ابراهيم درغوثي
08/12/2006, 03:18 PM
أحزان منسية
قصص قصيرة جدا
ابراهيم درغوثي / تونس
1- كأس شاي أخضر بالنعناع :
أعرف أنك تحب الشاي الأخضر والخمرة والنساء .
تحب الشاي الأخضر بالنعناع . تشرب منه كل يوم ما يغرق بارجة حربية .
وتحب البيرة . هات عشرة تقول للنادل ، لا ترضيك واحدة أمامك ولا اثنتان . تضع القوارير فوق الطاولة . تلمسها . تحنو عليها . ما أبردها ، تقول لنفسك ولأصحابك . وتفرح كطفل اصطاد عصفوره الأول .
وتحب النساء .
تحب السمراوات ، عيون البقر .
ها أنا جئتك اليوم بكأس شاي أخضر بالنعناع . كأس سخن يتطاير بخاره في الهواء .
وجئتك بالبيرة المثلجة . بيرة يقطر عرقها على الأرض .
ولم تقبل النساء المجيء معي .
كلهن خفن منك ورفضن المجيء عندك رغم أوراق المال التي أغريتهن بها .
ألم تر كيف صرت تخيف النساء يا صاحبي ؟
تخيفهن وكأنك غول من غيلان الخرافات .
تفو ... على هذه الدنيا العاهرة .
خذ الكأس .
خذ أشرب منه وحدك حتى الارتواء .
وخذ قوارير البيرة . خذها ولا تقبل نديما يشاركك الشرب .
عندما رأيت كفه مصورة على زجاج القوارير المثلج ، توقفت عن الحديث .
رأيته يطل من بين القوارير ، فتركت له الكأس والبرة .
وتركت قلبي فوق القبر .
وذهبت ...
عندما وصلت قرب باب الجبانة ، رأيته جالسا فوق القبر يشرب البيرة .
قلت والفرحة تهزني هزا : هي القيامة إذن .
وعدوت نحوه .
وجدت كأس البرة ملآنا للنصف .
ورأيت أوراق النعناع الذابلة ترتعش وسط كأس الشاي .
2- دم أبي
سقطت السلة من يد الطفل .
سقط قلب الطفل فوق الإسفلت .
سقطت السلة .
سلة بها قارورة خمر .
جرى السائل الأحمر فوق الإسفلت .
وقف الطفل لحظة مرعوبا ، ثم وقع على ركبتيه يجمع زجاج القارورة .
تكثفت فوق السائل رغوة بيضاء .
وقع عليها الذباب . بنى الطفل سدا من التراب جمع وراءه السائل الأحمر .
وقع الطفل على زنديه .
لتذكيركم – زنداه نحيلان –نحيلان جدا .
وقع الطفل على زنديه يجمع زجاج القارورة .
يركبه فوق بعضه .
يحاول صنع قارورة جديدة .
لم لا يحاول ... ؟
جرى دمه .
جرى دمه فوق الإسفلت .
بنى سدا آخر بكف يده اليمنى .
ثم اليسرى .
ثم اليمنى .
ثم اليسرى .
ثم الاثنتين .
قام الطفل على ركبتيه .
نادى :
أعطوني ( لم يدر ماذا يطلب ) .أجمع فيه دم أبي
ودمي ..
3- أمومة
في المساء ،
رأيتها ممددة على جنبها الأيسر ، ترضع جراءها .
عيناها – لون العسل – مفتوحتان .
والجراء الخمسة ترضع الحليب من الضرع وتتناوش بالمخالب الصغيرة .
والكلبة نائمة على جنبها الأيسر .
كلبتنا التي لم تعرف اسما ، والتي تسبق كل يوم والدي إلى الحقل ، ولا تعود إلا في المساء .
تنبح على الغريب.
وتفرح بالصديق .
وتسهر قدام زريبة الحيوانات.
شتاء السنة وصيفها .
في الصباح
رأيتها ممدة على جنبها الأيسر ترضع جراءها .
ورأيت كدسا من الذباب الأخضر يحوم حولها .
اقتربت منها .
ورفعت جروا .
سال الحليب من بين شدقيه ، وهر.
تركته يسقط ، فعاد إلى الثدي يمتص منه الحليب .
وعدت أرفعه ، فعاد الحليب يسيل من بين شدقيه ...
وطن الذباب الخضر ،
وحط على الكلبة الميتة .
