين عقولنا، فإن هناك ثمة أحكاماً كثيرة، تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة موضع الشك) . وبهذا بدأ طه حسين بالتشكيك بوجود شعر جاهلي، ثم انتهى إلى التشكيك بكل الحقائق الثابتة. وعقد البرلمان جلسات تطالب بمصادرة كتاب(في الشعر الجاهلي) وفصل طه حسين من الجامعة وتقديمه للمحاكمة, وهاجت الصحف تهاجم الكتاب، وانتهى الأمر بتقديم طه حسين إلى القضاء لمحاكمته.. وخضع طه حسين للتحقيق في نيابة مصر لمدة ستة شهور, لم يترك رئيس النيابة المحقق محمد نور صغيرة ولا كبيرة في الكتاب إلا جعلها موضع مساءلة. وبعد المحاكمة أراد نائب البرلمان فتح القضية مرة أخرى. فنهره سعد زغلول رئيس البرلمان. وقال: إن المسألة قد انتهت. وظني أن قرار النيابة الذي كتبه محمد نور رئيس نيابة مصر بعد التحقيق مع طه حسين, يعد وثيقة لا تقل في أهميتها عن الكتاب ذاته. لأنها تعكس من زاوية أخرى المناخ الثقافي الذي كان سائدا في تلك الأيام.. ففي هذه الوثيقة يتعامل محمد نور مع المتهم طه حسين بتوقير شديد ويلقبه دائما بالأستاذ ويبدأ سؤاله له بقوله:(حضرتكم قلتم كذا). ويعترف محمد نور أن طه حسين قد أخطأ لكنه يقول في قرار الاتهام: (وإن كان قد أخطأ فيما كتب, إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء, وتعمُّد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر). وهو اعتذار علي بن أبي طالب عن قاتله عبدالرحمن بن ملجم(ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل)وعندما أبلغ المبلغون ضد طه حسين شكواهم ضد عبارات من سياق الكتاب، متهمين بها طه حسين بالتعدي على الدين. رفض محمد نور هذا المنهج وقال: (فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة وإنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه) يقول (قدَّم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحاً يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة التي خرَّجتْ ملحداً هو صاحب رسالة ذكرى أبي العلاء، وكان سعد رحمه الله رئيس لجنة المقترحات، ..وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه، فلما أبى قال له سعد فإنَّ اقتراحاً آخر سيقدم وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر لأنَّ صاحب الرسالة...تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة- الأيام/ج3/ ص148). ورغم جميل سعد هذا يرفض طه حسين شكره ويقول: لقد قام سعد بواجبه فقط، ويقول طه حسين(ولكنه لم يلبث أن روّع بوفاة الأستاذ دوركيم، المشرف الفلسفي على رسالته، وكان الفتى لأستاذه محبَّاً وبه معجباً إعجاباً يوشك أن يبلغ الفتون، فأدركه للخطب فيه حزنٌ عميق-الأيام/ج3/ ص136) وهو يقصد إميل دوركايم(1858 - 1917) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، ولد في مدينة إبينال بفرنسا حيث نشأ في عائلة من الحاخامين، ولو تسنَّى لنا الإطلاع على مذكرات دوركايم أو يومياته أو رسائله الشخصية، أو ما شابه، لعثرنا ربما على معلومات أخرى قد تمنح دوركايم دوراً أكبر في نجاح طه حسين الذي فشل في امتحان اللاتينية وكان يكره التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر ولم يقرأهما ورغم ذلك يسأله الأستاذ عن الدولة الأموية، ولا يأخذ الصفر الذي كان ينتظره ويستحقه بحسب اعترافه الشخصي في مادة الجغرافية، والتي رفض فيها سؤال الأستاذ بعنجهية كانت كافية لتصفيره. ومن ميزات الأيام كسيرة ذاتية عن غيرها:
1- كتب طه حسين الأيام في عام 1926، أي وهو في سن السابعة والثلاثين، أي قبل وفاته بـ 47 سنة، وهو في سنٍّ لا يزال متأثرٌ بالحياة القاسية التي عاشها، ولم يتذوق بعد حلاوة الرخاء، ولكنه لا يزال غض العود، في ريعان شبابه، وفي قمة مجده، الذي لم يمل منه بعد، وكتاب السيرة غالباً ما يكتبون سِيَرَهم وهم في ملل من أوج القمة، أو قبل وفاتهم بقليل.
