المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هيئة بنت جبيل الثقافية تنعى الدكتور المسيري



محمد حسين بزي
03/07/2008, 01:55 PM
المسيري إلى عالم الخلود

بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيتها النفس المطمئنة * إرجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
صدق الله العلي العظيم
بقلوب ملؤها الحزن .... وبألسنة عاجزة عن النطق بما يجول في النفس و بمزيد من التسليم بقضائه تعالى تنعى ؛
دار الأمير للثقافة والعلوم و هيئة بنت جبيل الخيرية الثقافية " هبة " إليكم أحد كبار المؤسسين والداعمين لهيئة بنت جبيل الخيرية الثقافية .


المفكر العربي الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري

الذي انتقل إلى رحمته تعالى يوم الخميس 3/7/2008 ، بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز الـ 70 عاما.

وفاضت روحه الطاهرة في مستشفى فلسطين بالقاهرة عند الفجر، ويشيع جثمانه اليوم بعد صلاة العصر من مسجد رابعة العدوية، ويوارى الثرى في مسقط رأسه بمدينة دمنهور في محافظة البحيرة (شمال) .

من السيرة ذاتية للدكتور عبد الوهاب المسيري :

الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري، مفكر عربي إسلامي وأستاذ غير متفرغ بكلية البنات جامعة عين شمس. وُلد في دمنهور 1938 وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي (مرحلة التكوين أو البذور). التحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الأسكندرية وعُين معيدًا فيها عند تخرجه، وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963 حيث حصل على درجة الماجستير عام 1964 (من جامعة كولومبيا) ثم على درجة الدكتوراة عام 1969 (من جامعة رَتْجَرز Rutgers) (مرحلة الجذور). وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها جامعة الملك سعود (1983 – 1988)، كما عمل أستاذا زائرًا في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا الإسلامية، وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام (1970 – 1975)، ومستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك (1975 – 1979). وهو الآن عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا وإيران والولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا (مرحلة الثمر).
قدم الدكتور المسيري سيرته الفكرية في كتاب بعنوان رحلتي الفكرية – في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية (2001) حيث يعطي القارئ صورة مفصلة عن كيف ولدت أفكاره وتكونت والمنهج التفسيري الذي يستخدمه، خاصة مفهوم النموذج المعرفي التفسيري. وفي نهاية "الرحلة" يعطي عرضًا لأهم أفكاره. وسيصدر هذا العام كتاب من تحرير الأستاذة سوزان حرفي، الإعلامية المصرية، تحت عنوان حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، وهو يغطي كل الموضوعات التي تناولها الدكتور المسيرى في كتاباته ابتداءً من رؤيته في المجاز ونهاية التاريخ وانتهاءً بأفكاره عن الصهيونية.
يذكر الدكتور المسيري في هذه "الرحلة" بداية اهتمامه بالموضوع اليهودي والصهيوني، فكانت أول كتبه هو نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني (1972)، وصدر بعدها موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية (1975)، كما صدر له عام 1981 كتاب من جزأين بعنوان الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة (1981). وفي هذه الفترة صدرت له عدة دراسات باللغة الإنجليزية من أهمها كتاب أرض الوعد: نقد الصهيونية السياسية (1977). وقد قرر الدكتور المسيري أن يُحدِّث موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية وتصور أن عملية التحديث قد تستغرق عامًا أو عامين، ولكنه اكتشف أن رؤيته في هذه الموسوعة كانت تفكيكية، وأن المطلوب رؤية تأسيسية تطرح بديلاً. فكانت الثمرة أنه بعد حوالي ربع قرن نشر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد (1999) وهي من ثمانية مجلدات. وقد صدر له أثناء ذلك الوقت وبعده عدة كتب في نفس الموضوع من أهمها البروتوكولات واليهودية والصهيونية (2003). في الخطاب والمصطلح الصهيوني (2003- 2005). وسيصدر هذا العام كتابين الأول بعنوان الفكر الصهيوني من هرتزل حتى الوقت الحاضر والثاني بعنوان من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية والأزمة الصهيونية.
واهتمامات الدكتور المسيري الفكرية تتجاوز الموضوع الصهيوني، بل انه يعتبر موسوعته مجرد دراسة حالة، في إطار مشروعه النظري. فقد صدر له كتاب من جزئين بعنوان إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (1993)، والعالم من منظور غربي (2001)، والفلسفة المادية وتفكيك الإنسان (2002)، والحداثة وما بعد الحداثة (2003)، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2002)، ورؤية معرفية في الحداثة الغربية (2006). وسيصدر له خلال هذا العام كتاب من عدة مجلدات يضم أعمال مؤتمر "حوار الحضارات والمسارات المتنوعة للمعرفة - المؤتمر الثاني للتحيز" الذي عُقد في فبراير 2007 بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.
وقد ظل الموضوع الأدبي ("حبي الأول" كما يقول الدكتور المسيري في رحلته الفكرية) ضمن اهتماماته الأساسية. فصدر له كتاب مختارات من الشعر الرومانتيكي الإنجليزي: بعض الدراسات التاريخية والنقدية (1979) وعدة كتب بالعربية والإنجليزية في أدب المقاومة الفلسطينية، واللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود (2002). وللدكتور المسيري ديوان شعر بعنوان أغاني الخبرة والبراءة: سيرة شبه ذاتية شبه موضوعية (2003) وصدر للدكتور المسيري ديوان شعر وعدة قصص للأطفال. وقد صدر له عام 2007 عدة كتب فى النقد الأدبى: الملاح القديم للشاعر صمويل تايلور كوليردج: طبعة مصورة مزدوجة اللغة (عربى-إنجليزى) مع دراسة نقدية، ودراسات فى الشعر وفى الأدب والفكر.
تُرجمت بعض أعمال الدكتور المسيري إلى الإنجليزية والفارسية والتركية والبرتغالية. وسيصدر هذا العام إن شاء الله الترجمة الفرنسية والإنجليزية لسيرته الغير ذاتية والغير موضوعية، رحلتي الفكرية. كما سيصدر كتاب باللغة العربية والإنجليزية والعبرية بعنوان دراسات في الصهيونية.
وقد نال الدكتور المسيري عدة جوائز من بينها جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام (2000) عن موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ثم عام (2001) عن كتاب رحلتي الفكرية ، وجائزة العويس عام (2002) عن مجمل إنتاجه الفكري. كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام (2004) . وقد نال عدة جوائز محلية وعالمية عن قصصه وعن ديوان الشعر للأطفال.
وقد تزايد الاهتمام بأعمال الدكتور المسيري فصدرت عدة دراسات عن أعماله، من أهمها: فى عالم عبد الوهاب المسيرى: كتاب حواري من جزأين (2004)، وكتاب تكريمي بعنوان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه ونقاده، ضمن سلسلة "علماء مكرمون" لدار الفكر بسوريا يضم أعمال مؤتمر "المسيري: الرؤية والمنهج" الذي عُقد في المجلس الأعلى للثقافة في فبراير 2007. كما ظهر عدد خاص من مجلة أوراق فلسفية (2008) يضم دراسات العديد من العلماء والباحثين العرب في الجوانب المتعددة للدكتور عبد الوهاب المسيري.
إنتقل إلى رحمته تعالى فجر الخميس الواقع فيه 3/7/2008 .

محمد حسين بزي
03/07/2008, 06:29 PM
المسيري يتحدث عن حياته





قبل أيام قليلة من وفاة المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، أرسل إلي موقع "إسلام أون لاين" نسخة ديجيتال من كتابه "حوارات مع المسيري" الذي أعدته وحررته الإعلامية "سوزان حرفي"، والكتاب يحمل قدرا من العمق والحيوية والصراحة، وفي هذا الجزء من الحوار المقتبس من الكتاب نعرض بعضا من سيرته على لسانه..
التكوين

* نود في البداية أن تعطونا نبذة عن حياتكم الشخصية والعلمية؟

- اسمي الكامل عبد الوهاب محمد أحمد المسيري من مواليد مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة في 8 أكتوبر عام 1938 حصلت على الماجستير والدكتوراه من جامعتي كولومبيا ورتجز الأمريكيتين في الأدب الإنكليزي والأمريكي المقارن عامي 1969. وقد قمت بتدريس الأدب الإنجليزي والأمريكي والنظرية النقدية في كلية البنات، جامعة عين شمس، وفي جامعة الملك سعود وجامعة الكويت والجامعة الإسلامية في ماليزيا منذ عام 1969 حتى عام 1990. وفي هذه الأثناء عملت خبيرا في الصهيونية ومركز الدراسات السياسية بـ"الأهرام" في الفترة من عام 70 حتى عام 1975، ومستشارا ثقافيا لوفد الجامعة العربية لدي الأمم المتحدة من عام 75 حتى 1979، ومستشارا أكاديميا في المعهد العالي للفكر الإسلامي منذ عام 1992 حتى الآن.

صدر لي العديد من المؤلفات منها: أسرار العقل الصهيوني، والإيديولوجية الصهيونية، واليهودية والصهيونية وإسرائيل، والانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، والجمعيات السرية في العالم، ونهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني، والصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، كما قمت بتأليف وتحرير موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية التي أصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 1975.

وتعد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الصادرة في 8 أجزاء تتويجا لأعمالي. ولكني لم أتوقف عند هذه النقطة فقد أصدرت كتبا ذات طابع فكري مثل الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (من جزئين)، وإشكالية التحيز، ودراسات معرفية في الحداثة الغربية. ولي بعض الدراسات الأدبية وقصص الأطفال، وديواني شعر واحد للأطفال والآخر للكبار، كما كتابان يصدر لي كتابان في النقد الأدبي دراسات في الشعر، وفي الأدب والفكر.

الريف والنشأة



اضطررت للعمل خفير في مصنع

* إلى أي مدى كان لنشأتك في بيئة ريفية تأثير على حياتك الأكاديمية؟
- هذه النشأة جعلتني باحثاً مثابراً. لا تنس أن أبناء البرجوازية الريفية -وأنا منهم- ينشأون في خشونة، خلافا لأبناء البرجوازية الحضرية. كان والدي يردد أن لا علاقة لنا بثروته، زادت أم نقصت، وأن علينا أن نعيش في مستوى أولاد الموظفين. وأذكر جيدا أنه حينما امتلك سيارة خاصة، في منتصف الخمسينيات، منعنا من ركوبها وكان يقول لنا: اركبوا الترام مثلكم مثل بقية الشباب.

كنت أشكو من هذا آنذاك، لكنني تعلمت، فيما بعد، عندما ازددت حكمة، أنه نفعنا كثيرا بذلك، وعندما ذهبت إلى الولايات المتحدة، ولم يكن عندي أي مصدر دخل إضافي لتغطية نفقاتي، ولم يكن من الممكن تحويل أي أموال من مصر، اضطررت للعمل خفيرا في مصنع في الولايات المتحدة، وما كان بوسعي أن أتحمل ذلك دون طريقة والدي في التنشئة.

* في رحلتك الفكرية أشرت إلى أن علاقتك بالمجتمع في دمنهور تشبه علاقة علماء الاجتماع الألمان بمجتمعهم. كيف ذلك؟

- ألمانيا كانت في بداية القرن التاسع عشر، من أقل الدول الغربية تحديثا. مستوى الصناعة بها كان ضعيفاً، ولم يكن لديها مشروع استعماري مثل الدول الغربية الأخرى. لكن مع وصول بسمارك إلى الحكم وتوحيد ألمانيا حققت قفزات سريعة ومذهلة، بحيث أصبح مثلاً إنتاج الحديد والصلب في ألمانيا ضعف إنتاج انجلترا نفسها. وتبع ذلك التطور تطور سريع في كافة الصناعات الألمانية.

لكن ظلت هناك جيوب وعادات تقليدية عديدة، فعلماء الاجتماع والمفكرين الألمان مثل ماكس فيبر وغيره، كانوا ينظرون للمجتمع، فيرون المجتمع بشقيه التقليدي والمجتمع الحديث. المعرفة الإنسانية في نهاية الأمر معرفة مقارنة، فنحن لا نعرف الشيء في حد ذاته وإنما نعرفه من خلال مقارنته بشيء آخر. وبالفعل قام هؤلاء العلماء والمفكرون بمقارنة المجتمع الحديث الذي كان يتشكل أمام عيونهم بالمجتمع التقليدي الذي كان يتآكل من حولهم. فرأوا الحداثة بكل مزاياها وعيوبها، كما رأوا المجتمع التقليدي بكل مزاياه وعيوبه.

وقد حدث بالنسبة لي نفس الشيء، حيث ولدت في دمنهور في أواخر الثلاثينات، وكانت دمنهور تعد من أكثر المدن تصنيعاً في العالم (بالنسبة لعدد السكان) بسبب وجود عدد كبير من محالج القطن فيها، ولكنها مع هذا كانت أقرب إلى القرية منها إلى المدينة، حيث كنا أنا وزملاء الدراسة في طريقنا للمدرسة نمر على الحقول، فكنا نشتري الخس أو الطماطم من الفلاحين، ونأخذها من الحقل بأنفسنا ونأكلها طازجة. وكان هناك سوق الاثنين حيث كان يأتي الفلاحون من القرى الكثيرة المجاورة المحيطة بدمنهور، فيأتون بمنتجاتهم الزراعية (البيض- الجبن – الدجاج) ليبيعونها ويشترون ما يحتاجون، أو يأتون بعد بيع القطن ليقوموا بتجهيز بناتهم للزواج.

ويبدو أن الاقتصاد التبادلي كان سائدا حتى عهد قريب. أذكر في طفولتي أنه بعد ذهابنا للحلاق، نداعب بعضنا البعض بقولنا "الفرخة باضت ولا خبزتم"، بمعنى أنني حملت بيضة أو رغيف خبز وأعطيته للحلاق نظير أن يقوم بحلاقة رأسي! بنية دمنهور كمدينة تجارية حديثة وقرية زراعية تقليدية في ذات الوقت ترك أثره علىَّ. فقد كانت العلاقات الاجتماعية والإنسانية تتسم بقدر من التعاقد وقدر من التراحم.

المجتمعات التراحمية

* وما الفرق الأساسي بين المجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية؟

المجتمعات الحديثة مجتمعات لا تستند العلاقات فيها إلى العرف أو العادات أو القيم الدينية أو الأخلاقية وإنما إلى التعاقد، وعادة ما يكون العقد مكتوبا بلغة قانونية. ومعدلات الفردية في مثل هذه المجتمعات عالية، كما أنها لا تتسم بالتماسك، بل تتسم بالوضوح والتحدد. كل هذا على عكس المجتمعات التقليدية التي قد يوجد فيها التعاقد ولكنه ليس الشكل الوحيد للعلاقات بين البشر، إذ هناك العرف والعادات والروابط العائلية والقبلية والجماعات الوسيطة العديدة. ولذا نجد أن معدلات الفردية أقل بكثير، فالإنسان يوجد داخل شبكة كثيفة من العلاقات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية المتشابكة.

وانطلاقا من هذا الإدراك قام علماء الاجتماع الألمان بتقسيم المجتمعات إلى مجتمعات تقليدية تراحمية Gemeinschaft جماينشافت ومجتمعات حديثة تعاقدية Gesselleschaft.

وقد اكتسب الصراع بين الجماينشافت والجيسيلشافت، ومظاهر الانتقال من الواحد للآخر، مركزية في علم الاجتماع الألماني. وبرغم تصاعد عمليات التحديث والتصنيع في ألمانيا فقد ظلت الأشكال الحضارية والاقتصاد التي سادت في مجتمع ما قبل الصناعة والرأسمالية، مزدهرة فيها بكل محاسنها وعيوبها. ولذا، كانت هذه الأشكال الحضارية هي الأرضية التي وقف عليها علماء الاجتماع الألمان فطرحوا، انطلاقا منها، بديلا للعلاقات التعاقدية التي تهيمن على المجتمعات الرأسمالية. وينتمي ماركس (برغم ديباجاته الثورية) إلى تقاليد علم الاجتماع الألماني ويتبدى هذا في الجماينشافت التراحمي التقليدي.

فالمجتمع الشيوعي مجتمع خال من الصراع الطبقي والتطاحن الرأسمالي والصراع من أجل البقاء، مجتمع يتسم بالعدالة والمساواة والأخوة. كما أن النقد الماركسي الإنساني (جيورجي [جورج] لوكاش Gyorgy Luckacs -مدرسة فرانكفورت- هربرت ماركوز Herbert Marcuse.. إلخ) للحداثة الغربية ولمصير الإنسان الغربي يخرج من نفس هذه التقاليد.

وأعتقد أن علاقتي بدمنهور بماضيها وحاضرها تشبه إلى حد كبير علاقة علماء علم الاجتماع بماضي ألمانيا وحاضرها. ولعلنا لو درسنا خلفية كثير من المثقفين المصريين (وخصوصاً الثوريين) فسنلاحظ أنهم عاشوا في لحظات انتقال مثل هذه. ولعل هذا يفسر الخلفية الريفية لكثير من مثقفي مصر ممن أدوا دورا بارزا في تاريخ مصر السياسي والثقافي الحديث. وأعتقد أن هذا الجانب في خلفيتي الثقافية هو ما جعلني أحاول اكتشاف الأدبيات الاحتجاجية في التراث الغربي، وهو ما جعلني لا أنبهر بالمجتمع الأمريكي، فنقطتي المرجعية النهائية كانت دائما هي المجتمع الزراعي التراحمي. ومن الطريف أن أحد أساتذتي بعد أن قرأ رسالتي للدكتوراه، بما فيها من ثورية ورفض للرؤية الأمريكية واقتصاديات السوق الحر وصفها بأنها رسالة neo-feudalist Marxit (نيو فيوداليست ماركست) أي أنها ذات توجه ماركسي إقطاعي جديد!



