المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفنان " رشيد شمّا "- د.شاكر مطلق



الدكتور شاكر مطلق
30/06/2008, 11:48 AM
الفنان " رشيد شمّا "
نصفُ قرنٍ من الوفاءِ للمَضمونِ
وغِواياتِ " الغِشْتالْتْ "

د. شاكر مطلـق

الصديقُ الفنانُ التّشكيلي رشـيد شـما ، مبدعٌ تشكيليٌّ نشِطٌ ، تعرفتُه منذ ما يقارب النصف قرن إلى جانب نخبةٍ من فناني حمص وأُدبائها ، الذين كانت تعجُّ بهم مدينة " ابـن الولـيد " و " ديـك الجـن " ، من أمثال الأصدقاء الفنانينَ التشكيليينَ د.عبد المنان شـما ، فيصـل عجمي ، د. ريكاردو عيسى ، د.غسان سباعي ، المرحوم أحمد دراقي السباعي وغيرهم .
كانت حمصُ ، يومئذٍ ، مدينة وادعةً وديعةً تحلُم ، على ضفاف العاصي ، بحياة يومية مباركة ومعهودةٍ رتيبةٍ . وكان جيلنا ، جيل أحلام التَّقدم والثورة ، ورفْض بقايا الاستعمارِ والأحلافِ ، الطامح إلى وحدة عربية وإلى مستقبل أفضل ، يسير في المظاهرات الصاخبة ضد ( الغرب ) وكل ما يمتُّ له بصلة ، لأنه يريد لبلده الأفضل في كل شيء ، وبخاصة في الإبداع بأشكاله المتنوعة ، متمرداً على الركود والمألوف .
هذا الجيل انبثق منه العديد من المبدعين وفي كل مجالات الإبداع ، وما يزال من بقي منهم حياً ، يعطي وينتج بروح شبابية عالية ، برغم الشيب وآثار أقدام العمر عليه .
لقد استطاع البعضُ منهم أن يخترقَ ، حتى الآن ، في ابداعاته ويعطي ما ليس في الحِسبان سواء في اللوحة أو الأدب وحتى في الموسيقى أيضاً .
كان رشيد دوماً ، الرجلَ الهادئ الذي يحاول ، على القماش أو الورق ، أن يكون شاهداً على عصره ، موثِّقاً لما يراه أمامه من مظاهراتٍ ومن حركةٍ جائشةٍ ، مفعمةٍ بالقلقِ وبالرَّفضِ في المجتمعِ الحمصي حيالَ ما يجري على الساحةِ الوطنية والقوميةِ ، وبخاصةٍ في الأوساطِ الثقافيةِ الشابةِ الطامحةِ للتغيير ، لنراهُ يقفز بحماسٍ ، أحياناً ، إلى أدواتهِ التَّشكيليةِ ليوثِّق بعض حالات الواقعِ والحلم اللتينِ كانتا تعتريانهِ ، شأن الغالبية منا ، بل الجميع .
الموضوعات التي تناولها ( رشيد ) كانت دوماً واضحة المَعالم ، قريبة من حياة الفرد والجماعة ، إلى جانب محاولة خجولةٍ منه لرصد المتغيرات الاجتماعيةِ والسياسية يومئذٍ، كونهُ كانَ بعيداً نسبياً عن المشاركةِ الفعليَّةِ بما كان يجري على أرضِ الواقعِ والشارعِ ، ولكنهُ ظلَّ وفياً _ حتى الآن _ لموضوعاته المتعلقة بالإنسان وبالأرض وبخاصة بمشاهد الطبيعة ، بأشكالها وتجّلّياتها المتعددة ، في بيئةٍ نظيفةٍ سليمةٍ وبسيطة ،شكلاً وإنتاجاً ، يشكل فيها نهرُ ( العاصي ) والبساتين المحيطةُ بهِ فضاءً روحياً وإبداعياً للجميعِ ، تماماً كما كانت البيئةُ الاجتماعية البسيطةُ والبريئةُ تفعلهُ في النفوسِ .
ظلَ رشيدٌ متأرجحاً بين الانطباعيةِ والواقعيةِ ، محاولاً أن يجد المعادلةَ بين الواقعِ المأزومِ وبين الطموحِ المتفائلِ ، في عفويةٍ وبراءةٍ ساذجةٍ تتوهَّمُ المستقبلَ الأفضلَ منطلقاً من بساتينِ العاصي والأزقَّةِ الضَّيقةِ ، المُقنطَرةِ أحياناً ، ومنِ قبابِ حارس حمص " ابن الوليدِ " وغيره العديدَ من الصَّحابةِ والأولياء ، كمعظمنا في تلكَ الأيام ، لكنهُ ظلَّ حائراً بين الوفاءِ للواقعِ المُعاشِ وبينَ إغراءاتِ " الغِشْتالت " ، حيثُ الشكلُ الجديدُ للَّوحةِ يدعو إلى مغامرةِ الولوجِ في أنماطَ أخرى جديدةً من التعبيرِ ، بينما الحاضرُ الملموسُ يدعو إلى ظلالِ المألوفِ الرَّاكدِ ، من وسائلِ التعبيرِ المستهلَكةِ ، والاستكانةِ إليها .
لكنَّ ضرورة الانفتاح على شكل ما ، مغايرٍ يسأل عن المزيد من الدخول في أجواءِ إبداعٍ جديدةٍ ، في اللون والشكل ، وصلتْ به ، وبخاصّةٍ في أعماله الأخيرة ، وبعد عودته من باريس ، إلى حد ولوج المغامرة اللونية ، بكلِ أبعاد الطَّيفِ ، لإضفاء البهجة على اللوحة ، من خلال مزجِ ألوانٍ كانت غريبةً على إبداعاته السابقة القاتمة والمحافظة غالباً ، والانتقال باللَّوحةِ إلى طيف قُزَحٍ جديدٍ ، لا يهاب عرض الألوان الصاخبة والمتناقضة أحياناً على نفس المساحة التَّشكيليَّة .