2- كتب الأيام بضمير الغائب لا المتكلّم، برغم الأنا الطاغية في كتاباته النقدية كما بينَّ ذلك الدكتور جابر عصفور في كتابه(المرايا المتجاورة):(وليس من قبيل المصادفة أن يسيطر ضمير المتكلم على الحديث النقدي عند طه حسين فيحتل مكان الصدارة..وبين تلك الـ أنت المذعنة التي تسمع يختفي الـ هو، أعني العمل الأدبي الغائب- أو الأديب- الذي يفترض أن يدور حوله الحديث النقدي كله) ، وعصفور استدل هذا الرأي من أقوال طه حسين في نصوصه، كقوله(الناقد مرآة صافية..تعكس صورة الأديب نفسه كما تعكس صورة الناقد) ، وقد قرأت في بعض المنشورات الثقافية ملفاً خاصاً عن أحد الروائيين، فرأيت جميع الذين اعتبروا أنفسهم نقادا لم يتناولوا الأديب موضوع الملف الخاص بقدر ما احتفوا بأنفسهم، فأحدهم كل المقالة يتحدث عن موت أبيه وسفرته في وفد ثقافي إلى كوريا وفي آخر سطر قال(كان فلان صديقي)وآخر يراح يعدد مؤلفاته ومعاناته في نشرها دون أن يذكر اسم الأديب موضوع الملف أصلاً، وثالثٌ وهو ربما أفضلهم تكلم عن صفات شخصية للمحتفى به(كان وسيماً في شبابه وصادقاً مع أصدقائه وكريماً وسخياً وفعلت له كذا وفعل لي كذا)ولا أدري ما علاقة هذا كله بالنقد أو بالأدب أو بالأديب، وبعدما عدتُ فقرأت بعض كتب طه حسين وتحليل جابر عصفور له وسيرته، صرتُ أظنُّ أن جميع المثقفين لا يشبعون أبداً من الاحتفاء بأنفسهم أو الشكوى والتذمر من قلة الاحتفاء بهم، فطه حسين ومثله الكثير من النقاد كان لديهم الكثير من الأنا الطاغية في كتاباتهم وقدرٌ كبير من تزكية الذات، وكانت أغلب نصوصهم استسراء، فطه حسين عام 1944 حين كتب(صوت أبي العلاء) كان قصده أن يحتفي بنفسه أكبر من قصده الاحتفاء بأبي العلاء، فهو حين يقول(ومن أجل هذا لم يكن حلو الأثر في نفوس الذين يعرفونه ولا يألفونه، ولم يكنْ عذب الصوت في آذان الذين يسمعون له دون أن يطيلوا الاستماع إليه، ولم يكنْ محبب النفس إلى الذين يتصلون به...وأنا أعلم أن كثير من الناس سينكرون عليَّ هذه الترجمة) فهو ينتحل شخصية أبي العلاء، ويترجمه أي يكتب سيرته، وهي حيلة للتخلص من مسئولية أقواله، ويقول كل ما يريد قوله باسم أبي العلاء، وهو ما أفصحَ عنه صراحةً أندريه مورا(وقد أقرَّ مورا بأنَّ الكتابة عن شللي كانت ترضي رغبةً ذاتية في نفسه وتسمح له بأن يبني شخصيته من خلال شللي) . وبقيَ طيف المعري ملازمِاً لطه حسين كما لازم طيف الشيوعية ماركس، وكما لازم الطيف الشكسبيري الذي يعرفه هاملت، والطيف الفرويدي دريدا.
3- جميع نصوص طه حسين غير مكتوبة، بل مملية، لكن ليس صحيحاً أنَّها بلا مسودَّة، فربما كان المُملي يعيد قراءتها عليه، فيصحح، كما اعترف هو في الأيام، وهو ما يميز أدب العميان.
4- امتاز الجزء الأول بلغة أكثر رصانة، وحرفٍ كبير، واعتنى كثيراً بحركات الإعراب وخاصةً الحرف المُشَدَّدْ، وكل هذا تبدد شيئا فشيئا في الجزئين التاليين.
5- رغم محاولاته للتجرد وعدم الانحياز، لكنَّه كثيراً ما كان يتصور أنَّه فوق الجميع ويتصرف بغرور، ويرد السائل بجفاء ولو كان الأمير فؤاد بك رئيس جامعته، ويرفض الاعتذار، ويقول عن شقيقه(وكان يرفقُ بأخيه الأزهريّ، ويكرَه أن يعلم أبواه أنه يستأثر دونه بقليل اللبن - ص151/ج1).ولو قُيِّضَّ لشقيقه الأزهري أنْ يكتب سيرته الذاتية لقال أنَّه كان يباتُ جائعاً ليؤثرَ أخاه بقليل اللبن، وأكدَّ نجيب محفوظ اختلاف الحقائق بتعدد الرواة لنفس الواقعة في روايته أفراح القبة.
6- جاءت عنايته الكبيرة بِمَوْسَقَة اللغة، واستناده إلى الأّثر الذي يحدثه صوت كل حرف، كنتيجة لاعتماده حاسة السمع التي تقوم بدورين البصر والسمع، فصارت أقوى في التصحيح والإملاء والكتابة، والعضو غير المُستخدم يصدأ ويضعف.
7- وقد يغيب التصوير الفني عن أيام طه حسين كمعظم نصوصه، لكنَّها لم تفقد روعتها اللغوية.
8- كان يعاني ازدواجية في حياته، زوجته وأولاده لا يتكلمون اللغة العربية وهو عميد الأدب العربي، هو من خريجي الأزهر وزوجته بقيت على دينها، كان كلاسيكياً ويحب أن يكون معاصراً، كان محافظاً ويحب أن يكون حديثاً، كان أزهرياً وغربياً، كان مصرياً وفرنسياً في آنٍ واحد، كان يواجه الحملات الموجهة ضدّه، بروغان وحيلة، يستمكن ويهجم، يلين ويقسو، يتراجع ليخطط للهجوم.
9- كان طه حسين ظاهرة اجتماعية ثقافية، تَطَلبَّها تطور المجتمع، وكان لأبي العلاء دورٌ كبير في البناء النفسي لشخصية طه حسين، ليس فقط لأنَّ الاثنين فقدا الرؤيا فَقَوَتْ لديهم الرؤية، ولكن لأنَّ طه حسين كان شديد الإعجاب والتأثر بأبي العلاء المعري، وانعكسَ هذا التأثير في أربعة كتب كاملة: صوت أبي العلاء، مع أبي العلاء في سجنه، تجديد ذكرى أبي العلاء، شرح لزوم ما لا يلزم.