والدي من كبار الرأسماليين

* هل يمكن أن تضرب بعض الأمثلة على ما سميته المجتمع التراحمي؟
- كان التجار يعتمدون في تعاملاتهم على كلمة الشرف، ويدورون في إطار مفاهيم إسلامية. كان والدي من كبار التجار ثم فيما بعد من كبار الرأسماليين الصناعيين وكانت لديه عقلية تجارية حديثة، أذكر أنه حينما قام بإجراء أول اوكازيون في دمنهور اعتبرت هذه خطوة جريئة استنكرها كثير من التجار، فمفاهيم التنافس والصراع والبقاء للأقوى لم تكن جزءا من الرؤية العامة في دمنهور، فالأرزاق بيد الله. وتساءل البعض ماذا سيفعل صغار التجار الآن؟ البيع والشراء لم تكن مسألة اقتصادية وحسب، وإنما كان يتخللها قيما أخرى غير مادية. أذكر حادثة أخرى تعبر عن نفس الواقع التعاقدي التراحمي.

جاءت لباب منزلنا فتاة كانت على قدر من الأناقة والجمال، تعرض سلة بها بعض الأشياء للبيع، فرفضتها بناء على إدراكي أننا لا نحتاج لمثل هذه الأشياء وفوجئت بأن أمي تزجرني، وقامت بشراء السلة من الفتاة بسعر جنيه مصري، برغم أن القيمة الحقيقة للسلة لا تتعدى عشرة قروش. وفيما بعد عرفت أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذي أفلس أو توفى لا أذكر بالضبط، وأن عملية البيع والشراء التي تمت بين أمي والفتاة تمت تحت غطاء تعاقدي ظاهريا، ولكنها في واقع الأمر تمت في إطار تراحمي، إذ إنه تم أعطاء الفتاة صدقة، ووظيفة الغطاء التعاقدي هو أن تحتفظ أمي للفتاة بكرامتها.

هذا التناقض بين التراحم والتعاقد كان يوجد في منزلي، فقد ولدت في أسرة تجارية يعمل والدي في تجارة الجملة، ولكنه كان يمتلك ضيعة بجوار دمنهور شأنه في هذا شأن كل أثرياء دمنهور. وكان والدي ينتمي إلى الجانب التجاري التعاقدي، أما والدتي فكانت تمثل العقلية الزراعية التراحمية. ورغم أن والدها كان يمتلك مطبعة، إلا أن التقاليد التي ورثتها عن أبيها لم تكن تتسم بالنزعة الفاوستية التجارية التي كان والدي يتسم بها.

من الطريف أنه عندما توفاه الله كنت في الولايات المتحدة الأمريكية فأقمت مرثية بطريقة فريدة (فأنا دائما أبحث عن الفرادة) إذ ذهبت لرؤية مسرحية بريخت الاستثناء والقاعدة والتي تروي قصة رجل رأسمالي له طابع فاوستي، وتتكشف المسرحية أبعاد هذا النمط الإنساني. أما حينما توفى الله والدتي أقمت مرثيتها بأن ذهبت لشراء بعض الأعشاب التي كانت تتناولها مثل التليو والحلبة والكراوية. وذهبت إلى شارع الموسكي في الأزهر وطلبت من العطار هذا الأصناف وغيرها من الأعشاب الطبيعية. وعندما هم البائع بإعطائي ما طلبت أخبرته بأن هذه الكراوية ليست جيدة، فأجابني "دي مش كراوية يا بيه!"، فأدركت أنني أجهل هذه الأمور وكان يجب علىّ أن أغلق فمي وأقيم المراثي في هدوء!.

ويبدو أن مقولتي المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي أصبحا مكونا أساسيا في فكري، وهاتان المقولتان هما اللتان جعلتاني فيما بعد أتبنى الماركسية ثم في نهاية الأمر أتبنى الأيديولوجية الإسلامية كإطار لفهم العالم والتعامل معه، وربما يكون هذا أيضاً هو سبب عدائي مثلا للإمبريالية، والرأسمالية، والصهيونية، ولكل أشكال الاستغلال ومسببات الصراع بين البشر، فالعالم في تصوري ليس ساحة قتال، والإنسان ليس ذئبا لأخيه الإنسان.

هناك جانب آخر تعلمته في صباى وجزء من شبابي في دمنهور هو الإيمان بفكرة المجتمع، فالإنسان ليس فردا مطلقا، بل هو جزء من مجتمعه. السائد الآن أن كل مجتمع يتكون من أفراد، وأن الفرد يسبق المجتمع. ولكني تعلمت في دمنهور أن المجتمع يسبق الفرد دون أن يلغيه (فالمجتمع التقليدي زاخر بالشخصيات المتنوعة على عكس ما يتصور الكثيرون).

ساعة الصفاء

* هل هناك عناصر أخرى في دمنهور تركت أثرها عليك؟

- نعم، الإطار الذي تحركت فيه في طفولتي هو الأسرة الممتدة، بكل ما في الكلمة من معان. ففي الجيرة التي نشأت فيها كان كل الأطفال معروفين للجميع. ولذا كان الوقت الذي أقضيه في الشارع ليس مجرد "صياعة"، وإنما وقت للتنشئة الاجتماعية، على عكس الشارع هذه الأيام، كما كان الصبية الكبار يراقبون الصغار وكأنهم أولياء أمورهم.

وفي إطار الأسرة النووية يكون الإنسان على اتصال مباشر مع أبيه أو أمه ويعيش الجميع داخل دائرة مغلقة، فإذا حدث وأراد أن يطور شخصية مستقلة عنهما فإن هذا يسبب له توترات شديدة لأن الأسرة النووية ضيقة بحكم تكوينها وليس أمام الفرد سوى أبيه أو أمه، إما أن يقبلهما فيشعر أنه فقد هويته وشخصيته المستقلة، أو يرفضهما ويدير لهما ظهره، وكلاهما أمران أحلاهما مر، ويؤدي إلى شكل من أشكال الاستقطاب والتطرف. أما في إطار الأسرة الممتدة، فالأمر جد مختلف، فالفرد محاط بأفراد كثيرين أكبر منه وكل منهم نموذج مختلف، مما يتيح له فرصة الاختيار أي نموذج يشاء دون استقطاب القبول الكامل أو الرفض الكامل. وعندما كنت في دمنهور، كان لي أعمام وأخوال وزوج أخت، وكنا جميعا نسكن إما في نفس العمارة أو في أماكن قريبة جدا من بعضنا البعض، أي أنني كنت أتفاعل مع شخصيات متنوعة. كان زوج أختي الأستاذ عبد الوهاب حلمي، رحمه الله، مدرس لغة عربية اكتشف فيَّ شيئا ما، وكان يشجعني دائما أن أكتب "خُطبا" وأن أحرر مجلة المدرسة وغير ذلك، مما ساعدني على إدراك مدى رحابة عالم الثقافة بالمقارنة بعالم الثروة ومراكمة الأموال. وكان خالي محمود إبراهيم حلبي، رحمه الله، رئيسا لحزب الوفد في دمنهور وكان يملك مطبعة، وكان لديه عالم آخر غير عالم تراكم الثروة لأنه كان يضع المطبعة تحت تصرف حزب الوفد والحركة الوطنية. وقد ساهمت هذه النماذج المتنوعة في فتح نوافذ أخرى لي.



العديد من العوامل أثرت في شخصيتي

* ولكن لابد وأن يكون هناك عناصر كامنة في شخصيتك، بعيداً عن الإطار الاجتماعي والتاريخي، ساهمت في تعميق بعض التوجهات الفكرية؟
- بدون شك. ثمة عناصر كثيرة في شخصيتي ساعدت على تعميق انفصالي عن محيطي وولدت فيَّ الرغبة الدائمة في التفكر وتفسير كل ما يحدث لي وما يحدث حولي، بحيث لا أقبل أي شيء على علاته. وهو الأمر الذي ساهم في تطوير كثير من المفاهيم الفكرية التحليلية مثل مفهوم الحلولية ومفهوم المسافة. أهم هذه العناصر ما أسميه "داء التأمل" الذي أصبت به في يوم من الأيام في طفولتي أو بدايات الصبا (ربما في سن الثانية عشرة) حينما أدركت مقولة الزمان وأننا نعيش داخله، وأن حياتنا هي الزمان. وداء التأمل لا يزال مهيمنا علىّ، وجعلني قادراً على الانفصال عما حولي وأن أنظر إلى نفسي من الخارج وألا أقبل أي شيء إلا بعد تفسيره.

ومن العناصر الشخصية الأخرى التي ساهمت في تحديد توجهاتي الفكرية، أن بعض الأشياء كانت تكتسب قيمة رمزية في عقلي غير قيمتها الوظيفية، فالمكرونة كانت بالنسبة لي هي السحر بعينه (كنت أتصور في طفولتي أنها هي طعام أهل الجنة). ولذا كان تناولها يعني تجربة شبه روحية لا علاقة لها بإشباع الحاجة البيولوجية للطعام.

أما الأرز، فكان مرتبطا في ذهني بالطمأنينة وبالعودة إلى المدينة. ولم أتخلص قط من هذا الميل نحو الترميز. فقد أصبح السيجار رمز الهدوء والاستقرار والإنجاز، وقد انتقل هذا إلى موقفي من كتبي. وكثيرا ما تكتسب أطروحات الكتب التي أكتبها بعدا رمزيا، يجعل منها جزءا من معركة الإنسان مع كل ما يتهدده. وعلى سبيل المثال، تحولت الموسوعة إلى معركة الإنسان ضد الظلم، وإلى هذا الصراع الأبدي بين الإنسان/ الإنسان (الذي يحاول تجاوز عالم الحواس الخمسة) والإنسان الطبيعي/ المادي، الذي يقبع داخل عالم المادة قانعا راضيا. وأتصور أن هذا الميل نحو الترميز ساعدني كثيرا على الانفصال عن بيئتي المباشرة، إذ خلقت لي الرموز عالمي الخاص. كما أن الرمز ولا شك شكل من أشكال النموذج، فهو عنصر من العالم المادي، ولكنه يعلو عليه إلى أن يصبح علامة مكثفة علي عناصر كثيرة، قد يبدو لأول وهلة وكأن لا علاقة بينها.

ويرتبط بهذه النزعة نحو الترميز ما أسميه "النزعة الطقوسية"، إذ أميل لأن يصبح كل حدث مهم في حياتي جزءا من طقس خاص جدا وأقوم أنا بتطويره. فكنت في طفولتي أبدأ استذكاري بأن أضع زهرة في مزهرية، أو أحلم بها إن لم يكن هناك زهرة. وحينما تقدمت بي السن طورت مفهوم "الشاي غير البيولوجي"، وهو أي قدح من الشاي لا أحتاج إليه من الناحية المادية ومع هذا أشربه مع صديقي كي أئتنس به. (قد تطور هذا فيما بعد ليصبح مفهوم "الأبوة غير البيولوجية" حين أقوم بتبني بعض الأيتام من ضحايا العصر الحديث).

ومن أهم الطقوس في حياتي طقس "ساعة الصفاء" (الذي طورته مع صديقي الفنان رحمي)، وهو المقدرة على الانسحاب من الزمان، بحيث يعيش الإنسان "لحظات ليست كاللحظات" خارج الزمان، ومن ثم يمكنه أن يستعيد تكامله وإنسانيته (بعد أن يكون قد فقد بعضا منهما في معترك الحياة وتفاصيلها التي لا تنتهي)، على أن يظل الإنسان واعيا تماما بأن هذه لحظات مؤقتة وحسب، وأنها لابد أن تنتهي، ومن ثم فهي ليست نهاية التاريخ والتدافع والأحزان والأفراح (أو كما أقول في إحدى القصص التي كتبتها للأطفال: "كل الأشياء الجميلة تنتهي! كل الأشياء الحزينة تنتهي"). وقد حاولت تطبيق هذا المفهوم في حياتي حتى لا يتحول الاستمرار إلى تكرار وروتين، فلحظة الصفاء تجلب عنصرا من الإبداع إلى الحياة الاجتماعية اليومية. وقد تعلمت أنا وزوجتي أن نمارس لحظات الصفاء هذه، مهما كانت الحياة قاسية علينا. ساعتها نطلب من أولادنا أن يبتعدوا عنا بعض الوقت، ونجلس وحدنا نحتسي القهوة وأدخن سيجارا، فتتجدد العلاقة المباشرة بيننا ولا تضيع منا في الزحام والتفاصيل. كما تعلم كثير من أصدقائي طقس لحظة الصفاء، إلا أنني كنت أمارسها أيضا مع بعض الأصدقاء ممن لا يعرفونها، فنعيش معا "ساعة صفاء" دون إدراك من جانبهم.

وكان هناك أيضا ما أسميه "الحمام الطقوسي" الذي آخذه بعد الانتهاء من كل مؤلف من مؤلفاتي. كما أنني حينما كنت في الولايات المتحدة طورت طقس "الحمام الفكري"، وهو أنه حينما تستعصي علي فكرة ما أذهب لآخذ حماما ساخنا، وتحت الدش تبدأ الأفكار تتلاحم والعلاقات بينها تتضح، وكثيرا ما أنجح في حل الإشكالية الفكرية التي تواجهني. (أخبرني أحد الأطباء أن هذا الطقس الأخير له أساس مادي، إذ إنني أشكو من الحساسية من حبوب اللقاح المنتشرة بكثرة في الولايات المتحدة. ولذا حينما آخذ دش ماء ساخن فإن البخار المتصاعد يقوم بتنقية الجيوب الأنفية، فيسهل التنفس ويتصاعد الأوكسجين إلى مخي فأقوم بالتفكير في حرية أكبر).

وهذه النزعة الطقوسية هي في واقع الأمر نزعة لأن أضع حدودا بيني وبين الواقع المادي المباشر، وهي في هذا تشبه وعيي بالتاريخ والفن. كما أنها تطورت فيما بعد لتصبح ميلا نحو بلورة المقولات التحليلية وإدراك مستويات الواقع المختلفة. وقد زادت هذه النزعة في الولايات المتحدة، فهو بلد لا يحترم الطقوس ولا يعرف منها إلا أقل القليل. وطقوس الانتقال من مرحلة عمرية لأخرى، إما غير موجودة أساسا وإما مختلفة عما ألفته، فهي ليست ثرية بما فيه الكفاية، كما أنها، في معظم الأحيان، تأخذ شكلا استهلاكيا واضحا (مثل احتفالات بلوغ سن الرشد عند اليهود [البارمتزفا]، أو احتفالات دخول الجامعة أو التخرج منها). ولعله لحماية ذاتي ولإحاطتها بسياج تفصلها عما حولها، لم يكن بد من أن أقيم الطقوس وأهتم بها.

المصدر: http://www.islamonline.net

منى حسن محمد الحاج
03/07/2008, 07:25 PM
لك كل الشكر أخي محمد على لمسة الوفاء هذه وعلى ما نقلته إلينا هنا...
نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويجعله من أصحاب اليمين بقدر ما قدم لأمة الإسلام..
خالص ودي وتقديري لشخصك الكريم

باسين بلعباس
03/07/2008, 07:29 PM
[[font=Tahoma]رحم الله الدكتور المفكر عبد الوهاب المسيري..
كان عالما فذا.. ورجلا فاضلا ..
يملك قلب القائد العسكري..في الدراسات الصهيونية
وقلب الطفل الصغير البريء..في الاشعار والاناشيد..
نفع الله الامة بما ترك[/font ]

محمد حسين بزي
03/07/2008, 10:14 PM
المسيري: لا بديل عن ثقافة المقاومة *

حوار - كريم عبد السلام




المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري
يظل الحوار مع الدكتور عبد الوهاب المسيري فرصة مواتية لبلورة الأسئلة الملائمة للحظتنا الحضارية المأزومة، ولإعادة ترتيب أولوياتنا دون انفعال أو استلاب أو خوف، فمع الدكتور المسيري نلتفت دائمًا إلى المحطات الحضارية الكبرى في التاريخ، ولنا فيها نصيب وافر، ونمتلئ دائمًا بثقة المقاومة ويقين الباحثين عن العدالة.
وفي طريقي إليه كنت مشغولاً بأمرين أساسيين:

الأول: يتعلق بالنموذج الحضاري العربي المعاصر.. وهل يمكن بلورة نموذج حضاري عربي الآن، والأمر أشبه بالتقاط تحفة ثمينة من تحت أنقاض منزل منهار.. نجمع نثاراتها ونحاول توفيق هذه النثارات ونعوض المفقود منها ونحيطها بالاهتمام والرعاية حتى لا تعبث بها يد جاهلة فتضيعها من جديد بعد عناء الإنقاذ؟

الثاني: يتعلق بنظرة العرب -خصوصًا الشباب منهم وهم الأغلبية- إلى العالم وإلى أنفسهم، حيث العرب الآن هم النمط الأكثر امتهانًا في العالم، هم زنوج العالم ويهود العالم وبرابرة العالم وإرهابيو العالم، وهم المرآة التي يجب أن يرى فيها الغربيون المهيمنون بشاعاتهم وسوءاتهم وأخطائهم.