وإذا تساءلنا عن كيفيةِ أو مشروعية ذلكَ فعلينا أن لا ننسى ما قدمتهُ جماعةُ " الفارس الأزرق " في مجالِ مغامرة " الغِشتالتْ " في الأشكالِ السّرياليةِ وفي اللَّون أيضاً .
في مطلعِ القرنِ العشرين كانت الحركة الفنية التشكيليّةُ في أوروبا تتمركزُ في ( باريس )
وفي ( مونيخ ) _ جنوبي ألمانيا _ ، حيث الفن في حالة تمرد وغليان وتجديد ذاتي ، وكأنهُ يشعر بالخطر القادم مع الحرب الكونية الأولى .
هناكَ ، في ( باريس ) نجد " السريالية " تتبلور وتعلنُ عن ذاتها بـ( الماَنِيفِيستْ السّريالي ) الذي يقدِّمهُ للعالمِ ، الشاعرُ ( أندريه بريتون ) معلناً بدْءَ حركةٍ فنيَّةٍ متمرِّدةٍ ، لعلَّ ( سلفادور دالي ) من أهم رموزها .
وأمّا هنا في ( مونيخ ) فسنجد الفنان _ روسي الأصل _ " كاندينسكي " يعلن عام 1911 ، مع صديقه الألماني الفنانُ المعروف " فرانس مارك " ، قيامَ حركة فنية تحمل اسم " الفارس الأزرق _ Der Blaue Reiter " وينشرا معاً بياناً عن الحركةِ يحمل اسمها ، الذي يوضِّح بالصورةِ والكلمة مراميها ، ويقوما بتقديمها للجمهور من خلال معرِضينِ ، لا تفصلُ بينهما سوى أسابيع قليلة ، شارك فيهما فنَّانونَ مِن روسيا ، ألمانيا ، فرنسا ، وكذلك النمسا من أمثال : ماكه _ شونبرغْ _ مارك _ كانْدينسكي _ براك _ بلوك _ مولر _ بيكاسو _ كوبين ... إلخ
لعلَّ مقولة " كانْدينسكي " عن العامل المحدِّد لقيمةِ العمل الفني وهو ما سماهُ " الحاجة الداخلية " تعطي مقياساً ومعياراً هاماً لنظرةِ هؤلاء المبدعين السرياليِّين إلى الأمور ، من منظور جماعة " الفارس الأزرق " وهي أن : ليست تقنية العمل الفني العالية هي التي تعطيهِ قيمته الفنية ، ولكنها الأشكال ، سارية المفعول ( gueltige Formen ) التي تجعل غير المرئيِّ ، في العمل الفني ، مَرئيَّاً لنا .
على الرغم من طرقِ التَّعبير المختلفةِ بين هؤلاء الفنانين ، فإن ثمةَ صفةً مشتَركةً تجمعهم معاً وهي الخيولَ الزرقاء الجامحة ، المُجَسّدَةِ بالفرشاةِ المُختَرقةِ للمألوفِ كالرُّمح ، ومن خلال ديناميكية الأشكال وسطوع وصفاء تعبير اللون عندهم ، وأخيراً ،وليس آخراً ، ذلك الإشعاعُ الفكري الساحر المنبعث مِن معظم أعمالهم الخالدة .
مثل هذا الإشعاع نراه في بعض أعمال رشيد الفنيةِ كما في عمله الكبير عن الحجيجِ ، الذي يرصدُ ظاهرةً منقرضةً الآنَ في حياتنا بسببِ تطوّر التِّقني وبخاصةٍ ما لحق بوسائل النقل والتَّنقل لمسافاتٍ بعيد’ بوقتٍ قصيرٍ ومريحٍ . لكنَّ هذه الظاهرة ، ظاهرةَ تجمُّعِ الحجيجِ في أماكنَ معيَّنةٍ كدمشقَ والقاهرة وبغداد وغيرهم من الحواضر الشهيرةِ للانطلاقِ بالقوافلِ نحو الأماكن المقدسةِ لأداءِ فريضةِ الحجِّ ، لا تزالُ ماثلةً في الأذهانِ . لقد قدَّمَ الفنانُ لنا في هذه اللَّوحةِ الكبيرةِ صورةً زاخرةً بالحركةِ وبالألوانِ العديدةِ عاكساً بذلكَ واقعَ الحالِ آنَئذٍ ، محيطاً المشهدَ الأساسَ بمجموعةٍ من المشاهدِ الصَّغيرةِ المستمدَّةِ من تراثِ ( الفولكلور) الشَّعبي محاولاً من خلالها أن يؤكِّدَ على خصوصيَّةِ المكانِ وهُويّتهِ .
لقد اعتمدَ رشيدٌ في هذا العمل " الملحَميّ " – كما في بعض أعماله الأخرى – ليس على المخزون الثّقافيّ المَوروثِ فحسب ، وإنّما على الحَدْسِ الفنيِّ أيضاً ، فالحَدْسُ أولُ مراتبِ الكشفِ ، فإذا تقدَّمتهُ الصورةُ الحسيةُ حصلَ التَّجاوبُ والتفاعلُ المؤدّي إلى المشتقّاتِ المَرئيَّةِ ، على غرارِ المُشتقَّاتِ الصَّوتيةِ –كما يحدثُ في اللغةِ _ ( للمزيد حول هذه النقطة انظر كتاب صلاح الدين الزعبلاوي " مذاهب وأراء في نشوءِ اللغةِ وتدرج معانيها " الصادر في دمشق ، دار المجد ط1 2000 /11 / 1989)
وهذا يتضمنُ أيضاً الخيالَ المرئيَّ الذي يحققُ فيه الفنانُ أفكارَهُ مِن خلال ما يبدعهُ مِن صورٍ فنيةٍ بالمساومةِ المتوازنةِ بينَ طبيعةِ إحساسهِ وحقيقةِ حدسهِ الكونيِّ ، فالكون ، مِن خلالِ تتابُعِ مثلِ هذه اللحظاتِ الكاشفةِ ، يصبحُ أيضاً اللاَّديمومةَ المستمرةَ .