4- القطط تسرق الأرانب ليلا
أحس بخطاه خفيفة فوق السطح . وأرى ظله مستطيلا على الجدار المقابل للبيت . أقوم إليه شاهرا في وجهه حجرا وسبابا وعينا يقظة ...
يستقبلني على حافة الجدار .
يموء مواء ، حادا ، متواصلا ...
يستفز انتباهي .
وبغادر المكان
( يقول سأعود عندما تنام ) .
أرمي وراءه حجرا ، وأذهب أتفقد بيت الأرانب ...
... عندما أسمع الصرخة ، أقفز من فوق السرير ، وأندفع خارج البيت حافي القدمين .
يطعنني هواء الليل البارد طعنة واحدة .
وتطعنني استغاثة الأرنب طعنتين .
وأرى ظل القط مستطيلا على جدار الجيران .
يقف لحظة والأرنب يتخبط بين فكيه ، وصياحه الحزين يفتت قلبي .
يقطعه تقطيع السكاكين .
ينظر القط نحوي واثقا وكأنه يقول :
( ألم أخبرك بأنني سأعود عندما تنام ... أيها المغفل ) .
وأعود إلى البيت .
أشعل النار في الفانوس المعلق في السقف .
وأفتح النافذة
وأشحذ سكينا على حافة الشباك .
وأطعن جرحي المندمل بالسكين .
وأكتب بالدم على حافة الجرح :
القطط تسرق الأرانب ليلا
أليس كذلك ؟؟
5- جدي
دست على فرامل السيارة بقوة حتى أزت العجلات . كان أمامي .في وسط الشارع العريض ، يدق الشارع بعصاه ، ويمشي بهدوء وتؤدة . تكاثرت السيارات ورائي وعلت أصوات مزاميرها . عندما التفت وراء العربات المحتجة ، رأيت في وجهه العريض ولحيته الكبيرة وحاجبيه الضخمين وعينيه الصغيرتين الحادتين صورة جدي . كدت أنزل من العربة لأحتضنه وأعود به إلى البيت لولا أصوات الاحتجاج الحادة القادمة من ورائي والتي جعلتني أضغط على دواسة البنزين .
تحركت السيارة من جديد ... ولكن صورة ذلك الشيخ الذي قطع عني الطريق عاودتني بإلحاح مجنون . حركت قلبي بعنف ، وجعلتني أسرح بعيدا بخيالي الجامح ...
رأيت جدي يلاعبني ... يرفع قميصي عن نطني ويدغدغني بيديه وفمه الكبير فتخزني لحيته ، وأضحك مقهقها . فيضحك لضحكي . وتضحك أمي . ويضحك أبي . وتضحك القرية كلها .وتضحك الشمس والسماء ... وعندما يسكت الجميع ، أواصل الضحك وحدي . وأهرب منه . أختبئ داخل حجرات البيت ، فيصيح : اخرج يا فار من هاك الغار . ولكنني لا أرد على ندائه ، فيواصل الصياح مرات عديدة ، بدون طائل ...إلى أن يهددني بعدم إكمال حكاية علي بن السلطان وغول الجبال السبعة .
جدي يا جدي ...جدي حارب الصهاينة سنة ثمان وأربعين . تطوع مع جماعة من أهل البلد . قال للفرنسيين انه ذاهب للحج . ولما وصل أرض مصر ، اشترى بارودة ، والتحق بالثوار . وعندما انتهت الحرب ، رجع يحمل في جسمه جروح الهزائم . قال سكان البلد انه بعد عودته من فلسطين ، ظل حزينا عاما كاملا . ولم يقل شيئا عن جراحه ، ولا عن رفاقه الذين دفنهم هناك .
ثم ، وكما تتفتح الزهور بعد صقيع الشتاء ، تفتح قلبه للحياة ذات صيف . قال : لقد ترقبت هذه الأيام مدة طويلة ، دعوني أطفر عن حزن عشرين عاما . صار لا ينام .يضع الراديو أمامه ، ويردد مع المنشدين الأغاني الحماسية :
بلادي ، بلادي ، بلادي * لك حبي ومرادي .
ثم يحرك الإبرة في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار .
كانت الطائرات تحترق في الجو . تشتعل فيها النيران ، ثم تسقط قطعا من الحديد الملتهب ... وكنا نشم رائحة لحم الطيار ... كانت روائح الشواء تخرج من فتحات لأبواق أجهزة الراديو ... وكنا نرقص . نختطف هذا اللحم المشوي . نتقاسمه قطعا صغيرة في حجم كف اليد. نأكله بنهم ونرقص ... وكانت النساء تزغرد بأصوات عالية ترتفع حتى السماء السابعة عندما كانت طائراتنا تهدم المعبد فوق رؤوس أنبياء بني إسرائيل الجدد . وكان جدي يرفع بارودته ويطلق النار في الهواء، ثم يحرك إبرة الراديو في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار...
بعد ستة أيام من بداية الحرب ، أحضرت له أمي ذات صباح قهوته وماء الوضوء . حيته ، فلم يرد عليها . قالت قد يكون النوم غلبه ، فتمدد ليستريح قليلا ... اقتربت منه . رأت عينيه مغمضتين . ورأت على وجهه العجوز أحزان الدنيا كلها ... نادت والدي بصوت مبحوح . أقبل يجري وجرينا وراءه ... كان جدي قد مات ... وكان مذيع الأخبار في إحدى المحطات البعيدة يردد : لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب ...
أشعل سائق سيارة في وجهي ضوء التقاطع عدة مرات ، فانتبهت إلى أن السيارة تسير وسط الشارع ... حركت المقود قليلا لأبتعد عن طريقه، ثم ضغطت على دواسة البنزين ...
6- القبر.
عندما اقتربت من ذاك الكدس . كدس الترتب . كدس التراب الذي فوقه حجر منتصب من جهة الشرق وحجر من جهة الغرب ، عرفت أنني أقف عند قبر . قبر لا كالقبور . ما كان في جبانة ، ولا قريبا منها . وما كان له أن يصبح نواة لواحدة في المستقبل ، لأنه بعيد عن العمران ، ولأنه كان منتصبا شاهقا فوق قمة جبل .
احترت في أمر ذاك القبر ، ووقفت عند رأس الميت أفكر فيه . لكن حيرتي بدأت تتحول شيئا فشيئا إلى فزع شديد إذ رأيتني أخترق بعيني الترتب إلى أن وصلت جسم الرجل ، وصرت أنظر إليه كما لو كنت أنظر إلى شخص من خلال زجاج نافذة ... رأيت الهيكل العظمي يكتسي لحما وشحما ...ورأيت الدم يسيل في الشرايين . وشاهدت بعيني شعر الرأس والدقن ينبت شعرة شعرة . ثم شاهدت الجفون ترمش ، والشفتان تتحركان ... بعدها بقليل تثاءب الرجل ، وأفاق كما يفيق الراقد من نومه ...
كان قلبي يدق بعنف . وكانت ركبتاي يصطكان وأنا أشاهد الأرض تنشق ويخرج منها رجل يرتدي بزة عسكرية ، وينتعل حذاء ثقيلا ، ويمسك في يده بارودة من مخلفات الحرب العالمية الثانية . جلس على حافة القبر المشقوق ، وناداني ... أقبلت نحوه أقدم رجلا و أؤخر الثانية... إلى أن صرت على بعد متر منه فسألني بكل لطف :
من تكون أيها الرجل ؟
فرددت عليه :
أنا رجل مغرم بالتنزه في الوديان ، وبصعود الجبال
ثم رددت عليه سؤاله :
وأنت . من تكون يا أخي ؟
فلم يجيبني . وظل ساكتا ، فسكت بدوري إلى أن بادرني :
هل المدينة بعيدة من هنا ؟
قلت : مسيرة نصف ساعة للراجل
ثم أضفت : لكنك لم تقل لي من أنت أيها الرجل ؟
رد : أنا واحد من الذين نجوا من الموت لما حاصر جنود فرنسا هذا الجبل ، وقتلوا رفاقي .
قلت : ولكنك كنت في هذا القبر ...
قال : نعم ، ولكن رفاقي ماتوا عندما أكلنهم الذئاب والضباع ، أما أنا فكما ترى مازلت حيا .
ثم وقف . وقف بندقيته فوق ظهره ، وبدأ ينحدر نحو السهل ...
قلت : إلى أين لأنت ذاهب أيها الرجل ؟
قال : إلى المدينة . ألم تقل إن نصف ساعة تكفي لبلوغها ؟
عندما غاب عن ناظري ، التفت إلى القبر ، فرأيت حجرا ينتصب فوقه من جهة الغرب ، وحجرا آخر يقابله في جهة الشرق ... ابتسمت في سري وواصلت المشوار ...
dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/
قصص قصيرة جدا
ابراهيم درغوثي / تونس
1- كأس شاي أخضر بالنعناع :
أعرف أنك تحب الشاي الأخضر والخمرة والنساء .