10- يعتقد طه حسين (أنَّ القاعدة الأساسية للنقد هي التعرف على شخصية الأديب..وذلك لنعرف كيف شعر الأديب بما شعرَ به(يقول طه حسين" ثمَّ كيف وصف إحساسه وأعربَ عن شعوره) وهو رأي قدماء النقد، وكان رأيهم آنذاك حداثة، يقول الكاتب أبن قتيبة(ولم يُقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن،ولا خصَّ بهِ قوماً دون قوم بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عبادهِ في كلِّ دهر،وجعلَ كل قديم حديثاً في عصرهِ). ورأي طه حسين هو ذاته رأي الناقد الفرنسي سانت بوف (1804-1869)(إن الإحاطة بحياة الكاتب ضرورية لمعرفة النص) . وكان سانت بوف يصبُّ أحكامه النقدية على شخصيات المؤلفين(ولقد دعا "سانت بوف" في ظل منهجية نقده هذه الى "دراسة الأدباء دراسة علمية تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم، وأممهم، وعصورهم وآبائهم وأمهاتهم، وأسرهم، وتربياتهم، وأمزجتهم، وثقافاتهم، وتكويناتهم المادية، الجسمية، وخواصهم النفسية والعقلية، وعلاقاتهم بأصدقائهم، ومعارفهم، والتعرف على كل ما يتصل بهم من عادات وأفكار، ومباديء مع محاولة تبين فترات نجاحهم واخفاقهم وجوانب ضعفهم، وكل ما اضطربوا فيه طوال حياتهم في الغدو والرواح وفي الصباح والمساء) . ويقول محسن الكندي (ووظيفة النقد الأدبي عنده(سانت بوف) هي النفاذ الى ذات المؤلف، لتشف روحه من وراء عباءته بحيث يفهمه قراؤه وهو بذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب) . ورغمَ أنَّ هذا يتنافى مع نظريات النقد الحديث، وخاصةً نظرية موت المؤلف، لأنَّ التفسير الشخصي يمنح النص فرصةً واحدة للتأويل، ولا ننكر ما للتفسير الشخصي من أهمية، فمعظم النصوص كانت ثمرة تجارب شخصية، كذكريات من بيت الموتى لدستوفسكي، الذي قال بعد زمنٍ طويل من خروجه من سجن أومسك(لقد كان لهذه السنين الأربع التي قضيتها في السجن فضلٌ كبير علي، إنَّ نفسي وفكري وإيماني، ذلك كله قد تبدل تبدلاً عظيماً بفضل هذه التجربة..إنَّ الإنسان أثناء الحسرات التي يحسها في سجن الأشغال الشاقة يرتوي بالإيمان كما يرتوي العشب اليابس بالمطر..لعل الإله القدير قد شاء أن يرسلني إلى هناك حتى أتعلم جوهر الإنسان، فأنقل علمي إلى غيري وأبلغه الناس) .

عبدالكريم يحيى الزيباري
14/06/2008, 02:16 PM
استفهامية الأيام/ طه حسين
عبدالكريم يحيى الزيباري
الدكتور إحسان عبَّاس، بدأ قارئاً للسيرة الذاتية، ثمَّ نقد السيرة في(فن السيرة/1956)ثم كتب السيرة الغيرية في(بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره)، وبعد تجربتين وخبرة اكتسبها، كتب سيرته الذاتية(غربة الراعي/1996)وهو يبلغ من العمر(76) عاماً.
أجرى الدكتور إحسان عباس مقارنة بين(الأيام/ طه حسين1889-1973) و(حياتي/أحمد أمين1886-1957) في(فن السيرة/1956):(ومن يقرأ سيرة أحمد أمين يجد أنَّ الكاتب يتصور نتيجة التغير، وينص عليها، دون أن يجعل من أحداث حياته ما يفسِّر هذا التغير، فهو أشبه بمن يقول لك(هكذا جرت الأقدار)..فأحمد أمين يمثل دور المستفيد الذي يسمع ويقرأ ويلتقي الناس، وتتكيف حياته من نفسها دون دوافع ذاتية قوية، أما طه فيصطدم بالناس، ويقلق وينزعج ويسوء ظنه فيهم. وهو يحس أن كل المنغصات الخارجية ترسب في ذاكرته، فتظل تبتعد به عنهم، وتحفزه للهجوم عليهم حين تحين الفرصة.....فأحمد أمين تقريري يميل إلى ذكر الحقيقة كما هي، وطه حسين يميل إلى تصويرها كما أحسها ذات يوم، إن صاحب "الأيام" يصور نموه النفسي الداخلي، وصاحب "حياتي" يصور علاقاته الخارجية بالناس والأماكن .. وبينما تستطيع أن تبني من كل "الأيام" صورة لشخصية كاتبه، تجد أنَّ أحمد أمين رسم صورته وطبيعته في بضع صفحات(أنظر حياتي 330-336)..فأسلوب طه حسين موسيقي مرنم..وأسلوب أحمد أمين بسيط هادئ إخباري) . هذا الوصف يدلُّ على أنَّ طه حسين متلبِّسٌ بطيف سمك القرش العدواني، نشر أحمد أمين سيرته(حياتي)عام 1950، وله من العمر 64 عاماً، قضى أكثر من خمسين عاماً بين الكتب قراءةً وتأليفا وترجمة، ولم يكتسب خبرةً تؤهله لكتابة سيرته بشكل فني؟ وكتب طه حسين الأيام عام 1926 وهو في سن السابعة والثلاثين، هل تعيب التقريرية النص الأدبي؟