مثل هذا رأيناه أيضاً في أكثرَ من لوحةٍ عن الطبيعةِ الأمِّ التي تغري الفنانَ برصدِ ألوانها وتبدُّلِ طيفها من خلالِ دورةِ الشمسِ والحياةِ ، التي تسحرنا آنَ نشاهدُ ، في الطّريقِ إلى دمشقَ مثلاً ، لعبةَ اللَّونِ المُثيرةَ على جبالِ " يبرودَ " معَ الصَّباحِ أو الغروبِ أو لعبةَ اللَّونِ والشَّكلِ على سطحِ البحر والغيومِ عندَ المساءِ .
في مجموعتي الفنية التي تضم الكثير من أعمال الفنانين في هذا الوطن مثلَ : لؤي كيالي _ فاتح المدرِّس _ نصير شورى _ د. عبد المنان شما _ د. غسان سباعي _ بسام جبيلي ... إلخ ، وكذلك أعمال بعض الفنانين الأجانب ، وبخاصة الألمان ، هناك عدد لا بأس به من ريشة الفنانِ " رشيد شما " ، تَرصُد _ كما أرى _ المراحِلَ المختلفةَ في مسيرته الفنية ، بدءاً من لوحة (المظاهرة) المائيةِ التي رسمها بالألوان المائيةِ قبلَ أكثرَ من أربعةِ عقودٍ والتي اصطحبتها معي إلى ألمانيا وأهديتها هناكَ _ حسب ما ذكرني به رشيد _ إلى أحدِ أساتذتي وتوجدُ في حوزةِ الفنانِ نسخةٌ زيتيةٌ عنها كما أعلَمني ، مروراً بلوحة ( الفزَّاعة ) _ قاتمة الألوان _ التي صوِّرَ فيها الفنّانُ المشهدَ المَعروفَ لإبعادِ الطيورِ في الحقول عن البذارِ وإخافتها ِ ، وذلك في جوٍ عاصفٍ مكفَهرٍّ ، تؤطِّرُه ألوانٌ قاتمةٌ تثيرُ الحزنَ والأسى في النفوسِ ، وكأنها تُنبي عن قربِ وقوعِ فاجعةً ما ستَطالُ الإنسانَ ، ولو كان هذا الإنسانُ مُرمَّزاً على شكلِ دُميةٍ تلهو وتعبثُ بها الرّيحُ ، غير أنّها لا تستطيعُ أن تطردَ طيورَ الشَّرِ عن البذارِ المبارَكِ ، ولا مشاعرَ الحزنِ الشَّفيفِ عن النَّفسِ المرهَفةِ ، التي ترى في مثلِ هذه الأعمالِ وفي غيرها من الإبداعاتِ سواء ًفي الشعر أو الموسيقى ، اِنزياحاً ما للطَّيف ِالشُّعوري عند المتلقّي ، ولو من دونِ قصدٍ مسبَقٍ .
عن مثل هذه الحالاتِ نستطيع أن نورد نصاً نثرياً يدعى ( التّجربة ) للشاعر ، التشيكيِّ الأصل ، راينَر ماريا ريلكه ، الذي أورده " كولن ولسون " في كتابه " سقوط الحضارة " الصادر بترجمةٍ من أنيس زكي حسن في بيروت _ لبنان عام 1959/ط1 ، يقول فيه عن نفسهِ ، وكان مستلقياً تحت إحدى أشجار حديقة قلعة " دوينو " :
( ... قد تغلغل في الطبيعة تماماً ، في تأمُلٍ لا مُدرَكٍ تقريباً ، وبدأت مشاعرُه تستيقظُ شيئاً فشيئاً على إحساسٍ لم يسبق له أن أحَسَّ به من قبلُ : إذْ لاحَ لهُ وكأن موجاتٍ لم يكن يفهمها كانت تنتقلُ إليه من باطن الشجرة ... ولاح له أنَّ جسده لم يمتلئْ مِن قبْلُ بمثلِ تلك التياراتِ اللَّطيفةِ ، بل أنَّ جسدهُ لاحظّ له وكأنه صارَ روحاً ... وقد ...تساءل عما حدثَ له في ذلك الحين ، واستطاع أن يجدَ تعليلاً مقنعاً في الحال ، إذ قالَ لنفسه أنه كان قد انتقل إلى الناحية الأخرى من الطبيعة ... )
هذا هو التَّماهي في الطبيعة الذي يعطي التعبيرَ الفنِّي ، في كل أشكالِ الإبداعِ بُعْداً لا مرئياً أحياناً ،غيرَ أنهُ لن يكونَ بعيداً عن مِجسَّاتِ الروحِ للمتأمِّلِ العارفِ .
تضم مجموعتي أيضاً _ من أعمالِ رشيد _ لوحةً هامةً ، حسبَ رأيي ، متميزةً في الشكلِ والمضمونِ تسمى ( الفتى ) ، قدَّمَ فيها الفنانُ لنا رؤيتهُ لواقعِ الإنسانِ المقموعِ المعذَّبِ من خلالِ شكلٍ جانبيٍّ أبيضٍ خالٍ من الأولانِ تماماً رافعاً يديهِ نحوَ السماءِ تحيطُ به خلفيةٌ من الأولانِ الدَّاكنةِ في جُلِها وكأنها تحدِّثنا عن مأساة إنسان العصر المقموعِ ، شبه المصلوبِ على صليبِ واقعٍ مفترسٍ للإنسانِ وأحلامه ، لكنهُ رافعَ الرأسِ ، ناظراً إلى البعيدِ وكأنهُ ينتظرُ خلاصاً مستقبلياً ، قادماً من تخومِ الحلمِ بمستقبلٍ أفضلَ وبخلاصٍ مُرتَقبٍ .