تحب الشاي الأخضر بالنعناع . تشرب منه كل يوم ما يغرق بارجة حربية .
وتحب البيرة . هات عشرة تقول للنادل ، لا ترضيك واحدة أمامك ولا اثنتان . تضع القوارير فوق الطاولة . تلمسها . تحنو عليها . ما أبردها ، تقول لنفسك ولأصحابك . وتفرح كطفل اصطاد عصفوره الأول .
وتحب النساء .
تحب السمراوات ، عيون البقر .
ها أنا جئتك اليوم بكأس شاي أخضر بالنعناع . كأس سخن يتطاير بخاره في الهواء .
وجئتك بالبيرة المثلجة . بيرة يقطر عرقها على الأرض .
ولم تقبل النساء المجيء معي .
كلهن خفن منك ورفضن المجيء عندك رغم أوراق المال التي أغريتهن بها .
ألم تر كيف صرت تخيف النساء يا صاحبي ؟
تخيفهن وكأنك غول من غيلان الخرافات .
تفو ... على هذه الدنيا العاهرة .
خذ الكأس .
خذ أشرب منه وحدك حتى الارتواء .
وخذ قوارير البيرة . خذها ولا تقبل نديما يشاركك الشرب .
عندما رأيت كفه مصورة على زجاج القوارير المثلج ، توقفت عن الحديث .
رأيته يطل من بين القوارير ، فتركت له الكأس والبرة .
وتركت قلبي فوق القبر .
وذهبت ...
عندما وصلت قرب باب الجبانة ، رأيته جالسا فوق القبر يشرب البيرة .
قلت والفرحة تهزني هزا : هي القيامة إذن .
وعدوت نحوه .
وجدت كأس البرة ملآنا للنصف .
ورأيت أوراق النعناع الذابلة ترتعش وسط كأس الشاي .
2- دم أبي
سقطت السلة من يد الطفل .
سقط قلب الطفل فوق الإسفلت .
سقطت السلة .
سلة بها قارورة خمر .
جرى السائل الأحمر فوق الإسفلت .
وقف الطفل لحظة مرعوبا ، ثم وقع على ركبتيه يجمع زجاج القارورة .
تكثفت فوق السائل رغوة بيضاء .
وقع عليها الذباب . بنى الطفل سدا من التراب جمع وراءه السائل الأحمر .
وقع الطفل على زنديه .
لتذكيركم – زنداه نحيلان –نحيلان جدا .
وقع الطفل على زنديه يجمع زجاج القارورة .
يركبه فوق بعضه .
يحاول صنع قارورة جديدة .
لم لا يحاول ... ؟
جرى دمه .
جرى دمه فوق الإسفلت .
بنى سدا آخر بكف يده اليمنى .
ثم اليسرى .
ثم اليمنى .
ثم اليسرى .
ثم الاثنتين .
قام الطفل على ركبتيه .
نادى :
أعطوني ( لم يدر ماذا يطلب ) .أجمع فيه دم أبي
ودمي ..
3- أمومة
في المساء ،
رأيتها ممددة على جنبها الأيسر ، ترضع جراءها .
عيناها – لون العسل – مفتوحتان .
والجراء الخمسة ترضع الحليب من الضرع وتتناوش بالمخالب الصغيرة .
والكلبة نائمة على جنبها الأيسر .
كلبتنا التي لم تعرف اسما ، والتي تسبق كل يوم والدي إلى الحقل ، ولا تعود إلا في المساء .
تنبح على الغريب.
وتفرح بالصديق .
وتسهر قدام زريبة الحيوانات.
شتاء السنة وصيفها .
في الصباح
رأيتها ممدة على جنبها الأيسر ترضع جراءها .
ورأيت كدسا من الذباب الأخضر يحوم حولها .
اقتربت منها .
ورفعت جروا .
سال الحليب من بين شدقيه ، وهر.
تركته يسقط ، فعاد إلى الثدي يمتص منه الحليب .
وعدت أرفعه ، فعاد الحليب يسيل من بين شدقيه ...
وطن الذباب الخضر ،
وحط على الكلبة الميتة .
4- القطط تسرق الأرانب ليلا
أحس بخطاه خفيفة فوق السطح . وأرى ظله مستطيلا على الجدار المقابل للبيت . أقوم إليه شاهرا في وجهه حجرا وسبابا وعينا يقظة ...
يستقبلني على حافة الجدار .
يموء مواء ، حادا ، متواصلا ...
يستفز انتباهي .
وبغادر المكان
( يقول سأعود عندما تنام ) .
أرمي وراءه حجرا ، وأذهب أتفقد بيت الأرانب ...
... عندما أسمع الصرخة ، أقفز من فوق السرير ، وأندفع خارج البيت حافي القدمين .
يطعنني هواء الليل البارد طعنة واحدة .
وتطعنني استغاثة الأرنب طعنتين .
وأرى ظل القط مستطيلا على جدار الجيران .
يقف لحظة والأرنب يتخبط بين فكيه ، وصياحه الحزين يفتت قلبي .
يقطعه تقطيع السكاكين .
ينظر القط نحوي واثقا وكأنه يقول :
( ألم أخبرك بأنني سأعود عندما تنام ... أيها المغفل ) .
وأعود إلى البيت .
أشعل النار في الفانوس المعلق في السقف .
وأفتح النافذة
وأشحذ سكينا على حافة الشباك .
وأطعن جرحي المندمل بالسكين .
وأكتب بالدم على حافة الجرح :
القطط تسرق الأرانب ليلا
أليس كذلك ؟؟
5- جدي
دست على فرامل السيارة بقوة حتى أزت العجلات . كان أمامي .في وسط الشارع العريض ، يدق الشارع بعصاه ، ويمشي بهدوء وتؤدة . تكاثرت السيارات ورائي وعلت أصوات مزاميرها . عندما التفت وراء العربات المحتجة ، رأيت في وجهه العريض ولحيته الكبيرة وحاجبيه الضخمين وعينيه الصغيرتين الحادتين صورة جدي . كدت أنزل من العربة لأحتضنه وأعود به إلى البيت لولا أصوات الاحتجاج الحادة القادمة من ورائي والتي جعلتني أضغط على دواسة البنزين .
تحركت السيارة من جديد ... ولكن صورة ذلك الشيخ الذي قطع عني الطريق عاودتني بإلحاح مجنون . حركت قلبي بعنف ، وجعلتني أسرح بعيدا بخيالي الجامح ...
رأيت جدي يلاعبني ... يرفع قميصي عن نطني ويدغدغني بيديه وفمه الكبير فتخزني لحيته ، وأضحك مقهقها . فيضحك لضحكي . وتضحك أمي . ويضحك أبي . وتضحك القرية كلها .وتضحك الشمس والسماء ... وعندما يسكت الجميع ، أواصل الضحك وحدي . وأهرب منه . أختبئ داخل حجرات البيت ، فيصيح : اخرج يا فار من هاك الغار . ولكنني لا أرد على ندائه ، فيواصل الصياح مرات عديدة ، بدون طائل ...إلى أن يهددني بعدم إكمال حكاية علي بن السلطان وغول الجبال السبعة .
جدي يا جدي ...جدي حارب الصهاينة سنة ثمان وأربعين . تطوع مع جماعة من أهل البلد . قال للفرنسيين انه ذاهب للحج . ولما وصل أرض مصر ، اشترى بارودة ، والتحق بالثوار . وعندما انتهت الحرب ، رجع يحمل في جسمه جروح الهزائم . قال سكان البلد انه بعد عودته من فلسطين ، ظل حزينا عاما كاملا . ولم يقل شيئا عن جراحه ، ولا عن رفاقه الذين دفنهم هناك .
ثم ، وكما تتفتح الزهور بعد صقيع الشتاء ، تفتح قلبه للحياة ذات صيف . قال : لقد ترقبت هذه الأيام مدة طويلة ، دعوني أطفر عن حزن عشرين عاما . صار لا ينام .يضع الراديو أمامه ، ويردد مع المنشدين الأغاني الحماسية :
بلادي ، بلادي ، بلادي * لك حبي ومرادي .
ثم يحرك الإبرة في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار .
كانت الطائرات تحترق في الجو . تشتعل فيها النيران ، ثم تسقط قطعا من الحديد الملتهب ... وكنا نشم رائحة لحم الطيار ... كانت روائح الشواء تخرج من فتحات لأبواق أجهزة الراديو ... وكنا نرقص . نختطف هذا اللحم المشوي . نتقاسمه قطعا صغيرة في حجم كف اليد. نأكله بنهم ونرقص ... وكانت النساء تزغرد بأصوات عالية ترتفع حتى السماء السابعة عندما كانت طائراتنا تهدم المعبد فوق رؤوس أنبياء بني إسرائيل الجدد . وكان جدي يرفع بارودته ويطلق النار في الهواء، ثم يحرك إبرة الراديو في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار...
بعد ستة أيام من بداية الحرب ، أحضرت له أمي ذات صباح قهوته وماء الوضوء . حيته ، فلم يرد عليها . قالت قد يكون النوم غلبه ، فتمدد ليستريح قليلا ... اقتربت منه . رأت عينيه مغمضتين . ورأت على وجهه العجوز أحزان الدنيا كلها ... نادت والدي بصوت مبحوح . أقبل يجري وجرينا وراءه ... كان جدي قد مات ... وكان مذيع الأخبار في إحدى المحطات البعيدة يردد : لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب ...
أشعل سائق سيارة في وجهي ضوء التقاطع عدة مرات ، فانتبهت إلى أن السيارة تسير وسط الشارع ... حركت المقود قليلا لأبتعد عن طريقه، ثم ضغطت على دواسة البنزين ...
6- القبر.
عندما اقتربت من ذاك الكدس . كدس الترتب . كدس التراب الذي فوقه حجر منتصب من جهة الشرق وحجر من جهة الغرب ، عرفت أنني أقف عند قبر . قبر لا كالقبور . ما كان في جبانة ، ولا قريبا منها . وما كان له أن يصبح نواة لواحدة في المستقبل ، لأنه بعيد عن العمران ، ولأنه كان منتصبا شاهقا فوق قمة جبل .
احترت في أمر ذاك القبر ، ووقفت عند رأس الميت أفكر فيه . لكن حيرتي بدأت تتحول شيئا فشيئا إلى فزع شديد إذ رأيتني أخترق بعيني الترتب إلى أن وصلت جسم الرجل ، وصرت أنظر إليه كما لو كنت أنظر إلى شخص من خلال زجاج نافذة ... رأيت الهيكل العظمي يكتسي لحما وشحما ...ورأيت الدم يسيل في الشرايين . وشاهدت بعيني شعر الرأس والدقن ينبت شعرة شعرة . ثم شاهدت الجفون ترمش ، والشفتان تتحركان ... بعدها بقليل تثاءب الرجل ، وأفاق كما يفيق الراقد من نومه ...
كان قلبي يدق بعنف . وكانت ركبتاي يصطكان وأنا أشاهد الأرض تنشق ويخرج منها رجل يرتدي بزة عسكرية ، وينتعل حذاء ثقيلا ، ويمسك في يده بارودة من مخلفات الحرب العالمية الثانية . جلس على حافة القبر المشقوق ، وناداني ... أقبلت نحوه أقدم رجلا و أؤخر الثانية... إلى أن صرت على بعد متر منه فسألني بكل لطف :
من تكون أيها الرجل ؟
فرددت عليه :
أنا رجل مغرم بالتنزه في الوديان ، وبصعود الجبال
ثم رددت عليه سؤاله :
وأنت . من تكون يا أخي ؟
فلم يجيبني . وظل ساكتا ، فسكت بدوري إلى أن بادرني :
هل المدينة بعيدة من هنا ؟
قلت : مسيرة نصف ساعة للراجل
ثم أضفت : لكنك لم تقل لي من أنت أيها الرجل ؟
رد : أنا واحد من الذين نجوا من الموت لما حاصر جنود فرنسا هذا الجبل ، وقتلوا رفاقي .
قلت : ولكنك كنت في هذا القبر ...
قال : نعم ، ولكن رفاقي ماتوا عندما أكلنهم الذئاب والضباع ، أما أنا فكما ترى مازلت حيا .
ثم وقف . وقف بندقيته فوق ظهره ، وبدأ ينحدر نحو السهل ...
قلت : إلى أين لأنت ذاهب أيها الرجل ؟
قال : إلى المدينة . ألم تقل إن نصف ساعة تكفي لبلوغها ؟
عندما غاب عن ناظري ، التفت إلى القبر ، فرأيت حجرا ينتصب فوقه من جهة الغرب ، وحجرا آخر يقابله في جهة الشرق ... ابتسمت في سري وواصلت المشوار ...
dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/