التقريرية هي الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب، بعكس الإنشاء والطلب اللذان لا يحتملان ذلك.(نظريات أوستن عن الأفعال القولية تنبثق من التفريق بين الكلام التقريري والكلام الأدائي أو الإنشائي في(أعدكَ بالقدوم غداً)فهذه الجملة تقرر أنَّ فعلاً سيقع، ولا تتحدث عن خبر وقع...نظرية أوستن لا تختلف عن تقسيم العرب للكلام إلى إنشاء وخبر، والإنشاء عند العرب، أفعال الأمر والنداء والدعاء وكلها لا تحتمل الصدق والكذب) . وبحسب برنس تكون السير ذاتية كلها تقريرية، لأنها إخبار عمَّا مضى وأفعال وقعت، تحتمل الصدق والكذب، فمن غير المعقول أن تكون سيرة ذاتية مؤلفة من أفعال أمر أو تخيلات لأمور لم تقع، حين قرأت الأيام، قرأت أحداثاً وقعت تعطي تصويراً دقيقاً لعلاقة طه حسين بالآخرين، ويحكي أحمد أمين في حياتي، كيفية تأسيسه لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1914، إلى عام كتابة سيرته 1953، وكيف أنَّه أراد الاستقالة لكنَّ زملاءه أصروا على بقائه، وَيحاول أن يتجرَّد في سيرته، وكثيراً ما نجح، فيستسري حياته الزوجية دون أيِّ تبجيلٍ ولا تفخيم لزوجته، بل على العكس كان يصفها بغير المثقفة، ويقول أحمد أمين(ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر مَنْ رأيت مِن السيدات، فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب، وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أيَّ معاند، وتلزم أيَّ مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن، تقول: إن الأوفق أن تتصرف في هذا الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة، وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك، وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب، وتتصرف التصرفات الحكيمة فتؤولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة، وهكذا أدركت أنَّ مِن الواجب إلا التزم المنطق، وإني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضحِّ بالمنطق أحياناً، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة) . وهذا صحيح فكذب الزوج على زوجته، حسنةٌ يثاب عليها، إذا كانت تُصْلِحُ ذات البين.
(فأحمد أمين تقريري يميل إلى ذكر الحقيقة كما هي، وطه حسين يميل إلى تصويرها كما أحسها ذات يوم، فصاحب "الأيام" يصور نموه النفسي الداخلي، وصاحب "حياتي" يصور علاقاته الخارجية بالناس والأماكن..وبينما تستطيع أن تبني من كل "الأيام" صورة لشخصية كاتبه، تجد أنَّ أحمد أمين رسم صورته وطبيعته في بضع صفحات(أنظر حياتي 330-336)..فأسلوب طه حسين موسيقي مرنم..وأسلوب أحمد أمين بسيط هادئ إخباري) كيف عثر على ست صفحات تختصر الكتاب ولم يعثر في الأيام على هكذا صفحات؟ علماً لم أجد في(حياتي)هذه الصفحات..
طه يصور نموه النفسي الداخلي، أحمد يصور العلاقات الخارجية؟ كيف هذا؟ ويكاد الجزء الثالث من الأيام لا يعدو أن يكون شكراً وعرفاناً للأشخاص الذين ساعدوه فبعد شهر عسل في صيف بالجنوب لم يتهيأ للامتحان(ويقبل صاحبنا على الامتحان مشفقاً منه أعظم الإشفاق... ويقبل صاحبنا ترافقه زوجه، فإذا أخذت ورقة ودفعتها إلى الأستاذ، نظر فيها ثمَّ ابتسم، ثم قال في صوتٍ عذب: لقد أسعدك الحظ بمرافقة هذه الآنسة. حدثني إذن عن الإمبراطورية العربية أيام بني أمية، وما أرى إلا أنك تعرفها خيراً مما أعرفها....وإن قلب الفتى ليخفق فرقاً وقلقاً، وكيف لا وهو مقبلٌ على امتحان الجغرافيا بعد قليل؟ ...ويقول الأستاذ في هذه المداعبة الرفيقة التي يتكلفها الممتحنون عادةً: مسيو حسين، صف لي مجرى نهر الرون..وإذا هو يرفض الإجابة عن هذا السؤال في صوت لا تردد فيه ولا اضطراب، قال الأستاذ متلطفاً: فإنَّ من الحق عليك أن تجيب حين تسأل، قال الفتى: ولكني لن أجيب، قال الأستاذ: فقط اكتفيت. ودعا طالباً آخر...فلم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه-الأيام/ج3-ص133-134)، ماذا كُتِبَ في تِلَكَ الورقة التي جعلت الأستاذ الفرنسي يبتسم؟ ولماذا لم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه بحسب اعترافه الشخصي؟ يقول أديب الجزائر محمد الصالح الصديق (زار طه حسين تونس عام 1957 وألقى محاضرة في إحدى القاعات الكبرى بالعاصمة، وتحدث عن الثورتين التونسية والمغربية، ولم يقل كلمةً واحدةً عن الثورة الجزائرية العملاقة وهي تزحف بقوة على مقربة منه...وكاشفته في تونس وفي بيته في القاهرة عندما زرته،... وأعتقد أن التزام طه حسين الصمت عن الثورة الجزائرية كأنَّه لا يريد أن يغضب الفرنسيين لسببٍ أو لآخر) ، هل كان لطه حسين التزام أخلاقي تجاه فرنسا التي احتضنته لسنوات وتزوج منها فتاة رافقته طيلة عمره؟ كان يعيش في فرنسا، مع زوجته وابنته آمنة حياة متقشفة، استمرت حتى بعد عودته، يساعده صديق لم يذكر اسمه لتأخر الإبحار، ثمَّ محافظ الإسكندرية، ثم شقيقه، ثم محمد رمضان ثمَّ شكري باشا رئيس الديوان، ثمَّ التقى ملك مصر أحمد فؤاد مرتين، ذكر في المقابلة الأولى كيف رفض طلب الأمير أحمد فؤاد مؤسس جامعة القاهرة عام 1908، لإلقاء كلمة في مؤتمر يبحث في شؤون العميان ليظهروا أن العرب سبقوا إلى اختراع الكتابة البارزة للعميان، وثالثة يطلب الفتى الضرير مقابلة الملك أحمد فؤاد، حتى أنَّ ثلاثية الأيام لطه حسين بأشدِّ الحاجة إلى فهرست الأعلام، أصدر عباس كتابه فن السيرة عام 1956 وطه حسين في أوج القمة، والدكتور أحمد أمين يحتضر، فاز طه حسين بتعيينه وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950-1952، ثمَّ رئيساً للمجمع اللغوي عام 1956، وعضوية المجمع اللغوي العراقي والسوري ومعظم جامعات الدول الغربية كانت تحتفي به، وتمنحه الدكتوراه الفخرية...وأين التقريرية في حياتي؟ يقول أحمد أمين في بداية حياتي(ما أنا إلا نتيجة حتمية لكلِّ ما مرَّ عليَّ وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلل في تراب الأرض فتغذي النبات والأشجار، قد يتحول النبات والأشجار إلى فحم، ويتحول الفحم إلى نار، وتتحول النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الأشجار تُختزن في الظلام، فإذا سُلطت عليها النار تحولت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى) . ويقول طه حسين في بداية الأيام-ج1(لا يذكر لهذا اليوم اسماً ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، إنما يقرِّبُ ذلك تقريبا، وأكبر ظنه أنَّ هذا الوقت كان يقع في ذلك اليوم في فجره أو في عشائه)وأنا متأكد لو أنَّ هذا الكلام لم ينسب إلى طه حسين لقال عنه الناس بالإجماع: تقريري، لا يصلح للأدب، لكنَّ السيرة يكتبها الذين يظنون أنفسهم عظماء، أو يظنهم الناس كذلك، ولهذا فهم مِن القداسة، فوق النقد، وفوق الحقيقة، وحتى وإنْ اعترفوا هم بذنبٍ خطير، فإنَّ مريدوهم سرعان ما يؤولون هذا الذنب حسنةً عظيمة، فطه حسين في فرنسا نجح بفضل زوجته، لا لأنَّها كانت تقرأ له فحسب، وهو يقول(على أنّ صبيَّنا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم، لونا آخر جديداً، وهو علم السِّحْر والطلاسم، فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليطٍ من الأسفار، ....وشمس المعارف الكبرى في السحر...لقد قُرِئَ لصاحبنا من هذا كلِّه، فحفِظَ منه الشيء الكثير، ولكنه عُني بشيئين عنايةً خاصة: عُنِي بالسحر وعُني بالتصوف، ولم يكن في الجمع بين هذين اللونين من العلم شيءٌ من الغرابة ولا من العُسْر، فإِن التناقض الذي يظهر بينهما ليس إلاَّ صوريَّاً في حقيقة الأمر. أليس الصوفي يزعمُ لنفسه وللناس أنه يخترق حجب الغيب، وينبئُ بما كان وسيكون...والساحر ماذا يصنع؟ أليس يزعمُ لنفسه القدرة على الإخبار بالغيب. ..بلى! كل ما يوجد من الفرق بين الساحر والصوفيِّ هو أن هذا يتّصل بالملائكة، وذلك يتصل بالشياطين) ، لم أسمع في حياتي صوفياً اتصل بالملائكة، حتى في كتاب شطحات الصوفية للدكتور عبدالرحمن البدوي لم يذكر فيه شيءٌ من هذا القبيل، وكيف يتصل بهم؟ وكيف لا يوجد فرق بين المتصوف والساحر؟ فالساحر يرغب بالدنيا، والمتصوف يرفضها، وإذا أردنا الخوض في سطحية ما أراد منمصطلح التصوف، سنحتاج إلى الكثير، لكن طه حسين ربما قَصَدَ أدعياء التصوف، ويكمل طه حسين (وكذلك كان الأمر في نفس صاحبنا، فقد كان يتصوَّف ويتكلَّف السحر، وهو واثقٌ بأنَّه سيرضي الله، ويظفر من الحياة بأحبِّ لذَّاتها إليه-الأيام/ج1-ص100) وإذا كان الجزء الأول من الأيام سيرة ذاتية، تنتهي بـ(مضى به أخوه بعد ذلك إلى الأزهر- ص144) وهذا في الحلقة(19/ج1)ثم في الحلقة(20)والأخيرة يوجه رسالة إلى ابنته آمنة وهي في التاسعة من عمرها، عن المآسي التي عاناها والدها في طفولته، فإنَّ الجزء الثاني سيرة فكرية حيث يتكلم عن نشأته في الأزهر، والجزءان يجتمعان بعدم عنونة الأقسام فقط بالأرقام، ولكل جزء منهما(20)قسم، لكن في الجزء الثالث يبدأ بعنونة تبدأ بالفصل الأول(على باب الأزهر)وتنتهي بالفصل العشرين(إيمان بالثورة)ويقول عنها(كانت ثورة لم يعرف التاريخ لها نظيراً إلا الثورة الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر- ص165/ج3) ثم يستشهد بأبيات لدريد بن الصمة الشهيرة التي يرثي فيها أخاه عبدالله، دونما أن يذكر اسمه بل أشار إليه بذلك الشاعر الجاهلي، وهو يقصد الثورة ضد الإنكليز، التي أجبرتهم على إعادة سعد زغلول من منفاه، لكن طه حسين يرى الخلاف حول من الأحق بإجراء المفاوضات(فريق منهم مال إلى الوفد وقال مع القائلين(لا رئيس لا سعد) وفريق آخر مال إلى الوزارة وقال مع القائلين إنما المفاوضات لمن وليَ الحكم- ص168/ج3)ويقف مع السلطة التي كانت بيد عدلي باشا(ويرى صاحبنا نفسه ذات يوم في محطة القاهرة مع المستقبلين لعدلي باشا وهو يصيح مع الصائحين(ليحيى عدلي باشا- الأيام/ج3/ ص169).