ومن ناحية أخرى فالعربي أخذ بفعل الضغوط الهائلة عليه من الخارج والداخل وبفعل التشويه المستمر من الخارج والقمع الداخلي، أخذ يتقبل صورة الغرب المشوهة عنه، وأصبح يتلقى ما يعتقده عن نفسه من الآخر الذي صنع منه عددًا مرحليًّا بحسب منطق الصراع الذي يحيا به، كما أصبحت رؤيته المستقبلة سوداء، قاتمة، لا أمل لديه في حياة أفضل ولا رغبة لديه في الإصلاح والتغيير، وهناك أمنيات بالخروج ومغادرة بلاده، ولكن السبل مغلقة أمامه، كراهية الذات ورغبة في الخلاص لا تجد مسارب لها، وكراهية للأنظمة المستبدة مع عجز عن إزاحتها، وفقر في القدرة وفي الدخل أصبحنا بمقتضاه فاقدين لكل رغبة في الحياة، لا أقول في التقدم مثلما فقدنا كل دافع لمعرفة ذواتنا، وما يجمعنا كمجتمعات وشعوب وأمة بينها مشتركات عديدة وفي سياق هذه الأفكار كان الحوار:

بين نقد الذات وكرهها

الهوية وأزمة تنظيرها

نموذجنا الحضاري وبلورته

التقدم وصناعة التخلف

محاربة الإسلام المقاوم

بين نقد الذات وكرهها

* إذا كان الصهاينة يصفون كل كاتب يهودي ينتقد ممارسات إسرائيل الصهيونية واعتداءاتها، بأنه "يهودي كاره لذاته" فهل يمكن -قياسًا على ذلك التوصيف- أن نصف العرب الناقمين على أوضاعهم وهم الأغلبية الساحقة المستغلة وغير المتحكمة في ثرواتها، الأغلبية المقموعة المقهورة، بأنهم كارهون لأنفسهم؟

- اختلف معك لأن قضية اليهودي الكاره لذاته قضية مختلفة تمامًا، فمع نهاية القرن الثامن عشر، كانت المنظومة الدينية اليهودية قد وصلت إلى طريق مسدود تمامًا؛ بسبب كثرة التحريمات وتراكمها عبر السنين، ومن ثَم أصبح مستحيلاً أن يظل الإنسان يهوديًّا، كما عبر عن ذلك أحد المثقفين اليهود بقوله: "إما أن أكون إنسانًا أو أكون يهوديًّا".

وعندما جاءت حركة الإصلاح الديني اليهودية كانت جذرية لدرجة أنها ألغت اليهودية، واليهود الأرثوذكس يقولون إن اليهودية الإصلاحية ليست يهودية، إلى جانب ذلك فإن عملية الإصلاح الديني جعلت كثيرًا من اليهود يعجبون بالحضارة الغربية إعجابًا أعمي انقلب فعلاً إلى كراهية للذات وللعقيدة اليهوديتين، وفي ذلك الوقت كان الغرب يقوض كل الأديان وليس اليهودية فقط، كما كان يقوض كل القيم الأخلاقية، ولا يمكن فهم اصطلاح "اليهودي الذي يكره نفسه" إلا في الإطار الغربي.

أما بالنسبة لنا فالمثقفون قسمان، الغالبية منهم ينتمون إلى هذه الأمة وينتقدونها بهدف الإصلاح، والأقلية ينتقدونها وكفى وليس في أذهانهم الإصلاح.

فعندما أقول مثلاً: القاهرة مدينة قذرة، أقول وأنا آمل أن تكون نظيفة، أما الآخر العنصري فيقول إن القاهرة مدينة قذرة لأن العرب قذرون بطبيعتهم، وأعتقد أن نقد معظم المثقفين العرب لمجتمعاتهم وسلبياتها ليس نابعًا من كره الذات.

الواقع العربي يقول بأن المثقفين فئة صغيرة معزولة، وأن المواطنين هم أبناء شرعيون لخطابات تليفزيوناتهم الاستهلاكية المسفهة، واسمح لي أن أضرب عدة أمثلة على فكرة كراهية الذات هذه: أبناء الشهداء في مصر يعملون الآن في إسرائيل، العمال الفلسطينيون يبنون الجدار العازل والمستوطنات؛ لأنهم لا يجدون عملاً آخر يأكلون منه.. ملايين الشباب العرب يرغب في الهجرة ولا يجد منفذًا للخروج، 60% من العرب تحت الـ25 عامًا وهم منسيون تمامًا من الخطط التنموية، وبالمقابل هم لا يعتدون بالكلام الكبير عن الأوطان والانتماء؛ لأن تعريف الوطن والمواطنة غائبان!

كم نسبة أبناء الشهداء الذين يعملون في إسرائيل إلى شعب تعداده 70 مليونًا، قس هذا النموذج الذي ذكرته إلى المقاومة في فلسطين والعراق والغضب الشعبي في مصر والتعاطف مع الانتفاضة.. روح المقاومة لم تخبُ بعد، وكراهية الاستعمار وأمريكا تتزايد وكلها مؤشرات على الانتماء والإحساس بالعزة والكرامة.

الهوية وأزمة تنظيرها


الصعود على البندقية

* أليس غريبًا أننا منذ قرنين وحتى الآن ما زلنا نبحث عن هويتنا العربية، ولم نتجاوز بعد خط البداية الذي انطلقنا منه لنتجاوز أزمة الهوية هذه!

- لا توجد أزمة هوية عربية، توجد أزمة تنظير بخصوص الهوية العربية، فحينما تسأل مواطنًا سعوديًّا أو مصريًّا أو قطريًّا أو سوريًّا أو أردنيًّا عن هويته سيقول: إنه عربي ويتحدث العربية ويجمعه قواسم عديدة بإخوانه في البلدان العربية الأخرى، لكن مكونات هذه الهوية وبنيتها كيف توظف؟ كل هذه الأسئلة أسئلة نظرية لم يتم بلورة الإجابة عنها حتى الآن.

* هل هذا الجهد عمل مفكرين أم أنه نتاج برامج ومشروعات على الأرض، نحن ومنذ خمسين سنة نحاول إقامة تكتل عربي اقتصادي ولم ننجح في ذلك؟

- أتفق معك وهذه إحدى إخفاقات الأمة العربية التي يمكن تفسيرها على أساس الأخطاء التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين، فمفهوم الوحدة العربية الذي طرح في الأربعينيات الماضية من قبل حزب البعث ومن بعده المشروع الناصري، انطلق من رؤية غربية للهوية بأنها شيء عضوي يجمع الأمة بأسرها، وهي تعبر عن هويتها من خلال دولة واحدة ومفهوم الوحدة هنا مفهوم عضوي كامل انطلق من نموذج "ألمانيا بسمارك".

وعلى المنوال نفسه اتحدت مصر وسوريا وأصبح لهما سلام وطني واحد، وأصبحت الدولة الجديدة اسمها "الجمهورية العربية المتحدة"، اسم جديد، وسوريا أصبحت الإقليم الشمالي ومصر الإقليم الجنوبي وذهب بعض البيروقراطيين المصريين إلى سوريا وهم لا يعرفون عن سوريا شيئًا وجاء أمثالهم إلى مصر وهم لا يعرفون عن مصر شيئًا وفشلت الوحدة؛ لأنها انطلقت من مفهوم عضوي يؤكد التجانس، بينما العالم العربي عالم فسيفسائي يشتمل على أقليات دينية وإثنية وحضارات قبل الإسلام والعروبة، وهذه الحضارات كانت ثرية وتركت آثارًا، وبالتالي مفهوم الوحدة الذي كان يجب أن يطور هو مفهوم "الوحدة الفضفاضة" وليس "الوحدة العضوية المصمتة"، وحدة على غرار مفهوم الوحدة في أوروبا، تسمح بالتعددية والاختلاف وقبول الآخر، بينما يتلاءم حتى مع طبيعة الشرق العربي الإسلامي.

فهذه المنطقة كانت دائمًا محكومة من قبل إمبراطوريات وحكم الإمبراطوريات يتسم بقبول عدم التجانس، بينما بدأ الغرب بالمدينة الدولة التي لا تقبل عدم التجانس وتلاها النظام الإقطاعي، حيث كل إقطاعية مغلقة على نفسها؛ ولذلك فأقل عدد من الأقليات اللغوية والدينية والإثنية في العالم في أوروبا، ومع الثورة الفرنسية والثورة الصناعية تم إبادة البقية الباقية من الأقليات في أوروبا.

نموذجنا الحضاري*
كيف يمكن للعرب بلورة نموذجهم الحضاري في هذه اللحظة وما مقوماته؟

- توجد الآن محاولات كثيرة لصياغة مثل هذا النموذج الحضاري، والشيء المهم هو التصالح بين التيار القومي العلماني والتيار الإسلامي، مما يدل على نضج وإدراك، فالمسألة لم تَعُد مفاضلة بين التيارين، بل أصبح هناك إدراك بين القوميين أن الإسلام مكون أساسي للقومية العربية وأن الهوية العربية لا يمكن تصورها خارج التراث الإسلامي، فالإسلام هو الذي دفع بالعرب إلى داخل التاريخ بعد أن كانوا خارجه.

المشكلة في ظني تأتي من النخب الحاكمة التي ترى الوضع القطري مفيدًا بعيدًا عن إطار أشمل.

* كيف يمكن بلورة نموذج حضاري مستند إلى الإسلام كمكون أساسي في ظل دمغ الإسلام بالإرهاب؟

- نفس الشيء حدث للقومية العربية، فقد وصمت بالشيوعية، كما تحالف الغرب الاستعماري مع التيارات الإسلامية السياسية لإجهاض الحركات القومية، فالحرب سجال بيننا وبين الغرب الاستعماري، وأعتقد أن الحركات الإسلامية؛ لأنها ذات طابع شعبي ستنتصر في النهاية عكس الحركات القومية التي حاولت تنفيذ الرؤية القومية من عل، وأهملت الجانب الثقافي تمامًا، ففي المرحلة الناصرية التي تمثل ذروة المشروع القومي، كان رئيس الدولة يتحدث بالعامية وكانت العمارة دولية نفعية وظيفية، وأذكر في ذلك الحين أنني قمت بدراسة خاصة عن صناعة الأثاث في القطاع العام، ووجدت أن القطاع العام عندنا ينتج أثاثًا غربيًّا ويصدره إلى إيطاليا مثلاً، ولم تبذل أي جهود في تطوير إبداع عربي في مجال واسع الانتشار مثل صناعة الأثاث، مما يشير إلى أن الدعوة القومية أهملت البُعد الثقافي تمامًا، كما أهملت البُعد الجماهيري وتصورت أنه من خلال الدولة يمكن أن تنفذ كل شيء، هذا كان الفكر السياسي المسيطر، ومن هنا جاء الفكر الانقلابي، أن المشاكل تحل بالسيطرة على الدولة والاستيلاء عليها، ولكن حين تستولي على الدولة، تستولي عليها المخابرات.

الآن التيارات الإسلامية مختلفة؛ لأن الإسلام هو المكون الأساسي للثقافة العربية والبعد الجماهيري موجود لدى هذه التيارات؛ لأن الإسلام هو المرجعية الأساسية لها.

* بمناسبة الإسلام.. أي إسلام تقصد، فليس هناك إسلام واحد.. هناك إسلام باكستان وإسلام طالبان والإسلام الشيعي والإسلام السلفي والإسلام المصري المزيج من المذهب السني والمذهب الشيعي وهناك إسلام المهاجر الأوروبية وهناك إسلام القاعدة وغيرها من التنظيمات؟

- إسلام "لا إله إلا الله.."، وفي الحقيقة أنا لا أحب هذا السؤال فهذا هو الخطاب الغربي، وما الضير في وجود تنوع داخل العالم الإسلامي.

أنا أفرق بين الإسلام كدين وبين اجتهادات المسلمين وشطحاتهم، لا أقبل بالزرقاوي والقاعدة ولا أقبل بمن يروع المسلمين ولا ينطلي عليّ من كان متحالفاً بالأمس مع C.I.A وينفذ إستراتيجيات في أفغانستان وشبه الجزيرة العربية ولا أقبل بأمراء الفتاوى الذين احتضنتهم أوروبا وأمريكا، بل إنني إذا خيرت بين ابن حزم وابن تيمية أختار ابن حزم.

لا، لا هذا ولا ذاك، بل نحتاج إلى رؤية تولد من الإسلام خطابًا حديثًا يتناسب مع الوضع الراهن ومقتضيات العصر، وهذه ليست مسألة مستحيلة وهي في إطار التطور والتبلور، ولكن الحركة العلمانية دائمًا تحاول إنكار التطورات التي حدثت للخطاب الإسلامي، وهذه مسألة لا يمكن السكوت عليها، فإذا تطور الخطاب الديني يجب أن نعترف بذلك وأن نتعاون معه؛ لأن الهدف هو مصلحة هذا الوطن، فمن يحمل لواء المقاومة والثورة الآن هم الإسلاميون، في فلسطين والعراق ومصر وفي كل العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك يعني أيضًا أن قسمًا كبيرًا من الأرض التي كانت تحتلها التيارات العلمانية والماركسية أصبحت الآن تحت سيطرة الإسلاميين وهو ما يغضب هذه التيارات، لكن يجب أن يتحلى العلمانيون والماركسيون بالموضوعية وأن يعترفوا بالتطور الذي حدث.

* أي تطور في هذا الخطاب وهم لا يقدمون أي برامج تفصيلية للإدارة والحكم؟

- لا، هناك الكثير من البرامج التفصيلية، ولا تنسَ أنه عندما استولى البلاشفة على الحكم كان عندهم أطروحات نظرية أساسًا، ثم بدءوا يطورون برامجهم.

التقدم وصناعة التخلف

* في مقال سابق يعود للعام 1983 حول العربي الفلسطيني في الفكر الصهيوني قلت بأن الصهيونية باعتبارها مشروعًا استعماريًّا ينتمي إلى التشكيل الحضاري العربي في أوائل القرن الـ19، وأن هذا المشروع يروج لفكرة التفوق العربي لتبرير الاستعمار والتخلف الغربي لتبرير الطرد والإبادة للفلسطينيين... الصورة العربية الآن هل هي نتاج لصناعة التخلف الصهيوني الغربي بمساعدة الهزائم العربية بالطبع؟

- عبارة "صناعة التخلف العربي" صورة مجازية غير دقيقة، فلنقل: حالة التخلف وأنا سعيد لذلك الاستعمار الغربي والمشروع الصهيوني في هذا الإطار؛ لأنه أحيانًا ما يلجأ البعض إلى القول بأننا مسئولون وحدنا عن هذه الحالة، ويهملون تاريخ التدخل الأجنبي وتاريخ النهب الاستعماري وتاريخ زراعة إسرائيل في الأرض العربية ودعمها وتاريخ ضرب القومية العربية.

رحل الاستعمار وترك لنا بعض النظم العربية التابعة له، غير واثقة في أنفسها وغير واثقة في الشعوب وتعلم أن بقاءها مرهون بالدعم الغربي لها، وبعد هزيمة النظام الناصري تصاعد ممثلو هذا التيار في المنطقة العربية، وتمت الهيمنة الأمريكية على النظم العربية، ولولا المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق لكان وضعنا نوعًا من المهانة الكاملة.

* كيف نخرج من حالة التخلف هذه؟

- أنت ذكرت الهوية، وأعتقد أنه لا يمكن قيام مشروع تنموي لا يستند إلى رؤية للهوية، فلا بد من إعادة تعريف التقدم، فالتقدم في الغرب أصبح المؤشر الأساسي عليه هو معدلات الاستهلاك، وهذه المعدلات الغربية مستحيلة لأن 20% من سكان العالم يستهلكون 80% من موارده، ولا يمكن تكراره، وهو أيضًا غير مرغوب فيه، فإيقاع الحياة الغربية يتنافى مع الإيقاع الإنساني، ولا يمكن أن يصبح خلاص الإنسان في السلطة والاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، وليس من قبيل المصادفة معدلات الانتحار العالية في الغرب، وإيقاع الحياة في أمريكا التي عشت فيها مخيف، رغم الإنتاجية العالية فماذا يفيد المرء إذا ربح العالم وخسر نفسه!.

والتقدم في المفهوم الغربي يؤدي إلى الاستقطاب الطبقي فالغني يزداد غنى، والفقراء يزدادون فقرًا؛ لأنه مبني على الصراع، وأعتقد أن معايير التقدم هذه يجب أن تتغير، على أن يكون في مقدمة المعايير المطبقة، معيار العدل وليس الاستهلاك، فالمجتمع الذي يحقق قدرًا عاليًا من العدل الاجتماعي هو المجتمع المتقدم، وهدف التقدم ليس الاستهلاك وإنما التوازن، التوازن مع الذات والتوازن مع الطبيعة؛ لأن منظمة الاستهلاك الغربية ستودي بنا.