لقد استعارَ الفنانُ هذه اللـَّوحةَ بالذَّاتِ _ من مجموعتي _ ليعرضها في " موســكو "
_ الاشتراكيةِ يومها _ وفي أماكنَ أخرى ، مما يدلُّ على مدى اقتناعِ واعتزازِ الفنانِ بها .
ومن أعماله المميزةِ والمتميِّزةِ أيضاً ، من ضمن مجموعتي الفنيةِ ، لوحةٌ صغيرةٌ لعنزةٍ صغيرةٍ تقفز أمام خيمةٍ في العراءِ ، وكأنها تلتجئ ُ إليها هروباً من خطرٍ مداهمٍ ومفاجئ. المشهدُ _ كما عرفتُ من الفنانِ _ منذ أكثرَ من ربعِ قرنٍ تمَّ تشخيصهُ في مكانٍ ما من باديةِ ( تدمر) إبانَ تساقطِ الثُّلوجِ ، النادرةِ هناكَ .
تتميز اللَّوحةُ هذه ، ليس بطرافة المشهد فحسب ، وإنما بتلك ( السِّيمفونية ) اللونية التي تعطي
تَبايناً ( كونترستناً ) جميلاً على قاعدة بيضاء محايدةٍ ، لا تزال ، حتى الآنَ ، تثير لديَّ الراحةَ والإعجابَ والسُّرورَ أيضاً .
لا أدري إذا كان لفترة دراسته في القاهرة ، حقاً ، تأثيرٌ كبيرٌ ، غير تقنيٍّ ، على إبداعه _ فأنا لم أعاصر تلكَ المرحلة _ لأنني كنتُ أدرسُ الطبَّ في ألمانيا الاتحاديةِ ، يومئذ ، بعد أن قررت ذلك ، ولم أكن أصلاً قد ذهبت لأجل الطب إلى هناك ، وإنما لدراسة الفلسفة وعلم النفس ، ولأنني أحمل ، بتفوق ، شهادة " البكالوريا " _ االثَّانوية _ الأدبية ( فلسفة ولغات ) .
غير أنني أستطيع أن أقولَ بثقةِ الواثقِ ، أنَّ " مرحلةَ باريس " ، بالرُّغمِ من قِصرها ، قد أفادت الفنان رشيد كثيراً ، لا من حيث ما قاله ( أبو تمامٍ ) فحسب : ... فاغترب تتجدَّد ِ .
وإنما من حيث إعادة النظر في مسيرته الفنية ، تقنيَّاً ، وإلى حدٍ ما مضموناً أيضاً ، حيث ظلَّ الفنانُ بعدها حاملاً لواءَهُ القديمَ المرتفعَ وفاءً للمضمونِ ، لكنهُ ليسَ بعيداً عن الاستعدادِ للدخول في لعبة
( الغِشتالتِ - Gestalt ) وتبدّلاتِ الشكلِ الفنيِّ للَّوحةِ ، دون أن يصل بها ومن خلالها إلى فضاءات التجريد ، و دائرة الاختزالِ المخاتلةِ المراوغةِ ، البعيدةِ عنْ رؤياهُ الأيديولوجيةِ.
يظلُّ " رشيد شما " اسماً معروفاً على الساحة الفنية الوطنية ، وربما القومية أيضاً ، يعطي ويشارك في المعارض الداخلية والخارجية ، بعد أن قدَّم العديد من المعارض الفردية ، ويظل يبحث ، في زحمة الحياة اليومية وإرهاصاتها ، عمَّا هو جميلٌ وأصيلٌ ، مرتبطٌ بحياةِ الناس وأحلامهم ، بعيداً ن إشكاليات الحداثةِ وغواياتها ، التي قد تقود ، لا إلى ( الغموض المحبَّب ) ، كما قال ذات يوم الأديب المرحوم " جبرا ابراهيم جبرا " عن القصيدة ، وإنما إلى الإبهام والانغلاقِ ، فهذا ليس من شأن " رشيد شما " الفنان الوديع الذي لا يزال ، كما عرفته منذ حوالي نصف قرن ، ملتصقاً بالأرض ، بالطبيعة ، وقبل كل شيء بإنسان مجتمعه ، وبكل ما يحمله من آلام وأحلام ٍ وانكساراتٍ أيضاً .
أختتم تقديمي المتواضعِ والسَّريعِ عن التجربة الفنية للصديقِ المبدعِ الفنان رشيد شمَّه ، بإهدائهِ وإهداءِ كلِّ الأصدقاءِ المبدعين " ومضةً " من شعري ،حاولت فيها أن أناقشَ مسألة الظِّلال والأشكال وتجلِّياتِ " الغِشتالت " في الفن :

ومضةٌ للعبةِ الظِّلال

هل تَدخُلُ الظِّلال يوماً
لعبةَ الأشكالْ ؟
تَصيرُ _ إذْ تدورْ _
دائرةً صوفيّةً في حَضرةِ المكانْ
تحتَلّ ، في انتشارها ، مربَّعَ الأزمانْ
وتنتهي ، حائرةً ، كنقطةٍ عمياءْ
تجول في السُّطورْ
كأنها نهايةٌ لطوْطَمٍ مَسحورْ
تنهارُ في السؤالْ
عن بُؤْرةِ الخيالْ
لا تعرف الإملاءَ والبُحورْ
وكيف للأحوالْ
أنْ تختُمَ التَّجوالْ
في عالمٍ مَشطورْ ؟ !…
===============

حمص - سورية 20/ 12 / 2002 د. شاكر مطلق
E.-Mail:mutlak@scs-net.org

الدكتور شاكر مطلق
30/06/2008, 11:48 AM
الفنان " رشيد شمّا "
نصفُ قرنٍ من الوفاءِ للمَضمونِ
وغِواياتِ " الغِشْتالْتْ "

د. شاكر مطلـق

الصديقُ الفنانُ التّشكيلي رشـيد شـما ، مبدعٌ تشكيليٌّ نشِطٌ ، تعرفتُه منذ ما يقارب النصف قرن إلى جانب نخبةٍ من فناني حمص وأُدبائها ، الذين كانت تعجُّ بهم مدينة " ابـن الولـيد " و " ديـك الجـن " ، من أمثال الأصدقاء الفنانينَ التشكيليينَ د.عبد المنان شـما ، فيصـل عجمي ، د. ريكاردو عيسى ، د.غسان سباعي ، المرحوم أحمد دراقي السباعي وغيرهم .