ولد طه حسين في 1889 وفي عام 1902 سافر إلى القاهرة, والتحق بالأزهر, وفصل منه عام 1908، فالتحق فوراً بالجامعة المصرية التي فتحت أبوابها وحصل على ليسانس الآداب، 1914 حصل على درجة الدكتوراه عن(أبي العلاء المعري)، وفي تشرين الثاني 1914 سافر في بعثة إلى فرنسا ودرس في جامعتي مونبلييه والسوربون. وفي عام 1918 حصل على الدكتوراه من السوربون عن رسالته (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون)، عام 1915 تعرف في مونبلييه على سوزان الفرنسية، وتزوجها عام 1917، وأنجبت له (أمينة) . التي أصبحت فيما بعد زوجة للدكتور محمد حسن الزيات, سفير مصر السابق في أمريكا، ومؤنس الذي أصبح أستاذا في الجامعات الفرنسية، وهو لا يعرف العربية ولا أمه، وفي عام 1919 عاد طه حسين من باريس إلى مصر ليعمل أستاذا بكلية الآداب. وفي عام 1926 أصدر كتابه(في الشعر الجاهلي) الذي كان وراء شهرته، وأحدث معركة مستمرة إلى يومنا، والكتاب يمثل مرحلة مهمة سيرة طه حسين الذي كان آنذاك منبهراً ومُتَلَبِّساً بنظرية ديكارت(1596-1650)في الشك باعتباره أول خطوة في التأمل الفلسفي عند ديكارت، والسبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، كما يقول ديكارت(لقد كنا أطفالاً قبل أن نصبح رجالاً، وحيث أننا قد أصبنا أحياناً، وأخطأنا أحياناً أخرى في أحكامنا على الأشياء المعروضة لحواسنا، عندما كنا لم نصل بعد إلى تكوين عقولنا، فإن هناك ثمة أحكاماً كثيرة، تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة موضع الشك) . وبهذا بدأ طه حسين بالتشكيك بوجود شعر جاهلي، ثم انتهى إلى التشكيك بكل الحقائق الثابتة. وعقد البرلمان جلسات تطالب بمصادرة كتاب(في الشعر الجاهلي) وفصل طه حسين من الجامعة وتقديمه للمحاكمة, وهاجت الصحف تهاجم الكتاب، وانتهى الأمر بتقديم طه حسين إلى القضاء لمحاكمته.. وخضع طه حسين للتحقيق في نيابة مصر لمدة ستة شهور, لم يترك رئيس النيابة المحقق محمد نور صغيرة ولا كبيرة في الكتاب إلا جعلها موضع مساءلة. وبعد المحاكمة أراد نائب البرلمان فتح القضية مرة أخرى. فنهره سعد زغلول رئيس البرلمان. وقال: إن المسألة قد انتهت. وظني أن قرار النيابة الذي كتبه محمد نور رئيس نيابة مصر بعد التحقيق مع طه حسين, يعد وثيقة لا تقل في أهميتها عن الكتاب ذاته. لأنها تعكس من زاوية أخرى المناخ الثقافي الذي كان سائدا في تلك الأيام.. ففي هذه الوثيقة يتعامل محمد نور مع المتهم طه حسين بتوقير شديد ويلقبه دائما بالأستاذ ويبدأ سؤاله له بقوله:(حضرتكم قلتم كذا). ويعترف محمد نور أن طه حسين قد أخطأ لكنه يقول في قرار الاتهام: (وإن كان قد أخطأ فيما كتب, إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء, وتعمُّد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر). وهو اعتذار علي بن أبي طالب عن قاتله عبدالرحمن بن ملجم(ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل)وعندما أبلغ المبلغون ضد طه حسين شكواهم ضد عبارات من سياق الكتاب، متهمين بها طه حسين بالتعدي على الدين. رفض محمد نور هذا المنهج وقال: (فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة وإنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه) يقول (قدَّم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحاً يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة التي خرَّجتْ ملحداً هو صاحب رسالة ذكرى أبي العلاء، وكان سعد رحمه الله رئيس لجنة المقترحات، ..وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه، فلما أبى قال له سعد فإنَّ اقتراحاً آخر سيقدم وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر لأنَّ صاحب الرسالة...تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة- الأيام/ج3/ ص148). ورغم جميل سعد هذا يرفض طه حسين شكره ويقول: لقد قام سعد بواجبه فقط، ويقول طه حسين(ولكنه لم يلبث أن روّع بوفاة الأستاذ دوركيم، المشرف الفلسفي على رسالته، وكان الفتى لأستاذه محبَّاً وبه معجباً إعجاباً يوشك أن يبلغ الفتون، فأدركه للخطب فيه حزنٌ عميق-الأيام/ج3/ ص136) وهو يقصد إميل دوركايم(1858 - 1917) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، ولد في مدينة إبينال بفرنسا حيث نشأ في عائلة من الحاخامين، ولو تسنَّى لنا الإطلاع على مذكرات دوركايم أو يومياته أو رسائله الشخصية، أو ما شابه، لعثرنا ربما على معلومات أخرى قد تمنح دوركايم دوراً أكبر في نجاح طه حسين الذي فشل في امتحان اللاتينية وكان يكره التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر ولم يقرأهما ورغم ذلك يسأله الأستاذ عن الدولة الأموية، ولا يأخذ الصفر الذي كان ينتظره ويستحقه بحسب اعترافه الشخصي في مادة الجغرافية، والتي رفض فيها سؤال الأستاذ بعنجهية كانت كافية لتصفيره. ومن ميزات الأيام كسيرة ذاتية عن غيرها:
1- كتب طه حسين الأيام في عام 1926، أي وهو في سن السابعة والثلاثين، أي قبل وفاته بـ 47 سنة، وهو في سنٍّ لا يزال متأثرٌ بالحياة القاسية التي عاشها، ولم يتذوق بعد حلاوة الرخاء، ولكنه لا يزال غض العود، في ريعان شبابه، وفي قمة مجده، الذي لم يمل منه بعد، وكتاب السيرة غالباً ما يكتبون سِيَرَهم وهم في ملل من أوج القمة، أو قبل وفاتهم بقليل.