محاربة الإسلام المقاوم

* كنت من أوائل المفكرين الذين تناولوا صورة العربي في الخطاب الغربي والخطاب الصهيوني، وبينما تحسنت صورة اليهودي في العالم خلال نصف القرن الأخير قياسًا إلى "شايلوك" والصورة النمطية لليهود أواخر القرن التاسع عشر، تدهورت صورة العربي بشكل كبير خلال الفترة نفسها فهل أصبح العرب يهود العالم، والعدو النمطي للحضارة؟!

- الرؤية الغربية الحديثة رؤية صراعية، بمعنى أنه لا بد أن يكون هناك عدو يصنع حالة من الصراع والاستنفار لمصالح السلاح ولتمرير الميزانيات الضخمة للدفاع، ولك أن تعرف أن ميزانية الدفاع في أمريكا 500 مليار دولار وهي أكبر من ميزانيات الدفاع في العالم أجمع، وهذا الصراع كان موجهًا في السابق إلى الاتحاد السوفيتي وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي حل الإسلام في خانة العدو، والغرب لا يحارب الإسلام المهادن التابع، بل يحارب الإسلام المقاوم الذي يدافع عن أرضه ويشوّه صورته ويضعه في موضع الشيطان ويصفه بالشر!.

من ناحية ثانية تراجعت صورة العربي أمام نفسه، فالعرب وأغلبيتهم في مرحلة الشباب مغترب في أوطانه لا يشعر بالانتماء يحلم بالهجرة ولا يستطيع إليها سبيلاً يمكن وصفه بحسب عبد الرحمن منيف بـ"المنبت" المقطوع ولا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.. كيف الخروج من هذا المأزق الوجودي؟

ما قلته صحيح وعكسه صحيح أيضًا، فأنا أقابل كثيرًا من الشباب الثائر الغاضب المنتمي وأفاجأ بهم ملتزمين، مهتمين بما يجري في العالم وفي وطنهم وفي بلادهم العربية ولهم نشاط متنوع، ثقافي وسياسي واجتماعي.. هؤلاء هم الذين نعول عليهم، ففي أي مجتمع نسبة القادة فيه لا تتجاوز 2 - 3%، والبقية يعبرون عن غضبهم ومشغولون بخلاصهم الشخصي.


--------------------------------------------------------------------------------

*نشر هذا الحوار في مجلة سطور، عدد 116، يوليو 2006.


www.daralameer.com

محمد حسين بزي
04/07/2008, 09:02 PM
المقاومة عبر الخريطة الإدراكية

بقلم د.عبد الوهاب المسيري

12/08/2004



يسود في الخطاب التحليلي العربي تصور؛ مفاده أن ما يصرح به رجال السياسة والحكم هو تعبير عن موقفهم وخططهم ومشروعاتهم. فالعقل -حسب هذا التصور- هو مرآة تعكس الواقع بشكل بسيط ومباشر، وكأن اللسان ينقل ما يعكسه العقل بنفس البساطة والمباشرة. ومثل هذا التصور يتجاهل ما أسميه "الخريطة الإدراكية".. فما الخريطة الإدراكية؟

على عكس ما يتصور البعض فإن الإنسان لا يدرك واقعه بشكل حسي مادي مباشر إلا في حالات نادرة تتسم بالبساطة؛ كأن تلسع يده سيجارة أو يدخل في عينيه جسم صلب. فالإنسان ليس مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات والدوافع المادية (الاقتصادية أو الجسمانية)، وسلوكه ليس مجرد أفعال وردود أفعال مشروطة، تتحكم فيها قوانين الميكانيكا أو البيولوجيا.

وعقل الإنسان ليس مجرد مخ مادي، صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات المادية، وإنما هو عقل له مقدرة توليدية، كما أنه مستقَر كثير من الخبرات والمنظومات الأخلاقية والرمزية، ومستودع كثير من الذكريات والصور المخزنة في الوعي واللاوعي.

الإنسان "ظاهرة" مختلفة عن الطبيعة

لكل هذا فإن الإنسان لا يسلك كرد فعل للواقع المادي بشكل مباشر (مثير مادي تعقبه مباشرة استجابة)، وإنما كرد فعل للواقع كما يدركه هو بكل تركيبته، ومن خلال ما يسقطه على الواقع من أفراح وأتراح، وأشواق ومعان، أو رموز وذكريات، وأطماع وأحقاد، ونوايا خيّرة وشريرة، ومن خلال مجموعة من المنظومات الأخلاقية والرمزية والأيديولوجية.

وبسبب تركيبية الإنسان هذه، ونظرا لأنه لا يستجيب للواقع المادي مباشرة وإنما يستجيب له من خلال إدراكه له؛ فلا يمكن لأي دارس أن يحيط بأبعاد أي ظاهرة إنسانية -سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية- إلا بالغوص في أكثر مستويات التحليل عمقا؛ أي المقولات والصور الإدراكية التي يدرك من خلالها نفسه وواقعه ومن حوله من بشر ومجتمعات وأشياء.

عقل الإنسان ليس مجرد مخ مادي وإنما هو عقل له مقدرة توليدية، كما أنه مستقر الخبرات والمنظومات الأخلاقية والرمزية، ومستودع الذكريات والصور المخزنة في الوعي واللاوعي.

وهذه المقولات والصور تشكل خريطة يحملها الإنسان في عقله، ويتصور أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل عناصر الواقع وعناصره، وهذه هي الخريطة الإدراكية التي تحدد ما يمكن أن يراه الإنسان في هذا الواقع الخام؛ فهي تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها، وتؤكد البعض الآخر بحيث يراها مهمة ومركزية.

ومن الأمثلة الطريفة على الخريطة الإدراكية ما يروى عن ماري أنطوانيت -ملكة فرنسا قبل الثورة- التي كانت تعيش عيشة مترفة منعزلة تماما عن العالم الخارجي؛ فقد قيل إن بعض الحراس وجدوا فلاحا مغشيا عليه من فرط الجوع، فأتوا به إليها، فأشفقت عليه وقالت له "يا سيدي، يجب ألا تتبع هذا الريجيم القاسي"!! وفي رواية أخرى أنهم أخبروها أن الفلاح لم يجد خبزا يأكله مدة أسبوع، فقالت مستنكرة "لماذا لم تأكل الغاتوه (الكعك)؟".

وليس ثمة غرابة في موقفها هذا؛ فظاهرة الفقر والجوع ليست جزءا من مخزونها الإدراكي، ولهذا لم تستطع إدراكها، ومن ثم نزعت ظاهرة الجوع من سياقها الحقيقي (الفقر) وربطتها بالأسباب التي تعرفها (الريجيم - الغاتوه بدلا من الخبز)، أي أنها فرضت مخزونها الإدراكي على ما رأته بعيونها (الموضوعية المادية)، وحددت خريطتها الإدراكية مجال الرؤية.

ولا يعني هذا أن الواقع المادي الخام غير موجود دون الإدراك الإنساني له؛ فهو -بلا شك- موجود هناك في ماديته وطبيعته وموضوعيته، ولا شخصيته وعموميته (خلقه الله خارج وعينا وإدراكنا وإرادتنا)، وهو يؤثر دون شك في تحديد بعض جوانب فكر البشر وسلوكهم بدرجة تتفاوت في مقدار عمقها من إنسان إلى آخر ومن لحظة زمنية إلى أخرى.

ولهذا لا يمكن أن ندرس ظاهرة الإنسان والظواهر الإنسانية مثلما نرصد الأشياء أو الظواهر الطبيعية المادية، ولا يمكن أن نسجل سلوك الإنسان كفرد أو كجماعة كما نسجل سلوك النملة وجماعات النمل.

فمثل هذه الرؤية -بغض النظر عن لاإنسانيتها المقيتة- هي رؤية غير دقيقة؛ لأن الدوافع -خيرةً كانت أم شريرة- وأشكال الوعي مهما كان زيفها وانفصالها عن الواقع المادي، والمعنى أي الدلالة الداخلية التي يراها الإنسان فيما يقع له من أحداث وفيما يحيط به من ظواهر مهما كانت سطحيته أو عمقه.. هذه الثلاثة تشكل جزءا أساسيا من الواقع الإنساني، ولا يمكن لأي إنسان تجاوز هذه القاعدة.

الإدراك متحيز وغير واع


وتتسم الخريطة الإدراكية بأنها غير واعية في معظم الأحيان؛ حيث يحملها الإنسان في عقله وهو يرى أنها الأكثر منطقية وطبيعية.

فالإنسان العنصري لا يرى إلا مساوئ الآخر وفضائل قومه، ويصدق هذا أيضا على الجندي الأوربي الذي كان يرسل إلى أحراش أفريقيا بعدما يخبره قادته أنه يحمل عبء الرجل الأبيض، وأنه لم يذهب إلى هناك للسلب والنهب والاستيلاء على الأراضي وطرد سكانها واستغلالهم، وإنما إلى نشر الحضارة في ربوع القارة السوداء وتهذيب سكانها البرابرة الهمجيين الذين لا يستحقون الحياة.

فقد كان يستبطن الخريطة الإدراكية دون أن يدري، ولا يتورع عن ذبح السكان الأصليين لأنه يحمل لواء الحضارة المتفوقة.

من الصعب إقناع أي إنسان بأن يتحول إلى مجرد أداة، ولهذا يتعين تغيير خريطته الإدراكية؛ حتى يمكنه أن يتحرك بحماس ويحمل السلاح دفاعا عما يتصوره ومما استبطنه.

ولا يشكل الصهاينة أي استثناء، ولهذا ينبغي عند دراسة سلوكهم أن نذكر أنفسنا بأن ما يحدد سلوكهم ليس استجابتهم المباشرة للعناصر والملابسات المادية المختلفة المحيطة بهم، وإنما رؤيتهم وإدراكهم لها.

وقد أدرك الصهاينة أهمية الخريطة الإدراكية في تشكيل الرأي العام وفي تحريك الجماهير؛ فقد قامت الدولة الصهيونية باعتبارها دولة استعمارية استيطانية إحلالية تؤدي وظيفتين هما: تخليص أوربا من اليهود ونقلهم إلى فلسطين ليشكلوا قاعدة للاستعمار الغربي؛ أي أن المشروع الصهيوني حوّل يهود أوربا إلى مجرد أداة لتحقيق هدف إستراتيجي.

ولكن من الصعب إقناع أي إنسان بأن يتحول إلى مجرد أداة، ولهذا يتعين تغيير خريطته الإدراكية حتى يمكنه أن يتحرك بحماس ويحمل السلاح دفاعا عما يتصوره وعما استبطنه.

ولتحقيق ذلك تحركت القيادة الصهيونية على مستويين؛ فقد أكدت من ناحية أن اليهود كتلة بشرية قومية متماسكة لها تاريخها الخاص وخصائصها الفريدة، ولها حق مطلق في فلسطين بوصفها الوطن القومي، ومن ثم يصور توجههم لغزو فلسطين باعتباره "عودة" إلى أرض الأجداد وليس احتلالا أو استعمارا، وهذه "العودة" تتم بناء على الوعد الإلهي وليس بناء على وعد بلفور، بل إن فلسطين طبقا لهذا التصور هي "إرتس يسرائيل".

ومن ناحية أخرى أخذ المتحدثون الصهاينة -ومعظمهم ملاحدة- يتحدثون عن التوراة والتلمود، واتخذت الدولة الصهيونية بعض الرموز الدينية، حتى تصور الكثيرون أنها بالفعل دولة يهودية، وراحوا يدركونها على هذا النحو، وينظرون إلى ما ترتكبه من بطش ومذابح على أساس هذا الإدراك.

وفي هذا الإطار تصبح المقاومة الفلسطينية مسألة غير مشروعة وغير مفهومة، بل وتصبح إرهابا، ويصبح البطش الصهيوني دفاعا مشروعا عن النفس أو عن أرض الأجداد أو عن الهوية اليهودية للدولة.

الواقع يتحدى "الإدراكية الإسرائيلية"


غير أن الخريطة الإدراكية قد تتغير عندما يتحدى الواقع هذه الخريطة ويبين قصورها؛ إذ يهتز أساس الرؤية وأسلوب الإدراك ذاته، فتميد الأرض من تحت قدمي صاحبها.

هذا ما حدث للمستوطنين الصهاينة؛ حيث كان محور خريطتهم الإدراكية أن فلسطين أرض بلا شعب، أو على الأقل شعب يشبه الهنود الحمر يمكن القضاء عليه عن طريق الإبادة أو النقل أو الحصار أو التجاهل.

وقبل اندلاع الانتفاضة الأخيرة أصدر المجلس الإقليمي لمستوطنات غور الأردن الاستعمارية خريطة سياحية لا تظهر عليها أي قرى أو مدن عربية، كأنها قد أزيلت، أو كأنها لم توجد أصلا؛ أي أنها أرض بلا شعب.

ولكن ما حدث هو العكس؛ إذ ظهر أن فلسطين أرض عليها شعب، وهو شعب عريق ينتمي إلى تشكيل حضاري قديم ومركب، وهو يتزايد كما وكيفا بطريقة مزعجة، فاهتزت الخريطة الإدراكية، وبدأت العصبية تظهر فيما أسميه "المرحلة الشارونية"، وهو تصور المستوطنين أنه يمكن تغيير الواقع بالقوة حتى يتسق مع خريطتهم الإدراكية، ولكن الواقع يتحدى بشكل مستمر الخريطة الإدراكية الأسطورية الصهيونية؛ فالانتفاضة مستمرة، ومقاومة أصحاب الأرض تتصاعد رغم البطش الصهيوني.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الخريطة الإدراكية ليست أمرا حتميا؛ إذ يمكن تغييرها، وقد بدأت قطاعات لا بأس بها من الجماهير الإسرائيلية تدرك عبث محاولة فرض الأسطورة الصهيونية على الواقع الفلسطيني.

ومن أهم الأمثلة على إمكانية تحرر الإنسان من خريطته الإدراكية القاصرة ما حدث للمفكر الصهيوني نيثان بيرنباوم الذي شارك في تأسيس الحركة الصهيونية، بل ونحت كلمة "صهيونية" نفسها، واشترك في المؤتمر الصهيوني الأول، ولكنه بدأ يكتشف تدريجيا حقيقة الصهيونية بوصفها حركة تقوض الانتماءات الحقيقية ليهود العالم، فترك الحركة الصهيونية وانضم إلى دعاة اليديشية؛ لغة يهود شرق أوربا الذين كانوا يطالبون بالحفاظ على الهوية اليهودية الشرق أوربية التي يمكن أن تتحقق في وطنها روسيا وبولندا (وهذا يختلف عن نقطة الانطلاق الصهيونية التي ترى أن ثمة هوية يهودية عالمية لا بد أن تتحقق في أرض الميعاد).

وقد عاش بيرنباوم إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، ورأى الكارثة وهي تقترب، وأدرك أن الحضارة الغربية الحديثة مدمرة، فاقترح أن يوطن أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا في أماكن زراعية بين البلدان المختلفة؛ أي أنه أعطى ظهره للتاريخ لإحساسه باقتراب الكارثة.

وأعتقد أن حكم محكمة العدل الدولية الذي صدر مؤخرا بخصوص عدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي تشيده الدولة الصهيونية يمكن أن يشكل بداية لتغيير الخريطة الإدراكية في العالم الغربي؛ فهو يعيد الأمور إلى نصابها، ويبين هوية الدولة الصهيونية بوصفها دولة محتلة -وليس بوصفها دولة يهودية- ومن ثم تتساقط الادعاءات.

أما آن الأوان..؟

آن للإعلام العربي أن يسعى للتأثير في الخريطة الإدراكية للشعوب الغربية عبر الحوار المسلح، أي المقاومة المسلحة المستمرة التي يصاحبها إعلام قوي يبين حقيقة الدولة الصهيونية. وهذا ما أدركه كثير من المعلقين الإسرائيليين أنفسهم؛ فقد بدءوا باستنكار هذا الحكم واتهامه بمعاداة السامية، وأنه تعبير عن كره الأغيار -أي غير اليهود- لليهود، إلى آخر هذا المخزون من السباب في خريطتهم الإدراكية.

ولكنهم أقروا في الوقت نفسه بأن "الكراهية لإسرائيل تتزايد وتخترق الحدود، وقرار المحكمة الدولية في لاهاي يرفرف كراية حمراء فوق الجدار" (صحيفة معاريف 11-7-2004)، وأن القرار سيضفي شرعية على عمليات المقاومة الفلسطينية، وهو بذلك يمثل انتصارا للفلسطينيين، وربما كان النجاح الأكبر لهم منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975 الذي وسم الصهيونية بالعنصرية (صحيفة يديعوت أحرونوت 11-7-2004).

ثم يمضي نفس الكاتب ليؤكد أن القرار يعني إعادة تصنيف الدولة الصهيونية؛ أي تغيير الخريطة الإدراكية بخصوصها؛ "فبعد 37 عاما من الاحتلال تتحول إسرائيل في نظر قسم كبير من العالم إلى دولة منبوذة، إنها ليست دولة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا ولكنها بالتأكيد من العائلة نفسها". ويذهب كاتب آخر -هو ألوف بن- إلى أنها قد تلاقي مصير "جنوب أفريقيا" (صحيفة هاآرتس 11-7-2004).

