المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : زيارة



وديع العبيدي
08/12/2006, 04:42 PM
وديع العبيدي

زيارة

منذ بدء الجلسة وعيناه لا تفارقانها.. ولا يبدو أنه يفكر بأيّ شيء آخر.. ربما غلبه ذلك الشعور الذي قد يكون لمن يقف أمام أميرة فلورنسا.. متأملاً محتاراً أمام السرّ المتواطئ مع عينيها أو براءة الشفة المعقوفة.. فلا تدري أن كانت تبتسم أم تعبر عن ندم ما.. كانت تجلس على مبعدة ثلاثة أمتار منه.. تستقبل بوجهها جهة أخرى.. لا تترك معه مجالاً تلتقي فيه بعينيه الموجهتين نحوها مثل ناظور فضائي أو مدفع 120 ملم وربما صاروخ أرض أرض.. أما هو فلم يكن ليكترث لشيء.. ولا يبدو أنه يفكر بأي شيء.. سوى أظافره التي يصرّ دائماً على تقليمها بأسنانه الأمامية.. وبين فينة وأخرى يتفل شيئاً أمامه في الهواء.. غير مكترث كذلك لمن يكون قبالته.. هي مثلاً هذه المرة، ثم يستمر في القضم.. ثم يمرّر راحة إصبعه الكبير على أطراف أظافر أصابع يده الأخرى ليتحسس النتوءات المتبقية..كان الوقت يمرّ بطيئاً.. رتيباً.. وما يزال لم ينته من قضم الأظافر أو التحديق فيها كما لو أنه يراها للمرة الأولى.

لم يقل شيئاً أو حتى لم يعتذر لمحدثه الجالس قربه وهو يقصّ عليه تفاصيل بطولاته مع مندوب مكتب العمل الذي يصرّ على تنسيبه إلى أعمال التنظيف أو رزم النفايات، والطريقة التي يتظاهر فيها بجهله باللغة أو عدم امتلاك خبرة العمل، لترفضه الشركة وتعيده الى مكتب العمل. ثم يضحك مكركراً.. بخيلاء واضح متهماً أهل البلد بالغباء.. وهو يقول:
- تصوّر.. أي خبرة يحتاجها عامل تنظيف.. فرشاة وسطل. هذا ما يجيده الأتراك واليغسلاف.. الذين بالكاد يعرفون الألفباء أو لا يجيدونها.. هؤلاء أفضل من خريج جامعة عراقي..هه.. أصعب ما في هذه الأعمال البسيطة هو ممارستها في الأسواق الرئيسية ومحطات القطارات.. أما تنظيف المكاتب والعمارات السكنية فينسب غالباً للنساء. ومع ذلك.. فأنا مدين لمندوب العمل هذا.. فعن طريقه رأيت بالعين المجردة شركات كبرى وظيفتها رزم الأزبال وتصريفها. تصور.. شركة ومكاتب ومكائن وعجلات اختصاصية لرزم الأزبال. هل تعرف نوري وقيس..نوري وقيس اللذين يتفاخران بما يتقاضانه من مرتب.. انهما يعملان في قسم تصنيف النفايات.. هل تعرف.. تأتي النفايات الخام كلها على شريط ميكانيكي يقف على جانبيه عمال يتولون فرز كل مادة على جنب.. الحديد.. الخشب.. النايلون.. الزجاج.. الكهربائيات..أحيانا تكون بينها أشياء ثمينة كذلك.. هناك قصص كثيرة.. على كل.. لهما يعود الفضل في تشغيل عدد كبير من المجموعة الحالية التي بقيت لمدة طويلة تعيش على معونة الضمان الاجتماعي..المهمّ..تغير مندوب العمل ذاك.. وحلت محله إمرأة..هي الخبث كله.. سألتني عن كل شيء.. اعتقدت أنها ستساعدني وتتفهم وضعي.. كانت تتصل بالتلفون شخصياً
من أجلي.. وأخيراً.. أخيراً وجدت لي عملاً.. قالت هذا العمل قريب من اختصاصك.. لأننا لا نستطيع تشغيلك باختصاصك بدون معادلة الشهادة..وحتى إذا عادلت الشهادة تبقى مشكلة اللغة والديلكت والكولتور.. ولكن هذا العمل أقرب لاختصاصك.. ولا مجال للرفض.. رفض العمل يعني حرمانك من المعونة الاجتماعية.. تعرف.. وهذه مشكلتك.. طالما لا تستطيع العثور على عمل بمفردك.. المهم.. محاضرة طويلة وسخيفة.. ولكن لم تسأل ما هو العمل؟!!..
كان صاحبه ما يزال يقضم أظافره.. ليس مثل هرّ يتوفز.. ولا يبدو عليه ثمة اكتراث بالحديث.. أخرج أصابعه من فمه، فاعتقد محدثه أنه سيقول شيئاً.. تفل عدة مرات.. تحسس رؤوس أظافره بطرف أصبعه ثم أعادها داخل فمه.. فيما استأنف محدثه سرد قصته..
- مساعد ممرض في مستشفى. أنت لا تصدق.. هه.. ولكن هذه هي الحقيقة.. تعرف ما هو عمل مساعد الممرض.. هه.. دعك من التسمية.. عامل تنظيف صحي.. تبديل ألبسة المرضى.. مساعدة العجزة على قضاء حاجاتهم.. هل صدقت..
- مبروك..مبروك
- أتمزح.. مبروك على ماذا؟.
- ألا تقول أنه عمل قريب من اختصاصك..
- أنا أقول؟.. مندوبة العمل هي التي قالت..
- ولكن ذلك صحيح أيضاً.. أنت الآن تعمل في مستشفى..
- مستشفى!.. هذا عمل لا يحتاج شهادة أو خبرة.. لا يحتاج سوى عضلات.. حمل المرضى من السرير وإعادتهم إليه.. كل مريض يزن ثمانين إلى مائة كيلوغرام..
- على الأقل أنت تعمل مع أطباء هنا.. تتعرف على طرائق العمل.. تكون علاقات مع الأطباء..
- أنت لا تعرف غرور الطبيب النمساوي والبيروقراطية وتتجاهل كراهيتهم للأجانب!.. هل يتنازل طبيب ليتحدث مع عامل أجنبي.. عامل تنظيف مؤخرات العجزة!..