2- كتب الأيام بضمير الغائب لا المتكلّم، برغم الأنا الطاغية في كتاباته النقدية كما بينَّ ذلك الدكتور جابر عصفور في كتابه(المرايا المتجاورة):(وليس من قبيل المصادفة أن يسيطر ضمير المتكلم على الحديث النقدي عند طه حسين فيحتل مكان الصدارة..وبين تلك الـ أنت المذعنة التي تسمع يختفي الـ هو، أعني العمل الأدبي الغائب- أو الأديب- الذي يفترض أن يدور حوله الحديث النقدي كله) ، وعصفور استدل هذا الرأي من أقوال طه حسين في نصوصه، كقوله(الناقد مرآة صافية..تعكس صورة الأديب نفسه كما تعكس صورة الناقد) ، وقد قرأت في بعض المنشورات الثقافية ملفاً خاصاً عن أحد الروائيين، فرأيت جميع الذين اعتبروا أنفسهم نقادا لم يتناولوا الأديب موضوع الملف الخاص بقدر ما احتفوا بأنفسهم، فأحدهم كل المقالة يتحدث عن موت أبيه وسفرته في وفد ثقافي إلى كوريا وفي آخر سطر قال(كان فلان صديقي)وآخر يراح يعدد مؤلفاته ومعاناته في نشرها دون أن يذكر اسم الأديب موضوع الملف أصلاً، وثالثٌ وهو ربما أفضلهم تكلم عن صفات شخصية للمحتفى به(كان وسيماً في شبابه وصادقاً مع أصدقائه وكريماً وسخياً وفعلت له كذا وفعل لي كذا)ولا أدري ما علاقة هذا كله بالنقد أو بالأدب أو بالأديب، وبعدما عدتُ فقرأت بعض كتب طه حسين وتحليل جابر عصفور له وسيرته، صرتُ أظنُّ أن جميع المثقفين لا يشبعون أبداً من الاحتفاء بأنفسهم أو الشكوى والتذمر من قلة الاحتفاء بهم، فطه حسين ومثله الكثير من النقاد كان لديهم الكثير من الأنا الطاغية في كتاباتهم وقدرٌ كبير من تزكية الذات، وكانت أغلب نصوصهم استسراء، فطه حسين عام 1944 حين كتب(صوت أبي العلاء) كان قصده أن يحتفي بنفسه أكبر من قصده الاحتفاء بأبي العلاء، فهو حين يقول(ومن أجل هذا لم يكن حلو الأثر في نفوس الذين يعرفونه ولا يألفونه، ولم يكنْ عذب الصوت في آذان الذين يسمعون له دون أن يطيلوا الاستماع إليه، ولم يكنْ محبب النفس إلى الذين يتصلون به...وأنا أعلم أن كثير من الناس سينكرون عليَّ هذه الترجمة) فهو ينتحل شخصية أبي العلاء، ويترجمه أي يكتب سيرته، وهي حيلة للتخلص من مسئولية أقواله، ويقول كل ما يريد قوله باسم أبي العلاء، وهو ما أفصحَ عنه صراحةً أندريه مورا(وقد أقرَّ مورا بأنَّ الكتابة عن شللي كانت ترضي رغبةً ذاتية في نفسه وتسمح له بأن يبني شخصيته من خلال شللي) . وبقيَ طيف المعري ملازمِاً لطه حسين كما لازم طيف الشيوعية ماركس، وكما لازم الطيف الشكسبيري الذي يعرفه هاملت، والطيف الفرويدي دريدا.
3- جميع نصوص طه حسين غير مكتوبة، بل مملية، لكن ليس صحيحاً أنَّها بلا مسودَّة، فربما كان المُملي يعيد قراءتها عليه، فيصحح، كما اعترف هو في الأيام، وهو ما يميز أدب العميان.
4- امتاز الجزء الأول بلغة أكثر رصانة، وحرفٍ كبير، واعتنى كثيراً بحركات الإعراب وخاصةً الحرف المُشَدَّدْ، وكل هذا تبدد شيئا فشيئا في الجزئين التاليين.