وأعتقد أنه قد حان الوقت لأن يتوجه الإعلام العربي إلى هذه القضية، ساعيا إلى التأثير في الخريطة الإدراكية للشعوب الغربية، من خلال ما أسميه الحوار المسلح؛ أي المقاومة المسلحة المستمرة التي يصاحبها إعلام قوي يحاول أن يبين حقيقة الدولة الصهيونية في المنطقة بوصفها جيبا استعماريا استيطانيا إحلاليا يمثل الاستعمار الغربي ويخدم مصالحه، والله أعلم.

منى حسن محمد الحاج
04/07/2008, 09:21 PM
جزاك الله خيرًا يا أخي محمد على هذا المجهود الرائع...
أحييك على هذا الوفاء...
تابع ونحن نتابع معك..
لك كل الود والتقدير

عبدالقادربوميدونة
04/07/2008, 10:35 PM
الحوارالمسلح أنجع وأجدى وسيلة

الأستاذ المفكر حسين بزي المحترم أدام الله فضلكم وبارك جهدكم ...وأثابكم خير ثواب إن شاء ..
واسمح لي أن أترحم على روح الفيلسوف والمفكرالعربي الكبير الأستاذ عبد الوهاب المسيري ..رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جنانه إن شاء الله آمين وبعد:
معذرة إن أبديت انطباعات سريعة على ما تفضلتم به من تحليل معمق لظاهرة اختلاف النظرة لدى اليهود الصهاينة عنها لدى المسلمين المسالمين المستهدفين عبر حقب طويلة في أراضيهم ووجودهم فكرة الخريطة الإدراكية التي قدمت بحثا وافيا حولها ..لها من الفوائد الفورية والمؤجلة كبيرالأثرفي نفوس العرب والمسلمين أولا ..
ثم يأتي دورهؤلاء الغربيين الذي غرربهم وتم تضليلهم لأكثرمن قرن من الزمن ..بدءا من تلك الحملات الصليبية المتلاحقة ومرورا بحملات الإنسان الأبيض الأوروبي الذي أزال حضارات.. وأقام حضارة أخرى مكانها في القارة الأمريكية
وانتهاء بما نعيشه اليوم في فلسطين.. واختلاف نظرة وإدراك كل من الطرفين للحقيقة والواقع..
والفكرة الأساسية التي ركزتم على ضرورة الوعي بها وإدراكها إدراكا حقيقيا واستيعابها وتمثلها وهضمها هضما فعلياوواعيا ..ومن ثم إعادة تشكيل الوعي الجديد بالحقائق المغيبة لأسباب تاريخية وغيرها التي لم يعد يراها الإنسان العربي والمسلم عموما والذي تم تخديرحواسه لفترة طويلة وأدوات الإدراك لديه. هي ما تفضلتم به مشكورين.
واسمح لي أن أضرب مثلا لما فهمته من حضرتكم ولما ذهبتم إليه ..فإذا سألنا أي مواطن ينتمي إلى العالم الثالث - ظلما -وكان يجلس على مقعد ما على بقعة ما من الأرض وسألته إذاما كان المقعد الذي يجلس عليه ثابتا أم متحركا ..لسخرمنك وأجابك على الفور..أنك تسأله عن شيء بديهي أي أن المقعد ثابت مستقر بطبيعة الحال ..لأنه أدرك الواقع ولم يدرك الحقيقة ..ثبوت المقعد واستقراره هو ثبوت واستقرارواقعي لا جدال فيه بينما الحقيقة - كما تعلمون - هو أنه متحرك سابح في فضاء فسيح سريع الحركة باعتبارأن الأرض متحركة سائرة..وذاك ما يغيب عن ذهنه وإدراكه لاعتبارات كثيرة ومتنوعة فإذا نبهته إليها ..اتسعت مجالات مداركه وصار يفكرويحلل أية ظاهرة من الظواهر تصادفه سياسية اجتماعية ثقافية الخ...إلى عواملها الأولية كما أفدتمونا جزاكم الله خيرا ..
..فحتى القمرعندما ينظر إليه الإنسان يراه منيرا - " دولة إسرائيل دولة قائمة " كيف تم إنشاؤها ولماذا وعلى حساب من ؟؟ ذاك هو الغائب منذ أجيال - هذا واقع بينما الحقيقة أنه منارباعتباره يعكس أشعة الشمس وهو مجرد أتربة وصخور..والقرآن الكريم نفسه كما هو معروف جاء ليخاطب الناس حسب مدركاتهم وعقولهم ..وإلا لما فهموا منه شيئا ..
لذلك استطيع أن أزعم أن ما يفوق الخمسين بالمئة - تقريبا - من العرب والمسلمين كانوا وحتى اليوم لا يدركون حقيقة الوجود الصهيوني في فلسطين وإنما يرون الواقع كما هوولا تهمهم الحقيقة مطلقا وتلك نظرة بعض الحكام العرب مع الأسف الذين يتبنون فكرة التعايش السلمي مع اليهود الصهاينة.. لأن خريطة الإدراك عندهم لا تختلف عن خريطة الإدراك لدى هؤلاء المختلفين عنا نظرة للحياة وللوجود الإنساني وما محمد الدرة رحمه الله سوى عينة إذ لم يكن يراه ذاك القاتل المجرم سوى أقل من حشرة ..فلا مناص إذن كما أسميتم من ضرورة اعتماد الحوارالمسلح ..وهو أكبروسيلة لإعادة تشكيل نظرتهم وزعزعة قناعاتهم الخاطئة وما تربوا عليه على أنهم الجنس المختار والأفضل والأحق بالوجود ..هؤلاء الغزاة ..البنية الفكرية الأساس عندهم هي التي ينبغي أن تتغير وما يتم ذلك إلا بالحوارالمسلح والسلام عليكم ورحمة الله والله أعلم.

محمد حسين بزي
05/07/2008, 09:42 AM
المسيري يكتب عن: الإنسان والتاريخ *

بقلم: عبدالوهاب المسيري



رؤية الإنسان للتاريخ تعبر عن رؤيته للكون وللإله والإنسان والطبيعة؛ ولذا فدراسة رؤية التاريخ هي في واقع الأمر دراسة لرؤى الكون، ومن ثم النماذج الإدراكية والتحليلية.
وحتى نفهم رؤى التاريخ والكون سنطرح إشكالية تواجهها كل الديانات التوحيدية، وهي: كيف يخاطب الخالق المخلوقات، فالخالق مطلق والمخلوقات نسبية، والإجابة على هذا السؤال تحدد الموقف من التاريخ؟ فكل عقيدة توحيدية تطرح نقطة تقاطع بين الخالق والمخلوق.


نقطة التقاطع في الأديان

في حالة الإسلام نقطة التقاطع هذه ليست الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أي فرد، وإنما القرآن، فالله سبحانه وتعالى أرسل القرآن هداية للعالمين، والرسول عليه الصلاة والسلام ليس تجسيدا لله وإنما هو رسول وحسب، مجرد إنسان يحمل الرسالة. والقرآن هو "اللوغوس" أي الكلمة، وهي كلمة بالفعل، كلمة مكتوبة في كتاب يمكن لأي إنسان أن يقرأه ويفهمه.
وقد أشرت إلى أن الرسول مجرد إنسان -برغم أن هناك محاولات حلولية داخل الإسلام لتأليهه، ومن هنا الحديث عن شرب بوله والتبرك بعرقه- وهو إلى جانب ذلك خاتم المرسلين، بمعنى أن الله أرسل لنا الرسالة وقطع على نفسه وعدا بأن يرعانا، فهو رحمن رحيم، ولكنه لن يتدخل في التاريخ الذي أصبح مجال حرية الإنسان، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وبالتالي يصبح التاريخ مجالا للتعارف والتدافع.
وكل إنسان قادر على تجاوز السطح المادي انطلاقا إلى قيم إنسانية غير خاضعة لقانون المادة، ولكنه أيضا بوسعه أن يختار الإذعان لقوانين المادة ويفقد ما يميزه كإنسان.
فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يرتفع على ذاته أو يهوي دونها، على عكس الملائكة والحيوانات، فالملائكة لا تملك إلا أن تكون ملائكة، والحيوانات هي الأخرى لا تملك إلا أن تكون حيوانات، أما الإنسان فقادر على أن يرتفع إلى النجوم أو أن يغوص في الوحل.
القرآن هو رسالة مقدسة مدونة في كتاب ليقرأها من يشاء، ويظل التاريخ حيزًا مستقلاً هو مجال حرية الإنسان يتصارع فيه البشر ويتدافعون.
وقد حلت العقيدة المسيحية مشكلة التواصل بين الخالق والمخلوق بأن جعلت نقطة التقاطع هي شخص المسيح "اللوغوس" ابن الإله، الذي ينزل إلى الأرض ليفدي البشر بدمه وهذا هو التجسد (incarnation)؛ مما أدى إلى ظهور إشكالية جوهرية؛ لأنه حين نزل ابن الإله إلى الأرض وتحول اللاهوت إلى ناسوت، والإلهي إلى إنساني، فإنه بذلك دخل في إطار الزمان الدنيوي المادي واقتحم التاريخ الإنساني فتداخل.
المسيح.. والحلول
وقد حاولت الكنيسة الكاثوليكية أن تحل هذه الإشكالية بأن جعلت الحلول يتركز في فرد واحد هو المسيح وليس في جماعة بشرية، وهو حلول انتهى بالصلب وصعود المسيح وعودته إلى أبيه في السماء.
لكن العقيدة المسيحية تستند إلى حادثة الصلب هذه، فجعلت الكنيسة من نفسها جسد المسيح، وأصبح البابا هو صاحب العصمة، بمعنى أنها أحاطت الحلول و"المقدس" بحواجز حتى لا يتداخل التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني.
كما أنها قسمت العالم إلى قسمين: قسم ديني يضم رجال الدين من كرادلة ورهبان وراهبات، وقسم علماني -وهذا أول استخدام للكلمة- يضم بقية البشر وبقية مجالات النشاط الإنساني.
وهذا يفسر عدم إمكانية إعلان أي شخص قديسًا (canonization) إلا بعد أن تعقد لجنة لدراسة الموضوع، حتى لا يختلط الحابل بالنابل وحتى لا يدعي أحد أنه موضع الحلول.
ولهذا يلاحظ أن الكنيسة الكاثوليكية عارضت عبر تاريخها الحركات الألفية التي تنادي بأن المسيح سيعود مرة أخرى ليحكم العالم لمدة ألف عام يسود فيها العدل والسلام، فهي عقيدة حلولية تنادي بنهاية التاريخ.
ولكن الإصلاح الديني فتح أبواب الحلول على مصاريعها، فخرج "اللوغوس" من الكنيسة وأصبح الشعب موضع الحلول، وعبر هذا عن نفسه بعقيدة إلغاء الكهنوت الكنسي وظهر مفهوم كهنوت كل المؤمنين (priesthood of all believers)، بمعنى أن المؤمن يمكنه التواصل مع الإله مباشرة، لسبب بسيط وهو أن الإله قد حل فيه. وهذه هي الرؤية اليهودية، كما سنبين فيما بعد.
ومن هنا جاء إعجاب البروتستانت الشديد بالعهد القديم، وفي هذا الإطار ظهرت الصهيونية المسيحية. ومع تزايد معدلات الحلول في الإنسان يزداد ذوبان الجزء في الكل والكل في الجزء، والإله في الإنسان والإنسان في الإله، إلى أن يصبح الإله مجرد صوت داخلي يسمعه الإنسان الفرد، أي أن التماهي بين الخالق والمخلوق يصبح كاملا.
والنموذج الحلولي يفسر ظهور التفسيرات الحرفية، فهي تنطلق من إلغاء المسافة بين الخالق والمخلوق، ومن ثم إلغاء المسافة بين المقدس والزمني مما يعني تطابقهما، ولذا يصبح التاريخ الذي يرد في الكتاب المقدس هو نفسه التاريخ الزمني، وأن ما يحدث الآن أمام عيوننا هو ذاته ما حدث من قبل، أو جاءت نبوءاته في الكتاب المقدس، وهذا هو إطار الصهيونية المسيحية.
ولكن حين يصبح التاريخ موضع الحلول فإن إنسانية الإنسان تتلاشى لأن حريته تكمن في الاختيار وفى مقدرته على التجاوز، ولذا نجد أن الذي يحدد لنا الهدف من الوجود والاتجاه الذي يجب أن نسير فيه هو الكتاب المرسل من الله وليس التاريخ، ويظل التاريخ هو مجال المحاولة والنجاح والإخفاق.
وأعتقد أن علم التاريخ ظهر أول ما ظهر داخل المنظومة الإسلامية بسبب هذا، فقد أدرك ابن خلدون التاريخ كبنية تتحرك بهدي من الله، ولكن بدون تدخل منه، على عكس الرؤية المسيحية التي ترى أن التاريخ تعبير عن الإرادة الإلهية فيما يسمى "providential history". وعلى عكس رؤية الإغريق القدامى للتاريخ باعتباره دائريا وهندسيا.


اليهودية والشعب المختار

من منظور اليهودية، الشعب اليهودي هو ذاته نقطة التقاطع بين الخالق والمخلوق وموضع الحلول والتجسد الإلهي. لقد حل الإله (المطلق) في الشعب اليهودي (النسبي) الذي أصبح شعبا مختارا، له حظوة خاصة عند الإله، بل تحول الشعب اليهودي في هذا المنظور إلى إله وأصبح تاريخه مقدسا لا إنسانيا.
وفى بعض الأحيان يشار إليه بأنه "شعب مقدس" و"أمه الروح"، بل أحيانا "اللوغوس" أي الكلمة، كما أن القبالاه (وهى التراث الصوفي الحلولي اليهودي الموغل في الحلول) ترى الإله باعتباره "السفيروت" أو التجليات العشرة النورانية، وترى أن الشعب اليهودي هو السفيروت العاشر، أي أنه جزء عضوي من الإله، وهو الحلقة الأخيرة في التجليات العشرة النورانية. فهو جزء من الإله ولكنه يوجد في هذه الدنيا، وهو الصلة بين الإله وبقية شعوب العالم، وهكذا محيت ثنائية الإله والإنسان تماما بالنسبة للشعب المختار.
وحين يذوب الجزء الإنساني في الكل الإلهي يفقد الإنسان إنسانيته، ولذا فإن تاريخ الشعب اليهودي الزمني هو ذاته تاريخه المقدس، فتاريخ الملوك وتاريخ الأنبياء هو نفسه تاريخ الشعب اليهودي.
ويبدو أن الوجدان الصهيوني يدور في هذا الإطار، فهو لا يميز بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدس، وتنطلق الخريطة الإدراكية الصهيونية من هذا الافتراض، وهذا بالفعل كارثة معرفية وأخلاقية، تبدت في سلوك استعلائي وانطوائي بلغ ذروته في الصهيونية.
وقد تأثرت الدراسات التاريخية في الغرب بهذه الرؤية، فكثير من المؤرخين ينطلقون من التاريخ المقدس الذي ورد في التوراة، ثم يجدّون في البحث عن الآثار (التاريخ الزمني) للبرهنة على ما جاء في التوراة (التاريخ المقدس)، ولكن يبدو أن علم الآثار الإسرائيلي الجديد بدأ يتخلص من هذه الأساطير.
ويظهر الاختلاف بين الرؤية القرآنية للتاريخ والرؤية التوراتية في قصص الأنبياء، إذ يلاحظ أن القصص "التاريخي" الذي ورد في القرآن لا يرد كاملا -باستثناء قصة سيدنا يوسف- فلا يذكر سوى بعض النقاط والوقائع ذات المغزى الأخلاقي، إذ الهدف من هذه القصص ليس تقرير واقعة تاريخية أو السرد التاريخي، وإنما بعض المعايير الأخلاقية.
هذا على عكس الرؤية التوراتية؛ إذ ترد تواريخ الملوك كاملة، فالتاريخ الزمني هو ذاته التاريخ المقدس، فالشعب اليهودي هو موضع حلول اللوغوس، الذي يحل محل ابن الله في المسيحية ومحل القرآن في الإسلام.
الباحث التاريخي المدقق عليه أن يتناول التاريخ الزمني بمعزل عن التاريخ المقدس، وإن حدث تلاقٍ بين الاثنين فمرحبا، ولكن نقطة البدء لا بد أن تكون التاريخ الزمني لا التاريخ المقدس. ويلاحظ أنه ظهر اتجاه في بعض الأوساط الإسلامية نحو دمج التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني، حين بدأ البعض يتصور أن تاريخ المسلمين هو تاريخ إسلامي.
مثل هذه الرؤية أصنفها على أنها رؤية حلولية ترى أن الله قد حل في تاريخ المسلمين وتجسد فيه، فاكتسب هذا التاريخ قداسة تجعله غير خاضع للنقد والتساؤل، أي أنها رؤية غير تاريخية للتاريخ، تمزج المقدس بالزمني بحيث يتوحدان فتسود الواحدية وتصفى كل الثنائيات ويصبح التاريخ كتلة واحدة مصمتة متجانسة.
وإذا كانت الحلولية تؤدي إلى ذوبان الأجزاء في الكل، فإن هذا التاريخ تتساوى فيه التفاصيل، وتظهر مقولة واحدة وهي أن المسلمين محل رعاية خاصة من الله.
وهذه الرؤية لا تختلف كثيرًا عن الرؤية اليهودية الحلولية للتاريخ التي أفرزت الصهيونية والعنصرية، وهي أبعد ما تكون عن الصحة.