كانت حمصُ ، يومئذٍ ، مدينة وادعةً وديعةً تحلُم ، على ضفاف العاصي ، بحياة يومية مباركة ومعهودةٍ رتيبةٍ . وكان جيلنا ، جيل أحلام التَّقدم والثورة ، ورفْض بقايا الاستعمارِ والأحلافِ ، الطامح إلى وحدة عربية وإلى مستقبل أفضل ، يسير في المظاهرات الصاخبة ضد ( الغرب ) وكل ما يمتُّ له بصلة ، لأنه يريد لبلده الأفضل في كل شيء ، وبخاصة في الإبداع بأشكاله المتنوعة ، متمرداً على الركود والمألوف .
هذا الجيل انبثق منه العديد من المبدعين وفي كل مجالات الإبداع ، وما يزال من بقي منهم حياً ، يعطي وينتج بروح شبابية عالية ، برغم الشيب وآثار أقدام العمر عليه .
لقد استطاع البعضُ منهم أن يخترقَ ، حتى الآن ، في ابداعاته ويعطي ما ليس في الحِسبان سواء في اللوحة أو الأدب وحتى في الموسيقى أيضاً .
كان رشيد دوماً ، الرجلَ الهادئ الذي يحاول ، على القماش أو الورق ، أن يكون شاهداً على عصره ، موثِّقاً لما يراه أمامه من مظاهراتٍ ومن حركةٍ جائشةٍ ، مفعمةٍ بالقلقِ وبالرَّفضِ في المجتمعِ الحمصي حيالَ ما يجري على الساحةِ الوطنية والقوميةِ ، وبخاصةٍ في الأوساطِ الثقافيةِ الشابةِ الطامحةِ للتغيير ، لنراهُ يقفز بحماسٍ ، أحياناً ، إلى أدواتهِ التَّشكيليةِ ليوثِّق بعض حالات الواقعِ والحلم اللتينِ كانتا تعتريانهِ ، شأن الغالبية منا ، بل الجميع .
الموضوعات التي تناولها ( رشيد ) كانت دوماً واضحة المَعالم ، قريبة من حياة الفرد والجماعة ، إلى جانب محاولة خجولةٍ منه لرصد المتغيرات الاجتماعيةِ والسياسية يومئذٍ، كونهُ كانَ بعيداً نسبياً عن المشاركةِ الفعليَّةِ بما كان يجري على أرضِ الواقعِ والشارعِ ، ولكنهُ ظلَّ وفياً _ حتى الآن _ لموضوعاته المتعلقة بالإنسان وبالأرض وبخاصة بمشاهد الطبيعة ، بأشكالها وتجّلّياتها المتعددة ، في بيئةٍ نظيفةٍ سليمةٍ وبسيطة ،شكلاً وإنتاجاً ، يشكل فيها نهرُ ( العاصي ) والبساتين المحيطةُ بهِ فضاءً روحياً وإبداعياً للجميعِ ، تماماً كما كانت البيئةُ الاجتماعية البسيطةُ والبريئةُ تفعلهُ في النفوسِ .
ظلَ رشيدٌ متأرجحاً بين الانطباعيةِ والواقعيةِ ، محاولاً أن يجد المعادلةَ بين الواقعِ المأزومِ وبين الطموحِ المتفائلِ ، في عفويةٍ وبراءةٍ ساذجةٍ تتوهَّمُ المستقبلَ الأفضلَ منطلقاً من بساتينِ العاصي والأزقَّةِ الضَّيقةِ ، المُقنطَرةِ أحياناً ، ومنِ قبابِ حارس حمص " ابن الوليدِ " وغيره العديدَ من الصَّحابةِ والأولياء ، كمعظمنا في تلكَ الأيام ، لكنهُ ظلَّ حائراً بين الوفاءِ للواقعِ المُعاشِ وبينَ إغراءاتِ " الغِشْتالت " ، حيثُ الشكلُ الجديدُ للَّوحةِ يدعو إلى مغامرةِ الولوجِ في أنماطَ أخرى جديدةً من التعبيرِ ، بينما الحاضرُ الملموسُ يدعو إلى ظلالِ المألوفِ الرَّاكدِ ، من وسائلِ التعبيرِ المستهلَكةِ ، والاستكانةِ إليها .
لكنَّ ضرورة الانفتاح على شكل ما ، مغايرٍ يسأل عن المزيد من الدخول في أجواءِ إبداعٍ جديدةٍ ، في اللون والشكل ، وصلتْ به ، وبخاصّةٍ في أعماله الأخيرة ، وبعد عودته من باريس ، إلى حد ولوج المغامرة اللونية ، بكلِ أبعاد الطَّيفِ ، لإضفاء البهجة على اللوحة ، من خلال مزجِ ألوانٍ كانت غريبةً على إبداعاته السابقة القاتمة والمحافظة غالباً ، والانتقال باللَّوحةِ إلى طيف قُزَحٍ جديدٍ ، لا يهاب عرض الألوان الصاخبة والمتناقضة أحياناً على نفس المساحة التَّشكيليَّة .
وإذا تساءلنا عن كيفيةِ أو مشروعية ذلكَ فعلينا أن لا ننسى ما قدمتهُ جماعةُ " الفارس الأزرق " في مجالِ مغامرة " الغِشتالتْ " في الأشكالِ السّرياليةِ وفي اللَّون أيضاً .
في مطلعِ القرنِ العشرين كانت الحركة الفنية التشكيليّةُ في أوروبا تتمركزُ في ( باريس )
وفي ( مونيخ ) _ جنوبي ألمانيا _ ، حيث الفن في حالة تمرد وغليان وتجديد ذاتي ، وكأنهُ يشعر بالخطر القادم مع الحرب الكونية الأولى .
هناكَ ، في ( باريس ) نجد " السريالية " تتبلور وتعلنُ عن ذاتها بـ( الماَنِيفِيستْ السّريالي ) الذي يقدِّمهُ للعالمِ ، الشاعرُ ( أندريه بريتون ) معلناً بدْءَ حركةٍ فنيَّةٍ متمرِّدةٍ ، لعلَّ ( سلفادور دالي ) من أهم رموزها .
وأمّا هنا في ( مونيخ ) فسنجد الفنان _ روسي الأصل _ " كاندينسكي " يعلن عام 1911 ، مع صديقه الألماني الفنانُ المعروف " فرانس مارك " ، قيامَ حركة فنية تحمل اسم " الفارس الأزرق _ Der Blaue Reiter " وينشرا معاً بياناً عن الحركةِ يحمل اسمها ، الذي يوضِّح بالصورةِ والكلمة مراميها ، ويقوما بتقديمها للجمهور من خلال معرِضينِ ، لا تفصلُ بينهما سوى أسابيع قليلة ، شارك فيهما فنَّانونَ مِن روسيا ، ألمانيا ، فرنسا ، وكذلك النمسا من أمثال : ماكه _ شونبرغْ _ مارك _ كانْدينسكي _ براك _ بلوك _ مولر _ بيكاسو _ كوبين ... إلخ
لعلَّ مقولة " كانْدينسكي " عن العامل المحدِّد لقيمةِ العمل الفني وهو ما سماهُ " الحاجة الداخلية " تعطي مقياساً ومعياراً هاماً لنظرةِ هؤلاء المبدعين السرياليِّين إلى الأمور ، من منظور جماعة " الفارس الأزرق " وهي أن : ليست تقنية العمل الفني العالية هي التي تعطيهِ قيمته الفنية ، ولكنها الأشكال ، سارية المفعول ( gueltige Formen ) التي تجعل غير المرئيِّ ، في العمل الفني ، مَرئيَّاً لنا .
على الرغم من طرقِ التَّعبير المختلفةِ بين هؤلاء الفنانين ، فإن ثمةَ صفةً مشتَركةً تجمعهم معاً وهي الخيولَ الزرقاء الجامحة ، المُجَسّدَةِ بالفرشاةِ المُختَرقةِ للمألوفِ كالرُّمح ، ومن خلال ديناميكية الأشكال وسطوع وصفاء تعبير اللون عندهم ، وأخيراً ،وليس آخراً ، ذلك الإشعاعُ الفكري الساحر المنبعث مِن معظم أعمالهم الخالدة .
مثل هذا الإشعاع نراه في بعض أعمال رشيد الفنيةِ كما في عمله الكبير عن الحجيجِ ، الذي يرصدُ ظاهرةً منقرضةً الآنَ في حياتنا بسببِ تطوّر التِّقني وبخاصةٍ ما لحق بوسائل النقل والتَّنقل لمسافاتٍ بعيد’ بوقتٍ قصيرٍ ومريحٍ . لكنَّ هذه الظاهرة ، ظاهرةَ تجمُّعِ الحجيجِ في أماكنَ معيَّنةٍ كدمشقَ والقاهرة وبغداد وغيرهم من الحواضر الشهيرةِ للانطلاقِ بالقوافلِ نحو الأماكن المقدسةِ لأداءِ فريضةِ الحجِّ ، لا تزالُ ماثلةً في الأذهانِ . لقد قدَّمَ الفنانُ لنا في هذه اللَّوحةِ الكبيرةِ صورةً زاخرةً بالحركةِ وبالألوانِ العديدةِ عاكساً بذلكَ واقعَ الحالِ آنَئذٍ ، محيطاً المشهدَ الأساسَ بمجموعةٍ من المشاهدِ الصَّغيرةِ المستمدَّةِ من تراثِ ( الفولكلور) الشَّعبي محاولاً من خلالها أن يؤكِّدَ على خصوصيَّةِ المكانِ وهُويّتهِ .
لقد اعتمدَ رشيدٌ في هذا العمل " الملحَميّ " – كما في بعض أعماله الأخرى – ليس على المخزون الثّقافيّ المَوروثِ فحسب ، وإنّما على الحَدْسِ الفنيِّ أيضاً ، فالحَدْسُ أولُ مراتبِ الكشفِ ، فإذا تقدَّمتهُ الصورةُ الحسيةُ حصلَ التَّجاوبُ والتفاعلُ المؤدّي إلى المشتقّاتِ المَرئيَّةِ ، على غرارِ المُشتقَّاتِ الصَّوتيةِ –كما يحدثُ في اللغةِ _ ( للمزيد حول هذه النقطة انظر كتاب صلاح الدين الزعبلاوي " مذاهب وأراء في نشوءِ اللغةِ وتدرج معانيها " الصادر في دمشق ، دار المجد ط1 2000 /11 / 1989)
وهذا يتضمنُ أيضاً الخيالَ المرئيَّ الذي يحققُ فيه الفنانُ أفكارَهُ مِن خلال ما يبدعهُ مِن صورٍ فنيةٍ بالمساومةِ المتوازنةِ بينَ طبيعةِ إحساسهِ وحقيقةِ حدسهِ الكونيِّ ، فالكون ، مِن خلالِ تتابُعِ مثلِ هذه اللحظاتِ الكاشفةِ ، يصبحُ أيضاً اللاَّديمومةَ المستمرةَ .
مثل هذا رأيناه أيضاً في أكثرَ من لوحةٍ عن الطبيعةِ الأمِّ التي تغري الفنانَ برصدِ ألوانها وتبدُّلِ طيفها من خلالِ دورةِ الشمسِ والحياةِ ، التي تسحرنا آنَ نشاهدُ ، في الطّريقِ إلى دمشقَ مثلاً ، لعبةَ اللَّونِ المُثيرةَ على جبالِ " يبرودَ " معَ الصَّباحِ أو الغروبِ أو لعبةَ اللَّونِ والشَّكلِ على سطحِ البحر والغيومِ عندَ المساءِ .
في مجموعتي الفنية التي تضم الكثير من أعمال الفنانين في هذا الوطن مثلَ : لؤي كيالي _ فاتح المدرِّس _ نصير شورى _ د. عبد المنان شما _ د. غسان سباعي _ بسام جبيلي ... إلخ ، وكذلك أعمال بعض الفنانين الأجانب ، وبخاصة الألمان ، هناك عدد لا بأس به من ريشة الفنانِ " رشيد شما " ، تَرصُد _ كما أرى _ المراحِلَ المختلفةَ في مسيرته الفنية ، بدءاً من لوحة (المظاهرة) المائيةِ التي رسمها بالألوان المائيةِ قبلَ أكثرَ من أربعةِ عقودٍ والتي اصطحبتها معي إلى ألمانيا وأهديتها هناكَ _ حسب ما ذكرني به رشيد _ إلى أحدِ أساتذتي وتوجدُ في حوزةِ الفنانِ نسخةٌ زيتيةٌ عنها كما أعلَمني ، مروراً بلوحة ( الفزَّاعة ) _ قاتمة الألوان _ التي صوِّرَ فيها الفنّانُ المشهدَ المَعروفَ لإبعادِ الطيورِ في الحقول عن البذارِ وإخافتها ِ ، وذلك في جوٍ عاصفٍ مكفَهرٍّ ، تؤطِّرُه ألوانٌ قاتمةٌ تثيرُ الحزنَ والأسى في النفوسِ ، وكأنها تُنبي عن قربِ وقوعِ فاجعةً ما ستَطالُ الإنسانَ ، ولو كان هذا الإنسانُ مُرمَّزاً على شكلِ دُميةٍ تلهو وتعبثُ بها الرّيحُ ، غير أنّها لا تستطيعُ أن تطردَ طيورَ الشَّرِ عن البذارِ المبارَكِ ، ولا مشاعرَ الحزنِ الشَّفيفِ عن النَّفسِ المرهَفةِ ، التي ترى في مثلِ هذه الأعمالِ وفي غيرها من الإبداعاتِ سواء ًفي الشعر أو الموسيقى ، اِنزياحاً ما للطَّيف ِالشُّعوري عند المتلقّي ، ولو من دونِ قصدٍ مسبَقٍ .
عن مثل هذه الحالاتِ نستطيع أن نورد نصاً نثرياً يدعى ( التّجربة ) للشاعر ، التشيكيِّ الأصل ، راينَر ماريا ريلكه ، الذي أورده " كولن ولسون " في كتابه " سقوط الحضارة " الصادر بترجمةٍ من أنيس زكي حسن في بيروت _ لبنان عام 1959/ط1 ، يقول فيه عن نفسهِ ، وكان مستلقياً تحت إحدى أشجار حديقة قلعة " دوينو " :
( ... قد تغلغل في الطبيعة تماماً ، في تأمُلٍ لا مُدرَكٍ تقريباً ، وبدأت مشاعرُه تستيقظُ شيئاً فشيئاً على إحساسٍ لم يسبق له أن أحَسَّ به من قبلُ : إذْ لاحَ لهُ وكأن موجاتٍ لم يكن يفهمها كانت تنتقلُ إليه من باطن الشجرة ... ولاح له أنَّ جسده لم يمتلئْ مِن قبْلُ بمثلِ تلك التياراتِ اللَّطيفةِ ، بل أنَّ جسدهُ لاحظّ له وكأنه صارَ روحاً ... وقد ...تساءل عما حدثَ له في ذلك الحين ، واستطاع أن يجدَ تعليلاً مقنعاً في الحال ، إذ قالَ لنفسه أنه كان قد انتقل إلى الناحية الأخرى من الطبيعة ... )
هذا هو التَّماهي في الطبيعة الذي يعطي التعبيرَ الفنِّي ، في كل أشكالِ الإبداعِ بُعْداً لا مرئياً أحياناً ،غيرَ أنهُ لن يكونَ بعيداً عن مِجسَّاتِ الروحِ للمتأمِّلِ العارفِ .
تضم مجموعتي أيضاً _ من أعمالِ رشيد _ لوحةً هامةً ، حسبَ رأيي ، متميزةً في الشكلِ والمضمونِ تسمى ( الفتى ) ، قدَّمَ فيها الفنانُ لنا رؤيتهُ لواقعِ الإنسانِ المقموعِ المعذَّبِ من خلالِ شكلٍ جانبيٍّ أبيضٍ خالٍ من الأولانِ تماماً رافعاً يديهِ نحوَ السماءِ تحيطُ به خلفيةٌ من الأولانِ الدَّاكنةِ في جُلِها وكأنها تحدِّثنا عن مأساة إنسان العصر المقموعِ ، شبه المصلوبِ على صليبِ واقعٍ مفترسٍ للإنسانِ وأحلامه ، لكنهُ رافعَ الرأسِ ، ناظراً إلى البعيدِ وكأنهُ ينتظرُ خلاصاً مستقبلياً ، قادماً من تخومِ الحلمِ بمستقبلٍ أفضلَ وبخلاصٍ مُرتَقبٍ .