5- رغم محاولاته للتجرد وعدم الانحياز، لكنَّه كثيراً ما كان يتصور أنَّه فوق الجميع ويتصرف بغرور، ويرد السائل بجفاء ولو كان الأمير فؤاد بك رئيس جامعته، ويرفض الاعتذار، ويقول عن شقيقه(وكان يرفقُ بأخيه الأزهريّ، ويكرَه أن يعلم أبواه أنه يستأثر دونه بقليل اللبن - ص151/ج1).ولو قُيِّضَّ لشقيقه الأزهري أنْ يكتب سيرته الذاتية لقال أنَّه كان يباتُ جائعاً ليؤثرَ أخاه بقليل اللبن، وأكدَّ نجيب محفوظ اختلاف الحقائق بتعدد الرواة لنفس الواقعة في روايته أفراح القبة.
6- جاءت عنايته الكبيرة بِمَوْسَقَة اللغة، واستناده إلى الأّثر الذي يحدثه صوت كل حرف، كنتيجة لاعتماده حاسة السمع التي تقوم بدورين البصر والسمع، فصارت أقوى في التصحيح والإملاء والكتابة، والعضو غير المُستخدم يصدأ ويضعف.
7- وقد يغيب التصوير الفني عن أيام طه حسين كمعظم نصوصه، لكنَّها لم تفقد روعتها اللغوية.
8- كان يعاني ازدواجية في حياته، زوجته وأولاده لا يتكلمون اللغة العربية وهو عميد الأدب العربي، هو من خريجي الأزهر وزوجته بقيت على دينها، كان كلاسيكياً ويحب أن يكون معاصراً، كان محافظاً ويحب أن يكون حديثاً، كان أزهرياً وغربياً، كان مصرياً وفرنسياً في آنٍ واحد، كان يواجه الحملات الموجهة ضدّه، بروغان وحيلة، يستمكن ويهجم، يلين ويقسو، يتراجع ليخطط للهجوم.
9- كان طه حسين ظاهرة اجتماعية ثقافية، تَطَلبَّها تطور المجتمع، وكان لأبي العلاء دورٌ كبير في البناء النفسي لشخصية طه حسين، ليس فقط لأنَّ الاثنين فقدا الرؤيا فَقَوَتْ لديهم الرؤية، ولكن لأنَّ طه حسين كان شديد الإعجاب والتأثر بأبي العلاء المعري، وانعكسَ هذا التأثير في أربعة كتب كاملة: صوت أبي العلاء، مع أبي العلاء في سجنه، تجديد ذكرى أبي العلاء، شرح لزوم ما لا يلزم.
10- يعتقد طه حسين (أنَّ القاعدة الأساسية للنقد هي التعرف على شخصية الأديب..وذلك لنعرف كيف شعر الأديب بما شعرَ به(يقول طه حسين" ثمَّ كيف وصف إحساسه وأعربَ عن شعوره) وهو رأي قدماء النقد، وكان رأيهم آنذاك حداثة، يقول الكاتب أبن قتيبة(ولم يُقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن،ولا خصَّ بهِ قوماً دون قوم بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عبادهِ في كلِّ دهر،وجعلَ كل قديم حديثاً في عصرهِ). ورأي طه حسين هو ذاته رأي الناقد الفرنسي سانت بوف (1804-1869)(إن الإحاطة بحياة الكاتب ضرورية لمعرفة النص) . وكان سانت بوف يصبُّ أحكامه النقدية على شخصيات المؤلفين(ولقد دعا "سانت بوف" في ظل منهجية نقده هذه الى "دراسة الأدباء دراسة علمية تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم، وأممهم، وعصورهم وآبائهم وأمهاتهم، وأسرهم، وتربياتهم، وأمزجتهم، وثقافاتهم، وتكويناتهم المادية، الجسمية، وخواصهم النفسية والعقلية، وعلاقاتهم بأصدقائهم، ومعارفهم، والتعرف على كل ما يتصل بهم من عادات وأفكار، ومباديء مع محاولة تبين فترات نجاحهم واخفاقهم وجوانب ضعفهم، وكل ما اضطربوا فيه طوال حياتهم في الغدو والرواح وفي الصباح والمساء) . ويقول محسن الكندي (ووظيفة النقد الأدبي عنده(سانت بوف) هي النفاذ الى ذات المؤلف، لتشف روحه من وراء عباءته بحيث يفهمه قراؤه وهو بذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب) . ورغمَ أنَّ هذا يتنافى مع نظريات النقد الحديث، وخاصةً نظرية موت المؤلف، لأنَّ التفسير الشخصي يمنح النص فرصةً واحدة للتأويل، ولا ننكر ما للتفسير الشخصي من أهمية، فمعظم النصوص كانت ثمرة تجارب شخصية، كذكريات من بيت الموتى لدستوفسكي، الذي قال بعد زمنٍ طويل من خروجه من سجن أومسك(لقد كان لهذه السنين الأربع التي قضيتها في السجن فضلٌ كبير علي، إنَّ نفسي وفكري وإيماني، ذلك كله قد تبدل تبدلاً عظيماً بفضل هذه التجربة..إنَّ الإنسان أثناء الحسرات التي يحسها في سجن الأشغال الشاقة يرتوي بالإيمان كما يرتوي العشب اليابس بالمطر..لعل الإله القدير قد شاء أن يرسلني إلى هناك حتى أتعلم جوهر الإنسان، فأنقل علمي إلى غيري وأبلغه الناس) .