الإسلام والتاريخ

تاريخ المسلمين ليس تاريخًا إسلاميًّا. هذان أمران مختلفان، فالتاريخ الذي ورد في القرآن يعطينا مجموعة من القيم نحكم بها على التاريخ الزمني، والتاريخ الزمني هو مجال الفوضى والمعارك والسقوط والانتصار.
تاريخ البشر في الزمان هو تاريخ زمني، وأنا بصفتي مسلم أؤمن بأن التاريخ هو مجال حرية الإنسان. ومفهوم "خاتم المرسلين" الإسلامي هو في واقع الأمر وعد إلهي بأن الله سبحانه وتعالى سيترك الإنسان حرا في التاريخ. فقد اكتملت الرسالة، ويمكن للإنسان أن يصل إلى الخلاص والهلاك بنفسه. فالتصور الإسلامي للطبيعة البشرية تصور مركب يرى الإنسان داخل إطار تاريخي ولكنه قادر على تجاوزه.
فالمسيحية تذهب إلى أن هناك "خطيئة أولى" (original sin) هي خطيئة آدم وحواء، وأن البشرية بأسرها تعاني من هذه الخطيئة اللصيقة بالوضع الإنساني ذاته، ولذا أصبح الخلاص مستحيلا بواسطة الفعل الإنساني؛ ولذا يحتاج الإنسان لرحمة الإله عن طريق التدخل المباشر في التاريخ الزمني.
ولعله لهذا السبب كان لا بد من التجسد، أي أن ينزل الإله من سمائه ليصبح بشرا، وكان لا بد أن يصلب المسيح -ابن الإله حسب التصور المسيحي- ليفدي بدمه البشرية ويغسلها من خطاياها. ولذا يذهب اللاهوت المسيحي إلى أننا نموت في آدم ونولد في المسيح.
وكان لا بد من طقس التناول، أي أن يتناول المسيحي الخبز الذي يتحول حسب التصور المسيحي إلى جسد المسيح ودمه، بحيث تجري دماء الله في الجسد الإنساني فتغسل خطايا البشر، وكان لا بد من ظهور مؤسسة الكنيسة -التي تسمى جسد المسيح- ليصل الإنسان إلى الخلاص، "فلا خلاص خارج الكنيسة".
ولكن إذا كانت الخطيئة لصيقة بالطبيعة البشرية ولا خلاص منها عن طريق الفعل الإنساني داخل الزمان، فالعالم هو وادي الدموع مما يعني إلغاء التاريخ.
مفهوم الخطيئة في الإسلام مختلف تمام الاختلاف، فلا يوجد سقوط كامل ولا خطيئة أولى، وإنما هناك نسيان، فالخير كامن في فطرة الإنسان ولكنه ينساه، "نسوا الله فأنساهم أنفسهم".
ولذا فالقرآن هو الذكر، حتى يتذكر الإنسان الله، وحين يتذكره فإنه يخرج من حمأة المادة ليصل إلى فضاء إنساني تاريخي فسيح يمكنه من أن يختار فيه.
في هذا الإطار يمكن للإنسان أن يخطئ ثم يتوب ويقوم بالعمل الصالح فيغفر الله له، فالله يحب التوابين.
هذا يعني أن التاريخ (الزمان والدنيا) هو مجال الخطأ والتوبة، وهو مجال الفعل الإنساني الذي يتمكن الإنسان من خلاله من أن يخطئ وأن يصيب ويثاب، فالخطيئة ليست لصيقة بالطبيعة البشرية.
ولذلك فكل ما يحتاجه الإنسان في هذا الإطار ليس ابن الإله الذي ينزل إلى الأرض فيصلب وينزف دمه ليغسل خطايا البشر، وإنما رسول يحمل الرسالة، كلام الإله للبشر، وهم أحرار بعد ذلك في التاريخ. ولا يحتاجون إلى وساطة أو كهنوت. إن التاريخ هو مجال حرية الإنسان.
________________________________________
*المصدر: موقع الجزيرة نت، نشر بتاريخ 12/11/2007.

http://www.daralameer.com/index.php

محمد حسين بزي
06/07/2008, 01:06 AM
لك كل الشكر أخي محمد على لمسة الوفاء هذه وعلى ما نقلته إلينا هنا...
نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويجعله من أصحاب اليمين بقدر ما قدم لأمة الإسلام..
خالص ودي وتقديري لشخصك الكريم

الأستاذة النبيلة منى حسن محمد الحاج
بعد التحيّة والاحترام

نبيلة أنت في العزاء كما في الأفراح ..
دمتِ فاضلةً مشرقة؛ ولا حرمنا الله مشاعرك الطيبة

محمد حسين بزي
06/07/2008, 08:54 PM
المسيري والخطاب الإسلامي الجديد *

د.صالح الشورة





قوض المسيري بخطابه العلمانية الغربية

أسهمت الكثير من الخطابات الدينية في إعادة تشكيل الفهم الديني والسلوك الديني أكثر مما أسهمت في ظهور مفاهيم جديدة تحل محل المفاهيم التي رسخت في نفوس المسلمين وحددت اتجاه الفكر الإسلامي المعاصر.
فالممارسات والشعارات والخطابات التي يعيشها المواطن العربي أنتجت علاقات غير متكافئة وفجوة بين السلطة والفرد في المجتمع وأن القمع الذي تمارسه النظم السياسية يتيح الفرصة لتفجر الخلاف والصدام بين مكونات البنيان الواحد ويؤكد على الهزيمة والتخلف في شتى ميادين الحياة.
بعض الأيديولوجيات الإسلامية المعاصرة تصرف الانتباه بعيدا عن تلك القرائن المحددة فالخطاب الإسلامي المعاصر يقدم نفسه عادة على أنه مالك للحل السحري الذي سيعيد المجد للأمة ويخرجها من كبوتها منطلقا من انشداه الجمهور للحظة ومتناسيا الواقع والغرق في بحر الحداثة وما بعد الحداثة.

كره الحداثي للعقل الإسلامي

غالبا ما تحدث التغيرات الكبرى في المفاهيم الدينية والسياسية بالتدريج ولا يشعر الناس بخطورتها إلا عندما يسترجعون الأحداث فيما بعد فعندما درس المؤرخ الفرنسي "مارك بلوك" محاولات الاستقلال في أوروبا كتب قائلا "إن الأجيال التالية لا تخلق أنماطا اجتماعية جديدة وإنما تبعث الأنماط القديمة من رقادها".
إن الإسلام في عيون الإنسان العصري الذي يسيره اليوم أنموذجا معرفيا علمانيا يُنظر إليه باعتباره شيئا قديما لا أمل يرجى من ورائه. فالحداثي يكره أي تعبير ينتمي إلى العقلية الإسلامية.
وهنا نجد الدكتور المسيري الذي لم يؤسس لخطاب إسلامي جديد بقدر ما قوض الخطاب العلماني الغربي وأُسسه الفلسفية المعرفية وهو الممثل لصوت العقل الذي ينشد الحقيقة حتى وهو يحتج على المذاهب القائمة ويتحداها.
تأتي أهمية كتابات المسيري من أنها محاولة واعية لفهم الآخر ونقد الذات في فهمها للآخر ثم الارتقاء إلى مرحلة الوعي للنماذج الإدراكية وبناء تلك النماذج وتجيلها في الواقع وبيان موقعها في شبكة الإدراك وصلة ذلك كله بالسلوك الإنساني.
إنه من صميم العقيدة الإسلامية أن يواجه المفكر المسلم منظومة التحديث والحداثة وأن يبين مواطن النقص والخطأ فيها كمذهب لا كفكر.كما إن إخفاق هذه المنظومة في بناء رؤية متكاملة للعالم ورفضها أن تضع في اعتبارها القضايا الجوهرية للمصير البشري يعد سببا قويا لأن يحجم الوعي الإسلامي عنها وأن يتمرد على أي نظام إدراكي أو أخلاقي ينتمي إلى تلك المنظومة.
ومما يؤسف له أن معظم المفكرين المسلمين في مواجهتهم منظومة الحداثة ورؤيتها العلمانية لنظام العالم يكشفون عن الكثير من السخط والقليل من الفهم. والقليل منهم من يواجه الحداثة بوصفها تحولا في المعرفة والوعي والأخلاق الأمر الذي أدى إلى أن يتخلى الغرب عن مبادئه المسيحية ويتحدى أي تصور توحيدي متجاوز للنظام الجوهري للأشياء.
لقد وصل المسيري عبر دراسته لموضوعات اليهود واليهودية والصهيونية إلى ضرورة كشف واكتشاف التحيزات الغربية الكامنة في مصطلحاتنا ومناهجنا وأدواتنا البحثية وقيمنا المعرفية واقترح مصطلحات ومناهج وأدوات وقيما بديلة تتسم بقسط أكبر من الاستقلالية والقدرة التفسيرية العالية وطرح أنموذجا بديلا تعمل على ضوئه الأمة الإسلامية. وهو يوضح أن القضية الأساسية ليست في مجرد رفض الأنموذج الغربي بحجة أو بأخرى مهما كانت مقنعة أو متعمقة بل هي في نقد وتحليل هذا الأنموذج للكشف عن التحيزات الخاصة الكامنة فيه وبيان بأنه ليس بالأطروحة العالمية المطلقة التي تجب غيرها كما يحاول مروجوه .
إنسانية الإنسان ومادية الطبيعة
ومن هنا يأتي قوله في إسلامية المعرفة بوصفها تواصلاً مع الجهود الغربية لفك الارتباط بين إنسانية الإنسان و " مادية الطبيعة :" إن مشروع أسلمة المعرفة يبدأ كمشروع أنسنة المعرفة أي استعادة الفاعل الإنساني كمقولة مادية روحية لا يمكن ردها إطلاقاً إلى عالم المادة وتتطلب دراستها مناهج خاصة ونماذج مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، ولكون تعريف الإنسان ككائن روحي مادي وكظاهرة غير طبيعية غير مادية يشير في النهاية إلى ما وراء الطبيعة. إلى الله سبحانه وتعالى. "
ويرى المسيري أيضا " إن الثنائية بين الإنسان والطبيعة ستظل واهية ما لم تكتشف الثنائية بين الخالق والمخلوق. فالخلاف يصب في المصدرية لهذه الثنائية التي يرى البعض أن مصدرها مجرد انفصال الإنسان عن الطبيعة دون ذكر لمصدر هذا الانفصال وتحوله إلى كائن حضاري يعيش داخل منظومات معرفية وجمالية وخلقية ولدها بنفسه وعليه يصبح الإنسان النقطة المرجعية النهائية الأمر الذي سيجعله يتحول تدريجياً إلى البديل الميتافيزيقي للإله في المنظومات التوحيدية ".
فالمسيري لا ينقد خصائص وجوانب في الفكر الغربي ويدعو إلى اعتناق ما جاء بنقده بل يحاول إيصال فكرته لتبني ما هو أفضل خاصة إذا كان التحيز أكبر وأقوى عادة في ميادين العقائد الدينية_وهو المجال الخصب_وغيرها من العادات والتقاليد والعلاقات الإنسانية وما يعبر عنها من فنون وآداب وفكر وثقافة.
وهذا الشمول مبعثه في حقيقة الأمر اكتساح الإطار المعرفي الغربي الذي يستند إلى مجموعة من الأسس والمرتكزات تترك بصماتها الواضحة على الحياة ومنها العلوم الذي من شانه أن تكون له نتائج وأثار تبرز عن تبديات هذه الأسس وتلك المرتكزات في العلوم المختلفة.
أضحى الخطاب الإسلامي إما فضفاضا يسع كل شيء ويقدم حلولا حتى لمشاكل الآخر أو خطابا تتلبسه حالة من الضيق يعجز معها أن يقدم حلولا للمشكلات الواقعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.ومثاله مرحلة ما بعد الحداثة التي تطرح الخصوصية المنطلقة من أدواتها وأساليبها ومعرفتها بنفسها ويفترض الاختلاف في النماذج المعرفية الأمر الذي يصطدم بمبدأ أساس كامن في الخطاب الإسلامي وهي الشمولية والعالمية التي يفترضها الإسلام.

معالم الخطاب الجديد

لا تزال التصنيفات والتحليلات النمطية لتيارات الفكر الإسلامي هي السائدة وقد نشر أستاذنا المسيري دراسة بعنوان"معالم الخطاب الإسلامي الجديد"حاول فيها أن يقدم تحليلا لمنهجية وخصائص الخطاب الديني الجديد الذي تميزه عن الخطاب القديم.
وإذا كان هنالك ما من تمييز بين خطاب إسلامي قديم وأخر جديد فان محاولة التمييز بينهما كانت تبدأ من نقطة محورية هي موقفهما من الحضارة الغربية فهذا الموقف هو الذي حدد كثيرا من ملامحهما وتوجهاتهما وأطروحاتهما.فإذا طرح الخطاب القديم كيفية التصالح مع الحداثة الغربية واللحاق بها والتكيف معها وكيفية المزاوجة بينها وبين الإسلام فان حملة الخطاب الإسلامي الجديد لا يشعرون بالإعجاب نفسه تجاه الحداثة الغربية.
ولذا نجد أن خطابهم ينبع من نقد جذري لها، لكن الخطابين يختلفان في المظهر لا في الجوهر فهما يتوحدان بنيويا في العمق: فالأول يتحدد بالغرب بشكله الايجابي والثاني يتحدد به بالشكل السلبي فإذا كان القديم أعجب ببهرجات الغرب وأنواره وأسقطها على خطابه الإسلامي دون تحريف. فإن الثاني أستخدم مترادفات الخطاب الغربي وأضفى عليها صبغة إسلامية.
ولكن إذا تعمقنا في كنه الخطاب الغربي ومدى سحره وتأثيره على القديم والجديد سنجد بأنه هو المتغير وإنما قديمنا وجديدنا يتحددان بناءًا على تغيره.
فالتغير إذا ينبع من الأنموذج المعرفي وإشكالاته التي يطرحها الغرب إن التغير في الخطاب الغربي نفسه أدى في بعض مساراته إلى تحولات كبيرة في الإبداع والثورة العلمية والتقنية وهذا ما يلحظ غيابه في الخطابين.وعدم عنايتهما بهذه المسائل وانصباب اهتمامه على أنموذج معرفي مأخوذا من الأصول الإسلامية. فبدت القضية تمثلنا كصف ثاني مرؤوس ما عليه إلا أن يجيب بصواب الغرب وخطئه من داخل منظومتنا الدينية العقائدية مما قتل الإبداع وأضفى على العقل السبات.