لقد استعارَ الفنانُ هذه اللـَّوحةَ بالذَّاتِ _ من مجموعتي _ ليعرضها في " موســكو "
_ الاشتراكيةِ يومها _ وفي أماكنَ أخرى ، مما يدلُّ على مدى اقتناعِ واعتزازِ الفنانِ بها .
ومن أعماله المميزةِ والمتميِّزةِ أيضاً ، من ضمن مجموعتي الفنيةِ ، لوحةٌ صغيرةٌ لعنزةٍ صغيرةٍ تقفز أمام خيمةٍ في العراءِ ، وكأنها تلتجئ ُ إليها هروباً من خطرٍ مداهمٍ ومفاجئ. المشهدُ _ كما عرفتُ من الفنانِ _ منذ أكثرَ من ربعِ قرنٍ تمَّ تشخيصهُ في مكانٍ ما من باديةِ ( تدمر) إبانَ تساقطِ الثُّلوجِ ، النادرةِ هناكَ .
تتميز اللَّوحةُ هذه ، ليس بطرافة المشهد فحسب ، وإنما بتلك ( السِّيمفونية ) اللونية التي تعطي
تَبايناً ( كونترستناً ) جميلاً على قاعدة بيضاء محايدةٍ ، لا تزال ، حتى الآنَ ، تثير لديَّ الراحةَ والإعجابَ والسُّرورَ أيضاً .
لا أدري إذا كان لفترة دراسته في القاهرة ، حقاً ، تأثيرٌ كبيرٌ ، غير تقنيٍّ ، على إبداعه _ فأنا لم أعاصر تلكَ المرحلة _ لأنني كنتُ أدرسُ الطبَّ في ألمانيا الاتحاديةِ ، يومئذ ، بعد أن قررت ذلك ، ولم أكن أصلاً قد ذهبت لأجل الطب إلى هناك ، وإنما لدراسة الفلسفة وعلم النفس ، ولأنني أحمل ، بتفوق ، شهادة " البكالوريا " _ االثَّانوية _ الأدبية ( فلسفة ولغات ) .
غير أنني أستطيع أن أقولَ بثقةِ الواثقِ ، أنَّ " مرحلةَ باريس " ، بالرُّغمِ من قِصرها ، قد أفادت الفنان رشيد كثيراً ، لا من حيث ما قاله ( أبو تمامٍ ) فحسب : ... فاغترب تتجدَّد ِ .
وإنما من حيث إعادة النظر في مسيرته الفنية ، تقنيَّاً ، وإلى حدٍ ما مضموناً أيضاً ، حيث ظلَّ الفنانُ بعدها حاملاً لواءَهُ القديمَ المرتفعَ وفاءً للمضمونِ ، لكنهُ ليسَ بعيداً عن الاستعدادِ للدخول في لعبة
( الغِشتالتِ - Gestalt ) وتبدّلاتِ الشكلِ الفنيِّ للَّوحةِ ، دون أن يصل بها ومن خلالها إلى فضاءات التجريد ، و دائرة الاختزالِ المخاتلةِ المراوغةِ ، البعيدةِ عنْ رؤياهُ الأيديولوجيةِ.
يظلُّ " رشيد شما " اسماً معروفاً على الساحة الفنية الوطنية ، وربما القومية أيضاً ، يعطي ويشارك في المعارض الداخلية والخارجية ، بعد أن قدَّم العديد من المعارض الفردية ، ويظل يبحث ، في زحمة الحياة اليومية وإرهاصاتها ، عمَّا هو جميلٌ وأصيلٌ ، مرتبطٌ بحياةِ الناس وأحلامهم ، بعيداً ن إشكاليات الحداثةِ وغواياتها ، التي قد تقود ، لا إلى ( الغموض المحبَّب ) ، كما قال ذات يوم الأديب المرحوم " جبرا ابراهيم جبرا " عن القصيدة ، وإنما إلى الإبهام والانغلاقِ ، فهذا ليس من شأن " رشيد شما " الفنان الوديع الذي لا يزال ، كما عرفته منذ حوالي نصف قرن ، ملتصقاً بالأرض ، بالطبيعة ، وقبل كل شيء بإنسان مجتمعه ، وبكل ما يحمله من آلام وأحلام ٍ وانكساراتٍ أيضاً .
أختتم تقديمي المتواضعِ والسَّريعِ عن التجربة الفنية للصديقِ المبدعِ الفنان رشيد شمَّه ، بإهدائهِ وإهداءِ كلِّ الأصدقاءِ المبدعين " ومضةً " من شعري ،حاولت فيها أن أناقشَ مسألة الظِّلال والأشكال وتجلِّياتِ " الغِشتالت " في الفن :

ومضةٌ للعبةِ الظِّلال

هل تَدخُلُ الظِّلال يوماً
لعبةَ الأشكالْ ؟
تَصيرُ _ إذْ تدورْ _
دائرةً صوفيّةً في حَضرةِ المكانْ
تحتَلّ ، في انتشارها ، مربَّعَ الأزمانْ
وتنتهي ، حائرةً ، كنقطةٍ عمياءْ
تجول في السُّطورْ
كأنها نهايةٌ لطوْطَمٍ مَسحورْ
تنهارُ في السؤالْ
عن بُؤْرةِ الخيالْ
لا تعرف الإملاءَ والبُحورْ
وكيف للأحوالْ
أنْ تختُمَ التَّجوالْ
في عالمٍ مَشطورْ ؟ !…
===============

حمص - سورية 20/ 12 / 2002 د. شاكر مطلق
E.-Mail:mutlak@scs-net.org