قامت المرأة مسرعة من مكانها ودخلت المطبخ.. فأطرق الرجل أرضاً برهة من الزمن أثر اصطدام نظراته بالفراغ الناجم من غياب المرأة.. تنفست المرأة الصعداء رغم استمرار الآثار الكهرومغنتية على أعصابها وسطح بشرتها الخارجية.. ودّت لو استلقت لنصف ساعة في الحمام أو على ساحل بحر..مثل غريق تعرض للنجاة أثر محاولة انتحار فاشلة..التعب والاعياء يحاصرها..استغرقت وقتاً أكثر من اللازم في المطبخ.. أرسلت نظراتها خلال ذلك عبر النافذة إلى حركة الشارع الغاص بالمارة والسيارات.. وفي انتظار غليان الابريق عادت الى جلستها.. وعاود هو شدّ عينيه إلى أسارير وجهها..حدجته بنظرة خاطفة.. لا علاقة لها بنظراته..أقلع على أثرها عن قضم الأظافر..وصار يفرك راحتي يديه ببعضهما.. ويولي محدثه بعض الاهتمام..قامت المرأة ثانية إلى المطبخ مستجيبة لصفير الابريق..لإعداد القهوة.. عادت وجمعت أقداح العصير وفناجين القهوة والمتبقي من قطع الحلوى على المائدة.. كانت تلك أول زيارة منذ انقطاع طويل..!

فايزة شرف الدين
18/10/2007, 03:33 PM
قراءة الأعمال الإبداعية للغير ، لا شك تثري الفكر ، وخاصة عندما أقرأ بصفتي مصرية ، لغيري من المبدعين العرب ، فنستشعر آلامهم وتلك الغربة التي يحياها كل عربي في وطنه .
تحياتي