لا.. لأسلمة الحداثة

لذا تأتي من هنا دعوة المسيري إلى طرح تصورات إسلامية لكل مجالات الحياة بدلا من أسلمة بعض جوانب الحداثة خاصة فيما يقتصر على البحث المضني والجهد الكبير في معرفة حلّها أو حرمتها.
اخترق ذلك كله الثنائيات السائدة عن الجواهر الثابتة للحداثة والتقليد والعقلانية أو التنويرية والظلامية والعروبة والإسلام ..الخ فالإسلامية التي تنتشر بيننا نحن المسلمين اليوم ظاهرة شديدة الحداثة لا تتصل بالإسلام الذي نعرفه إلا من حيث الرموز والشعائر بل إن الشعائر نفسها صارت رموزا فهي غربة وغرابة، لأنها نوع جديد من الإسلام ويمكن أن تكون نتيجة خوفها الصاعق من المتغيرات الضخمة التي أحدثها فينا الغرب.خوف دفع للهروب إلى الخطاب بشعارات أليفة تبقى فقط شعارات، ولا تدخل في السياق الحقيقي الذي ظهرت فيه تلك الحركات.كما لا يمكن أن تشكل أهدافا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية ممكنة التحقيق.فشكلت مشروعا ضئيلا من وهج مشروع الأمة الحديث للاستقلال والكفاية والتقدم.وأنتجت الراديكالية من شتى الألوان.وشرذمت الساحة العربية وقسّمتها بحيث أصبح إسلامنا جزءا من هذه الشرذمة.
أنتح الخطاب الإسلامي القديم خطابه الجديد النقيض.فقد انصرف اليساريون والعلمانيون والقوميون والتقدميون لنقد الخطاب الإسلامي من منطلقات ليبرالية وأصبحوا هم المنتجون للحتميات الأولى,وممثلوها الحقيقيون ,وصاروا فجأة ديمقراطيين ومتنورين وعصريين .وعندما احتد الصراع بين الأنظمة, والإسلاميين انحاز الجميع الى العصرية التقدمية مع الأخذ على الخارجين على قوانين الغرب وظله.فإذا كانت الثنائية السابقة هي التقليد والحداثة والإسلام والعروبة فان الثنائية الحالية هي الإسلام والعصر .
أفضى التحليل الجديد إلى فكرة أن التخلف الذاتي يعود إلى محاكاة الماضي والعيش على أمجاده وليس لظروف تاريخية معينة.فظهرت ثنائية التخلف الذاتي في مواجهة الأفكار المستورد وطريقة علاجها.لذا تسود خطاباتنا اليوم انقسامات لا تزال تغص بالمتناقضات.
والواضح أن الاتجاهات الفكرية الموجودة ليس بيدها مفتاح الموقف ولا هي مسببه وسط هذا الموقف المتأزم على مستوى الخطابات والوجود التاريخي للأمة فلا بد من الدعوة إلى التغيير ولكن علينا تحديد الأفق الذي يمكن التطلع نحوه.
إن دراسة المسيري للظاهرة الصهيونية أجبرت رموز الظاهرة الإسلامية على مراجعة خطابها والمسلمات التي كانت قائمة في خلفيتها الذهنية وأصبحت رؤية المسيري للظاهرة الصهيونية هي التي تشكل أهم ملامح الخطاب الإسلامي الجديد باعتباره عالما قضى أكثر من ربع قرن يفكك رموز الأخر ويسلط الضوء عليه حتى صدم وعينا وسهّل علينا ما كان مستحيلا.
إن الشعور بالدونية فرض نفسه نتيجة الوضع الانهزامي الذي يخيم على المجتمع, بسبب فقدان الثقة بالنفس وبالقدرة على التجديد والمحافظة على الدين الإسلامي.فالمجتمع فاقد حيويته في مجالات النشاط الإنساني من السياسة إلى الاقتصاد إلى الجهاد وغيره فمن الطبيعي أن يفقد حيويته في المجال الفكري .فالجهل بالدين والانهزام، النفسي والخوف من الأخر،والمنافع والمصالح الزائلة كلها مفردات تعيشنا ونعيشها وغريبها أنها تحوي داخلها قدرا من القداسة أو الحرمة بحيث فقدنا وعينا ونسينا بأن الإيمان المطلق بالله المتجاوز للمادة هو الغاية لوجودنا في هذه البسيطة.ورحم الله ابن خلدون حين قال"'والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، وبخلقه، وسائر أحواله وعوائده" لذلك لم يكن صحيحا أن الكيانات السياسية العربية التي نشأت في أعقاب انكفاء المشروع الاستعماري وجلاء قواته العسكرية، تستمد شرعيتها من رحم اجتماعي داخلي فالجراحة الاستعمارية وقعت على كيانات كان بعضها موجودا وكان نسيجه الاجتماعي متماسكاً، فأنتجت دولاً داخل الشعب الواحد موزّعة إياه عليها.وما زال الطبيب الغربي يجري جراحته في قلب الخطاب والمشروع العربي الإسلامي حتى الحاضر.
إن مهمة الإسلام كما هي من عند الله، وتتمثل في إنقاذ الإنسان فكريا وأخلاقيا وحمايته من الوقوع في الخطأ وهذا ما تجلى في كتابات المسيري الذي يمثل صوت العقل وينشد الحقيقة حتى وهو يحتج على المذاهب القائمة ويتحداها.فالأدوار بين الغرب والإسلام مختلفة تماما لذا ركز المسيري على أن الغرب "تراجعت فيه العقيدة الدينية وانحسر الإيمان بالمطلقات المعرفية والأخلاقية وبدأت محاولات لتأسيس علم أخلاق يستند إلى القوانين العلمية والحسابات الرياضية الدقيقة بحيث أصبحت الأخلاق هي المنفعة واللذة وأصبح الهدف من الحياة هو البحث عنهما وتعظيم الإنتاج والدخل وهي أهداف تتسم بأنها كمية يمكن قياسها ولا علاقة لها بغيب أو أسرار".
لقد اعتبر بعض الباحثين والفقهاء أن الإشارة الواردة في الحديث عن زمن التجديد على رأس كل مائة سنة إنما هي دلالة على حقيقة استمراريته ، وتقارب زمانه بحيث يصبح عملية تواصل وتوريث.
القداسة في خدمة الحداثة
وبناءً على ذلك فإن عملية التجديد تعتبر ضرورة لإعادة ضبط العلاقة بين الوحي والعقل حتى لا تضطرب الأمور فيصير التجديد نابعًا من الخارج "التقليد الغربي" أو مرتدًا نحو الماضي لمحاولة إعادته "تقديس التراث"، فالعقل هدفه رفعة الإنسان وأساس تحمله للأمانة وقاعدة التكليف والالتزام بقواعد الاستخلاف.
لذلك ظل كبار مفكري الأئمة ينظروا للخلاف كمصدر غنى للثقافة الإسلامية وزخم للحضارة المرتبطة بعمق التجربة التاريخية واتساع الانتشار الجغرافي.
يقول المسيري "إن محاولة اللحاق بالغرب أصبحت هي جوهر معظم المشروعات النهضوية في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي" وتتجلى هذه الحقيقة في تلك المشروعات في الفكر العلماني الليبرالي الذي حدد النهضة –ابتداء-بأنها نقل الفكر الغربي والنظريات الغربية بأمانة شديدة ،وإذا ما نبغ عالم عربي في أي مجال ما فلن يكون له الحضور إلا بعد أن يختم على أعماله بأنها تقليد لآخر غربي. وقد أصبح العالم يضفي على النتاج الغربي الصيغة الإلهية ولمسة القداسة السماوية بحجة أنها طريق النجاة من جحيم التقليد والمحافظة...الخ وهكذا تحولت بعض الفتاوى العصرية إلى أداة لهدم الشريعة نفسها. والحق أنها لا تعني إلا بالالتحاق بالأنموذج الغربي والانسحاق داخله فأصبح التجديد والاجتهاد يميل إلى الأخذ بالملائمة ولٌى عنق النصوص الشرعية الإسلامية حتى تتمشى وتقترب أو تطابق القوانين والمفاهيم الغربية.
فنشر الديمقراطية الغربية لا بد أن يقترن بالاحتلال واحترام حقوق الإنسان لا تأتي إلا بمناهج مدرسية جديدة تخلو حتى من البسملة،والحراك الاجتماعي السليم تنتجه الفتنه وبذور الشقاق والانضمام إلى الصفوة ينشأ منذ الولادة في المدارس الغربية.
إن إقرارنا وقبولنا بالخضوع للهيمنة الغربية قد حصل فعلا.فإذا كانت الهزيمة العسكرية هي حصيلة موازين قوى,فهي أمر موضوعي أو حتمي في ظروف معينة,لكن الهزيمة الثقافية ليست حتمية إلا عندما يقر الطرف الأضعف بها ويقبلها كما جاء عند "مالك بن نبي" في فكرته "قابلية الاستعمار" والمقصود هنا هو القبول والتبعية واليأس من المقاومة .فعندما حصل المسلمون على استقلالهم,كان استقلالا ناقصا قاصرا إذ أن الاستقلال الحقيقي أن يتحرروا من التبعية للغرب سواء التشريعية أو الثقافية أو الاجتماعية إلى جوار التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي.
يلاحظ الدكتور المسيري من زاوية فلسفية سياسية إن المدافعين عن العلمانية العقائدية من المسلمين يسعون إلى تحقيق مشروع ذي طابع سياسي لن تكون عواقبه حميدة وحتى إذا نادوا بشكل من أشكال الحداثة يوازي العلمانية الجزئية(خاصة وانه ميز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية) فإنهم لا يدركون القوة التفويضية للوعي الحلولي والواحدي ناهيك عن افتراض تصديهم لهذا الوعي وإذا جاز التسامح مع السياسة العلمانية لكونها شيئا يصعب تجنبه فان علمنة الثقافة والمجتمع والحياة الداخلية لأفراد المجتمع يعد بمثابة كارثة لا يمكن التسامح معها.

انظر للغرب دون قلق

فجاءت إضافة المسيري في تطوير الخطاب الديني لتسد تلك الثغرة المعرفية والفلسفية فاستطاع أن يحدد بأن عملية تحول الغرب من مركز مطلق إلى كونه احد التشكيلات الحضارية تجعل من الممكن بالنسبة لنا أن ننظر إليه دون قلق.
إن ما يقدمه المسيري ليس نقدا سطحيا من موقع خارج منظومة الفكر الغربي بل هو تحليل متعمق في قلب الظاهرة، فالتقدم والتغيير لا يكون باللحاق بالغرب فهذه التبعية هي نفسها مصدر قتل الإبداع، لأنه إذا كان المطلوب اللحاق بالغرب فمعنى ذلك أنك لا تبدع وإنما تقلد.وهذا ما دعاه إلى تسمية جيل النهضة بأنه كان جيلا مقلدا، حيث تحول التأليف إلى ترجمة، وأصبح الذي يجيد لغة أجنبية مؤلفا بغض النظر عن مقدرته الإبداعية. فيركز على أن يفهم فقهاء الأمة طبيعة هذه الحداثة الغربية، ويدركوا أنها ليس فيها مطلق، أنها نسبية، وأنها في نهاية الأمر تفتت الإنسان وتحوله إلى مادة استعمالية.
فالحاجة عند المسيري تحتاج إلى رؤية تولد من رحم الإسلام خطابًا حديثًا يتناسب مع الوضع الراهن ومقتضيات العصر، وهي ليست مسألة معقدة، ولكن الحركة العلمانية دائمًا تحاول إنكار التطورات التي حدثت للخطاب الإسلامي، فإذا تطور الخطاب الديني يجب الاعتراف بذلك والتعاون معه، لأن الهدف هو مصلحة هذا الوطن وهذه الأمة، فمن يحمل لواء المقاومة والثورة الآن هم الإسلاميون، في فلسطين والعراق ومصر وفي كل العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك يعني أيضًا أن قسمًا كبيرًا من الأرض التي كانت تحتلها التيارات العلمانية والماركسية أصبحت الآن تحت سيطرة الإسلاميين وهو ما يغضب هذه التيارات،لذا يوجه المسيري دعوة للعلمانيين والماركسيين التحلي بالموضوعية وأن يعترفوا بالتطور الذي حدث.
كما يركز المسيري على أن المعرفة أساس للتجديد فسبب الفشل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن هو قلة معرفتنا بعدونا فالمعرفة شرط لمن أراد الدخول إلى المعركة.وبالنهاية يدعو المسيري إلى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاوز والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.فهو المفكر الجريء بانتقاد حركة الاستنارة العقلية المادية المتطرفة وما قادت إليه الغرب، والعالم وراءه، من ضياع وصراعات وانتكاس في الغايات والممارسات، وانسداد في أفق المعرفة والمصير الإنساني إلى درجة القول بأن منطق الاستنارة المضيئة والتنوير المشرق يقود الإنسانية بالضرورة إلى الاستنارة المظلمة والتنوير ألظلامي وهذا ما يتضح في كتاب المسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
________________________________________
باحث أردني في التاريخ
*ورقة علمية قدمت لندوة المسيرى: الرؤية والمنهج عقدت في القاهرة 14 – 16 فبراير 2007.. بتصرف يسير.
المصدر: اسلام أون لاين

محمد حسين بزي
06/07/2008, 08:54 PM
المسيري والخطاب الإسلامي الجديد *

د.صالح الشورة





قوض المسيري بخطابه العلمانية الغربية

أسهمت الكثير من الخطابات الدينية في إعادة تشكيل الفهم الديني والسلوك الديني أكثر مما أسهمت في ظهور مفاهيم جديدة تحل محل المفاهيم التي رسخت في نفوس المسلمين وحددت اتجاه الفكر الإسلامي المعاصر.
فالممارسات والشعارات والخطابات التي يعيشها المواطن العربي أنتجت علاقات غير متكافئة وفجوة بين السلطة والفرد في المجتمع وأن القمع الذي تمارسه النظم السياسية يتيح الفرصة لتفجر الخلاف والصدام بين مكونات البنيان الواحد ويؤكد على الهزيمة والتخلف في شتى ميادين الحياة.
بعض الأيديولوجيات الإسلامية المعاصرة تصرف الانتباه بعيدا عن تلك القرائن المحددة فالخطاب الإسلامي المعاصر يقدم نفسه عادة على أنه مالك للحل السحري الذي سيعيد المجد للأمة ويخرجها من كبوتها منطلقا من انشداه الجمهور للحظة ومتناسيا الواقع والغرق في بحر الحداثة وما بعد الحداثة.

كره الحداثي للعقل الإسلامي

غالبا ما تحدث التغيرات الكبرى في المفاهيم الدينية والسياسية بالتدريج ولا يشعر الناس بخطورتها إلا عندما يسترجعون الأحداث فيما بعد فعندما درس المؤرخ الفرنسي "مارك بلوك" محاولات الاستقلال في أوروبا كتب قائلا "إن الأجيال التالية لا تخلق أنماطا اجتماعية جديدة وإنما تبعث الأنماط القديمة من رقادها".
إن الإسلام في عيون الإنسان العصري الذي يسيره اليوم أنموذجا معرفيا علمانيا يُنظر إليه باعتباره شيئا قديما لا أمل يرجى من ورائه. فالحداثي يكره أي تعبير ينتمي إلى العقلية الإسلامية.
وهنا نجد الدكتور المسيري الذي لم يؤسس لخطاب إسلامي جديد بقدر ما قوض الخطاب العلماني الغربي وأُسسه الفلسفية المعرفية وهو الممثل لصوت العقل الذي ينشد الحقيقة حتى وهو يحتج على المذاهب القائمة ويتحداها.
تأتي أهمية كتابات المسيري من أنها محاولة واعية لفهم الآخر ونقد الذات في فهمها للآخر ثم الارتقاء إلى مرحلة الوعي للنماذج الإدراكية وبناء تلك النماذج وتجيلها في الواقع وبيان موقعها في شبكة الإدراك وصلة ذلك كله بالسلوك الإنساني.
إنه من صميم العقيدة الإسلامية أن يواجه المفكر المسلم منظومة التحديث والحداثة وأن يبين مواطن النقص والخطأ فيها كمذهب لا كفكر.كما إن إخفاق هذه المنظومة في بناء رؤية متكاملة للعالم ورفضها أن تضع في اعتبارها القضايا الجوهرية للمصير البشري يعد سببا قويا لأن يحجم الوعي الإسلامي عنها وأن يتمرد على أي نظام إدراكي أو أخلاقي ينتمي إلى تلك المنظومة.
ومما يؤسف له أن معظم المفكرين المسلمين في مواجهتهم منظومة الحداثة ورؤيتها العلمانية لنظام العالم يكشفون عن الكثير من السخط والقليل من الفهم. والقليل منهم من يواجه الحداثة بوصفها تحولا في المعرفة والوعي والأخلاق الأمر الذي أدى إلى أن يتخلى الغرب عن مبادئه المسيحية ويتحدى أي تصور توحيدي متجاوز للنظام الجوهري للأشياء.
لقد وصل المسيري عبر دراسته لموضوعات اليهود واليهودية والصهيونية إلى ضرورة كشف واكتشاف التحيزات الغربية الكامنة في مصطلحاتنا ومناهجنا وأدواتنا البحثية وقيمنا المعرفية واقترح مصطلحات ومناهج وأدوات وقيما بديلة تتسم بقسط أكبر من الاستقلالية والقدرة التفسيرية العالية وطرح أنموذجا بديلا تعمل على ضوئه الأمة الإسلامية. وهو يوضح أن القضية الأساسية ليست في مجرد رفض الأنموذج الغربي بحجة أو بأخرى مهما كانت مقنعة أو متعمقة بل هي في نقد وتحليل هذا الأنموذج للكشف عن التحيزات الخاصة الكامنة فيه وبيان بأنه ليس بالأطروحة العالمية المطلقة التي تجب غيرها كما يحاول مروجوه .
إنسانية الإنسان ومادية الطبيعة
ومن هنا يأتي قوله في إسلامية المعرفة بوصفها تواصلاً مع الجهود الغربية لفك الارتباط بين إنسانية الإنسان و " مادية الطبيعة :" إن مشروع أسلمة المعرفة يبدأ كمشروع أنسنة المعرفة أي استعادة الفاعل الإنساني كمقولة مادية روحية لا يمكن ردها إطلاقاً إلى عالم المادة وتتطلب دراستها مناهج خاصة ونماذج مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، ولكون تعريف الإنسان ككائن روحي مادي وكظاهرة غير طبيعية غير مادية يشير في النهاية إلى ما وراء الطبيعة. إلى الله سبحانه وتعالى. "
ويرى المسيري أيضا " إن الثنائية بين الإنسان والطبيعة ستظل واهية ما لم تكتشف الثنائية بين الخالق والمخلوق. فالخلاف يصب في المصدرية لهذه الثنائية التي يرى البعض أن مصدرها مجرد انفصال الإنسان عن الطبيعة دون ذكر لمصدر هذا الانفصال وتحوله إلى كائن حضاري يعيش داخل منظومات معرفية وجمالية وخلقية ولدها بنفسه وعليه يصبح الإنسان النقطة المرجعية النهائية الأمر الذي سيجعله يتحول تدريجياً إلى البديل الميتافيزيقي للإله في المنظومات التوحيدية ".
فالمسيري لا ينقد خصائص وجوانب في الفكر الغربي ويدعو إلى اعتناق ما جاء بنقده بل يحاول إيصال فكرته لتبني ما هو أفضل خاصة إذا كان التحيز أكبر وأقوى عادة في ميادين العقائد الدينية_وهو المجال الخصب_وغيرها من العادات والتقاليد والعلاقات الإنسانية وما يعبر عنها من فنون وآداب وفكر وثقافة.
وهذا الشمول مبعثه في حقيقة الأمر اكتساح الإطار المعرفي الغربي الذي يستند إلى مجموعة من الأسس والمرتكزات تترك بصماتها الواضحة على الحياة ومنها العلوم الذي من شانه أن تكون له نتائج وأثار تبرز عن تبديات هذه الأسس وتلك المرتكزات في العلوم المختلفة.
أضحى الخطاب الإسلامي إما فضفاضا يسع كل شيء ويقدم حلولا حتى لمشاكل الآخر أو خطابا تتلبسه حالة من الضيق يعجز معها أن يقدم حلولا للمشكلات الواقعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.ومثاله مرحلة ما بعد الحداثة التي تطرح الخصوصية المنطلقة من أدواتها وأساليبها ومعرفتها بنفسها ويفترض الاختلاف في النماذج المعرفية الأمر الذي يصطدم بمبدأ أساس كامن في الخطاب الإسلامي وهي الشمولية والعالمية التي يفترضها الإسلام.

معالم الخطاب الجديد

لا تزال التصنيفات والتحليلات النمطية لتيارات الفكر الإسلامي هي السائدة وقد نشر أستاذنا المسيري دراسة بعنوان"معالم الخطاب الإسلامي الجديد"حاول فيها أن يقدم تحليلا لمنهجية وخصائص الخطاب الديني الجديد الذي تميزه عن الخطاب القديم.
وإذا كان هنالك ما من تمييز بين خطاب إسلامي قديم وأخر جديد فان محاولة التمييز بينهما كانت تبدأ من نقطة محورية هي موقفهما من الحضارة الغربية فهذا الموقف هو الذي حدد كثيرا من ملامحهما وتوجهاتهما وأطروحاتهما.فإذا طرح الخطاب القديم كيفية التصالح مع الحداثة الغربية واللحاق بها والتكيف معها وكيفية المزاوجة بينها وبين الإسلام فان حملة الخطاب الإسلامي الجديد لا يشعرون بالإعجاب نفسه تجاه الحداثة الغربية.
ولذا نجد أن خطابهم ينبع من نقد جذري لها، لكن الخطابين يختلفان في المظهر لا في الجوهر فهما يتوحدان بنيويا في العمق: فالأول يتحدد بالغرب بشكله الايجابي والثاني يتحدد به بالشكل السلبي فإذا كان القديم أعجب ببهرجات الغرب وأنواره وأسقطها على خطابه الإسلامي دون تحريف. فإن الثاني أستخدم مترادفات الخطاب الغربي وأضفى عليها صبغة إسلامية.
ولكن إذا تعمقنا في كنه الخطاب الغربي ومدى سحره وتأثيره على القديم والجديد سنجد بأنه هو المتغير وإنما قديمنا وجديدنا يتحددان بناءًا على تغيره.
فالتغير إذا ينبع من الأنموذج المعرفي وإشكالاته التي يطرحها الغرب إن التغير في الخطاب الغربي نفسه أدى في بعض مساراته إلى تحولات كبيرة في الإبداع والثورة العلمية والتقنية وهذا ما يلحظ غيابه في الخطابين.وعدم عنايتهما بهذه المسائل وانصباب اهتمامه على أنموذج معرفي مأخوذا من الأصول الإسلامية. فبدت القضية تمثلنا كصف ثاني مرؤوس ما عليه إلا أن يجيب بصواب الغرب وخطئه من داخل منظومتنا الدينية العقائدية مما قتل الإبداع وأضفى على العقل السبات.

لا.. لأسلمة الحداثة

لذا تأتي من هنا دعوة المسيري إلى طرح تصورات إسلامية لكل مجالات الحياة بدلا من أسلمة بعض جوانب الحداثة خاصة فيما يقتصر على البحث المضني والجهد الكبير في معرفة حلّها أو حرمتها.
اخترق ذلك كله الثنائيات السائدة عن الجواهر الثابتة للحداثة والتقليد والعقلانية أو التنويرية والظلامية والعروبة والإسلام ..الخ فالإسلامية التي تنتشر بيننا نحن المسلمين اليوم ظاهرة شديدة الحداثة لا تتصل بالإسلام الذي نعرفه إلا من حيث الرموز والشعائر بل إن الشعائر نفسها صارت رموزا فهي غربة وغرابة، لأنها نوع جديد من الإسلام ويمكن أن تكون نتيجة خوفها الصاعق من المتغيرات الضخمة التي أحدثها فينا الغرب.خوف دفع للهروب إلى الخطاب بشعارات أليفة تبقى فقط شعارات، ولا تدخل في السياق الحقيقي الذي ظهرت فيه تلك الحركات.كما لا يمكن أن تشكل أهدافا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية ممكنة التحقيق.فشكلت مشروعا ضئيلا من وهج مشروع الأمة الحديث للاستقلال والكفاية والتقدم.وأنتجت الراديكالية من شتى الألوان.وشرذمت الساحة العربية وقسّمتها بحيث أصبح إسلامنا جزءا من هذه الشرذمة.
أنتح الخطاب الإسلامي القديم خطابه الجديد النقيض.فقد انصرف اليساريون والعلمانيون والقوميون والتقدميون لنقد الخطاب الإسلامي من منطلقات ليبرالية وأصبحوا هم المنتجون للحتميات الأولى,وممثلوها الحقيقيون ,وصاروا فجأة ديمقراطيين ومتنورين وعصريين .وعندما احتد الصراع بين الأنظمة, والإسلاميين انحاز الجميع الى العصرية التقدمية مع الأخذ على الخارجين على قوانين الغرب وظله.فإذا كانت الثنائية السابقة هي التقليد والحداثة والإسلام والعروبة فان الثنائية الحالية هي الإسلام والعصر .
أفضى التحليل الجديد إلى فكرة أن التخلف الذاتي يعود إلى محاكاة الماضي والعيش على أمجاده وليس لظروف تاريخية معينة.فظهرت ثنائية التخلف الذاتي في مواجهة الأفكار المستورد وطريقة علاجها.لذا تسود خطاباتنا اليوم انقسامات لا تزال تغص بالمتناقضات.
والواضح أن الاتجاهات الفكرية الموجودة ليس بيدها مفتاح الموقف ولا هي مسببه وسط هذا الموقف المتأزم على مستوى الخطابات والوجود التاريخي للأمة فلا بد من الدعوة إلى التغيير ولكن علينا تحديد الأفق الذي يمكن التطلع نحوه.
إن دراسة المسيري للظاهرة الصهيونية أجبرت رموز الظاهرة الإسلامية على مراجعة خطابها والمسلمات التي كانت قائمة في خلفيتها الذهنية وأصبحت رؤية المسيري للظاهرة الصهيونية هي التي تشكل أهم ملامح الخطاب الإسلامي الجديد باعتباره عالما قضى أكثر من ربع قرن يفكك رموز الأخر ويسلط الضوء عليه حتى صدم وعينا وسهّل علينا ما كان مستحيلا.
إن الشعور بالدونية فرض نفسه نتيجة الوضع الانهزامي الذي يخيم على المجتمع, بسبب فقدان الثقة بالنفس وبالقدرة على التجديد والمحافظة على الدين الإسلامي.فالمجتمع فاقد حيويته في مجالات النشاط الإنساني من السياسة إلى الاقتصاد إلى الجهاد وغيره فمن الطبيعي أن يفقد حيويته في المجال الفكري .فالجهل بالدين والانهزام، النفسي والخوف من الأخر،والمنافع والمصالح الزائلة كلها مفردات تعيشنا ونعيشها وغريبها أنها تحوي داخلها قدرا من القداسة أو الحرمة بحيث فقدنا وعينا ونسينا بأن الإيمان المطلق بالله المتجاوز للمادة هو الغاية لوجودنا في هذه البسيطة.ورحم الله ابن خلدون حين قال"'والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، وبخلقه، وسائر أحواله وعوائده" لذلك لم يكن صحيحا أن الكيانات السياسية العربية التي نشأت في أعقاب انكفاء المشروع الاستعماري وجلاء قواته العسكرية، تستمد شرعيتها من رحم اجتماعي داخلي فالجراحة الاستعمارية وقعت على كيانات كان بعضها موجودا وكان نسيجه الاجتماعي متماسكاً، فأنتجت دولاً داخل الشعب الواحد موزّعة إياه عليها.وما زال الطبيب الغربي يجري جراحته في قلب الخطاب والمشروع العربي الإسلامي حتى الحاضر.
إن مهمة الإسلام كما هي من عند الله، وتتمثل في إنقاذ الإنسان فكريا وأخلاقيا وحمايته من الوقوع في الخطأ وهذا ما تجلى في كتابات المسيري الذي يمثل صوت العقل وينشد الحقيقة حتى وهو يحتج على المذاهب القائمة ويتحداها.فالأدوار بين الغرب والإسلام مختلفة تماما لذا ركز المسيري على أن الغرب "تراجعت فيه العقيدة الدينية وانحسر الإيمان بالمطلقات المعرفية والأخلاقية وبدأت محاولات لتأسيس علم أخلاق يستند إلى القوانين العلمية والحسابات الرياضية الدقيقة بحيث أصبحت الأخلاق هي المنفعة واللذة وأصبح الهدف من الحياة هو البحث عنهما وتعظيم الإنتاج والدخل وهي أهداف تتسم بأنها كمية يمكن قياسها ولا علاقة لها بغيب أو أسرار".
لقد اعتبر بعض الباحثين والفقهاء أن الإشارة الواردة في الحديث عن زمن التجديد على رأس كل مائة سنة إنما هي دلالة على حقيقة استمراريته ، وتقارب زمانه بحيث يصبح عملية تواصل وتوريث.
القداسة في خدمة الحداثة
وبناءً على ذلك فإن عملية التجديد تعتبر ضرورة لإعادة ضبط العلاقة بين الوحي والعقل حتى لا تضطرب الأمور فيصير التجديد نابعًا من الخارج "التقليد الغربي" أو مرتدًا نحو الماضي لمحاولة إعادته "تقديس التراث"، فالعقل هدفه رفعة الإنسان وأساس تحمله للأمانة وقاعدة التكليف والالتزام بقواعد الاستخلاف.
لذلك ظل كبار مفكري الأئمة ينظروا للخلاف كمصدر غنى للثقافة الإسلامية وزخم للحضارة المرتبطة بعمق التجربة التاريخية واتساع الانتشار الجغرافي.
يقول المسيري "إن محاولة اللحاق بالغرب أصبحت هي جوهر معظم المشروعات النهضوية في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي" وتتجلى هذه الحقيقة في تلك المشروعات في الفكر العلماني الليبرالي الذي حدد النهضة –ابتداء-بأنها نقل الفكر الغربي والنظريات الغربية بأمانة شديدة ،وإذا ما نبغ عالم عربي في أي مجال ما فلن يكون له الحضور إلا بعد أن يختم على أعماله بأنها تقليد لآخر غربي. وقد أصبح العالم يضفي على النتاج الغربي الصيغة الإلهية ولمسة القداسة السماوية بحجة أنها طريق النجاة من جحيم التقليد والمحافظة...الخ وهكذا تحولت بعض الفتاوى العصرية إلى أداة لهدم الشريعة نفسها. والحق أنها لا تعني إلا بالالتحاق بالأنموذج الغربي والانسحاق داخله فأصبح التجديد والاجتهاد يميل إلى الأخذ بالملائمة ولٌى عنق النصوص الشرعية الإسلامية حتى تتمشى وتقترب أو تطابق القوانين والمفاهيم الغربية.
فنشر الديمقراطية الغربية لا بد أن يقترن بالاحتلال واحترام حقوق الإنسان لا تأتي إلا بمناهج مدرسية جديدة تخلو حتى من البسملة،والحراك الاجتماعي السليم تنتجه الفتنه وبذور الشقاق والانضمام إلى الصفوة ينشأ منذ الولادة في المدارس الغربية.
إن إقرارنا وقبولنا بالخضوع للهيمنة الغربية قد حصل فعلا.فإذا كانت الهزيمة العسكرية هي حصيلة موازين قوى,فهي أمر موضوعي أو حتمي في ظروف معينة,لكن الهزيمة الثقافية ليست حتمية إلا عندما يقر الطرف الأضعف بها ويقبلها كما جاء عند "مالك بن نبي" في فكرته "قابلية الاستعمار" والمقصود هنا هو القبول والتبعية واليأس من المقاومة .فعندما حصل المسلمون على استقلالهم,كان استقلالا ناقصا قاصرا إذ أن الاستقلال الحقيقي أن يتحرروا من التبعية للغرب سواء التشريعية أو الثقافية أو الاجتماعية إلى جوار التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي.
يلاحظ الدكتور المسيري من زاوية فلسفية سياسية إن المدافعين عن العلمانية العقائدية من المسلمين يسعون إلى تحقيق مشروع ذي طابع سياسي لن تكون عواقبه حميدة وحتى إذا نادوا بشكل من أشكال الحداثة يوازي العلمانية الجزئية(خاصة وانه ميز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية) فإنهم لا يدركون القوة التفويضية للوعي الحلولي والواحدي ناهيك عن افتراض تصديهم لهذا الوعي وإذا جاز التسامح مع السياسة العلمانية لكونها شيئا يصعب تجنبه فان علمنة الثقافة والمجتمع والحياة الداخلية لأفراد المجتمع يعد بمثابة كارثة لا يمكن التسامح معها.

انظر للغرب دون قلق

فجاءت إضافة المسيري في تطوير الخطاب الديني لتسد تلك الثغرة المعرفية والفلسفية فاستطاع أن يحدد بأن عملية تحول الغرب من مركز مطلق إلى كونه احد التشكيلات الحضارية تجعل من الممكن بالنسبة لنا أن ننظر إليه دون قلق.
إن ما يقدمه المسيري ليس نقدا سطحيا من موقع خارج منظومة الفكر الغربي بل هو تحليل متعمق في قلب الظاهرة، فالتقدم والتغيير لا يكون باللحاق بالغرب فهذه التبعية هي نفسها مصدر قتل الإبداع، لأنه إذا كان المطلوب اللحاق بالغرب فمعنى ذلك أنك لا تبدع وإنما تقلد.وهذا ما دعاه إلى تسمية جيل النهضة بأنه كان جيلا مقلدا، حيث تحول التأليف إلى ترجمة، وأصبح الذي يجيد لغة أجنبية مؤلفا بغض النظر عن مقدرته الإبداعية. فيركز على أن يفهم فقهاء الأمة طبيعة هذه الحداثة الغربية، ويدركوا أنها ليس فيها مطلق، أنها نسبية، وأنها في نهاية الأمر تفتت الإنسان وتحوله إلى مادة استعمالية.
فالحاجة عند المسيري تحتاج إلى رؤية تولد من رحم الإسلام خطابًا حديثًا يتناسب مع الوضع الراهن ومقتضيات العصر، وهي ليست مسألة معقدة، ولكن الحركة العلمانية دائمًا تحاول إنكار التطورات التي حدثت للخطاب الإسلامي، فإذا تطور الخطاب الديني يجب الاعتراف بذلك والتعاون معه، لأن الهدف هو مصلحة هذا الوطن وهذه الأمة، فمن يحمل لواء المقاومة والثورة الآن هم الإسلاميون، في فلسطين والعراق ومصر وفي كل العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك يعني أيضًا أن قسمًا كبيرًا من الأرض التي كانت تحتلها التيارات العلمانية والماركسية أصبحت الآن تحت سيطرة الإسلاميين وهو ما يغضب هذه التيارات،لذا يوجه المسيري دعوة للعلمانيين والماركسيين التحلي بالموضوعية وأن يعترفوا بالتطور الذي حدث.
كما يركز المسيري على أن المعرفة أساس للتجديد فسبب الفشل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن هو قلة معرفتنا بعدونا فالمعرفة شرط لمن أراد الدخول إلى المعركة.وبالنهاية يدعو المسيري إلى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاوز والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.فهو المفكر الجريء بانتقاد حركة الاستنارة العقلية المادية المتطرفة وما قادت إليه الغرب، والعالم وراءه، من ضياع وصراعات وانتكاس في الغايات والممارسات، وانسداد في أفق المعرفة والمصير الإنساني إلى درجة القول بأن منطق الاستنارة المضيئة والتنوير المشرق يقود الإنسانية بالضرورة إلى الاستنارة المظلمة والتنوير ألظلامي وهذا ما يتضح في كتاب المسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
________________________________________
باحث أردني في التاريخ
*ورقة علمية قدمت لندوة المسيرى: الرؤية والمنهج عقدت في القاهرة 14 – 16 فبراير 2007.. بتصرف يسير.
المصدر: اسلام أون لاين

عيسى عماد الدين عيسى
11/02/2009, 11:55 AM
رحمك الله يا دكتور عبد الوهاب ،

صحيح أني وصلت إلى هنا متأخراً
لكن كنت و ما زلت أحترم هذا الرجل رحمه الله رحمةً واسعة
، لذلك كان لا بد من المرور عنه

و جزاك الله خيراً يا استاذ علي