المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في ديوان أسماء لعبد الرزاق جبران



مصطفى لغتيري
08/12/2006, 03:54 PM
الشعر ذلك الجنس المخاتل، ذو الرونق المتجدد، تكتسب معه العبارة بهاءها وعذوبتها، فتفتتن النفس الشفافة برقتها، تنجذب اليها بتأثير قوة خفية، فتسعى جاهدة، وبكل ما أوتيت من رهافة، للبحث عن كنه تلك الطلاوة، التي تحسها متسللة إلى دواخلها. تتحفز-مستنفرة-للإمساك بخيوطها الرفيعة، فلا يتحصل في قبضتها غير السراب..حينذاك تنتصب الأسئلة عملاقة، تتحدى في صلافة، تأبى، إلا أن تشاكس بحثا عن أجوبة تشفي غليلها:
- من أين يكتسب الشعر بهاءه ورونقه؟ - هل من ألفاظه المنتقاة؟- أم من ديباجته وسبكة المتميزين؟- أم من خلال معانيه ورؤاه؟- أم من ذلك الايقاع الخفي، الذي ينهمر في لطف وأناة، فتنقاد له، طوعا ودون ممانعة، حواسنا العطشى، المتيمة ببهاء الكلمة؟- طوقتني هذه الأسئلة وأنا أتصفح ديوان أسماء للشاعر عبد الرزاق جبران، فلم أظفر بما يذهب عن الفؤاد قلقه..عمدت إلى قراءته مرات متعددة، باحثا عن السر الذي يمنح للنص شعريته، سلاحي الوحيد إحساس مرهف، يلتقط النغمة من تضاعيف العبارة، ليستحم تحت شلالها المتدفق، فيما يشبه طقوس العبادة.
حقيقة واحدة فرضت علي سطوتها، ولم أجد دونها خلاصا، أن للكلمات في ديوان أسماء سحرها، حين تنتظم مسربلة بدفء الأحاسيس، تأسر اللب بجزالتها فيتداعى فيض من الصور الشعرية، يطرز، بعشق وافتتان، بهاء اللحظة، لتصبح القراءة فتنة تورطك في اكتناه المعنى المنفلت، كلما توهمت الامساك بتلابيبه، خاتلك، وتوارى خلف الكلمات، يضاهي الظل الذي يقول عنه الشاعر. / يكفيني ظل اسميه. / نسمة هواء أحرثها / كي أشتعل / وأحتفي بجنوني (ص:6)
إنها الذات المثقلة بأحزانها، تمارس لعبة البوح، تنثر تضاعيف نفس مسكونة بقلقها الوجودي ذلك الذي تؤججه الرغبة المستعرة في ثنايا الجسد.. أبدأ لا تتحقق حتى في أرقى الأحلام وأجملها. فلا تجد النفس بدا من الترحال هربا من الخواء المقيت، يأسرها بفتنته المتجددة، فتضرب في الآفاق، مستشرقة الأقاصي، حيث التيه ولا شيء سواه: / أنا الضليل / أجتت خطوي وأهوي / في حمأة الوقت، كرة / ثلج / افتتح عصفي / أمتح الرفض لغة تأتي (ص:8)
وأنت تغوص في أعماق الدلالة المتولدة من الكلمات، تنبثق، فجأة، أسماء بحمولتها التراثية، متأبطة عبق التاريخ، مشبعة، حتى النخاع، بنسغ عروبتها، تنكأ الجرح حينا، وتوقظ الحنين من غفوته حينا آخر، لتعمق في ذات الشاعر مأساة الإنسان العلابي، ذلك الذي ينوء تحت ثقل صحرائه كما يحمل سيزيف صخرته، متدثرا بعريه: / أسماء صحراء / تبطن أرق النخيل / تهز خاصرة الرماد / تاريخنا القتيل (ص:29)
يلتحم الشاعر، في ديوان أسماء، بالحلم في أبهى صوره، ليغترف منه زادا لا ينفد، يسعفه في تأسيس أسطورته الخاصة، قطباها الأساسيان: أسماء القادمة من أغوار التاريخ، و”الهداوي” “المثقل بالوقت” حاملا أحلامه، تكتنفه الحسرة، يمتاح الهباء، رافعا عقيرته بكلمات يتردد صداها في البقاع البعيدة / أيتها الأرض / كيف أصطفيك وطنا / في زمن مأكول / لتكوني / آخر ما أقول (ص:16)
تواصل القراءة العاشقة للديوان، فيأسرك احتفاء الشاعر بعشق صوفي،باللفظة والحرف العربيين، ليتحولا إلى رموز تنفث دلالتها، فتغريك بالانغماس إلى ما لا نهاية، في لعبة التأويل..تتناسل المعاني متدفقة، فلا تملك حينها إلا أن تتماهى مع الشاعر وتشاركه فتنته وغوايته، ولتندلق الكلمات على لسانك بعفوية تامة: / هبني / بيت الأبجدية / كي أكتب هذي المدينة / أجمع السلالة / في لفظة عربية (ص:60)
ومما يضفي على شعر عبد الرزاق جبران جمالية خاصة عملية التناص التي تتوزع على صفحات الديوان، لتتداخل قصائده مع روائع الشعر العربي ممثلا في شعراء مشهورين أمثال عمر بن أبي ربيعة والمرقش الأكبر، فنتابع نموذجا من ذلك التناص مع قول المرقش لأكبر:
قل لأسماء أنجزي الميعادا وانظري أن تزودي منك الزادا
أينما كنت أو حللت بأرض أو بلادا أحييت تلك البلادا
وأقمت للثورة / أعراسا وأعيادا / وإذا مات منا سيد / أيقظت أسيادا (ص|:49)
وختاما لا يسعني إلا أن أقف احتراما لهذا الشاعر الذي توفق إلى حد بعيد في اقتناص اللفظة المناسبة لينسبح مع مثيلاتها سمفونية غنائية، عبرت بكثير من التوهج والتألق على رؤياه المعاصرة مغترفا من التراث الشعري العربي بشاعريته المرهفة، فجاءت قصائده مخضبة بالهم العربي المثخن بالجراح والانتكاسات، موظفا في سبيل تحقيق ذلك إلمامه الجيد بفنون القول الشعري قديمه وحديثه، وهذا بالضبط ما جعل الديوان يتسم بخصيتين ملفتتين للانتباه: أصالة في التعبير، وحداثة في الرؤيا والأحاسيس.

جبران-طi-

الهام
10/06/2007, 02:00 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله الف خير عما تقدمه من معلومات مفيدة
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا ...