المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع الروائي محمد جبريل



د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:03 AM
الروائي محمد جبريل: نبذة عن حياته

إعداد: شوقي بدر يوسف
.............................
* ولد بحى بحرى بمدينة الإسكندرية فى 17 فبراير عام 1938
* كان أبوه محاسبا ومترجما فى نفس الوقت وله مكتبته الخاصة وقد أفاد جبريل من مكتبة أبيه فى قراءاته الأولى ويعتبرها سببا أساسيا فى حبه للأدب .
* بدأ حياته العملية عام 1959 محررا بجريدة الجمهورية مع الراحل رشدى صالح ثم عمل بعد ذلك بجريدة المساء .
* عمل فى الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديرا لتحرير مجلة " الأصلاح الأجتماعى " الشهرية وكانت تعنى بالقضايا الثقافية
* عمل خبيرا بالمركز العربى للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير .
* عمل رئيسا لتحرير جريدة الوطن بسلطنة عمان ( تسع سنوات ) .
* يعمل الآن رئيسا للقسم الثقافى بجريدة المساء .
* حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عن كتابه "مصر فى قصص كتابها المعاصرين".
* حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1976 .
* درست أعماله فى جامعات السربون ولبنان والجزائر
* متزوج من الكاتبة والناقدة زينب العسال وله ابنان أمل ووليد
مؤلفاته
* الأسوار ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1973
* أمام آخر الزمان ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1984
* من أوراق ابى الطيب المتنبى ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1988
* قاضى البهار ينزل إلى البحر ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
* تلك اللحظة من حياة العالم ( قصص ) ،
* الصهبة ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1990
* قلعة الجبل ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 1991
* النظر إلى أسفل ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991
* أعترافات سيد القرية ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ،
* الصباح ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1995
* الشاطئ الآخر ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1996 وقد ترجمت هذه الرواية إلى الأنجليزية .
* حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1996
* سوق العيد ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997
* إنفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997
* أبو العباس ( رواية .. الجزء الأول من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1997
* ياقوت العرش ( الجزء الثانى من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1997
* البوصيرى ( الجزء الثالث من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1998
* على تمراز ( الجزء الرابع من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1998
* مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998
* زهرة الصباح ( رواية ) ،
* حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1998
* الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1999
* حارة اليهود ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1999
* المينا الشرقية ( رواية ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2000
* رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2000
* بوح الأسرار ( رواية ) ، روايات الهلال ، القاهرة ، 2000
* مد الموج ( تبقيعات نثرية مستمدة من سيرة ذاتية ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2000
* نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2001
* زمان الوصل ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2002
* ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بآمر الله ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 2003
**حكايات الفصول الأربعة (رواية)، دار البستانى للنشر والتوزيع 2004
***
عنوان القصة مكان النشر العدد تاريخ النشر
الرائحة الهلال يناير 1983
الطوفان إبداع 2 س 4 فبراير1986
حكايات وهوامش إبداع 6 س 4 يونيو 1986
المستحيل إبداع 8 س 4 أغسطس 1986
انتظار الموقف العربى 77 سبتمبر 1986
فلما صحونا إبداع 6 س 5 يونيو 1987
الرفاعى والثعبان إبداع 5/6 س 7 مايو/يونيو1989
مكان من الزمن القديم إبداع 11 س 7 نوفمبر 1989
فى الشتاء نصف الدنيا 8 8/4/1990
حالة أدب ونقد 58 يونيو 1990
النبؤة الشاهد 59/60 يوليو/أغسطس 1990
تشابكات نصف الدنيا 83 15/9/1991
النبى عمران أدب ونقد 85 سبتمبر 1992
الفندق الهلال مارس 1993
الوقف القصة 85 يوليو/اغسطس/سبتمبر95
الشجرة الأهرام العربى 74 22/8/1998
مدينة الأسرار الأهرام 27/11/1998
مد الموج الرافد 40 ديسمبر 2000
البيرق الرافد 66 فبراير 2003
الكتب التى صدرت عنه
* الفن القصصي عند محمد جبريل ، مجموعة من الباحثين ، مكتبة منيرفا ، الزقازيق ، 1984
* دراسات فى أدب محمد جبريل ، مجموعة من الباحثين ، مكتبة منيرفا ، الزقازيق ، 1986
* صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل، د . حسين على محمد ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الأسكندرية ، 1999
* فسيفساء نقدية : تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل ، د . ماهر شفيق فريد ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1999
* محمد جبريل .. موال سكندرى ، فريد معوض وآخرون ، كتاب سمول ، 1999
* استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ، د . سعيد الطواب ، دار السندباد للنشر ، 1999
* تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل، د. حسين على محمد، كلية اللغة العربية، المنصورة ، 2001
* فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ، نعيمة فرطاس ، أصوات معاصرة ، 2001
* روائى من بحرى ، حسنى سيد لبيب ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2001
الدراسات التى نشرت عن ابداعه فى فصول من الكتب
* ( محمد جبريل ) ، أحاديث حول الأدب والفن والثقافة ، عبد العال الحمامصى ، دار المعارف ، القاهرة ، 1978
* ( قراءة فى قصص محمد جبريل ) ، قراءة فى القصة القصيرة ، محمد قطب ، المكتبة الثقافية .. الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1981
* ( ملامح البيئة المصرية فى " إنعكاسات الأيام العصيبة " ) ، مقالات وبحوث فى الأدب العربى المعاصر ، د . صابر عبد الدايم ، دار المعارف ، القاهرة ، 1983
* ( البناء الفنى فى رواية " آخر الزمان " ) ، در اسات نقدية فى الأدبين العربى والأسبانى ، د . حامد يوسف أبو أحمد ، الفكر العربى ، القاهرة ، 1987
* ( قاضى البهار ينزل إلى البحر وأسلوب التقرير البوليسى فى بناء الرواية ) ، رواية قاضى البهار ينزل إلى البحر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
* ( استلهام الأحداث والشخصيات التاريخية فى قصص محمد جبريل ) ، الظواهر الفنية فى القصة القصيرة المعاصرة فى مصر 1967 – 1984 ، د . مراد عبد الرحمن مبروك ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
* ( الأسوار .. لحظات مصرية ) ، إنطباعات غير نقدية ، عبد العال الحمامصى ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، د . ت
* ( تعدد مستويات الخطاب الروائى : د . ماهر شفيق فريد ) ، رواية قلعة الجبل ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 1991
* ( رواية محمد جبريل " من أوراق أبى الطيب المتنبى .. العلاقة الجدلية بين الأدب والتاريخ ) ، دراسات نقدية فى الأدب المعاصر ، د . أحمد زلط ، دار المعارف ، القاهرة ، القاهرة ، 1991
* ( " إمام آخر الزمان " و " الأسوار " و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ) ، العناصر التراثية فى الرواية العربية فى مصر .. دراسة نقدية 1914 – 1986 ، د . مراد عبد الرحمن مبروك ، دار المعارف ، القاهرة ، 1991
* ( محمد جبريل والبحث عن الحلم الضائع ) ، الرواية التاريخية فى أدبنا الحديث ، د . حلمى محمد قاعود ، دار الإعتصام ، القاهرة ، 1990
* ( محمد جبريل قصاصا ) ، فى القصة العربية ، د . يوسف نوفل ، كتابات نقدية .. الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1992
* ( تأملات فى روايتى " هنرى الرابع " لهانريش مان و " قلعة الجبل " لمحمد جبريل : د . عبد الله محمد أبو هشة ) ، المؤتمر الدولى للدراسات الجرمانية ج 6 ، القاهرة ، 1991
* ( العنف السياسى فى رواية " الأسوار " ) ، الرؤية السياسية فى الرواية الواقعية فى مصر 1965 – 1975 ، د . حمدى حسين ، مكتبة الآداب بالجماميز ، القاهرة، 1994
* ( " الأسوار " و " النظر إلى أسفل " ) ، الرؤى والأحلام .. قراءة فى نصوص روائية ، محمد قطب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1995م
(يتبع)

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:05 AM
* ( محمد جبريل روائيا .. أزمة جيل من الوعى الأيديولوجى والوعى الفنى ) ، الرواية السياسية ، د . طه وادى ، دار النشر للجامعات المصرية ، القاهرة ، 1996 ص 165
* ( محاور التجربة القصصية فى مجموعة " هل " لمحمد جبريل ) ، جماليات القصة القصيرة .. دراسة نصية ، د . حسين على محمد ، الشركة العربية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1996
* ( " زهرة الصباح " البحث عن الأمل والحلم بالنجاة ) ، حوار الرواية المعاصرة فى مصر وسورية ، د . حلمى محمد القاعود ، دار إشبيلية ، دمشق ، 1998
* ( المقاومة أو الوطن إلى الجنون " حول قصص محمد جبريل " ) ، اجيال من الإبداع ، زينب العسال ، جماعة التأصيل الأدبى والفكرى ، القاهرة ، 1998 ص 78
* ( محمد جبريل .. " قاضى البهار ينزل إلى البحر " إستخدام اسلوب التقرير البوليسى فى بناء الرواية : النظر إلى أسفل والبطل المأزوم والتعبير عن أزمة المجتمع ) ، مسيرة الرواية فى مصر .. قراءة لنماذج مختارة ، د . حامد أبو احمد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2000 ص 55 ص 73
* ( غرباء على الخليج .. الخليج ) ، تقاسيم نقدية ، زينب العسال ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2001 ص 49
* ( قصدية المقاومة فى مجموعة حارة اليهود ) ، المقاومة والأدب ، د . السيد نجم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2001 ص 62
* ( رباعية بحرى ) ، الحياة فى الرواية .. قراءة فى الرواية العربية والمترجمة ، أحمد فضل شبلول ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، 2001 ص 30
* ( فضاء " المكان الحلم " فى مجموعة " حكايات وهوامش من حياة المبتلى " لمحمد جبريل ، بناء " فضاء المكان " فى القصة العربية القصيرة .. نقد ، محمد السيد اسماعيل ، دائرة الثقافة والأعلام ، الشارقة ، 2002 ص 151
* ( كل إلى بيته يعود .. أو إلى " الشاطئ الآخر " ) ، اللغة والتراث فى القصة والرواية ، ربيع الصبروت ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2003
الدراسات التي نشرت عن إبداعه فى الدوريات
* قراءة فى أدب كاتب شاب .. حول محمد جبريل ، محمد قطب ، المجلة ، القاهرة ، ع 178 ، أكتوبر 1971 صص 84
* أى فن يبتعد عن الإنسان يجعل الحياة تفقد قيمتها ( حوار ) ، يوسف مظلوم ، الميساجية ، القاهرة ، 17/10/1971
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، محمد صدقى ، الجمهورية ، القاهرة ، 13/4/1972
* دراسة أكاديمية أم رواية أدبية .. حول رواية " الأسوار " ، فتحى الإبيارى ، الأخبار ، القاهرة ، 14/4/1972
* لقاء مع محمد جبريل ( حوار ) ، يوسف مظلوم ، الميساجية ، القاهرة ، 30/4/1972
* الشعب والحرب والحياة ، كمال النجمى ، المصور ، القاهرة ، 23/6/1972
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، د . نبيل راغب ، المساء ، القاهرة ، 9/8/1973
* مصر بين جمود المؤرخ وتسطيح الأديب ، د . رفعت السعيد ، الطليعة ، القاهرة ، اكتوبر 1973
* عرض لرواية " الأسوار " ، عبد العال الحمامصى ، الزهور ، القاهرة ، أبريل 1974
* الأسوار ( رواية ) ، د . نبيل راغب ، الثقافة ، القاهرة ، أبريل 1974
* محمد جبريل فى الأسوار .. الفنان من خلال عمله، محمد الراوي، الثقافة ، القاهرة ، ع 45 ، 30/8/1974
* الناس فوق الأزمنة الممتدة .. قراءة فى رواية الأسوار ، الداخلى طه ، الزهور ، القاهرة ، ديسمبر 1974
* محمد جبريل الزمان والمكان ( حوار ) ، د . نبيل راغب ، ج الجزيرة ، الرياض ، ع 1937 ، جمادى الآخر 1394
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، طه محمد كسبه ، الثقافة ، القاهرة ، 15/3/1974
* قطر الندى .. عن كتاب مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، عبد المنعم الصاوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 29/12/1975
* الإنسان وإيقاع العصر الراكض .. حول مجموع " تلك اللحظة من حياة العالم " ، حسن الجوخ ، الثقافة العربية ، طرابلس ، ع 1 س 4 ، يناير 1977 ص 40
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( تأليف محمد جبريل ) ، نبيل راغب ، الجديد ، القاهرة ، ع 135 ، 1/1/1978 ص 35
* رواية " الأسوار " محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، ج الراية ، الدوحة ، 25/2/1981
* رواية " الأسوار " محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، ج الوطن ، عمان ، 30/3/1981
* الفارس فوق ساحة الأزمنة .. قراءة فى رواية " الأسوار"، الداخلي طه، ج الوطن ، مسقط ، 1/6/1981
* جبريل يواصل العطاء ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، ع 254 ، 6/9/1981
* الأسوار ( رواية محمد جبريل ) محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، القصة ، القاهرة ، أكتوبر 1981
* النظر إلى اسفل ، د . حسن فتح الباب ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 5/1/1983
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، د . نبيل راغب ، المساء ، القاهرة ، 9/8/1983
* محمد جبريل والعودة إلى النصف الآخر ، العقد ، 14/6/1984
* من هو " إمام آخر الزمان " ؟ ، شفيق أحمد على ، روز اليوسف ، القاهرة ، 12/11/1984
* إمام آخر الزمان .. جبرة الأنسان بين الدونية الممقوتة والكمال المطلق ، الداخلى طه ، إبداع ، القاهرة ، ع 3 س 3 ، مارس 1985
* محمد جبريل يتحدث إلى صوت الشرقية، زينب العسال، صوت الشرقية، الزقازيق، مارس 1985
* الروائى المصرى محمد جبريل ، المحرر ، مرآة الأمة ، الكويت ، 27/7/1985
* انعكاسات الأيام العصيبة .. مجموعة قصصية ، عبد الوهاب الأسوانى ، الأذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 2639 ، 12/10/1985 ص 37
* إمام آخر الزمان ( رواية محمد جبريل ) ، المحرر ، الحياة ، لندن ، 20/10/1985
* إمام آخر الزمان ، المحرر ، إبداع ، القاهرة ، يناير 1986
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين، حسن محسب، الإذاعة والتليفزيون، القاهرة، 10/1/1986
* البناء الفنى فى رواية " إمام آخر الزمان " ، د . حامد أبو احمد ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 782 / 784 ،
* قراءة نقدية فى رواية " الأسوار " ، على عبد الفتاح ، مرآة الأمة ، الكويت ، 30/4/1986
* مغامرة الشكل الروائى .. المزج بين الحوار المسرحى والفلاش باك ، على عبد الفتاح ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 743 ، 7/5/1986
* الكاتب الروائى محمد جبريل ( حوار ) ، محمد يوسف ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 745 ، 21/5/1986
* هل عادت الرواية إلى الرومانسية .. " حول روايات محمد جبريل " ، فتحى سلامة ، الأهرام ، القاهرة ، 29/6/1986
* هوامش محمد جبريل .. حول رواية " إمام آخر الزمان " ، جمال نجيب التلاوى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 2685 ، 30/8/1986
* جبريل : تجربة الغربة انعكست على كثير من كتاباتى .. " إمام آخر الزمان " تناقش هما عربيا موحدا ، على عبد الفتاح ، 7/9/1986
* هل يعترف ادباؤنا بالزممن مقارنة بين " يوم قتل الزعيم " و " النظر إلى أسفل " محمود المنسى ، م النصر ، القاهرة ، فبراير 1987
* رواية " إمام آخر الزمان"، د . حلمى محمد القاعود ، عالم الكتاب ، القاهرة ، ع 13 ، يناير/فبراير/مارس 1987
* من اوراق أبى المتنبى ، أحمد هريدى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، 5/3/1987
* السؤال الحائر فى مجموعة " هل " لمحمد جبريل ، جمال بركات ، القاهرة ، القاهرة ، ع 97 ، 15/7/1989 ص 104
* الأديب محمد جبريل وعالمه الإبداعى ( حوار ) ، على عبد الفتاح ، البيان ، الكويت ، أغسطس 1987
* من أوراق ابى الطيب ، أحمد زكى عبد الحليم ، حواء ، القاهرة ، 5/2/1988
* محمد جبريل و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 21/2/1988
* محمد جبريل والتعبير ، أيمن حسن محمد ، الرافعى ، طنطا ، ع 8 ، 1988
* من أوراق أبى الطيب المتنبى ، أحمد زكى عبد الحليم ، حواء ، القاهرة ، 5/3/1988
* من أوراق أبى الطيب المتنبى ، أحمد هريدى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، 5/3/1988
* الروائى محمد جبريل ( حوار ) ، شرف الدين عبد الحميد ، صوت سوهاج ، سوهاج ، يوليو 1988
* الرغبة والتحقيق فى أوراق أبى الطيب المتنبى ، د . محمد نجيب التلاوى ، الجنوبى ، المنيا ، اكتوبر 1988
* الرغبة والتحقيق فى " أوراق أبى الطيب المتنبى " ، جمال نجيب التلاوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 4/10/1988
* من أوراق أبى الطيب المتنبى ، الدخلى طه ، القاهرة ، القاهرة ، ع 88 ، 15/10/1988
* النقاد يناقشون رواية " أوراق أبى الطيب المتنبى " ، المحرر ، الصناعة والأقتصاد ، القاهرة ، 1/1/1989
* ندوة حول محمد جبريل وروايته " اوراق أبى الطيب المتنبى " ، على عبد الفتاح ، الرأى العام ، الكويت ، 16/1/1989
* محمد جبريل صاحب " أوراق المتنبى " ( حوار ) ، شادى صلاح الدين ، ج الوطن ، عمان ، 26/1/1989
* الروائى المصرى محمد جبريل: أهاجر إلى التاريخ لأكتب من الواقع ، المحرر ، الشرق الأوسط ، لندن ، 27/1/1989
* البناء الفنى فى رواية "إمام آخر الزمان"، د . حامد ابو احمد ، إبداع ، القاهرة ، فبراير 1989
* هذه الرواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، المحرر ، م أكتوبر ، القاهرة ، 26/3/1989
* الواقعية الرمزية فى رواية محمد جبريل الجديدة " قاضى البهار ينزل البحر " ، المحرر ، ج الرياض ، الرياض ، 6/4/1989
* محمد جبريل لكى نتساجل لا بد من إثارة قضية أولا ، المحرر ، ج الشرق الأوسط ، لندن ، 23/4/1989
* قاضى البهار ينزل البحر ، فتحى الأبيارى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 2/7/1989
* محمد جبريل بين شد الصحافة وجذب الأدب ( حوار ) ، هبة الله يوسف ، م العرب ، 10/7/1989
* رواية " قاضى البهار ينزل إلى البحر " ، د . حامد أبو أحمد ، ج الرأى العام ، الكويت ، 17/8/1989
* محمد جبريل : لجنة نوبل لا تقرأ الأعمال واتجاهاتها سياسية (حوار)، د . محمد نجيب التلاوى ، صوت المنيا ، المنيا ، 14/9/1989
* العناصر التراثية فى الرواية المصرية .. حول روايات محمد نجيب ، د . جمال التلاوى ، القاهرة ، القاهرة ، نوفمبر 1989
* حوار مع الأديب محمد جبريل ، الفيروز ، يناير 1990
* قاضى البهار ينزل إلى البحار ، فتحى هاشم ، الكواكب ، القاهرة ، 20/2/1990
* صهبة محمد جبريل ، د . ماهر شفيق فريد ، م أكتوبر ، القاهرة ، 11/4/1990
* محمد جبريل ينزل إلى البحر، د. محمد زكريا عنانى ، الأيام ، القاهرة ، 8 – 15/4/1990
* صهبة محمد جبريل ، المحرر ، م أكتوبر ، القاهرة ، ع 703 ، 15/4/1990
* نقطة فوق حرف ساخن .. حول رواية " الصهبة " ، رأفت الخياط ، المساء ، القاهرة ، 11/5/1990
* بنيات السرد الموضوعى .. حول رواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، د . جمال نجيب التلاوى ، إبداع ، القاهرة ، مايو/يونيو 1990
* حوار مع الروائي محمد جبريل ، د. حسين على محمد ، القصة ، القاهرة ، يوليو 1990
* الأيام تحاور الأديب محمد جبريل ، مجدى عبد النبى ، الأيام ، القاهرة ، 22/7/1990
* رواية " الصهبة " لمحمد جبريل وصورة الإنسان متمردا مقدسا وهائما محسوسا ، شمس الدين موسى ، القدس العربى ، لندن ، 31/7/1990
* حالة الصهبة التى يغشى فيها ، د. مصطفى عبد الغنى ، الأهرام ، القاهرة ، 12/8/1990
* محمد جبريل الأسطورة والأنسان ، خير سليم ، م قنا الأدبية ، قنا ، ع 1 .
* الشخصيات الروائية فى " قاضى البهار ينزل البحر " ، جمال بركات ، القاهرة ، القاهرة ، ع 107 ، 15/8/1990
* حركة النص التراثى فى القصة المصرية .. حول محمد جبريل ، د . مراد مبروك ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، مارس 1991
* عائشة فى مواجهة سلطان القلعة، عبد الفتاح رزق، روز اليوسف ، القاهرة ، 11/3/1991
* قلعة الجبل بين القناع التاريخ والرواية السياسية ، د . طه وادى ، الحياة ، لندن ، 16/8/1991
* البطل المأزوم بين عجز الذات والخلاص المرير .. قراءة فى رواية " الصهبة " ، سمير الفيل ، إبداع ، القاهرة ، سبتمبر/اكتوبر 1990
* الصهبة لمحمد جبريل .. قصة طويلة يسعى البطل بنفسه إلى أن يكون ضحية الأستبداد ، محسن خضر ، الحياة ، لندن ، 22/10/1990
* عندما اختلف النقاد الأربعة حول رواية " الصهبة " ، المحرر ، نصف الدنيا ، القاهرة ، ع 42 س 1 ، 2/12/1990 ص 50
* الروائى محمد جبريل ، محمد الفقى ، الأنباء ، الكويت ، 23/1/1991
* مدن النسيان .. حول رواية " قلعة الجبل " ، محمد على فرحات ، الحياة ، لندن ، 5/3/1991
* قلعة الجبل بالفرنسية ، ثناء أبو الحمد ، الأخبار ، القاهرة ، 22/5/1991
* الإطار والصورة فى " الصهبة " ، د . عبد البديع عبد الله ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 27/2/1991
* محمد جبريل وقلعة الجبل ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 7/4/1991
* صهبة محمد جبريل لحظة صدق شفافة ومتجردة ، سعيد سالم ، الشاهد ، نيقوسيا ، ع 69 ، مايو 1991
* " قلعة الجبل " استلهام التايخ .. إسقاط على الحاضر ، سعد القرش ، الأنباء ، الكويت ، 17/5/1991
* تجليات المكان وتطور الوعى .. دراسة فى رواية " قلعة الجبل " لمحمد جبريل ، محمد أحمد الحمامصى ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، يونيو 1991
* قلعة الجبل ( رواية ) ، عماد الغزالى ، الوفد ، القاهرة ، 6/6/1991
* قلعة الجبل الضلع الرابع فى الرواية التاريخية ، د . ماهر شفيق فريد ، حريتى ، القاهرة ، 7/7/1991
* إبداع الدلالة عند محمد جبريل .. قراءة فى رواية " الصهبة " ، عبد الله السمطى ، ج الرياض ، الرياض ، 30/7/1991
* قلعة الجبل لمحمد جبريل .. الرواية بين القناع التاريخ والرؤيا السياسية ، د . طه وادى ، الحياة ، لندن ، اغسطس 1991
* إبداع للدلالة فى رواية " الصهبة " ، المحرر ، الشرق الأوسط ، لندن ، 19/9/1991
* الإبداع هو الأصل والفنان يولد ولا يصنع ( حوار ) ، المحرر ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 25/9/1991
* ندوة حول " الصهبة " لمحمد جبريل ، نبيل خالد ، الرأى العام ، عمّان ، 12/11/1991
* الإخوة المواطنون والنظر إلى أسفل، د . ماهر شفيق فريد ، حريتى ، القاهرة ، 12/1/1992
* النظر إلى اسفل والصعود إلى الهاوية ، جمال بركات ، الشرق الأوسط ، لندن ، 22/1/1992
* ندوة نقدية حول رواية " النظر إلى اسفل " لمحمد جبريل ، المحرر ، الرأى العام ، عمّان ، 23/2/1992
* محمد جبريل والنظر إلى اسفل ، شمس الدين موسى ، الحياة ، لندن ، مارس 1992
* أربعة وجوه فى الرواية التاريخية فى مصر ، د . ماهر شفيق فريد ، صوت الكويت الدولى ، الكويت ، 9/3/1992
* روائى يؤرخ لحياتنا المعاصرة ، يسرى حسان ، الدولية ، باريس ، 27/4/1992 ص 40
* الروائى محمد جبريل يتحدث (حوار)، د . حسين على محمد ، المسائية ، الرياض ، 11/5/1992
* الأديب محمد جبريل ليس هناك أزمة إبداع بل صعوبة فى النشر ، المحرر ، ج الرأى العام ، الكويت ، 2/6/1992
* النظر إلى أسفل ، محمد قطب ، الأهرام ، القاهرة ، 14/6/1992
* التاريخ ملهى الإمام ومدينته الفاضلة، سعد القرش، الأهرام المسائى، القاهرة، 23/6/1992
* قراءة نقدية فى رواية " النظر إلى اسفل " لمحمد جبريل ، د . حامد أبو احمد ، العربى ، الكويت ، ع 405 ، أغسطس 1992
* المعنى فى بطن الشاعر .. حول أدب محمد جبريل ، عبد الله باجبير ، الشرق الأوسط ، لندن ، 2/8/1992
* ( ملف خاص عن محمد جبريل ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 49 ، أكتوبر 1992 )
* محمد جبريل روائيا .. قضية جيل بين الوعى الأيديولوجى والوعى الفنى ، د .طه وادى
* انشطار الذات فى رواية " النظر إلى اسفل " ، محمد قطب .
* رواية .. " إمام آخر الزمان " عبد الله محمد أبو هشة .
* قاضى البهار ينزل إلى البحر ، مصطفى كامل .
* قضيرة المصير العربى شاغلى الأساسى ( حوار ) ، محمد أحمد الحمامصى .
* التداعى والنظام فى رواية " النظر إلى اسفل " ، مجدى أحمد توفيق .
* قلعة الجبل رواية محمد جبريل ، محمد عبد الله عبد الهادى ، القصة ، القاهرة ، يوليو/أكتوبر 1992
* تاريخنا السياسى والنظر إلى اسفل ، أحمد حسين الطماوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 1/10/1992
* لغز عائشة فى " قلعة الجبل " ، محمد عبد الحافظ ناصف ، الحياة ، القاهرة ، 11/10/1992
* محمد جبريل : مبدعو الستينيات أكثر الأجيال تحملا لهموم المجتمع ( حوار ) ، المحرر ، صوت الكويت ، الكويت ، ع 14/10/1992
* السراب المنشود فى " إمام آخر الزمان " ، ناصر سلطان ، الصناعة والأقتصاد ، القاهرة ، 8/12/1992
* هل يشهد عقد التسعينيات ازدهار الفن الروائى فى مصر ، د . حامد أبو احمد ، ج الرياض ، الرياض ، 10/12/1992
* نجيب محفوظ وأحدث جيلين ، أحمد الحوتى ، ج الأنباء ، الكويت ، 12/5/1993
* المقاومة أو الطريق إلى الوطن .. حول قصص محمد جبريل ، زينب العسال ، القاهرة ، القاهرة ، مارس 1994
* " اعترافات سيد القرية " ، أحمد حسين الطماوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 3/6/1994
* محمد جبريل الزمان والمكان ، د . نبيل راغب ، ج الجزيرة ، الرياض ، ع 937 ، 1/6/1994
* كلام عن الحرية ( شهادة ) ، فصول ، القاهرة ، ع 4 م 12 ، شتاء 1994 ص 335
* سردية الرواية بين حواف الذاكرة وحواف المخيلة .. ( تحقيق ) ، عبد الله السمطى ، الحرس الوطنى ، الرياض ، ع 161 س 17 ، يناير 1996
* من تجاربهم .. ماذا يريد الكاتب ( شهادة ) ، الفيصل ، الرياض ، ع 233 س 20 ، مارس/إبريل 1996 ص 76
* القاهرة .. الأيام الأولى ( شهادة ) ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 3192 ، 18/5/1996
* الشاطئ الآخر بين جبريل وكفافيس .. حول رواية الشاطئ الآخر ، د . جمال عبد الناصر ، الأهرام ، القاهرة ، 25/8/1996
* الهروب نحو الشاطئ الآخر ، المحرر ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، أكتوبر 1996 ص 12
* محمد جبريل فى " الشاطئ الآخر " رواية الاتزان الجميل ، المحرر ، الأهرام ، القاهرة ، 1/12/1996 ص 22
* قراءة فى رواية " الشاطئ الآخر " للروائى محمد جبريل ، صلاح عطية ، أخبار الأدب ، القاهرة ، ع 192 ، 16/3/1997 ص 15
* قراءة نقدية فى رواية " زهرة الصباح " ، يوسف الشارونى ، العربى ، الكويت ، ع 462 ، مايو 1997 ص 51
* زهرة الصباح وعبيرها السياسى ، د. عبد الحميد القط، القاهرة، القاهرة ، ع 173/174/175 ، ابريل/مايو/يونيو 1997 ص 147
* حكايات وهوامش من حياة المبتلى .. عفاف عبد المعطى ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 109 ، أكتوبر 1997 ص 18
* الشاطئ الآخر .. رواية محمد جبريل ، نجلاء علام ، القصة ، القاهرة ، ع 92 ، ابريل/مايو/يونيو 1998 ص 62
* كتبت ما تريده الرواية ( شهادة ) ، فصول ، القاهرة ، ع 1 م 17 ، صيف 1998 ص 330
* عن رباعية بحرى لمحمد جبريل ، محمد رجب ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 129 ، يونيو 1999 ص 32
* رباعية بحرى ، د . ماهر شفيق فريد ، القصة ، القاهرة ، ع 96 ، أبريل/مايو/يونيو 1999 ص 36
* ماهر شفيق فريد يتأمل العالم الروائى لمحمد جبريل .. فسيفساء نقدية ، المحرر ، نصف الدنيا ، القاهرة ، ع 512 ، 5/12/1999 ص 73
* حارة اليهود ( مجموعة محمد جبريل ) ، مديحة أبو زيد ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 143 ، أغسطس 2000 ص 107
* المينا الشرقية ( رواية محمد جبريل ) ، أحمد حسين الطماوى ، القصة ، القاهرة ، ع 102 ، أكتوبر/نوفمبر/ديسمبر 2000 ص 71
* آلية التعبير فى أدب محمد جبريل .. حول مجموعة " رسالة السهم الذى لا يخطئ " ، د . حسن البندارى ، الأهرام ، القاهرة ، 2/2/2001 ص 36
* البحث عن المكان المراوغ فى " رباعية بحرى " ، مهدى بندق ، الكلمة المعاصرة ، الإسكندرية ، ع 19 ، مايو 2001
* " نجم وحيد فى الأفق " رواية جديدة لمحمد جبريل ، المحرر ، الحياة ، لندن ، ع 14174 ، 8/1/2002 ص 16
* الرمز فى " حارة اليهود " لمحمد جبريل، د . حسين على محمد، الرافد ، الشارقة ، ع 57 ، مايو 2002 ص 67
* القراءة الراهنية للتاريخ .. " قلعة الجبل نموذجا " ، د . عبد الله أبو هيف ، الرافد ، الشارقة ، ع 66 ، فبراير 2003 ص 45
* نجم وحيد فى الأفق .. رواية محمد جبريل ، حسنى لبيب ، الهلال ، القاهرة ، مارس 2003 ص 169
* سيرة الموت فى " ما ذكره رواة الأخبار"، محمد عبد الحافظ ناصف ، أخبار الأدب ، القاهرة ، ع 542 ، 30/11/2003 ص 32
* الدلالات السردية فى رواية " الحياة ثانية"، د . صبيحة عودة ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 163 ، ديسمبر 2003 ص 33
* ( محمد جبريل .. ملامح شخصية " ملف خاص " ، الرافد ، الشارقة ، ع 76 ، ديسمبر 2003 )
* محمد جبريل ملامح شخصية وسيرة إبداعية ، حسنى سيد لبيب ص 34
* محمد جبريل: نهر الجنون لتوفيق الحكيم يستطيع أن يكتبها طالب ثانوي ( حوار ) ، عبد الفتاح صبري ص 36
* الرؤية والتشكيل فى حارة اليهود، د . خليل أبو ذياب ص 42
* أسئلة الرواية فى " زمان الوصل" ، شوقي بدر يوسف ص 49
* قراءة فى رواية " نجم فى أفق جديد " ، حسنى سيد لبيب ص 55

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:07 AM
محمد جبريل.. ومعنى الحرية

بقلم: زينب العسال
..........................
فى شهادته المنشورة فى مجلة "فصول" يقول محمد جبريل: "أنا مبدع مهموم سياسيا.. إنها سدى اهتماماتى الشخصية والإبداعية فى الوقت نفسه."
جبريل المهموم سياسيا والمعنى بتحقيق الحرية السياسية التى هى حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة.. يوسع من مفهوم الحرية، فالأهم عنده من الكتابة عن الحرية.. هو "أن أكتب فى حرية، وأن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه، أو أعلن المعاداة، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى..
هذا الهم السياسى يبين عن نفسه فى غالبية كتابات جبريل الإبداعية منذ كتابه الأول "الملاك" والذى نشره ولم يتجاوز سن الكاتب آنذاك خمسة عشر عاما بعبارة.. "أشياء ثلاثة كرست حياتى للدفاع عنها: الحق والخير والحرية.. وأرى أن التمتع بالحرية كفيل بأن يحقق الخير والحق.. هل يمكن للإنسان أن يشعر بإنسانيته إلا إذا كان حرا!.. وهل يمكن للإنسان أن يتمتع بالحرية إذا لم يتمتع بها الآخرون؟! إن مبدأ الحرية يلازمه بالضرورة علاقة الفرد الإنسان بالسلطة أيا كانت هذه السلطة.. سواء أكانت سلطة الحاكم أو سلطة الجماعة/المجتمع أو السلطة الأبوية.. البعض لا يرى وجود تعريف محدد للسلطة فإعطاء مفهوم للسلطة سيكون الأمر أكثر سلطوية.. فالسلطة متعددة الوجوه خافية وظاهرة.. من الممكن أن تكون سلطة مركبة.. متعددة.. ومتغيرة الوجوه.. "يمكن أن تعرف نفسها بكونها ذات أسماء عديدة، وتوجد فى كل الأمكنة والخطابات من الأسرة إلى الدولة، من التابو إلى الليبيدو، من العلم إلى الإيديولوجيا، من المستشفى إلى السجن، من العقل إلى الجنون، ومن المدرسة إلى الكنيسة.(1)
السلطة إجمالا قائمة فى كل خطاب نقوم به حتى ولو كان يصدر من موقع خارج السلطة وهى لها آلياتها المتعددة.
كان الحديث عن السلطة فى عصور ماضية لا يتم إلا عن طريق الرمز.. فيكون الخطاب على لسان الطير أو الحيوان أو يلجأ الكاتب إلى استخدام البلاغة. إن السلطة هنا تتعلق بالسياسة، لا تتعلق بمن يحكم بقدر تعلقها بكيف يحكم؟ (2)0
هذا المفهوم تشير إليه روايات "الأسوار" و"إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبى الطيب المتنبى" و"قاضى البهار ينزل البحر" و"الصهبة" و"قلعة الجبل" و"الخليج" و"المينا الشرقية".
من الخطأ البالغ أن نقول إن العلاقة بين المصرى والسلطة سارت دائما فى خط واحد ثابت.. القهر من جانب السلطة والخنوع المطلق من جانب المصرى.. فقد حدثت على مدار التاريخ عدة ثورات شعبية فى مواجهة السلطة الغاشمة..
أعلن الإمام فى "إمام آخر الزمان" أن الإمامة منصب إلهى كالنبوة، فالأئمة عليهم نفس مسئوليات الأنبياء، وإن كان لا يوحى إليهم.. محمد جبريل يرصد بذكاء فكر الإمام الطاغية، فهو يصادر كل صوت سيعلو بالرفض لسياسته بأن هذه السياسة هى إلهام من عند الله فلا يحق للمسلم رفضه أو حتى مناقشته!.. تطلع الشعب إلى ظهور الإمام الحق "المهدى المنتظر" فكان أول ما فعله هو القضاء على المباذل "أغلقت دور السينما والملاهى الليلية أبوابها.. اقتصرت مواد الإذاعة والتليفزيون على البرامج الدينية والجادة وتلاوات القرآن الكريم.. أوقفت البنوك معاملاتها بالفائدة، ألغيت المدارس المختلطة، شجع على إنشاء الأسبلة والكتاتيب والمساجد.. خصص للعده يومين كل أسبوع فى مجلس عام.." هكذا كانت البداية وهى فى الغالب هكذا.. فإذا أمعنا النظر وجدنا أن بذور السلطة والتفرد بالحكم بادية لكل لبيب.. فهو الذي يقرر بالإغلاق وتحويل مسار البرامج.. التوجه للدعاية الدينية للنظام.. أى اصطباغ النظام بصيغة دينية واضحة. إعادة نظام قديم للتعليم أمام غلق المدارس المختلطة إيذانا بأن على المرأة أن تختفى ويتراجع دورها فى صنع المجتمع، ومن ثم لم نفاجأ بأنه يعيد النساء إلى بيوتهن وإلزامهن بالتزيى بالزى الإسلامى.. وفى خطوة أخرى للتفرد بالسلطة وإحكام قبضة النظام على مقاليد الأمور "اتخذ رجال أمن الإمام أماكنهم بين المصلين، فلا يصلون ولا يغادرون المسجد إلا وهو يغلق أبوابه.." فقد صار الوطن سجنا كبيرا للجميع. سلطة كهذه نجدها تهمل شئون الناس وأمور حياتهم.. يتفاقم الوضع على قسوة الحاكم الذى يهدد شعبه بالتنكيل والقتل لكل من يفكر فى المقاومة.. ورغم ذلك ترددت الألسنة وتساءل الناس: لماذا لا نقاوم؟!
يدين محمد جبريل أصحاب الرأى الذين يكتفون بالمناقشة ومتابعة أفعال الإمام بالاستهجان والاستنكار.. ولكن لا يتحول الموقف إلى فعل إيجابى ممثلا فى الثورة.. فهم ينتظرون أن يأتى إمام جديد بالحل.. ثم ترجع ريما لعادتها القديمة.. فيعم الفساد والمظالم.
ظهرت فكرة جماعية القيادة التى طالب بها صفوة العلماء والفقهاء المفكرين.. لم تحظ بقبول..
-أية جماعية وأية قيادة؟ النبوة ليست بالشورى.. فلماذا نطلب ذلك فى الإمامة، لقد أعطونى طاعتهم حين أعطونى إيمانهم بى.
انتقل الإمام من خلوته إلى قهوة السيالة.. مكانا شعبيا يلتقى فيه بعامة الناس.. لا يتحدث عن الدين والآخرة –فقط- بل يتحدث عن حياة الناس ومعاشهم.
ولكن هذا الرجل الذى أمل الناس فى إمامته يقتل ذات يوم.. ليظل السؤال قائما. هل لابد من الفرد الذى يقود الجماعة؟! ولماذا لا يحكم الناس أنفسهم؟!
يظل الشعب يعانى وتبدأ الثورة بالهمس.. ثم تعلو النبرة، ليعلو صوت الثورة هادرا فى كافة العواصم العربية والإسلامية، لقد دفع الحفناوى حياته ثمنا لتحرك الناس نحو حريتهم، كان موته هو المحرك الأول لتأخذ الجماعة المبادرة وتتحرك لاختيار من يقودها بينهم.
فى رواية قلعة الجبل تأخذ الجماعة دورها فى الوقوف ضد بطش وقهر السلطان خليل الحاج أحمد.. فالسلطان الذى اختلف النص فى الحديث عنه.. وتعددت الأصوات، وإن ظل الكاتب متعاطفا مع عائشة القفاص، متحدثا عن قضيتها بنوع من التعاطف الذى جمع أهل حدرة الحنة والمناطق المحيطة بها لتقف فى ثورة عارمة أمام بطش السلطان.. ما الحكاية إذن؟
-تعجب السلطان من امرأة مصرية من عامة الشعب.. يشرد زوجها أو يتخلص منه ومن والدها وخالها وكل من يتعاطف مع عائشة.. تبدو المسألة أنها خلافات بين الرواة فيما ذكروه فى شأن السلطان وحكايته مع عائشة.
"فاعلم أن السلطان خليل بن الحاج أحمد كان متدينا وعالما وفاضلا، عنى برفع التهارج، ورد الثوابت، وقمع المظالم ونصرة المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. وكان له فى عقاب المفسدين اختراعات مهلكات وإن استمد أحكامه من مصادر التشريع الإسلامى..
هل يختلف السلطان خليل عن أى إمام ورع صالح.. غير أن حقيقة الأمر تضعنا أمام صورة أخرى رسمها الكاتب لهذا الرجل.. فقهره لم يعلن عنه مباشرة.. فقد استخدم سلطته فى اجتذاب عائشة للصعود إلى القلعة.. ثم التأثير على زوجها خالد عمار.. ووالدها.. فشلت المحاولة.. فكان البطش.. والتخلص من الخصوم بتلفيق التهم.. والتفنن فى العقاب الرادع!
لم يقف الأمر عند أهل عائشة بل امتد إلى كل شخص حاول أن يقف بجوارها أو لجأت إليه.. بدأ القمع بأناس عاديين واتجه إلى رموز فى السلطة ذاتها.. الخليفة لفقت له تهمة الخيانة، تحدث السلطان عن رسائل بعث بها الخليفة إلى أمراء البلاد يدعوهم فيها إلى مخالفة السلطان.. ثم تخلص من زوجته الأولى.. خرج الناس فى الأسواق والشوارع والعطوف ومضوا إلى قلعة الجبل، تجمعوا حول القلعة يدعون ويطالبون بعودة عائشة ونزولها من القلعة..
استجاب السلطان لثورة الشعب، عادت عائشة إلى منزلها فى حدرة الحنة، وفتح التجار حوانيتهم، وفتحت أبواب جامع الأزهر.. سكنت الفتنة..
إن المهادنة هى الطريق الذى سلكه السلطان خليل أمام ثورة الشعب.. لقد أوهم الرعية بأنه يستجيب لطلبهم.. تقرب إليهم.. خرج إليهم حيث كانوا.. يسأل عن أحوالهم ومعاشهم.. يتفقد المساجد ودور العلم ويتأمل بعناية تسوية الشوارع ونظافتها.
أختلف مع د.ماهر شفيق فريد فيما وصل إليه من أن هناك صوتين متجاورين فى رسم شخصية السلطان.. وقد أدى هذا إلى التباس القارئ.. والحقيقة أن القارئ مع مضيه فى قراءة الرواية سوف يكتشف بل يرسم صورة صادقة للسلطان خليل، وهى الصورة التى أرادها محمد جبريل وبث ملامحها، وهى صورة الحاكم الطاغية، فما صوت الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا تأكيدا على تلك الملامح التى رسمها جبريل لهذا الحاكم الطاغية. فيقول الراوى "أشفقت على سيرته من تشويه الموتورين لها، ومؤاخذتهم المعيبة عليها، وإلباسها ثوب الفجاجة.. فبدا الكذب حقيقة" فسيرة الرجل بداية مليئة بالمظالم والأخطاء، وما كان على الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا أن ينفى هذه الصورة. إن وظيفته تشير إلى وظيفة وسائل الإعلام التى تقوم بتجميل صور الحكام الطغاة.. فتقدمهم فى صورة مخالفة لما يعرفه الناس عنهم.
يصف إريك نبتلى الكاتب –أى كاتب- بأنه "متسائل، منشق، خارجى،متحرر، صانع للمشكلات فى حرب على زمنه، مأخوذ بذلك دائما، يقف إلى جانب الأفضل فى عصره، مساعدا إياه على فهم ذاته.
ويقول جبريل: "إن لى موقفا –أتصوره واضحا- من القضايا الإنسانية والاجتماعية، وهذا الموقف يبين ن نفسه فى أكثر من عمل قصصى وروائى، ثمة وشيجة تربط روايتى "الأسوار" مثلا بقضية التحقيق برواية "قاضى البهار ينزل البحر"، ربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته فى أكثر من عمل."
يحمل إبداع محمد جبريل ملامح المفكر القلق الذى يبحث دوما عن كل ما هو حقيقى وإنسانى فى هذا العالم، وهذه التيمة التى تفرض نفسها فرضا، فالأدب مهما اختلف النقاد فى تعريفه، هو إفراز فنى للأفكار التى تعتمل داخل أحشاء المجتمع المعاصر"! (3)
فى روايته "الأسوار".. يفتدى البطل الملقب بالأستاذ هؤلاء المعتقلين والذين نسيتهم السلطة، أو تناستهم التعبير الأدق. فالأسوار من بعيد –مدينة أسطورية.. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجى، أبراج الحراسة من الأركان الأربعة، الممنوعات –ما عدا التقاط الأنفاس، تشمل كل شئ: الأفلام، والأوراق والصحف والراديو والمناقشات. فهى بقعة فى جزيرة رملية يحدها.. الأفق.. لا خطوط تليفون ولا قضبان قطارات ولا طرق رملية.
الأستاذ هو رجل انغمس بالتطورات السياسية فى بلده.. وهو يتمتع بذات مناضلة تحيا واقع الجماعة وتخلص لقضاياها.. أحبه الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية فمنهم الوفدى والسعدى والإخوانى والشيوعى، والنشال والقواد وطالب الثأر والقاتل وبائع المخدرات".(4)
فى المعتقل ثمة مواجهة مباشرة للسلطة وآليات قهرها يتعرض لها كل المعتقلين.. قامت الثورة وأسفرت عن إرسال تلغرافين للحكومة لم يرض الأستاذ ولا الجماعة بتحسن الأوضاع، فالحرية لا تتجزأ (5)
شعرت إدارة المعتقل/ السلطة بأن هناك عقلا مدبراً يقود المعتقلين، عملت على التخلص منه، جندت العملاء من ذوى النفوس الضعيفة.. وجدوا فى حلمى عزت ضالتهم المنشودة، هددوه بافتضاح أمره.. نقل حلمى عزت الفكرة إلى الجماعة "بدت الفكرة اقتراحا مجنونا فى بادئ الأمر، لكن الليل البارد والأسوار والصحراء التى لا يحدها الأفق ولدغات العقارب والعذاب والغربة والحراس والوحشة والشوق والملل، ذلك كله جعل من الاقتراح المجنون –فى أقل من يوم- حلا مقبولا".(6)
إن القائد هنا هو واحد من الجماعة.. قدم نفسه فداء لأفكاره ومعتقداته، إنه يعلم بالمؤامرة منذ البداية، فقد دبر أمر الأوراق التى طويت على اسم واحد هو اسمه.. كان على الأستاذ منذ البداية أن يبث الوعى فى نفوس المعتقلين بأهمية الثورة.. والإعلان عن رفض واقعهم المهين داخل المعتقل.. ضحى الأستاذ بنفسه فى سبيل تحقيق مبادئه بالدفاع عن المظلومين حتى لو كانوا من القتلة والقوادين وتجار المخدرات.
إن المواجهة مع السلطة كانت شرسة وعنيدة دفع ثمنها المعتقلون، فإحرق الأستاذ المحرك الفعلى لهم فى مناهضة الظلم والقهر، وكان دافعا لهم لمواصلة النضال ورفضهم الاستسلام لإدارة المعتقل.. سمع صوتهم لأول مرة فكان انتصارهم وهزيمة السلطة أمام عزمهم.. إن الإشارات الدالة التى بثها محمد جبريل فى نسيج روايته وعلى لسان أبطاله، وعبر اقتباسات متعددة تؤكد على قيمة الفداء والتضحية وهى صلب علاقة المثقف بجماعته ومجتمعه.. "ألا تعلمون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يوحنا 11/50).
كانت العلاقة بين السلطة والمثقف علاقة يشوبها –دائما- التوتر، بدأت السلطة تعى مع العقد الثالث من القرن العشرين دور المثقف فى المجتمع، يكفى أن نشير إلى ترسانة هائلة من التشريعات المقيدة للحريات مثل قوانين المطبوعات، التشريعات المقيدة لحقوق الاجتماع والتجمهر والتظاهر، بل وتقييد التقاضى أحيانا واستحداث أنواع من القضاء الاستثنائى، بالإضافة إلى اللجوء –بصفة شبه مستمرة- إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية".(7)
إذا كان الحال هكذا مع المثقف، هل ينتمى محمد إبراهيم مصطفى العطار إلى "قافلة المثقفين الذين عانوا من صلف السلطة، أمثال: على عبد الرازق وبيرم التونسى وسيد قطب وشهدى عطية.. ومجموعة المثقفين التى تم اعتقالها فى خريف1980.. بالطبع لا.. "فقاضى البهار" إنسان بسيط يعمل فى إدارة التخليص الجمركى لا يتعاطى السياسة وليس له أى نشاطات سياسية من أى نوع!.. فلماذا تطارده السلطة؟ وتوجه إليه التهم وحين تفشل فى إثبات تلك التهم تدس عليه "بقلوظة" الراقصة لتلفق له التهم وتراقب جيرانه وأصدقاءه وتسأل عن جميع من يحيطون به فى هجمة شرسة لتبحث عما يشينه ويدينه".(
تتكدس التقارير ونتائج الملاحقات، وتقوم أجهزة الشرطة بمطاردة كل من له صلة بقاضى البهار سواء فى الماضى أم الحاضر، فهل وجدت السلطة فى صمت أو لنقل تجاهل الإنسان المصرى العادى حيال آليات قهرها وملاحقتها للفرد فى صور شتى من العنف والاضطهاد نوعا من المقاومة؟ هل انتهت السلطة من ملاحقة كل من له نشاط سياسى وقهره بزجه داخل السجون والمعتقلات فلم تجد أمامها إلا الإنسان البسيط المهموم بلقمة عيشه تكيل له كل الاتهامات وتوقع به فى حبائلها..
كان لقاضى البهار سمعة طيبة بين جيرانه وأهله، هل حنق أجهزة الأمن ضده جاء من حرصه على اقتناء الكتب السياسية والدينية والتاريخية، فقد تحسبت أن يقوم بدور ما.. أليس فى نظرها مثقفاً؟!
الحقيقة أن سيرة محمد قاضى البهار لا تشى بالمرة بوجود ما يعكر صفو العلاقة بينه وبين السلطة التى بطشت به وبأسرته ومعارفه وجيرانه.. تحولت حياة قاضى البهار بسبب ملاحقة أجهزة الأمن له إلى جحيم لا يطاق!
تنتهى الرواية بلغز اختفاء قاضى البهار.. لا يعنى الاختفاء الموت.. هل اختفاء محمد قاضى البهار يساوى اختفاء الإمام المنتظر إلى حين ظهوره؟ هل كان اختفاء قاضى البهار احتجاجا على كل هذا العنت ممثلا فى المطاردات وإدانة أجهزة الأمن للأبرياء أو المعارضين لها؟
إذا كان قاضى البهار لم يشعر بالدهشة لما يعانيه من مضايقات أجهزة الأمن له ولكل المقربين إليه.. فإن عادل مهدى يفاجأ باعتراف مساعد فى مباحث أمن الدولة أنه راقب الندوة لمدة ثلاث سنوات.. هذا ما حدث الضبط فى رواية "المينا الشرقية" التى تتناول خفايا الحياة الثقافية عبر الحديث عن ندوة أدبية يعانى من يتردد عليها من مشكلات متعددة، حيث تتشابك العلاقات وتتعقد فيما بينهم وبين أفراد المجتمع.
كان السؤال الهاجس الذى ظل يردده عادل مهدى.. ما دخل الندوة بالمباحث؟ وماذا فيها لتراقب؟ عانى عادل مهدى من الإحساس بالخوف، ظل يبحث عن هوية هذا المجهول الذى ظل سنوات ينقل التقارير عما يدور فى الندوة، وهل كانت التقارير صادقة، أم أضاف إليها.. من هذا "الشبح الذى ظل يرصد الكلمات والأفعال والإيماءات، لقد زرع الشك داخل نفس الرجل، فشرع فى تمزيق أوراقه وصوره.. وأجندة التليفونات!
لم تبطش السلطة/المباحث بالندوة، وإن ظل الهاجس قائما، من يكون المدسوس عليها؟
-إن ما قاله الرجل عمل روتينى.. فهذه مهمة المباحث أنها تراقب الكلمة والنص، فعلاقة السلطة بالكلام وثيقة جدا، ولذلك كانت السلطة تسعى دوما إلى حماية الكلمة بشتى الطرق، وفرض السكوت إما بالقمع المادى الذى يكشف عن عجز هذا الخطاب على التلاؤم مع النص.. ومن ثم تأتى المراقبة والعرقلة والمصادرة، والحبس وترديد مفهومات مضادة لخطاب النص تقوم بعملية التشويش والتضليل!(9)
هل كان ما تعرض له محمد الأبيض من معاناة سببا فى تعاونه مع أجهزة الأمن؟
-"تقدم الرجلان، ثنيا ذراعيه وراء ظهره، وسدد الثالث الواقف أمامه لكمات متوالية فى بطنه.. علق قدميه فى حبل مبروم متدل من السقف ورأسه فى أسفل.. توالت الضربات على القدمين المعلقتين. لم يشعر محمد الأبيض باليأس ولم يعن بتلك الممارسات وألوان التعذيب كى يعترف على جريمة لم يرتكبها..
-أعترف محمد الأبيض لعادل بأن القراءة وراء عدم شعوره باليأس حتى عندما منعوه من القراءة.. "كنت أستعيد ما أحفظه من قصائد وكنت أغنى أحيانا"!
ظل محمد الأبيض مطاردا.. يشعر بهذه المطاردة.. فكل تصرف مرصود.. هل يرصد تحركات كل من يعرفه.. هل كان محمد الأبيض الشخص الذى جاءوا بسببه إلى الندوة؟
اعترف محمد الأبيض أن الحادثة القديمة تشكل جثة هامدة يجرها.. "عاد محمد الأبيض إلى المينا الشرقية، والندوة والعمل والبيت، لكنه لم يعد إلى الحياة، حياته"!(10)
تظل للسلطة هيمنتها على حياة من اصطدم بها.. وعانى من آلياتها المتفننة فى الاستجواب والتحقيق والتعذيب.. فالإنسان قبل الملاحقة ومواجهة السلطة وقهرها يختلف حتى بعد مواجهتها.. يظل هناك شئ ما انكسر فى نفس هذا الإنسان الذى يحاول جاهدا لملمة شتات نفسه وخاصة إذا كان بريئا لا يعرف ما ارتكب من تهم أو جرائم.. لكن السلطة أبدا لا تعترف بخطئها وعجزها.. تظل تلاحقه إلى أن يعترف بما تريد له أن يعترف به.
فى نهاية رواية "المينا الشرقية" يوصى عادل مهدى أمه بنفسها.. ثم ينزل إلى هؤلاء الذين سألوا عنه منذ ساعتين! عادل هو واحد ممن تعرضوا لاضطهاد السلطة أيا كانت هذه السلطة، فهو يقف بجوار الأستاذ وبكر رضوان فى "الأسوار" ومحمد الأبيض فى "المينا الشرقية" وعائشة القفاص وخالد عمار زوجها فى "قلعة الجبل"، وقاضى البهار فى "قاضى البهار ينزل البحر".
هوامش:
1- راجع بارت
2- راجع عمر أوكان.. مدخل لدراسة النص والسلطة.. الناشر أفريقيا الشرق
3- د.نبيل راغب، مصر فى قصص كتابها المعاصرين، كتاب أصوات العدد24 إعداد د.حسين على محمد
4- رواية الأسوار
5- من حديث إذاعى أجرى مع الكاتب 15/1/1974
6- رواية الأسوار
7- راجع على فهمى، المصرى والسلطة، مجلة فكر فبراير 1985
8- د.حسين على محمد، صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل، دار الوفاء ـ 1999.
9- راجع جولد شيلفر، نحو سيمياء الخطاب السلطوى، ترجمة مصطفى كمال، العدد الخامس، السنة الثانية، دار البيضاء 1987
10- رواية المينا الشرقية.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:08 AM
حوار مع روائي الإسكندرية محمد جبريل

حاوره: د. احمد زياد محبك - سورية
..........................

محمد جبريل روائي وقاص إسكندراني, عاشق للإسكندرية, منها يستمد معظم مواد رواياته, وعنها يكتب, كأنه نذر لها قلمه وحياته. هي في رواياته بريئة شفافة جميلة, أبطالها فيها يتحركون, وعبق بحرها ينتشر في كل الأنحاء. وهو كاتب صحفي, يشرف على القسم الأدبي في جريدة المساء, وله فيها زاوية يحررها كل يوم. وهو أخ كبير يلتقي مساء كل خميس مع ثلة من الأدباء الشباب في ركن جميل من مبنى نقابة الصحفيين بشارع عبد الخالق ثروة في قلب القاهرة, يستمع إليهم ويرعاهم ويشجعهم, وفي بيته العامر يستقبل الصحب والأصدقاء. وهو في كل آن وفي كل مكان سمح وكريم وطيب وبريء, يمزح كطفل, ويتكلم عن خبرة وثقافة وسعة اطلاع, ويتحدث بذكاء وبحس نقدي حصيف, تحس وأنت معه أنك أمام إنسان تعرفه منذ ألف عام, وأنه يعرفك ويحبك.
كنت التقيت الروائي محمد جبريل في ندوة عن الرواية عقدت في طرابلس بليبيا قبل ستة أعوام, ولم يكن لقاء عابراً, وأول قدومي إلى القاهرة صيف عام 2002 اتصلت به فأسرع إلى زيارتي في شقتي المستأجرة بالقاهرة هو وزوجته الأديبة الناقدة السيدة زينب العسال.
وفي صيف القاهرة الجميل كان هذا اللقاء...
* في السؤال الأول صدمة وإدهاش, وسيتقبله مني الأستاذ محمد جبريل بحب, والسؤال: أنت متهم بغزارة الإنتاج, فهل هذا صحيح, وما معنى الغزارة عندك? وكيف تحققت? وهل فيها تنوع في المواقف والرؤى والأساليب والأنواع?
- الغريب أن الذين يوجهون هذا الاتهام هم من أبناء جيلي. وجه الغرابة أن ما أصدرته المطابع لهم يفوق - من حيث الكم - كل ما أصدرته لي. والحق أني اعتبر القيمة الفنية والموضوعية هي المقياس الوحيد للعمل الإبداعي, بصرف النظر عن غزارته أم قلته. فقد صدر للصديق صنع الله إبراهيم من الروايات - على سبيل المثال - ما لا يجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. بينما صدر لأستاذنا نجيب محفوظ ما يزيد على الأربعين رواية.. لكن إبداع كل من صنع الله ومحفوظ يلتقي في القيمة الفنية المؤكدة. ولا أريد أن اضرب أمثلة أخرى حتى لا اتهم بالمجاملة أو بالتجني, وان سهل علينا التعرف على عشرات الأمثلة.
إن محاسبة أي مبدع يجب أن تتجه لقيمة ما يكتبه وليس لكم ما يكتبه. وأصارحك بأن ما يشغلني من إبداعات أتوق لكتابتها يفوق كل ما صدر لي حتى الآن, فضلاً عن أن جهاز الحاسوب عندي - وليواصل أصحاب الاتهام عجبهم! - يضم تسع روايات أنهيتها وتنتظر الموعد المناسب لنشرها, إلى جانب الكثير من القصص القصيرة والمقالات التي يسميها البعض نقداً, واسميها قراءة إيجابية.
وبالنسبة لبقية السؤال فإني أكتفي بالإشارة إلى بعض ملامح مشروعي الإبداعي مثل عفوية الكتابة الإبداعية, ووجوب أن يعبر مجموع المبدع عن رؤية شاملة, أو فلسفة حياتية, تتضمن مواقفه في المجتمع والسياسة والميتافيزيقا وعلم الجمال, وكل ما يستند إلى موهبة الأديب, وثقافته وخبراته وتجاربه.
ولعله يجدر بي أن أشير إلى عامل مهم, لا يفطن إليه رواد مقاهي وسط البلد وهواة الثرثرة ودعاة قتل الوقت, في حين أن الوقت هو الذي يقتلنا...
إني أؤمن بجدوى النظام. انه يكفل مضاعفة الوقت, وإنجاز ما يصعب إنجازه في الفوضى والتكاسل, وإرجاء ما ينبغي التوفر على إتمامه.
*أنت صحفي, عملت في الصحافة طوال عمرك, وقد أخذت منك ثماني سنوات ونصف من التفرغ لها في عُمان, حيث أشرفت على صحيفة «الوطن», فكيف وفقت بين الصحافة والإبداع? وما أثر الصحافة في كتابتك وحياتك?
- سئل ارسكين كالدويل: هل العمل في الصحافة يساعد أو يعوق كتابة القصة القصيرة?... أجاب: لا أعرف شخصاً واحداً اضرّ به التمرين على الكتابة من أي نوع. إن الصحافة, فضلاً على أنها تفيد في التمرين الدائب على الكتابة, فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل يوم. إن انتظار الوحي عذر قلّما تجده لدى المؤلفين الذين تمرسوا بالصحافة. وحتى الآن, فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل في الصحافة, ذلك لأن الصحافة - في تقديره - تحميه, وتحرسه, وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقي. كانت الخبرات الصحفية - باعتراف ماركيث - وراء العديد من أعماله الروائية, مثل قصة غريق, حكاية موت معلن, نبأ اختطاف. بل إن رائعته «خريف البطريرك» استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة شعبية لجنرال أمريكي لاتيني اتهم في جرائم حرب...
لقد تبلورت خططي القريبة في ضرورة أن أظل في عملي بالصحافة, باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية, وان احصل منها على مورد يتيح لي تلبية احتياجات العيش, فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة, لكنها قد تصرفني عن القراءة والكتابة, وأن ألزم نفسي بنظام - مثلي فيه أستاذنا نجيب محفوظ - يحرص على الجهد والوقت. وأخيراً, أن يكون لي بيت زوجية, فلا تواجه مشاعري العاطفية ولا الحسية ما يمكن أن اسميه بالتسيب.
أذكر أني مارست في العمل الصحفي جميع أنواع الكتابة, كتبت الخبر والتحقيق والمقال والدراسة. أهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية, باعتبار القارئ الذي أتجه إليه في ما أكتب. وبالتأكيد, فإن كاتب التحقيق الصحفي يختلف عن كاتب المقال الأدبي, واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة. يسرت لي الصحافة سبل اقتناء الكتب التي تعجز مواردي عن شرائها جميعاً. فأنا اكتب في صفحة أدبية. في هذه الصفحة باب للكتب, فأنا اكتب عن كل كتاب يهديه صاحبه - أو ناشره - للجريدة, ثم أحتفظ به لنفسي, وأتاحت لي الصحافة مجالات ربما لم اكن أستطيع أن اقترب منها في الوظيفة العادية. سافرت إلى مدن وقرى داخل مصر وخارجها, والتقيت بشخصيات تمتد من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى قمته, وبثقافات متباينة, وان لم يتح لي عملي في الصحافة امتيازاً من أي نوع. كانت جيرتي للشيخ بيصار شيخ الأزهر الأسبق, ولوزير سابق لا اذكر اسمه, مبعث اعتزازي بأني أجاور ناساً مهمين في غياب أصدقاء من السلطة. وحتى لا أبدو في موضع سيئ الحظ, فإني اعترف بحرصي على الوقوف في الطابور, فضلاً عن عدم ميلي إلى مصادقة السلطة, حتى لو تمثلت في اكتفائي باجترار صداقات أتيح لطرفها المقابل بلوغ مراكز متفوقة في السلطة. وكان عملي الصحفي, الحياة في الصحافة, الأحداث والشخصيات التي تعرفت - بواسطتها - إليها, وراء العديد من أعمالي الروائية, بداية من الأسوار - روايتي الأولى - وانتهاء بأحدث ما كتبت شمس مسقط الباردة, مروراً بالنظر إلى أسفل، وبوح الأسرار، والخليج ... وغيرها. بل إن الصحفي هو الشخصية الرئيسة في هذه الأعمال.
ولكن من المهم أن أشير إلى أن الصحافة قد ترضى بالكاتب قاصاً أو روائياً أو شاعراً في بعض الأحيان, لكنها تريده صحفياً في كل الأحيان. إنها تريده كاتب مقال أو تحقيق أو خبر الخ.. مما يتفق وطبيعة العمل الصحفي الذي يعد الأدب - في تقدير القيادات الصحفية - جزءاً هامشياً فيه. أُصارحك بأني نشرت روايتي "قلعة الجبل" في الجريدة التي أعمل بها. نقلت المسودات على الآلة الكاتبة, وصورتها, ونشرتها في جريدتي, فلم أتقاض في ذلك كله مليماً واحداً, في حين أن الزميل الذي يسبق الآخرين بخبر في بضعة اسطر, يتقاضى مكافأة تبلغ عشرات الجنيهات!.. وهذا كله يعد انعكاساً واضحاً, ومفزعاً, للنظرة إلى العمل الأدبي, وقيمته ضمن مواد العمل الصحفي.
الفن - الرواية والقصة على وجه التحديد - عالمي الذي أوثره بكل الود. أتمنى أن اخلص لهما - تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع - دون أن تشغلني اهتمامات مغايرة. لكن الإبداع في بلادنا لا يؤكل عيشاً. ربما أتاحت رواية وحيدة في الغرب لكاتبها أن يقضي بقية حياته "مستوراً", أن يسافر ويعايش ويتأمل ويقرأ ويخلو إلى قلمه وأوراقه دون خشية من الغد, وما يضمره من احتمالات, لكن المقابل المحدد والمحدود الذي يتقاضاه المبدع في بلادنا ثمنا لعمله الأدبي يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة!!.. من هنا كان اختياري - الأدق: لجوئي - إلى الصحافة, فهي الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته, وهمومه أيضاً.
ولعلي اذكر قول المازني لأحد الأدباء الذين عابوا عليه وفرة كتاباته: "ستقول إن المازني كان بالأمس خيراً منه اليوم, وانه ترك زمرة الأدباء, وانضم إلى زمرة الصحفيين, وانه يكتب في كل مكان, ويكتب في كل شيء, حتى اصبح تاجر مقالات, تهمّه ملاحقة السوق اكثر مما تهمّه جودة البضاعة.. أليس كذلك? ولكن لا تنس أن الأديب في بلدكم جبر على أن يسلك هذا السبيل ليكسب عيشه وعيش أولاده, وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه إنسان".
لذلك منيت النفس وأنا ارحب - متحسراً - بالسفر إلى سلطنة عُمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية - تحولت إلى يومية فيما بعد - بأن أدّخر في الغربة ما يعينني على الإخلاص للفن وحده, لكن الأمنية ظلت في إطارها, لا تجاوزه. وكان لا بد أن اكتب في موضوعات تقترب من الفن أو تبعد عنه. وحتى لا افقد ذاتي في سراديب مجهولة النهاية, فقد فضلت أن تكون محاولاتي أقرب إلى ما يشغلني في الفن, وفي الحياة عموماً. وبصوت هامس ما أمكن فإن مصر - الموطن واللحظة والماضي والمستقبل - هي الشخصية الأهم في كل محاولاتي الإبداعية. ذلك ما احرص عليه, وما لاحظه حتى القارئ العادي. تعمدت أن تكون مصر: تاريخها, وطبيعتها, وناسها, ومعاناتها, وطموحاتها, نبض كتاباتي جميعاً. ما اتصل منها بالصحافة, وما لم يتصل, ما اقترب من الأدب وما لم يقترب. وكانت حصيلة ذلك كله - كما تعرف - عشرات الدراسات والمقالات التي تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية بدءاً من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" مروراً بـ"مصر من يريدها بسوء" و"قراءة في شخصيات مصرية" و"مصر المكان" إلخ... وانتهاء بما قد يسعفني العمر بإنجازه.
* أنت مثقف واسع الاطلاع, تشهد على ذلك مؤلفاتك النقدية, فقد كتبت عن مصر في قصص كتابها المعاصرين, ونلت عن هذا المؤلف جائزة الدولة التشجيعية عام 1975 كما وضعت كتاباً عن نجيب محفوظ, فما دافعك إلى الكتابة النقدية? وما جدواها بالنسبة إليك وأنت الكاتب الروائي? وما أثرها في إبداعك الروائي?
- ثمة حقيقة يجب أن نتفق عليها, هي أن النقد الذي يقيس الزوايا والأبعاد, ثم يصدر أحكاماً, ويدلل عليها, ليس محتوى كتاباتي التي تختلف عن إبداعاتي في الرواية والقصة القصيرة ولا غايتها. أنا لا اتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيكوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها في أثناء حرثها للأرض. إن الآراء التي أتوصل إليها, هي من قبيل الاجتهادات الشخصية التي ربما كانت أخطاء محضة.
القراءة حرفتي وهوايتي. وأنا اعتمد في قراءتي للكتاب أن أثبت أهم المعلومات التي يشتمل عليها, وآرائي في موضوعاته, وأضيف إليها حصيلة مناقشات مع صاحب الكتاب نفسه, سواء في موضوع الكتاب, أم في موضوعات يطرحها النقاش, ويتكون من ذلك بطاقات تكفي لإعداد كتاب, أقبل على تأليفه بروح المبدع وليس الناقد. ومنذ سنوات بعيدة, تحدد عالمي في جدران مكتبي. افرغ للقراءة بامتداد ساعات الصحو, والكتابة الإبداعية يصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن تكون نبض عمل أيام متتالية. إنها تهد الحيل, تجعلك في لحظات الإبداع, وربما قبلها أو بعدها, كأنك لست أنت, كأنك أثقلت بما لا تقوى على حمله.
* ما رؤيتك للرواية? وما مشروعك الروائي? هل ثمة تصور لديك عن العالم? أو فلسفة ما تدافع عنها أو تدعو إليها? وما صلة ذلك بحياتك الشخصية?
- ما يغيب عن معظم إبداعنا العربي, وأتصور أنه لا بد أن يكون بعداً أساسياً في أي عمل روائي أو قصصي, هو فلسفة الحياة. والفلسفة التي أعنيها هي الرؤية الشاملة وليست الميتافيزيقيا وحدها. الميتافيزيقا بعد مهم, لكنها جزء من أبعاد الحياة الإنسانية جميعاً. تقول سيمون دي بوفوار "إن الرواية الفلسفية إذا ما قرئت بشرف, وكتبت بشرف, أتت بكشف للوجود لا يمكن لأي نمط آخر في التعبير أن يكون معادلاً له. إنها هي وحدها التي تنجح في إحياء ذلك المصير الذي هو مصيرنا والمدون في الزمن والأبدية في آن واحد, بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهري" ومع ذلك فإن الرواية التي أعنيها هي التي تعبر عن فلسفة الحياة, وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقي.
إن الأدب غير الفلسفة, لكنه - في الوقت نفسه - تصور للعالم, يرتكز إلى درجة من الوعي وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس.. طريقة الفيلسوف هي التنظير والتحليل والإقناع والصدور عن العقل, والاتجاه كذلك إلى العقل. أما طريقة الأديب فهي العاطفة والخيال والحواس, والصدور عن ذلك كله إلى المقابل في الآخرين من خلال أدوات يمتلكها الأديب, وتتعدد مسمياتها, كالتكنيك والتنامي الدرامي والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال, إلخ...
والحق انه ما من إبداع حقيقي يمكن أن يخلو - بدرجة ما - من فلسفة ما, وإن عاد الأمر - في الدرجة الأولى - إلى مدى قدرة المبدع في بث الحياة عبر شرايين الفكرة الفلسفية المجردة. وكما يقول شكسبير فليس المهم هو الأشياء, المهم وجهة نظرنا عن الأشياء. وأذكر بقول تين في كتابة الأشهر "تاريخ الأدب الإنجليزي": «إن وراء كل أدب فلسفة».
وطبيعي أن نظرة الكاتب إلى الهموم التي تشغله, موقفه الكامل منها, يصعب أن تعبر عنه قصة واحدة أو قصتان, لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان في مجموع أعماله, وفي كتاباته وحواراته التي تناقش تلك الأعمال. أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة, لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تبين عن ملامحها في ثنايا أعماله. التجربة الإبداعية - على تنوعها - تخضع لوجهة نظر شاملة, لفلسفة حياة تحاول التكامل, وإن استخدمت في كل عمل ما يناسبه من تقنية, والقارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع, في مجموع ما كتب.
إن الأدب هو الأسبق دائماً في النظرة, في محاولة استشراف آفاق المستقبل. إنه يسبق في ذلك حتى العلم نفسه. وكما يقول كافكا: "فإن رسالة الكاتب هي أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية. ان يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق مع القانون العام. إن رسالة الكاتب نبوية". كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوي هي الترديد المستمر للأفكار العامة, للنظرة الشاملة, لفلسفة الحياة, في مجموع تلك الأعمال. وكان ذلك هو الذي أعطى أعمال تولستوي - كما يقول ادينكوف - تكاملاً وتماسكاً داخلياً. وكما يقول تولستوي, فإن الكاتب الذي لا يمتلك نظرة واضحة, محددة وجديدة للعالم, ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة, لن يستطيع تقديم عمل فني حقيقي. أما همنجواي فقد تمحورت رؤيته الحياتية في أن العالم قادر على تحطيم أي إنسان, لكن كثيرين يستعيدون قواهم, وينهضون. والإنسان - في فلسفة كامي الحياتية - يكتشف عبثية الحياة, لا معقوليتها, وليس بوسعه إلا أن يتحدى كل شيء في هذا العالم. وباختصار, فإنه لكي يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقي على شعور العبث في داخله كي يستمد منه طاقة التحدي اللازمة. والأمثلة كثيرة.
* للإسكندرية مكانة في نفسك وفي رواياتك, فما سر هذا العشق للمكان والإنسان في الإسكندرية? ما رأيك بالإسكندرية نفسها ماضياً وحاضراً? هل هي لديك ماض أو حاضر أو مستقبل.
- حي بحري بالإسكندرية - السيالة والانفوشي ورأس التين - هو الموطن الذي شهد طفولتي ونشأتي, وهو المكان الذي تمنيت أن اكتب عنه, بكل ما يشتمل عليه من تمايز في خصائص الحياة وسلوكياتها.
إن صورة الحياة في الأحياء الشعبية في الإسكندرية لا تختلف كثيراً عن صورة الحياة في الأحياء الشعبية في القاهرة والمدن المصرية الأخرى .. لكن السمة الأهم لصورة الحياة في بحري هي الصلة بين اليابسة والبحر.. البحر بكل ما يمثله من حكايات البحر والصيادين والنوات والسفر إلى الموانئ القريبة والبعيدة.. واليابسة بكل ما تمثله من اعتماد على الحياة في البحر, بداية من حلقة السمك, وتواصلاً مع غلبة الروحانية, والإيمان ببركات الأولياء, والحياة من رزق البحر سواء ببيع السمك, أو العمل على السفن الصغيرة والبواخر الضخمة.
على اليابسة مجتمع بحر بكل ما تعنيه الكلمة. ثمة صيادون وعمال في الميناء وبحارة وموظفون وشركات للملاحة والتصدير والاستيراد.
حي بحري هو اصل الإسكندرية. هو راقودة, وفاروس, والمساحة من الأرض التي تشكلت منها - قبل التاريخ المكتوب - مدينة الإسكندرية الحالية.
وإذا كان الاسكندر المقدوني قد أطلق اسمه على المدينة القديمة, فإن ذلك لا يعني غياب الحياة عن المدينة قبل أن يصل إليها, ويأمر مهندسه دينوقراطيس بالقول: أريد أن ابني عاصمة ملكي هنا! أراد أن يبني عاصمة ملكه في موقع مدينة كانت قائمة بالفعل, وإن أتاح لها التخطيط أن تتسع, وتتطور, وتصبح عاصمة العالم القديم.
أزور بحري بين كل فترة قصيرة وأخرى: المرسي أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وحلقة السمك وورش المراكب ومرسى الميناء الشرقية وقلعة قايتباي والميادين والشوارع والأزقة التي تصنع جواً يفيض بالروحانية, من خلال الجوامع الكثيرة, ومظاهر الحياة الدينية بعامة.. ويفيض كذلك بالحس الشعبي الذي ظل على تماسكه, وعلى معتقداته وتقاليده, وبالذات في العقود التي دانت فيها المدينة لسطوة الأجانب, فتحولت إلى مدينة كوزموبوليتية بمئات الألوف من الأجانب, بينما افتقد العنصر الوطني انتماءه إلى مدينته.
* لك موقعك المتميز في خريطة الرواية العربية, وأنت تعرفه من غير شك, فما رؤيتك للواقع الروائي في مصر وفي الوطن العربي? وما تصورك لمستقبل الرواية? وكيف يمكن أن تتجه وإلى أين يمكن أن تسير? ولا سيما في ضوء الروايات الجديدة كالرواية التاريخية ورواية الحداثة وما بعد الحداثة?
-أشكرك على رأيك في شخصي الضعيف, ورأيي أن الرواية تشهد الآن ازدهاراً ملحوظاً على مستوى العالم العربي. ولا أكون مغالياً لو قلت إن المكانة التي تحتلها الآن رواية أمريكا اللاتينية تستحقها الرواية العربية كذلك. إنها إبداع متفوق بكل المقاييس. وحين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل فهو لم يكن - كما ادعت مستشرقة إسبانية - واحة في صحراء مجدبة, إنما هو مبدع كبير ضمن حركة إبداعية خصبة ومثمرة, متصلة الحلقات والأجيال, تجد بدايتها في قصة الأخوين الفرعونية - أول قصة في التاريخ - تتواصل مع عشرات المعطيات في التراث العربي, وحتى زمننا الحالي الذي يطلق عليه البعض تسمية زمن الرواية. وظني أن هذا الازدهار الذي تحياه الرواية سيظل صورة المستقبل. دليلي أن الرواية هي الجنس الأوفر حظاً في إبداعات الأجيال الحالية المختلفة. وقد طالعتنا - في الأعوام الأخيرة - أعمال روائية كتبها شعراء ونقاد وفنانون تشكيليون.
أكرر: إن إبداعنا الحديث يتوازى في القيمة مع إبداعات أمريكا اللاتينية, وهي الإبداعات التي تحتل الآن موضع الصدارة في الأدب العالمي. المشكلة ليست في القيمة, لكنها في الثقة بالذات, وفي الاستراتيجية التي تحرص على تصدير - ومعذرة لرداءة التعبير - الأفضل والأصلح, وليس إبداع التربيطات والمجاملات والشللية.
* لقد حققت الرواية العربية حضوراً واضحاً, في معظم أقطار الوطن العربي, وقدمت تقنيات فنية متطورة, كما واكبت تطور الواقع العربي, فهل يمكن أن تصل الرواية العربية إلى مستوى العالمية? وأين يمكن أن تضع الرواية العربية في خريطة الرواية العالمية?
- بالمناسبة: متى, وكيف, يكون للإنتاج الثقافي العربي موقعه المتميز على خريطة الإنتاج الثقافي العالمي? للأسف, نحن نقصر الإبداع العالمي على ما تنتجه أوروبا والولايات المتحدة. والصورة الحقيقية تختلف عن ذلك تماماً. إن الإبداع العالمي في أعلى مستوياته نتابعه في إبداعات أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, وفي شرقنا العربي.. لكننا - كما أشرت - ندين بأحادية النظرة. ما يأتي من الغرب وحده هو الذي يسر القلب. وقد استطاعت أمريكا اللاتينية أن تتخلص من طغيان المنتج الثقافي الأمريكي, ليس في الرواية والقصة القصيرة فحسب, وإنما في السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من الأجناس الأدبية.
البعض يؤثر الاتكال على منجزات الثقافة الغربية باعتبارها التعبير الصحيح عن الثقافة العالمية بعامة. في إهمال - عفوي أو متعمد - لثقافات أكثر تفوقاً, وأكثر تعبيراً عن الهم الإنساني في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, فضلاً عن ثقافة المنطقة العربية بل ما يميزها من خصائص, وهي تؤثر في الثقافات الأخرى وتتأثر بها, ليشكل مجموع الثقافات ما يمكن تسميته بالثقافة العالمية. واعتبار الثقافة الغربية هي الثقافة العالمية خطأ معيب, نملك تصويبه بالترجمة عن آداب العالم دون لغة وسيطة, والتعرف على فنون العالم وفكره وإبداعاته, فلا يقتصر ذلك على لغة بالذات, ولا مناطق في العالم بعينها. وفي المقابل, فإن منتجنا الثقافي يجب أن يتجه إلى كل العالم باعتباره تعبيراً عن ثقافة مميزة, هي جزء من الثقافة العالمية ككل.
الثقة بالذات, والإبداع الذي يصدر عن الذات والذي يستند إلى التراث, ويفيد من تيارات العصر, هو تجربتنا المطلوبة, الوحيدة.
وان يكون للإنتاج الثقافي العربي موقع متميز على خريطة الإنتاج الثقافي العالمي, فهذا هو ما يطمح إليه كل المبدعين والمثقفين العرب. وهو طموح ينطلق من مشروعية مؤكدة.
والحق أن موضع الإبداعات العربية على خريطة الثقافة العالمية لا يجاوز بالنسبة للمبدعين العرب - حتى الآن - الطموح أو الأمنية. أما الموضع الفعلي, المكانة التي يستحقها بالفعل, فذلك ما يخضع لاعتبارات عديدة, في مقدمتها الاعتبارات السياسية, بحيث يمكن القول - ببساطة - أن الخريطة الإبداعية العالمية تحتاج إلى مراجعة شديدة, تحرص على التأمل والمناقشة, ومحاولة التوصل إلى الصورة الصادقة.
* الرواية العربية هي بشكل ما تعبير عن الواقع العربي, وهو واقع مؤلم, يعاني من إحباطات كبيرة وكثيرة, ومن توقعات إجهاض حضاري ومعرفي, فما رؤيتك للواقع العربي وللمستقبل العربي, وأنت من مثقفي العصر وشاهد عليه? هل تحلم مثلاً بكتابة رواية تعبر عن هذه الرؤية المستقبلية?
- من الأعمال التي أتممت كتابتها رواية عن أعوام الوحدة بين مصر وسورية من خلال بنسيون يسكن فيه طلبة من أقطار عربية مختلفة. لقد حاولت فيها أن أُعبِّـر عن رؤيتي لأحوال امتنا العربية, من خلال رؤية لا تنظر إلى الكوب نصف الممتلئ, ولا الكوب نصف الفارغ, إنما هي رؤية تستند إلى معايشة حقيقية ومتابعة. والمقولة التي ربما تعبر عنها هذه الرواية أن مشكلة الوطن العربي هي عدم المشاركة السياسية من مواطنيه, ومثقفيه بخاصة, مما يفضي إلى غياب الانتماء والمثل الأعلى والمشاركة, وغلبة الإحساس الفردي أو الإحساس القبلي الذي لا يطمئن إلى القومية, وتحول الديمقراطية إلى أمنية نتحدث عن تطلعنا إليها, لكن الطريق الحقيقية إليها مسدودة بالعديد من العوائق, وجميعها من صنع الحكام, ولا أزيد حتى لا يدفع السائل ثمن صراحتي.
إن مشاركة المواطن في صياغة واقع وطنه ومستقبله, سيبدل الصورة تماماً, بحيث يصبح المواطن مواطناً وليس رعية!
* ما رأيك في المعوقات التي يواجهها الكتاب العربي, ووسائل انتقاله بين أقطار الوطن العربي المختلفة?
- المعوقات كثيرة, أهمها غياب الديمقراطية والحرية وغيرها من الأبعاد التي تعد ضرورة للإبداع. ثم الخلط بين الثقافة والإعلام, وربما الإعلان, والنظرة المتدنية إلى الكلمة قياساً إلى الوسائل الأدائية الأخرى. ولعلي أشير إلى اللا مقابل الذي يتقاضاه المثقف المتحدث في وسائل الإعلام, يتقاضى هو هذا المقابل. فضلاً عن وجوب تحرير قوانين النشر والاستيراد والتصدير من كل المعوقات التي تواجهها صناعة الثقافة, بينما يتقاضى معلق كرة القدم في مباراة واحدة بضعة آلاف من الجنيهات. كذلك فإن النظرة إلى الكتّاب يجب أن تتبدل تماماً, بحيث تنعكس تلك النظرة على قوانين النشر والتصدير, فلا يدفع المبدع مقابلاً لنشر كتبه, بدلاً من أن يتقاضى ثمن الكتاب.
* للمرأة مكانة متميزة في رواياتك, وفي حياتك, ونخص بالذكر الزوجة الوفية السيدة زينب العسال, وهي أديبة وناقدة وباحثة, لها حضورها في الساحة الأدبية, فما دور السيدة زينب العسال في حياتك وفي أدبك? وما دورك أيضاً في أدبها وحياتها?
- لزينب العسال في حياتي أدوار متعددة, فهي صديقة وزوجة وناقدة لأعمالي قبل أن ادفع بها إلى المطبعة, ولأنها أخذت نفسها بصرامة من حيث الدراسة والممارسة, فنالت العديد من الدبلومات, كما حصلت على درجة الماجستير, وتعد الآن رسالة الدكتوراه, ونشرت العديد من الدراسات في الصحف والدوريات. لذلك كله فإني لم أعد أتابع زينب في المؤتمرات والندوات التي تشارك فيها. غاب قلق الأعوام الأولى, وتحريضي لها على أن تصبح واحدة من أهم ناقداتنا, فذلك ما حدث بالفعل.
إن دوري في حياة زينب العسال الآن يقتصر على قراءة ما تكتبه, وإبداء الملاحظات التي لا ألح في أن تعمل بها, فمن المهم أن تكون لها وجهة نظر, وأن تعبر عنها, وأن تحتمل - في الوقت نفسه - نتائج ما تكتب!
* في نهاية هذا الحوار أود أن أسألك: وماذا تقول للشباب? جل المستقبل وحاملي الأمانة, والأمل?
- ماذا أقول للشباب? أترك لك الرد على هذا السؤال, فقد رأيت ندوتي الأسبوعية في مقر نقابة الصحفيين, وشاركت فيها, ولك فيها رأي.
(يسعدني أن أقدم شهادتي في ندوتك, فقد رأيتك ترعى الأدباء الشباب وتشجعهم وتصغي إليهم باهتمام كبير, وتترك لهم حرية التعبير والنقد, ضمن معايير الاحترام والتهذيب والتقدير, ورأيت لديهم حساً نقدياً متطوراً فهم يدركون مسؤولية الأديب عن التجديد ومواكبة العصر في التقنية والبناء وفي الهموم والمشكلات, ويرفضون الاجترار والتقليد, وأنت تشجعهم وتؤديهم, ولا تصادر آراءهم, ولمست لديهم عطاء إبداعياً يرقى في كثير من الحالات إلى مستوى رفيع جدير بالاهتمام, ومما لا شك فيه أن أسماء لامعة لأدباء سوف تظهر من خلال ندوتك, إن لم يكن بعضها قد ظهر فعلاً وحقق حضوره الأدبي المتميز, ولا شك في أنك تقول للشباب أهلاً بكم وأنا معكم والمستقبل لكم, ولكنك أذهلتني, فقد حولتني في النهاية من سائل إلى مجيب, ومن محاور إلى متحدث).
عناوين فرعية
القيمة الفنية والموضوعية هي المقياس الوحيد للعمل الإبداعي بصرف النظر عن غزارته أو قلته
لقد تبلورت خططي القريبة في ضرورة أن أظل في عملي بالصحافة باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية
أنا لا اتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيكوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها أثناء حرثها للأرض
الرواية العربية تشهد الآن ازدهاراً ملحوظاً على مستوى العالم العربي.. إنها إبداع متفوق بكل المقاييس

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:10 AM
محمد جبريل: إننا نحن المثقفين من يصنع الطاغية فهو لا ينشأ من فراغ

الكاتب المصري لـ«الشرق الأوسط»: حياتنا الثقافية تحكمها المصالح والشللية، ولا يهمني أن أصنف في فلك جيل ما


القاهرة: محمد أبو زيد
..........................


تشكل الاسكندرية هاجسا رئيسيا في جميع أعمال الكاتب المصري محمد جبريل بشوارعها وناسها وعاداتها.
وفي هذا الحوار يتحدث الروائي محمد جبريل عن هذه المدينة، وعن علاقته بنجيب محفوظ التي يؤكدها فيما ينفيها الآخرون وعن جيل الستينيات الذي ينتمي اليه فيما يستبعده البعض من هذا الجيل، وعن 42 عملا ادبيا له تتنوع بين القصة والرواية والنقد والسيرة الذاتية أهمها «رباعية بجري، الحياة ثانية، زمان الوصل، الشاطئ الآخر، ما ذكره رواة الأخيارعن سيرة الحاكم بأمر الله هل قاضي البهار ينزل البحر، حارة اليهود، الخليج، زوينة» وغير ذلك:
* تبدو الاسكندرية هي الهاجس الرئيسي في كتاباتك فهل كتبت عنها بحكم المولد، أم لدافع آخر؟
ـ بعيدا عن أى مصطلحات أو أي تعبيرات أدبية وبلاغية فأنا أكتب عن الاسكندرية لأني أجد نفسي أكتب عن الأسكندرية، أنا تركت الاسكندرية من أكثر من أربعين عاما، وأتردد عليها في زيارات متقاربة ومتباعدة وأشعر في كل الأحوال بأني حين أفارقها لا تفارقني، انها تسكنني، وهذا هو التعبير الدقيق من دون أدنى مبالغة، ثمة احداث لرواياتي تدور بعيدا عن الاسكندرية لكن الاسكندرية تخضعني لمشيئتها لمكانها، فيتحول المكان من دون أن أدري الى الاسكندرية.
* كتب الكثيرون من المصريين عن الاسكندرية مثل ادوار الخراط، وابراهيم عبدالمجيد، سعيد سالم وجمال القصاص، وكان لكل واحد منهم منطقة تخصه، باعتقادك ما هي المنطقة التي تخصك بعيدا عن هؤلاء؟
ـ منطقة بحري لأنها منطقة الطفولة والنشأة، وان كان ثمة مغايرة ولا أقول تميزا فهي اني كتبت عن ارتباط اليابسة بالبحر، فشخصيات اعمالي الابداعية من الصيادين وباعة السمك; وعمال الميناء والعاملين بالتصدير والاستيراد وجنود السياحل وكل ما له علاقة بالبحر وكل من يتعاملون مع البحر ويقيمون في اليابسة.
* لكن هناك آخرين كتبوا عن هذا أيضا ؟
ـ ربما، ولكن المسألة ليست أساسية بالنسبة لهم مثلي، فانعكاس البحر على اليابسة وانعكاس اليابسة على البحر يبدو واضحا لدي لسبب بسيط هو اني نشأت في هذه البيئة التي تربط الاثنين، فبمجرد ان أصعد على سطح بيتنا أشاهد البحر من ثلاث جهات تشكل قوسا مع المينا الشرقية، والانفوشي والمينا الغربية، بالاضافة الى طبيعة الحياة نفسها مثل حلقة السمك وكل ما يتعلق بالبحر، وبازعاجاته والنوات وغيرها فضلا عن خاصية أخرى لا يمكنني أن أغفلها وهي الجو الروحي الذي يمثله تعدد المساجد والزوايا والحياة الدينية في الحياة.
* يبدو الهاجس السياسي واعتماد الخلفية السياسية في جميع اعمالك واضحا.. لماذا؟
ـ لأني مهموم سياسيا.
* وهل معنى هذا أن تكتب سياسة في الابداع؟
ـ أنا لا أكتب في السياسة ولا ألحظ هذا، وانما أكتبه بعفوية وهناك مجموعة عوامل ساعدت على هذا، منها انني تعلمت القراءة من الصحف وبالضرورة في الصحف سياسة، وهذا اثر علي فيما بعد، ثم عملي بالصحافة لاحقاً. وقد أتيح لي على فترات متقاربة ومتباعدة أن أصادق واتعرف على أصحاب اهتمامات سياسية يمثلون كل التيارات الدينية وقنواتي المفضلة في التلفزيون هي قنوات الاخبار، وقد سأل سقراط أحد الأشخاص ماذا تفعل، فقال أعيش، فقال سقراط، والبهائم تعيش، وأنا لا أريد أن أعيش كالبهائم، أريد أن يكون لي موقف، ولو لم استطع التعبير عنه من خلال عمل ابداعي أكتبه كمقال في الصحف.
* يتهمك البعض بأنك لم تزل تكتب الرواية الواقعية الكلاسيكية ولم تتجه الى استخدام تقنيات الكتابة الحديثة مثلما فعل باقي جيلك، ما ردك؟
ـ من الصعب ان أقول هذا، وكل عمل أكتبه يختلف عن الأعمال التي سبقته وأنا من المؤمنين ان العمل يكتب نفسه، ولا ألوي ذراعه، وعادة أبدأ العمل الابداعي من دون ملامح واضحة، ومؤكدة وهو يكتب ملامحه أثناء تخلق الكتابة، حتى التكنيك يتخلف منذ البداية، فأنا لا أصطنع شكلا.
* لك روايات عن الاسكندرية وروايات تاريخية، ورويات صوفية، وفرعونية وسياسية، أقصد انك تكتب في كل اتجاه، من دون خط محدد، ما رأيك؟
ـ يحركني عاملان أثناء الكتابة: الحنين الى المكان، والحنين الى الزمان. الحنين الى المكان بشكل حي بحري بالاسكندرية بالأساس، فمعظم قصصي التي تتناول هموما انية تدور في حي بحري، ولكن احيانا لأني سافرت أماكن كثيرة يحركني الحنين عن أماكن خارجية من خلال عمل ابداعي فأكتبه. والعامل الثاني هو الحنين الى الزمان. عندما أحب ان أكتب عن فترة ما، أظل اقرأ فيها حتى أتوحد معها، ثم أكتب عنها لأني مؤمن انه لا بد للكاتب المعاصر من أن يصل نفسه بالتراث ولا يتصور ان الحداثة هي اجتثاث للتراث من أصوله.
* هذا يجعلني أسأل، هل تكتب رواياتك التاريخية نتيجة لقراءتك التاريخية؟
ـ الأساس الفكرة طبعا. عندما أشعر بأن شخصية ما تستفزني، أبدأ القراءة عنها، وعندما أبدأ الكتابة أكون قد مشيت في شوارع الفترة التي أكتب عنها، بين بناياتها، وأتحدث بلغتها، واستخدام مفردات معيشتها، بالاضافة الى أني أحاول في التكنيك أن استخدم المفرده بصياغة حديثة وأحاول أن أقيد من اسلوب السيرة والطرفة والنادرة وكل ما ينتمي الى التراث.
*إلام ترد الهاجس الصوفي وانتشار الأولياء والمتصوفة في رواياتك؟
ـ أكتب عن الصوفية لأن الحياة التي عشتها في الإسكندرية فرضت علي ذلك: الأولياء، والطرق الصوفية، والمساجد والمعتقدات الشعبية، فهذا البعد موجود في الحياة السكندرية، ومن المهم جدا أن أعبر عنه، وهو شكل من أشكال الواقعية السحرية كما يسمونها في اميركا اللاتينتية، وأنا أحب قراءة أدب اميركا اللاتينية، وما أكتبه قد يتفق معه، لكنه غير مصنف فالكتابة عن الصوفية، وخصائصها كالمشي على الماء والطيران واللجوء الى الأولياء الذين ماتوا منذ سنين يمكن أن يصنف على انه واقعية سحرية.
* رغم انك تنتمي الى جيل الستينيات، الا أن اسمك غير مطروح بقوة مع اسماء هذا الجيل، هل ترى انك مستبعد؟
ـ لست مشغولا بهذا الأمر ولم يصدر قرار جمهوري ولا أمر سماوي يحدد أسماء هذا الجيل. هم الذين اعتبروا انفسهم يشكلون هذا الجيل وهم الذين يوجه اليهم هذا السؤال. أنا أكثر كتاب الستينيات توزيعا، وأغزر الكتابات النقدية كتبت عني، وأكثر الرسائل الجامعية كانت عني. وأحد الاصدقاء راجع ما كتب عني، ذكر لي أن ما كتب عني أكثر ما كتب عن نجيب محفوظ حين كان في سني. وأنا لم أحرض أحدا على أن يدرسني أو يكتب عني، وأزعم انني متحقق على مستوى القارىء العادي، والاكاديمي والنقدي، وأما أن البعض يحاول التغييب أو التجاهل أو التعامل بمنطق الشللية فهذا لا يعنيني.
* يصدر لك كل عام كتابان الى أربعة، ألا ترى أن هذا كثير في ظل اتهامك بغزارة الانتاج؟
ـ المسألة هي اني قد أكتب رواية واحدة رديئة، وعشرة روايات جيدة، ويجب ان يعامل الأدب بالكيف وليس بالكم، ويجب قبل أن تحكم على أعمالي أن تناقشها، بالاضافة الى أن غيري من أبناء جيلي من يفوقني كما، ومشكلتي ان أعمالي ظهرت في أوقات متقاربة، لأن هناك تسع سنوات قضيتها خارج مصر، كتبت فيها ولم أنشر الا بعد عودتي، فضلا عن مقاطعتي للحياة الاجتماعية، رغم اني صحافي ولكني لا أمارس الحياة الصحافية بمعناها الحقيقي حتى ولو خرجت فاني آخذ في حقيبتي ما يقرأ، أندهش ممن يتكلم عن الغزارة وهو يقضي وقته في »الجريون« أو »زهرة البستان« أو فيما يسمى بالمستودع من الصباح حتى آخر الليل وأسأله، متى تقرأ ومتى تكتب!
* صدرت روايتك »الحاكم بأمر الله« في الوقت الذي سقط فيه نظام صدام حسين في العراق، وربط البعض بينهما ما رأيك؟
ـ الترابط في موعد النشر فقط، وأرفض الربط لأنني عندما أكتب عن شخصية معاصرة وأحاكيها، أتناولها كما يشاهدها هذا العصر. لست مؤرخا ولا عالم اجتماع، وأنما أحاول الابداع، وهو يشترط البعد الانساني الذي يعطي له الاستمرار والديمومة.
* قدمت تيمة الحاكم الظالم بنفس تفاصيلها في أكثر من عمل لك مثل »إمام آخر الزمان« و»سيرة الامام الحاكم بأمر الله« و»اعترافات سيد القرية« والعديد من قصصك القصيرة.
ـ أحاول أن تكون لي فلسفة حياة. هذه الفلسفة تتبدي في اعمالي كتنويعات على ألحان محددة منها على سبيل المثال:الانسان المطارد، والصراع العربي الاسرائيلي، وما لا استطيع التعبير عنه في اعمال الأدبية، أعبر عنه في مقالاتي الصحافية، وأنا أرى أننا نحن المثقفين من يصنع الطاغية، فالطاغية لا ينشأ من فراغ، المثقفون هم الذين يقومون بتأليه الحكام والباسهم هالات البطولة والزعامة، وفي رأيي أن الطاغية لا ينتهي بالصورة التي بدأ عليها، ولكن من يفيدون منه يحرصون على أن يصبح طاغية، وما أريد أن أصل اليه، أنني قد أكرر نفسي، ولكن الأمر بالنسبة لي فلسفة حياة، فضلا عن اختلاف التناول واللغة، والتكنيك من عمل لآخر.
* كتب سالم بنحميش أوخرون عن الحاكم بأمر الله، وكتبت أيضا. فيما أختلفت عنهم. وما رأيك في المقارنة التي اقامها أحد النقاد العرب بينك وبين بنحميش في هذا الصدد؟
ـ لم أقرأ الآخرين، وعرفت بعد أن انهيت روايتي أن سالم بنحميش حصل على جائزة عن هذه الرواية، وعندما قرأتها وجدت انها تأخذ خطا مغايرا، أنا أكتب عن فلسفة حياة. والمضحك ان هذا الناقد الذي أشرت اليه أقام موازنة بين بنحميش وبيني، وقال ان رواية بنحميش أفضل وأكثر فنية لأن عناونيها أكثر شاعرية، وبهذا المنطق يمكنني اعتبار محمد حسنين هيكل أفضل كاتب أدبي لأن عناوينه أكثر شاعرية مثل خريف الغضب وغيره، وهذا منطق يطفح سذاجة.
* علاقتك بنجيب محفوظ تؤكدها وينفيها الآخرون، أين الحقيقة؟
ـ أصدرت كتاب »نجيب محفوظ. صداقة جيلين« أوضحت فيه هذه العلاقة وفي عز صحة نجيب الجسدية، وقرأه، ولم يعترض على كلمة واحدة مما جاء فيه، بل أنني أشرت في مقدمته أنني كنت واسطة التعارف بينه وبين من يدعون أبوة نجيب محفوظ الآن. ومع كل احترامي لمحفوظ، فقيمة الأديب بما يكتبه، وليس بمحاولة الاتكاء على شخصيات أو كتابات أخرى، مهما كانت قيمتها. اوجه هذا الكلام للذين يقحمون أنفسهم عليه في الوقت الذي يحتاج فيه الراحة، والاستجمام ويطرحون مسائل غريبة مثل الأبوة والوراثة، مع أن الأدب لا يورث. لقد كنت لصيقا بمحفوظ حتى سافرت الى الخارج، وذكرت كل هذا في كتابي وأنا أكبر من مثل هذه الصغائر وأنا أعتز بما أكتب، ولا أبحث عن وسائل أخرى للشهرة مثلهم.
* لكنك عندما كتبت مقدمة لمجموعتين قصصيتين هما «صدى النسيان» و«فتوة العطوف» لنجيب محفوظ من أعماله الأولى هاجمك البعض في المجلات العربية ووصفوك «بكاتب مغموريقدم لمحفوظ»؟
ـ ما كتب وقتها كان بتحريض من هؤلاء الأشخاص ونجيب محفوظ هو الذي كتب ورقة بخط يده يزكي فيها ان أكتب هذه المقدمة، وسأفشيك سرا فقد كلفني محفوظ نفسه بمراجعة روايته الأخيرة »اصداء السيرة الذاتية». بعد ان ظل لفترة طويلة متخوفا من نشرها وبها أخطاء، رغم وجود هؤلاء. وعندما هوجمت بسبب المقدمة التي كتبتها لمحفوظ في مجلة «الصدى» جاء محرر المجلة الى، واتصلنا بمحفوظ أمامه وقال انه يعتز بصداقتي وانه وافق على هذا النشر.
أنا اعتزلت نجيب محفوظ حفاظا على صحته، وعندما قابلني محفوظ وسألني لماذا لا تأتي، قلت له عندما ينفض المولد الذي حولك، لكن يبدو انه لا يريد أن ينفض.
* تتسلل سيرتك الذاتية في ثنايا اعمالك، اضافة الى انك اصدرت اربعة كتب عن سيرتك الذاتية هل تعتمد على حياتك الشخصية في الكتابة؟
ـ لا يوجد تعمد لاستعمال سيرتي الذاتية، وأنا أترك العمل الابداعي يكتب نفسه، والكتب التي تحدثت عنها ليست سيرة ذاتية مطلقة، وغير ذلك فأنا أكتب فنا، والسيرة الذاتية الآن جنس أدبي ينتمي الى جنس الرواية.
* أن تفوز بجائزة الدولة التشجيعية في النقد، ألا يبدو هذا محزنا لك كمبدع؟
ـ أنا فزت بالجائزة ولم أكن قد حققت ذاتي الأدبية بعد، فلم يكن وقتها قد صدر لي سوى مجموعة واحدة، وهذه المجموعة رأيي فيها الآن انها أقرب إلى مشاريع للقصص التالية، وعموما فأنا أصغر واحد في جيلي حاز جائرة الدولة على الاطلاق.
* بعد كل هذا هل تشعر بأنك مظلوم؟
ـ أبدا، ولو شعرت بهذا لن أكتب.
...........................................
*الشرق الأوسط ـ في 30/7/2004م.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:11 AM
محمد جبريل: أرفض الخيال المحض في مضامين أعمالي:

حاوره: د. حسين علي محمد
..........................

غاب محمد جبريل عن الوطن ثماني سنوات (1976-1984) في سلطنة عمان، حيث كان في مهمة جادة لإصدار جريدة "الوطن" التي جعل منها واحدة من الجرائد القوية في منطقة الخليج، كما أصدر ملحقها الأدبي المتميز الذي يجعلنا نتمنى أن تُصدر الصحف الأدبية المصرية مُلحقا مثله.
وبعد عودته من عمان كان هذا اللقاء معه:
*ثماني سنوات من التجربة وأنت بعيد عن وطنك مصر الأثير إلى نفسك، ماذا قدمت لك التجربة؟ وكيف تنظر إليها الآن؟
-حين اتصل بي المرحوم الشيخ سليمان الطائي وألحَّ في أن أُنقذ جريدة "الوطن" من مأزق حقيقي تبدّى في عدم انتظام صدورها، وانقطاعها ـ أحياناً ـ لفترات تمتد إلى الأشهر، وافتقادها للمقومات الأساسية للعمل الصحفي، إلى حد مُصارحة الزميل حسين أحمد مرسي ـ الذي كان يتولى مسؤولية الإعلان والتوزيع ـ إليَّ أن محررها الأوحد ـ قبلي ـ كان العمل الذي يُجيده هو الطباعة على الآلة الكاتبة! يكتفي بتسجيل الأنباء المحلية من إذاعة عمان، ويبعث بها إلى المطبعة التي تتولى طباعة الوطن في بيروت أو القاهرة أو الكويت، فتستكملها بمواد أخرى منقولة بتصوير الأوفست من الصحف المختلفة. وهكذا كانت تصدر "الوطن"، بل وهكذا كانت تصدر كل الصحف العمانية، فيما عدا "عُمان" بالطبع، التي حاولت أن تعتمد على جهود العاملين فيها، وإن لجأت آنذاك ـ كثيراً كثيراُ ـ إلى أسلوب القص واللصق الذي يُعد الوجه الآخر ـ السلبي ـ لطريقة الطباعة بالأوفست.
أقول: حين عرض عليَّ الشيخ سليمان الطائي مسؤولية إنقاذ "الوطن" من مصير واضح كان يتهددها ترددتُ كثيراً، وألحّ دون يأس. فلم أوافق إلا بضغط مباشر من أستاذي عبد المنعم الصاوي الذي وسّطه الشيخ الطائي حتى يُحاول إقناعي .. ذلك لأن عام 1975 الذي قدّم فيه الشيخ الطائي عرضه كان هو عام فوزي بجائزة الدولة في الأدب، وكذلك كان عام سفري إلى العديد من الأقطار العربية لإلقاء محاضرات في فنية العمل الصحفي بتكليف من المركز العربي للدراسات الإعلامية في السكان والتعمير، بالإضافة إلى أني كنت مشغولاً في كتابة روايتي "حكايات عن جزيرة فاروس"، وكتابي "ملامح مصرية" والجزءين الثاني والثالث من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين". وكان التخلي عن ذلك كله صعباً وقاسياً. لكنني ـ في النهاية ـ لملمت أوراقي، واحتفظت بها في الأدراج ثماني سنوات كاملة، كنت خلالها مشغولاً بتحقيق المعجزة ـ وليس في التعبير أدنى مبالغة ـ أن تُصدر جريدة أسبوعية بمجهود فردي .. ثم أن أُصدر هذه الجريدة ـ فيما بعد ـ يومية بمجهود شبه فردي.
لكن الجانب الإيجابي المقابل في هذه التجربة، تمثل في استفادتي المؤكدة من الممارسة التطبيقية في كل مجالات العمل الصحفي بدءاً من إدارة التحرير وانتهاءً بالسكرتارية التنفيذية، مروراً بالكتابة الصحفية: كتابة العمود السياسي، والخاطرة اليومية، والتحقيق، والدراسة، والخبر. حتى التصحيح كان من بين مهام المحرر الوحيد الذي كنته! وثمة تعرفي إلى اهتمامات، وأسماء ومناطق أخرى ربما لم أكن أتعرف عليها لولا سفري إلى السلطنة .. بالإضافة إلى أن إقامتي في السلطنة كانت هي الباعث لأن أكتب روايتي "إمام آخر الزمان".
*هل كنت تُواكب أدباء جيلك وأنت بعيد عنهم؟
-لم أكن بعيداً على الإطلاق عن أدباء كل الأجيال السابقة؛ فالسلطنة تأذن بدخول كل المطبوعات، بل لقد أُتيح لي في السلطنة أن أتعرّف إلى أدباء في الوطن العربي لم يُسمع صوتهم في القاهرة بعد. ومن بين كتاباتي الحالية دراسة مطولة عن الأديب عز الدين المدني ـ الغائب تماماً عن اهتمامات المثقفين المصريين ـ ومحاولاته التجريبية التي أجد أنها تتفق تماماً مع نظرتي إلى معنى التجريب.
أما بالنسبة لغيابي الجسدي عن القاهرة، فلم يكن حقيقيا، ذلك لأني كنتُ حريصاً على العودة إلى مصر بين فترة قصيرة وأخرى، وجواز سفري مزدحم بعشرات الأختام التي تبين عن أسفاري المتواصلة بين مسقط والقاهرة.
لم أكن بعيداً عن أدباء جيلي إذن، بل ولم أكن بعيداً عن الحياة الثقافية إطلاقاً! ولعل "الملحق الثقافي" لجريدة "الوطن" ـ وهو خير الإسهامات التي أعتز بها في تجربتي الصحفية بالسلطنة ـ يكشف عن مدى علاقاتي المتصلة بالمثقفين المصريين من كافة الأجيال. ولقد تعرّف القارئ العماني ـ من خلاله ـ إلى نبض الواقع في الحياة الثقافية المصرية، وإلى معظم الأسماء التي تُشكِّل هوية الثقافة المصرية، وإني إعتز بأن الوطن حظيت بكتابات نخبة ممتازة من الأقلام المصرية، كان بوسعهم أن ينشروا ما يكتبونه في صحف عربية أخرى بمقابل مادي حقيقي، وليس بالمقابل الرمزي الذي كانت تدفعه "الوطن" لهم.
*نعود إلى عالمك الفني الأثير لديك: كيف ترى إبداعاتك بين أبناء جيلك؟
-يصعب على أي كاتب أن يتصوّر موضع مؤلفاته بين الإسهامات الأخرى التي قدّمها أبناء جيله. مع ذلك فإن تأملي لقائمة مؤلفاتي التي تضمنتها الصفحة الأخيرة من آخر رواياتي يُبيِّن عن اهتمام ملح بقضايا بلدي (مصر)، سواء بالإبداع أو بالدراسة الأدبية.
أما أولى مجموعاتي "تلك اللحظة من حياة العالم" فإني أعترف بالخطأ لعدم قبول نصيحة أستاذنا نجيب محفوظ بالاكتفاء بعبارة "تلك اللحظة" دون بقية الكلمات، فضلاً عن أنها تبدو لي ـ بعد أعوام طويلة من إصدارها ـ أشبه باسكتشات قصصية تُعبِّر عن الرغبة في التجريب أكثر من تعبيرها عن اكتمال مقوِّمات هذا التجريب. بعكس روايتي "الأسوار" التي تبدو لي خطوة أكثر تفوقاً في تحقيق ما أراه من وجوب استفادة القصة بالأدوات الفنية الأخرى مثلما تستفيد تلك الأدوات من فن القصة. فثمة الفلاش باك، والهارموني، والتبقيع، والحوار الدرامي … إلخ. ولقد سعدت ـ في الحقيقة ـ بحفاوة النفاد بهذه الرواية، وحرصهم على مناقشتها وإبراز دلالتها الفنية والمضمونية في آن معاً.
أما كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" فهو ـ كما أشرت في المقدمة ـ محاولة فنان لقراءة تاريخ بلاده، وتسجيل هذه المحاولة فيما يمكن تسميته بالقراءة الإيجابية. ولقد أسعدني ـ بالطبع ـ أن يفوز هذا الكتاب بجائزة الدولة في النقد الأدبي، وإن كانت سعادتي ستتضاعف لو أني نلت الجائزة في المجال الذي أوثره وهو القصة.
*بدأت محاولاتك مع الفن من خلال القصة القصيرة، هل تحدثنا عن تجربتها معك؟ وهل أثَّرت قراءاتك وتجاربك الشخصية في بداياتك؟ أم أنك بدأت مُغامراً من خلال ما يُمكن أن نسميه قصص الخيال المحض؟
-لعلي أزعم أني لم أبدأ في كتابة قصتي القصيرة الأولى، إلا بعد أن كان في حوزتي حصيلة لا بأس بها من القراءات والتجارب الشخصية وتلك التي عاشها الآخرون. وأضيف: أني رفضت الخيال المحض في مضامين أعمالي الفنية. لقد عملت في مهن متعددة، وقرأت في ثقافات مرتفعة وهابطة، وعايشت أجواء متناقضة، وقضيت أعواماً مقيماً وزائراً في بلاد شتى.
لقد حاولت ـ ولعل ذلك ما أحرص عليه حتى الآن ـ أن أستفيد من كل لحظة قراءة، وكل لحظة تجربة، وكل لحظة تعرُّف ومشاهدة، بحيث يتناثر ذلك كله في محاولاتي دون أن يبين عن مصدره.
*هذا يدفعنا إلى السؤال عن موقفك من "نقل الواقع أو النسخ الحرفي للحياة" من خلال الفن، وهل هذا أمر ممكن؟
-لعلي أوافق أرنولد بينيت على أن النسخ الحرفي أمر مستحيل"، فالرواية ـ بدرجة ما قد تتفوق أو تتأخر ـ لوحة فنية تنبض بالتفصيلات ، وتداخلات الألوان والظلال ، والفكرة والشكل والتلوين .. تلك هي الأشياء التي لابد أن تتوافر في العمل الروائي حتى يستحق هذه التسمية. وكما قلت فإن التصوير في حد ذاته يُعدُّ فنا من حيث اختيار الزوايا والإضاءة والمساحات. ولكن حين يُصبح هو الاختيار الوحيد في رواية ما، فإنها بالقطع لن تكون كذلك.
*إذن ما رأيك في التفسيرات التي يطرحها النقاد على الأعمال الفنية خاصة القصة من منظور الرمز أو المعادلات؟
-المعادلات في معالجة الأعمال الفنية قضية غاية في الخطورة. ذلك لأن القصة ـ كعمل فني ـ يجب أن تحقق المتعة بذاتها. وقد صارحني نجيب محفوظ ـ يوماً ـ أنه يعتبر القصة الفلسفية غاية الفن، ولكنه رفض البحث عن الرمز المقابل لكل شيء، فسيحتاج الأمر إلى لوغاريتمات، وليس إلى فن حقيقي. ساعتها ربما يحتاج القارئ إلى جدول يُطابق من خلاله الواقع على ما يُقابله من رمز. الفنان عندما يبدأ كتابة عمل ما، فإنه لا يعرف كيف أو ماذا يكتب. الفكرة العامة تحيا في ذهنه، لكنها تخضع عند الكتابة لاعتبارات أخرى عديدة، الفنان يكتشف نفسه أثناء الكتابة.
*كخطوة نحو القصة الفلسفية التي يريدها نجيب محفوظ: هل ترى أن الرواية المعاصرة تُقدِّم "فلسفة" للحياة من خلال نظرة مبدعيها؟
-إن الرواية المعاصرة يجب أن تقدِّم فلسفة الحياة الواضحة المتكاملة التي تُعبِّر عن نظرة الأديب الخاصة ومواقفه، لا أعني أن تُقحَم الأفكار الفلسفية المجرّدة داخل إطار العمل الفني. إنها في هذه الحالة تُشكِّل نتوءاً واضحاً في العمل الفني، يقلل من قيمته، إن لم يُبدِّد تلك القيمة تماماً. إن الفنان الذي يصدر عن رؤية فلسفية متكاملة هو الذي يتمكّن من تذويب أفكاره في أحداث عمله الفني، بحيث لا تبدو نشازاً ولا مُقحمة.
وكما يقول "ميرلو بونتي" فإن الفلسفة ليست انعكاساً لبعض الحقائق الجاهزة الموجودة من قبل، ولكنها مثل الفن تمثل التجسيم المباشر للحقيقة. إن الفلسفة الصادقة هي التي تُعلِّمُنا من جديد كيف ننظر إلى العالم. وإن رواية ما ممتازة، يُمكن أن تُصوِّر لنا "بانوراما" العالم، ربما بأدق وأشمل مما تصوّرها الرسالة الفلسفية.
*شاعت في العقد الأخير بعض موجات الحداثة التي تُغفل دور الحدث أو "الحدوتة"، فهل تتعاطف مع هذه الموجات؟
-بالعكس، فإني أرى "الحدوتة" هي النطفة التي يتخلّق منها العمل الفني، وبرغم اختلافي مع "أرنولد بينيت" بأن أساس الرواية الجيدة هو "خلق الشخصيات ولا شيء سوى ذلك"، فلعلي أتفق تماماً على أن خلق الشخصيات دعامة أساسية في بناء الرواية الذي يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى، أقواها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة، وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة ـ نقاداً أو أدباء ـ أن الرواية ليست في حاجة إليها، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات تضع الحدوتة في مرتبة تالية، أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً. ولقد كانت الحدوتة (الحكاية، الفكرة، سمِّها ما شئت) هي الباعث الحقيقي لأن تتحوّل روايتي "الأسوار" في ذهني ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث ومواقف وشخصيات، ثم تخلّقت في أشكال هلامية عدة، قبل أن تأخذ ـ في طريقها إلى المطبعة ـ سماتها النهائية.
*هل يعني هذا عندك أن الحدوتة هي الدعامة الأولى في الفن الروائي؟
-نعم، الحدوتة هي الدعامة الأولى في بناء أي عمل فني. ثم تأتي بقية الدعامات الأخرى، وهي ـ في الرواية الجديدة ـ محاولاتها للاستفادة من العناصر والمقومات في وسائل الفنون الأخرى، كالفلاش باك في السينما، والتقطيع في السينما أيضا، والتبقيع في الفن التشكيلي، والهارموني في الموسيقا، والحوار في المسرحية .. إلخ.
*المتابع لإبداعاتك القصصية والروائية يجدك تُلح فنيا على ضرورة استفادتهما من معطيات وتكنيكات الوسائل الفنية الأخرى التي أشرت إليها الآن مثل القصيدة والمسرحية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية ـ فما هي بواعث هذه الرؤية؟
-لماذا لا يُثري الفنان قصته أو روايته بإسهامات الفنون الأخرى وبما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتكنيكية، فتتحقق للفن الروائي أبعاد جديدة، وتتحقق أبعاد جديدة للفنون الأخرى، مما يجعل رأي "أدوين موير" بأن بعض الفنون ـ مثل النحت والرسم والموسيقا ـ تتحقق في بُعد واحد فقط، أقرب إلى تسمية الشمس بأنها تقوم كل يوم بدورة من الشرق إلى الغرب، وإغفال "أبعادها" الهامة الأخرى! ولعلي بذلك أُناقض دعوى بعض الروائيين الجدد ـ ناتالي ساروت مثلا ـ بأن المقولة في الفن خطأ يجب تجنبه، وأن الالتزام الوحيد في الفن هو الفن نفسه. برغم أن إبداعات هؤلاء الروائيين ـ وأيديولوجياتهم أيضا ـ ترفض تلك الدعوى، فمهمة الروائي ـ في تقديرهم ـ هي إعادة العلاقة بين الإنسان والعالم.
*في قصصك زخم الواقع والحياة ـ وإن كانت مُغايرة للواقع ـ كيف ترى إمكانية تحقق التغايُر والتماثل في آن مع رفضك للنسخ الحرفي للحياة من خلال الفن؟
-الواقعية ليست هي الواقع، والفن ليس هو الحياة بحذافيرها، الواقع مُصادفة وفوضى والفن اختيار. الفنان يُضيف إلى العمل الفني مهما بلغت درجة اقترابه من الحياة، من قراءاته وخبراته ورؤاه .. إلخ، ومن هنا فإن "ابن نفيسة" (بطل روايتي "متتابعات لا تعرف الانسجام") في الحياة ليس هو "ابن نفيسة" في الرواية، برغم أن الرواية تستند إلى الواقع، وأيضاً شخصيات رواياتي وقصص قصيرة كثيرة مما كتبت.
*ألا ترى أن الصحافة تؤثر تأثيراً سلبيا على الأديب المبدع؟
-لقد أدرك أرنست همنجواي أنه من الصعب أن يكون صحفيا وأديباً في آن معاً، وبالتالي فقد رفض كل العروض الصحفية التي كان يمكن أن تُجنبه المآزق المادية التي واجهها في بداية حياته الأدبية. وفضلاً عن القيمة السامقة لإبداعات همنجواي بالقياس إلى مُحاولاتي، فإن الحقيقة التي تذهب في بلادنا مذهب المثل: أن الأدب لا يُؤكِّل صاحبه عيشاً، ومن ثم فإن الوظيفة مطلب حتمي، ولأن الصحافة هي الأقرب إلى الأدب، فقد كان من البديهي أن أتجه إليها. وحتى ذلك لم يكن مُتاحاً في البداية. واجهتُ صِعاباً قاسية حتى أُتيح لي أن أجلس وراء مكتب في صحيفة "المساء" وألتقي بالآخرين بصفتي مُحرراً، وإن كان الأدب هو شاغلي الأول.
*بعد غيبة ثماني سنوات ونيف بعيداً عن مصر، مُتابعاً لما يدور في تربتها من تخلُّق وتحولات، كيف ترى مصر ـ حبك المقيم وهاجسك الدائم ـ؟ وما هي طموحاتك الأدبية؟
-مع أن "روبرت فروس" يقول في قصيدة له: "إن الوطن هو المكان الذي يكون مستعدا لاستقبالك عندما تذهب إليه" فإن مصر كانت هي وطني الوحيد والدائم برغم الضغوط الاقتصادية والنفسية التي ألجأتني إلى قبول المنفى الاختياري. ثم إن ثماني سنوات من العمل في "الوطن" وتحويلها من صحيفة مُتعثرة تصدر بين الحين والآخر إلى صحيفة يومية جادة أشعرني ببعض الراحة وجعلني أتخذ قرار العودة.
وما فعلته ببساطة ليلة عودتي إلى القاهرة ـ نعم، ليلة العودة تحديداً ـ أني فتحت الأدراج، وبدأت في مواجهة ما كنت قد أرجأته قبل ثماني سنوات.
والحق أن إصراري على تقديم استقالتي من «الوطن» بعد أن حققت أحد أهم أحلامي بإصدارها يومية، كان العودة إلى عالمي الذي أوثره عن كل ما عداه وهو الأدب.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:13 AM
الموروث الشعبى فى كتاباتى الروائية

بقلم: محمد جبريل
..........................

نشأت فى بيئة تحض على عشق الموروث الشعبى . حى بحرى شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . إلى اليمين الميناء الشرقى ، أو المينا الشرقية فى تسمية السكندريين . وإلى اليسار الميناء الغربى ، أو المينا الغربية ، وفى المواجهة خليج الأنفوشى ، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الأنفوشى إلى سراى رأس التين ..
هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة ، فالبنية السكانية تتألف من العاملين فى مهنة الصيد وما يتصل بها ، ومن العاملين فى الميناء وصغار الموظفين وأعداد من الحرفيين والمترددين على الجوامع والزوايا والأضرحة ، فضلاً عن الآلاف من طلبة المعهد الدينى بالمسافرخانة ..
وإذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها ، انعكاسها فى العديد من أعمالى الإبداعية ، فإن البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك فى تلك الأعمال ..
ثمة جوامع أبو العباس وياقوت العرش والبوصيرى ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلى تمراز ، وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع أولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم وأضرحتهم . وثمة الموالد وليالى الذكر والأهازيج والأسحار والتواشيح ، وليالى رمضان وتياترو فوزى منيب وسرادق أحمد المسيرى وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح فى سراى رأس التين والتواحيش ، واحتفالات الأعياد : سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والأراجوز والساحر والمرأة الكهربائية وألعاب النشان والقوة وركوب البنز والحنطور من ميدان المنشية إلى مدرسة إبراهيم الأول ، وتلاقى الأذان من المآذن المتقاربة ، والبخور والمجاذيب والمساليب ، والباحثين عن النصفة والبرء من العلل والمدد ، بالإضافة إلى المعتقدات والعادات والتقاليد التى تمثل ـ فى مجموعها ـ موروثاً يحفل بالخصوصية والتميز ..
حين أراجع أعمالى الإبداعية بدءاً من قصتى القصيرة الأولى [ إلى الآن حوالى 90 قصة قصيرة و18 رواية ] فإن تأثير ذلك كله يبين فى العديد من المواقف والشخصيات ، وفى تنامى الأحداث ..
***
رباعية بحرى ، عمل روائى من أربعة أجزاء : أبو العباس ، ياقوت العرش ، البوصيرى ، على تمراز . تعرض للحياة فى بحرى ، منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى مطالع ثورة يوليو 1952 . لوحات منفصلة من حيث تكامل اللحظة القصصية ، ومتصلة من حيث اتصال الأحداث ، وتناغم المواقف ، وتكرار الشخصيات ..
أنسية التى طالعتنا فى بداية الجزء الأول من الرباعية ، هى أنسية التى انتهت بها أحداث الجزء الرابع والأخير . وما بين البداية والنهاية نتعرف إلى دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وإنجاب وشيخوخة ووفاة ، فضلاَ عن الحياة فى المعهد الدينى بالمسافرخانة ، وحلقة السمك ، وحياة الفتوات ، والعوالم ، وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز ، بقدر اختلاف البيئة وتميزها ..
على سبيل المثال ، فإن الحياة فى البحر ، وصلة البحر واليابسة ، والمؤمنين بطهارة الماء ، وقدرة البحر على أعمال السحر ، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الأعماق ، والخرافة ، والأسطورة ، والزى التقليدى ، والمواويل ، والأغنيات ، والأمثال ، والحكايات ، وخاتم سليمان ، والمهن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنارة والطراحة والجرافة ، وأسرار الغوص فى أعماق البحر ، وغزل الشباك ، وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيرها ، وركوب البحر ، وبيع الجملة فى حلقة السمك ، وبائعى الشروات .. ذلك كله يتوضح فى الشخصيات التى كانت الحياة فى البحر مورد الرزق الأهم ـ أو الوحيد ـ لها ..
أما الروحية التى تمثل بعداً مهما فى حى بحرى ، فهى تبين عن ملامحها فى كثرة الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة ، ورفع أولياء الله عن الغلابة والمنكسرين ما يحيق بهم من ظلم ، وكرامات الأولياء من اطلاع على الكائنات ، وطى الأرض ، والسير على الماء ، والطيران فى الهواء ، وإتيان بالثمار فى غير أوانها ، وتحويل ماء البحر إلى ماء عذب ، وتواصل الكرامات حتى بعد أن يرحل الولى ، والمكاشفة التى تحققت على يد أبى الدرداء حين أنقذ الإسكندرية من طوربيد ألمانى فى غارات الحرب العالمية الثانية ، والخضر الذى يظهر للمراكب حين يهددها خطر النوات ، فينقذها ، وتجليات الصوفية فى الإشارات والأسرار والرموز ، وارتقاء الدرجات من المريد إلى المقدم فالنقيب فالخليفة خاتمة الدرجات الروحية ، ودروس المغرب ، وتصورات مشاهد الجنة والنار ، والخوف من الجن والمردة والعفاريت ، وإيقاد الشموع على أضرحة الأولياء ، وتقديم النذور ، وكنس النساء للأرض بالملاءات ، أو التمرغ عليها ، يطلبن الخلفة والمصلحة والشفاعة والمدد ، والوصفات الشعبية ، وأعمال السحر ، والتربيط ، والأعمال السفلية ، والوسائل التى بلا حصر لعلاج الإجهاض ، أى سقوط الجنين قبل أن يكتمل نموه : وَصْفات غريبة ، وقاسية ، وتجارب لابد أن تخوضها المرأة الحامل لتحتفظ بالجنين ، ودلالات ظواهر الطبيعة من شمس وقمر ونجوم وكواكب ورياح وعواصف ونوات ومناطق وفرة ـ وجدب ـ السمك . الشمس تجاوز صفتها الظاهرة ، فتتحول إلى صديق للجد السخاوى ، يعرض عليها مشكلاته ، ويأخذ منها ويعطى ، وحين يحس بدنو الأجل فإنه يتطلع إليها ويخاطبها بما لم يتبينه أحد ..
***
روايتى القصيرة الصهبة تتناول طقساً شعبياً ، تغلب عليه الأسطورة . المرأة المنقبة التى تخضع لمزاد وهمى ، من يرسو عليه ، يرفع عن وجهها النقاب ، فيتجدد أملها فى الإنجاب . ويختلط الواقع بالحلم فى أحداث الرواية ، فتغيب الملامح . لا يدرى إن زارته فى الصحو أو فى المنام ، ولا يبين ناس الصهبة عن هويتهم حتى يهمس صوت الأم وهى ترى ابنها ينزل درجات البيت إلى حيث يتجمعون : هل انجذب ؟!
***
أما روايتى زهرة الصباح فهى محاولة لتوظيف حكايات ألف ليلة وليلة فى عمل أدبى حديث . زهرة الصباح هى الفتاة التى تلى شهرزاد فى قائمة الفتيات اللائى ينتظرهن سيف " مسرور " . كانت تحيا فى ظل الخوف من أن يمل شهريار ، أو تخفق شهرزاد فى الحكى ، فيحل دورها . وحاول أبوها ـ وهو من المقربين إلى شهريار ـ أن يفيد من تلك الفترة فى رواية الكثير من الحكايات والطرائف والنوادر والأخبار والعبر والنوادر والسير والمواويل ، تنصت إليها زهرة الصباح ، وتحفظها . تحيلها مخزوناً حكائياً ليعينها على مواصلة الحكى ..
كانت قدرة شهرزاد على استدعاء الحكايات ، أو اختراعها ، وروايتها ، هى وسيلتها للإبقاء على حياتها ، فهى إما أن تصل الحكايات ، كل حكاية بأخرى ، أو تموت . فإذا نفد ما بحوزتها من الحكايات ، أو فقدت القدرة على الإدهاش ، وفقد شهريار بالتالى فعل المتابعة والدهشة ، واصل السياف مسرور حلقات سلسلة الإعدام .. ذلك كله كان يعلمه عبد النبى المتبولى ، فشغل معظم وقته بتحويل ذاكرة زهرة الصباح إلى خزانة تستوعب كل ما استطاع حفظه فيها من الحكايات والحواديت والعظات والعبر ..
تضمن السرد الروائى الكثير من جوانب الموروث الإبداعى العربى . ضُفّر فى نسيج العمل الروائى ، لا لانتساب الرواية إلى عالم ألف ليلة وليلة باعتبارها تراثاً إبداعياً فحسب ، وإنما لأن أحداث الرواية تدور فى أجواء شعبية ، ففيما عدا الشخصيات الرئيسة القليلة ، فإن غالبية الشخصيات من الطبقات الأدنى والمهمشين ..
***
ونحن نستطيع التعرف إلى البدايات الأولى للموروث الشعبى فى حياتنا الآنية ، من خلال توالى الإجابة عن الأسئلة الاثنين والأربعين التى أعادت تقديم سيرة حياة المواطن زاو مخو فى صورتها الصحيحة ، فى روايتى اعترافات سيد القرية . الإيمان بالخلود ، تقديم النذور والقرابين ، الأدعية والرقى والتعاويذ ، العلاقات الأسرية ، السيرة ، الأسطورة ، الخرافة ، الحكاية الشعبية ، الخطابة ، الطرفة ، الطب التقليدى ، التيقن من القدرات العلاجية لشجرة الجميز ، الصفات الشعبية التى تشعل الشبق فى جسد الرجل ، وتسرى بالخصوبة فى جسد المرأة ، الموسيقا الوطنية ، إلخ ..
***
روايتى بوح الأسرار تحاول ـ من خلال معالجة فنية ـ أن تجيب عن السؤال : لماذا اختار الوجدان الشعبى هذه الشخصية أو تلك ، ليضفى عليها من هالات القداسة والعظمة ما يجعل منها أحد أبطاله الشعبيين ؟
حاولت أن أجيب عن هذا السؤال ـ بصورة مطولة ، تقترب من العلمية ما أمكن ـ فى كتاب لى صدر مؤخراً بعنوان " البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ، ناقشت فيه جوانب البطولة فى عدد من الشخصيات التى وضعها الوجدان الشعبى فى ذلك الإطار : لماذا اختار عنترة من بين مئات الشعراء فى الجاهلية ؟ ولماذا اختار الظاهر بيبرس من بين حكام المماليك ؟ ولماذا اختار السيد البدوى من بين الكثير من أولياء الصوفية الذين نسبت إليهم مساجد وأضرحة ؟ ولماذا اختار على الزيبق وابن عروس وياسين ومتولى وأدهم الشرقاوى وغيرهم ؟..
التقيت بالمجرم محمد أبو عبده ، أو ابن بمبة فى قرية السمارة الواقعة على حدود الشرقية والدقهلية . بدا فى أحاديث الجميع شخصية أسطورية . كان أبناء القرية يتحدثون عنه بتوقير وحب ، فى حين حذرنى مأمور مركز السنبلاوين وعمدة القرية من محاولة التعرف إلى الرجل ، وأظهروا خشيتهم من أن يرفض لقائى ، أو لا يحسن استقبالى . لكن الرجل استقبلنى بحميمية مصرية ، ودعانى إلى تناول الغداء . وتأملت توسطه لحل مشكلات أبناء القرية ، ومساعدته لهم فى كل ما يطرأ على حياتهم . حتى الحريق الذى أشعلته شرارة حطب ظهر يوم الصيف الذى تصادف أنى زرته فيه ، أذهلنى تصدّيه لإطفائه رغم أعوام عمره المتقدمة ..
بدا لى الرجل وأنا أغادر القرية ، تجسيداً للبطل فى الوجدان الشعبى ـ فى بالى الكثير مما استمعت إليه من الحكايات فى أعوام النشأة ـ : كيف يكتسب صفاته ، فيصبح ـ فى توالى الروايات والحكايات والمواويل والسير ـ ذلك البطل الذى تنسب إليه الأفعال الخارقة والمعجزات [ روى الصديق رفعت السعيد فى ذكرياته ـ فيما بعد ـ عن تعرفه إلى ابن بمبة فى رحلة الاعتقال والسجن . بدا معجباً بالرجل ، وأشار إلى أنه ـ الرجل ـ قتل تسعة أشخاص ، لكن الرجل أكد لى أنه لم يجاوز التخويف ، ولم يقتل أحداً ] . تصورت ابن بمبة ذلك البطل فى عملية التحول داخل الوجدان الشعبى . ولجأت إلى تقنية تعدد الأصوات التى اختلفت رواياتها فى تصاعد درامى ، تتحول فيه شخصية فرج عبده زهران ، أو ابن شفيقة ، من شاب يحترف الإجرام إلى ولى له بركاته وكراماته ومكاشفاته ، وضريحه الذى يقصده الناس لالتماس المدد ، والمولد السنوى ، وحفلات الذكر .. ما بواعث التحول ؟ وكيف ؟ وما نتائجه ؟..
تباينت الروايات فى طفولة ابن شفيقة ، ونشأته ، والظروف التى أفضت إلى تحوله إلى بطل شعبى . بالتحديد إلى ولى صوفى . لكن الروايات لم تختلف فى أن فرج خليل قد أصبح له ضريح ومقام وخليفة وتلامذة ومريدون ، يؤمنون بكراماته ، ويذكرون الله تعالى ..
وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى فى دراسته لبوح الأسرار ، إنه إذا كانت أسطورة فرج قد مرت بمراحل ثلاث : مرحلة المظلوم ، ومرحلة الدافع للظلم الواقع على الناس ، إلى مرحلة المقدس ، فإنه ـ فى المراحل الثلاث ـ كان مطارداً . مطارداً من عمدة ظالم ، ثم من قوة الإدارة المتحكمة فى الجماعة ، ثم محاولة هذه القوة مطاردة أسطورته ، وحتى بعد موته ، فإن استخدام تعدد الأصوات جعل الأصوات المطاردة خافتة ، لترتفع الأصوات الواقفة مع فرج ساعة تكوّن أسطورته . إن الأسطورة هنا تمثل الواقع الاجتماعى للجماعة " .
***
وفى قصصى القصار ، تتناثر لمحات من الموروث الشعبى ، متمثلة فى العديد من سلوكيات الحياة ، والمفردات ، والتعبيرات ، وغيرها مما يعبّر عن التميز الذى تتسم به منطقة بحرى فى حدودها الجغرافية ، المحددة ، والمحدودة : الزى الوطنى ، الطب الشعبى ، ألعاب الأطفال وأغنياتهم ، نداءات الباعة ، الكناية ، النكتة ، المعايرة ، القَسَم ، الطرفة ، المثل ، الحلم ، وغيرها ..
***
والحق أنى حين أراجع إبداعاتى التى وظفت ـ أو استلهمت ـ الموروث الشعبى ، أجد أنها وليدة العفوية ومحاولة التعبير عن الواقع . هذا هو ما أفرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف إلى الخبرات . لم أتعمد الإفادة من الموروث الشعبى ، بل هو الذى فرض معطياته فى مجموع ما كتبت .

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:15 AM
النظرة للإبداع يجب أن تتغير لأن مبدعينا ينحدرون للهاوية
حوار: فاطمة يوسف العلي
لم يكن بمقدوري الكتابة إلا عن البحر
حتى نجيب محفوظ توزيع رواياته انخفض إلى حد كبير
يضطر الكاتب لدفع مايزيد على القيمة الفعلية لطباعة كتابه

..........................

رغم أن الكاتب محمد جبريل متنوع في كتاباته, يوزع قلمه بين الصحافة والتأليف والنقد الأدبي, فإن الشهادة الحقيقية على ما قام به من جهد تكمن في إبداعه الروائي. ولا يعني التركيز على هذا الجانب ترك بقية ملامح الصورة. ولكن هذا الجانب, الذي يعتز به كثيرا,ً يبقى الجانب الأكبر والأكثر حميمية من ذاته. إنه كاتب غزير الإنتاج. فله أكثر من عشرين رواية أشهرها (رباعية بحرى) التي تتألف من أربع روايات متصلة منفصلة هي (أبو العباس) و(ياقوت العرش) و(البوصيري) (وعلي تمراز). وهي الرباعية التي يحلو للنقاد عقد مقارنة بينها وبين رباعية داريل الشهيرة عن الإسكندرية. كما أن إسهام محمد جبريل في القصة القصيرة كبير أيضا فله حوالي عشر مجموعات قصصية, أولها (تلك اللحظة) وآخرها (رسالة السهم الذي لا يخطئ) وله في مجال النقد أكثر من كتاب. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية عن كتاب (مصر في عيون كتابها المعاصرين) عام 1975.

ولد محمد جبريل في مدينة الإسكندرية عام 1938, وتقلد أكثر من منصب صحفي مهم في مصر والعالم العربي.

وقد أجرى الحوار معه القاصة الكويتية فاطمة يوسف العلي وهي من الأديبات النشيطات على مستوى العمل العام ولها ثمانية كتب تتوزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث الأدبي وأشهرها: (وجوه في الزحام) 1971, (وجهها وطن) 1995, و(تاء مربوطة) 2001 وهي مجموعة قصصية صدرت من القاهرة.

يبدو البحر شخصية رئيسة في معظم إبداعاتك, وهو أشد ما يكون تجسيداً في روايتك الضخمة (رباعية بحري)... ما تفسير ذلك?
- بداية, أنا لم أكتب عن البحر, ولا عن الصلة بين البحر واليابسة, وهو ما يبين في الكثير من إبداعاتي الروائية والقصصية, لم أكتب لطرافة الموضوع, وإنما لأنه لم يكن بمقدوري سوى الكتابة عن البحر. البحر يحضن الإسكندرية من معظم جوانبها, ويحيط بحى بحري من ثلاث جهات, كان هو المكان الذي تطل عليه شرفة بيتنا, ويطل السطح على امتداد آفاقه. كنت أسير على شاطئه, وأتابع التعامل اليومي معه في صيد الصنارة والطراحة والجرافة, وعمليات الشحن في الميناء الغربية, وركوب البحر نفسه في قوارب صغيرة تعبر المسافة من باب واحد إلى باب رقم ستة, أو في لانشات تمضي إلى قرب البوغاز, حتى في الظلام, كنت أستمع إلى البحر, وإن كنت لا أراه. أتذكر قول رامبو: (إنه البحر وقد رحل مع الشمس). البحر ليس موضعاً طارئاً في حياتي. إنه الحياة نفسها. وعلى الرغم من انقضاء عشرات الأعوام على ابتعادي - بصورة عملية - عن الإسكندرية, فإني أفضل - حتى الآن - أن تدور أحداث أعمالي في بحري, لأني أشعر أن الحي تحت تصرفي, أعرف تاريخه وأسواقه وشوارعه ومساجده وبناياته وسلوكيات حياته اليومية, أعرف المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد, حتى مسميات الأشياء واللهجة هي وسيلة التعبير عندي, حتى مستطيلات البازلت التي تتفق فيها مع المدن الساحلية الأخرى.

حي بحري بالإسكندرية هو الأرضية لمعظم ما كتبت من إبداعات. وقد أردت في رباعية بحري بأجزائها: أبو العباس - ياقوت العرش - البوصيري - على تمراز, أن أكتب فصولاً مستقلة, تتكامل في تصوير حي بحري الذي أحببته, وامتداده الطبيعي إلى المكس, أو إلى الرمل.

صورة الإسكندرية

ما أوجه الاتفاق - والاختلاف - بين رباعية الإسكندرية ورباعية بحري?
- ليست هذه هي المرة الأولى التي يوجه لي فيها هذا السؤال. وقد صدمني السؤال في البداية, وربما تضايقت منه, ثم ألفته بالمعاودة. أصارحك أني تعمدت ألاّ أقرأ رباعية الإسكندرية حتى لا أقع في شبهة تأثر, قراري بكتابة رباعية بحري يعود إلى مطالع حياتي الأدبية, وبالذات في ضوء الحفاوة النقدية الواضحة, والتي اعتبرت رباعية داريل من أعظم إبداعات القرن العشرين.

ثم حاولت - بعد أن صدرت رباعية بحري - أن أفتش عن جوانب الاتفاق والاختلاف, لا كناقد, فقد مللت تأكيد أنه حتى فوزي بجائزة الدولة في النقد لا يلغي تفهّمي لقدراتي النقدية, وأني سأظل دوماً خارج أسوار النقد!

رأيي أنه إذا كانت صلة شخصيات ميرامار نجيب محفوظ بالإسكندرية هي صلة هامشية, حيث اختاروا الإقامة في الإسكندرية كمنفى, لا تشغلهم حياة ناسها اليومية, ولا مشكلاتهم, فإنه من الصعب إهمال التأثيرات الأجنبية في حياة الإسكندرية. وعلى سبيل المثال, فإن يوم الأحد في الإسكندرية يختلف عن اليوم نفسه في بقية المدن المصرية. الشوارع خالية نسبياً, والكثير من المتاجر يغلق أبوابه, ذلك لأن التأثيرات الأجنبية التي تحققت من خلال (مواطنة) أعداد هائلة من الجاليات الأوربية لم تندثر من المدينة بصورة كاملة بعد. لكن الصورة التي رسمها داريل في رباعية الإسكندرية - على حد تعبير صلاح عبدالصبور - تنتمي إلى داريل أكثر مما تنتمي إلى الإسكندرية.

والحق أنه من الصعب أن أجري شخصيا مقارنة بين ما كتبته وما كتبه مبدعون آخرون, لكن الذي أستطيع تأكيده أن الكتابة عن الإسكندرية - وبحري تحديداً - حلمي القديم, الجميل, الذي يرافق محاولاتي الإبداعية منذ بداياتها. السؤال: لماذا, لم أناقشه - بيني وبين نفسي - على الإطلاق? فقد كانت الكتابة عن حي الطفولة والنشأة والسمات المميزة والبيئة التي تختلف عن مثيلاتها في أحياء الإسكندرية الأخرى, كانت شيئا أشبه بالقدر... لكنني أملك - فيما أقدّر - طرح بعض الآراء التي تناولت رباعية داريل, ثم أترك للقارئ - قارئ أجزاء الرباعية وقارئ هذه المواجهة - أن يتعرف إلى ما ينشده من أوجه الاتفاق والاختلاف.

الذاكرة أفضل

هل تختلف صورة بحري الذي عبرت عنه في أعمالك عن صورته الحالية?
- أصارحك بأن الحزن يلفني عندما أزور الإسكندرية, حي بحري بالذات, هذه الأيام, لقد تغيرت الصورة تماما, فأنا أفضل أن أعتمد على صور الذاكرة.

حي الجمالية بعمارته الإسلامية وشوارعه الضيقة وأقبيته ومساجده وزواياه وحرفييه, هو التعبير عن القاهرة المعزية بكل زخمها التاريخي والمعماري والإنساني. ذلك ما يصدق - إلى حد كبير - على حي بحري, وإن انتسب الكثير من أبنائه إلى المهن المتصلة بركوب البحر.

أفلح الانفتاح في أن ينفذ - بمظاهره السيئة - إلى الموطن الذي نشأت فيه, وأحببته. بحري الذي عشت فيه يختلف عن ذلك المبنى الخرساني الهائل الذي احتل ميدان أبي العباس, فذوت الروحانية وحميمية البشر. افتقد الحديقة الهائلة أمام سراي رأس التين تتاح خضرتها للجميع, ويتلى فيها القرآن في ليالي رمضان. شاطئ الأنفوشي احتلته الكبائن وورش المراكب, فضاعت فرص أبناء الحي الشعبي في الإفادة من البحر الذي ولدوا على شاطئه.

غياب المرأة

بعض الآراء تجد في رحيل الأم في سن باكرة سبباً في غياب المرأة عن معظم إبداعاتك... ما رأيك?
- أوافقك على أن المرأة كانت غائبة, أو أنها عانت شحوباً في أعمالي الأولى, لكن الملامح تغيرت تماماً في الأعمال التالية. ثمة نادية حمدي في (النظر إلى أسفل) التي تمثل شرياناً رئيساً في جسد الرواية, والزوجة في (اعترافات سيد القرية) تهبنا مواقف إيجابية مناقضة لما كان يمثله الرجل, وأنسية في (رباعية بحري) تحملت ما لا يحتمله بشر في محاولة تخطى ظروفها القاسية. وثمة ياسمين في (الشاطئ الآخر), وعائشة عبدالرحمن القفاص في (قلعة الجبل), وزهرة الصباح في الرواية المسماة بالاسم نفسه, وبهية الحلواني في (بوح الأسرار) وغيرها من الشخصيات التي تقدم المرأة في أبعاد مختلفة. قد تواجه ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سلبية, لكنها واصلت السعي في اتجاه رفض الظروف المعاكسة, والإصرار على تخطيها.كان لغياب أمي عن حياتي في سن باكرة تأثيره بالنسبة لي على المستويين الشخصي والإبداعي, وقد اتسعت مساحة ذلك التأثير - فيما بعد - في مجموع أعمالي, بحيث تبين المرأة - كما أتصور - عن ملامح يصعب إهمالها.

ما رأيك في مقولة إننا نحيا زمن الرواية?
- مع افتتاننا بالتعبيرات التي تختزل ظاهرة أدبية, فإن أحد النقاد أعلن - ذات يوم - وفاة القصة القصيرة, وأعلن نقاد آخرون أن الزمن ليس زمن الشعر, وأكد البعض أن المستقبل للكتابة الدرامية, وأنها هي رواية المستقبل. ويصدم أسماعنا وأعيننا - بين فترة قصيرة وأخرى - تعبير ينعى وفاة جنس أدبي, أو يؤكد سيادته على بقية الأجناس.

وإذا كان تعبير زمن الرواية هو ما تلوكه أفواهنا وأقلامنا في الأعوام الأخيرة, فإن المأزق الذي يواجهه هذا التعبير, وربما أفقده مصداقيته, ما يحرص الناشرون - على تأكيده بأن زمن النشر الروائي انتهى!... بمعنى حفاوة الناشرين بالروايات, والإقدام على نشرها, دخل - منذ سنوات - في دائرة المستحيل.

قراء الرواية يتناقصون, مقابلاً لزيادة قراء السياسة والمذكرات والدين والمشكلات العاطفية والحسية, بالإضافة إلى الأزمة التي يعانيها الكتاب الورقي بتأثير الوسائل الطباعية المستحدثة, وأهمها - بالطبع - الكتاب الإلكتروني.ثمة وسيلتان لنشر الأعمال الروائية, أولاهما هيئات وزارة الثقافة: هيئة قصور الثقافة, وهيئة الكتاب, والمجلس الأعلى للثقافة. أما الوسيلة الثانية فهي اللجوء لدور النشر الخاصة التي تحصل من مؤلف الرواية على أكثر مما تتكلفه طباعة العمل, فتضمن الربح مسبقا, بينما يحصل المؤلف على نسخ قليلة... هدايا للأصدقاء!

أما الناشرون الذين يعرفون لعملية النشر قدرها واحترامها, فإنهم يرفضون الكتابات الروائية باعتبارها بضاعة كاسدة. وتقتصر اختياراتهم على البضاعة المضمونة الرواج, وبالذات الكتاب الجامعي الذي يمثل - كما نعلم - بضاعة مفروضة من الأساتذة على الطلاب!...

الحديث عن زمن الرواية يبدو بلا معنى أو مستغربا أمام إحجام الناشرين عن قبول الأعمال الروائية.

وإذا كان الزمن هو بالفعل زمن الرواية, فلماذا لا يزدهر سوق الرواية? لماذا يرفض الناشرون قبولها? ولماذا تتدنى أرقام التوزيع?

المثل الأشد غرابة أن نجيب محفوظ بكل ما حققه من مكانة في حياتنا الثقافية, وفي الثقافة العالمية بعامة, هبطت أرقام توزيع رواياته من عشرة آلاف نسخة في العام, إلى ثلاثة آلاف نسخة كل بضعة أعوام.

مَن يعيننا على حل اللغز?!

سوق النشر

كنت نائباً لرئيس اتحاد كتاب مصر, كيف تنظر إلى مشكلة النشر التي تحولت إلى ظاهرة سلبية لم تفلح في علاجها كل المحاولات سواء على المستويات الإقليمية أو القومية?
- المتأمل لأحوال النشر في بلادنا, يستطيع أن يقسم الناشرين إلى ثلاثة أنواع: ناشر يعطى المؤلف مكافأة على ما يكتبه بضع مئات من الجنيهات. وناشر يكتفي بتقديم نسخ قليلة للأديب مقابلا لنشر إبداعه, من قبيل التشجيع, أو المجاملة! أما النوع الثالث فهو يحصّل من المؤلف ما يزيد على تكاليف طباعة كتابه, أي أن الأديب يعطي ولا يأخذ, كل ما يأخذه بضعة آحاد أو عشرات من النسخ!

والحق أن المقابل المتواضع الذي يتلقاه بعض الكتاب, والاكتفاء بمجرد النشر لكتّاب آخرين, واضطرار كتاب لدفع ما يزيد على التكاليف الفعلية لطباعة كتبهم, ذلك كله يعكس نظرة دور النشر بعامة إلى مهنة الكتابة, وأن الهدف في كل الأحوال هو مجرد تشجيع الأديب على توثيق إبداعه, وليس تسويقه, فبعض الكتب لا يصدر منها أكثر من مائتي نسخة أو ثلاثمائة على, وبالذات إصدارات دور النشر التي تقوم بعملية احتيال معلنة حين تحصل على ما يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف جنيه مقابلاً لطباعة بضع عشرات من النسخ, مجرد توثيق فلا يجد الكتاب سبيله إلى أرفف المكتبات, ولا عند باعة الصحف.

إن النظرة إلى قيمة الإبداع يجب أن تتغير. ما يكتبه الأديب في معظم بلاد العالم يدر عليه دخلا يتيح له التفرغ لإبداعه. أما النظرة إلى مبدعينا فهي تتحدد في دائرة الهواية. حتى المقابل الذي ربما تقاضاه لا يصل - بالقطع - إلى قيمة الكتب التي قرأها, ولا الوقت الذي أنفقه, ولا أجر الكمبيوتر, وبالمناسبة, فإن دور النشر تشترط الآن أن يسلم الأديب أصول كتابه مطبوعة على الكمبيوتر!

إن تخلفنا - في كل المجالات - سيظل حقيقة يصعب إغفالها, ما لم تحصل الكلمة ومبدعها على المكانة اللائقة, والقيمة المستحقة!

ثقافة العناوين

في تقديرك, ما أخطر السلبيات التي تعانيها الثقافة العربية?
- سأحدثك عن ثقافة العناوين, أو السندوتش, أو التيك أواي. سمها ما شئت, لكنها تحولت في حياتنا إلى ما يشبه الظاهرة.

ثمة من يجلسون إلى المثقفين, يستمعون إلى آرائهم فيما قرأوا, ويلتقطون عناوين كتب, وأسماء أعلام, وملخصات أفلام ومسرحيات ونظريات فلسفية, ثم ينقلون ذلك كله - أو بعضه - إلى مجالس أخرى. يتحدث أحدهم عن ديستويفسكي بما ينقل إلى محدثيه شعورا أنه قد قرأ كل أعماله, ويتحدث آخر عن المذاهب الفلسفية والفنية بلهجة الدارس الذي أجهد نفسه في المتابعة والمناقشة والتحليل, وتتناثر في كلمات آخرين أسماء أعلام وكتب واتجاهات, بما يعكس ثقافة واسعة.

ظني أنه قد ساعد هذه الظاهرة أسلوب الملخصات الذي تصدر من خلاله بعض دور النشر أعمالاً عالمية مهمة. ولعلي أشير إلى سلاسل تقدم عشرة كتب عالمية في كتيب محدود الصفحات, أو تختصر التراث الإنساني بكامله في بضعة مجلدات... والهدف المرجو - أو المعلن - أن تكون مؤشرا للأعمال الأصلية, لكن القارئ يكتفي بما قرأ, ويعتبره غاية المراد من رب العباد, ويتحدث عما قرأ من ملخصات وكأنه قرأ الأعمال الكاملة!

وقد أخذت الظاهرة بعداً آخر, غريباً, في اعتبار البعض ما شاهده من أفلام أو مسرحيات مأخوذة من أعمال أدبية, نقلا جيدا عن تلك الأعمال يغني عن قراءتها, ويسمح بالتحدث فيها, توهما أنهم قد عرفوا عنها بما يكفي!.... وكم أذهلني تناول كاتب كبير لرواية أستاذنا نجيب محفوظ (خان الخليلي). ناقش الرجل فنية الرواية, وحلل الأحداث والشخصيات, ثم أنهى ما كتبه بالإشارة إلى أنه لم يقرأ الرواية, وإنما اكتفى بمشاهدة المسرحية المأخوذة منها!

وتبلغ الظاهرة حد المأساة عندما يلجأ ناقد إلى تلخيص للعمل الأدبي كتبه ناقد آخر, فيبني عليه مناقشته للعمل, وهو ما نطالعه - مع الأسف - في العديد من الكتب النقدية المعاصرة. يفلح ناقد في إخفاء سطوه على جهد الآخرين, بينما لا يجد ناقد آخر ما يدعو إلى إخفاء ما فعل. ولعل المثل الذي يحضرني, ذلك الكتاب الضخم عن توفيق الحكيم. ناقش مؤلفه - فيما ناقش - رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل, ثم ذكر في الهامش أنه قد اعتمد في كل ما كتب على كتاب علي الراعي (دراسات في الرواية المصرية), أي أنه - ببساطة - لم يقرأ الرواية التي قتلها نقداً!

المبدع قائد ثقافي

ثمة مؤاخذات على أن الكثير من المبدعين لا يعنون في إبداعاتهم بأخطر قضايا عالمنا العربي, وهي قضية الصراع العربي - الصهيوني, فما رأيك?
- نظرة بعض المثقفين إلى الأديب أو الشاعر أنه لا يعنى بغير الإبداع. فلا شأن له بقضايا المجتمع ولا السياسة. حتى الرياضة لا يتصورون أنها تعنيه في شيء.إنه يؤثر الحياة في جزيرة صنعها لنفسه, يكتفي فيها بقراءة ما يتصل بإبداعه, أو ينصرف إلى تأملات في فضاء هذا الإبداع, أو ينشغل بالكتابة الإبداعية.. هذا هو عالمه المحدد والمحدود, أشبه بسياج البيت في أيام طه حسين الذي كان الصبي يتصوره نهاية العالم.

تلك - بالتأكيد - نظرة خاطئة.. فالأديب له اهتمامات كل المثقفين, فضلاً عن هؤلاء الذين قد لا تعنيهم قضايا الثقافة, وإنما انشغالهم بواقع حياتهم وظروفهم المعيشية. ربما يجاوزونها إلى اهتمامات ثقافية أو ترويحية مثل التردد على المسارح ودور السينما, أو متابعة برامج التلفزيون, أو مجرد الجلوس على المقاهي.

يتابع المبدع - على سبيل المثال - مناقشة حول مباراة في كرة القدم. يحاول المشاركة برأي.. لكن الدهشة المستغربة تواجهه: مالك وكرة القدم!

الأقسى عندما يبدي المبدع رأيه في بعض قضايا السياسة. تعلو الملاحظة المشفقة: السياسة بحر قد لا تحسن السباحة فيه!

والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.أثق أن النضال المقاوم الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد العنصرية الصهيونية هو الشاغل الأهم لكل المبدعين, انطلاقاً من الوعي بالقضية, بواعثها وظروفها وواقعها ونتائجها المحتملة.

الصراع العربي - الصهيوني في فلسطين يعني المواجهة بين الحضارة العربية والهمجية الصهيونية, بين إرادة الحياة على هذه الأرض مقابلاً لإرادة الغزو والاحتلال والاستيطان, التعامل مع تطورات الأحداث بمنطق نكون أو يكونون, والقيام بدور المحفز والمحضر, ومحاولة التوصل إلى آراء إيجابية ربما أسهمت في توضيح ما يفيد منه أصحاب القرار. والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.

ذلك هو موقف كل المبدعين. المبدع قائد ثقافي في مجتمعه, وهذه القيادة لا تبين في التغزل بالقمر, ولا التغني بقطر الندى. لا قيمة لأي إبداع يغيب عنه الوعي في مواجهة الخطر. والخطر الذي نحياه - كما قلت - لا يقتصر على قطر بذاته, لكنه يشمل كل المنطقة العربية. إنهم يصرون على اجتثاث الوجود العربي من أرض فلسطين, بداية لتحقيق استراتيجية دامية, تمتد إلى بقية الأقطار العربية.

إعلام الذات

ما ملاحظاتك على الاستراتيجية التي يعمل الإعلام العربي في ضوئها?
- تتنقل متابعتي بين أكثر من قناة فضائية عربية. القضية الأهم ما يجري الآن في فلسطين المحتلة, صور تعكس بشاعة الممارسات الصهيونية وإدانات معلنة وبرامج ومناقشات وتحليلات موضوعية ومتحمسة, وإن التقت جميعها في وجوب استعادة الشعب الفلسطيني أرضه وإرادته وحريته, مقابلاً لإدانة جرائم عصابة شارون وشركائه!

أنتقل إلى قناة أوربية, نشرتها الإخبارية تقدم فقرات عن أحداث الأرض المحتلة.. لكن الصور والتعليقات تختلف تماماً عن تلك التي أجمعت القنوات العربية على تقديمها, ثمة العشرات من اليهود يشاركون في دفن جندي إسرائيلي قتله الفلسطينيون رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة.

انتظرت بقية الفقرات, ربما تقدم الجانب الآخر من الصورة, وهو الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.. لكن الأيدي الصهيونية بدت واضحة من وراء تتابع الصور والتعليقات.

المشكلة - باختصار وبساطة - أننا نتوجه بإعلامنا إلى أنفسنا, إلى نحن. نعرّف أصحاب القضية بعدالة قضيتهم! أما الإعلام الصهيوني فهو ينطلق بالأكاذيب والدعاوى الأسطورية إلى الرأي العام العالمي من خلال سيطرة إعلامية مؤكدة, تشمل الكتاب والصحيفة والفيلم والمسرحية والبرنامج الإذاعي والتلفزيوني. يضع نفسه دوماً في موضع البريء, الجزيرة المسالمة المحاطة بالأعداء.. ولأنه بلا تاريخ حقيقي ولا تراث ولا هوية, فهو يسطو على تاريخ شعب المنطقة وينسبه إلى نفسه. فإن لم يفلح نسب ما عجز عن سرقته إلى غير حضارته, فزعم أنه تراث شرق أوسطي!

والأمثلة كثيرة, تطالعنا بها - صباح مساء - وسائل الإعلام الأجنبية, والعربية أحياناً..

الرأي العام العالمي بعد مهم في أي قضية دولية, ومخاطبته تحتاج إلى استراتيجية تحسن العرض والمناقشة والتحليل, وتدحض الأكاذيب بالحقائق الموضوعية. لا يكفي شعورنا بأننا على حق وعدونا على باطل. المهم أن نؤكد حقنا - أمام الرأي العالمي - ونعري محاولات العدو.

حكومة المافيا الإسرائيلية جعلت قتل الفلسطيني روتيناً يومياً, لكنها تخاطب العالم عن العنف الفلسطيني.. والصورة في الغرب - باعتراف البعثات الدبلوماسية العربية - ليست هي الحقيقة, بل إنها النقيض تماماً.المسألة ليست في مجرد إجادة مخاطبة الرأي العام العالمي, لكن ما يتمخض عن ذلك من تأثيرات إيجابية بالنسبة للحق العربي, وسلبية بالنسبة للأكاذيب الصهيونية. أذكّر بإقدام العشرات من دول العالم - من بينها دول أوربية - على إدانة إسرائيل وقطع العلاقات معها عقب عدوان 1967. لم يفلح الإعلام الصهيوني - رغم هزيمة العرب حينذاك - في تغيير الحقائق.

ماذا عن المستقبل?
- أتمى أن أظل أكتب, وأكتب, بينما نظراتي تتجه إلى البحر.

_________________
* مجلة "العربي" الكويتية، العدد (542)، يونيو 2004م.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:16 AM
الغربة فى الوطن والوطن فى الغربة

بقلم: د.عبد المجيد زراقط
..........................

يثير عنوان رواية "زمان الوصل" فى ذهن القارئ ثنائية الحضور/ الغياب، ففى حضور "زمان الوصل" يستدعى الذهن غيابا تمثله موشحة "جادك الغيث.." و"زمان الوصل" فى الأندلس الذى تغنى هذه الموشحة حكايته يمثل تجربة فى التاريخ الإنسانى، ففيها تم الاتصال بالآخر لآونة من عمر التاريخ الإنسانى بدت كأنها حلم مر فى البال، أو أيام وصل اختلست ولم تعد، ولذا فكل من عاشها، كما لسان الدين بن الخطيب، أو عرفها، يرجو أن يسقيها الغيث لتتجدد.. وبخاصة فى هذا الزمن الذى تحكمه "أباتشى" الديمقراطية و"تيماهوكها"!
وإذ يستحضر الغياب، ويمثل، يسأل القارئ: هل من زمان وصل متجدد؟ هل نقرأ فى هذه الرواية قصته؟ أين تجدد؟ وكيف؟ ومتى؟ وفى هذا المناخ من الرغبة فى المعرفة تقلب الصفحات الأولى من هذه الرواية، وتبدأ القراءة..
تصدر الرواية بدعاء للفرعونى "سنوحى" تبرز فيه ثنائية طرفها الأول مكان الهرب –الغربة، وطرفها الثانى المكان الذى يسكن فيه القلب.. وإن يكن المكان الأول قد وفر الحماية، فقد بقى مكان الغربة، وإن يكن المكان الثانى قد دفع إلى الخروج منه هربا، فإن يبقى لاحيما ويعيده ثانية إليه ليدفن جثته فى الأرض التى ولد فيها وبقرب من أحب.
وإذ تبدو ثنائية هذين المكانين يطرح السؤال: فى أيهما كان زمان الوصل؟ فى مكان تم الخروج إليه هربا، فوفر الحماية، لكنه بقى غربة؟ أم فى مكان فقدت فيه الحماية، فتم الخروج منه هربا، لكنه بقى الوطن الذى يسكنه القلب، والذى ترجى العودة إليه ليكون أرض الموت كما كان أرض الولادة؟
يثير هذا السؤال إشكالية الغربة/الوطن التى يعيشها الإنسان العربى فى هذا الزمن، فهو يخرج هربا من مكان لا يتيح له فرص التحقق إلى مكان تتوافر فيه هذه الفرص، وفى هذا المكان يحيا تجربة اللقاء بالآخر والاتصال به والعيش وإياه.. ويحاول إقامة جسور بين مكانيه: شرق وغرب، شمال وجنوب، وتواجهه أسئلة كثيرة: إلى أيهما ينتمى؟ وفى أيهما يريد أن يبقى؟ وهل كانت نتيجة تجربته الوصل أو القطع؟
فى دعاء سنوحى إجابة تتحدث عن غربة حتمية فى المكان الآخر، وإن وفر الحماية، واختيار نص فرعونى دال على تاريخية الإجابة وليس على جغرافيتها فحسب.
وإن تكن هذه هى إجابة التصدير/القول التاريخى-الجغرافى، فماذا تقول الرواية التى نقرأ؟
تقول الرواية إن هاشم عاد من غربته فى اليونان بعد أن أمضى هناك ثمانية عشر عاما، فأمضى عشرة أيام فى مدينته الإسكندرية التى خرج منها هاربا من قسوة أبيه ومن عدم توافر مكان له يحقق فيه وجوده الفاعل.
فى هذه الأيام العشرة تدور أحداث الرواية، لكن مسار هذه الأحداث لا يمضى خطيا، بل يتخذ منحى متكسرا متقطعا يبطئه الاسترجاع من الماضيين القريب والبعيد، والاستباق، والتعرف إلى المكان من جديد بلغة مركزة دالة تخلق المعنى، فنعرف من هذا المعنى الذى توحيه، وعلى سبيل المثال، ما فقده هاشم، وسعى إلى تحقيقه.
يقول هاشم فى بداية الرواية:"الشارع أتذكره، أميل إليه من صفر باشا، أمضى فى الأرض الترابية، على اليمين دكانان، أحدهما مغلق، والثانى ترزى، عرض بذلة وحيدة فى الفاترينة الزجاجية.." فهذا السرد التصويرى المؤدى بجمل قصيرة يدل على فقر هذا المكان، وعلى عدم وجود فرص عمل، علاوة على دلالات أخرى تتبدى إن أكملنا القراءة، منها علامات تشكل خصوصية الفضاء الروائى، فالأرض ترابية فيها دكانان أحدهما مغلق والثانى ترزى علق بذلة واحدة فى "فاترينته"، ويضيف هاشم فى وصف البيت مستخدما السرد التصويرى الناطق بالمعنى:"..الجدران أكلها ملح البحر، والجدران المشققة تنز بالرطوبة، وقضبان النوافذ الحديدية علاها الصدأ.." نلمس فى هذه الجمل الفقر والبؤس والإهمال، ونلمس فى جمل أخرى التقاطا لتفاصيل ناطقة بالدلالة عندما نقرأ:"..على المكتب الصغير أوراق جريدة قديمة، حال لونها، وتقصفت حوافها: الحاكم العسكرى يفرض حظر التجول.. جنود الأمن المركزى دمروا المنشآت فى شارع الهرم.." والدلالة هنا واضحة، ففى الوطن قمع وقهر وسلطان ظالم مدمر.
وهكذا يتبين لنا من قراءة السرد التصويرى، ومن دون قول مباشر "الفقد" الذى أدركه وعاشه هاشم، ووهو الفقر وعدم وجود فرص عمل والتسيب والإهمال والقمع، والذى خرج ليعوضه فى مكان آخر من هذا العالم، لكن اللافت أن هاشم نفسه يعود إلى هذا المكان ليبقى فيه، وإن كان قد ازداد ترديا.
يعود هاشم إلى بيت الأسرة القديمة، وإلى شقة غاب عنها آخر ساكنيها منذ أربع سنوات أو خمس، بعد أن مات الأبوان والأخ المعوق، وذهب الأخوة الآخرون كل فى دربه. تطالعه رائحة التراب، يشمها ويسأل: هل هى رائحة الزمن؟
فى مناخ تسهم هذه الرائحة فى تشكيله، يمضى القص، ويلاحظ فيه، أولاً، تداخل الأزمنة: الحاضر، الماضى القريب، الماضى البعيد، المستقبل، فتمضى الأحداث فى الحاضر، وتسترجع أحداث من الماضيين، ويستشرف المستقبل، فيشعر القارئ كأن ديمومة زمنية تمضى أمام عينيه. وثانياً، أن هاشم يتعرف، وهو يحيا هذه الديمومة، إلى المكان الذى غادره ثم عاد إليه، بعينين جديدتين، كأنه يرى الأمكنة والأشياء للمرة الأولى، ويدرك أن الغربة فصلته عن زمن مختلف. وثالثاً، تغير زتوية الرؤية ووجهة النظر الرئيسية فى الرواية: هاشم بضمير المتكلم، ثم لا يلبث أن يخلى موقعه إلى الراوى بضمير الغائب، وهذا التبدل واضح الدلالة، وفى ما يأتى نقدم أنموذجا يوضح ذلك.
تروى الشخصية المشاركة الوحدات: العودة، البيت: تذكره، ما هو عليه الآن، ما كان عليه، الشقة.. وتقدمها من منظورها، بوصفها العنصر الروائى الأكثر قدرة على أداء هذا الدور: أداء السرد التصويرى الدال على إدراك الفقد المفضى إلى اتخاذ قرار الخروج من نحو أول، والتعرف إلى ما أحدثه الزمن من تغير إبان غيابه، واتخاذ قرار البقاء على الرغم من أن الواقع غدا أكثر ترديا من نحو ثان، وتشكل هذه الثنائية يطرح سؤالا عن أسباب العودة والبقاء، وهذا ما يوكل أداؤه إلى راو أكثر معرفة، وهو الراوى العليم، بوصفه العنصر الروائى الأكثر قدرة على القيام بهذا الدور، لأنه يعرف كل شئ، ويؤديه بموضوعية، من نحو أول وقادر على استخدام التقنيات ووسائط المعرفة من نحو ثان، لذا فهو يدير حوارا بين هاشم وأخيه محمود، فنتبين منه وجهة نظر كل منهما وعنف الأب، ثم يقص ويصف ويسترجع، وبقدم معلومات فى نهاية اليوم الأول، فى صيغة استفهامية تثير رغبة القارئ فى متابعة القراءة وشدته إلى معرفة ما حدث لهاشم الذى غادر راكبا البحر إلى دنيا جديدة يحبها، يسأل الراوى فى نهاية اليوم الأول: وهل انتهت حياة البحر بالعمل فى دكان ميخاليدس والزواج من كريستينا؟ فيسأل القارئ وهو يقلب الصفحة بعجل: من هو ميخاليدس؟ من هى كريستينا؟ أين وكيف ومتى عرفهما؟
وهكذا يمضى القص فى تناوب بين تتبع لاكتشاف الحاضر واسترجاع الماضى واستشراف المستقبل، وفى تناوب بين راويين، زاويتى رؤيا، يؤدى كل منهما دوره.
تنطق لغة القص التى يؤديها هاشم بخياره من دون أن يقول ذلك مباشرة، نقرأ على سبيل المثال قوله:"أعانى لحظات اختلاط الإحساس بالحياة فى بيريه والعودة إلى البيت" فالمكان الذى خرج إليه وعاد منه هو "بيريه" فحسب، أما المكان الذى خرج منه وعاد إليه فهو "البيت"، وهذه الثنائية: بيريه/البيت تدل على أن الطرف الأول مكان عام، أما الطرف الثانى فهو مكانه هو الذى يأوى إليه، ويحميه، إلى ما هنالك، مما يرمز إليه البيت.
والسؤال الذى يطرح هنا هو: لم اتخذ هاشم هذا الخيار؟ ماذا جرى فى الدنيا الجديدة التى رغب فى الخروج إليها والعيش فيها؟
رحل هاشم، وغدت الباخرة بيته إلى أن حط الرحال فى الميناء اليونانى بيريه، فعمل فى مقهى ميخاليدس، وهو يونانى ولد فى حى العطارين فى الإسكندرية فى ايام سعد باشا، وتركها فى أيام عبد الناصر، ثم تزوج حفيدته كريستينا التى يحبها وتحبه.
وتمضى الأيام "زمان وصل" لكن عوامل القطع تظل حاضرة فيه، فثنائية أنا/أنت أو هو تبقى قائمة بوصفها ثنائية اختلاف، تقول كريستينا عن حى العطارين فى الإسكندرية: أتصور من وصف جدى أنه أجمل أحياء الدنيا، لكن الجد تركه وعاد إلى بيريه، وتسأل زوجها: وأنت هل تحب بحرى؟ وهو الحى الذى عاش فيه فى الإسكندرية، فيجيب: طبعا، فتقول: وأنا أحب بيريه..
فى هذه النماذج نلمس ثنائية: أنا/ أنت، أحب/ تحب.. لكن الخصوصية تبقى داخل النفس، أما فى خارجها فيطمس حبه لكريستينا ذكريات كثيرة، ويهبه الزواج منها الحق فى أن يقيم بلا خوف، ويقرب له إمكانية الحصول على الجنسية اليونانية، ويغيب إحساسه بالغربة، فيقول لزوجته فى اليوم الثالث لانتقاله إلى بيت ميخاليدس: "مصر وطن عنيت فيه الغربة، واليونان غربة وجدت فيها الوطن" تقول: "هذا شعر" يقول:"ما أقوله هو الحقيقة.. بيريه الآن وطنى وسكنى.. وهى بك حبى أيضا" ويعمل ويطمئن ويخالط الناس، ويجلس على المقاهى، ويقنعه توالى الأعوام بأن بيريه هى الحاضر والمستقبل.
لكن عندما ذهبت كريستينا للصلاة فى الكنيسة غلبه الضيق، ولما طلبت منه أن يرافقها توتر، وترك البيت إلى قلب المدينة، ولم يدر كيف يتصرف عندما اكتفى أبواها منه بنظرة محايدة، وأعفياه من الجلوس إليهما، ما يعنى قطعا معه إن لم يكن رفضا..
وإن كان لم يعد يعانى تأثيرات الغربة: اللغة، سحب الإقامة، مداهمات الشرطة، النظرات الرافضة أو المستريبة، علاوة على التشابه الجغرافى الذى يكاد يكون تاما بين ميناءى بيريه والإسكندرية، فإن حواراته مع اليونانيين كانت تنتهى ب"القطع" وليس ب"الوصل"، ومنها حوار مع رجل يونانى جعله يكتشف أن اختلاطه بالمجتمع الذى وفد إليه هو اختلاط الزيت بالماء، ويتبين أن هجرته التى طالت لم تزحزحه عن موضعه فى الهامش، قال الرجل: مصيبة لو أن القرعة ألزمتنا باللعب مع تركيا، قال هو:أرى أن نبتعد بالرياضة عن القضايا السياسية. قال الرجل: هذه مسألة نعرفها نحن أبناء اليونان. أجاب: أنا الآن يونانى. قال الرجل: نحن يونانيون، وأنت تستوطن اليونان.
واقتحمه شعور بأن كل ما حوله يعاديه، وأن عليه أن يبادله العداء نفسه، وبدأ يؤرقه السؤال: هل يظل أجنبيا إلى الممات؟ ولعل هذا السؤال نفسه هو الذى أرق ميخاليدس من قبل فى الإسكندرية. قال العجوز: كانت الإسكندرية مدينتى لولا أن الظروف تغيرت. والظروف تغيرت فى أيام عبد الناصر، أى فى أيام نهوض الشعور/المشروع القومى الذى واجه الآخر/المستعمر الغربى، فادار صراعا حادا على مختلف المستويات، هدفه القضاء عليه، ما جعل ميخاليدس، وهو غربى، يشعر بتغير أدى إلى اتخاذه قرار العودة إلى بيريه.
وإذ يقرر هاشم العودة إلى الإسكندرية يقول لكريستينا عندما تسأله عن السبب: "الطير يتجه نحو الجنوب وراء علامات لا يراها غيره" فقالت: "لا أتصور أنى أبتعد عن بيريه.. سأنتظرك حتى تعود. قال: قد لا أعود. وفى بساطة حاسمة قالت: وأنا لن أغادر بيريه".
وهكذا حسم الخيار، وعاد هاشم ليفتح باب شقة تجاور مقام سيدى منصور، أغلق منذ خمس سنوات، ذهب الأهل، وبقى هو يحاول أن يرتب الكلمات المتشابكة، المتقاطعة.. وتتصاعد من المقام زغرودة طويلة يحدس أنها لامرأة أوفت نذرها، فهل هذه العلامة هى إحدى العلامات التى لا يعرفها سوى الطير العائد إلى الجنوب؟ وهل حدسه هذا يجعله يشعر بأنه ينتمى إلى المكان وليس أجنبيا؟
وإذ تنتهى من قراءة الرواية يخطر لك غير سؤال، فهل من الحتمى أن يكون اختلاط أنا وأنت أو هو اختلاط الزيت بالماء؟ وهل أن شعور الأنا الممض بأنه أجنبى فى بلاد الأنت يدفعه إلى الخروج منه والعودة إلى حيث يشعر بالانتماء؟
فى الرواية ما يشير إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة هى نعم، لكن فى الرواية ما يقول: إن الأنا حين يعانى الغربة فى الوطن، أى عندما يشعر بالفقد، يخرج ليعوضه، ويسعى ليبحث عن الوطن فى الغربة، وقد يجده، وعندما يجده يشعر بفقد آخر، فيعود ليعوضه، وهكذا فى حلقة تدور، وليس فيها من زمان وصل دائم، ما يطرح سؤالا حضاريا كبيرا: لم لا يكون فى هذا العالم مكان يدوم فيه زمان الوصل؟ أى لم لا يكون فى هذه الدنيا وطن لا يشعر فيه الإنسان أيا يكن بالغربة؟ وان استحضرنا الغياب الذى بدأنا الكلام به نسأل: هل جاد التاريخ، ذات عصر، بهذا المكان فى أندلس، حيث أزهر زمان غنى الشاعر حكايته التى مرت كما حلم فى كرى أو خلسة المختلس، فطلب للغيث أن يجود ويسقى.. فلعل هذا الزمان يعود يوما؟ ولكن أليس هذا حلم آخر فى زمن "زيوس" العالم الجديد؟

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:18 AM
«الشاطئ الآخر»

بقلم الدكتور: أحمد زياد محبك
..........................

_ 1 _
رواية رقيقة رشيقة ، لطيفة ناعمة ، شديدة التكثيف ، مثل مروحة صينية صغيرة ، مطوية في يد سيدة رشيقة ، تبدو صغيرة ذات بعد واحد ، تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد ، تحمل رسوماً وألواناً جميلة للحب والشباب والتاريخ والسياسة ، تلك هي رواية الشاطئ الآخر للكاتب الروائي والقاص محمد جبريل ، وقد صدرت عام 1995 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، في القاهرة ، وتقع في 126 صفحة من القطع المتوسط ، ولا تزيد عدد كلماتها على 24 ألف كلمة ، تنثال في ليونة من غير أن تقسم إلى مقاطع أو فقرات أو وحدات .
والرواية تقدم خبرة شاب يطرده أخوه من البيت بعد وفاة الأب ، فيلجأ إلى الأجنبي ، ليتفتح وعيه في "الشاطئ الآخر" ، ويعرف الحب ، ويمتلك المعرفة ، ثم يعود إلى بيت الأب ولقاء الأخ ، بعد أن عرف العالم ، ويرتبط ذلك كله بالواقع الخارجى ، بما فيه من متغيرات ، بخيوط حريرية ناعمة ، فيمكن عندئذ قراءة الرواية قراءة أخرى ، لتغدو بشكل ما تعبيراً عن حياة أمة ، لا مجرد حياة فرد .
والرواية تحكي عن شاب جامعي ، يدعى حاتم ، يعمل نادلاً في مطعم ، يموت أبوه رضوان ، وقبل ثلاث سنوات كانت أمه قد ماتت ، ويفجؤه أخوه طارق ، وهو ضابط في الجيش ، بطرده من شقة الوالد ، ليستأثر بها ، بدعوى الزواج ، حتى إنه ليستأثر بالأثاث ، ولا يعطيه شيئاً منه ، ويلجأ حاتم إلى سمسار ، فيؤجره غرفة في شقة لدى سيدة يونانية ، ترحب به ، في الوقت الذي لا يرحب به بيروس زوج ابنتها فيرجينيا ، وكان حاتم من قبل قد تعرف إلى شاب يوناني ، يدعى ديمتريوس ، ويعرفه هذا الشاب إلى عالم واسع من الثقافة الغربية ، كما يعرفه إلى أخته لأبيه ياسمين ، وسرعان ما يقع حاتم في حبها .
ويرافق ذلك كله كما تذكر الرواية إقالة محمد نجيب في نوفمبر 1954 وميل عبد الناصر في سياسته الخارجية إلى الكتلة الشرقية بشرائه السلاح من تشيكوسلوفاكيا, ثم امتناع الولايات المتحدة عن تمويل بناء السد العالي وتمويل الاتحاد السوفيتي له, وما تلا من تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس, وما أعقبها من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956وزيادة التقارب بين مصر و الاتحاد السوفيتي.
_ 2 _
ويبدو الحب في الرواية العنصر الأكثر بروزاً, فهو حاجه أساسية, ولا سيما بالنسبة إلى حاتم بطل الرواية, ويظهر الحب متأثراً بقوى الواقع وظروفه, ولا يظهر قوة فاعلة مؤثرة, ويرجع ذلك إلى شخصية حاتم, فهو بحاجة إلى الحب, ولكنه لا يعرف المنفذ إليه أو السبيل, أو لعله يعرف ولكنه لا يستطيع أن يبادر- بحكم تكوينه- فهو شاب مثقف, يميل إلى المطالعة والقراءة (ص23) ولعله يشبه هاملت الذي يطيل التأمل والتفكير, بخلاف روميو الذي يميل إلى المبادرة والفعل.
وللحب في حياة حاتم جانبان اثنان, الأول ذهني ثقافي مجرد, والثاني عملي واقعي تجريبي, وفي الجانب الأول, وهو الطاغي يتعرف حاتم إلى الحب من خلال كتب التراث, من كتابات ابن الجوزي (ص61) والمفضل بن سلمة (ص64) وابن حزم (ص68) و(ص73) والماوردي (ص 70) وابن قيم الجوزية (103) وداود الأنطاكي (ص112), فهو يقرأ فيها, ويختار مقبوسات منها, تتعلق بأوصاف الحب والحبيب, وحالات الحب وأشكاله ودرجاته, وهي مقبوسات كثيرة, تدل على ثقافة حاتم وتمسكه بالتراث ولجوئه إليه بعد موت أمه وأبيه وطرد أخيه له من الشقة كما تدل على شعوره بالخلاص من الغربة التي يعانيها في حياته مع ديمتريوس وفي شقة السيدة اليونانية, كما تدل تلك المقبوسات على شخصية مثالية ذهنية تتعلق بما هو كلي مجرد, وبما هو نظري, وهي شخصية تنطلق من الأخلاق والفكر والثقافة إلى الواقع لتتعرف إليه, وتبدو المقبوسات على كثرتها رشيقة, لا تخلو من ذكاء, وحسن انتقاء, وهي تسد فراغاً كبيراً في حياة حاتم, وتدل على شخصيته دلالة قوية, ولا غنى عنها, كما تبدو ملتحمة بالبناء الكلي للرواية, وقد جاء كل منها في موقعه من الرواية وفي الجانب الثاني, وهو الواقع, تبدو تجربة الحب لدى حاتم محدودة جداً, قوامها الحياء والخجل, لذلك كانت عفيفة, بعيدة كلياً عن الممارسة الجسدية, ولم تتجاوز في أقصى أبعادها قبلة واحدة, جاءت عفواً على سبيل المصادفة, وإن كانت تجربة الحب قد مرت لدى حاتم بمراحل وحالات قاربت فيها المحظور, ولكنها ابتعدت عنه بقدرة غريبة كأنما كتب لحاتم أن يحافظ على عفته وبراءته, وهذا ينسجم في الواقع مع شخصيته, فهو مثقف مهذب, تلقى تربية صارمة, ونشأ في أسرة محافظة متماسكة.
وتبدأ تجربة الحب لدى حاتم في الواقع بعشقه الطفولي البريء لابنه الجيران مديحة, وكتابة قصة عنها ثم تمزيقها وهو في الثانية عشرة (ص53-54) وتنمو معرفته عن الحب بما يسمعه من زميل له في الصف عن علاقاته بالبنات ويحاول أن يرسم صورة لها في ذهنه فلا يفلح (ص54) وقد حاول مرة ممارسة الجنس مع باغية ولكنه اضطرب وعف وخرج من غير أن يفعل شيئاً، مما يدل على حشمة فيه وحياء (ص56-57).
لقد احتفظت الرواية لحاتم ببراءته وطهره ونقائه ليكون تفتح الحب لديه في أرض طهور لا يعرف فيها قبل الحب شيئاً, وليكون استقباله له عذباً بريئاً (ص57).
ويعلل حاتم عدم معرفته الحب في الواقع بعدم مصادفته له, أو انتظاره أن تبادر الفتاة (ص55) ولكن ذلك وحده غير كاف, فقد أتيحت له أكثر من فرصة, ولكنه عف, وتردد, ومرجع ذلك في الواقع إلى تكوينه, فهو شاب مثقف متأمل يميل إلى المطالعة والبعد عن الواقع, لقد كانت صفاء ابنة عمه تغلق عليه باب الحجرة, وتحدثه عن الحديقة والأشجار ولقاء الشباب والصبايا, وتقعد قبالته في وسط السرير, وتزيح روبها الوردي عن جسدها, وتسأله إن كانت له صديقة, وهو لا يستجيب لها, فتمل منه (ص85-88)ويحدث أن تنطلق صفارة الإنذار معلنة عن غارة, وتفزع إليه السيدة اليونانية, فتلجأ إليه, وتتمسك بيديه, وتثور في نفسه رغبة غامضة, وينتظر أن تبادر هي, ولكن سرعان ما تنطفئ تلك الرغبة, عندما تنطلق الصفارة الثانية معلنة عن الأمان (ص107-108), ولا ينظر حاتم إلى فرجينيا نظرة اشتهاء البتة, على الرغم من أنه يلتقيها كثيراً في منزل السيدة اليونانية, بل إنه لا ينظر إليها إلا على أنها زوجة لبيروس وأم لوليدها الذي تعني به كثيراً, ولا يفكر في التعرف إلى جسد المرأة من خلالها.
هذه العفة لدى حاتم هي التي جعلت مشاعره تتجه نحو ياسمين أخت ديمتريوس, وهي من أم يونانية وأب مصري, وقد تفتح حبه لها وفق إضاءات مشرقة من قراءاته في كتب التراث عن الحب, مما يؤكد سمو مشاعره ورقيها ، ومما يدل على استناد هذا الحب إلى جذر معرفي تراثي ، ليؤكد البعد الحضاري والإنساني للحب . إن حب حاتم لياسمين هو حب عذري بريء يستند إلى العفة والطهر والنقاء ، ويقوم على الخجل والحياء ، ويرجع إلى ثقافة حاتم وتفكيره وسمو روحه ، وذات يوم تعرض عليه ياسمين ألبوم صورها ، وتغطي بيدها صورة لها وهي بالمايوه ، ويفكر في أن يدفع يدها ليرى الصورة (ص 69 ) ولكنه يكتفي بالتفكير ولا يفعل شيئاً ، ولعل هذه العفة هي التي جعلت مشاعره تنمو وتنضج ، وتسير بهدوء مع حركة الواقع ووفق إرادة الحياة ، لا إرادته هو ، إلى أن كان يوم زار فيه حاتم صديقه ديمتريوس ، فاستقبلته ياسمين وأخوها غائب ، وحدث أن أطلقت صفارة الإنذار معلنة عن غارة على الإسكندرية ، فتفزع إليه ياسمين ، ويضمها إلى صدره ويقبلها ( ص 101 ) وهي القبلة الوحيدة ، وقد جاءت تتويجاً لنضج المشاعر، كما جاءت نتاج المصادفة ، وبدافع من الواقع .
إن هم حاتم هو البراءة والنقاء والطهر ، وبما أن قبلته لها هي أول قبلة في حياته ، دليل طهره وبراءته ، لذلك يسأل نفسه : " هل كان ما حدث أول قبلة لرجل في حياتها ؟ مثلما هي أول قبلة في حياتي ؟ " ( ص 101 ) بل إنه لا يتردد في سؤالها : " هل أحببت إنساناً آخر قبلي ؟ " ( ص 110 ) والسؤال فيه من السذاجة والعفوية بقدر ما فيه من دليل على البراءة والطهر ، ويؤكد ذلك تصوره لياسمين زوجة له في المستقبل ( ص 111 _ 112 ) دليل صدقه أيضاً وبراءته .
ولكن ، إلام سينتهي هذا الحب العذري الصادق الجميل ؟ إن الأسباب التي قادت إلى هذا الحب ، هي التي نفسها ستقود إلى نهايته ، وهذا هو الطبيعي ، إن حاتم لم يملك في الواقع حرية الحب ، ولم يملك في يوم إرادة الفعل، أو القدرة على المبادرة ، هو لطيف ، رقيق ناعم وهو مثقف وقارئ جيد ، وهو نبيل وصادق ، وهو عاطفي وسريع الاستجابة وقوي التأثر ، ولعله يعي ذلك كله ( ص 120 ) ، ولكنه لا يملك القدرة على المبادرة .
إن طرد أخيه له من الشقة ، وتعرفه إلى ديمتريوس ، وزيارته له في منزله ، وحرب السويس ، والغارات على الإسكندرية ، وفزع ياسمين ، ومعانقتها له ، هي جميعاً الظروف التي كونت حبه وصاغته ، وعندما تتغير هذه الظروف سينتهي حبه ، فلقد انتهت الحرب ، وطرد عبد الناصر الإنكليز والفرنسيين ، وتحمس اليونانيون لمغادرة مصر ، بمن فيهم ديمتريوس وأمه ، وطارق الذي طرد أخاه من شقة أبيه يدعوه إلى العودة إليها .
وهكذا تغيرت الظروف التي قادت إلى الحب ، فينتهي الحب ، لذلك يظن حاتم أن العالم كله متآمر عليه، وقد نسي أن هذا العالم هو نفسه الذي وضع ياسمين بين يديه ، يقول حاتم : " لماذا يتآمر العالم على سعادتي؟ ما صلة ياسمين وصلتي بالسد العالي وتأميم القناة والحرب وخروج الأجانب ؟ " ( ص 123 ) .
_ 3 _
وبمقابل حب حاتم لياسمين ، يظهر حب آخر ، شاذ ، غير سليم ، هو حب ديمتريوس لحاتم . لقد ظهر ديمتريوس الملاذ لحاتم ، فهو الصديق الذي استضافه في منزله ، واتخذ منه صديقاً ، ومنحه شعور الصداقة، وعرفه إلى أخته ياسمين ، كما عرفه إلى الثقافة الغربية ، فكان يقرأ له عيون الأدب العالمي ، من هوميروس إلى كافافيس ، مروراً باسخيلوس ودانتي وشكسبير وكازنتزاكي وغيرهم كثير ، وكان حاتم بأشد الحاجة إليه ، في الوقت الذي خذله فيه أخوه وطرده من شقة الوالد ، وحرمه من الأثاث والتراث .
ولكن ، ذات يوم اقتحم ديمتريوس عالم حاتم ، وقبله في فمه ، فصفعه حاتم عدة صفعات ، ووضع حداً لاندفاعاته ( ص 83 ) فأكد له ديمتريوس أنه لا يزوره إلا لغاية في نفسه ، فزجره وكاد يلكمه ، فاعترف بأن الخياط الأرمني في أسفل البناء المقابل قد نال منه ( ص 84 ) . وكان حرياً بديمتريوس أن ينقاد إلى الحب كالحب الذي انقاد إليه حاتم ، فهو مثقف مثله ، فما الذي قاده إلى هذا الشذوذ ؟ لقد دخل ديمتريوس ذات يوم على حاتم ، ليقرأ له صفحات من رواية لكافافيس عن صديقين تقودهما الصداقة إلى ممارسة علاقة شاذة ( ص 81 ) ثم يسأله إن كان قد قرأ " صورة دوريان غراي " لأوسكار وايلد ، فيرد عليه حاتم :
" لا أحب الأصدقاء غير الأسوياء " ( ص 81 ) ويرد عليه ديمتريوس : " أن يكون المرء قاتلاً فذلك لا يدعو لإدانة ما يكتبه ، كما أن الفضائل العائلية ليست أساساً حقيقياً للفن " ( ص 81 ) وهذا الكلام لأوسكار وايلد نفسه ، وهكذا تقف الثقافة الغربية بما فيها من شذوذ وراء شذوذ ديمتريوس ، كما تقف الثقافة العربية بما فيها من حب عذري عفيف وراء عفة حاتم وطهره .
ولكن ، مما لا شك فيه ، أن الثقافة وحدها ليست العامل الوحيد المؤثر في كل من حاتم وديمتريوس ، ولابد من وجود أسباب أخرى . ويمكن أن نرى ذلك واضحاً في أسرة كل منهما، فحاتم نشأ في أسرة متماسكة ، والده رصين متوازن ، له حياة هادئة مستقرة ، لا يغادر المنزل إلا إلى المقهى المجاور ، وهو يحافظ على الصلاة في المسجد ، وعندما ماتت زوجته حزن عليها أشد الحزن ، ولزم بيته ، وطرد عدة خادمات ترددن على المنزل وفاء منه لزوجته ، ثم " دخل في شرنقة من الهدوء السادر " ( ص 13 ) وفقد ذاكرته ، ولم ينطق بعد ذلك بغير كلمة واحدة : " البكاء لن يعيدها " ( ص 13 ) مما يدل على وفائه لزوجته وحبه لها حباً قوياً صادقاً ، وقد توفي بعدها بثلاث سنوات ، وكان قارئاً نهماً ، وقد حول النملية إلى مكتبة كدست فيها الكتب والمجلات وعلى الجدار سبحة كبيرة الحبات ( ص 23 ) ، وكانت الأم حريصة على تأمين حياة هادئة آمنة لولديها حاتم وطارق ، وكانت تريدهما أن ينصرفا إلى الدراسة ولا يشغلا عنها بشيء.
وبالمقابل نشأ ديمتريوس في أسرة تحوي كل التناقضات ، فهو يحيا مع أمه اليونانية وزوجها المصري ، ومعهما ياسمين أخته من أمه ( ص 20 ) وهو يعد نفسه أوروبياً يحيا في مصر ، فهو يعيش في أوربة من خلال الأفلام والكتب والإذاعات والأغاني ( ص 27 ) ويرى الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومرسيليا ونابولي ( ص 27 ) ، وهو يعيش مع أمه المسيحية وزوجها المسلم ويدرك أن الدين لا وجود له في البيت ( ص 59 ) .
وتنتهي الصداقة بين حاتم وديمتريوس بانتهاء حرب السويس ، وعودة ديمتريوس مع أمه إلى اليونان ، وينتهي الحب أيضاً بين حاتم وياسمين ، كما تنتهي إقامة حاتم في منزل السيدة اليونانية ، إذ تقرر هذه الرحيل أيضاً إلى اليونان ، ويرجع حاتم إلى بيت والده بدعوة صادقة من أخيه طارق .
_ 4 _
ولقد عنيت الرواية بتقديم صور دقيقة وواضحة للشخصيات ، ولاسيما للوجوه والملامح والقامات سواء في ذلك الشخصيات الرئيسية أم الثانوية , وهي مرسومة من زاوية حاتم , الراوي والبطل , ومنها صورة لوجه ديمتريوس ( ص 17 ) وصاحب الوكالة ( ص 18 ) والعم شقيق رضوان ( ص29 ) وسمسار العقارات (ص31 ) والسيدة اليونانية ( ص34 ) وابنتها فيرجينيا ( ص 38 ) وزوجها بيروس ( ص 38 ) وياسمين (ص 48 ) .
يقول حاتم في تصوير ياسمين : " كانت في حوالي الخامسة عشرة , امتزجت في وجهها الملامح الأوربية والعربية , بما لا تخطئه العين , الشعر أسود ينسدل إلى الظهر ، و الوجه مستدير ، تعلوه عينان واسعتان بنيتان ،تسكن إليهما ، تحيا فيهما ، تتوق لأن تظلا تنظران إليك ، ولا تخفض عينيك عنهما ، تظللها أهداب طويلة ، والأنف صغير ، والشفتان ممتلئتان ، والبشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة ، ارتدت جلابية من " الفوال " المنقط ، تحتها قميص أبيض ، وانتعلت حذاء مفتوحاً ، تطل منه أصابع مطلية بالمانيكير " (ص48).
والوصف يشمل الوجه والقوام ، والحركة والسكون ، ولا يخلو من تدقيق في بعض التفاصيل الدالة والمعبرة ، ولعل أجمل ما فيه الجمل الأربع الدالة على أثر نظرتها في النفس.
وربما بدا وصف سمسار العقارات أكثر تميّزاً ، وحاتم يصفه على النحو التالي " كان الرجل وراء المكتب الخشبي الصغير مشغولاً بشد أنفاس شيشته ، في حوالي الخمسين ، له أنف ضخم ، وشارب رفيع كالخط المتداخل البياض والسواد ، فوق شفتين زاد من امتلائهما بروز في السنتين الأماميتين ، يركز نظرته على عيني محدثه ، كمن يريد أن ينفذ إلى داخله ويحرص على تحريك يده ، وهو يتكلم ، ليرى محدثه الساعة الذهبية في يده ، وكان يرتدي جلباباً صوفياً ، ويضع على رأسه طاقية من الصوف ، ويغطي عنقه بتلفيعة تدلت حتى الصدر " ( ص 31 ) .
والوصف لا يخلو من بطء وهدوء ، وهو يستغرق في تفاصيل دقيقة ، ولكنها ذات دلالات نفسية واجتماعية واضحة ، ومثل هذا الوصف للوجوه والملامح والقامات أضفى على الرواية تميزاً وخصوصية ، ومنحها قدراً غير قليل من ملامح البيئة .
_ 5 _
وتدور حوادث الرواية كلها في الإسكندرية ، ولا تكاد تستغرق أكثر من عامين ، وغالباً ما تدور في ثلاثة أماكن رئيسية ، هي بيت الأب رضوان ، وبيت السيدة اليونانية ، وبيت ديمتريوس ، والرواية تصور البيوت الثلاثة وهي تمور بالحياة والحركة ، وتصور الحياة من حولها ، وما تطل عليه من بيوت وأزقة ، وحارات وأسواق ، ومساجد وكنائس .
والرواية تصف كل بيت من البيوت الثلاثة من الداخل والخارج ومن ذلك وصف بيت ديمتريوس من الخارج كما يراه حاتم حيث يقول : " البيت في شارع الكنيسة الأمريكانية ، ملاصق للكنيسة الإنجيلية ، وبالقرب من نقطة شريف ، من ثلاثة طوابق ، يطل في الجانبين على شارع سيدي المتولي وشارع توفيق، الوجوه التي تطل من النوافذ والشرفات معظمها لأجانب ، يتطلعون إلى الطريق ويقرؤون الصحف ، ويتبادلون الأحاديث ، وكانت البالوعات على جانبي الشارع قد ابتلعت مياه الأمطار ، لم يعد إلا التماعات متناثرة " ( ص 19 ) .
وتصف الرواية غرفة ديمتريوس كما يراها حاتم . حيث يقول : "في مواجهة الباب بوفيه ذو مرآة بيضاوية مطوية في بعض جوانبها ، وعليه قطعة رخام تكسرت حوافها ، تتوسطها فازة زرقاء يتصاعد منها ثلاث ريشات طاووس ، إلى اليمين فوتيل بامتداد معظم الحائط ، يقابله كرسيان ، تغطت جميعها بكرتيون أبيض ، فصل عليها ، وفي المنتصف ترابيزة خشبية مستطيلة ، عليها مفرش من الدانتيل الأبيض، وتدلت من السقف نجفة عنقودية الشكل ، انطفأ معظم لمباتها ، وعلقت على الجدار _ أعلى الفوتيل _ لوحة زيتية لبنات بملابس شفافة " ( ص 20 )
والوصف لبيت ديمتريوس من الداخل والخارج لا يخلو من التتبع للجزئيات والتفاصيل ، والغاية من أكثرها الدلالة على نمط من الحياة فيه قليل من الغنى وكثير من الاختلاف عن البيت المصري ، أي أن الغاية من هذا الوصف هي القول إنه بيت أجنبي من الداخل والخارج ، وفي نمط الحياة ، ويبدو الوصف هادئاً فيه قدر غير قليل من البطء ، بسبب تتبع التفاصيل ، وربما كان أكثر منه إغراقاً في التفاصيل وصف منزل السيدة اليونانية كما يراه حاتم ، حيث يقول : " على يسار المدخل كونصول قديم ، مشغول بالأرابسك ، تعلوه مرآة بيضاوية الشكل ، ومن أعلى الطرقة تتدلى نجفة ذات أربعة أذرع ، يفضي المدخل إلى صالة واسعة ، يشغلها أنتريه أسيوطي ، وترابيزة سفرة مستطيلة ، عليها منفضة خالية من أعقاب السجاير ، وحولها ستة كراسي ، وتتوسطها علبة من الصدف مغلقة ، وعلى الجدران صور عائلية ، ولوحات مقلدة لأعمال فنانين عالميين ، ومشاهد خمنت أنها لمدن يونانية تطل على الساحل ، وأعلى باب الشقة من الداخل علق صليب خشبي ، عليه نحت للمسيح وهو يضع إكليل الشوك ، وعلى يمين الباب ممر ضيق نسبياً ، توقعت أنه يفضي إلى المطبخ والحمام وغرفة النوم " ( ص 34 ) .
والتدقيق في الوصف واضح ، والغاية منه تأكيد بعض الصفات منها هدوء الحياة في البيت وسكونها ، وقدم الأثاث ، وطابعه الأجنبي ، مما يؤكد محافظة أهله على حياتهم الأجنبية بالإضافة إلى دلالته على ديانة سكانه ، وهي المسيحية .
وعلى الرغم من غنى الدلالات وأهميتها ، يظل الوصف هادئاً ساكناً ، لا يخلو من بطء ، يضعف من إيقاع السرد ، بسبب الاعتماد على الوصف المحض ، بعيداً عن ربطه بحياة الناس وحركتهم داخل المكان وعيشهم فيه .
وتصور الرواية الحياة الموارة داخل بيت الأب رضوان ، من غير أن تصف أي ركن فيه أو جزء أو مكوّن من مكوناته ، ويأتي التصوير دالاً موحياً ، وحافلاً بالحياة ، على نحو ما يروي حاتم حيث يقول : "أبي يعود عقب صلاة العشاء ، يجلس في الصالة أو الشرفة المطلة على شارع الميدان ، يستمع إلى الأغنيات في فونوغراف القهوة ، أسفل البيت ، إلى موعد نشرة الأخبار ، يدير الراديو حتى يسمع السلام الوطني ، فيغلق الراديو ويدخل حجرة نومه المطلة على الشارع الخلفي " ( ص 9 ) .
وواضح أن قيمة المكان لا تكمن في وصف جزئياته وتتبع تفصيلاته ، إنما تكمن في تصوير الناس وهم يملئون المكان بالحياة .
وبصورة عامة تبدو الإسكندرية في الرواية جميلة متألقة ، تمور بحياة الناس البسطاء العاديين ، حيث تنتشر فيها المساجد والمآذن والمقاهي والمطاعم ، وتتخللها بيوت اليونانيين ، لتزيد من بهائها وجمالها . ولكن حاتم يراها في النهاية وقد فقد حبه ، سوداء معتمة ، ملوثة كريهة ، وقد أسقط عليها كل خيبته ومرارته حيث يقول : " فسدت الحياة ، أفرغت ناقلات البترول ما بجوفها ، فتحول سطح البحر الذي أحبه إلى بحيرة واسعة من السواد الميت المتعفن ، تلاحقت سنوات واكتسح المد الضاري كل الأماني والأحلام والتصورات المنطلقة, علت الأمواج السوداء, فابتلعت ما بداخل البحر, وما على الشاطئ, انتزعت الصخور الأسمنتية, قذفت بها إلى آخر المدى, حتى ناس الطريق, كانوا شائهي الملامح, تطفح أعينهم توجساً وكراهية وحقداً" (ص125).
-6-
ويبدو الناس على "الشاطئ الآخر" على قدر غير قليل من العدائية والنفور والشذوذ, فكلهم يقررون مغادرة أرض مصر, لدى ظهور بوادر التغيير, إذ تقرر فجأة السيدة اليونانية مغادرة القاهرة, بعد انتهاء العدوان الثلاثي, من غير وجود أي مبرر لذلك, فقد أمر عبد الناصر الفرنسيين والإنكليز بالمغادرة, لأن إنكلترة وفرنسا شاركتا في العدوان الثلاثي على مصر, ولم يمس أحد اليونانين بسوء, وكذلك تقرر ابنتها المغادرة مع زوجها, كما يغادر ديمتريوس مع أمه.
وقرار المغادرة ليس غريباً, لأنهم كانوا يعيشون على أرض مصر بأجسادهم, في حين كانوا يعيشون في أوربة بأرواحهم, فهم يعيشون في الغرب بثقافتهم وقراءاتهم ومشاعرهم وأفكارهم وعاداتهم وأغانيهم ونمط حياتهم, ولا يرون في الإسكندرية إلا واحدة من موانئ المتوسط يقول ديمتريوس لحاتم: " الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومارسليا ونابولي " (ص27), بل إنه يقول لحاتم: " هل تعرف أن اليونانين هم الذين أنشئوا الإسكندرية " (ص24) ثم يصرخ قائلاً: " أنا أوربي يحيا في مصر " (ص25).
وكانت فرجينيا وزوجها بيروس أكثر عدائية لحاتم, إذ لم يقرّا السيدة اليونانية على تأجيرها غرفة له في شقتها, وكانا طوال إقامته عندها صامتين تجاهه, لا يبادلانه الفكر ولا الشعور ولا الحوار, بل ينظران إليه بنفور شديد, وكانا على عداء واضح لعبد الناصر وثورة يوليو 1952 وكانا أول المتحمسين لمغادرة مصر.
إن نظرة الناس على الشاطئ الآخر إلى مصر والمصريين هي على الأقل نظرة نفور, ولا تكاد تخلو من نظرة عرقية, إذ ينكر ديمتريوس على حاتم أن يكون أشقر الشعر فهو يتصور أن كل المصريين سود الشعر (ص51) .
-7-
ومن هنا تبدو الصداقة بين حاتم وديمتريوس اليوناني صداقة عابرة كما يبدو لجوء حاتم إلى منزل السيدة اليونانية مجرد لجوء مؤقت, لم يوفر لحاتم الاستقرار، حتى حب حاتم لياسمين يبدو أشبه بمرح الأطفال، هو تفتح القلب على أول حب, اكتسب منه حاتم بعض الخبرة, ونضجت مشاعره, واكتوى ببعض الألم، ولكن الأجمل من ذلك كله أنه ظل محافظاً على نقائه وطهره وصفائه وبراءته, مستنداً إلى تراث عريق وأسرة متماسكة, ربته فأحسنت تربيته.
إن غربة حاتم خارج منزل أبيه لمدة عامين تقريباً من أواخر 1954 تاريخ إقالة محمد نجيب إلى انتهاء حرب السويس أواخر عام 1956, غربة أنضجت شخصية حاتم, وأفادته خبرة, ولكنها لم تلغ شخصيته, ولم تشوهها, بدليل حفظه على طهره وبراءته ونقائه, ولقد عاد إلى منزل الأب ولقاء الأخ.
إن غربة البطل, ولاسيما الشاب القليل الخبرة و خارج وطنه, ثم عودته إليه بعد كثير من المغامرات, فكرة رئيسية عالجتها كثير من الحكايات الشعبية و الروايات .
ومن هنا يبدو العنوان : " الشاطئ الآخر" واضحاً و شفافاً و دالاً ، وقد جاء معرفاً بأل وموصوفاً، فهو ليس الشاطئ الذي يقف عليه المرء ، إنما هو الشاطئ الآخر، وغالباً ما يبدو الشاطئ الآخر أجمل و أكثر إغراء، وهذا ما ينطق به المثل القائل: "الضفة الأخرى من النهر أجمل"، وهذا بعض ما يوحي به العنوان، وبعض ما تحققه الرواية أيضاً، فقد وجد حاتم فى الشاطئ الآخر المأوى و الصداقة والحب، في حين طرده أخوه من الشاطئ الذي هو واقف عليه .
ولكن بقدر ما يبدو الشاطئ الآخر سوياً وجميلاً ودافئاً بقدر ما يتبين أنه غريب وعابر ومؤقت , مما يترك في النفس شجناً وحزناً و أسى ، وهو حقيقة شاطئ غريب ولكن ما يطمئن النفس ويريحها ، هو العودة إلى البيت ، وهي عودة سليمة ، سلم فيها الجسد وسلمت فيها الروح .
ولذلك كله يبدو العنوان أليفاً ولطيفاً وشفيفاً ، لا غموض فيه ولا إبهام ، كذلك لا ابتذال فيه ولا مجانية ، وقد أبت الرواية ألا أن تشير إلى دلالة العنوان قبل النهاية, حيث يقول حاتم:" نقلني ديمتريوس إلى الشاطئ الآخر, أسماء لم أكن أعرف غالبيتها, ولا قرأت لها, وإن ظللت أجذف بقاربي في بحر الكتب العربية " (ص122), ويبدو توضيح حاتم أقل مما توحي به الرواية في بنائها الكلي, ولذلك تبدو الرواية بغنى عن توضيح حاتم.
ولحاتم نفسه من اسمه نصيب كبير من الدلالات والإيحاءات فهو بثقافته وشهامته وعفة نفسه وطهره وحبه, يذكر بحاتم الطائي بما امتاز به من كرم وجود وشهامة، وربما كان لأخيه طارق نصيب من اسمه أيضاً, فهو ضابط عسكري, وهو على قدر غير قليل من الغموض, والتفرد بالرأي والتسلط, وهو يذكر بطارق بن زياد القائد العسكري الذي لا يعرف المرء سوى الخطبة المنسوبة إليه, مع إنه كان بربرياً لا يجيد العربية, وربما في كون طارق ضابطاً عسكرياً ما يوحي بالمرحلة التاريخية التي تشير إليها الرواية إشارات متناثرة هنا وهناك, ولعلها توحي بما شهدته مصر بعد ثورة يوليو من معاناة المثقفين من سلطة رجال الثورة العسكريين.

- 8 -
وتتجاور الحوادث داخل الرواية وتتوازى مع الحوادث خارجها ، وفى بعض الحالات تتعانق ، بقدر كبير من إغراء المقارنة والبحث عن رمز ما أو كناية أو إشارة ، فالضابط طارق يطرد أخاه حاتم من المنزل بعد وفاة الأب، في الوقت نفسه الذي يقيل فيه رجال الثورة الرئيس محمد نجيب في 14 نوفمبر 1954، ويلجأ عبد الناصر إلى الكتلة الشرقية فيشترى السلاح من تشيكوسلوفاكيا ، ويأخذ قرضا من الاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي، في الوقت الذي يلجأ حاتم إلي منزل السيدة اليونانية ليستأجر غرفة لديها ، وفي الوقت نفسه يقيم صداقه مع ديمتريوس و يحب أخته ياسمين، ومثلما قادت الغارات الجوية على الإسكندرية إلي العناق بين حاتم وياسمين ، كذلك قاد العدوان الثلاثي الذي شنته انكلترة وفرنسا وإسرائيل على مصر إلى تقارب شديد مع الاتحاد السوفيتي الذي أرسل إنذاراً إلى الدول الثلاث يطلب فيه إنهاء العدوان ، وإذا كانت علاقة الحب بين ياسمين وحاتم قد انتهت ، مثلما انتهت علاقة الصداقة بين حاتم و ديمتريوس مع انتهاء الحرب ، فإن علاقة الود بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتى قد ضعفت كثيرا بعد انتهاء الحرب ، ومال عبد الناصر إلى أمريكا .
حوادث ومواقف كثيرة ،متوازية ومتجاورة ، داخل الرواية وخارجها ، بإشارات ذكية من الرواية نفسها ، ولكن ربما كان من الأجمل قراءة الرواية بمستوييها الداخلي والخارجي ، ومنح كل من الزمنين حريته، وشخصيته الاعتبارية ،وقد حققت الرواية لهما ذلك ، بعيداً عن القول بالرمز أو التأويل .
-9-
والرواية مسرودة بضمير المتكلم على لسان البطل حاتم ، وضمير المتكلم لا يتيح بصورة عامة للرواية من الحرية ما يتيحها له ضمير الغائب إذ يضطر الراوي إلى السرد من زاوية واحدة ، ولكن هذا يجنبه مزالق الراوي العالم بكل شيء ، ويمنحه بالمقابل بدائل منها وعى الذات ، وصدق الخبر ، ومعاينته الشخصية والتأمل ، وتحليل المواقف ، وحرارة اللغة وشاعريتها .
ومع أن الراوي واحد هو حاتم ، فقد جاءت لغته ذات مستويات متعددة ، فيها الوصف الهادئ المدقق ، وفيها التصوير الحي ، وتمتاز دائماً بالإيجاز والتكثيف، وقصر الجملة ، كما تظهر فيها حرارة الانفعال، والقدرة على التعبير عن أدق الخلجات والمشاعر .
ففي كثير من الحالات يعي حاتم ذاته ، ويعلل مواقفه ، ويفسر نفسيته ، ويتحدث عن نفسه عن ماضيه ، وعن أحلام المستقبل. يذكر حاتم غياب خبرته في عالم المرأة ، ويرد هذا الغياب إلى سبب خارجي يحدده بقوله : " كنت أنتظر وأتوقع البنت التي توارب أمامي الباب فتساعدني الجرأة على اقتحامه ، وأبوح بمشاعري " ( ص 55 ).
وهذا السبب الذي يعيه هو سبب واضح مباشر، يخفى في الحقيقة وراءه أسباباً أخرى قد لا يعيها حاتم ، منها تربيته وثقافته .
ويصف حاتم نفسيته، فيصور ما هو عليه من عاطفية وقوة تخيل واستحضار ، فيقول: "عاطفتي قوية ، أتابع مواكب الجنازات في طريقها إلى جامع الشيخ ، فتدمع عيناي لصوات النساء ، أبكى للمشاهد المؤثرة في الأفلام ...أهتز لبكاء طفل.. حتى التسابيح التي تسبق أذان الفجر من جامع الشوربجي تحرك في داخلي مشاعر حزينة " (ص 120 ) .
ويعبر حاتم عن حبه لياسمين وشوقه إلى لقائها ، فتأتى اللغة حارة رشيقة، حيث يقول:
" ياسمين ! الصورة تملأ خيالي ،لا تفارقني ، وأنا أصحو ، وأنا أنام ، وأنا أقعد ، وأنا أفكر وأنا أعمل ، وأنا أجالس الآخرين، تطايرت السدادة من القمقم في وقت لم أكن أعددت نفسي له ، انبعثت الحمم من البركان ، فاكتسحت حتى التصورات " ( ص 89 ).
ويعبر حاتم عن أدق الخلجات والمشاعر والحالات ، حيث يقول: " أدركت أن حياتي قد ارتبطت بهذه الفتاه الجالسة أمامي ، لا أتصور عالماً يخلو منها ، كان حبي لها يختلف عن حبي لأبى ولأمي، من قبل كنت أحب أبي دون أن أتدبر بواعث ذلك الحب ولا حالاته, لا يشغلني حبي لأبي فهو قائم ومستقر وملتصق بلحمي ويخالط ترددات أنفاسي, أنا لا أعنى بمتابعة دقات قلبي, ولا قياس ضغطي, ولا التأكد من قوة إبصاري, فهي حالات قديمة وممتدة, حالات من صميم حياتي, نشأت معها وترافقني, أما حبي لياسمين فهو حالة استثنائية, تبدل من حياتي, ينتشر نورها فيغمر نفسي " (ص69).
ويظهر التصوير في صنع معادل موضوعي خارجي لعالم داخلي, فلقد أدرك حاتم أن حبه انتهى, فعبر عن هذا الشعور بمقطع قوامه صورة شعرية متكاملة يقول فيها: " جاءت بلا توقع لحظة الفراق, كنت أسير في النهار المتألق بالضياء, عندما أظلمت الدنيا فجأة, ظلمة كثيفة متراكمة, لا تريك حتى داخلك, لا ترى شيئاً على الإطلاق, بدا لي الكون ضيقاً وموحشاً وقاسياً انزاحت في داخلي موجات متتالية من القهر والإحباط والعجز, تحسست لزوجة الدم في أنفي, والسن المكسورة في فمي, والشج في أوسط رأسي, وتخاذلت للضربات الموجعة, تاه قاربي, ولم يكن معي ما أطمئن به إلى الطريق الصحيحة, لا خريطة, ولا بوصلة, ولا مرئيات في الأفق, والسماء من فوقي ملبدة بالغيوم, فلا نجم أهتدي به, أعاني الظلام والغربة والضياء, اختلط طريقي, وفقدت الاتجاه" (ص124-125) .
إن السرد بضمير المتكلم من زاوية حاتم ساعد على إغناء الرواية بمقاطع من التحليل والتصوير بلغة لا تخلو من شاعرية, تناسب الحالة والموقف والانفعال , وتنقل ذلك كله بحرارة , من غير أن تفسد متعة السرد أو بناء الرواية .

-10-
ولم يكن حاتم بطل الرواية والراوي فيها فحسب , بل كان العنصر الأساسي المكون لها , والمحور الذي تنشد إليه عناصرها كافة , تتحد به , ويتحد بها وهذا ما يمنح الرواية وحدتها وتماسكها .
ولعل أبرز ما يميز حاتم هو طابع الثنائية , فحاتم يعيش الحب على مستويين , الثقافة والواقع , وحاتم يعاني من الغربة وهو في الوطن , فلديه بيت الأب ولكنه مطرود منه ولذلك يلجأ الي بيت السيدة اليونانية , وحاتم يصادق ديمتريوس ويحب أخته ياسمين , وحاتم يهرب من الواقع , والواقع يؤثر فيه .
ويظهر طابع الثنائية في عناصر الرواية كافة , فطارق يطرد أخاه من منزل الأب ثم يدعوه إلى العودة إليه , والأول ضابط عسكرية والثاني جامعي مثقف , وديمتريوس مسيحي وأخته ياسمين مسلمة , وهما يعيشان معاً في منزل واحد , الأب فيه مسلم والأم مسيحية , والسيدة اليونانية تعطف على حاتم , وينفر منه بيروس وزوجته فيرجينيا , وعلى أرض مصر في الإسكندرية يعيش ديمتريوس والسيدة اليونانية وابنتها وزوجها ولكن أرواحهم جميعا معلقة بأوربة , ولا ينسى المرء ثنائية الثقافة العربية التراثية والثقافة الغربية الأوربية من هوميروس إلى كافافيس ومن ابن حزم إلى داود الأنطاكي , وكذلك ثنائية الشاطىء والشاطىء الآخر .
والثنائية المشتركة بين عناصر الرواية هي ثنائية اختلاف ولقاء واتفاق , لا ثنائية صراع وصدام وخصام , والحركة تسير وسط هذه الثنائيات هادئة لينة رخيّة , من خروج حاتم من منزل الأب مطرودا مفارقا لأخيه , ليجري مع ديمتريوس وياسمين والسيدة اليونانية وليسير هؤلاء معه جميعاً في وفاق , ثم لينفضوا عنه , ويرجع ثانية إلى منزل الأب بدعوة من الأخ , وليس في هذه المسيرة صدام أو صراع أو خصام , إنما ثمة الوفاق والوئام .
وتبدو الحركة سائرة من اليمين حيث الأخ إلى الشمال حيث ديمتريوس اليوناني وأخته ياسمين والسيدة اليونانية , وفي هذا الاتجاه الذي هو نحو الغرب في الحقيقة يسير حاتم بصحبة ديمتريوس وأخته , ثم تنقلب الحركة في آخر الرواية , حيث يتخلى ديمتريوس والسيدة اليونانية عن حاتم بسفرهم إلى اليونان ويرجع حاتم وحده إلى منزل الأب بدعوة من أخيه فينقلب اتجاه الحركة ليصبح من الشمال إلى اليمين .
يقول حاتم في نهاية الرواية : "مسحت الميدان بعينين قلقتين ..مبنى الاتحاد القومي , وتمثال محمد علي, والكنيسة الإنجيلية وبقايا عصر إسماعيل في البنايات ذات الطراز الأوربي ..غالبت الحيرة والتردد , ثم لزمت الرصيف الأيمن , في طريقي إلي شارع الميدان " . ( ص 126 ).
وبمثل هذه الحركة داخل الرواية كانت الحركة تسير خارجها , إذ مال عبد الناصر إلى المعسكر الاشتراكي فاشترى منه السلاح وأخذ القرض لبناء السد العالي , وبعد العدوان الثلاثي علي مصر عاد فمال إلى الغرب الأمريكي .
وهنا تظهر ثنائية الذهاب والإياب, وثنائية الداخل والخارج, وثنائية اليمين والشمال , وهذا ما يؤكد طبيعة الثنائية التي تحكم بناء الرواية , وتمنحها التماسك والوحدة .
*
وتظل رواية " الشاطئ الآخر " لمحمد جبريل قابلة لقدر كبير من المقارنة والدرس والبحث ، وليس من الغريب تشبيهها بمروحة صينية صغيرة، مطوية في يد سيدة أنيقة ، تبدو المروحة في البدء صغيرة ناعمة ذات بعد واحد ، وهي مغلقة ، ولكن تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد وطبقات تمتد وتمتد لترسم ألواناً وصوراً كثيرة .

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:20 AM
رواية "النظر إلى أسفل" لمحمد جبريل

بقلم: حامد أبو أحمد
......................

"النظر إلى أسفل "، ليس مجرد اسم لرواية بل هو هنا ملمح في شخصية، ومع ثبات الملمح يتجاوز هذا السلوك دوره كمجرد تعريف بالشخصية ليصبح رمزاً لمعنى متجدد في الواقع كما في الأدب وهذا ما يتطرق إليه هذا المقال.
هذه ثاني رواية يصدرها الكاتب الروائي محمد جبريل خلال عام 1991، حيث صدرت له رواية "قلعة الجبل" عن دار الهلال بالقاهرة في بداية العام المذكور. وبذلك تضاف هاتان الروايتان إلى أعماله الروائية الأخرى التي نشرت خلال عقد الثمانينيات ومن أهمها "إمام آخر الزمان" و "من أوراق أبي الطيب المتنبي" و "قاضي البهار ينزل البحر". ويحاول محمد جبريل في بعض رواياته أن يستلهم التراث، لكنه في بعضها الآخر يركز على الهموم الخاصة والعامة للإنسان المعاصر بكل ما تحمل من آمال وآلام وإحباطات.
وهذه الرواية الأخيرة محاولة للكشف عن مسيرة الإنسان في مصر في فترة زمنية تبدأ من قيام ثورة يوليو 1952 تقريبيا وتنتهي بمقتل الرئيس السابق أنور السادات. ومن ثم تبدو هذه الرواية وكأنها سيرة ذاتية لبطلها شاكر المغربي. ولذلك تمضي هذه السيرة الروائية في خطين متوازيين: أولهما خط أحداث الحياة العادية لشاكر المغربي، وهي شخصية مأزومة كما سوف نرى فيما بعد، وثانيهما خط التعليق على الأحداث الجارية من قيام ثورة يوليو إلى الوحدة مع سوريا إلى نكسة 1967، إلى حرب 1973.. إلخ، فضلاء عن التحولات والأحداث التي تمت على امتداد ثلاثين عاما من عمر الثورة المصرية. وهذا الخط الثاني يلتزم فيه الكاتب عادة بالوقائع التاريخية على نحو ما نقرأ- مثلا- عن المؤتمر الذي عقده الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر قبل حرب 1967، يقول شاكر المغربي (ص 72): "عقد عبد الناصر مؤتمرا قال فيه: لدينا أعظم قوة ضاربة في الشرق، وفي قدرتنا محاربة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل. أعجبني رده على سؤال: صحتي جيدة، ولست "خرعا" كزعيمكم... ".
شاكر المغربي البطل المأزوم
هذه هي الشخصية المحورية في الرواية، وهي في الواقع الشخصية التي ركز عليها الكاتب تركيزا شديدا، حتى غدت كل الشخصيات الأخرى مجرد استكمال للأبعاد الدلالية لهذه الشخصية المحورية نفسها. فعماد عبدالحميد، وحسونه النقراشي، وعبدالباقي خليل، ومنصور السخيلي، وكلهم من أصدقاء شاكر المغربي، ماهم إلا شخصيات تدور في فلك الشخصية المحورية، حيث ترد للمناقشة أو للتعليق على الأحداث أو لتوضيح بعد من أبعاد شخصية شاكر المغربي، لكنها لا تدخل في بؤرة الصراع، ومن ثم فإنها تعد شخصيات هامشية. وينطبق هذا الكلام نفسه على الشخصيات النسائية. ولهذا سوف ينصب تحليلنا بالأساس على شخصية شاكر المغربي.
والحق أن محمد جبريل استطاع في هذه الرواية أن يبدع الشخصية المحورية التي تنطوي على الكثير من الأبعاد والدلالات، التي يمكن أن نوجز بعضها الآن في كلمات ثم نتوقف بعد ذلك عند عدد منها: فشاكر المغربي بطل مأزوم نفسيا وجنسيا، وهو شخص معزول ومحروم، وقد عانى من الفقر الشديد في بداية حياته ثم تحول إلى الثراء الفاحش، لكنه صعد ماليا ولم يصعد إنسانيا، وهذا بعد من أهم الأبعاد في شخصية شاكر المغربي لأنه ينطوي على مفارقة حادة، ثم إنه شخص منغمس في ذاته إلى أقصى حد، وفضلا عن ذلك فإن كل مواقفه تدل على السلبية واللامبالاة التي تميز بها قطاع عريض من المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة.
وتعود أزمة شاكر المغربي النفسية إلى نشأته في محيط أسري قلق ومتوتر وصل بأبويه إلى نهاية مأساوية يصفها لنا في بداية الرواية على النحو التالي: "غاب الاثنان عن حياتي في ظهر لا أنساه. كان الجو شديد الحرارة، وأمي تعتب على أبي أشياء لم أتبينها. علا صوتها فعلا صوته، وانهال عليها بفتاحة كتب في يده، حتى هدأت، وهدأ". وبالطبع كان مصير الوالد السجن، فعاش شاكر المغربي طفولته وحيدا ومعزولأ ليس له من الأقارب إلا خالته، التي رأت أن تنقله ليقيم مع أسرتها، لكنه قرر أن يظل بمفرده في شقة والديه في الإسكندرية.
ومن هذه اللحظة تبدأ حياة طفل يصارع أمواج الحياة العاتية بمفرده. ساعدته خالته ماليا حتى شب عن الطوق ثم قالت له: "لقد كبرت ياشاكر.. فحاول أن تعتمد على نفسك" (ص 7). فكان أول شيء فكر في بيعه هو مكتبة أبيه بعد أن كان قد قرأ معظم ما ضمته من كتب. ثم بدأت معرفته بصديقه عماد عبدالحميد الذي كان يأتي إليه من شقتهم في الطابق الأعلى بوجبة الغداء. وتمضي الحياة بشاكر المغربي حتى التحق بمعهد ليلي يطل على ميدان سانت كاترين، وفي الوقت نفسه أخذ يعمل في ثلاثة أماكن: مخازن البنداري في السكة الجديدة، المعلم سيد الزنكلوني تاجر المانيفاتورة، مركز الشباب بمدرسة ابراهيم الأول الثانوية (ص 12). وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه أ يكن شخصا خاملا، وأنه استطاع أن يتغلب على الكثير من الصعوبات والمعوقات حتى صار من كبار الأثرياء، لكنه بالرغم من كل ذلك ظل في أزمة نفسية أوصلته كذلك إلى أزمة جنسية جعلته يدمن الاستمناء. وهذا أيضا شيء مفارق ويتناقض مع شخصيته: ذلك لأنه لم يكن عاجزا عن إقامة أية علاقة مع المرأة، ونلحظ ذلك من سرعة تعرفه على سوزان النجار في المعهد الليلي، ثم علاقاته النسائية الكثيرة فيما بعد.
النظر إلى أسفل وعنصر المفارقة
في رأى أن هذا الجانب يعد من أكثر جوانب الرواية تعبيرا عما يريد الكاتب أن ينقله إلينا. فشاكر المغربي على الرغم من نشأته المعدمة يحلم بالثراء، ويجتهد من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وحين يتحقق له الثراء فعلا يظل ينظر إلى أسفل. وهذا النظر إلى أسفل (وهو عنوان الرواية) له مستويات متعددة منها المستوى الواقعي حيث تظل أفعاله وتصرفاته كما هي لم تتغير قيد أنملة: يندفع في الحوار والمناوشة مع زوجته نادية حمدي لأقل إثارة على النحو الذي كان يفعله أبوه مع أمه، يمارس عادته القبيحة "الاستمناء"، تظل علاقاته وصداقاته القديمة كما هي، على الرغم من أن تحولات الثروة تحدث في العادة تحولات في العلاقات البشرية، أما على المستوى الرمزي فإن شاكر المغربي يظل على عادته القديمة في النظر إلى قدمي المرأة وهي عادة تأصلت عنده لأسباب واقعية يذكرها على النحو التالي: "حرص أمي على نظافة قدمي. تطالبني- عقب كل مشوار- بضرورة غسلهما. أم جابر الغسالة، يلذ لها أن تداعب بطني وأنا نائم بقدمها. مدرسي في العطارين الإبتدائية كان يأمر التلاميذ أن يخلعوا أحذيتهم وجواربهم ويضعوا أقدامهم على الأدراج. وبقطعة خشب منتزعة من أرضية الحجرة ينهال على أقدامنا. يتعالى الصراخ والبكاء وعبارات الاسترحام. وكان شعوري يختلف تماما. الضرب على قدمي يؤلمني. مع ذلك يشوب الألم لذة، يرتجف لها جسدي وأحبسها" (ص 23). وعلى الرغم من هذا الأصل الواقعي هذه العادة إلا أنها ظلت تتنامى حتى أخذت في الرواية بعدا رمزيا له أيضا دلالاته النفسية المفارقة، كذلك فإن هذه اللذة التي كان يحس بها في طفولته عمد ضرب قدميه سوف تصبح واقعا نفسيا يعيشه باستمرار تجاه المرأة. من هنا تتلاقى الأبعاد الواقعية والرمزية والنفسية كي تشكل في النهاية مجموعة من الدلالات الغنية المليئة بالإيحاءات: فالنظر إلى أسفل هو رمز السقوط المتواصل، وهو رمز الإحباط النفسي على الرغم من النجاح المادي، وهذا الرمز يمكن أن ينتقل كذلك من الخاص إلى العام ليشكل رمزا لإحباط المسيرة بشكل عام منذ بداية الثورة في يوليه 1952 حتى الآن. ثم هناك في هذا الجانب ما يمكن أن نسميه بالأمثولة Alegoria وهو لجوء الكاتب إلى عنصر تمثيلي لإبراز فكرته: فالقدمان والنظر إليهما تمثيل واقعي لفكرة الهبوط أو النظر إلى أسفل بصورة مستمرة. والتوازي بين الشخصية والأحداث العامة يصنع أيضا توازيا على مستوى الدلالة: فلا يحدث للشخصية يتوازى مع ما يحدث في الحياة العامة. ومن ثم نقرأ في الرواية تعليقات محددة على أوضاع بعينها جرت خلال المرحلة التي تعلق عليها الرواية أولها امتدادات حالية. يقول شاكر المغربي عن طبيعة العمل في شركات القطاع العام: "شركة القطاع العام تتنازل عن عملياتها لشركات الأفراد، الهدايا والعمولات الشخصية تضاف إلى العمولات الرسمية التي تتقاضاها الشركة، متعهد الأنفار يأخذ الفارق دون عناء، واستخدام مقدم المقاولة في مشروعات أخرى، في مناطق غير التي تعاقدت على التنفيذ فيها" (ص 41).
مواجهة.. أم هروب دموي؟
وتصل درجة المفارقة إلى ذروتها في المشهد الأخير من الرواية وهو إقدام شاكر المغربي على قتل زوجته نادية حمدي في لحظة تشبه إلى حد كبير اللحظة التي قتل فيها أبوه أمه. وهي لحظة ذكرتني بمشاهد القتل المجانية التي نجدها في رواية "عائلة باسكوال دوارتي" للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا (نوبل في الآداب 1989) حيث كان يبدو القتل في كثير من الأحيان وكأنه غير مبرر أو كأنه نوع من التحقق الموضوعي للأزمات النفسية والإحباطات على مستوى الواقع. وهذا ما أميل إليه أكثر خاصة في هذا المشهد الأخير بين شاكر المغربي ونادية حمدي: فالحوار بينهما الذي أنتهى بقتل الأخيرة لم يزد على كلمات ندت عنها بدت فيها تعيره بعجزه الجنسي (بسبب عاداته التي لم يكف عنها حتى بعد الزواج) وقلة أصله فما كان منه إلا أن تناول المسدس وأطلق عليها رصاصة ثم أغمض عينيه وتنهد مرتاحا، ثم كانت نهايته في السجن مثل نهاية والده. إن هذا المشهد يذكرني أيضا بالتراجيديا اليونانية التي يكون فيها الموت قتلا بمثابة قدر محتوم يمتد من الآباء إلى الأبناء. وأرى أننا لكي نفهم هذا المشهد جيدا لابد أن نعود إلى السطور الأولى في الرواية؟ لأنها تقدم لنا المبرر الصريح لما حدث. تقول: "وقف كلانا في نقطة الصفر، وطرح القرار نفسه: أن يغيب أحدنا من مواجهة صاحبه.. لم تكن نادية حمدي ممن يتنحون عن الطريق بسهولة. البراءة الظاهرة تضمر عنادا، بوسعك أن تتعرف إليه إذا حدقت في وحشية عينيها. كان الجنون نهاية أتوقعها، وأخشاها، إذا لم تصل الأمور إلى ما انتهت إليه. لم أكن بلا أصل- الصفة التي أطلقتها نادية حمدي- فحدث ما حدث".
كان مقتل نادية حمدي إذن بسبب جملتين: جملة تعيره فيها بعجزه الجنسي، وجملة أخرى تعد. فيها بأصله. وكما هو واضح فإن الدلالات المبثوثة على امتداد الرواية تتركز وتتكثف في هذا المشهد وكلها تقوم على المفارقة الشديدة: فالمفروض أن شاكر المغربي الآن في حالة استقرار مادي يحسد عليه، الكن بداياته مازالت تطارده وأزماته النفسية والجنسية والحياة القاسية التي مرت به، كل هذه الأشياء تقف حجر عثرة أمام تحقيق سعادتها. إنه لم يصعد إلا في الجانب المادي فقط أما الجوانب الأخرى فقد ظلت على حالها بلى تحولت إلى أشباح تطارده وتقض مضجعه. وقد نجح محمد جبريل نجاحا كبيراً في تجسيد كل هذه الجوانب وقدم لنا نموذجا للشخصية المتأزمة المحبطة الناظرة دائما إلى أسفل على الرغم من مظهرها الخارجي الذي ينم عن العافية والثراء والفتوة. فهل يريد محمد جبريل أن يقول إن كل مظاهر الثراء غير العادي التي نشهدها الآن مجرد مظاهر خادعة لا تدل على تقدم ولا تصنع تقدما؟ ربما، فالرواية في الواقع تحتمل الكثير من القراءات والتأويلات.
شخصيات ودلالات فنية
وإذا كانت شخصية شاكر المغربي تمثل الشخصية المحورية- كما ذكرنا- فإن الشخصيات الأخرى بالرغم من هامشيتها تأخذ حيزا معقولا فنادية حمدي، على نحو ما رأينا، هي الشاهد الذي يذكره دائما بعجزه وتدنيه وإحباطه، وعماد عبدالحميد، وحسونة النقراشي، ومنصور السخيلي وآخرون يعيشون في عالمه، ويشاركونه أتراحه وأفراحه ويقدمون رؤاهم للأحداث المحيطة بهم جميعا. ولكني أرى أن شخصة عبدالباقي خليل هي أكثر هذه الشخصيات جميعا خصوصية وتميزاً فإذا كانت كل الشخصيات، بمن فيها شاكر المغربي، غارقة في همومها الخاصة، وبعضها، على نحو ما رأينا في الشخصية المحورية، يعاني من أمراض نفسية وجنسية، فإن عبدالباقي خليل هو الشخصية الوحيدة ذات الملامح الواضحة، التي تسعى إلى هدف واضح. فقد تعرف عليه شاكر المغربي في مسجد العطارين ووحد منه تشجيعا له على أداء الصلوات ومذاكرة آيات القرآن الكريم والأحاديث وتعاليم الدين. وهو- أي عبدالباقي- يرتدي جلابية بيضاء، ويغطي رأسه بطاقية، ويدس قدميه في بلغة. ويعجب بحسن البنا، والهضيبي، وعودة، وسيد سابق . . إلخ (ص 91). إنه نموذج للشخصية الأصولية التي عرفتها مصر والمنطقة العربية طوال العقدين الماضيين ومازالت أحلام أفرادهم وطموحاتهم تتجاوز الواقع الخاص وتنزع إلى إقامة الدولة الإسلامية على طول المناطق العربية والإسلامية. ويلاحظ كذلك أن هذه الشخصية، بالرغم من أهميتها، لا تدخل في حياة شاكر المغربي إلا بمقدار ما تكون توضيحا لجانب من جوانبه، وإلقاء للضوء على بعد من أبعاد شخصيته الغنية بالدلالات.
جوانب تقنية
إن محمد جبريل روائي متمرس، وهو يعلم أن الفن الروائي الآن لم يعد يعتمد على السرد الزمني المتلاحق للأحداث، بل يميل إلى ضرب من التعقيد والتشابك وتوظيف مجموعة من الوسائل التي تساعد في إبراز الحدث وتطويره بصورة تتواءم مع ما شهده هذا الفن من تطور منذ نهايات القرن التاسع عشر (في أوربا) حتى الآن. ومن ثم نجد محمد جبريل يلجأ إلى تقطيع الزمن وتفتيته ونقله نقلات سريعة. وليس أدل على ذلك مما ذكرناه من أنك لكي تفهم المشهد الأخير حق الفهم لابد أن تعود إلى قراءة الصفحة الأولى من الرواية. لقد لجأ الكاتب إلى بناء دائري، وربما زمن دائري للرواية، يبدأ من نقطة الذروة أو الخاتمة ثم يمضيى في خطين متعاكسين يعود كل منهما من جديد إلى النقطة الأولى.
كذلك فإن الكاتب استخدم تقنية الاسترجاع بشكل موسع، ووضعها في غالب الأحيان، في خط أكبر من الخط (أو البنط) الذي كتبت به الرواية. وإن كان هذا الجانب الشكلي لم يضبط بالصورة المطلوبة ومن ثم حدث فيه بعض الخلل.
ولعل أهم نجاح أصابه المؤلف في هذا الجانب هو أنه استطاع أن يحافظ على هذا الخط الشكلي في تقطيع الزمن ونقله نقلات سريعة والعودة مرة أخرى إلى الوراء على الرغم من أن الرواية تمضي أيضا في خط تاريخي، يبدأ- كما أسلفنا- من ثورة 23 يوليو وينتهي بموت الرئيس السادات. فهذا الخط التاريخي ربما كان يفرض على المؤلف أن يلتزم تسلسلا زمنيا صاعدا يبدأ من نقطة معينة وينتهي عند نقطة معينة، لكنه، والحق يقال، استطاع أن يتغلب على هذه المشكلة، وقدم رواية تتحدد نقاط السرد فيها بحدود وظيفية تتجاوز أهداف السرد التقليدي للأحداث.
وفي النهاية ينبغي أن نتوقف وقفة قصيرة عند لغة محمد جبريل التي لا تختلف كثيرا عما ألفناه في رواياته السابقة: فهي لغة موجزة، مكثفة، تحاول أن تصل إلى المعنى من أقرب الطرق، تتجنب التفاصيل والهوامش المخلة، توحي بأكثر مما تعين. وكان من نتيجة ذلك أننا لم نعثر على مشهد جنسي واحد يمكن أن يوصف بالإثارة أو المباشرة على الرغم من كثرة المشاهد الجنسية في الرواية. وكما أسلفنا فإن البطل مأزوم جنسيا، وربما يكون الجنس هو الدافع الأول في قتله لزوجته، لكن محمد جبريل عرف كيف يجعلنا نلمس الأثر ولا نلمس المؤثر. إنه يضع أيدينا بلغة مرهفة إيحائية على الآثار التي أحدثتها الأزمة الجنسية في شخصية البطل حتى جعلته ينظر إلى أسفل بصورة مستمرة. وربما يكون هذا الجانب أيضا من أهم الجوانب في عدم استمتاعه بحياته الثرية المترفة.
إن شخصية شاكر المغربي غنية بالإيحاءات والدلالات، وهي وإن كانت تعد تعبيراً عن أزمة خاصة فإنها كذلك تعبر عن الأزمة العامة التي تترصد المجتمع كله. ونحن نعتقد أن الكاتب مطالب الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأن يتتبع مسار هذه الشخصية في حقبة الثمانينيات وحتى الآن، ومن المؤكد أنه سوف يقف عند أبعاد ودلالات أخرى كثيرة.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:21 AM
مع الروائي محمد جبريل

حاورته: الحرس الوطني
......................

روائي مسكون بعشق الموروث الشعبي.. يحمل في عمق الوجدان ذكريات: الاحتفالات الدينية، الأراجواز، الأراجيح، النشان، صندوق الدنيا..
تعددت أعمال الروائى محمد جبريل فله أكثر من اثنتى عشرة رواية، منها: الأسوار، إمام آخر الزمان، اعترافات سيد القرية، زهرة الصباح، من أوراق أبي الطيب المتنبي، رباعيات بحري..
وله أكثر من خمس مجموعات قصصية منها: تلك اللحظة، حكايات وهوامش من حياة المبتلى، سوق العيد.
وله سبع دراسات أدبية، منها: نجيب محفوظ صداقة جيلين، السحار رحلة إلى السيرة النبوية، مصر في قصص كتابها المعاصرين (الفائز بجائزة الدولة).
نغوص في أعماق المبدع الكبير محمد جبريل في حوارٍ متنوع المحاور، متعدد المرامي، نستكشفه عن قرب، نطالع فكره، ونقرأ مشاعره، ونلامس تجاربه.. في حوار خاص جداً لمجلة خاصة جداً.. مجلة الحرس الوطني
@ فِعْلُ الكتابة.. ماذا يعني للروائي محمد جبريل حين يهمُّ بكتابة أعماله الروائية أو القصصية.. وكذلك في تصوير الشخصيات والأبطال؟
@ فِعْلُ الكتابة اكتشاف..لا أتصور أن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماماً صورتها النهائية.. القصة تكتسب ملامحها أثناء ولادتها.. أحيناً أبدأ في تصوير الشخصية ولها في مخيلتي ملامح بذاتها.. ثم تذوي هذه الملامح ـ أثناء عملية الكتابة ـ لتحل بدلاً منها ملامح أخرى.. القصة تكتب نفسها.. أذكرلك أنني قد بدأت روايتي "من أوراق أبي الطيب المتنبي" باعتبارها قصة قصيرة.. لكن اتساع القراءة في الفترة التاريخية وسع من "بانورامية" الصورة.. فتضاعفت الصفحات القليلة إلى مايزيد على المائة والخمسين صفحة..
وعموماً فأنا أكتفي برسم الملامح التي تهب الشخصية.. بلا ثرثرة.. ولا زيادات مقحمة.. أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية..وليس لمجرد تصوير الشخصية في ذاتها..وأحياناً وصف الكائنات قد يقتصر على تقديم الدلالة الاجتماعية أو النفسية.. أو يصبح رمزاً.. أو معادلاً لما يمور به داخل من الشخصية انفعالات.
@ قلت عن الصحافة: إنها تقتل موهبة الأديب إذا نسى نفسه وارتمى في أمواجها.
لماذا ـ إذن ـ كان اختيارك للعمل الصحفي؟
@ لأنه الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته.. وهمومه أيضاً.. وقد وجدت في حياتي الصحفية ـ أحياناًـ مايغري بكتابة عمل أدبي.. أقدمت على العمل الصحفي وفي خاطري مقولة "أرنست هيمنجواى":"إن العمل الصحفي لن يؤذي الكاتب إذا استطاع أن يتخلص منه في الوقت المناسب". .. لقد عاهدت نفسي مثلما فعل "كالدويل" على أن أي عمل أشتغل به غير الكتابة، سوف يكون مؤقتاً.. لا لشيء إلاَّ من أجل الاستمرار في العيش.. والاحتفاظ بسقف فوق رأسى.. وبكساء فوق جسدي!!
@ في مؤلفك "آباء الستينيات" تقول إنك حظيت بشرف البنوة والصداقة لجيل الأربعينيات، أما جيل الخمسينيات فلم يتح لك أن تكتسب صداقة كل أفراده.. مزيداً من إلقاء الضوء حول هذه المعادلة التي قد تبدو غريبة بعض الشيء؟
@ نعم.. أنا أدين بالفضل لجيل الأربعينيات.. بالرغم من أني أنتمى لجيل الستينيات لأن الجيل الذي سبقني.. جيل الخمسينيات.. جيل يوسف إدريس وعبداللَّه الطوخى وصالح مرسي وصبري موسى وفتحي غانم وغيرهم.. كانوا جيلاً مشغولاً بأنفسهم.. ولهم العذر.. كانوا يريدون أن يحققوا ذواتهم في ظل شخصية خطيرة اسمها يوسف إدريس.. كانوا يبغون مكاناً إلى جواره.. هذا الجيل لم يتح لي أن أكتسب صداقات كل أبنائه.. وإن نشأت بيني وبين غالبيتهم صداقات أعتز بها.. قد يكون السبب انشغال من استعصت صداقاتهم بتأكيد الذات.. برفع أيديهم إلى أعلى.. ليأخذ بها من هم فوق.. لا يخفضونها إلى أسفل ليساعدوا من يعانون خفوت الصوت..إنما جيل الأربعينيات كان جيلاً مستقراً.. حققوا ذواتهم.. فلم يعد من المرهق عندهم أن يمدوا أيديهم لي ولغيري.. وهذا الذي وجدته من "السحار" و"نجيب محفوظ" و"عبدالحليم عبدالله" و"علي أحمد باكثير" و"إبراهيم المصري" و"المازني" وغيرهم.. أنا أعتبرهم ـ فعلاً ـ آبائي الحقيقيين.. كانو يشعروننا بأهميتنا.. يقرأون أعمالنا ويقيمونها.. أحاول الآن أن أقوم بهذا الدور استمراراً للدور الذي قاموا به نحوي.. الحقيقة أنهم كانوا جيلاً يحمل كل خصائص الأبوة.
@ أكدت بعض الدراسات السيكولوجية حول بعض الأدباء أمثال "الفريد دوفيني" أنه كان انطوائياً، ولقد كتب عن نفسه يقول: "إنني في حديث مع نفسي لا ينقطع".. هل ترى أن المبدع لابد أن يكون انطوائياً كي يبدع؟
@ باختصار أقول لك إن الطفولة تركت بصماتها على سلوكياتي فيما بعد.. كميلى الشديد إلى الجلوس في البيت..ففي طفولتي اعتدتُ أن أظل فيه ولا أبرحه إلاَّ حينما أذهب إلى المدرسة.. فلم أمارس طفولتي.. هل تتصور أنني اسكندري ولم أنزل البحرـ مع أني كتبتُ عنه ؟ كل الذي فعلته أنني خضت في المياه حتى ركبتيَّ ولكنني لم أعم!!..
أذكر أنني قدت السيارة قبل أن أقود الدراجة!!.. كانت الدراجة هي الكتاب.. وبحري هو الكتابة.. لذلك فأنا لا ألتقي بالآخرين إلاَّ لضرورة.. ولا أتردد على المقاهي وأماكن التجمعات بما يُعجل بنفاد مخزون التجارب التي تصلح كياناً لأعمالي.. وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جواباً مقنعاً.. ومع تأكيدى على أهمية التجربة.. فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل "فلوبير" حين أراد التعبير عن انتحار "مدام بوفارى".. ليرى مدى تأثير الزرنيخ في النفس والجسد!!
@ جائزة نوبل في الأدب هي الباب الملكي لتخطي المحلية والعبور نحو آفاق العالمية.. ما تعليق الروائي محمد جبريل؟
@ أولاً أنا لستُ ضد جائزة نوبل.. وإن جاءتني فلن أرفضها.. وهي بالطبع لن تأتيني!! ثم أنا ضد أن أعتبر الجوائز غاية المراد من ربّ العِباد.. هناك أدباء عظام لم يفوزوا بجائزة نوبل.."جراهام جرين" مات ولم يأخذها ولم يقلل هذا من قدرته.. "ألبرتو مورافيا" وغيرهما.. جائزة نوبل لا أعتبرها الصنم أو حائط المبكى.. لا أقلل من قيمتها ولكنها في النهاية جائزة غربية نالها من اليهود سبعة على الأقل.. وكان منهم يهودي يكتب أدبه بلغةٍ يقرأها ألفا شخص!! بمن فيهم من أطفالٍ وشيوخ.. وعلى افتراض أنه ليس من بينهم أمي واحد!! أنت بالقطع تدرى أن هذه الجائزة لا تخلو من أمور سياسية.. فعندما يأخذها "مناحم بيجن" في السلام.. يكون هذا بالفعل قمة المأساة !! هناك الآلاف ممَّن يدفعون أرواحهم دفاعاً عن السلام ولا أحد يسأل عنهم.. دعني أقول.. إن الأديب الجيد هو أديب جيد في كل الأحوال.
@ ظهرت على الساحة الأدبية بعض القصص والروايات الغارقة في الغموض والرمزية المكثفة.. هل هذه الأساليب تشكل جدوى في تقدم الرواية أو القصص؟ أم ذلك من الأمور التي تدعو لها حركة الحداثة؟
@ دعني أختصر لك المسألة بدلاً من أن نخوض في تيارات ودوامات وأقول إنه يكفيني في العمل الفني أن أشعر أن كاتبه يحمل الصدق.. الصدق الفني.. أُحس أن هذا العمل هو عمل فني بالفعل.. (الفن إضمار).. هذه ليست مقولة من ابتكارى.. والعمل الفني لابد أن يكون به نوع من الإضمار والغموض.. التراث القصصى الروائي مضى عليه بالنسبة لأوربا ثلاثة قرون.. ومضى عليه بالنسبة لنا ما يقرب من القرن.. أصبح لدينا تراثاً ضخماً.. لم يعد هناك "المنفلوطي" الذي يعطي الهدف من القصة في النهاية.. كانت القصة عند "موباسان" على سبيل المثال، قصة ذات نهاية واضحة ومحددة.. تلك التي أسماها الدكتور "رشاد رشدي" لحظة التنوير.. بمعنى لحظة إعطاء الدلالة الواضحة: البداية والذروة ولحظة التنوير.. حتى جاء "تشيكوف" هذا العبقري فترك النهاية مفتوحة.. أي أن القصة يمكن أن تحتمل عشرات الدلالات.. أمَّا من يتعمدون الغموض فهو يرحع ـ بالتأكيد ـ إلى عجزٍ صارخ في مواهبهم الإبداعية.
@ القدس تمثل دفقة وجدانية خاصة لدى كل إنسان عربي، الآن تتضح خيوط المؤامرة.. تعنت إسرائيلي لاحتلال المدينة المقدسة وحفظ تهويدها وتغيير معالمها.. هذا الموقف الحزين يخلق عدة تساؤلات.. الأدب العربي أين هو من هذا الواقع البشع؟
@ القدس لم تعد عربية!!.. المسجد الأقصى مُحاصر بمنازل ومستوطنات ومستعمرات ولا أحد يسكن فيها.. لأنها مستعمرات فاقت أعداد اليهود.. الآن المواطن الفلسطيني الذي يقيم في القدس ليس مواطناً.. وإنما هو مجرَّد مُقيم يأخذ إذن إقامة.. وإذا خرج من القدس لمدة ستة أشهر مثلاً يحتاج إلى تجديد في إذن الإقامة.. مازال اليهود سائرين في مخططاتهم.. ونحن لا نملك حتى رد الفعل.. لا سبيل أمامنا سوى أن نفيق.. بيننا وبين اليهود معركة تحدٍ حضارية.. هؤلاء الناس يلعبون معنا لعبة الزمن.. كلما تتفاقم الأمور يقولون تعالوا ندخل في مفاوضات.. وعندما تهدأ الأمور يعودون ليفعلوا ما يشاءون وهكذا.. لو عدنا لعام 1948 تأمل ماذا أخذنا؟ وماذا هم أخذوا؟.. أنا لا أنادى بحرب.. إنما أنا أنادى بأنه لا بد أن نتقدم مدنياً وحضارياً.. انظر لليابان عندما تقدمت مدنياً وحضارياً أصبحت تأخذ ماتشاء.. الآن هي مطلوبة أن تدخل مجلس الأمن كعضوٍ دائم.. نحن كعرب نملك مقومات التقدم لو أننا أدركنا ذلك.. الشعب العربي يمتلك مقومات يستطيع بها أن يُغيِّر مسار جغرافية المنطقة تماماً.. انظر ماذا فعل "صدام حسين" عندما أعطاه اللَّه بعض القوة.. بدلاً من أن يهاجم إسرائيل.. هاجم الكويت الشقيق!! سذاجات.. نحن لسنا قطع شطرنج.. لابد أن يكون لنا إرادة.. العالم اليوم لايعترف إلاَّ بمنطق القوي.. ومنطق الفعل.. أمَّا منطق ردود الأفعال الساذجة هذه.. فيجب أن تنتهي.
@ بماذا يرى الروائي محمد جبريل واقع القصة والرواية في مصر والعالم العربي!؟
@ بالتأكيد هو واقع متفوق.. توجد كثرة سيئة.. ولكن يوجد في المقابل كثرة جيدة.. كعادة الأمور دائماً.. لكن نحن بالقياس إلى الآداب العالمية أؤكد أننا قفزنا قفزات رائعة.. على الرغم من مصادرة الآخر لنا ـ أمريكا وأوربا ـ فهم لا يزالوا يتعاملون معنا كأننا تراث.. أو كأننا استشراق!!
@ هل يقترن إبداعكم بنوع من الطقوسية؟ أم يقترن بنوعٍ من السلوكيات التي تنشأ بفعل العادة والممارسة؟
@ أنا ليس لديّ طقوس على الإطلاق.. الصحافة علمتني أن أكتب في أي وقت وأكتب في أي مناخ فلا موسيقى هادئة ولا جو وردي.. باختصار شديد أنا غالباً في بيتي.. أخرج أياماً قليلة جداً.. وأنا شديد التنظيم فأوقاتي موزعة ما بين القراءة والكتابة. حاولت أن تكون لي عادات مصاحبة للكتابة مثل احتساء القهوة والتحكم في مساحات الضوء فلم أوفق.. تكفينى المعادلة السهلة: فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم.. لايشغلني بعد ذلك أي شيء.
................................................
* مجلة "الحرس الوطني" العدد (221) ـ في 1/11/2000م.
*الرابط: http://www.ngm.gov.sa/Detail.asp?InNewsItemID=10834

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 02:23 AM
هذه اللحظات العادية

بقلم: محمد جبريل
......................

إذا كانت القصة القصيرة الجيدة -فى تقدير يحيى حقى- هى ذات البداية المحذوفة، فإن القصة القصيرة -فى تقدير تشيكوف- هى التى تحذف منها البداية والنهاية، فلا يبقى إلا الوسط، الذى ينبغى تركه باعتباره قصة قصيرة..
ولعل السمة الأهم فى هذه المجموعة القصصية -الثالثة- لوائل وجدى، هى الإيجاز والتكثيف، فصفحاتها تتراوح بين أقل من صفحة إلى ثلاث صفحات، وتبين عن العديد من الملامح والقسمات التى تشكل -فى مجموعها- عاملاً إبداعياً يشغله التخلّق فى صورته الصحيحة. الفنان يلتقط اللحظة العادية جداً، البسيطة جداً، يعبرها القارئ فلا تستوقفه. هى لحظات من حياتنا اليومية، لكنه يجيد التقاطها، فتصبح فى قلمه كالمقتطع فى ريشة الفنان التشكيلى، أو الزوم فى عدسة المصور الفوتوغرافى، يهب لنا كل ما تشتمل عليه من ملامح وتفصيلات دقيقة، فتسرى فيها حياة جديدة، متجددة.
صورة نراها، فنعبرها، لا تستوقفنا، ولا تثير فينا التأمل، لكنها تختلف -فى تناول الفنان- عن تلك الصورة التى اعتدناها فى حياتنا العادية. إنها ليست مجرد لحظة استاتيكية، لحظة متكررة، لكنها تختلف -من خلال التناول- عن بقية اللحظات فى حياة ضخصياتها، وفى حياتنا بعامة.
***
لعلى أوافق جوته على أن كل كاتب يصور بعضاً من سيرته الذاتية فى أعماله، حتى ولو لم يكن يقصد ذلك. وغالبية قصـص هـذه المجموعـة تبدو كأنها تجربة شخصية للفنان -وربما لا تكون كذلك- فهى تتناول تلك المرحلة من العمر التى تتحدد فيها النظرة إلى الأمور بين الطموح والتطلع والتجاوز، ثم يفرض الإحباط نفسه عندما يبين الواقع عن ملامحه القاسية. الظروف المادية والاجتماعية التى تئد ما تحمله النفس من آمال. عناء الوظيفة يبين عن نفسه فى بحث المحامى عن المحكمة التأديبية، ليفاجأ بعد دخوله أن موعد قضيته فى "الرول" المسائى. ويتجول المحامى/ الراوى حول المكان، ويمتد الوقت دون أن يحل موعد نظر القضية..
ولعلنا ننسب إلى حياة الوظيفة قصة "الدوائر المستحيلة".. الدوامات المتلاحقة، المتمثلة فى طلبات الزوجة والأولاد وأعباء الحياة، وقيود الوظيفة، دوائر مستحيلة لا تنتهى.
وثمة مشكلة البطالة التى تتناولها قصة "بصيص" من خلال معاناة شاب حديث التخرج، أعد مسوغات تعيينه، وحشر جسده فى زحام ركاب الأتوبيس، حتى وصل إلى موقع الشركة التى طلبت موظفين. وراعه مئات الشباب يقفون أمام الباب، وعلى السلم. ثم فاجأه قول الرجل: أخذنا طلبات كثيرة، تزيد على الثلاثمائة، سنختار منها أربعة فقط !.. وبعفوية أخرج مسوغات التعيين من الحقيبة ومزقها. ورغم النهاية الاحتجاجية للقصة، فإنه مما يحسب للكاتب أنه اكتفى بتصوير الفعل دون أن يقرنه بتعليق، أو بفرض صوت الكاتب.
***
وإذا كان الانشغال بقضايانا السياسية ملمح واضح فى إبداعات الشباب، فإن وائل وجدى يعبر عن هذا الانشغال فى مجموعته. قصة "تباشير" التى يهديها الفنان إلى الانتفاضة الفلسطينية، تبين عن وعى سياسى، يبشر بصرخة الوليد فى لحظة الشهادة، وأصابعه قابضة على الجمر، فالانتفاضة هى الرد على العدوان، والأمل، وصياغة المستقبل. والانتفاضة هى محور قصة "طفل". الطفل الذى ظل يضرب جنود الصهاينة بالحجارة، فلا يهدأ إلا بعد أن يسكن جسده بتأثير رصاصة قاتلة. الرصاصة مقابلاً لقطعة الحجر. وقصة "فداء" عن الفتاة الصغيرة التى أرادت أن تنتقم لاستشهاد أعزائها، فتعلمت فنون القتال حتى أتقنتها، ثم أقدمت على عملية انتحارية صدمت فيها بسيارة محملة بالمتفجرات سيارة عسكرية للعدو، وتناثرت أشلاء الجسد الصغير على أرض الوطن إعلاناً للثأر، وللشهادة.
والحق أن الوعى بالقضية الفلسطينية، بالصراع العربى الصهيونى، سمة تلف الكثير من إبداعات الشباب. وهى ظاهرة لافتة ومهمة، فالإبداع -فى المحصلة النهائية- تعبير عن بشر ومجتمع وقضية، ليس الإبداع تجديفاً فى المطلق، لكنه يلتحم ببيئته بصدق، بالقضايا التى تحاصره ويعانيها، ويعبر عن ذلك بالصدق نفسه، شريطة أن يدرك الفنان مقومات الإبداع الفنى إطلاقاً، وأن تكون الهموم التى يتناولها -على نحو أو آخر- هى هموم الإنسان فى كل مكان. وكما يقول تشومسكى فإن الأدب سيظل قادراً إلى النهاية على تقديم معطيات تهبنا -بعمق- ما نسميه الشخصية الإنسانية بكل تناقضاتها، ربما بصورة أفضل مما يسمح العلم المجرد بتقديمه..
***
الحلم بالمجاوزة، والتخلص من قسوة الواقع، وملامسة الدفء الإنسانى، أبعاد واضحة فى العديد من قصص المجموعة..
قصة "انفجار" تذكرنا بقصة نجيب محفوظ "المسطول والقنبلة" -الأمر نفسه طالعنا فى قصة لكاتب آخر سبق لى تقديمها فى هذه السلسلة-. الراوى الذى يستغرقه الإحساس بأنه قد ثأر لكرامته ممن يحاول أذيته. ثم يكتشف -عند الصحو- أن ما عاشه لم يكن سوى حلم، هو الحلم نفسه -وإن اختلفت الظروف- مع رجل نجيب محفوظ الذى فوجئ بأن الشرطة بدّلت معاملتها له. ثم افاق على صفعة تنبه بها إلى أن الأمر لم يكن سوى حلم يقظة، أو لحظات استغراق فى غيبوبة المخدرات..
أما قصة "الهدية" فتنبض بلحظات إنسانية، تبين فيها المشاعر عن الود والحميمية.
وأما "النجم المسافر" فهى مرثية سردية للشاعر عبد الله السيد شرف الذى كان وائل وجدى من أخلص تلاميذه وأصدقائه.. وهو ما ينبض به كذلك ما كتبه الفنان باسم "رحيل"..
ونحن نتعرف فى قصة "دبيب الروح مرة أخرى" إلى معاناة من نوع آخر: رحلة الأديب الشاب بين وسائل النشر المختلفة، بحثاً عن كوة ينفذ منها إبداعه. وحين يحاصره اليأس يطبع ما كتب على نفقته، ويجد العزاء فى تصرف طفولى، لكنه يدين المأساة التى تحياها أجيال المبدعين الشباب، وربما الكبار أيضاً، فهى أزمة يعانى تأثيراتها الجميع..
وقصة "لقاء" تدين بعض الكبار فى حياتنا الثقافية حين يكتفون بإبداء النصيحة دون أن يعنوا بالقراءة. يتحدثون عن خصائص فن القصة، وصعوبة كتابتها، دون أن تشى آراؤهم أنها صدرت عن قراءة متأملة، بل إن الأديب الكبير يقرر فى بساطة: لم أستطع أن أقرأ أعمالك القصصية !..
***
والحنين سمة واضحة فى العديد من قصص المجموعة، حنين إلى الزمان والمكان والطفولة ومواطن النشأة..
الطفولة فى "رائحة الأيام" استرجاعية، بمعنى أنها تعتمد على الحنين والتذكر. ترفض الظلال والمناطق الداكنة، وتحرص على ألوان الطيف. فى لحظات مكثفة كضربات الفرشاة، يصور الفنان الحنين إلى الموطن والطفولة والنشأة. يبحث عن الأمس، عن الزمان الذى مهما كان مراً -على حد تعبير يحيى حقى- فهو حلو. الخضرة المفروشة فى امتداد الأفق، والترعة، وجنى القطن، ولعب السيجا، والكوخ الصغير، والكوبرى الخشبى الواصل بين المركز والقرية.. ذلك كله تغيّر، أو تغيّر الإحساس به، غابت عنه بكارة -أو طزاجة- الزمن الجميل. ولعلنى أجد نهاية القصة فى قول الراوى:"أحرك رأسى يمنة ويسرة، لعلى أجد المفقود". السطر التالية زيادة لا مبرر لها..
وفى قصة "تحد" نتعرف إلى لاعب الكرة الذى يحن إلى اللعبة التى أجادها، وحقق فيها مكانته. فلما أصيب فى ساقيه اكتفى بالجلوس على الكرسى المتحرك، واستعادة الذكريات..
ويعلو إيقاع الحنين فى وقفة الراوى أمام مدرسته الابتدائية: البوابة الخضراء، والفناء الذى امتلأ بالبنايات الخرسانية، والنخلة السامقة، والبواب ذى البسمة الودود (قصة: ساعات).
أما قصة "النجم المسافر"، فيهديها الكاتب إلى روح الشاعر الراحل عبد الله السيد شرف. تحكى عن مراسلات الأيام الأخيرة بينه وبين عبد الله شرف. كان ينتظر آخر قصائده، لكن الجريدة طالعته بنبأ رحيله، وعاد من سرادق العزاء إلى بيته ليجد الرسالة التى ينتظرها وبها القصيدة. ولعل الكلمات المسماة "رحيل" تتمة رثائية لذلك الحدث، فهى أقرب إلى الرثاء السردى للشاعر الذى رحل..
***
أما الجزء الثالث من قصص هذه المجموعة، فهو ومضات فلاشية، أو تبقيعات نثرية، كما فى لوحات الفن التشكيلى، أو مد الموج، كما اخترت التسمية عنواناً لرواية لى..
ثمة -على سبيل المثال- لحظات الطفولة. لا يحول المدى دون رؤية العصافير فوق الجميزة الهائلة، لا ينشغل الولد بالطين الذى يغرق ثيابه فى نزوله إلى الترعة بحثاً عن السمكة. وثمة لحظات الخطر التى تتخلق فيها اللحظات الإيمانية التى تحمل الخلاص لكل ما قد يواجهه المرء من أخطار. بضعة أسطر تومئ، وتثير التأمل. ربما يكتفى القارئ بالدفقة الشعورية التى لا تهب معنى محدداً، وربما أجهده البحث عن دلالة، مع ملاحظة أن البحث عن تفسير للعمل الإبداعى يختلف عن البحث عن دلالة. الفن إضمار، لكنه أبعد ما يكون عن المعادلات التى تطلب تفسيراً رياضياً يغيب فى أفقه إضمار الفن، ودلالاته بالتالى..
***
اللافت أن الفنان قد أفاد فى قصصه من الوسائط الأدبية المختلفة، مثل التداعى والاسترجاع والتقطيع والكولاج والمونولوج إلخ..
قصة "رؤى" تثير قضية الفرق بين الإضمار الذى ينبغى أن يكون سمة للفن وبين الغموض الذى ربما حوّل العمل الفنى إلى لغز، معادلة تطلب الحل: ما يفكر فيها الرجل، تعمر بها البلد. وهو يسأل زوجه: ألم تشاهدينها ؟.. تجيب بالسؤال: أمازلت تذكرها ؟.. ويصحو من نوم القيلولة على جلبة، ويطل من خصاص النافذة. يرى الناس يشاهدونها، والجنود يمنعونهم من الاقتراب منها. وينهى الفنان قصته فى الصبح حين يمد الرجل رأسه، يرقبها -ما هى ؟!- فيراها تتسع وتتسع. وأكرر السؤال: ما هى؟.. وأكرر طرح قضية الإضمار فى العمل الفنى. إن المواربة هى الفن. ينبغى ألا يتسلم القارئ بضاعته جاهزة تماماً، إنما عليه أن يشارك فى تصور ماذا ستكون عليه النهاية. كذلك فإنه لابد من هامش يفصل بين الحقيقة والرمز. الوضوح الحاسم يسم العمل الفنى بالتقريرية والمباشرة. الفن ليس هو الواقع، لكنه الإيهام بالواقع. إذا وضع الفنان قارئه فى اعتباره مطلقاً، واجتهد فى التفسير والشرح، فهو يلغى ذكاءه. قيل إن الرمز هو "كل ما يحل محل شئ آخر فى الدلالة عليه، لا بطريق المطابقة التامة، وإنمابالإيحاء، أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها". والرمز يستمد قيمته أو معناه من الناس الذين يستخدمونه، أى أن المجتمع هو الذى يضفى على الرمز معناه. بل إن الرمز يختلف عن التجريد فى أنه يحتفظ للإنسان بإنسانيته. يظل جسداً من لحم ودم وأعصاب، فضلاً عما يمور داخل ذلك الجسد من مشاعر متباينة وذكريات وتطلعات وأمانى وأحلام، وإن كان من البدهى ألا نذهب بعيداً فى الرمز. فالرمز -كما يقول كاتب ياسين بحق- سريع العطب، ويجب ألا نجعله حقيقة نهائية مطلقة، لأنه عند ذلك ينتفى وجود الرمز..
وكنت أرجو أن يحذف وائل وجدى السطر الأخير فى قصته "تحد" فهو أقرب إلى سيناريو فيلم عربى تغلف بالميلودرامية. أذكرك بما نقلته عن حقى وتشيكوف فى بداية هذه الكلمات. التراث القصصى العربى -والعالمى- يفرض على الكاتب أن يحترم ذكاء المتلقى، فلا يضيف من عندياته ما يتصور أنه يضع نهاية -مطلوبة- للعمل الإبداعى.
ومن الواضح أن وائل وجدى يعى خصائص القصة القصيرة جيداً. غنها تقدم مشهداً، أو موقفاً إنسانياً، ينقل من خلاله فكرة أو عاطفة مكثفة، تحتل حيزاً ضيقاً، وتستغرق فترة زمنية محدودة. وإذا كان من المطلوب للروائى أن يحذف الحشو والاستطراد والإطناب، فإنه يجب على كاتب القصة أن يفعل ذلك. القصة الجيدة هى التى إذا حذفت كلمة منها، فإن موضعها فى الجملة يظل شاغراً أمام المتلقى، فضلاً عن أنه من التخلف المطلق -والكلام لبريخت- "أن يزعم احد أنه ليس هناك أهمية للشكل، أو لتطور الشكل فى مجال الفن. فبغير إدخال تجديدات شكلية لا يمكن للأدب أن يقدم موضوعات جديدة، أو وجهة نظر جديدة إلى الفئات الجديدة من الجمهور. لكن الإسراف فى الاجتهاد ربما يعطى نتائج مغايرة. وقد أسرف الفنان -أحياناً- فى صياغة عباراته الحوارية، فتكلف، وتبدت الصنعة بما لا يحتمله حوار فنى. كما وضع الكاتب على ألسنة الشخصيات -أحياناً- ما لا يتصور أنه يصدر عنها، فى مرحلتها السنية، أو فى مستواها الثقافى أو الاجتماعى. إن الحوار المحمل بالصدق الفنى هو الذى يتكلم بالأصوات الداخلية للشخصيات، وليس بصوت الفنان. وهو -فى كل الأحوال صوت واحد، يعبّر عن ثقافة محددة، ومزاج نفسى خاص. وإذا كان السرد هو التعبير عن الراوى العليم، أو الراوى الشخصية، فإن الحوار هو التعبير عن اختلاف بيئات الشخصيات وثقافتها ونزعاتها..
حين نهتم بالكتابة، فلابد من وجود شئ ما نكتبه، فضلاً عن ضرورة أن نمتلك حصيلة لغوية تعيننا على التعبير. وكما يقول ميشيل بوتور فإن "الذى يحسن فن الكتابة هو من يحسن استخدام لغته، فيعطى للكلمات قيمتها الحقيقة، وهو الذى يمتلك ناصية اللغة، فيحيى بأفكاره كل كلمة من كلماته، وكل مجموعة من عباراته" (ت:فريد أنطونيوس). وعلى الرغم من المحاولة المخلصة للفنان فى أن يهب قصصه عفوية فى السرد، فإن تلك العفوية تصطدم -فى بعض المواقف- بما يشبه عازلاً غير مرئى، يفصل بينها وبين التلقى والاستجابة وتوقد الحميمية، ربما لأن الفنان يعى مقولته جيداً، يعى البداية والنهاية والتكنيك والألوان والظلال والإيماءات والمعانى. بدا -أحياناً- كمن يقبض على عنق قصته، لا يتيح له أن تغنى بصوتها. وكلما كان العمل الفنى صوت نفسه، انبثاقاً من داخله وليس وليداً قسرياً بيد كاتبه، كان أقرب إلى العفوية، والوصول -بالعفوية نفسها- إلى وجدان المتلقى. أظلم وائل وجدى لو قلت إن هذه الملاحظة تشمل قصص المجموعة، لكنها تطالعنا فى العديد من الفقرات. ولعلى أصارحك بأنى أفضل أن تبين القصة عن ذاتها فى أثناء عملية الكتابة، تتشكل ملامحها وقسماتها، وآراء شخصياتها، وموقفهم من الحياة. أما الشكل فهو يصدر عن التجربة نفسها. وكما يقول مادوكس، فإن الشكل لا يجسد التجربة، ويضفى عليها الطابع الموضوعى فحسب، بل يقوم أيضاً بوظيفة أخرى أكثر أهمية، وهى وظيفة تقييم التجربة التى يعرض لها الكاتب تقييماً صحيحاً، وإسباغ مستويات من المعنى عليها (ت:لطيفة الزيات). ومن هنا يأتى معنى القول إن المضمون والشكل أشبه بالخيط والإبرة!
***
هذه الملاحظات القليلة لا تقلل من تقديرى لهذه المجموعة. وفى الوقت نفسه، فإنه إذا كان الفهم والتفهم ومحاولة التجاوز سهلاً فى البداية، فإن "التقويم" -فى مراحل تالية- قد يكرر مأساة الشجرة التى حاول صاحبها أن يقومها، بعد ان فقدت ليونة التنشئة، ورسخت جذورها.

عامر العظم
10/12/2006, 02:28 AM
الأخ الشاعر الدكتور حسين علي أحمد،
تحية عربية طيبة وبعد،
أرحب بك في جمعيتك العزيزة وأشكرك على تعريف أعضاء الجمعية بالروائي الكبير محمد جبريل الذي يستحق التكريم.
أكون شاكرا لك إن تفضلت بإرسال بريده الإلكتروني وصورته إن أمكن إلى البريد التالي:
watagroup@yahoo.com

ونرحب بأية ترشيحات من قبلك بالسرعة القصوى وأهلا بك عزيزاً،

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:24 PM
اليهود بين الأنفوشي والجماليَّة
في قصص محمد جبريل

بقلم : أحمد فضل شبلول
ـــــــــ

يدعونا محمد جبريل في مجموعته القصصية "حارة اليهود" الصادرة عن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة في سبتمبر 1999، إلى التسلح بالوعي واليقظة والحذر، وإلى المقاومة وعدم الاستسلام، فاليهود يتربصون بنا، يتسللون من بين سكوتنا وخلافاتنا، ينتظرون اللحظة الحاسمة للانقضاض على الوطن والتهامه.
وفي سبيل ذلك يتوسل الكاتب بوسائل فنية عدة، من أهمها استخدام الرمز الشفيف، مثل السمانة في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي". وهذه القصة على الرغم من قصرها فإنها تحمل معظم خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل، والتي من أهمها: 1 ـ الجملة التلغرافية أو الجملة القصيرة السريعة الموحية. 2 ـ الوصف، وخاصة وصف البيئة السكندرية، واستخدام مفرداتها الحياتية، ومفردات الطبيعة فيها. 3 ـ التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي. 4 ـ توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة.
ولنتأمل هاتين الجملتين على سبيل المثال: الصاري المرتفع الخالي من العلم، اكتفت (مجموعات السمان) بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها.
إن الصاري الخالي من العلم يدل دلالة أكيدة على ضياع الهوية. لقد وجدت السمانة أناسا بلا هوية، وبلا زمان محدد أيضا، فوجود العلم فوق سراي رأس التين، ربما كان يسهم في تحديد الفترة الزمنية، وهل هي قبل قيام ثورة 1952 حيث العلم المصري الأخضر يتوسطه الهلال الأبيض أيام الملكية، أم بعد قيام الثورة حيث تغير شكل العلم إلى ثلاثة ألوان: الأحمر والأبيض والأسود.
ويبدو أن الزمن لا يشكل أهمية كبرى بالنسبة للسمانة التي جاءت تستطلع المكان، ونفوس البشر، وتختبر عنصر المقاومة لديهم. وقد وجدت السمانة الفرصة مهيأة تماما لاستيطان قومها هذا المكان. فالمباني تآكلت ـ أي لم يعد لديها القدرة على المقاومة، إنها ستنهار مع أول صرخة ريح. والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال، دلالة إما على تعطل أصحابها عن العمل، أو انتهائهم من عملهم وانصرافهم إلى لهوهم ومتعهم. والوقت خريف حيث يخلو الشاطئ أو طريق الكورنيش ـ عادة ـ من المارة بعد انقضاء فصل الصيف وعودة المصطافين ـ والمستفيدين من وجودهم ـ إلى سابق أعمالهم، وتصبح المدينة خالية إلا من أهلها.
إن المكان السكندري، وهو رمز للمكان المصري بعامة ـ له وجوده الحي الملائم لهذه السمانة الرمز أيضا. فمحمد جبريل يحمل في وعيه هذا المكان ليس باعتباره الإسكندرية التي يحبها ويوظفها في معظم أعماله الإبداعية، ولكن يوظف المكان ـ الرمز ـ هنا باعتباره المكان الذي دلف منه الرومان إلى مصر بعد انتصار أوكتافيوس أغسطس على أنطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم البحرية سنة 31 ق.م، فكان احتلال الإسكندرية ثم مصر عام 30 ق.م، وهو المكان الذي دخل منه الفرنسيون في حملتهم على مصر في أول يوليه عام 1798، وهو أيضا المكان الذي دخل منه الإنجليز عام 1882.
لم يغب هذا التاريخ عن وعي السمانة، ولا عن وعي الكاتب التاريخي، لذا اختاره ليكون موقع الهجوم القادم لأسراب السمان التي جاءت من أوربا ـ مثلها مثل الغزاة السابقين ـ والتي غطت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت، والشقق والدكاكين، حتى الكبائن المغلقة.
إن هذا الهجوم والاستيطان سيكون نقطة انطلاق الكاتب إلى قصة أخرى هي "حارة اليهود" التي حملت المجموعة اسمها، حيث نجمة داود المتداخلة في الأبواب والشرفات، مما يدل على دقة التنظيم والانتشار والنظام وحب العمل والكسب التي أشار إليها المؤلف في القصة الأولى. وكأن القصة الثانية التي دارت أحداثها في القاهرة، تأتي مكملة للقصة الأولى، وكأن محمد جعلص بطل القصة الثانية "حارة اليهود" يحقق رغبات الناس ـ في القصة الأولى ـ الذين تبين لهم أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، فمحمد جعلص اكتوى بنار القروض والشيكات المؤجلة وبضائع الأمانة التي أغرقه فيها اليهود، ثم فجأة هطلوا عليه كالسيل دفعة واحدة يطالبون بأموالهم، فأفلسوه في يوم وليلة. لقد انتهز محمد جعلص فرصة ضرب أطفال اليهود لعلي الصغير، وطاح ـ هو ومن معه ـ في سكان حارة اليهود بالشوم والعصي والنبابيت والسكاكين والخناجر. ويأتي سؤال عبد العظيم هريدي في هذه القصة ذا مغزى ودلالة عميقة. فعندما يقول محمد جعلص بعد انتهاء المعركة: "علقة .. لن يعودوا بعدها إلى أذية الناس". يعلق هريدي بقوله: "هل تظن ذلك ؟". إن هذا التعليق أو التساؤل لم يزل في حاجة إلى إجابة، مثله في ذلك التساؤل الذي ورد في القصة الأولى: هل يعد السمان نفسه لإقامة طويلة؟. وهنا تبرز خصيصة من خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل تتمثل ـ كما سبق القول ـ في: التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي.
ولعل المدقق في القصتين سيجد موقفا غريبا، أشرنا إليه إشارة سريعة في السطور السابقة، ولكن تؤكده قصة "حارة اليهود" تأكيدا باهرا وهو موقف رجال الشرطة من الأحداث. فمن خلال محتوى رمزي يشير المؤلف في القصة الأولى إلى أن أسراب السمان المهاجرة إلى الإسكندرية اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها. ولم يشر المؤلف إلى أنه كانت هناك مقاومة من أي نوع، من جانب مأمور النقطة أو معاونيه، بل أنها أفرزت ـ من بين أسرابها ـ كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. وبالتأكيد كل هذا كان يتم تحت أعين رجال الشرطة في المنطقة. أما في القصة الثانية وبعد نجاح أسراب السمان في بناء حياتهم، وانتقال أحداث القص إلى القاهرة، فإن مأمور قسم الجمالية ـ صبحي أفندي منصور ـ لا يستطيع أن يفعل شيئا تجاههم، بل أنه أسرَّ إلى جعلص بأنهم يلقون عليه الوسخ من النوافذ وهو في بدلته الميري. ولنقتطع جزءا من الحوار الذي دار بين محمد جعلص والمأمور عندما ذهب جعلص يشكو للرجل ما حدث بين صغار اليهود وابنه علي:
(أذهله صبحي أفندي منصور، مأمور قسم الجمالية، عندما كلمه فيما حدث. أشار الرجل إلى كتفه، وقال في أسى واضح:
ـ ماذا تقول في إلقائهم الوسخ من نافذة، على مأمور القسم؟
غالب الدهشة: ـ كيف ؟
قال المأمور: كنت أختصر الطريق من الموسكي إلى القسم ..
(جعلص) في عدم تصديق: ربما لم يعرفوا من أنت؟
قال المأمور: والبدلة الميري ؟
ـ لعل الوسخ ألقي عفوا أو خطأ ؟
ـ والضحكات التالية لما حدث من المطلين في النوافذ والجالسين أمام الدكاكين ؟
(جعلص) وهو يضرب جبهته بقبضة يده: هذه مصيبة !
دلك المأمور بإصبعيه تحت أنفه: تكررت المصائب كثيرا في الفترة الأخيرة.
ـ هل تأذن لي في التصرف؟
قال الرجل وهو يعاني: أنا موظف رسمي .. أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات .. أما أنت .. وعلا صوته: تصرف يا جعلص.
ترى لو تنبه رجال نقطة الأنفوشي إلى وجود السمانة الأولى، وإلى خلو الصاري المرتفع بسراي رأس التين من العلم، هل كان الأمر يصل في الجمالية إلى ما وصل إليه، وأوردناه منذ قليل.
إن فشل مقاومة الحملة الفرنسية في الإسكندرية، أدى إلى دخول نابليون الأزهر بخيوله، وفشل مقاومة الإنجليز في الإسكندرية، أدى إلى احتلال البلاد لمدة 72 عاما. وعدم طرد أول سمانة ألقت نظرتها المتأملة على مباني سراي رأس التين، شر طردة، أدى إلى إفلاس محمد جعلص (رمز المواطنين) ، وإهانة صبحي أفندي منصور مأمور قسم الجمالية (رمز السلطة المصرية) على هذا النحو الذي صوره محمد جبريل ببراعة في قصة "حارة اليهود".
وربما يعود السبب في عدم طرد أول سمانة ظهرت في الآفاق وحطت على الصاري المرتفع، إلى ما عرف علميا عن السمان، فهو ـ حسبما جاء بموسوعة الحيوان الإلكترونية / قسم الطيور ـ طائر نادرا ما يراه الناس، وتشبه الأنثى الذكر في الحجم، ويفضل عند الفرار أن يجري وسط المزارع أكثر من الطيران، ويطير لمسافات طويلة جدا أثناء الهجرة، ويعيش في أوربا وآسيا، ويهاجر شتاءً إلى منطقة البحر المتوسط وأفريقيا، ويوجد غالبا في المناطق العشبية والحقول.
هنا تبرز خصيصة أخرى من خصائص فن القص عند محمد جبريل، سبق أن ألمحنا إليها، وهي: توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة. ومن خلال المعلومات العلمية السابقة عن طائر السمان، نجد أن جبريل يبدأ قصته "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" بقوله: "بعد أن استقرت السمانة فوق الصاري"، وهنا يتحدث عن طائر السمان بأسلوب المؤنث، حيث لا يوجد فرق كبير بين الأنثى والذكر، وخاصة في الحجم، ولأن الصاري مرتفع فلم يبن على وجه اليقين أهو ذكر أم أنثى، وهو من خلال هذا العلو الشاهق لم يتبين منطقة الحنجرة التي تكون في الأنثى وردية اللون، ولعل استخدام الأنثى كمستطلعة في بداية القصة ثم مرشدة، يشير إلى أسلوب من أشهر أساليب اليهود في استخدام أو استعمال الأنثى أو المرأة في تعاملاتهم الحياتية (ومنها الدعارة على سبيل المثال). ثم إن هذه السمانة ألقت نظرة على الحديقة الواسعة برأس التين، وهو ما يتفق علميا مع أماكن وجود السمان في المناطق العشبية والحقول. ثم تفضيله لمنطقة البحر المتوسط في الشتاء، وها نحن الآن ـ أي في زمن القصة ـ في فصل الخريف، والشتاء على الأبواب.
لقد نجح محمد جبريل في هاتين القصتين في تضفير الواقعي بالرمزي، وفي الانطلاق من الرمزي إلى الواقعي، أو العكس، وهو كذلك في معظم أعماله الإبداعية بحيث يكسب القصة العربية القصيرة طعما مميزا، ووعيا متجذرا بالذات والموضوع. فتتحول الذات المنفعلة (محمد جعلص على سبيل المثال) إلى موضوع يكسبه دلالة واقعية وتاريخية على مر العصور.
أحمد فضل شبلول
الإسكندرية 15/6/2000م

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:25 PM
رسام الضوء

شعر: د.حسن فتح الباب
ـــــــــــ
(إلى الصديق الكاتب الروائي الكبير محمد جبريل)

هذا الملاح الجواب الآفاق
لا يرسو فى مرفأ
ليس يقر على جبل
أو يسبح فى فلك واحد
يمضى العمر جموحا
كجواد أسطورى
أو طير مبهور بالضوء
فوق ضفاف الكلمة
الحرف لديه ينبوع لا ينضب
نغم من يتوهج
قلب يتهدج
يبحث عن سر مكنون
فى أعماق الكون.. النفس
الزمن الدوار
مسكونا بالحب الأول
عشق الأم
أول ما فتح العينين عليها
أم الدنيا
هى عالمه المفعم بالعشق وبالثورة
بالبهجة والحزن
بالحلم وبالمأساة
يكونها وتكونه
يتكتم حينا أوجاع القلب
وحينا ينثرها
فوق الأمكنة.. الأزمنة
يوزعها بين الأوجه والأسماء
أتراه لا يدرى
منذ تلظى بلهيب الوجد
أن الإمساك بغصن الوطن متاهة
ضرب فى المجهول ؟
أم يدرى أن الغصن شعاع
مخبوء فى ظلمات الأرض..
البحر.. الآفاق
وعليه أن يطلعه
لتكون الشمس.. تكون الشجرة
(من أوراق المتنبى)
و(رباعية بحرى)
حدث فى (أيام الأنفوشى)
حيث السمان يعشش سربا سربا
كالغربان السوداء
وملايين الأعين والأنفاس تراقبه
يحتل الدور ويغشى الشرفات
وعلى حين فجاءة
ينبثق الوعى الغائب:
أن الصمت عن الطير الواغل
يحفر درب الموت
ومقاومة الشبح الجاثم فوق الأنفاس
خير طريق للإنسان الصاعد
فى معراج الغد
أن يهوذا الأفاق
يتربص بالآتين
من أطفال النيل
من أبناء العرب الأحرار
أن الصمت عن الوحش الشبح جنون
ينسج جبريل (الطوفان)
بأنامل فنان ورعه
تلمس أعماق الجرح
عبر حكايات الأجداد
لتنير دروب العتمة
و(نبوءة عراف مجهول)
يرويها قصاص ملهم
(محفوظ) الستينيات
أو (ماركيز)
فى مصر المحروسة
قيثارة شعر من منثور الروح
يعزفها فتنة
ترياقا.. بوحا مشروعا
يعلن عن حاجته
أن يولد بين يديه
وأمام العينين
كى نتأمل.. بنصر ما يخفى
مرحى يا رسام الضوء
حرفك لون الفرحة
طعم الأيام الجهمه
والسنوات الخضر
شرف الإنسان المسكون
بالحب وبالثورة.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:27 PM
عن عالم محمد جبريل الروائي
قراءة في رواية "حكايات الفصول الأربعة"

بقلم: إدوار الخراط
ـــــــ
من العلامات الفارقة للكاتب الحقيقى الموهوب أن يكون له عالمه الخاص، أن تكون له رؤاه المتفردة لهذا العالم.
محمد جبريل كاتب حقيقى موهوب.
عالمه يقع فى اسكندرية الشمال الغربى، اسكندرية بحرى والأنفوشى والسيالة وراس التين وحلقة السمك، اسكندرية الصيادين والمراكبية، ليسوا فقط صيادى السمك، أو مراكبية البحر، هم أيضاً وربما أساساً صيادوا الأقدار المتقلبة، مراكبية الرحلات المضطربة، ساجية أو جياشة، عبر شواطئ العمر وعبر سنوات الغربة والحنين.
نصوصه دائما نقلة متصلة إلى "الشاطئ الآخر" (وذلك عنوان إحدى روياته الجميلة). لكن الشاطئ الآخر -كما أصبحنا نتوقع- ليس "جغرافياً" فحسب، هو شاطئ روحى آخر، أو شاطئ رؤى أخرى، تصل إليه -أو لا تصل- مراكب الحياة على المدّ والجزر، على القربى العائلية أو قربى المشارب والمنازع والأهواء، وتخوض إليه غمرات الخصومات والخلافات، أو تطفو على مويجات التراحم والحب المترقرقة.
ومن ثم فإن التيمات -أو الموضوعات الأساسية فى عمله الروائى- تيمة الموت مرتبطا بالشغف بالحياة، وموصولا بمتعاتها، ترقب الموت، وترصده، أو اللامبالاة بانقضاضه، تيمة تسرى فى سردية محمد جبريل، أو تستبطن هذه السردية، سافرة حينا ومضمرة حينا، ولكنها ماثلة باستمرار، تستدعى تيمة لصيقة بها، بل تكاد تكون مترادفة معها، هى تيمة الشيخوخة والوهن وتقاعس البدن المتهاوى الذى تحركه شهوات قديمة مؤرقة.
يقول بطل "حكايات الفصول الأربعة" بعد أن كتم ضحكة قصيرة: أشعر أنى شاب لكن حركة جسدى لا تساعدنى على هذا الشعور.
لعل موضوعة الشيخوخة، الموت التدريجى للقدرات نتيجة صراع الجسد ضد الموت الذى يؤذيه بالمجئ، مما يشغل الكاتب فى مجمل عمله الروائى وخاصة فى هذه الرواية، لعل فى عنوانها وحده "حكايات الفصول الأربعة" ما يشير إلى هذه الموضوعة، ليست تلك فقط فصول السنة الأربعة، بل هى أساسا فصول العمر الأربعة. ليست فقط فصولا تمر بها سنوات بطل أو شخص واحد فى غمار الرواية، بل هى أيضاً موزعة على شخوص الرواية بحذق وذكاء سردى ملحوظ، من ربيع الصبا، وعنفوان صيف العمر، إلى خريف التهاوى والإيذان بالسقوط، ومنه إلى الشتاء الموحش القاحل.
تقلبات هذه الفصول تدور فى اسكندرية محمد جبريل النصية التى تخايل بواقعية تكاد تشفى على الطبوغرافية الدقيقة، لكنها تجيش بحياة تتجاوز مجرد محاكاة الواقع الظاهرى، ذلك أن للكاتب ولعا مشبوبا بالأماكن، وأوصافها، وتحديدها، وابتعاث أجوائها: القهوة التجارية، قهوة فرنسا، مقهى ايليت أو التريانون، اتينيوس، فضلا عن معالم اسكندرية الشمال الغربى، وهو ولع يضفى على هذه الأماكن حياة كأنها مستمدة من حياة أبطال أو شخوص العمل الروائى - ولعلها من وهج الكاتب الروحية نفسها، وليس ذلك بالغريب عند معظم الروائيين الحقيقيين إذ تتناوب عندهم وتكاد تندمج أماكن الروح بأماكن الواقع، وهو عند محمد جبريل شغف يكاد أن يكون فيتيثسياً بتسمية الشوارع والمقاهى والجوامع والزوايا، ويكاد يقتصر على اسكندريته تلك، هى اسكندرية قريبة إلى حد ما من اسكندرية الراحل صالح مرسى، على اختلاف الرؤى والموضوعات بينهما اختلافا جذريا، ومختلفة أيضا جد الاختلاف عن اسكندريتى مثلا، اسكندرية الجنوب وراغب باشا وغيط العنب بالقرب من الملاحة وترعة المحمودية التى لا تأتى سيرتها قط فى عمله كله إن لم يخطئنى الحصر والتقصى، حتى لو كان للبحر حضور ماثل بل مسيطر فى كتابتى، وهى أيضا تختلف بالتأكيد عن كاتبٍ أراه من أكثر كتاب الإسكندرية موهبة هو حافظ رجب، إذ تقع اسكندريته الفانتازية فى سرة المدينة، محطة الرمل حيث يجرى الترام فى رأس الرجل وحيث يشغل اليونانيون مكانا روائيا لا يكاد يعرفه يونانيو محمد جبريل الذين لعلهم ينتمون إلى حقبة زمانية أحدث من الحقبة "الكوزموبوليتانية الشعبية" التى عاش فيها "الاجريج" عند حافظ رجب، هم قريبون بشكل ما من جريج قسطنطين كافافى.
ولا أحتاج أن أقول إن اسكندرية محمد جبريل أوقع وأقرب إلى صورة الإسكندرية البحرية المثلى من اسكندرية كاتب مثل إبراهيم عبد المجيد، التى تكاد تقتصر -من حيث الموقع المكانى، ومن ثم الموقع الروائى، على صحرائها الغربية المفضية إلى خط سكة حديد العلمين ومرسى مطروح، وهو الجانب "الصحراوى" الأصيل من جوانب الإسكندرية، لم يهتم به -فى حدود علمى- إلا كاتب اسكندرانى آخر هو أونجاريتى الإيطالى الذى عاش فى محرم بك حتى العشرين من عمره (لعلنى أيضا قد عنيت بهذا الجانب الصحراوى من الإسكندرية). ولعل محمد جبريل لم يعن كثيرا -أو إطلاقا- بهذا الجانب، فهل ثم معنى لاختياره "البحر" أى الانفتاح على الآخر، وعلى الشاطئ الآخر؟ أم أن إضفاء دلالة إثنوجرافية، وربما أيديولوجية على البحر باعتباره الأفق الشمالى المفتوح على العالم الأوربى وعلى "الرمال الصحراوية" باعتبارها المعنى البدوى المنبثق من الخصوصية العربية المغلقة على ذاتها، ربما،.. من الشطح التأويلى ما لعله ينأى به عن المصداقية؟
هذه على أى حال أسئلة خصيبة (فيما أظن) تثيرها رواية "حكايات الفصول الأربعة" من بين ما تثيره من أسئلة.
تيمة الشيخوخة والموت لا تضفى على عمل محمد جبريل كروائى قتامة أو جهمة عابسة؛ فى مفرداته ورؤاه قدر من الرشاقة والسلاسة ينأى بها عن التشاؤم أو العدمية، على العكس، فإن اهتمام الكاتب بالقضايا ذات الشأن العام، من قبيل المسائل والأحداث والآراء السياسية، أو المشكلات والمجادلات الدينية، يكسب عمله الروائى حيوية ومعاصرة وراهنية مشغولة بالهموم والشئون العامة.
إن أحد أبطاله يأخذ على المصريين أنهم "يمتلكون موهبة صنع الطغاة. يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومة من الخطأ، ومحصنين ضد الحساب حتى لو كان إلهيا، يفدونهم بالروح والدم، ويحسنون التغنى بمآثرهم والتطبيل لإنجازاتهم، ويحرقون البخور لذكراهم".
(وبالمناسبة، فإن المصريين لا يجعلون من الساسة والزعماء وحدهم طغاة أو أشباه آلهة، بل هم يحولون من يسمونهم الرموز فى الحياة الثقافية والعلمية أيضا إلى أشباه آلهة معصومين لا يجوز المساس بذواتهم العلية).
اهتمام النص عند محمد جبريل بالشئون العامة لا يقتصر على المسائل السياسية بل ينصب كذلك على المسائل الدينية: "الإسلام لا يعرف رجال دين. من جعلوا الدين مهنتهم. إنه يعرف العلماء والمجتهدين". قد يبدو هذا الاهتمام جانبيا، أو هامشيا، تتناوله حوارات عابرة، وأقدر أنه اهتمام أساسى، يأتى بحذق ملحوظ على هيئة إشارات سريعة فى الحوار أو فى السرد الروائى سواءً، ضربات خفيفة ولكنها نافذة، موجزة ولكنها قاطعة، فهذه هى -فى تقديرى- تقنية رئيسية فى عمله الروائى.
من الموضوعات التى يتناولها محمد جبريل مرة بعد مرة فى عمله الروائى موضوعة الفجوة بين الأجيال.
النزعة نحو الرحيل، ليس فقط من شاطئ إلى شاطئ آخر، ليس فقط من عالم إلى عالم آخر (من الإسكندرية إلى اليونان مثلا) بل هى أيضا وربما أساسا نزعة إلى الرحيل من جيل إلى جيل، ومن هموم مرحلة معينة من العمر إلى هموم مرحلة أخرى -تلك من حكايات الفصول الأربعة- هذه النزعة لا تتحقق فقط بركوب البحر، بل هو ركوب موج السنوات المضطرب المتلاطم.
***
لعل محمد جبريل من أبرع روائي ما بعد نجيب محفوظ، مع فرادة لغته ونعومة انسياب صياغاته، والصياغة بداهة لا تنفصل عن الرؤية ولا عن الموضوعة. ذلك أن لغة محمد جبريل فى إيجازها واقتصادها ونفاذها تتساوق مع رؤيته لعالمه الإسكندرانى والنفسى أو الروحى على السواء، فهى رؤية ناصعة مضيئة ليس فيها تدفق هادر ولا صخب التزاحم، لا نكاد نقع عنده على محاولة للغوص فى أغوار -وأكدار- الحياة الحلمية أو اضطراب ما تحت الوعى، لغته ورؤاه معا صافية صحة سماء الإسكندرية عندما تصحو سماؤها، وهو ما يحدث فى أغلب الأحوال.
وعندى أن الإيقاع الموسيقى فى هذه اللغة -وهو إيقاع ملموس- ينبع من تناغم وتناسق (لعله تنغيم وتنسيق متدبر مقصود، أو لعله ملهم وعفوى، أو هما معا) فى تسلسل السرد وتبادل الحوار والنأى عن محسنات -أحيانا ضرورات- الاستعارة والكناية وكثافة اللغة، لغته -مثل موضوعاته- صافية واضحة وسائغة السلاسة، بقدر ما هى ممتعة وشائقة.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:28 PM
الروائي محمد جبريل يكتب عن ظاهرة شاذة في حياتنا الثقافية

بقلم: محمد جبريل
...................

يغيظني من يبتزون فروسية الآخرين ، ليفرضوا بلطجتهم ومؤامراتهم .. يثقون أن الإهمال هو رد الفعل الذي يستقبل به " الفرسان " تصرفاتهم الشريرة .
وصفة أحد كبار نقادنا بأنه أقرب – في الطبيعة – إلى مسئول العلاقات العامة منه إلى الفنان ، فهو قد يكتب ساعة ، لينشغل بقية يومه بنسج العلاقات وتمزيقها ، وتدبير المؤامرات ، ومحاولات الإيقاع والتعتيم ، وهو ما عبر عنه واحد من ثلاثي العداء – معروفون بالاسم !
في زميلة أسبوعية : عدوك عدو كارك ! .. تحول الإبداع – في تقديرهم – إلى كار ، فروح العداء لا التنافس الجميل هي التي تملي عليهم أفكارهم وتصرفاتهم .
التقى بي – ذات يوم – في مؤتمر لهيئة قصور الثقافة بالسويس ، أبدى ملاحظة حول انصرافي عنه ، كنت قد عرفت طبيعته ، فآثرت الابتعاد قال في بساطة : العملية الجراحية التي أجريتها غيرتني تماماً .. هو إذن يدرك ما كان يفعل ، ويسعى لتغييره .. وتصورته صادقاً ، ولو للحفاظ على قلبه الذي خضع لعملية ، بعد أن أرهقه بتوالي المؤامرات ومحاولات النيل ، حتى من أقرب الأصدقاء لكن الطبع – كما يقول المثل – يغلب التطبع ، فهو قد تحدث عن التطبع ، لكن الطبع ظل غلاباً !
اتصل بي أقرب أصدقائه في مؤتمر الرواية الأول حدثني عن تفرد صديقه – من خلال شبكة علاقاته الواسعة – بمعظم أبحاث المؤتمر ، وحرصه أن يخلو المؤتمر من أي بحث عن صديق عمره كما يسميه !
وحدثني روائي معروف عن الجلسات التي يعقدها – ذلك الذي أجعله مجرد مثل فلا أسميه – مع عدد لا يزيد عن أصابع اليد من الذين ابتليت بهم حياتنا الثقافية .. يراجعون الأسماء ، يلاحظون خفوت اسم ما ، فيقترحون تسليط الضوء عليه ، ويلاحظون ذيوع اسم آخر ، فيلجأون إلى ما وسعهم من التعتيم حتى تظل كل الأصوات تحت سقف يحددونه !
وحين استقبل النقاد رواية علاء الديب " زهرة الليمون " بحفاوة تستحقها ، كتب صاحبنا وكاتب آخر – هو الآن في ذمة الله – عن رواية شحاته عزيز " الجبل الشرقي " واعتبراها رواية العام ، والتفت إلى ما كتب مثقفان كبيران هما رجاء النقاش وإبراهيم الورداني . قرا الرواية ووجدا فيها ما يستحق الإشادة بالفعل ، وكتب شحاته عزيز جزءاً ثانياً من الرواية ، وسعى لنشره في النشرة التي يتولى صاحبنا رئاسة تحريرها ، لكنه فوجئ بالرفض ، وجاءني الأديب الجنوبي يعرض ما حدث ، ولن الرواية كانت عملاً لافتاً ، فقد نشرت الجزء الثاني في " المساء " كعادة الجريدة مع كل المواهب الحقيقية .
أخطر ما في الأمر أن صاحبنا لا يكتفي بنفسه ، وإنما يحرص على أن ينقل فيروسات أمراضه إلى الآخرين ، بالتحديد من يعملون تحت إمرته من الشباب ، هو يحرض ويهدد ويفرض رأيه ، وربما كتب – كما عرفت من هؤلاء الشباب أنفسهم – ما يدفعهم إلى وضع توقيعاتهم عليه .
صارحت صديقاً مشتركاً بأنه كان يستطيع – بما حقق من مكانة – أن يحصل على المكانة نفسها في قلوب المثقفين ، قال الصديق : هل أبلغه ؟ قلت : ليتك تفعل .
أثق أن حياتنا الثقافية بخير ، والأعلون صوتاً ليسوا هم التعبير عنها ، لأنهم قلة ، وإن كان طنينهم يزعج المبدعين الحقيقيين في انشغالهم بالأجدى والمفيد .
م . ج
.................................................. ............................
* جريدة المساء العدد الأسبوعي – السبت 26من نوفمبر 2005م.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:29 PM
الفن القصصي عند محمد جبريل

بقلم: د.عبد الله أبو هيف
............................
بدأ محمد جبريل الكتابة السردية قاصاً بإصدار مجموعته الأولى "تلك اللحظة" (1970)، ورسخ إبداعه القصصي بمجموعاته "انعكاسات الأيام العصيبة" (1981)، و"هل" (1987)، و"حكايات وهوامش من حياة المبتلي" (1996)، و"سوق العيد" (1997)، و"انفراجة الباب" (1997)، و"موت قارع الأجراس" (2002)، واختار عدداً من قصصه التي تتناول تنازعات الذات القومية إزاء مخاطر الصهينة والعدوان الأجنبي على العرب، سماها "حارة اليهود" (1999). واقتصر في هذه المقالة بالحديث عن الفن القصصي عند محمد جبريل من خلال مجموعته الأخيرة، ومختاراته القصصية المشار إليها آنفاً.‏
بنى جبريل قصصه على التقانات السردية والمجازية والاتصالية الحديثة، ولا سيما المفارقة والرمزية والإيحاء المجازي لابتعاث المعاني والدلالات فيما وراء القصّ. وأفصحت قصص "موت قارع الأجراس" عن ثراء التشكلات السردية لدى العناية بالتحفيز التأليفي الذي يوائم بين الفعلية وأغراضها على نحو غير مباشر، وصورّت قصة "الوحدات" مدى حصار الفلسطيني في وطنه، إلماحاً إلى اغتراب الفلسطيني في الأقطار العربية، حتى أنه فكر مرة أن يركب سيارة يقتحم بها الحدود إلى فلسطين من إقامته المروعة في الأردن، و"إن قتلت فسأقتل في وطن.. وطني" (ص12).‏
وأبان ازدياد آلامه، وهو يعاني عسر تجديد الإقامة في موعدها، وصعوبة الحصول على بطاقة أو هوية، إذ لا يستطيع المواطن أن يحيا" بلا جواز سفر ولا أوراق تثبت شخصيتك" (ص15)، مما عذبته السخرية المرّة عبر المفارقة الموجعة.‏
"-سأصبح إذن مواطناً عالمياً، فليس معي تأشيرة دخول إلى أي بلد!" (ص15)، وهذا هو حال الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، الذي يقتله الإحباط والخوف، ما دام مربوطاً بمخيم الوحدات المفتقر إلى الثقة والأمان.‏
ووصفت قصة "موت قارع الأجراس" صلابة المقاومة في فلسطين، فقد لاذوا بمجمع الكنيسة ثم داهمهم المحتلون وقناصتهم في هذا المكان المقدس، وصوبوا إليهم رصاصهم، على الرغم من التضامن الديني بين المسيحيين والمسلمين، ونبههم الأب لوقا ألا يحاولوا التعرف على ما يجري خارج الكنيسة، ولو من النوافذ، لأنهم يطلقون الرصاص على كل شيء يتحرك، (ص29)، وبدا فعل المقاومة قوياً باستخدام الإيحاء المجازي النابض بالوعي الذاتي، إذ "ترد نواقيس الكنائس في امتداد المدن والقرى. يرتفع الآذان – كما حدث في مرات سابقة – من الجوامع وأسطح البيوت. يتنبه من تختفي أو تسحب، في أسماعهم، صيحات الاستغاثة، فينصرفون" (37).‏
وامتد ترميز الفعل المقاوم إلى البيرق علامة للضبط الداخلي والمتانة في مواجهة العدو، كلما تأذى المؤمنون في قصة "البيرق"، حرصاً على نصرة الإسلام والمسلمين في أيام الخطر، والبيرق هو الأمل المرتجى إن واجهت البلاد الخطر، و"على كل المسلمين الخروج إلى الجهاد وبيع الأرواح بيع السماح" (ص83).‏
وأفاد المنظور القصصي أن تعضيد فعل المقاومة يستند إلى مجاوزة الاختراقات الداخلية والضعف الداخلي من خلال المفارقة من اللفظ إلى المعنى، عندما "لامست أصابع في موضع البيرق خشونة تسوس العصا والفجوات الصغيرة، تشابك فيها العلم والحبل المهتريء" (ص85).‏
وأبانت قصة "الكسوف" المفارقة أيضاً من اللفظ إلى المعنى انتقالاً من الكسوف الطبيعي إلى الكسوف المعنوي في وعي الذات، وقامت القصة على النشاط الثقافي اليومي لمجموعة أدباء وكتاب من مصر وسورية بدمشق أثناء يوم بعينه تحدثوا فيه عن كسوف الشمس، وأضاءت الفعلية الكسوف الطبيعي الكلي عندما يقع القمر في دورته من الغرب إلى الشرق حول الأرض، ويقع بين الأرض والشمس، وتكون الأجرام الثلاثة على استقامة واحدة، وتصبح الأرض في مسقط ظل القمر تماماً، والكسوف الجزئي عندما تقع الأرض في منطقة الظل القمرية. وربط المنظور القصصي في الكسوف بحراك الحياة والتجربة الأدبية العربية ومدى تمثيلها المعرفي العميق بالحياة الإنسانية، ومدى وعي الصراع مع الأعداء عند الاعتراف بأن "إسرائيل واجهة لتقدم الغرب" (ص53)، وهذا هو حال المفارقة التي تنشر الوعي بأحوال الكسوف في الموقف من العدو كلما دعمت عمليات تصليب الذات، فثمة "كلمات تتخلق في أعماقك، تتشكل حروفها وملامحها، وإن بدت غامضة" (ص55).‏
وتعالى استخدام المفارقة في قصة "العنكبوت" التي تؤشر إلى عنكبوت الموت، حيث مرارة مرض الوالد وعذاب الروح تحت وطأة مؤثرات موت الحياة الكثيرة شأن السؤال المرير: ما معنى أن يستيقظ المرء – ذات صباح – ليجد نفسه ميتاً؟!" (ص67). وجادت ملفوظية العنكبوت في التحفيز التأليفي الجامع بين المادي والمعنوي بمداهمة الموت الذي يخترق الإنسان بصمت: "وثمة عنكبوت – لم تكن قد فطنت إلى وجودها – تغزل خيوطها، فتشكل ما يشبه الغيمة في أعلى السرير" (ص71).‏
ومال جبريل إلى تكثيف السرد مقاربة للعوالم الميتاقصية (ما وراء القص) في قصص قصيرة جداً، كما هو الحال في "الزيف" و"الخيمة" و"العرّاف" و"القنديل" و"الأميرة والراعي" و"الآذان" و"الرؤية" و"القاضي" و"الخواء" و"ومضات منسية"، وتقع القصة منها في حدود صفحة واحدة إثارة لمعانٍ عميقة استعمالاً للأنسنة، على سبيل المثال، ففي قصة "القنديل" تضفى على الحيوان صفات الإنسان للتأمل في أطروحة النسوية والذكورة، إذ استمرت في الحرص على أن تلدغ ما دامت متأكدة أن هذه الأقدام لرجال، وقد أثارها الاختلاط والتشتت من عناء الكينونة أنثى أو خنثى أو ذكراً، وهذا يغيظها كثيراً، و"لم تعد تشغلني القدم الواقفة على الشاطئ، أراها فألدغها، ألدغها بكلّ قوتي" (ص151).‏
واستغرقت الأنسنة في التكثيف السردي في القصة القصيرة جداً "الأميرة والراعي"، عند التداخل بين المواقف من حماية الذات إزاء تفاقم الأفعال الشريرة من آخرين، وأوجز الراوي المضمر القص أن الأميرة ستوافق على الزواج من الراعي الذي يقتل الذئب، لأن هذا الذئب قتل جدتها، بينما خاطب الراعي الذئب، إشارة إلى ذئبية بشرية، عند مجاهرة الذئب بأن "لحم الأميرة الشهي من نصيبي" (ص152)، مما دفع الراعي إلى الخلاص من هذه الذئبية البشرية، فهوى بالعصا الغليظة "على رأس الذئب، أثاره العواء وتناثر الدم" (ص153)، وهذا كله ضمانة للتواصل بين الراعي والأميرة عند مواجهة القتلة.‏
وبلغ التكثيف السردي مستوى الشذرة إيماء إلى مدلولات ما وراء القصّ، كما في القصة القصيرة جداً "الثأر" التي تقع في أسطر، وقام الإيماء على الإشارة إلى قصدية الثأر في مقدور الرجل على الثأر من ظالمه وجائره من خلال وصف "ظل الرجل" وسيرورة الثائر "فوق الظل" الساكن ومواجهة الظالم بحذائه عند "طرف الظل" (ص155).‏
لقد واءم جبريل بين المجازية والاتصالية في الكتابة القصصية لإثارة أسئلة الوجود وقضايا الحياة، وانغمرت قصصه في البنى الاستعارية منذ مجموعته الأولى اندغاماً في التحفيز التأليفي الذي يهتم بالأغراض القصصية كلّما ثّمر التقانات السردية لجلاء المعاني والدلالات الكامنة في القصّ، وأفصحت مجموعته "حارة اليهود" عن هذا المنجز الإبداعي العميق، عند جمع القصص المعنية برؤى المقاومة في مواجهة الصهيونية والتصهين تهديداً للوجود العربي وهدراً لطاقات الحياة عند العب.‏
تناولت قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" مواصلة رحلة الأسراب من السمان ومجاوزة فكرة العجز عن المقاومة، ليتبين لهم بعد حوار طويل أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، وتبدى الإيماء إلى هذه الدلالة في رحابة القص المجازي، فقد "بدا للناس – من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كلّ الأمكنة – عجزهم عن المقاومة. مالوا – مؤقتاً- إلى التريث، فرحلة السمان لا تعرف التوقف" (ص10)، وهذا هو حال المقاومة التي تحمي الوجود والمصائر القومية. ولاذ القص في قصة "الطوفان" بالمفارقة المعنوية انتقالاً من فكرة طوفان إلى غرق الحيوية عندما تضعف المقاومة، وتعجز المواطنة عن القضاء على المخلوق الغريب أو الكائنات المحتلة.‏
وتنابذت أصوات الشجار والمشاكسة في قصة "المستحيل" انتقاداً لدعاة الانعزالية والتجزئة القومية، على أن العزلة تبعدهم عن الخطر، بينما المستحيل نفسه في خروج فئة أو جماعة أو أقوام من مدارات المصائر القومية، والحل دائماً في المشاركة والاندماج مع الناس والانضمام إلى المقاومة.‏
وأفادت قصة "هل" أن المقاومة هي التي تصون الذات القومية، عند تعالق الذات الخاصة مع الذات العامة من خلال الترميز، وهذا هو الرجل الميت الذي دُفن، ثم جرده التربي من كفنه، والسؤال هو ضرورة المقاومة من المعلوم والمختفي في الوقت نفسه عند كشف العدوان، وعمّق جبريل الرؤية عندما ربط هذه المقاومة أثناء الحياة وبعد الموت. فلو حرّك الميت جسده لظل مستوراً، ولو تنامى الوعي بالدمار والاحتلال والفناء لتوقف العدوان، ولا سبيل لذلك إلا بالمقاومة.‏
واعتمد جبريل على الترميز في قصة "حكايات وهوامش من حياة المبتلي" تواصلاً مع الأسطرة عند تعالق شخصية صابر وزوجته سلسبيل، لنلاحظ دلالة الأسماء أيضاً، مع أيوب وناعسة في الأسطورة الشعبية، فهو حرص على الابتعاد عن قريته بحثاً عن الدواء، لأنه المرض هدده بالموت، بتأثير الفساد والمفسدين، وصار الأمل أن يمضي إلى الحج، ليشفيه رب العباد، ثم داهمه المجرمون والأشرار، ومنعوه من أداء فريضة الحج، وهذا هو البلاء المستشري ما لم تشتد المقاومة ضد الظلم والعدوان.‏
واستند إلى الترميز أيضاً في قصة "حكاية فات أوان روايتها" عن الطائر وفقس البيضة ومدى تلاقي الحوار مع وعي الذات وسبل مواجهة تغلغل النفوذ الأجنبي.‏
وترابطت قصة "حارة اليهود" مع عناصر التمثيل الثقافي في رؤى مقاومة الصهينة والتصهين التي تخترق الوجود العربي من خلال الإيماء إلى التهام الغرغرينا الجسد كلّه، مما يستدعي تعزيز فعل المقاومة. وقد بنى القصة على وقائع وأحداث في مطلع القرن العشرين، من خلال ما تعرض له محمد جعلص وأولاده من اليهود ساكني الحارة حتى تسبب لهم المرض وخلل الحياة الاجتماعية والاقتصادية.‏
محمد جبريل قاص متفرد بإبداعه لإنتاج فضاءات "ميتا قصية" شديدة الثراء في مجازية القصّ والإيحاء بالمعاني والدلالات العميقة لدى استخدام تقانات قصصية تعتمد على الاستعارة والترميز والأسطرة.‏
المصادر:‏
...........
1- حارة اليهود، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة 38، القاهرة، سبتمبر 1999.‏
2- موت قارع الأجراس، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصوات أدبية 329، القاهرة، توفمبر 2002.‏
.................................................. .......
*جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:30 PM
"الجودرية" النص التاريخي ورهانات التحويل الروائي
"ملاحظات عامة"

بقلم: د.وفيق سليطين
..........................
تثير رواية "الجودرية لمحمد جبريل أسئلة الاشتباك الروائي بالتاريخ, وتفرض علينا إعادة تأمل العلاقة بين الجانبين من داخل الحدود الخاصة بهذا العمل, الذي يستوي بكيفيات محددة تنهض بها المعالجة الروائية للتاريخ, بحيث يمكن النفاذ من خلالها إلى استخلاص التصورات النظرية والتجريدات الفكرية القانونية المتصلة بهذا المسعى.‏
أولى الملاحظات تطالعنا بها عبارة الغلاف المثبتة تحت العنوان الأساسي, وهي: "عن تاريخ الجبرتي بتصرف". مما يشير إلى ارتهان الرواية للمرجع, وخضوعها لمادته في إنشاء نفسها عليه. وتأتي كلمة "بتصرف" لتقيّد من حجم ذلك الارتهان, وتخرق منحى المطابقة, في إشارة إلى الجهد الذي ينحو بالعمل ليحقق صفته الروائية. لكنّ "التصرّف" المشار إليه يبقى ضمن الحدود العامة للوثيقة, مراعياً التسلسل الكرنولوجي, وناصّاً على الوقائع الأساسية والمفاصل التاريخية الكبرى لانبثاق الأحداث وتواليها, بما من شأنه أن يشدّ, على نحو لافت, إلى الزمن المرجعي. فالرواية تبدأ بنزول الفرنجة على الشواطىء الشمالية للبلاد في يوم الاثنين الثامن عشر من المحرّم سنة /1213/ من الهجرة النبوية الشريفة الموافق للثالث عشر من يوليو /1798/ من الميلاد, وهم من رجال الإنكليز الذين يترصدون الفرنسيين لقطع الطريق عليهم وإحباط مسعاهم. وانطلاقاً من هذا التحديد الزمني يتوالى السرد الإخباري في تقديم رحلة الجيش الفرنسي, التي بدأت من طولون, وفي طريقها إلى الإسكندرية تمّ الاستيلاء الفرنسي على جزيرة مالطة في الثاني عشر من يونيو /1798/, ثمّ ظهر الجيش الفرنسي أمام سواحل الإسكندرية في أول يوليو من العام نفسه.‏
وثاني هذه الملاحظات يتصل بشكل الرواية ونهجها في تشييد مبناها, وهو ما يجري اعتماداً على تقسيمها إلى أبواب وفصول, إذ تتم معالجة المادة وفق هذا التقطيع, الذي يوزّع المتن على أحد عشر باباً, يشتمل كلّ منها على عدة فصول, يتفاوت عددها بين باب وآخر, مستجيباً لكتلة الوقائع والأحداث التي تتفاعل وتتنامى وتصل إلى ذروة ما, بحيث تغدو مؤطرة في باب واجد يشتمل على عدد من الفصول. ويبدو الباب, في تقنية التقسيم هذه, علامة على الفصل والوصل في حدوده الزمنية والحديثة التي يُسيِّج بها المادة, ويؤذن بتحولها النوعي في الباب التالي, الذي يُمكن أن ينعطف بها جيئة وذهاباً على النحو الذي يؤمّن قدراً من الاستقلال, في الوقت الذي يؤدي به وظائف التنامي والحبك والتصعيد.‏
وفي ذلك ما يحيل على عمل المؤرخ في تعمله مع مادته تنظيماً وتقطعياً, وربطاً وتسلسلاً. وعلى هذا المستوى الهيكلي تتبدّى استجابة الرواية لتقنية المصادر القديمة في التأريخ, وللنهج الذي اختطّه المؤرخون القدماء في مدوّناتهم. وهذا الأثر الذي ينسرب إلى هنا, ويلقي بطابعه على جسم الرواية, لا يخلو من دلالة على ترشيح عناصر القوة المهيمنة في المعادلة التي نحن بصددها, وهي التي تأتي حصيلة للتفاعل, وخلاصة للتفاضل في النسب والكيفيات والمقادير من كلا الجانبين, على النحو الذي تترجّح معه الفاعلية النصيّة, التي تترجم حصيلة الاشتباك, وتكشف عن قوى الشدّ أو الاستجابة, وعن مدى المتابعة وإسلاس القياد, أو عن شدّة الأثر وقوة المخض وعمق التحويل.‏
وحسب هذا التوجّه تكون الملاحظة الثالثة متولّدة عما سبقت الإشارة إليه, ومعها نلمح قدراً من التمايز بين شطري الرواية. ففي القسم الأول منها تحضر المادة التاريخية, وتطفو القرائن المرجعية في نظام تأسيسي يتكفّل بإظهار الوقائع والأجواء والتواريخ والشرائح الطبقية ومظاهر الفسيفساء الاجتماعية في بنيتها المتراتبة وانقساماتها العميقة الحادّة في تلك المرحلة الخاصة من التاريخ الذي تنصبُّ عليه الرواية, وتتخذ منه موضوعاً لها, وهو القسم الذي يهيّئ لما بعده, ويشكّل المهاد الضروري لانطلاقة الفعل الروائي وتضافر عناصره وتفعيل أثره.‏
وعلى الرغم من أساليب المزاوجة التي تضخ أحد الجانبين في الآخر, وتسهم في تعديل مجراه وكسر حدَّة برزوه, يبقى القسم الأول مجلَّلاً بقوة حضور "التاريخي" وسيطرة مؤشرات المرجع, التي ستتراجع نسبياً في القسم الثاني, تحت الضغط المتصاعد لعناصر البنية الروائية, بخيوطها المتشابكة وحكاياتها الفرعية, التي تشكّل انفراجات سردية, تتنوّع, وتتباعد, وتعود لتندغم في مجرى السرد وإطاره العام. وهنا تتبدّى مقدرة الكاتب على النمذجة, والتمثيل الروائي, وضخّ مظاهر الحيوية في بناء متقن, يزخر بألوان الحياة, ويدفع بنا إلى خضّم المجتمع المصري في ظل الوجود العثماني المتردي, لمعايشة نبضه واحتداماته, ومواجهة صوره وتنوعاته وأجوائه المتوترة وتركيبته الآيلة إلى التحلل, وإلى تفسّخ بنيتها الرثة في ظلّ الحملة الفرنسية التي تنتهي عام /1801/.‏
وعلى الرغم من ذلك تبقى المساءلة واجبة, روائياً, عن مدى بروز الوثيقة في جوانب العمل على النحو الذي تعيق به إمكانات التحويل الروائي.‏
..............
*جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:34 PM
بيبليوجرافيا محمد جبريل‏
.........................
* ولد في حي بحري بالإسكندرية في 17/2/1938‏
* كان أبوه مترجماً ومحاسباً. وقد أفاد من مكتبة أبيه في قراءاته الباكرة, ويعدها سبباً أساسياً في حبه للأدب..‏
* غالبية أعماله تتناول مظاهر الحياة في حي بحري بالإسكندرية, وحياة الصيادين والبحارة وغازلي الشباك وصانعي المراكب بصفة خاصة..‏
* أثرت نشأته في حي تغلب عليه النواحي الدينية في اتجاهه إلى القصة والرواية التي توظف التراث. وتناول موضوعات يغلب عليها الدين والفانتازيا والأسطورة..‏
* عمل بالصحافة منذ 1960. بدأ محرراً في القسم الأدبي بجريدة "الجمهورية" مع الراحل رشدي صالح. ثم انتقل إلى جريدة "المساء"..‏
* عمل في الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديراً لتحرير مجلة "الإصلاح الاجتماعي" الشهرية, وكانت تعنى بالقضايا الثقافية..‏
* عمل ـ لفترة ـ خبيراً بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير. وقد تولى مع زملائه تدريب الكوادر والإعداد لإصدار أول عدد من جريدة "الشعب" الموريتانية (1975).‏
* عضو اتحاد الكتاب المصريين‏
* عضو جمعية الأدباء‏
* عضو نادي القصة‏
* عضو نقابة الصحفيين المصريين‏
* حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1975 عن كتابه "مصر في قصص كتابها المعاصرين"..‏
* نال وسام العلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولى عام 1976‏
* عمل مديراً لتحرير جريدة "الوطن" العمانية في الفترة من يناير 1976 إلى يونيو 1984‏
* عمل رئيساً لتحرير "كتاب الحرية" في الفترة من إبريل 1985 إلى يناير 1989.‏
*رواياته: الأسوار ـ إمام آخر الزمان. من أوراق أبي الطيب المتنبي, قاضي البهار ينزل البحر. الصهبة. قلعة الجبل. النظر إلى أسفل. الخليج. اعترافات سيد القرية. زهرة الصباح. الشاطىء الآخر. رباعية بحري: أبو العباس. ياقوت العرش. البوصيري. على تمراز. الحياة ثانية. بوح الأسرار. المينا الشرقية. مد الموج. نجم وحيد في الأفق, زمان الوصل. ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله. حكايات الفصول الأربعة. زوينة. صيد العصارى. غواية الإسكندر. الجودرية. رجال الظل.‏
* مجموعاته القصصية: تلك اللحظة. انعكاسات الأيام العصيبة. هل. حكايات وهوامش من حياة المبتلى. سوق العيد. انفراجة الباب. حارة اليهود. رسالة السهم الذي لا يخطئ. موت قارع الأجراس.‏
* كتبه الأخرى: مصر في قصص كتابها المعاصرين. مصر... من يريدها بسوء؟..‏ نجيب محفوظ.. صداقة جيلين. السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية. آباء الستينيات. قراءة في شخصيات مصرية. حكايات عن جزيرة فاروس. مصر المكان. البطل في الوجدان الشعبي..‏
* درّس الدكتور شارل فيال كتابه "مصر في قصص كتابها المعاصرين" على طلاّبه في جامعة السوربون. ويدرس د. عبد المجيد زراقط أعماله على طلابه بالجامعة اللبنانية, كما يدرس د. عبد الرحمن تبرامايسين على طلابه بجامعة بسكرة بالجزائر.‏
* ترجمت روايته "الشاطئ الآخر" إلى الإنجليزية. كما ترجم العديد من قصصه القصيرة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والماليزية. وكان الأب الدكتور جاك جومييه هو أول من قدمه إلى القارئ الفرنسي بدراسة في مجلة "ميديوى"..‏
* صدر عنه: "محمد جبريل وعالمه القصصي" و"دراسات في أدب محمد جبريل" بأقلام مجموعة من الأدباء والنقاد... و"البطل المطارد في روايات محمد جبريل للدكتور حسين علي محمد... "فسيفساء نقدية ـ تأملات في العالم الروائي لمحمد جبريل "للدكتور ماهر شفيق فريد..." محمد جبريل... موال سكندري "لفريد معوض وآخرين. استلهام التراث في روايات محمد جبريل للدكتور سعيد الطواب. محمد جبريل روائي من بحري لحسني سيد لبيب, محمد جبريل,مصر التي في خاطره لحسن حامد. التراث والبناء الفني في روايات محمد جبريل للدكتورة سمية الشوابكة.‏
* حصلت الباحثة الأردنية سمية الشوابكة على درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنية عن رسالتها "التراث والبناء الفني في أعمال محمد جبريل الروائية".‏
* نوقشت أعماله في العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه, ومنها: شخصية المتنبي في الأعمال الروائية والمسرحية لفهمي عبد الحميد, العناصر التراثية في الرواية المصرية لمراد عبد الرحمن مبروك, السجن في الرواية المصرية لأحمد الحسيني, العناصر السردية في الرواية عند محمد جبريل لأحمد عوض, موازنة بين الأعمال التاريخية عند كل من نجيب محفوظ ومحمد جبريل لمديحة يوسف عامر (الإمارات). السرد الفني في روايات محمد جبريل (رسالة ماجستير) لمحمد محمود فرج.‏
* كتب مقدمات لأعمال كل من: مصطفى صادق الرافعي (تحت راية القرآن) (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية). نجيب محفوظ (صدى النسيان) (فتوة العطوف). أحمد زكي مخلوف (نفوس مضطربة). حسين علي محمد (عشان مهر الصبية). محمود الخصيبي (سلطنة عمان). عبد الله هادي سبيت (اليمن). فتحي عزت (الإغراء). محمد كمال محمد (دماء في الوادي الأخضر). سمير فوزي (من ديوان العشق). شحاتة عزيز (كفر الهلالي). عبد الفتاح مرسي (المسخوط من سيرة علي بلوط). أبو المجد شعبان (الطفل الذي يعدو). مهدي بندق (حتشبسوت بدرجة الصفر). أمجد صابر (عندما تبيض الديوك) علاء أبو زيد (فم النهر). فاطمة يوسف العلي (تاء مربوطة). محمود البدوي (قصص قصيرة) وغيرهم.‏
* وضع عن فترة إقامته بسلطنة عمان كتاباً بعنوان "تقرير عن إصدار جريدة يومية" نشر حلقاته الثلاث الأولى في مجلة "الدراسات الإعلامية". ثم أوقف نشر بقية الحلقات بعد تدخل مباشر من الحكومة العمانية بدعوى أن الكتاب يتناول سلبيات التجربة العمانية!‏
* له ندوة باسمه, قدمت الكثير من الأدباء الشباب, تعد من أهم الندوات في القاهرة..‏
* كتبت في أعماله قصائد للشعراء: محمد يوسف. حسين علي محمد, جميل محمود عبد الرحمن. يسري حسان. شفيق أحمد علي. فواز عبد الله الأنور. مؤمن أحمد..‏
* أقيمت له مهرجانات تكريم في المنيا. سوهاج. القاهرة. الإسكندرية..‏
* شارك في مؤتمر الرواية الذي أقامته جامعة القاهرة ـ قسم اللغة العربية, في 1995.‏
* شارك في مهرجان آفاق القصة والرواية في الثمانينات والتسعينيات بكلية دار العلوم في إبريل 1997.‏
*شارك في مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم ـ الدورة الثانية عشرة بالإسكندرية 1997.‏
* شارك في مؤتمر القاهرة للإبداع الروائي (شهادة ومشاركة بحثية) فبراير 1998.‏
* شارك في مؤتمر التنمية في شمال الصعيد ـ كلية الآداب بالمنيا 1998.‏
* انتخب في مارس 1999 نائباً لرئيس اتحاد كتاب مصر..‏
* ترأس المؤتمر الإقليمي لأدباء غرب ووسط الدلتا في إبريل 1999.‏
* مثل اتحاد كتاب مصر في ندوة الرواية العربية وقضايا الأمة التي أقيمت بطرابلس ليبيا في الفترة من 7 إلى 9 أغسطس 1999. كما مثل الاتحاد في اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد الكتاب العرب...‏
* ألقى محاضرة عن تجربته الأدبية في مقر اتحاد كتاب سوريا بدمشق 10/8/1999.‏
* اختير عضواً في لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة من أول أكتوبر 1999.‏
* ترأس في سبتمبر 2000 وفد اتحاد كتاب مصر إلى تونس, ووقع اتفاقية للتعاون الثقافي. كما شارك في العديد من الندوات في المدن التونسية..‏
* شارك في مؤتمر عن الكاتب الراحل محمود البدوي في المجلس الأعلى للثقافة (1999)‏
* شارك في المؤتمر الدولي عن الترجمة الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة في عام 2000.‏
* شارك في الملتقى الثاني للفنون الشعبية الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 14 إلى 18 يناير 2001.‏
* شارك في مؤتمري القاهرة للرواية الأول والثاني اللذين أقامهما المجلس الأعلى للثقافة. قدم شهادة, وبحثاً عن الرواية التاريخية, وقدمت في أعماله أبحاث.‏
* ألقى محاضرة عن تجربته الأدبية في المكتبة الوطنية بالجزائر في يناير 2006.‏
* أقامت الفنانة التشكيلية مها رشدي معرضاً عن شخصياته في نادى الهلال الأحمر بسوهاج..‏
* زار معظم العواصم والمدن العربية, والكثير من دول العالم..‏
* متزوج من الناقدة زينب العسال. وله ابنان: أمل ووليد...‏
* يسكن في 18 شارع الدكتور سليمان عزمي شقة 4 مصر الجديدة ـ ت 6218500 ـ 2618399 ـ 103805251.‏

د. حسين علي محمد
10/12/2006, 05:40 PM
الأخ الشاعر الدكتور حسين علي محمد،
تحية عربية طيبة وبعد،
أرحب بك في جمعيتك العزيزة وأشكرك على تعريف أعضاء الجمعية بالروائي الكبير محمد جبريل الذي يستحق التكريم.
أكون شاكرا لك إن تفضلت بإرسال بريده الإلكتروني وصورته إن أمكن إلى البريد التالي:
watagroup@yahoo.com
ونرحب بأية ترشيحات من قبلك بالسرعة القصوى وأهلا بك عزيزاً،
الأستاذ عامر العظم:
عنوان الروائي الكبير / محمد جبريل:
دار التحرير للطبع والنشر ـ القاهرة.
رئيس القسم الثقافي
ت منزل:(002026218500)
البريد الإليكتروتي
mlg_38@hotmail.com
....................................

اشرف الخريبي
11/12/2006, 11:06 AM
الصديق الغالى د. حسين علي محمد

اشكرك على هذا المجهود الراقى والجميل
واسعد دوما بتواجدك
اتمنى ان يكون كتابى وصل بين يديك
اما الروائى الجميل محمد جبريل فله فى القلب معزة خاصة
واتمنى ان يكون قد عاد من اجازته

محبتى لكما

اشرف الخريبي

د. حسين علي محمد
11/12/2006, 05:06 PM
الصديق الغالى د. حسين علي محمد
اشكرك على هذا المجهود الراقى والجميل
وأسعد دوما بتواجدك
اتمنى ان يكون كتابى وصل بين يديك
أما الروائى الجميل محمد جبريل فله فى القلب معزة خاصة
وأتمنى ان يكون قد عاد من إجازته
محبتى لكما
أشرف الخريبي
الصديق الجميل الأديب
أشرف الخريبي
شكراً جزيلاً لك.
ولللأسف الشديد لم يصل كتابك، فالبريد العربي يمشي مشي السلحفاة..
طُلب مني تقرير ترقية لأحد الأساتذة، فوصل التقرير إلى الجامعة
بعد واحد وثلاثين يوماً!!
هل تصدق؟!
سأكون ـ بحول الله ـ بعد تسعة أيام في مصر لإجازة عيد الأضحى.
ليتك تُرسل لي نسخة مع الأديب مجدي جعفر إذا قابلته.
ملحوظة: رسالتك ستصل إليّ هنا، ولكن ربما بعد عدة أشهر!!
مع موداتي

د. حسين علي محمد
02/03/2007, 01:51 PM
من المحرر:
د. حسين علي محمد

بقلم: محمد جبريل

حين حصل حسين علي محمد ـ الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي ـ على درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث، كان يختتم رحلة قاسية بدأت في قريته العصايد، القريبة من ديرب نجم، وتواصلت في عمله الأكاديمي خارج مصر، حتى حصل على درجة الأستاذية، ودرس لآلاف الطلاب، وأشرف على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه.
لم يجعل حسين علي محمد من تلك الطريق ـ وهي فردية كما ترى ـ طريقه الوحيدة.
اختار طريقا موازية، أو متداخلة، يتصل فيها بالجماعة، من خلال أنشطة قوامها الأجيال التالية من مبدعي ديرب نجم، المدينة والقرى المحيطة.
أنشأ حسين مع أحمد فضل شبلول وسعد بيومي وصابر عبد الدايم وأحمد زلط والراحل عبد الله السيد شرف سلسلة "أصوات معاصرة" تعنى بنشر كتابات أدباء مصريين وعرب، وإن كان حريصا ـ يومها ـ على نشر كتابات الأجيال الطالعة، من مبدعي الأقاليم المصرية.
أصدرت السلسلة الكثير من الكتب المهمة، ما بين رواية ومجموعة قصصية وديوان شعر ومسرحية ودراسة نقدية وسيرة ذاتية وغيرها. أصبحت ـ في مدى قصير نسبيا ـ من أهم السلاسل على مستوى الثقافة العربية.
أضاف حسين إلى أنشطة «أصوات مُعاصرة» مؤتمرات أدبية جعلت من ديرب نجم مركزاً للإشعاع الثقافي، والتقى أدباء المدينة بمن كانوا يكتفون بقراءة أخبارهم في وسائل الصحف والإعلام من نجوم الإبداع في عالمنا العربي.
ثم أضاف حسين إسهاما ـ على نفقته فيما أظن ـ بإنشاء موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، يعنى بإبداعات الأجيال المختلفة، بنشر نماذج منها، يناقشها، يسلط الضوء على كتابها، يتصل بالمواقع المماثلة.
استطاع موقع «أصوات معاصرة» أن يحقق نجاحا لافتا على المستويين الكمي والكيفي، انعكس في أعداد المتعاملين معه.
جعل الخضري عبد الحميد من المدينة الصغيرة ملوي ـ ذات يوم ـ مدينة مبدعة، واحتلت المنصورة الموقع نفسه، بسلسلة فؤاد حجازي «أدب الجماهير». وثمة إسهامات أخرى في العديد من المدن المصرية، كالمحلة الكبرى والمنيا والسويس وسوهاج، جعلت من تلك المدن مساحات ضوء في حياتنا الثقافية.
لقد جعل حسين علي محمد ـ بإسهاماته المتعددة ـ من ديرب نجم، المدينة، المركز، منارة مهمة في حياتنا الثقافية.
هامش:
يقول فولتير: إن الطريقة الوحيدة التي تجعل الناس يتحدثون عنك بطريقة حسنة، هي أن تتصرف بطريقة طيبة.
م.ج.
Mlg_38@hotmail.com
[جريدة المساء ـ 18 من ديسمبر 2004 ـ ص 10]

د. حسين علي محمد
26/02/2008, 04:05 PM
لمــحــــة

بقلم: محمد جبريل
.....................

حين كلَّفني أستاذي سليمان مظهر بالإشراف على الصفحة الأدبية بـ"التعاون" القاهرية، لم يكن قد مضى على اشتغالي بالصحافة أكثر من بضع سنوات، ولأني كنت في حاجة إلى تقديم يفوق حاجة الآخرين إلى تقديمي، فقد قبلت المقابل المادي الذي يقل عن معنى الرمز، وحاولت أن أوسّع دائرة صداقاتي بأسماء موهوبة في امتداد الأقاليم المصرية.
جاءتني رسالته الأولى تحمل قصيدة شعرية، أتبعها برسالة ثانية قبل أن ينقضي الأسبوع، يتساءل فيها: هل رفضت نشر قصيدتي لأني في المرحلة الإعدادية؟
لم أكن قد قرأت القصيدة بعد، ولم أكن أعرف إذا كان الشاعر طالباً أم شيخاً، لكنني تناسيْتُ تعجله ـ عرفت فيما بعد أن هذا بعض طبعه! ـ لمّا قرأت القصيدة، فدفعت بها إلى المطبعة متحمساً.
وتراسلنا، يبعث إليَّ بقصائده فأنشر بعضها، وأُبدي الرأي في البعض الآخر، ثم زارني في "المساء" يطلب مني تقديمي لأول دواوينه "عشان مهر الصبية".
ولأن عين الرضا عن كل عيب كليلة، فقد أغضب تقديمي لديوان حسين الأول ـ تجاوزه فنيا حتى أسقطه من قائمة مؤلفاته ـ معظم الشعراء!، وجدوا فيها مجاملة أساءت إلى الموضوعية ـ النفتقدة أصلاً ـ في حياتنا الثقافية.
يصعب الآن أن تُخطئ العين مكانة حسين علي محمد في حياتنا الثقافية عموماً، والشعرية على وجه التحديد. إنه يمثل صوتاً واضحاً ونقيا ومتميزاً بين الأصوات الشعرية في وطننا العربي. ومع أنه لم يُجاوز بداية العقد الرابع من عمره، فقد استطاع أن يستقطب مريدين وتلاميذ، يحتذون خطواته، ويُحاولون الاستفادة من تجاربه ورؤاه الفنية.
وإذا كانت "الوطن" قد استطاعت ـ خلال إصدارها الأسبوعي ـ أن تضم حسين علي محمد بين قائمة كتابها، فإن إحساسنا بالسعادة يتضاعف في خاطرة ثقافية، وعد حسين علي محمد أن يخص بها الصفحة الثقافية في العدد اليومي تحت عنوان "قطرة ندى".
محمد جبريل
.................................................. .........
*الوطن (سلطنة عمان) ـ في 28/12/1982م.
**مقدمة للعمود اليومي الذي كان يحرره حسين علي محمد في "الوطن".

د. حسين علي محمد
26/02/2008, 04:06 PM
الرواية والسينما

بقلم: محمد جبريل
.......................

سألت نجيب محفوظ هل تكتب الرواية وعينك علي السينما؟
قال وهو يرنو إلي النيل من نافذة مكتبه بقصر عائشة فهمي: لو أن ذلك كذلك ما كتبت "الشحاذ"!
لم يكن نجيب محفوظ يتصور أن "الشحاذ" تصلح عملا سينمائيا. عبر عن الشخصيات والأحداث بفنية مضمرة. ولغة موحية. بعكس ما طالعناه في القاهرة الجديدة وخان الخليلي والثلاثية والسمان والخريف واللص والكلاب وغيرها.
لكن الشحاذ تحولت ببراعة كاتب سيناريو يجيد أصول فنه إلى إضافة مهمة للسينما المصرية.
لا صلة للرواية الجيدة بالسيناريو الجيد. والعكس صحيح. قد تتحول الرواية الجيدة إلى سيناريو رديء. وقد يحيل السيناريو الجيد قصة عادية إلى فيلم سينمائي جميل. وربما تتضافر الرواية الجيدة والسيناريو الجيد في تقديم عمل يذكره تاريخ السينما.
لا اعني افتقاد الصلة بين الرواية السردية والسيناريو السينمائي. فالأفلام الكبيرة تدين بنجاحها لأعمال روائية وقصصية، أبدعها مؤلفوها دون أن يضعوا حسابا إلا للقيمة الفنية السردية. ثم وجدت السينما في الرواية أو القصة من القيمة الدرامية ما يتيح تماهيا دراميا مطلوبا بين القصة والسيناريو.
ثمة من يجدون في الرواج الذي تحققه أفلام السينما. والعائد الذي تدره القصص المكتوبة دافعا لان يتجهوا بأعمالهم إلى مشاهد السينما بأكثر من أن تتجه إلى قارئ العمل الأدبي. فهم يذكروننا بمثل الغراب الذي أراد أن يقلد في سيره مشية الطاووس!
لا بأس أن يفيد العمل الأدبي من تقنية السيناريو السينمائي: الفلاش باك. التقطيع. المزج. وغيرها وبديهي أن تعتمد السينما علي قصة. أو حكاية تكون محورا لأحداثها. فلا نبتلي بأفلام يدخل فنانوها وفنيوها الأستديوهات كما يحدث الآن ليصنعوا أي شيء بلا فكرة ولا رابط مجرد صور متتالية تعاني السذاجة والسخف!
لكي تجاوز السينما المصرية مأزقا مستمرا. تعانيه منذ سنوات. فإنها لابد أن تنتج أفلاما في مستوي دعاء الكروان وبداية ونهاية وفي بيتنا رجل والبوسطجي والسقا مات والحرام واللص والكلاب والحفيد والطوق والإسورة وغيرها. وهي أفلام مأخوذة كما نعرف من أعمال أدبية وفي المقابل فان علي الروائيين وكتاب القصة أن يخلصوا للعمل الأدبي وحده. بعيدا عن مغريات السينما المادية والدعائية. وألا تكررت مأساة الغراب الذي لم يحسن مشيته الحقيقية. ولا أحسن التقليد!

د. حسين علي محمد
26/02/2008, 04:07 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
............................
mlg_38@hotmail.com

من قراءاتنا. تظل بعض العبارات في الذهن. تناوشنا. تلح في طلب المعني. تطرح الأسئلة. تشير إلي الأجوبة أحياناً.
يقول حكيم صيني: ينبغي علي كل شخص أن يري سلوكه في الضوء نفسه الذي يري فيه سلوك الآخرين. ويتعين عليك أن تدخر في قلبك للآخرين ماتدخره لنفسك. ويقول الشيرازي: مالم تبكت نفسك. فلن تفتح صدرك لأي لوم يوجهه إليك أحد. ويقول الصوفية: في ومضة لا غير. خل عنك الزمان والمكان. نحّ العالم جانباً. وكن عالماً داخل نفسك. ويقول أبو سعيد بن أبي الخير: فلتبتعد عن الأفكار الثابتة والمفاهيم السابقة. وواجه ما قد يكون مصيرك. ويقول الحسن البصري: سألت طفلاً يمشي وفي يده شمعة: من أين يأتي هذا الضوء؟ فما كان منه إلا أن أطفأها وقال: أخبرني أولاً أين ذهب الآن. وعندئذ أرد علي سؤالك من أين جاء. ويقول المستشرق جوزيف ماكابي: كل عشاق الأدب فيما عدا قلة قليلة يرون اليوم أن الخط الرئيسي للتطور الإنساني يتمثل في مد الروح العلمية كي تشمل كافة مناحي الحياة. ولكن يتعين علينا ألا ننسي بحال من الأحوال أن هذا ليس سوي نصف الحياة المثالية للعرب. فبالنسبة لمعظم مفكريهم كان من العبث أن يتساءل المرء حول ما إذا كان العلم يواجه خطراً يتمثل في جعل المرء جافاً. حسياً. زائد الذكاء. بارد الاستجابة. منصرفاً عن الجمال والفن. فقد كان تلاميذهم الذين يدرسون العلم علي أيديهم في العادة. شعراء وموسيقيين. وأن يكون هناك تعارض بين العقل والحياة العاطفية. أو أن يكون هناك تعارض بين أن يتقنهما الشخص نفسه. ويبرع فيهما. فذلك حديث يبدو منطوياً علي مفارقة. ويقول بيكاسو: إن كل فعل من أفعال الإبداع هو في الدرجة الأولي فعل من أفعال الهدم. ويقول النسفي: توجه سرب من الأسماك إلي حكيم السمك وهم يتساءلون عما يكون عليه الماء. فقال لهم حكيم السمك إن الماء يحيط بهم. مع ذلك لا يزالون أسري الظن بأنهم عطشي. ويقول الشاعر "جامي": السحابة الجافة التي لا تحمل بخاراً. لا تستطيع أن تمنح مطراً. ويقول ريتشارد بوتون: أن يأكل المرء. وأن يشرب. وأن يمرح.. تلك أمور قد تبدو جميلة كلها. لكنها لا تكشف عن أي فرق بين الإنسان والخنزير. ويقول تنيسي وليامز: الحياة صخرة. وعلي الإنسان أن يكون بدوره صخرة. وإلا انكسر أحدهما. ولن تكون الحياة أبداً هي التي تنكسر. ويقول ألبير كامي: الشجاعة ليست رفض اليأس. لكنها القدرة علي التحرك رغم اليأس. ويقول جلال الدين الرومي: يجمع الشجر الغذاء في فصل الشتاء. وخلال ذلك قد يظن الناس أن الشجر عاطل عن العمل. لأنهم لا يرون في العمق ما يجري خلف ما يرون علي السطح. لكنهم يرون البراعم في الربيع. وحينئذ يؤمنون بأن الشجر لم يكن عاطلاً. ومن "حكايات نصر الدين": يبيع الناس الببغاوات المتكلمة بأسعار خيالية. لكنهم لا يتوقفون لحظة كي يسألوا أنفسهم كم يمكن اذن أن تساوي الببغاوات المفكرة؟!. ويقول حكيم: عندما تكون ولا تزال مشتتاً مفتقراً إلي اليقين. فأي فرق في اتخاذك هذا القرار أو ذاك؟!.
.........................................

د. حسين علي محمد
26/02/2008, 04:08 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.............................
mlg_38@hotmail.com

من الأخبار التي نشرت في العدد الماضي من هذه الصفحة. ندوة لكتاب استشراقي عن الثقافة العربية. ناقشت ما للاستشراق وما عليه. وحاولت التوصل إلي نتائج موضوعية.
وفي رأيي أن اجتهادات المستشرقين يجب الا تجاوز صفتها كاجتهادات فيما عدا تلك المثقلة بالغرض والبديهي ألا نرفضها. ونستنكرها. ونعدها دون قراءة خطأ وخطيئة. وإنما يجدر بنا أن نضعها في ميزان الاجتهاد. وفي الكفة المقابلة لاجتهاداتنا نحن.
نناقش ونتفق ونختلف. لكن العملية تظل دائما هي لغة الحوار. ثمة من يري في الاستشراق منهجاً غربياً في رؤية الأشياء. والتعامل معها. باعتبار ان هناك اختلافا جذريا في الوجود والمعرفة بين الشرق والغرب. وثمة تعريف يجد في الاستشراق محاولات لدراسة الشرق. بهدف تحقيق السيطرة عليه لصالح الغرب.. والحق أنه طالما عاني العرب والاسلام من اتهام المستشرقين بانه دين مقطوع الصلة بحضارة العصر. فهو يرفضها مقابلا لعجزه عن اللحاق بها. وثمة مزاعم أن القرآن استمد الكثير من موضوعاته من مصادر يهودية ومسيحية. وثمة من ينظر إلي الاسلام باعتباره دينا يدعو إلي الخوف وعدم الاطمئنان. وبخاصة في ضوء "سماحة" الدين المسيحي! وهي نظرة كما تري تهمل دعوة الاسلام إلي العدل والتكافل والمساواة بين البشر. والعديد من كتب الاستشراق لاتزال حتي الآن كما يقول إدوار سعيد "تنشر الكتب والمقالات باستمرار. عن الاسلام والعرب. وهي لا تختلف إطلاقا عن الجدل الخبيث المعادي للاسلام في القرون الوسطي وعصر النهضة" ويركز بعض المستشرقين علي النماذج السلبية من الأدب العربي. مثل الغزل الجنسي. والاتجاهات المنحرفة في التصوف. وتزييف الوقائع التاريخية. واختلاق السير. والتكسب بالشعر. ومداهنة السلطة إلخ.. ويعتبرون تلك النماذج ممثلة للتراث العربي. والإسلامي بعامة. وتبين الخطورة عن ملامحها. عندما نعلم ان الصورة التي صنعها المستشرقون عن دول العالم الاسلامي كان لها أكبر الأثر علي صانعي القرارات في حكومات الغرب.
ربما أسرف البعض في نقل الاجتهادات التاريخية للاستشراق. ولكن من الصعب القول ان الاستشراق قد بدل أفكار العرب في التاريخ فضلا عن الفقه والحديث والتفسير الخ. بل ان عاطف العراقي يؤكد أنه "لولا الاستشراق لما عرفنا نحن علومنا. بكافة أنواعها. وبمسلاتها وميادينها كعرب. لقد وجد الاستشراق لو التزمنا بالدقة في التتبع التاريخي منذ أكثر من عشرة قرون من الزمان. ليبقي. وقدم لنا أهله صفحات بيضاء".. المنهج هو الانجاز الأهم ولعله الوحيد للاستشراق في العقلية العربية. لم تعد الدراسات توضع عفو الخاطر. إنما تؤطر داخل قانون علمي صارم هو المنهج. وهو انجاز ذو أهمية قصوي بالفعل.. والحق أن الاكتفاء بالسخرية من نقداتنا للاستشراق. وللفكر الغربي بعامة. مثل الدعوة إلي عدم استعمال التكنولوجيا الغربية. ينطوي علي مغالطة سخيفة. فلا خلاف علي أن العلم والتكنولوجيا في أبعادهما الايجابية يتسمان بالعالمية وعدم المواطنة. لأنهما يتجنسان بجنسية العلم نفسه. ويحصلان علي هويته. ومن حق أي امريء. في أي مكان في العالم. أن يفيد منها. أما إذا تحددت معطيات العلم والتكنولوجيا في الأبعاد السلبية. كالقنابل الجرثومية أو الكيماوية وغيرها مثلاً. فإن الرفض يفرض نفسه كضرورة أخلاقية وحتمية. الأمر نفسه بالنسبة للثقافة التي تحرص علي الإضافة والتطوير ومستقبل الإنسان في إطلاقه. بعكس الثقافة التي تحمل وجهات نظر استعمارية أو مغرضة.
ولعل أصدق وصف للمستشرقين بعيداً عن المبالغات الكلامية هي أنهم علي حد تعبير ميشال جحا أساتذة وباحثون أكاديميون. تخصصوا في دراسة اللغة العربية. والحضارة العربية. وقضايا العالم العربي الفكرية. والدين الإسلامي. وهم يختلفون بالتأكيد عن أولئك الذين درسوا العربية لهدف تبشيري أو سياسي أو تجسسي أو إعلامي أو ديبلوماسي.
................................................
*المساء ـ في 5/1/2008م.

د. حسين علي محمد
26/02/2008, 04:09 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.......................

قد لا يكون من حقنا أن نعترض علي اختيار إسرائيل ضيف شرف وحيداً في معرض تورينو للكتاب. وإن كانت المجازر الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة والضفة الغربية تعطينا الحق في هذا الرفض.. لكننا بالقطع ضد دعوة كل الدول العربية باعتبارها ضيفاً واحداً في هذا المعرض أو ذاك. من منطلق أن الدولة غير العربية تساوي منفردة أقطارنا العربية مجتمعة.
تكرر الأمر من قبل في معرض فرانكفورت. حيث وجهت الدعوة إلي الدول العربية بأسلوب "الشروة". مقابلاً للاحتفاء بدولة واحدة غير عربية. كل عام. ضيفة شرف للمعرض. بصرف النظر عن قيمتها الحضارية والثقافية. مجرد أنها تعتز بهويتها. وتجيد تقديم نفسها. من خلال وعي مسئول. وتفهم لطبيعة الأوضاع الدولية.
نحن نهمل المقولة الشهيرة: أنت حيث تضع نفسك. لا تشغلنا الوسائل. ونتقبل كل النتائج. قد يكون الوضع العربي مأزوماً. ويعاني التخلف. لكن المجاوزة تظل أملاً. أو هذا هو ما ينبغي أن نسعي إليه. التخلف ليس قدراً. ولا هو مكتوب علي الجبين. إنه نحن. إرادتنا. واعتزازنا بأنفسنا. وبهويتنا. نعتز بنظرة العالم إلينا ككيان تربطه وشائج وصلات. لكننا نرفض النظرة التي تجد فينا مجرد كم بلا قيمة حقيقية.
يحزنني علي سبيل المثال ذلك التصور الغريب بأن جائزة نوبل هي التي تمنح الأديب صفة العالمية. فنحن نخوض المعارك المحلية في اتجاهها. ننسي أو نتناسي أن الكثير من الأسماء المهمة في تاريخ الأدب العالمي المعاصر لم تحصل علي الجائزة. وثمة من رفضها لأسباب معلنة!
المنطق العلمي الذي يجب أن تلتزم به وزارات الثقافة العربية. أن تعد خطتين تكتيكية واستراتيجية. لوضع الأدب العربي في المكانة التي يستحقها. وهو ما يرتكز بداهة إلي تصور عام. تشارك في وضعه وزارات الثقافة العربية. فلا يتباهي قطر ما بأنه تميز عن بقية الأقطار بالحصول علي امتياز منح النسخة العربية من مسابقة أوروبية. كأن الأمر يتصل بامتياز للتنقيب عن البترول!
لأن الحديث ذو شجون. فسأكتفي بالإشارة إلي المشاركة العربية في المعارض الدولية. وما ينبغي أن تكون عليه. مأساة فرانكفورت يجب ألا تتكرر. المفروض أن تكون المشاركة بحجم الناطقين بالعربية. وبالإبداع العربي في امتداد عصوره إلي التفجر الإبداعي الذي نعيشه الآن.
أقسي الأمور أن يستكين الأفراد ناهيك عن الدول إلي ما يصعب قبوله. ودعوة إسرائيل ضيف شرف لمعرض تورينو يذكرنا بالدعوات المتوالية لدول صغيرة وكبيرة إلي معرض فرانكفورت. فإذا وجهت إلينا الدعوة نفسها. لم نحاول السؤال. ولا المناقشة. ولا دراسة حقيقة الأوضاع.
نحن نقبل من منطلق اتحاد الضعفاء وليس من منطق وحدة الأقوياء.
وإذا كانت الجامعة العربية تعجز عن أداء دور سياسي فعَّال. فإنها تستطيع أن تؤدي دوراً مطلوبا في مجال الثقافة. ولن يتحقق هذا الدور إلا بالأداء الجاد الذي ينسق. ويضع الخطط. ولا يرضي بأي شيء!
............................
*المساء ـ في 26/1/2008م

د. حسين علي محمد
26/02/2008, 04:10 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.......................

قد لا يكون من حقنا أن نعترض علي اختيار إسرائيل ضيف شرف وحيداً في معرض تورينو للكتاب. وإن كانت المجازر الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة والضفة الغربية تعطينا الحق في هذا الرفض.. لكننا بالقطع ضد دعوة كل الدول العربية باعتبارها ضيفاً واحداً في هذا المعرض أو ذاك. من منطلق أن الدولة غير العربية تساوي منفردة أقطارنا العربية مجتمعة.
تكرر الأمر من قبل في معرض فرانكفورت. حيث وجهت الدعوة إلي الدول العربية بأسلوب "الشروة". مقابلاً للاحتفاء بدولة واحدة غير عربية. كل عام. ضيفة شرف للمعرض. بصرف النظر عن قيمتها الحضارية والثقافية. مجرد أنها تعتز بهويتها. وتجيد تقديم نفسها. من خلال وعي مسئول. وتفهم لطبيعة الأوضاع الدولية.
نحن نهمل المقولة الشهيرة: أنت حيث تضع نفسك. لا تشغلنا الوسائل. ونتقبل كل النتائج. قد يكون الوضع العربي مأزوماً. ويعاني التخلف. لكن المجاوزة تظل أملاً. أو هذا هو ما ينبغي أن نسعي إليه. التخلف ليس قدراً. ولا هو مكتوب علي الجبين. إنه نحن. إرادتنا. واعتزازنا بأنفسنا. وبهويتنا. نعتز بنظرة العالم إلينا ككيان تربطه وشائج وصلات. لكننا نرفض النظرة التي تجد فينا مجرد كم بلا قيمة حقيقية.
يحزنني علي سبيل المثال ذلك التصور الغريب بأن جائزة نوبل هي التي تمنح الأديب صفة العالمية. فنحن نخوض المعارك المحلية في اتجاهها. ننسي أو نتناسي أن الكثير من الأسماء المهمة في تاريخ الأدب العالمي المعاصر لم تحصل علي الجائزة. وثمة من رفضها لأسباب معلنة!
المنطق العلمي الذي يجب أن تلتزم به وزارات الثقافة العربية. أن تعد خطتين تكتيكية واستراتيجية. لوضع الأدب العربي في المكانة التي يستحقها. وهو ما يرتكز بداهة إلي تصور عام. تشارك في وضعه وزارات الثقافة العربية. فلا يتباهي قطر ما بأنه تميز عن بقية الأقطار بالحصول علي امتياز منح النسخة العربية من مسابقة أوروبية. كأن الأمر يتصل بامتياز للتنقيب عن البترول!
لأن الحديث ذو شجون. فسأكتفي بالإشارة إلي المشاركة العربية في المعارض الدولية. وما ينبغي أن تكون عليه. مأساة فرانكفورت يجب ألا تتكرر. المفروض أن تكون المشاركة بحجم الناطقين بالعربية. وبالإبداع العربي في امتداد عصوره إلي التفجر الإبداعي الذي نعيشه الآن.
أقسي الأمور أن يستكين الأفراد ناهيك عن الدول إلي ما يصعب قبوله. ودعوة إسرائيل ضيف شرف لمعرض تورينو يذكرنا بالدعوات المتوالية لدول صغيرة وكبيرة إلي معرض فرانكفورت. فإذا وجهت إلينا الدعوة نفسها. لم نحاول السؤال. ولا المناقشة. ولا دراسة حقيقة الأوضاع.
نحن نقبل من منطلق اتحاد الضعفاء وليس من منطق وحدة الأقوياء.
وإذا كانت الجامعة العربية تعجز عن أداء دور سياسي فعَّال. فإنها تستطيع أن تؤدي دوراً مطلوبا في مجال الثقافة. ولن يتحقق هذا الدور إلا بالأداء الجاد الذي ينسق. ويضع الخطط. ولا يرضي بأي شيء!
............................
*المساء ـ في 26/1/2008م.

اشرف الخضرى
26/02/2008, 06:20 PM
تحية عطرة د حسين محمد

هذا ليس موضوعا عابرا ارى كتابا امامى يكاد يكتمل

فلا تتركه يتسربل من يديك وعجل به

محمد جبريل

هذا الرجل الاستثناء المعلم والاب والاستاذ

تربيت فى ندوة محمد جبريل بالمساء...وكان اول من كتب اسمى ببنط كبير فى مجلة حريتى

وكان ينشر لى ويدعمنى مع عشرات الشعراء الشبان والقصاصين والباحثين

محمد جبريل علم اجيالا ودعمها وله فضل كبير فى تثقيف واعداد مئات الاسماء اللامعة

ان ابتسامة محمد جبريل وحدها كانت تكفى لتحفيز شاعر مبتدىء ليكون علما ونجما

اطال الله عمره وانعم عليه بالرخاء

كم اوحشنى لم نلتق منذ سنين

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:15 PM
تحية عطرة د حسين محمد

هذا ليس موضوعا عابرا ارى كتابا امامى يكاد يكتمل

فلا تتركه يتسربل من يديك وعجل به

محمد جبريل

هذا الرجل الاستثناء المعلم والاب والاستاذ

تربيت فى ندوة محمد جبريل بالمساء...وكان اول من كتب اسمى ببنط كبير فى مجلة حريتى

وكان ينشر لى ويدعمنى مع عشرات الشعراء الشبان والقصاصين والباحثين

محمد جبريل علم اجيالا ودعمها وله فضل كبير فى تثقيف واعداد مئات الاسماء اللامعة

ان ابتسامة محمد جبريل وحدها كانت تكفى لتحفيز شاعر مبتدىء ليكون علما ونجما

اطال الله عمره وانعم عليه بالرخاء

كم اوحشنى لم نلتق منذ سنين

شُكراً للمبدع الأستاذ
أشرف الخضري
على المُشاركة،
مع تحياتي.

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:17 PM
عنترة .. حكاية قديمة

قصة للأطفال، بقلم: محمد جبريل
..........................................

ارتدى الراوى الشعبى ثيابه ، وتهيأ للانصراف إلى المقهى .
قرر أن يحور فى سيرة عنترة ، ليجتذب انتباه رواد المقهى . لاحظ ـ فى الليلة الأخيرة ـ أن الرواد انشغلوا عنه بلعب الطاولة ، وشرب الشاى ، والمناقشات ، وتبادل الدعابات .
أدرك أنه لابد أن يضيف ويحذف إلى الحكاية التى يكررها منذ سنوات طويلة ، فلم تعد تجتذب انتباه أحد .
وهو يمد يده ليأخذ الربابة ، لحقه صوت من خارج النافذة المغلقة :
ـ أرجو أن تحسن رواية سيرتى .
أتجه الراوى بنظرة دهشة ناحية النافذة :
ـ من أنت ؟
ـ أنا عنترة .. بطل السيرة التى ترويها منذ سنوات طويلة .
تمالك الراوى نفسه ، وقال :
ـ ماذا تريد ؟
ـ أريد أن تروى حكايتى كما هى .. كما يحكيها الرواة منذ مئات السنين .
قال الراوى :
ـ لكن الدنيا تغيرت ، وما كان يتقبله الناس فى الماضى يصعب تصديقه الآن !
أضاف فى لهجة تأكيد :
ـ هذه حكاية تروى للناس . كل حكاية تحتاج إلى الإضافة والحذف ، حتى تناسب الوقت الذى تقال فيه . حتى الرواة القدامى أطالوا فى عمر عنترة ، ونسبوا إليه ما لم يحدث فى التاريخ .. لكن ذلك ما كان يحتاج الناس إلى سماعه حينذاك .
قال عنترة :
ـ إذن دعنى أختفى من ذاكرتك . سأتردد بنفسى على الأسواق والمقاهى ، أروى قصتى الحقيقية : معاركى ، وبطولاتى ، وحبى لابنة عمى عبلة .
قبل أن يرد الراوى على عنترة ، فوجئ أنه قد اختفى من ذاكرته بالفعل . لم يعد يتذكر من كان يخاطبه ، ولا السيرة التى كان يعد نفسه للخروج إلى المقهى كى يرويها .
ظهر عنترة فى هيئة فارس . حمل سيفه ، وامتطى جواده المسمى الأبجر ، واتجه ـ عبر الصحراء ـ إلى مدن قريبة ، وبعيدة ، ليروى حكاياته .
فى طريقه ، التقى عنترة برجل يحمل عصا ، فى نهايتها ماسورة من الحديد .
صوب الرجل عصاته ـ من بعيد ـ نحو أرنب برى ، فسقط الأرنب .
اقترب عنترة من الرجل . أبدى دهشته لسقوط الأرنب البرى دون أن تصيبه عصا الرجل.
قال الرجل :
ـ أنا صياد ، وهذه ليست مجرد عصا . إنها بندقية .
ـ ما هى البندقية ؟
ـ ألا تعرف البندقية ؟
وزوى ما بين حاجبيه متسائلاً :
ـ من أين أنت ؟
ـ أنا فارس الصحراء عنترة .
وأشار إلى جواده :
ـ هذا جوادى الأبجر الذى لا يخذلنى فى كل معاركى ..
ثم رفع سيفه :
ـ وهذا سيفى الذى أطرت به رءوس الأعداء .
أظهر الصياد دهشته :
ـ أنت إذن لم تسمع عن البندقية ، ولا عن الدبابة والصاروخ والطائرة . جعلت كل تلك المخترعات موضع الجواد فى النقل ، وفى السباق ، وجعلت السيف للزينة ، أو للعرض فى المتاحف!
صوب الصياد بندقيته إلى أرنب برى آخر ، فسقط ..
قال الصياد لعنترة :
ـ هل تشاركنى طعامى ؟
***
عاد عنترة من الصحراء . وقف فى هيئة التواضع أمام الراوى الشعبى ، وقال :
ـ لقد أعدت نفسى إلى ذاكرتك ، تستطيع أن تروى حكاياتى للناس بتعديلات بسيطة ، أو أن تروى لهم السيرة باعتبارها من سير التراث القديم .

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:17 PM
التجريب فى القصة الحديثة .. جذوره التراثية

بقلم: محمد جبريــل
...........................

(القسم الأول)
..................
المؤلف المصرى ـ فى اجتهاد أستاذنا سيد كريم ـ هو المؤلف الحقيقى لأشهر الروائع القصصية الخالدة التى لا تزال نسخها تباع بالملايين منسوبة إلى غيره ، مثل سندريلا وعلى بابا ومجنون ليلى وشمشون ودليلة والشاطر حسن والسندباد البحرى والكونت دى مونت كريستو ، وغيرها .. ويعترف نوثروب فراى بأن حكاية الأخوين هى مصدر قصة يوسف ـ سماها خرافة ـ عندما حاولت زوجة الأخ الأكبر أن تراود أخاه الأصغر عن نفسه ، فلما رفض إغواءها ، اتهمته عند أخيه بأنه حاول اغتصابها . ويلاحق الأخ أخاه ، وتتنامى الحبكة فى توالى الأحداث المتسمة بالعجائبية . ويضيف ا . ل . رانيلا إن للعرب الفضل فى إبداع الحكايات بوصفها أدباً ، وبهذا ثبّتوا شكل القص الخيالى المصور للحياة .
لقد واجه الشرق اتهاماً بضعف الخيال ، بحيث غاب فن القصة فى التراث العربى . القصة ـ فى تقدير المستشرقين ، وفى تقدير معظم الباحثين العرب أيضاً ـ فن أوروبى مستورد ، يمد جذوره فى الثقافة الأوروبية ، فهو تقليد ومحاكاة للقصة فى الغرب ، وليس له أى جذور فى التراث العربى الذى يعد تراثاً شعرياً فى الدرجة الأولى ، فهو مستحدث فى الإبداع العربى . بل إن محمود تيمور يقرر ـ فى بساطة ـ أنه لم يعد بيننا خلاف ـ كذا ـ على أن الأدب العربى ـ فى عصوره الخالية ـ لم يسهم فى القصة إلاّ بالنزر اليسير الذى لا يسمن ولا يغنى ، فالقصة الفنية إذن دخيلة عليه ، ناشئة فيه، لا أنساب لها فى الشرق ، ولا استمداد لها من أدب العرب " ( دراسات فى القصة والمسرح ـ 64 ).
والحق أنه من المكابرة الساذجة تصور القص العربى الحديث بعيداً عن تقنيات الغرب ، لكن من الخطأ البالغ إهمال تقنيات الحكى العربى فى سعينا لتأكيد الهوية القومية لإبداعنا المعاصر . ومن الصعب ـ فى الوقت نفسه ـ أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . ولعلى أذكر بقول جارثيا ماركيث : " من الطبيعى أن يمعنوا ـ يقصد الغرب الأوروبى ـ فى قياسنا بالمعايير ذاتها التى يقيسون بها أنفسهم ، ولكن عندما نصور وفق نماذج لا تمت إلينا بصلة ، فإن ذلك لن يخدم إلا غاية واحدة ، هى أن نغدو مجهولين أكثر ، وأقل جرأة ، وأشد عزلة " ..
وإذا كان التراث العربى ـ فى تقدير المستشرقين ـ يفتقر إلى الخيال ، والنظرة الفلسفية المتكاملة ، والحاسة النقدية ، وغياب الحس والقصصى والدرامى ، إلخ ، فلعله من المهم أن نشير إلى قول رينان بأن أوروبا امتلأت بقصص لا حصر لها قدم بها الصليبيون من الشرق العربى ، إثر عودتهم إلى بلادهم . ويقول ميشيل : " إذا كانت أوروبا مدينة بديانتها المسيحية لتعاليم المسيح ، فإنها مدينة بأدبها القصصى للعرب " . بل إن البارون " كار دى فو " يؤكد أنه ليس هناك أدب سبق الأدب العربى فى ابتداع فن القصة ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب ومذاهبه ـ 30 )
إن ضعف الخيال والإسراف فى الخيال اتهامان أملتهما الرغبة فى تحقير الملكات الإبداعية لكتاب الشرق ، وأن الشرق سيظل دوماً فى موقف التابع بالنسبة للمتبوع ، وهو الغرب الأوروبى .
الغريب أن الذين أفادوا من الخيال العربى ، ممثلاً فى ألف ليلة ليلة وحى بن يقظان ورسالة الغفران والحكايات والسير والطرف والأخبار العربية ، ينتمون إلى ثقافات أوروبية ، أو متأثرة بالثقافات الأوروبية . والثابت ـ تاريخياً ـ أن الرومانس ـ الحكايات الشعبية الأوروبية ـ تأثرت فى نشأتها بألف ليلة وليلة ..
ثمة رأى أن الرواية والقصة القصيرة والمسرحية لم يعرفها العرب إلاّ بعد اتصالهم بالأدب الأوروبى . وقد نقل العديد من الدارسين العرب عن المستشرقين ـ وكم تظلمنا النقلية ! ـ ما ذهبوا إليه من أن ما عرفه التراث العربى من الإبداع القصصى والروائى والمسرحى ، لا يعدو مجموعة من الأخبار والطرائف التى تخلو من الحرفية الفنية كما فى الإبداع الغربى . عمق من المشكلة أن المسرحية والقصة والرواية قد اقتصر تناولها على النقد الأوروبى والدراسات الأوروبية . وهو ما يزال قائماً ـ للأسف ـ حتى الآن . ومع أن نجيب محفوظ هو أحد الكتاب العالميين ـ باعتراف نوبل ! ـ فإن كل المراجع النقدية الحديثة ـ قبل نوبل وبعدها ، وحتى الآن ـ تخلو من عمل له ، بل ولا تشير إلى أعماله على أى نحو . إنهم يناقشون إبداعاتهم باعتبارها هى الإبداع الذى ينبغى تناوله . إنها ـ مع التقاط شذرات من هنا وهناك ـ هى الإبداع العالمى إطلاقاً ..
***
فى القرآن الكريم يقص الله ـ سبحانه ـ على رسوله الكريم أحسن القصص . وكان العرب يبدءون حكاياتهم أو طرفهم أو نوادرهم بعبارة : قال الراوى ، يحكى أن ، زعموا أن ، كان ما كان ، إلخ .. وقد أسهمت ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وحى بن يقظان وغيرها ، فى تطور فن القصة ـ والرواية طبعاً ـ فى الغرب . أديب أمريكا اللاتينية ألفريدو كاردنيا بنيا يجد فى ألف ليلة وليلة مخزناً لأكبر عدد من القصص الإسبانية . إنها النبع الثرى المتعدد الروافد للكثير من القصص الواردة فيه ـ على حد تعبير الكاتب ـ فم تترك أى موضوع إلاّ وتطرقت إليه ، بحيث تحولت الكتابات التالية إلى مجرد تقليد ، أو نقل غير مبدع . وتبدو إفادة الثقافة المكتوبة بالأسبانية من الثقافة العربية المعاصرة ـ إبان حكم المسلمين لشبه الجزيرة الأيبرية ـ ظاهرة محيّرة ، مقابلاً لإخفاق الثقافة العربية المعاصرة فى الإفادة من ذلك التراث ، مع أنه يتصل بنحن ، وليس بالآخر . إنها ثقافة تعتمد على الدين الإسلامى والتاريخ العربى واللغة العربية . يغيظنى ـ على سبيل المثال ـ زهو بعض المبدعين بأنهم قد تأثروا بواقعية ماركيث السحرية ، بينما أعلن الكاتب الكولومبى أنه قد تأثر بغرائبية ألف ليلة وليلة !..
يقول محمد فهمى عبد اللطيف : " كان من الطبيعى أن يتميز القاص المصرى فى هذا المجتمع الخصيب ، وأن يكون محصوله فى ذلك وافراً ، ونتاجه وافياً .. فكان أبرز وأوفى من أجدى فى هذه الناحية . وما ألف ليلة وليلة ، وقصة الهلالية ، وقصة الظاهر بيبرس ، وقصة سيف بن ذى يزن ، وغيرها من القصص ، إلاّ من فيض براعة القصاص المصريين ، وقدرتهم على التحليل والإفاضة ، سواء ما ابتدعوه منها ابتداعاً ، أو ما مدّوا فيه بالتزيد والإغراق والاختراع والاختلاق . وإذا كان هؤلاء القصاص قد تناولوا ألف ليلة وليلة نصاً عن الفارسية ، مدّوا فى فروعه ، وأساساً ارتفعوا ببنائه ، فإنهم كذلك فى قصة الهلالية تناولوها عن الأصل التاريخى ، وأخذوها مما جرى فى رحلة أولئك الأغراب إلى مصر ، ثم إلى بلاد إفريقية ، وما وقع لهم من الحروب والأحداث ، وانتقلوا بذلك الأصل التاريخى إلى ميدان الخيال الفسيح " ( أبو زيد الهلالى 59 ) .
ما نستطيع الاطمئنان إليه أن القصة العربية لها جذورها الممتدة فى تربة التراث . وهى تختلف ـ بالتأكيد ـ عن تربة الترجمة التى أعطت لإبداعنا ثماراً يصعب التقليل من قيمتها . وإذا كان محمود طاهر لاشين قد أعلن أنه " لا ميراث لقصاصينا فى الأدب العربى " ( المجلة الجديدة ـ يونيو 1931 ) فإن مجرد التنقيب فى التراث العربى الأدبى القديم ، سعياً لاكتشاف شكل فنى يمكن نسبته إلى القصة والرواية ، اتساقاً مع شكل القصة والرواية الغربية .. ذلك التنقيب لم يكن يخلو من نظرة أحادية متعسفة ، فالقصة ـ فى تقدير هؤلاء ، وفى سعيهم لاكتشاف ملامحها فى الأدب العربى القديم ، هى القصة فى الغرب من حيث البنية والحبكة والتكثيف وغيرها . وحين أهملت إبداعات الغرب القصصية والروائية تلك الخصائص ، فإن محاولاتنا الإبداعية ـ والنقدية ـ قد أهملتها كذلك !
***
لقد غابت القصة الموباسانية ـ أو ذوت فى أقل تقدير ـ منذ فترة بعيدة ـ فى الأدب العالمى . وغاب ذلك النوع من القصص فى إبداعنا العربى ـ منذ الخمسينيات ـ على يد اليوسفين إدريس والشارونى وإدوار الخراط ، ثم فى أعمال أدباء الستينيات التى اختلط فيها الوعى باللا وعى وتيارات الشعور . لم يعد الواقع هو تلك الثنائيات المكرورة : التقدم فى مواجهة التخلف ، الخير فى مواجهة الشر ، الغنى فى مواجهة الفقر إلخ .. أصبح الواقع ملتبساً وظنياً ، وقدمت محاولات تنتسب إلى الواقعية السحرية والعجائبية والغرائبية وخارج الواقع وما فوق الواقعى . النص الأدبى ـ فى تقدير تودوروف ـ هو النص الذى يحطم القواعد النوعية ، ولا يمكن أن يتقلص إلى مجرد معادلة ، ومن ثم فلا يمكن وضعه ـ بصورة نهائية ـ فى جنس محدد . ويذهب جوناثان كلر إلى أن الأنواع ليست مجرد فئات للتصنيف ، بل مجموعات من المعايير والتوقعات التى تساعد القارئ فى تحديد وظائف العناصر المختلفة فى العمل الأدبى . وهو رأى يبدو مقنعاً فى عمومه . مع ذلك ، فإنى أرجو ألا نختلف فى أنه توجد خصائص أو سمات يشترك فيها النص الإبداعى مع نصوص إبداعية أخرى ، تختلف عن نوع ذلك النص . فالقصة ـ على سبيل المثال ـ قد تستعين بدرامية الحوار ، أو تلجأ إلى هارمونية الموسيقا ، أو إلى أسلوب التبقيع ، أو الكولاج ، كما فى الفن التشكيلى ، أو تقنيات السينما والمسرح وغيرها . وثمة رأى أن الرواية نوع أدبى يقاوم التقيد بما هو تأملى وفنى خالص ، بحيث تذوب فى المجموع الكلى للتجربة الإنسانية من أفكار وآراء وطموحات وغرائز . لا تفرد مطلقاً فى الجنس الأدبى ، فهو لابد أن يفيد من الأجناس الأدبية الأخرى ويفيدها ، يتأثر بها ويؤثر فيها . وإذا كانت كتابات ما بعد الحداثة تتجاوز الأنواع ، الأجناس الأدبية ، تذيب الفوارق والحدود ، فإن التخلى عن الفروق بين الأنواع ، وظهور صيغة جديدة ، تأتلف وتختلط فيها كل الأجناس ، يعنى التحول إلى نص بلا ملامح ، وبلا هوية محددة [ عندما ظهرت اللا رواية واللا مسرحية ـ فى الستينيات ـ تصور الكثيرون أن الرواية والمسرحية حان أوان موتهما ! ]. القصة قد تفيد من لغة الشعر ، بينما تلجأ السينما إلى الرواية الأدبية ، وتعتمد الرواية على درامية الحوار ، إلخ .. لكن القصة يصعب إلا أن تكون قصة . الأمر نفسه بالنسبة للقصيدة والمسرحية والفيلم وغيرها . وإذا كانت بعض الأعمال الحديثة تطالعنا باعتبارها كتابات أو نصوصاً ، لا تسمية نوعية محددة ، كقصة أو قصيدة أو مسرحية ، فلعلى أومن بمقولة هيثر وابرو التى تؤكد أن معرفة النوع تهبنا مفاتيح عالية القيمة ، فيما يتصل بالكيفية التى نفسر بها قصيدة ..
............
(يتبع)

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:20 PM
(القسم الثاني)
....................
يقول ألان روب جرييه : " ليست المشكلة هى تأسيس نظرية أو قالب موجود سلفاً نَصُبّ فيه كتابة المستقبل . وعلى كل روائى ، وكل رواية ، أن يخترع شكله الخاص ، وليس هناك وصفة يمكن أن تحل محل هذا التأمل الدائم " . ثمة مقولة إن الرواية نوع غير منته ، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد . إنها تتسم ـ كجنس فنى ـ بالانفتاح واللانهائية . ما يشبه الإجماع النقدى على أن الرواية والقصة القصيرة هما النوعان القصصيان الحديثان اللذان جاوزا التعريفات والقوانين النقدية . وقد نشأت القصة الحديثة ـ فى تقدير أوستن وارين ورينيه ويلك وغيرهما ـ من الأشكال السردية غير الخيالية ، كاليوميات والمذكرات والرسائل والسير والتاريخ ، وأيضاً من خلال النادرة والخبر والطرفة والملحة وغيرها . [ وهو ما يخالف قول محمود أمين العالم : " ليس من الدقة أن نسعى إلى تلمس مصادر القصة العربية فى تاريخ الأدب العربى القديم ، وفى القرآن ، والأساطير الشعبية والحكايات والمقامات وكتب الأخبار " ـ الثقافة الوطنية ـ فبراير ـ مارس 1954 ] . ثم خالفت القصة الحديثة ـ فى محاولاتها للتجريب ـ كل الأبنية القصصية المعروفة ، وحطم كتاب القصة القصيرة والرواية المحدثون كل البنى القصصية المألوفة ، أو المتعارف عليها ، أو حتى التى حاولت التجريب دون أن تجاوز صفتها الإبداعية . أصبح مصطلح الرواية والقصة القصيرة ـ على سبيل المثال ـ مطاطاً . تلامس مع الملحمة والسيرة والمسرح والسيرة الذاتية إلخ . فالحيرة التى واجهها النقد فى النظرة إلى أيام طه حسين ، أو خليها على الله ليحيى حقى ، باعتبارها عملاً روائياً أو سيرة ذاتية ، تلك الحيرة تجد مرساها فى نسبة السيرة الذاتية إلى فن الرواية ، فالأيام أو خليها على الله إذن سيرة ذاتية ورواية فى آن . ولا يخلو من دلالة قول شلوفسكى إنه لم يعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة . ثمة روايات وقصص جيدة دون أن يكون لها منظور جيد . إنها تعبير عن الإبداع الفنى وليس نظريات النقد . أهملت بعداً أو اثنين من الأبعاد الثلاثة : الحدث والزمان والمكان . وثمة أسماء لأشكال أدبية تتصل على نحو أو آخر بفن القصة القصيرة : القصيدة النثرية ، الخرافة ، الحكاية ، الطرفة ، ا لملاحظة ، الحدوتة ، اللوحة ، الفصل فى رواية ، إلخ .. وهناك القصة المضادة ، أى التى تهمل المتعارف عليه فى فن القصة ، مثل الزمان والمكان والمنظور والحبكة والشخصيات واللغة إلخ . وعلى سبيل المثال ، فالقول بأن الرواية ليست مجموعة من القصص القصيرة ، مقابلاً لأن القصة القصيرة ليست جزءاً من الرواية . ذلك القول لم يعد وارداً فى الحقيقة . قد تطالعنا رواية هى مجموعة من اللوحات المنفصلة ، المتصلة [ أذكرك بروايتى رباعية بحرى بأجزائها الأربعة ] وقد تأتى فصولاً فى رواية ، يشكل كل فصل ما يعد قصة قصيرة . والمجموعة القصصية قارب الجليد لإدوارد ماييا E Maelle يمكن قراءتها باعتبارها كذلك ، أو باعتبارها فصولاً تشكل رواية . وأيضاً رواية البنتاجون لأنطونيو دى بنيتو Antonio Di Benedetto كتبها الفنان فى شكل قصص قصيرة . وقد دخلت العظات والخطب والرسائل فى نسيج السرد . والمتواليات القصصية قد تأتى ـ كما أشرنا ـ فى صورة لوحات منفصلة ، ومتصلة ، أو حكايات سردية تتعدد فيها الشخصيات والأمكنة . وثمة القصة التى لا تسرد شيئاً ، أو التى تخلو من الحدث والشخصيات والحبكة . وثمة تقطع الحكاية ، والقص واللصق [ الكولاج ] وتحليل اللاشعور من خلال وجهات نظر الشخصيات ، والمناجاة الذاتية ، والنثر الغنائى . الحكاية تختلف عن القصة القصيرة فى أن لها دلالة واضحة ، لكن الحكاية ذات الدلالة هى الكثير مما يطالعنا الآن باعتباره قصة ..
وإذا كانت الرواية الجديدة قد نشأت حوالى 1910 على يد فرجينيا وولف ، فإن الجدة فى الرواية متكررة ، ومتواصلة ، ومن الصعب القول إنها ستنتهى . الرواية ـ فى تقدير باختين ـ مجموعة من العمليات المفتوحة داخل حقل الكتابة . إنها لا تكون . فليس لها مجموعة من الخصائص الشكلية التى يمكن أن تحدها ، لكنها " تصير " ، فهى تتغير باستمرار وتتطور ، لكن ليس فى اتجاه محدد ، أو مرسوم سلفاً ، يمليه نظام للعلاقات بين الشكل الأدبى والبنية الاجتماعية التى تميز ظروف نشأته ( ت : خيرى دومة ) . ما يشبه الإجماع على أنه لم يعد هناك مالا تقبله الرواية ، وأن كل الأجناس ، وكل الحيل ، تخدم التقنية الروائية . أشير ـ ثانية ـ إلى روايتى رباعية بحرى . كل لوحة مستقلة بنفسها ، لكنها متصلة باللوحات التى سبقتها ، واللوحات التى تليها . تتشكل من توالى اللوحات بانوراما متكاملة ، بوسعنا أن ننسبها إلى الإبداع الروائى . وإذا كنت قد وصفت روايتى الحياة ثانية بالتسجيلية ، فلأن السرد يروى ما جرى بالفعل . لم أضف ، ولم أحذف ، اللهم إلاّ ما تصورته صياغة أدبية وتقنية . أما روايتى مد الموج فهى تنتسب إلى جنس الرواية ، لأنها تلتزم بتقنية الرواية ولغتها ، وإن اقتصر السرد الروائى على تبقيعات نثرية من سيرة حياة ..
***
إذن ، فالاتهام الذى يواجهه التراث القصصى العربى متمثلاً فى القصة والحكاية والنادرة وغيرها ، أنه لا يشابه القصة كما نعرفها اليوم .. هذا الاتهام يحتاج إلى مراجعة شديدة ، وبالذات فى ضوء اتساع مساحة الأشكال الفنية فى القصة الحديثة ، بصرف النظر عن الثقافة التى تصدر عنها . والقول بأن زينب هى بداية الرواية المصرية الحديثة يحتاج الآن كذلك إلى مراجعة ، لا لأن الروايات التى سبقتها [ حوالى 130 رواية ] لم تخضع لتقويم من أى نوع ، بحيث تستحق زينب الصفة التى وسمها بها يحيى حقى وآخرون ، لا لذلك السبب فحسب ، وإنما لأن فنية الرواية بالمعنى التقليدى لم تعد واردة . وإذا كان من السهل تقبل الرأى بأن الرياح التى تهب من أوروبا حملت ـ فى أوائل القرن العشرين ـ بذرة غريبة على المجتمع المصرى ، هى بذرة القصة ( فجر القصة المصرية ـ 21 ) فإن ذلك الرأى يحتاج ـ فى ضوء المعايير الحالية لفن القصة ـ إلى إعادة نظر . نعم ، كانت القصة بذرة غريبة على المجتمع المصرى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، القصة بقواعدها الكلاسيكية ، بخصائصها الموباسانية من بداية ووسط ولحظة تنوير . وهى قواعد وخصائص تجاوزتها التيارات والاتجاهات الفنية الحديثة بصورة مؤكدة . لم تعد صرامة البداية والذروة ولحظة التنوير ـ كما أوردها رشاد رشدى فى كتابه عن فن القصة القصيرة ـ مطلوبة . ما بعد الحداثة تذهب إلى أن " كل نص جديد إنما يكتب مكان نص أقدم " . بل إن بورخيس يحرص على التأكيد أنه لا أحد يمكنه أن يدعى الأصالة فى الأدب . كل الكتّاب ـ فى تقديره ـ ناسخون ومترجمون ومفسّرون للنماذج الأصلية المتوالية بتوالى الإبداعات ، فى توالى العصور ..
***
السؤال الذى يطرح نفسه : كيف تعتمد محاولات توظيف التراث العربى فناً قصصياً ، ولا تعتمد التراث العربى نفسه ـ بكل ما يشتمل عليه من فيض حكائى وأشكال قصصية ـ فناً قصصياً ؟! وعلى سبيل المثال ، فهل تختلف مشاهد الواقعية السحرية عن مشهد الباب المغلق ؟.. يصر الرجل على فتحه لرؤية ما وراءه . يجد حصاناً ، يفك قيده ، ويمتطيه . يطير الحصان ، وينزل به على سطح ، ويضرب بذيله ، فيتلف عينه اليسرى ؟!.. ألا نجد فى ذلك المشهد ـ وسواه ـ مدخلاً لواقعية أمريكا اللاتينية السحرية ؟!
***
لقد لامست تخوم القصة أجناساً أدبية وفنية أخرى ، واختلطت بها وتشابكت ، وانتسبت جميعها إلى الإبداع القصصى ، بحيث انتفى التحديد الصارم لماهية القصة . بل إن صديقى عبد الله أبو هيف يذهب إلى أن تحديد عناصر القصة لا يعنى الركون إلى نظرية الأجناس الأدبية ، لأن فن القصة أنجب أجناساً متعددة فى القديم والحديث (القصة العربية الحديثة والغرب ـ 38 ) . وكما يشير كونديرا ، فإن معظم الروايات الحديثة ـ بالمعنى الزمنى وليس بمعنى الحداثة ـ تقف خارج دنيا الرواية . لقد أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج والتبئير ، والزاوية القريبة ، والمزج ، والقطع ، والتناوب ، والاسترجاع ، وحذف علامات الترقيم ، والاستتغناء عن أدوات الواصل . وتبادلت الرواية ـ والسينما بعامة ـ التأثر والتأثير . وثمة الاعترافات المصاغة فى شكل روائى ، والسير الذاتية للمبدعين ، والمشكلات والقضايا الأخرى التى تنسب إلى الرواية بالشكل وحده ، وثمة القصة المقال ، والقصة السرد ، والقصة اللوحة ، والقصة الرسالة ، والقصة الخاطرة ، والقصة الرحلة ، إلخ . وثمة تعاظم دور المتلقى بديلاً لسلبية القراءة ، وتداخل السرد بالمونولوج الداخلى ، والمزج بين الواقع والخيال ، والحسية والأسطورية ، وأنسنة الحيوان والأشياء . طرأ على نظرية القصة عموماً ما بدّل من النظرة الثابتة إليها ، كالشكلانية والبنيوية والتكوينية واللسانية وغيرها . لذلك فإنى أجد فى ما بعد الحداثة ما يحمله التراث العربى ، فأنسب إلى القصة والرواية ، ما تناثر فى كتب العرب من الخرافة ، والتاريخ ، والسيرة ، والحكاية ، والخطابة ، والتهذيب ، والشعبية ، والخبر ، والطرفة ، والملحة ، والرحلة ، والحلم ، وغيرها من فنون السرد العربى . ثمن زوجة قصة لنجيب محفوظ ، نشرها ضمن مجموعته همس الجنون تتحدث عن الزوج الذى يضبط زوجته فى موقف الخائنة ، ويدبر حيلة يدفع بها الزوجة إلى الانتحار دون أن يكون هو المتسبب بصورة معلنة . هذه القصة تذكرنا بحكايات العرب ونوادرهم وأخبارهم . القصة لا تستدعى التراث ولا توظفه ، لكن ملامح التراث تبدو واضحة بما لا يخفى . أنت تستطيع أن تتعرف إلى حيل الأزواج فى كشف خيانات زوجاتهم ، فى ا لكثير من حكايات العرب ونوادرهم . ولو أننا بدلنا الأسماء والمسميات ، وتحول البيت إلى خيمة ، والريال إلى درهم ، فستطالعنا حكاية ذكية من تراثنا العربى . أذكر بالحكاية التى جاءت فى " وفيات الأعيان " عن حب أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ، وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك ، لوضاح اليمن الشاعر . أخفته ـ ذات يوم ـ فى صندوق بعد أن دخل عليها الخليفة فجأة . وفطن الوليد إلى ما حدث ، فدعا الخدم وأمرهم بحمل الصندوق إلى شفير بئر ، ثم قال له : يا صاحب الصندوق ، إنه بلغنا شىء ، إن كان حقاً فقد دفناك ودفنّا ذكرك إلى آخر الدهر ، وإن كان باطلاً فإنما دفنّا الخشب . ثم قذف الخدم بالصندوق فى البحر ، وأهالوا عليه التراب ، وسويت الأرض " فما رؤى الوضاح بعد ذلك اليوم ، ولا أبصرت أم البنين فى وجه الوليد غضباً ، حتى فرق الموت بينهما " . لقد تعمد كلّ من الزوج والخليفة ألا يشير إلى ذلك الكابوس ـ بعد انقضائه ـ بتلميح أو تصريح ، ولا ذكره بخير أو شر ، ولا أجرى بسببه تحقيقاً ، ولا أثار عنه سؤالاً ، وطالع الزوجة بوجه هادئ كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون . استعان حمدى فى ثمن زوجة بهدوئه ، وخطط للانتقام دون أن يصارح أحداً بما ينوى فعله . وهو ما فعله الخليفة . وكان الريال مساوياً للصندوق الذى اختفى فيه الشاب العشيق ، وإن اختلفت النهاية بين القصة والحكاية ، فقد قتل العشيق فى الحكاية ـ الأدق أنه قَبِل القتل! ـ أى أنه انتحر ـ بينما انتحرت الزوجة فى القصة ( محمد جبريل : عود على بدء ـ فتوة العطوف لنجيب محفوظ ) . لا تباين فى دلالات العملين ، وإن اختلفت فنية التناول ..
من الصعب أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ بل والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . القول بأن الصياغة العربية تخالف الصياغة التى تضيف إلى فنية القصة ـ وتمثل فيها بعداً أساسياً .. هذا القول يبدو خافت الصوت إلى حد التلاشى فى ضوء التيارات الفنية الأوروبية الحديثة نفسها ، كاللاقصة ، واللاحكاية ، وتوظيف التراث إلخ . ولعلى أعيد التأكيد على أن القصة الحديثة لم يعد لها إطار ولا مدى محدد . ثمة قصيدة تسرد قصة ، وثمة قصة هى أقرب إلى قصيدة النثر ، وبعض المقالات تكتمل فيها مقومات القصة القصيرة ، بل إن بعض قصص بورخيس المتفوقة ليست إلا عروض كتب أو مقالات نقدية . وعلى سبيل المثال ، فإن إبداعات بورخيس تعاملت مع التراث الإنسانى باعتباره تراثه القومى . أعلن أن تراثه هو ثقافة العالم ، فلا يظل حبيساً داخل الحدود الضيقة لمدينة بذاتها ، ولا لبلد ذاته ، ولا لقارة محددة . إبداعات بورخيس تطالعنا بالكثير من الاقتباسات والمقارنات والإشارات . لم يحبس بورخيس قراءاته ولا أفكاره ولا إبداعه ، فى سجن التراث القومى لبلاده مثلما فعل الأوروبيون . انطلق فى كتاباته إلى الآفاق الثقافية الرحبة . استوعب أساطير اسكندنافيا ، وسير الشرق العربى ، وشعر الأنجلو ساكسون ، وفلسفة الألمان ، وأدب العصر الذهبى بأسبانيا ، وشعر الإنجليز ، وشعر هوميروس ودانتى ، وضفّر فى أعماله آيات القرآن ، وأحاديث الرسول ، وليالى ألف ليلة وليلة ، والعديد من الطرف والنوادر والحكايات والإشارات الثقافية ، مما يزخر به التراث الإبداعى العربى ، بالإضافة ـ طبعاً ـ إلى التراث الإبداعى الغربى كنثر ستيفنسون وحكايات الساجا الآيسلندية وغيرها . ثمة تكامل فى إبداع بورخيس بين الشعر والقصة القصيرة والمقال .. ذلك كله يصب فى بوتقة واحدة ، من الصعب أن تميز فيها بين جنس فنى وآخر . تداخلت مستويات القص . لم يعد الفضاء الروائى أو القصصى ينتهى بتلك الحدود الحاسمة التى كان يشترطها النقد قبل نشوء الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة . تشابكت المسميات والصفات ، واختلطت ..
***
باختصار ، فإنى أومن بالتراث ، بوعيه وجدواه ، وإمكانية استعادته واستمراره ، تواصلاً مع المعطيات المعاصرة والحديثة . وكما يقول أندريه موروا ، فإن كل قارئ من قراء القرن العشرين ـ أضيف : الحادى والعشرين ـ يعيد ـ لا إرادياً ـ كتابة روائع القرون الماضية بطريقته الخاصة .
" محمد جبريل "

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:21 PM
قصة قصيرة لمحمد جبريل
..................................

غوايــــــة

حين صعد الشبان الخمسة إلى عربة المترو ، كان يقرأ جريدة وهو واقف فى الزاوية بين ظهر المقعد والباب المغلق من الناحية المقابلة . كانت المقاعد ممتلئة ، وتناثر الوقوف فى المساحات الخالية . استأنف الشبان كلامهم فى وقفتهم بالقرب منه . تشاغل بقراءة الجريدة ، وإن عكست تعبيرات وجهه ما يبين أنه يتابع نقاشهم ..
التقط ملاحظة الشاب المنمش البشرة عن انتصاف النهار دون أن يتناولوا طعاماً . أخرج من جيب الجاكت قطعة شيكولاتة . همس بلهجة مشفقة :
ـ تصبيرة !
تنبه الشبان إليه ..
أطالوا التحديق في ملامحه وهيئته . في حوالى الخامسة والأربعين . يرتدى بدلة رمادية ، ورباط عنق من اللون نفسه . عيناه قلقتان لا تستقران بين أجفانه الضيقة ، فهو يطبق جفنيه ، ويفتحهما ، فى حركة عفوية ، سريعة ، ويكثر من رفع إصبعه ليعيد النظارة المنزلقة على الأنف إلى موضعها ، ويمسك فى يده منديلاً لتنشيف العرق المتصبب في وجهه ..
قال الشاب الطويل القامة :
ـ وأنا .. أليس لى قطعة شيكولاتة ؟
رسم على وجهه ابتسامة واسعة ، وأشار إلى الشاب المنمش البشرة :
ـ أعطيته قطعة كنت أحتفظ بها لنفسى ..
التقط الشاب ارتجافة فى عينيه ، فقال :
ـ لا شأن لى .. أريد شيكولاتة ..
غلبه ارتباك . بدا منطوياً على نفسه ، ومتخاذلاً . رفع الجريدة بيده كمن يحاول الدفاع عن نفسه . تشجع الشاب الطويل فاختطف الجريدة . علت ضحكات الشبان . امتدت يد الشاب المنمش البشرة إلى الجيب العلوى . أخذ القلم ، وقذف به فى الهواء . التقطه . أعاد ما فعله مرات ، ثم قذف به من النافذة ..
صرخ :
ـ القلم !
انعكست نظراتهم ارتجافة فى عينيه . وشى تلفته أنه يريد الابتعاد . تقدموا نحوه فى نصف دائرة . عاد بظهره إلى الوراء حتى التصق بالجدار . ظلوا يرمقونه بنظرات قاسية ، ويكورون قبضاتهم ، ويقتربون ، ويقتربون ..
كان الشاب الممتلئ الجسد أقربهم إليه . صفعه بظهر كفه . تبعه الشاب الطويل ذو النظارة الطبية بلكمة . شجعهم تكوره على نفسه ، وملامحه الخائفة ، على معاودة ضربه . انهالت قبضاتهم وركلاتهم على جسده ، لا تتخير الموضع الذى تصيبه ..
.................................................. ....
(من مجموعة "إيقاعات" ـ تحت الطبع)

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:22 PM
قصة قصيرة جدا لمحمد جبريل
.....................................

لحظــــــــة

أعادت تأمل الشعرة البيضاء . لم تكن رأتها من قبل . تنظر إلى المرآة إذا وضعت المساحيق ، أو مشطت شعرها ، أو وهى ترتدى الملابس . ربما تأملت وجهها ، أو جسمها كله ، بلا مناسبة . هذه هى المرة الأولى التى تكتشف فيها الشعرة قافزة فى الغابة السوداء خلف الأذن ..
غالبت مشاعر متباينة ، وإن غاب معناها الحقيقي . دارت بإصبعين كدوامة ، حتى اطمأنت إلى اختفاء الشعرة تماماً . تأكدت من البسمة التى لم تكن تغادر شفتيها ..
غادرت الشقة بخطوات بطيئة ..
ثم بخطوات أسرع ..
.................................................. ....
(من مجموعة "إيقاعات" ـ تحت الطبع)

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:23 PM
قصة قصيرة لمحمد جبريل
......................................

انكسارات الرؤى المستحيلة
قال أحمد أنيس وهو يضع رزمة النقود على مكتبى :
ـ ثلاث ساعات وأنا أتنقل بين البنك المركزى وبنط مصر وبنك فيصل ..
أودعت رزمة النقود درج المكتب :
ـ ما فعلته جزء من عملك ، فلم تشكو ؟
رسم على وجهه ابتسامة معتذرة :
ـ لم أقصد الشكوى ، لكننى أشرح ما حدث ..
لما ضاق وقتى عن استيعاب مسئولياتى ، عهدت إلى أحمد أنيس بأن يقدم لى من وقته بدلاً من وقتى الذى لم يكن بوسعى أن أضيعه . مكانتى تفرض الحاجة إلى الوقت . أختلف مع ما يحتاجه أحمد أنيس . هو لا يريد إلا الأجر الذى ينفق منه على احتياجات يومه ..
كنت أضيع الوقت فى انتظار المصعد ، دورى أمام شباك السينما ، وفى مكتب شركات الطيران ، وداخل البنك ، وصالة الاستقبال بعيادة الطبيب ، والوقوف بالسيارة فى إشارة المرور ، والوقوف فى طوابير وصفوف ، انتظاراً لشىء أطلبه . واللقاءات الشخصية ، وأحاديث التليفون ، والتوقيع على أوراق مهمة ، وبلا قيمة . وكان الطريق يبتلع أكثر من ساعة بين البيت فى مصر الجديدة ، والمكتب فى المهندسين ..
ماذا يحدث لو أنى لم أعترف بالوقت ؟ لو أنى أنكرت وجوده أصلاً ؟.. أصحو وأعمل وأنام . لا يرتبط ما أفعله بشروق الشمس ولا غروبها ، ولا أيام السبت والأحد إلى نهاية الأسبوع . حتى الساعة انزعها من يدى ، فلا يشغلنى ما فات ولا ما أترقبه . لكن الآخرين يصرون على السنة والشهر والساعة واللحظة . يصرون على الوقت ..
هذا ما أفعله بالضرورة ..
الوقت الذى لا يضيع ، لا يمكن أن أسترده ، أو أعوضه . حرصت على أن أختصر من عاداتى ما يضيف إلى وقت الإنجاز . لم أعد أحلق ذقنى صباح كل يوم . ربما أخرت حلاقتها إلى صباح اليوم الثالث . تبينت أنه لم تعد الذقن غير الحليقة تليق بمكانتى . أوصيت على ماكينة كهربائية ، أستعملها فى الأوقات الضائعة ، فى جلستى وراء السائق . وكنت أرجئ تنفيذ بعض ما يجب إنجازه ، فأنهيه فى وقت واحد ..
قرأت أن الوقت هو الرمز النهائى للسيادة ، وأن هؤلاء الذين يسيطرون على وقت الآخرين لديهم القوة . من يملكون القوة يسيطرون على وقت الآخرين ..
أريد أن أفيد من كل ساعة ، كل دقيقة ، كل ثانية . لدى الكثير مما يهمنى أن أنجزه . الحياة قصيرة إن لم نحسن استغلالها . نضيف إليها وقت الآخرين ، ما نحصل عليه من وقتهم . لن تمضى حياتى على النحو الذى أطلبه ، ما لم تأخذ من حياة الآخرين . إنهم يجب أن يضيفوا إلى حياتى ، يعملون لها ..
أزمعت أن أحصل على الوقت الذى أحتاج إليه من رجل ، شاب ، عنده الفائض من الوقت ..
أطلت الوقوف على باب الحجرة ، حتى رفع أحمد أنيس رأسه من الأوراق والملفات المكدسة على المكتب :
ـ أفندم يا سعادة البك ..
سعدت للذهول ـ وربما الخوف ـ الذى نطق فى ملامحه ..
لم أتردد على مكتبه ، ولا أى مكان فى المبنى . المرئيات ثابتة منذ الباب الخارجى ، وصعودى السلمات العشر ، ثم الميل إلى اليمين ، والسير فى الطرقة المفروشة بالمشاية الحمراء ، الطويلة ، على جانبيها لوحات أصلية ، وإضاءة خافتة . شندى الساعى ـ فى نهاية الطرقة ـ يسرع إلى فتح الباب . تطالعنى الحجرة الواسعة ، المطلة على النيل : الأبواب والنوافذ ذات النقوش البارزة ، والزجاج المتداخل الألوان ، والأرفف الخشبية رصت فوقها كتب وأوراق وأيقونات صغيرة وشمعدانات ، والأرض فرشت سجادة تغلب عليها النقوش الحمراء ، فوقها كنبتان متقابلتان ، يتخللهما طاولات وكراسى ، والمكتب الضخم فى الوسط ، من الأبنوس والصدف ، وقبالة الباب مرآة هائلة تغطى معظم مساحة الجدار ، وتدلت من السقف نجفة كريستال هائلة ..
بدا أحمد أنيس مرتبكاً ، لا يدرى إن كان عليه أن يظل فى وقفته أم يقبل ناحيتى ..
أشرت إليه ، فلم يغادر موضعه . أهملت ما ينبغى على رئيس العمل أن يحرص عليه . يستدعى مرءوسيه ولا يذهب إليهم . تأتيه أخبارهم ، ويضع جداراً غير مرئى بينهم وبينه ..
قلت :
ـ أحيى إخلاصك ..
ـ هذا هو عملى ..
فاجأته بالسؤال :
ـ هل المرتب يكفيك ؟
وهو يغالب الارتباك :
ـ أدبر نفسى ..
ـ ما رأيك فى عمل بعد الظهر ؟
وشى صوته بالانفعال :
ـ سيادتك ..
ثم فى استسلام :
ـ أنت الرئيس ومن حقك ..
قاطعته :
ـ لا شأن لهذا العمل برئاستى .. إنه عمل آخر .. إضافى ..
رنوت إليه متملياً : القامة القصيرة ، المدكوكة ، الجبهة الواسعة ، الوجنتين البارزتين ، الأسنان التى اختلط فيها السواد والصفرة ، البشرة الدهنية ، دائمة التفصد بالعرق ..
حدست السؤال الذى لابد أنه سيخاطب به نفسه : لماذا اخترته دوناً عن بقية الموظفين ؟
فتشت عن الكلمات لأشرح له بواعث اختيارى . ثم تنبهت إلى أنه ليس من حقه أن يسألنى ، ولا أن يناقشنى فيما أختار ..
تركت له معظم الوقت الذى كان يسرقنى . تحكم فيه بما أثار إعجابى ، وربما حسدى . أجاد كل ما أسندته إليه ..
لم يكن يمارس عملاً واحداً ، هو سكرتير ، وسائق ، وطباخ ، وخادم . أدهشنى بما يعرفه فى الأبراج وعلوم الفلك وقراءة الطالع ، وفهمه لقوانين الألعاب الرياضية ، وحفظه لفرق الوقت فى مدن العالم ، وللنكات الحديثة ، وإجادته تلخيص الروايات والمسرحيات والأفلام بما لا يخل بالمعنى ، وتقديم المعلومة التى تعوزنى فى اللحظة التى أطلبها . ربما لجأت إليه فى أوقات الليل يسرى عنى بحكاياته الغريبة ، المشوقة ..
وفر لى النجاح فى استثمار الوقت ساعات أخرى : يعرفنى مفتشو الجمارك ، فيتركون حقائبى بلا تفتيش . لا يفتحون الحقائب أصلاً . يتعرف على التاجر ، ويعرفنى بنفسه ، يجرى لى ما لم أكن طلبته من خصم على ما اشتريته . وكان يخلص ـ بلا متاعب ـ أذون الشحن ، ويتذوق الطعام الجيد ، ويشير بالأماكن المريحة ، ويجيد تقليد الأصوات والحركات ، ويجيد اختيار الطاولة القريبة من " بيست " الملهى الليلى ، ويحسن التصرف فى الأوقات السخيفة ، وينقل فضائح المجتمعات الراقية ، ويتحمل العبارات التى يمليها الغضب ..
ما وصلت إليه من مكانة ، يدفع من ألتقى بهم إلى انتظارى ، فلا يشغلنى انتظارهم . ينتظرون حتى الموعد الذى أحدده . من المسموح لى أن أضيع وقتهم ، وليس من حقهم أن يضيعوا وقتى . أعتذر بالقول : أنا مشغول الآن .. هل يمكن إرجاء هذا الأمر إلى وقت آخر ؟.. هذه المشكلة تحتاج إلى مناقشة ليس الآن مجالها .. سأحدثك عن ملاحظاتى فى فرصة قادمة .. أملى القرار ، لا أتوقعه ، لا أنتظره ..
عاودت النظر إلى ساعة الحائط . تثبت من الوقت فى ساعة يدى . يدخل الخادم بالصحف فى التاسعة صباحاً . أطالعها ، أو أتصفحها ، حتى التاسعة والنصف ..
علا صوتى :
ـ أين الصحف ؟
ـ سألخصها لسيادتك ..
لم أفطن إلى وجوده فى الفراندة المطلة على الحديقة الخلفية . اعتدلت بحيث واجهته :
ـ لكننى أقرأها بنفسى ..
ـ الأخبار المهمة سألخصها بنفسى ..
ثم وهو يربت صدره :
ـ هذا عملى ..
تبادلت كلاماً ـ لا صلة له بالعمل ـ مع أصدقاء فى الكازينو المطل على النيل . أفيد من فائض الوقت ، ولا أعانى قلته . تحدثنا فى السياسة ، والأغنيات الجديدة ، ومباريات الكرة ، وتقلبات الجو ، وفوائد السير ـ كل صباح ـ على طريق الكورنيش ..
لم يعد هناك ما يشغلنى . أحمد أنيس تكفّل بكل شئ . يتابع تنفيذ القرارات دون أن يستأذننى فى إصدارها . حتى المكالمات التليفونية يسبقنى إلى الرد عليها . يؤكد وجودى ، أو يلغيه . يتمازج الإشفاق والود فى ملامحه :
ـ نحن أولى بالوقت ..
علا صوتى ـ بعفوية ـ حين دفع باب حجرة المكتب ، ودخل . تبعه ما يقرب من العشرة . يحملون كاميرا وحوامل وأوراق وأشرطة تسجيل ..
أشار أحدهم ـ دون أن يلتفت ناحيتى ـ إلى مواضع فى المكتب يرى أنها تستحق التصوير ..
لم أكن مشغولاً بقراءة ولا متابعة ، ولا أستمع إلى الإذاعة ، أو أشاهد التليفزيون . كنت أتأمل لوحة الجيوكندا ، وسط الجدار ، أحاول تبين ما إذا كانت نظرة الموناليزا تتجه ـ بالفعل ـ إلى كل من ينظر إليها ..
وضع فمه فى أذنى :
ـ هذا برنامج للتليفزيون .. عن مشوار حياتك ..
ـ لكننى غير مستعد لهذا البرنامج .. لست مستعداً لأى شئ ..
دفع لى بأوراق :
ـ عليك فقط أن تتصفح هذه الكلمات ..
وقلت له ـ ذات مساء ـ بلهجة معاتبة :
ـ يفاجئنى الأصدقاء بالشكر على رسائل تهنئة وهدايا ..
وهو يدفع نظارته الطبية على أرنبة أنفه :
ـ عندى قوائم لكل المناسبات السعيدة للأصدقاء .. وأتابع أنشطتهم الاجتماعية جيداً ..
مددت شفتى السفلى دلالة الحيرة :
ـ أخشى أنهم يفطنون لارتباكى ..
وواجهته بنظرة متسائلة :
ـ لماذا لا تبلغنى بهذه المناسبات قبل أن ترسل تهانيك وهداياك ؟
ـ وقتك أثمن أن تبدده فى هذه التفاصيل الصغيرة ..
أعدت النظر إلى ما كنت أطلبه من أحمد أنيس .
لم أعد أرفض قيامه بشىء ما دون أن يبلغنى به . كان يرد على الرسائل دون أن يتيح لى قراءتها ، ويبلغ المتحدث على التليفون بما يرى أنها تعليماتى ، ويبعث بالمذكرات إلى من ينتظرونها ، ويوافق على الدعوات التى يثق فى ترحيبى بها ، ويرفض ما يثق أنى سأرفضه ..
طويت الجريدة ، ووضعتها على الطاولة أمامى :
ـ أنا لم أقل هذا الكلام ..
بدا عليه ارتباك :
ـ لكنه يعبر عن آرائك ..
ثم وهو يرسم على شفتيه ابتسامة باهتة :
ـ هل فيه ما ترفضه ؟
ـ بالعكس .. لكنه ينسب لى ما لم أقله ..
أحنى رأسه بالابتسامة الباهتة :
ـ دع لى مسألة الحوارات والأحاديث ، لأنها تأخذ من وقتك ما قد تحتاجه للراحة أو التأمل ..
وأنا أعانى إحساس المحاصرة :
ـ إذن ناقشنى فى الأفكار التى ستقولها ..
تهدج صوته بالانفعال :
ـ هذا ما سأفعله حين يصادفنى ما أحتاج لمعرفته ..
بدا لى أن العالم رتب أموره بدونى . لم يعد لدى ما أفعله سوى التأمل واستعادة الذكريات . مللت ما أحبه من أغنيات ، فأهملت سماعها . سئمت مشاهدة الأفلام التى وضعها فى الفيديو . فارقنى القلق والتوقع والتخمين . تنبهت لانشغال يدى بمسح زجاج المكتب بمنديل ورقى . رنوت ناحية الباب الموارب ، أتأكد إن كان أحداً قد رأى ما فعلت ..
قلت :
ـ أنت تأخذ قرارى ؟
ارتعشت أهدابه :
ـ أنا أحدس رأيك ..
غالبت نفسى فلا يبين ما أعانيه :
ـ ماذا أفعل أنا إذن ؟
ـ أنت تخطط وتشرف .. وأنا أنفذ ..
حدجته بنظرة تفتش عن معنى غائب :
ـ هذا لم يعد يحدث ..
حدثنى عما لم أكن أعرفه فى نفسى . أبتعد بنظراتى ، ولا أميل إلى المجتمعات ، ولا أصلح للخطابة ، أو التحدث فى اللقاءات العامة . لا يجتذبنى ما قد يثير الآخرين ، وأعانى التردد فى الاختيار ، وفى اتخاذ القرار ، والمجازفة ..
أومأت على ملاحظاته بالموافقة . لم أحاول السؤال ، أو مناقشة التصرفات التى جعلتنى ذلك الرجل فعلاً ..
أتابعه بنظرة ساكنة وهو يتحرك فى حجرات البيت . يرفع الصور واللوحات من أماكنها على الجدران . ينقلها إلى مواضع أخرى . لا يعنى حتى بأن يلمح ـ فى ملامحى ـ انعكاس ما يفعله . يبدى إشفاقه ، فيغلبنى التأثر . يغادر الفندق ـ فى رحلاتى خارج البلاد ـ إلى الجولات الترفيهية ، وزيارة أماكن السياحة والتسوق ..
لم أعد أعرف القرار الذى يجدر بى أن أتخذه ، ولا ما يجب عليه هو كذلك . اختلطت الرؤى ، وتشابكت ، فلا أعرف إلا أنه ينبغى أن أسلم نفسى للهدوء ، وما يشبه الاستسلام . أكتفى بالمتابعة الصامتة ، الساكنة . لا أفكر ، ولا أتكلم ، ولا أقدم على أى فعل . حتى التصور لم يعد يطرأ ببالى . أحمد أنيس وحده هو الذى يفعل كل شئ ..
.................................................. ....
(من مجموعة "إيقاعات" ـ تحت الطبع)

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:24 PM
قصة قصيرة جدا لمحمد جبريل
...........................................

غراب البحــر

لما صوب خضر أبوشوشة بندقيته إلى غراب البحر ، فى وقفته على صارى البلانس ، طلب الجد السخاوى أن يشق الرجال بطن الطائر ليروا ما فيها ..
السمكات السبع فى داخل البطن أذهلت الرجال ..
كانوا قد أهملوا نصيحة الجد السخاوى ـ عندما ظهر غراب البحر على شاطئ الأنفوشى ـ بأن يبعدوا الطائر عن الشاطئ . ألفوا رؤيتهم له بالقرب من الساحل . رفضوا أن يدقوا الطبول والصفائح الفارغة ، لتصاب أسراب الغراب بالتعب فتسقط فى المياه ، أو تبتعد عن أفق الخليج . أرجعوا نصيحة الجد السخاوى إلى خرف تمليه الشيخوخة ..
لكن أعداد الطير حلقت إلى مدى النظر ، وتناثرت فوق الصوارى والقلوع والمآذن وأسطح البيوت ومناشر الغسيل وأعمدة النور وأسلاك التليفونات ..
ناقش الرجال ما قاله الولد صبحى شحاتة عن رؤيته للأماكن التى يبيت فيها الطائر بالقرب من الشاطئ . قالوا : لن تتأثر أسماك البحر من قنص أسراب الطائر ، مهما تتكاثر أعدادها ..
استعادوا نصيحة الجد السخاوى وملاحظة الولد ، لما طلعت السنارة والطراحة والجرافة بأعداد قليلة من السمك ، وعاد الرجال ـ أحياناً ـ بلا محصول . أدركوا أن الخطر أشد مما تصوروه . أربك محاولاتهم لقتله ، أو إبعاده ، أنه قادر على المناورة ، ويجيد الاختفاء والغوص ..
تبادل الرجال نظرات الحيرة . زاد من حيرتهم صمت الجد السخاوى على تهامسهم بالسؤال : ماذا نفعل ؟
.................................................. ....
(من مجموعة "إيقاعات" ـ تحت الطبع)

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:25 PM
قصة قصيرة لمحمد جبريل
......................................

إيقاعــــــــات

خطرت الفكرة فى باله كالومضة . لم يكن ـ فى تلك اللحظة تحديداً ـ يفكر إلا فى اللقاءات التى تملأ أيامه الأربعة فى بيروت . محاضرتان ، وربما ثلاث ، فى اليوم الواحد ، وأحاديث فى وسائل الإعلام ، ولقاءات بمسئولين . لم يعد نفسه حتى لمجرد السير فى شارع الحمراء الذى يحب محاله ومقاهيه وصخب الحياة فيه ..
ومضت الفكرة . استعادها . أزمع أن يخضعها للمحاولة . إذا جاوز الإخفاق ، فهو يستعيد الثقة الغائبة . وإذا لقيت المحاولة صدوداً فعليه أن يظل السر مقيداً داخل حجرته بالفندق ، القيد نفسه الذى خلفه فى حجرته بالشقة المطلة على نيل الزمالك ..
قال الطبيب : التردد يؤدى إلى الحوادث . كان يقصد حوادث المرور ، لكنه لاحظ أن المعنى ينسحب على كل شئ ..
تحسس ـ بعفوية ـ موضع العملية الجراحية فى صدره . كيف يواجه النظرات المشفقة ، أو المشمئزة ؟
وبخ نفسه لأنه استدعى الفكرة ، وقلبها : يدعو المرأة إلى زيارته فى حجرته . يقضيان معاً وقتاً لم يستمتع بمثله من قبل ..
خادمة الغرف ؟!.
يفر من المشكلة الحقيقية ، فيثير مشكلات هو فى غنى عنها ..
قضى موظف الاستقبال على تردده : هل يقدم نفسه باسمه الحقيقى ، أو يخترع اسماً يختفى وراءه ؟..
طلب الموظف جواز السفر . تأمل البيانات ، وأودعه خانة مفتاح الحجرة :
ـ سنعيده عند نزولك ..
أضاف الموظف بلهجة مرحبة :
ـ عدد الأيام ؟
ـ ثلاثة أيام أو أربعة ..
ثم وهو يتكلف ابتسامة :
ـ مهمة عاجلة ..
استشرفت نفسه حياة غير التى يحياها . غلبته الحيرة ، فهو لا يقدر أن يفعل شيئاً . ما يؤلمه أنه لا يقوى على البوح . السر فى داخله ، لا يكشف عنه . يقاوم الرغبة فى أن يتكلم مع أحد ، يفض عما بنفسه ، يحكى ، ويحكى ، لا يسكت حتى يهدأ . قيمة الصمت أنه يخفى ما نعانيه . لو أن الملامح أظهرت ما فى النفس ، ما قدم من القاهرة . العجز معه يصحبه إلى أى مكان يقصده . ليس فى جسده ، وإنما فى مواجهة الظروف التى تواجهه ..
قالت فادية :
ـ ماجد يستهلك نفسه فى إظهار الغضب ، لكنه لا يؤذى ..
وعلت ضحكتها ، فاهتز صدرها :
ـ ماجد كائن مسالم ..
ينظر ـ فى استياء ـ إلى نظرتها المستخفة . تجيش مشاعره . يعلو صوته بما يمور فى داخله . يبدى رأيه ، ويعلن ما ينوى فعله . الابتسامة على شفتيها تزيد من إحساسه بالغضب . يغلبه ارتباك لا يفلح معه فى أن يقول شيئاً . يغمض عينيه . يروح فى عوالم يصعب عليه تبينها . خليط من المشاعر والذكريات والميل إلى الفضفضة . حتى المواقف التى لم تشغله فى وقتها ، ونسيها ، تستعيدها ذاكرته ، وتملأها ..
أهمل النصيحة بأن يلغى سفره إلى بيروت ، أو يؤجله . تحدث على عبيد عن اتساع حرب الميليشيات ، والقتل على الهوية . داخله شعور لم يستطع تفسيره . كأنه التحدى ، أو الرغبة فى المغامرة . تأكيد ما يطمئن إليه فى نفسه ، ولا يراه فى أعين الآخرين . حتى ضابط الجوازات فى مجمع التحرير لم يوقع بالموافقة إلا بعد أن دفع إليه على عبيد ببطاقة التوصية ..
أدار الولد النوبى الملامح مفتاح الحجرة ، ودفع جرار الشرفة الزجاجى . أطل من الطابق التاسع فى الفندق ذى الطوابق العشرة . فى أسفل طريق الكورنيش فى زاويته المطلة على صخرة الروشة ، كأنها ساقا عملاق فى قلب المياه ، وأكشاك الملابس والكاسيتات والطعام ، وعربات الفول والترمس والذرة متجاورة فوق الرصيف ، ويتقافز فى الزحام باعة الورد والفل والياسمين ، ومياه البحر تمتد إلى نهاية الأفق ، فوقها سماء صافية ، تتخللها سحب بيضاء ..
تأمل وجهه فى مرآة الحمام ..
التجاعيد دوائر أسفل العينين ، وحول الفم ، وتتباين مع شعره المصبوغ بالسواد ، والبشرة باهتة ، والوجنتان غائرتان ..
استعاد الفكرة فى وقوفه أمام المصعد . حرص على أن يتجه بنظراته ـ فور خروجه من المصعد ـ إلى الناحية المقابلة لكاونتر الاستقبال . يفطن الموظف إلى مكانته ، فلا يهبه الفرصة كى يلقى أسئلة ، أو يعرض خدمات . هو واحد من نزلاء الفندق ، لا شأن له بأحد ، ولا شأن للآخرين به . لكن : كيف يجد ما يطلبه ؟ كيف تنشأ العلاقة ؟..
لو أن موظف الاستقبال ، أو أى عامل فى الفندق ، فطن إلى ما أزمع فعله ، فستؤذيه الفضيحة بما لا يتصوره ..
لحقه صوت عادل :
ـ أريد نقوداً ..
اتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
ـ أنا أنفق على البيت كله وليس عليك وحدك ..
ـ أردت أن تصبح أباً .. لذلك ثمنه ..
ثم وهو يطرقع أصابعه :
ـ أريد نقوداً ..
هز رأسه دلالة الرفض ..
قال عادل :
ـ إذا لم أحصل على ما أريد .. لن أضمن تصرفى ..
تفجرت فى داخله رغبة فى الشتم ، أو فى العراك :
ـ افعل ما تشاء !
وهو يزيح شهادات التقدير والأوسمة والميداليات عن الأرفف والجدران ، ويقذف بها من النافذة المطلة على بقايا بناية متهدمة :
ـ هذا ما أفعله ..
اكتفى بنظرة الذهول تملأ ملامحه . فكر فى أن يمنعه ، يصرخ فيه أو يدفعه أو يصفعه ، لكن العجز شل تفكيره وتصرفه . خشى تصرفاً لا يتوقعه . ماذا يفعل لو أن الولد رد إليه أذيته ؟!.. يصفعه ، فيرد عادل الصفعة بمثلها . ينتهى كل شئ . لا أبوة ، ولا بنوة ، ولا أسرة . لا أى شئ . يتمنى الموت ..
قال لنبرة الإشفاق فى قول على عبيد :
ـ أنت لا تعمل حساباً للمستقبل ..
ـ معى ما يكفى المستقبل ..
وتلكأت الكلمات :
ـ يهمنى أن أنفق ما أملكه فى حياتى ..
ثم وهو يصر على أضراسه :
ـ لا أريد أن يرثنى ابنى فى مليم واحد ..
ـ أعطاك الله العمر .. لكن الحرص على ألا يرثك عادل يثير التأمل ..
ـ لماذا ؟
يقلب الكلمات فى ذهنه ، فلا يجد إجابة محددة . يرفض لأنه يريد ذلك . ما معنى أن أعمل وأكسب ، ثم يرث أى أحد ما ضيعت العمر لتدبيره ؟. يجب أن يعلم عادل وفادية أنه قادر على اتخاذ القرار . أنا أرفض وأقبل وأمنع وأعطى . اتخذ قرارى بكل الثقة . أملى إرادتى . لا تشغلنى ردود الأفعال . ما أفعله هو حقى ..
اعتذر عن المرافقة بأنه يريد السير فى شوارع الكويت بمفرده . سأل عن السوق . استعاد التسمية :
ـ واجف ؟..
ـ إنها مجرد سوق شعبية ..
أهمل التحذير ، وسأل عن الطريق ..
مضى من ساحة الصفا . الأسقف الشبيهة بالقيساريات دفعت معظم المحال إلى إضاءة الداخل . غالبية البضائع قديمة ، أو مستعملة . فى الوسط طاولات خشبية ، فوقها ملابس نسائية ومفروشات وسجاجيد . استعاد زحام وكالة البلح ..
قال الرجل :
ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
ثم وهو يحدجه بنظرة تتوقع رد الفعل :
ـ سأعد لك وصفة لا تخيب !
غلبه الارتباك . أدرك أن الرجل خمن عكس ما يعانيه . قال :
ـ أنا لا أشكو ضعفاً ..
ابتسم الرجل بالحيرة :
ـ ماذا تشكو إذن ؟
كان يضايقه التقاط تلميحه بما يعانيه بمعنى لا يتغير . تقتصر الأحاديث على ما يضيف إلى حيويته . تقترن بالإيماءات والكلمات الملتفة بالغموض . ما يعانيه كائن فى داخله ، لا دخل له بمرض ، ولا يحتاج إلى شئ مما يشيرون عليه به . شئ لا يدرى مصدره ، وإن استقر فى داخله ، يثيره ، ويشقيه بالإحباط ، وبأنه غير قادر على التصرف ، وعاجز ..
قال البائع فى شارع الحبيب بورقيبة :
ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
أضاف وهو يقدم له حبة صغيرة :
ـ خذ هذه .. تجعل ما تعانيه من الماضى ..
وضع الحبة بين شفتيه . تبعها بجرعة ماء . تصاعد ـ فى اللحظات التالية ـ ما لم يخطر له ببال : خيالات ومشاهد ونشوة تقربه من الغيبوبة . سرى ما يشبه الخدر فى أعصابه . أغمض عينيه فى استسلام . تصور ـ بتأثير النشوة ـ أن أنفه طال ، فكاد يسد الطريق . أبطأ من خطواته حتى لا يصطدم بالمارة أو العربات . داهمه التوجس ، فعوج أنفه بأصابعه ليحقق انتظام المرور . خطر له أن يصرخ ، ويغنى ، ويرقص ، ويجرى إلى حيث تذهب به قدماه ..
عبر الطريق إلى الناحية المقابلة . استبدل البائع شرائط كثيرة حتى هز رأسه بالموافقة . الصوت الأنثوى يتغنى بالعلاقة منذ بداياتها . يتعمد المط والتلكؤ والبحة المتحشرجة والأنفاس اللاهثة . مالت الرءوس ، وتقاربت الأجساد ، وتعالت الهمسات الصاخبة ..
قال البائع وهو يقلب الشريط على الوجه الآخر :
ـ أثق أن هذا هو ما تريده ..
ابتسم للتعبيرات والتعليقات التى علقت على الدكاكين المجاورة للكاتدرائية بشارع الحبيب بورقيبة . دفع ـ فى زيارته الأخيرة إلى تونس ـ أربعة دولارات لكى يكتب له البائع أمنية على بطاقة مزينة بالورود . أطال التفكير فيما يتمناه لها . طلب البائع أن يترك العبارة ، الأمنية . استقبلته بما اعتاد من الجفاء ، فلم يتذكر البطاقة إلا عندما فتشت فى جيوبه ، قبل أن يبعث البدلة إلى المغسلة ..
نسى حتى ما قدم من أجله إلى بيروت وهو يجلس فى كازينو لبنان ينصت إلى المغنية الصغيرة ، الممتلئة ، تردد أغنية فيروز : باحبك يا لبنان . وثمة آلاف النقاط الضوئية تفترش مساحات السواد فوق الجبل . حرص على تناول ما يميز الطعام اللبنانى : الكبة والتبولة والفتوش والحمص بالطحينة واللحم بالجبن وورق العنب والمحاشى والمتبلات . حتى الحلويات ـ رغم الضغط والسكر ـ أكل البقلاوة والقطائف وعيش السراية والعثمانلية وزنود الست ..
عانى كثرة الحواجز على مفارق الطرق . مدرعات ، وسيارات جيب ، وبزات عسكرية ذات ألوان متباينة . والميكروفونات يتعالى منها التعليمات والأوامر ، والشعارات مكتوبة بالبويات الملونة والطباشير ، تملأ الحوائط ، وأسفلت الطريق ، وأبواب الدكاكين المغلقة ، وسواتر البنايات المتهدمة ، والملصقات على الجدران ، ولافتات القماش تصل ما بين أعمدة النور فى تقاطعات الشوارع ، تؤيد وتستنكر وتحيى وتبايع وتبشر بالخلاص ، وصور الزعماء والقادة معلقة على النوافذ والمشربيات ، والأعلام التى تنتمى إلى تنظيمات يسمع عنها ، أو لا يعرفها . أذهله الدمار فى وسط بيروت : سوق الطويلة ، وباب إدريس ، وساحة البرج . البنايات المتهدمة ، وفجوات الصواريخ ، وثقوب الرصاص ..
أشار سائق التاكسى إلى النافذة التى كان يقف وراءها وبيده بندقية يصعد بها إلى من يحدده التلسكوب . لم يعد القتل على الهوية ، ولا بعد إلقاء الأسئلة . من يجرى بسرعة ، أو يمشى ببطء ، أو يتلفت ، يصوب عليه دون أن يتلقى أمراً ، أو يعطى إنذاراً ..
استعاد التسمية :
ـ قبرص ؟
أعاد فاروق معوض القول :
ـ قربص .. وهى غير قبرص ..
ثم بلهجة محرضة :
ـ بها نبع ماء ساخن يتدفق من الصخر . لو أنك أكثرت من الغطس فيها فالنتيجة مؤكدة ..
أشفق من الارتفاع الهائل الذي بلغته السيارة على الطريق الصاعدة . بدا الوادى فى أسفل مفروشاً بالخضرة ، تنتهي بالشريط الساحلي . الجبل الصاعد المتعرج نفسه ، ارتقته السيارة فى قريات ، وإن تسربل الجبل العمانى بالصخور والوحشة ، واختلطت ـ فى الوادى ـ مساحات الصخور والرمال وبقع الخضرة القليلة ..
المياه تجرى ، ساخنة ، إلى الدائرة الحجرية المتصلة بالبحر . تبلغ مستوى الركبة . تظل السخونة على ارتفاعها إلى خارج الدائرة ، ,على عشرات الأمتار فى اختلاطها بموج البحر ..
ـ من أين تأتى هذه العين ؟
ـ من الصخور . البداية لا يعرفها أحد ، لكنها تنبثق من الصخور ..
دلى قدميه فى مياه الدائرة الحجرية . لسعته السخونة فرفعها . تشجع عندما أبقت الفتاة قدمها فى الماء . دلى قدميه ، وتحمل الحرارة ..
تنبه على صيحة أربكته . كان الشاب ذو الأفرول الكاكى يتفحصه بنظرة مرتابة :
ـ ماذا تريد ؟
أدرك أنه أكثر من التلفت فيما يثير التأمل والأسئلة . غالب إحساسه بالارتباك :
ـ أنا أتنزه ..
وهو يزغده بكعب البندقية فى جنبه :
ـ تتنزه فى منطقة عسكرية ؟
المناطق متشابهة : الحواجز والمتاريس واللافتات والشعارات والميلشيات العسكرية ..
تعمد ألا يواجهه بعينيه . يخشى أن يلمح التخاذل فى نظرته :
ـ لم أكن أعرف ..
لم يعد قادراً على الفهم ، ولا الاستيعاب ، ولا التصرف . ثمة شئ ينقصه ، وإن لم يدركه على وجه التحديد . عانى ما يشبه شلل الإرادة . اختلطت الرؤى ، والخيالات ، والأصوات التى يغيب مصدرها ..
أعاد الشاب دفعه بكعب البندقية . تأوه وسقط . واصل الشاب دفعه وهو يزحف . اعتمد على راحتيه وركبتيه ، حتى توقفت الضربات ، وانحسر ظل الشاب . زم شفتيه ، وإن ظل على تألمه ، وهو يرقب الشاب مبتعداً ، فى وقفته المنعزلة وسط الميدان الصغير ..
كان ذهنه قد خلا من كل شئ .
.................................................. ....
(من مجموعة "إيقاعات" ـ تحت الطبع)

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:26 PM
الجماعية في الأداء

بقلم: محمد جبريـــــــــل)
.............................

الجماعية فى الأداء شرط مهم لتحقيق النجاح فى أى عمل ينسب إلى الجماعة . بديهية يتناساها البعض لمجرد أن يكون هو وحده فى الصورة ، لمجرد أن يصبح نجماً ، يتحول زملاؤه من حوله إلى كومبارس أو ظلال .
يتسلم لاعب الهجوم فى فريق كرة القدم كرته من لاعب خط الظهر ، أو من لاعب خط الوسط . هو ـ كما ترى ـ لم يلتقطها من السماء ، أو أنه وجدها ملقاة فى جانب الملعب .
يتقدم اللاعب بالكرة فى اتجاه المرمى ، يلاحقه من فريقه لاعبان أو ثلاثة .
حسب قواعد لعبة البلياردو ، فإن على اللاعب أن يمرر الكرة من موضعه فى الجانب إلى زميل يواجه المرمى الذى قد يكون خالياً ، لكنه يفضل ـ فى أنانية عقيمة ـ أن يشوط الكرة فى الدفاع المتكتل ناحيته ، أو فى حارس المرمى ، أو يشوطها خارج الملعب . ويواجه اللاعب نظرات زملائه المؤنبة باعتذار لا معنى له ، فقد ضيع على فريقه هدفاً ، ربما كفل له الفوز !
فى اجتماعات هيئة ثقافية مسئولة ، طرح زميل اقتراحاً ، وافق عليه الأعضاء ، وقرروا تبنيه . لكن الزميل ما لبث أن سحب اقتراحه .
سألته بينى وبينه : لماذا ؟.
قال فى بساطة مذهلة : أخشى ألا ينسب الاقتراح لى !
ظل الاقتراح مشروعاً مؤجلاً ، مع أنه ـ فيما أذكر ـ كان يمثل إضافة إلى حياتنا الثقافية ، لا لسبب إلا لأن مقدم الاقتراح رفض الجماعية ، وخشى أن يدخل معه فى الخط آخرون يشاركونه النجومية !. وللأسف فقد نسى الأعضاء اقتراح الزميل ـ أو تناسوه ـ فلم ير النور !
العمل الجماعى يعنى أنه من صنع الجماعة ، هى التى تدرس وتخطط وتنفذ وتجنى الثمار ، أو تهب الثمار للمجتمع كله . إذا تصرف كل فرد فى حدود إحساسه بالفردية ، فإنه يمتنع عن وضع طوبة فى البناء الذى يسكنه الجميع ، أو يصنع ثقباً فى السفينة التى تقل الجميع !
عشنا أمثلة رائعة ونبيلة فى المعنى الذى يضحى ليس بالفردية فحسب ، وإنما بالحياة من أجل أن تنتصر الجماعة ، أن ينتصر الوطن : الجندى الذى وضع جسده على الأسلاك الشائكة ، ليعبر زملاؤه من فوق جسده إلى معسكر العدو . لم يتوقع إشادة من أى نوع ، ولا على أى مستوى . كل ما شغله أن يجعل من جسده معبراً لزملائه نحو النصر .
إذا تدخلت الفردية فى العمل الجماعى ، فإنها تسىء إلى الفرد ، وإلى الجماعة فى الوقت نفسه .
وحتى أكون محدداً ، فإن الظاهرة السلبية موجودة فى معظم ـ إن لم يكن كل ـ هيئاتنا الثقافية ، سواء كانت أهلية النشاط ، أم تابعة للدولة . واٍسألوا لجان المجلس الأعلى للثقافة وأقسام الجامعات واتحاد الكتاب ونادى القصة ورابطة الأدب الحديث التى يذكرنى سكرتيرها العام صديقنا الشاعر محمد على عبد العال بإمام اليمن الأسبق عندما كان يحتفظ بمفاتيح مؤسسات اليمن السعيد فى جيبه ، والقائمة طويلة !

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:27 PM
خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
.................................................. ....

(1) لحظـــــــة

أعادت تأمل الشعرة البيضاء . لم تكن رأتها من قبل . تنظر إلى المرآة إذا وضعت المساحيق، أو مشطت شعرها ، أو وهى ترتدى الملابس. ربما تأملت وجهها، أو جسمها كله ، بلا مناسبة . هذه هي المرة الأولى التي تكتشف فيها الشعرة قافزة في الغابة السوداء خلف الأذن ..
غالبت مشاعر متباينة، وإن غاب معناها الحقيقي. دارت بإصبعين كدوامة، حتى اطمأنت إلى اختفاء الشعرة تماماً. تأكدت من البسمة التي لم تكن تغادر شفتيها ..
غادرت الشقة بخطوات بطيئة ..
ثم بخطوات أسرع ..

***

(2) ثــــــــأر

أحاطت بساعديها الطفلين ، واستندت إلى الجدار ..
قال فى لهجة مشفقة :
ــ لا شأن لك ولا للطفلين بما حدث ..
قالت فى خوفها :
ــ لكنك قتلت أباهم ..
ــ إنه ابن عمى أيضاً .. وقد نلت ثأري منه ..
أضاف فى لهجته المشفقة :
ــ لا شأن للطفلين .. سيأتون إلى بيتى ليكونوا فى رعايتى .. فأنا ابن عم أبيهم ..
اتسعت عيناها بالخوف .. والدهشة ..

***

(3) أصداء

ألقى الرجل أوامره ..
قال لنا :
ــ لا تشغلوا أنفسكم .. فالقيادة مسئولة عن كل شئ !..
كنت أعبث بالمقعد تحتى ، أكور الإسفنج ، وأقذف به إلى الأرض ..

***

(4) محطـــــة

صعدا فى المحطة نفسها . واحد من الباب الأمامى ، وواحد من الباب الخلفى . وقفا أمام المقعد الوحيد الخالى ..
قال الأول :
ـ من مواليد كم ؟
قال الثانى :
ـ 22
قال الأول :
ـ أنا من مواليد 21
قال الأول :
ـ أنا أكبر منك ..
قال الثانى :
ـ إذن من حقك أن تجلس ..
وأخلى له الطريق .

***

(5) الثورة

حين وصل إلى نهاية الرواية ، كان مصير الفتاة يشغله تماماً . بدا الظلم أشد مما يستطيع احتماله ، كأنه الموت ، أو أقسى ..
أغلق الكتاب بعنف ، ونزل إلى الطريق ..

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:28 PM
نبوءة عراف مجنون

شعر: د. حسين علي محمد
...............................

إلى محمد جبريل..
(في يوم مولدي التاسع والعشرين)

-1-
* قال العرَّافُ لزيْدٍ: تحملُ شمساً فوقَ الرَّأسِ وتُخرِجُ ذات صباحٍ من سرَّتِكَ النورَ، وتبسمُ، ساعتها سوف تُدحرِجُ في زَبَدِ "المتوسط" حُزنَ العُمْرْ.
"بُرجُ الثورِ" يدورُ، وأنت تُضاجعُ حزنَكَ، تدخلُ في رحلاتِ الكشفِ الباهرةِ، وأنت تُغنِّي، ترقصُ في وَهَجِ الشمسِ، وتصنعُ منْ شعرِكَ أفراساً تركبُها في المعمعةِ، وتُطلقُها من مدن الحلمِ، وتصعدُ طبقاً عنْ طبقٍ، تجتازُ الوهمَ، فأنت الحرفُ الصاعدُ من خاصرةِ الريحِ، وأنت الجمرةُ في ليلِ الثلجِ، وأنت الفرسُ الأشهبُ في عرسِ النشوةِ، أنت النجمُ الواعِدُ ببزوغِ الفجرْ
أنت النافخُ سرَّ الصحوةِ، هذا جسدُ البلدِ الميتِ يصحو مع دفقاتِ الريحِ، وهذا جسدُ العاشقُ ـ يا شيخي ـ .. يهفو للراياتِ الخضرْ
خذني خلفكَ، أنقذني منْ يمِّ الصحفِ السوداءِ، ودعني أركبْ قاربَكَ القزحيَّ، وأضحكُ لليمِّ .. أُدحرجُ حزني في قاعِ البحرْ

-2-
سمعوا ما قالَ العرَّافْ
ضحكوا والوجهُ الخائفُ يُلقي كرةَ الماءِ على الأعرافْ


-3-
*ألقَوْأ زيْداً فوقَ ترابِ مدينتِنا الصامتِ، أبصرتُ الخنجرَ في الظهرِ، وأبصرتُ الجسدَ الفارعَ مرميا في حاراتِ الخوفِ، وجيشُ ذبابٍ يلهو فوقَ الجسمِ، وعرّافُ مدينتنا يصرخُ:
في الليل رسمتُكَ،
في الأبواقِ نفختُكَ،
رغم الهذرِ الحانقِ يصعدُ نجمُكَ يا لؤلؤةَ العصرْ
*حدَّقتُ بعينيْكَ المبصرتينِ فأبصرتُ الأشجارَ تميلُ من الأثمارِ، وأبصرتُ النهرَ يفيضُ ويمنحُنا الخيْرَ، وأبصرتُ النسوةَ في زمنِ العقمِ يلِدْنَ رجالاً وبناتٍ ممشوقاتِ القدِّ نحيلاتِ الخصرْ
*و"بهيةُ" تصحبُ ياسينَ وتمضي، والقلبُ يُشعُّ بنورِ الحبِّ على الأحياءِ، وتصطخبُ الأشياءُ ويضربُ دفُّ الفرحةِ، تنطلقُ زغاريدُ النسوةِ في الدور المنخفضةِ، والأطفالُ أراهمْ ينسلُّونَ من الدُّورِ ويجرونَ .. يجيئونَ، يقولونَ حكاياتٍ عنْ نجمٍ يبزُغُ، يمنحُهم دفءَ الوعدِ ووهَجَ الشعرْ
-4-
*"زيدٌ" مات صباحاً، والعرّافُ الثلقبُ كان يُغنِّي قبل سويعاتٍ: "في الليلِ المظلمُ يصعدُ نجمُكَ في أعلى عليينْ !"
*.. ويدقُّ السورَ، ويُلقي للأفواهِ المشدوهةِ حباتِ الحنطةِ، وثمارَ البلحِ الأحمرِ، وحفاةُ الأرضِ يدقون الأرضَ، تدقُّ الأجراسُ، وتشتعلُ الأرضُ بنارِ الغضبِ وتسري في الأوردةِ دماءُ التكوينْ !

ديرب نجم 5/5/1979

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:29 PM
التماثيل المكسورة

بقلم: محمد جبريل
.........................

لصديقي الناقد الراحل رجاء النقاش عبارة تقول: نحن نحب التماثيل المكسورة. الجملة في سياق الحديث عن الشخصيات التي تبلغ مكانة - تستحقها - فيصر البعض علي الاساءة إليها بملاحظات يراها هو وحده دون الآخرين وتسيء إلي ابداعات وانجازات اسهم بها مصريون حقيقيون.
نحن نجد التعبير عن مصر المعاصرة في رموز تبدأ بحسن العطار والطهطاوي وتتواصل في عرابي والنديم وقاسم أمين وسعد زغلول وطلعت حرب وطه حسين والعقاد ومشرفة ومحمود سعيد ونجيب محفوظ وسيد درويش وجمال عبدالناصر ويوسف ادريس وجمال حمدان وأم كلثوم ومحمد رفعت وعبدالوهاب وعشرات غيرهم اضافوا إلي بلادنا فاستحقوا أن يكونوا تعبيرا عن مصر رموزا لها انهم التجسيد لتاريخنا المعاصر ولأن الرمز هنا بشر فلعله من الخطأ ان انشد فيه الكمال السوبرمان الذي يقتصر علي الفعل الايجابي ولايخطيء.
لكي أوضح رأيي فثمة اتهام للطهطاوي بأنه كان ينتمي إلي الأرستقراطية المصرية بامتلاكه مساحات هائلة من الأراضي الزراعية مقابلاً لمؤلفاته التي تدعو إلي الاستنارة والتقدم وحرية المرأة وبالطبع فإن وضع الطهطاوي الاجتماعي لم يحل دون ان يضيف إلي فكرنا القومي والاجتماعي معالم ايجابية مهمة.
أما صلة أحمد شوقي بقصر الخديو فهي لا تلغي أهميته كأهم شعراء عصره وأنه قد اضاف إلي الثقافة المصرية والعربية باختياره أميرا للشعراء العرب والأمثلة كثيرة.
الرمز. المعلم. الرائد والموجه هو الذي تتسق كلماته وتصرفاته لكننا - في الوقت نفسه - لابد ان نقدر الضعف الانساني الذي قد يهبط بالخط البياني دون ان يخل بتصاعده النهائي نحن نعتبر المتنبي أهم الشعراء العرب رغم الاتهامات التي ملأت كتابا في مئات الصفحات عنوانه "الإبانة عن سرقات المتنبي"!
ونحن نعجب بأعمال جان جينيه. نعزلها عن حياته الخاصة ولعلنا نذكر رد جينيه علي تشبيه سارتر له بالقديس بأنه ليس ذلك القديس إنما هو انسان محمل بالخطايا!
يحقق الرمز مكانة ممتازة يستحقها لكن البعض يأبي إلا ان ينال من هذه المكانة بنقائص يخترعها خيال مريض ونأسف للإساءة - بلا سبب - إلي الرموز المهمة في حياتنا عدا الرغبة في رؤية التماثيل المكسورة!
نتحدث عن قيمة مهمة في حياتنا نبدي تقديرنا لاسهاماته يطالعنا من يثني علي أحاديثنا لكنه يضيف كلمة "ولكن" ويتبعها بما يكسر التمثال ويجعل من معني "الرمز" أمنية مستحيلة!
.................................................. ...........
*المساء ـ في 22/11/2008م.

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:29 PM
محمد جبريل.. وقضية الانتماء

بقلم: مؤمن الهبّاء
.........................

إذا قصدت متعة السرد الروائي الفني فعليك بمحمد جبريل.. وإذا قصدت حبكة الإبداع القصصي وإبهاره فعليك بمحمد جبريل.. وإذا قصدت المتابعة النقدية النافذة فعليك بمحمد جبريل.. وإذا قصدت الدراسة البحثية الجادة فعليك - أيضا - بمحمد جبريل.
إنه عالم متكامل. ومؤسسة شاملة. متعددة النوافذ. من أي زاوية نظرت حصلت علي مبتغاك.. متعة وثقافة وعلم.. ومن دواعي فخرنا. نحن أسرة المساء. أن هذا الفنان المبدع خرج من بيننا. وينتمي إلي قبيلتنا.
رأيته أول مرة في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. كان عائدا لتوه من رحلة عمل طويلة في عمان.. تناقشنا كثيرا. وتشاكسنا. اختلفنا واتفقنا. وحين أراد أن يحسم الجدل أهداني روايته الثانية. المبهرة. "إمام آخر الزمان". فالتهمتها في يوم. أو بعض يوم. ومن يومها لم أفقد أبدا إيماني بموهبته. واحترامي لقلمه ودأبه وجديته.
وكلما أوغل في الكتابة وأوغلت في قراءته زاد إيماني به واحترامي له.
ولا أستطيع أن أنكر انحيازي لأدب محمد جبريل. خاصة ما يتعلق منه بتوظيف التراث مثل "إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبي الطيب المتنبي" و"قلعة الجبل" و"رباعية بحري" و"ما ذكر من أخبار عن الحاكم بأمر الله". فهذه الأعمال تجد في نفسي هوى. ربما لأنها توقظ الماضي. وتبعث فيه الروح. فيتحول بروح الفنان إلي مستقبل. وفي ذلك وصل لحلقات أدبنا وحياتنا. ولقاء بين الأصالة والمعاصرة. وهذا - في زعمي - هو الطريق الصحيح لتطوير أدبنا. بل لتطوير حياتنا كلها.
التطوير لن يأتي من الخارج .. ولن يهبط علينا من السماء وإنما هو عملية مستمرة. متواصلة أطرافها. يرتبط فيها الماضي بالحاضر والمستقبل. ونحن نعيشها ونتفاعل فيها.
ودراسات محمد جبريل لا تنفصل عن إبداعه.. هي في الحقيقة إبداع آخر. بطعم آخر. تدهشك فيها قدرته الهائلة علي الصبر. ودقته في التحري والاستيفاء. ناهيك عن سعة الاطلاع. والاستنتاج المنطقي. تلحظ ذلك في سفره الرائع "مصر في قصص كتابها المعاصرين" و"مصر المكان" و"قراءة في شخصيات مصرية" و"مصر من يريدها بسوء".
لعلك لاحظت - مثلي - أن مصر تتردد كثيرا في كتابات جبريل. مثلما تتردد في رواياته. من خلال الإسكندرية مسقط رأسه وعشقه الدائم. وأيضا من خلال الموروث الشعبي الذي يتناثر كحبات اللؤلؤ في 18 رواية و90 قصة قصيرة قدمها للمكتبة العربية حتي الآن.
إنه متيم بهذا الوطن. مسكون ببحره ونيله وطينه. بأحيائه الشعبية وحاراته وأزقته. بجوامعه وأضرحته وموالد الأولياء والكنائس والزوايا. وليالي رمضان والتواشيح والأعياد والأسواق. بعبق البخور والمجاذيب والدجالين والشحاذين.. هو يكتب عن ذلك كله ليكشف لنا عن حقيقتنا. عن مواطن الضعف ومواطن القوة في شخصيتنا. التي عاش عمره مهموما بها.
وكم كان رائعا أن تتذكر الهيئة العامة للكتاب بإشراف د. ناصر الأنصاري كتاب "مصر في قصص كتابها المعاصرين" لمحمد جبريل لتعيد إصدار الجزء الأول منه هذا العام في سلسلة "مكتبة الأسرة" التي تحظي برعاية السيدة الفاضلة سوزان مبارك. فتتيحه بسعر ميسر للقاعدة العريضة من القراء الذين يتابعون هذه السلسلة. ويعتبرونها نافذتهم علي الثقافة الحقيقية والجادة.
والكتاب عبارة عن دراسة ضخمة. لكنها ممتعة. وقد نشرت لأول مرة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ونال عنها محمد جبريل جائزة الدولة التشجيعية في النقد. وفيها يتناول العديد من الأعمال القصصية والروائية لرواد السرد العربي أمثال طه حسين والعقاد ويحيي حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني. بالإضافة إلي رفاق دربه من كتاب الستينيات. فيرصد تناولهم للمجتمع المصري بكافة تقلباته عبر تاريخه الحديث من زاوية إبداعية بحتة. تدعمها رؤية اجتماعية وسياسية مدققة.
يقع الكتاب في مجلدين. ومجموع صفحاته 1370 صفحة. وهو بذلك ينتمي إلي الأعمال الموسوعية الخالدة. ممتدة المفعول. فقد حاول جبريل أن يقدم لنا تاريخ مصر من خلال مضامين الروايات والقصص. باعتبار أن الأدباء هم ضمير أمتهم. ونبض حركتها التاريخية في مواجهة الأحداث.
بقيت همسة للمثقف الواعي د. ناصر الأنصاري أناشده فيها بسرعة إصدار الجزء الثاني من هذه الدراسة القيمة. التي أظنها أول محاولة في تاريخنا لتأصيل علم الاجتماع الأدبي. وأول تجربة جادة لتعميق الانتماء لدي الأجيال المثقفة بالعلم والأدب. وليس بالأغاني السطحية والهتافات الزاعقة.
..............................
*المساء ـ في 15/12/2008م.

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:30 PM
مبدعون نقاد

بقلم: محمد جبريل
.........................

حدثني الصديق الدكتور عبدالمجيد زراقط رئيس قسم الأدب العربي بالجامعة اللبنانية عن المؤتمر الذي تعد له الجامعة بعنوان "مبدعون نقاد". وهو عن المبدعين الذين يحاولون الكتابة النقدية. وبالطبع فإن العكس صحيح. بمعني أن العديد من النقاد حاولوا الكتابة الإبداعية: لويس عوض. وأحمد شمس الدين الحجاجي. وماهر شفيق فريد وصلاح الدين بوجاه وغالي شكري. وحسين علي محمد ومحمد قطب وجمال التلاوي وصبري حافظ وحامد أبوأحمد. وسمير عبدالسلام. وصبري قنديل وأمجد ريان وغيرهم.
رأيي أن المبدع لابد أن يماهي الناقد في اكتمال العملية الإبداعية. فهو -فور أن يضع نقطة الختام لعمل ما. قصة أو رواية أو مسرحية أو أية كتابة إبداعية- يلجأ إلي الناقد في داخله. يفيد من ثقافته وخبراته وفهمه لخصائص العمل الفني. يضيف. ويحذف. ويبدل. ويحور. بما يمتلكه الناقد من قدرات جمالية وعلمية وموضوعية. خطوة تالية لما تمليه عفوية الإبداع.
أعرف أصدقاء يعيدون كتابة العمل الإبداعي مرات. ربما تبلغ العشر. في كل إعادة يقرأ الكاتب بعيني الناقد. لا ينقل الكلمات كما هي. لكنه يجري ما تحتاج إليه من "رتوش" -هذا هو التعبير الذي يحضرني- بهدف إثراء جماليات العمل الإبداعي.
وكان همنجواي بترك -آخر الليل- ما كتبه علي الآلة الكاتبة "لم يكن الكمبيوتر قد ظهر في حياة الأدباء بعد" ويعود إلي قراءته في الصباح. ليست الفقرات الأخيرة وحدها. وإنما كل ما كتبه منذ الحرف الأول. والكلمة الأولي. والجملة الأولي. يطمئن إلي خلو السرد من أية نتوءات أو فجوات.
وأكد بلزاك أنه كان يعيد قراءة العمل بعد أن يتمه. ربما صادف في اليوم الثالث زيادة حرف واو العطف. ثم يعيده عقب الأيام الثلاثة التالية. قول لا يخلو من مبالغة. وإن كان المعني ضرورة المراجعة والتقويم والغربلة. والحرص علي جماليات العمل في ترامي آفاقه.
الأمثلة كثيرة. لكن السؤال الذي أتصور أنه سيفرض نفسه علي جلسات المؤتمر المرتقب: ما مدي إفادة الناقد من دراسته للعملية الإبداعية. مقابلاً لإفادة المبدع من فهمه لنظريات النقد.
حصلت علي جائزة الدولة في النقد. وكتب عبدالعال الحمامصي عن الروائي الذي فاز بجائزة النقد. لكنني أعتبر المجال الحقيقي للكاتب هو ما تطمئن إليه موهبته. قد يتطرق إلي مجالات أخري. وربما أجاد التعبير فيها. لكنه يظل حريصاً علي السير في اتجاه تأكيد المعني الذي أهلته له موهبته وقدراته.
لعلي أشير إلي صلاح عبدالصبور: كتب القصيدة المفردة والمسرحية الشعرية. والترجمة والسيرة الذاتية وغيرها من مجالات الأدب. لكن المسرحية الشعرية هي الملمح الذي يبين عن نفسه دوماً. فهي الإبداع الذي اختار له عبدالصبور الأولوية في مشروعه الأدبي.
...........................................
*المساء ـ في 7/3/2009م.

د. حسين علي محمد
12/03/2009, 04:31 PM
العمل الإبداعي وقوانينه

بقلم: محمد جبريل
........................

العمل الإبداعي يضع قوانينه. فلا تأتي بالضرورة من خارجه. لا تقحم عليه. أو تنبو عن سياقه. وعلي حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبي الذي جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانونا وضعه هو. بل قانونا اكتشفه لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية.. إلخ من خلال التراث الهائل لكل منها. يظل لها مواصفاتها الخاصة. شكلها الفني الخاص. ولعلي أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه: هذا نص!.. إني أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة نثرية أو شعرية. حتي أتبين مدي اقترابها. أو ابتعادها. عن هذا الجنس الأدبي أو ذاك. لا أغفل إمكانية توقعي للعمل المتميز. العبقري. الذي قد يفاجئني بجنس ابداعي لم يكن موجودا من قبل لكن هذا العمل لابد ان يحمل قوانين أخري خاصة ومغايرة.
تقييم العمل الفني. التمييز بين الفن واللافن. الجيد والردئ. لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصي لكنه لابد ان يخضع لمواضعات. لمواصفات. توجد في العمل الفني. أو تغيب عنه. بمعني انه لابد للمبدع ان يكون علي اتصال بتراث العالم- وليس تراث لغته فقط- من الابداع وان يكون علي صلة بتراث العالم النقدي بالاضافة إلي اتصاله بالثقافة العالمية في اطلاقها.
طبيعي ان العمل الفني يحتاج إلي تلقائية مساوية للتي يريد الفنان ان تكون عليها صورة عمله. بحيث يحدث تأثيرا وجدانيا. هو المطلوب- ابتداء- ليسهل علي القارئ متابعة العمل والتفاعل معه والتأثر به. وإحداث الهزة- أو التغيير- في وجهة نظره للحياة من حوله. بداية لحظة الكتابة عندي في الإمساك بتلابيب اللحظة. أبدأ الجملة الأولي. السطر الأول. الفقرة الأولي. فأجاوز العالم الذي تصورته ودخلت عالماً آخر هو عالم العمل الابداعي: أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنات تتخلق من داخل العمل تفرض نفسها عليه. لا شأن لها بتصوراتي المسبقة. في تقديري أنه إذا أراد الفنان لروايته ان تكون فنا حقيقيا فإن عليه ان يوجه تأثيرها إلي مزاج القارئ بإضفاء صورة الحياة الحقيقية علي الأحداث. تلك هي الوسيلة التي تحرص الفنون الأخري- مثل الموسيقي والتصوير- ان توجه لها تأثيرها أما الإسراف في "الصنعة" وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب. والإلحاح علي صورة العمل الفني بزوائد الظلال والتفاصيل فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً تنعم فيه بالموت من قبل ان تري الحياة. أستعير من هنري جيمس تأكيده بأن الرواية شيء واحد متماسك كطبيعة الكائنات الحية وبقدر تماسك أجزائها واتصال كل جزء - عضوياً - بالأجزاء الأخري تحصل الرواية علي ما يريده لها الفنان من حياة وبديهي ان الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ أو لحفظها في الأدراج ذلك لأن العمل الفني هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه وهذا المجتمع- بالطبع- لا يتشكل من ثقافة واحدة أو درجات متساوية من الوعي. أو ذوق فني عام موحد. المجتمع- أي مجتمع- يتكون من أفراد لكل منهم حصيلته المعرفية ووعيه وانتماؤه الفكري والطبقي بحيث يصبح من السذاجة تصور ان فنانا ما يصل إليهم جميعا في محاولاته لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو ان يكون مخلصا في التعامل مع فنه ومع نفسه لتجد محاولاته جمهورها الذي قد تضيق قاعدته أو تتسع لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذي يخاطبه الفنان في محاولاته.
الرواية الجديدة ليست مودة تختفي بقدوم مودة أخري. إنها نظرية واضحة. متكاملة الأبعاد قد تطور نفسها. وقد تستغني عن بعض المقومات. وتضيف مقومات أخري. لكن المقومات الأساسية تظل في صلة الرواية العضوية بالفنون الأخري. والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون.
...........................
*المساء ـ في 3/1/2009م.

د. حسين علي محمد
11/06/2009, 09:22 PM
ندوة عن كتاب «مصر في قصص كتابها المُعاصرين»
.................................................. .............

تنظم ندوة مساء الثلاثاء القادم (16/6/2009م) فى مبنى هيئة الكتاب بالقاهرة عن كتاب " مصر فى قصص كتابها المعاصرين" للروائي الكبير محمد جبريل ، يتحدث فيها د . شبل الكومى ، د . صلاح قنصوة ، د . صلاح الراوى ، محمد قطب ، مهندس أحمد شعبان ...وغيرهم.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:28 AM
الزحام

بقلم: محمد جبريل
.....................

في قصة "الزحام" التي أعتبرها من أجمل ابداعات القصة العربية القصيرة حدد يوسف الشاروني مشكلة الزحام كواحدة من أهم المشكلات التي يواجهها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الزحام الذي يعانيه العالم الآن أثبت ان مالتوس لم يكن مخطئاً في التحذير من الزيادة السكانية التي يعد الزحام أخطر مشكلاتها.
الكثافة السكانية. إذا أحسنا التعامل معها. فإنها تتحول إلي رصيد إيجابي. وليس العكس. أما إذا اكتفينا بالنظر إليها باعتبارها مجرد أزمة. مشكلة. فإنها تضيف إلي السلبيات التي يفرزها الزحام علي مستوي العالم.
من ذكريات طفولتي. هذا السؤال الذي وجهه لي صديق يكبرني بسنوات: لو أن أباك أعطي لك ولأخيك تفاحتين. ماذا ستفعلان؟
قلت: يحصل كل منا علي تفاحته.
قال: فإذا منح التفاحتين لسبعة إخوة.
أضاف للدهشة في ملامحي: ستنشب معركة.
زادت الأعداد مقابلاً لثبات "المنحة". ففرض العراك نفسه. وإن أخرج الزحام لسانه في خلفية الصورة!
وأشار صديق إلي الأوتوبيس القادم. وإلي الشبان الذين يسبقون باللكز تدافع الركاب: سيسبقوننا. وسنكرههم!
والحق أن زحام المواصلات يعني أمراضاً اجتماعية خطيرة. أقلها النشل. وأقساها الكراهية والعنف والتحرش الجنسي. ولا يخلو من دلالة تخصيص عربة للحريم في بعض وسائل المواصلات العامة.
والخناقات ظاهرة يومية أمام الأفران: التدافع يولد شرارة الشتائم. تتلوها نيران الخناقات التي تفضي كما تنشر الصحف إلي القتل!
وأدركنا متأخراً ان أعداد التلاميذ في كل فصل بمدارسنا تشكل خطراً علي صحة التلاميذ. وعلي الصحة العامة! فالفصل الذي يختنق بما يبلغ أحياناً مائة تلميذ هو أنسب الأماكن لانتشار الأمراض الوبائية. مجرد عطسة. أو لمسة. أو نفثة. تعني تصدير عشرات الأبناء إلي مستشفي الحميات!
زحام يوسف الشاروني نذير بالقادم من أيامنا. ولأننا نعتبر الأدب مجرد تسلية. فقد أهملنا النذير المتسربل برداء الفن. نسينا أو تناسينا إيماءات ابداعية في كتابات جول فيرن وجورج أورويل وغيرهما. ثم ثبتت صحة تلك الإيماءات وجدواها. وانها كانت تشير إلي جوانب في مستقبل العالم.. لكن إشارة الشاروني المعلنة لأن صاحبها للأسف أديب عربي واجهت إهمالاً. باعتبار نسبتها إلي الحدوتة!
هانحن ندرك أن الزحام لم تكن استعراضاً متفلسفاً. إنما هي مؤشر لأقسي الأمراض التي يعانيها مجتمعنا.
الحل الذي أقدمت عليه دول تفوقنا في عدد السكان. يتمثل في تغليب الانتاج علي الاستهلاك.
حل بسيط. وإيجابي. كما تري.
.....................................
*المساء ـ في 19/9/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:29 AM
في ساحة الإنشاد

قصة قصيرة، بقلم‏:‏ محمد جبريل
.....................................

لم يصدق الشيخ جابر أبو عبية أن سيد العقبي يرفض أداء كل ما تعلمه منه‏,‏ يصر أن يقرأ مدائح لايدري من وضعها له‏,‏ ولا إلي من يتجه بها‏,‏ هي الكلمات نفسها عن الله والمصير والرغبة في الفرار من العقاب ودخول الجنة‏.‏ يرددها المنشدون والمداحون والمولوية والصييتة في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ لكنها تختلف في أداء العقبي بنقل المعني‏,‏ يتأمل الناس تعبيراته‏,‏ يجتذبهم صوت العقبي المحمل بالعذوبة‏,‏ ينفذ إلي الأعماق‏,‏ يصعد بالنفوس إلي آفاق علوية‏.‏
أول رؤيتنا لسيد العقبي حين ردد وراء الشيخ جابر أبو عبية منشد الطريقة الشاذلية‏,‏ علا صوته بين الذاكرين‏,‏ يردد ما يقولون من المدائح والأشعار وبردة البوصيري‏,‏ لم يلفت اهتمامنا‏,‏ وإن اجتذبنا في صوته بحة‏,‏ لا تخلو من أنوثة‏.‏
تعرفنا إلي ملامحه الظاهرة‏,‏ عند ظهوره في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ يردد ما حفظه عن الشيخ أبو عبية من المدائح في النبي وآل بيته‏,‏ وفي التنبيه إلي أحوال الدنيا وأحداث الأيام‏.‏
تكررت مشاركاته في الحضرات المرتبة للطريقة الشاذلية‏,‏ موضعها السرادق الملاصق لجامع المرسي من ناحية السيالة‏.‏
قيل إنه عمل صبيا للأسطي سعيد قطا نجار السواقي بعزبة خورشيد‏,‏ وتحدثت روايات عن إفادته من فترة عمله في قهوة المعلم البابلي المطلة علي الأنفوشي‏,‏ وأكدت روايات أنه مجهول النسب‏,‏ ما كتبه في شهادة ميلاده يختلف عن اسمي الوالد والجد مما سربه إلي السفلية في الرواية والحكي‏,‏ وقيل إنه طال اشتغاله ببيع البضائع الصغيرة‏:‏ ساعات يد‏,‏ وميداليات ونظارات شمسية‏,‏ وسبح‏,‏ وأمشاط‏,‏ ومقصات‏,‏ وسكاكين‏,‏ وأقلام رصاص‏,‏ وأقلام حبر‏,‏ وكوتشينة‏,‏ وميداليات‏,‏ وألعاب للأطفال‏,‏ وعطور‏,‏ وأدوات تجميل‏,‏ يحملها في حقيبة مفتوحة‏,‏ علي صدره وساعده‏,‏ يتنقل بين المقاهي والدكاكين والميادين والشوارع المزدحمة‏,‏ وقال الشيخ حجازي رضوان قارئ التلاوة في جامعة البوصيري إنه التقي بالعقبي ـ للمرة الأولي ـ في مقابل العامود‏,‏ تسابقا للحصول علي الأقراص والكعك والفطائر والمنين‏,‏ رحمة ونورا علي الموتي‏.‏ تكررت لقاءاتهما في المقابر‏,‏ قبل أن يطالعه العقبي مساعدا للشيخ أبو عبية في إنشاده‏.‏
روي أنه سمع إنشادا لم يسبق له التعرف إلي صاحبه ـ في سرادق بمولد سيدي نصر الدين‏,‏ اجتذبه الصوت‏,‏ والكلمات‏,‏ وطريقة الأداء‏,‏ لا إيقاعات إلا صوت الشيخ والمستفتح‏,‏ وتصفيق الأيدي‏.‏ يبدأ الشيخ إنشاده خفيضا‏,‏ هامسا‏,‏ يعلو ويعلو حتي يبلغ الذروة‏.‏
أزمع أن يعد نفسه لهذا العمل‏.‏ أخذ العهد في الطريقة الشاذلية علي يد الشيخ مكرم رسلان إمام الطريقة‏,‏ تبعه بقراءة دلائل الخيرات‏,‏ وكتب التوسل للذات العلية‏,‏ وقصائد المديح‏,‏ والتغزل بالنبي‏,‏ والتوسل بخير البرية‏,‏ وطلب شفاعته‏,‏ وشفاعة آل البيت‏,‏ والصحابة‏,‏ والأولياء‏,‏ حفظ قصائد للمسلوب والمنيلاوي وأبو العلا محمد والبنا وسلامة حجازي وصبح وعلي محمود‏.‏
أخذ عن الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ تصرفاته‏,‏ حركاته وسكناته‏.‏ تدريب علي طريقة الإلقاء‏,‏ متي يضع يديه تحت ذقنه‏,‏ متي يلصقهما بالأذنين‏,‏ متي يعلو صوته ويهبط‏,‏ كيف يفيد من آخر قراراته‏,‏ يلجأ إلي التعبير بالإيماءات والإشارات وحركات اليدين وتعبيرات الوجه المصاحبة للأداء‏,‏ يتغني بالصبابة والوجد والشوق إلي الوصال‏,‏ وإن أخذ العقبي علي الشيخ ـ بينه وبين نفسه ـ أنه ينشد ما يوضع في فمه‏,‏ لا يتأمل الكلمات‏,‏ ولا يتدبر معانيها‏,‏ لا يشغله حتي نوعيات المستمعين‏,‏ وتأثيرها‏,‏ وهل يحسنون الفهم‏,‏ أو أنهم يكتفون بسماع ألحان تمتدح الرسول‏.‏
عهد إليه الشيخ ـ في البداية ـ بدور المجاوبة الغنائية‏,‏ أقرب إلي المبلغ في صلاة الجماعة‏.‏
طالت رفقته للشيخ حتي شال عنه كل ما يرويه‏,‏ يعيد ما يستمع إليه‏,‏ يلجأ إلي الارتجال والتأليف والتوليف والصنعة‏,‏ ينظم الأبيات لحظة نطقها‏,‏ يستغني عن الحفظ إلا في المعاني‏,‏ يضيف ما يمليه خياله وموهبته‏.‏ ربما علا صوته بما لم يكن له أصل‏,‏ ولا استند إلي وقائع حقيقية‏.‏
حين طلب منه الشيخ أن ينشد معه جزءا من الأداء‏,‏ حاول أن يبدع بما يقارب أداء الشيخ‏,‏ أو يفوقه‏,‏ يتأمل انعكاس أدائه في أعين الناس‏,‏ يفرق بين مريدي الشيخ وبين من قدموا للاستماع‏.‏
هؤلاء هم الجمهور الذي يبحث عنه‏,‏ وعليه إعداده حين ينشد ـ منفردا ـ في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏.‏
يستجيب للأصوات الرافضة‏,‏ والمعترضة‏,‏ والتي تعلو بالملاحظات‏.‏ يوقف النغمة‏,‏ يستبدل بها نغمة‏,‏ ونغمات‏,‏ أخري‏,‏ يتأمل صداها في أعين الناس‏,‏ وإيقاع تصفيقهم‏,‏ يتبين ـ بنظرة متفحصة ـ استجابات الناس‏,‏ ما بين طالب للإعادة أو الاستزادة‏,‏ ورافض‏,‏ يظل علي النغمة التي اختارها لإنشاده‏,‏ أو يبدلها‏,‏ يسند خده الي يده‏,‏ يغمض عينيه‏,‏ يعلو صوته بآخر طبقاته‏.‏
قبل ان يقتصر علي نفسه‏,‏ كان قد أنشد في كل الموالد‏,‏ ليس في بحري وحده‏,‏ وإنما في الاسكندرية والمدن الأخري‏,‏ موالد الشاذلي والدسوقي وأبو حجاج الاقصري‏,‏ والمولد الأحمدي‏,‏ وموالد الطاهرين من آل البيت‏:‏ السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة وزين العابدين وفاطمة النبوية والسيدة عائشة‏.‏
ردد قصائد أبو عبية في البداية‏,‏ ثم تحول الي قصائد‏,‏ ضفر أبياتها من قصائد مختلفة‏,‏ مزج بين اسلوب الشيخ في الآداء‏,‏ وبين أساليب تعرف إليها في إنصاته لشيوخ آخرين‏.‏ لم يتردد في الحذف والإضافة والتوشية‏,‏ وإن لم ينسب النبع الي نفسه‏,‏ ما فعله انه استوحي‏,‏ وألف‏,‏ ولحن‏,‏ اداؤه يكفل له توالي الموجات في بحر الإنشاد‏.‏
لم يقصر ما يقول علي ما أخذه من الشيخ‏,‏ ومن المشايخ الآخرين‏,‏ عني بزيادة حصيلته من النصوص‏,‏ بما يشمل كل الأغراض‏,‏ وما يتفق مع أذواق الناس‏,‏ وما يريدون سماعه‏.‏
اختار ما لم يسبق إنشاده في الموالد والليالي وحضرات الساحة‏,‏ تنقل بين المقامات‏,‏ زاوج بينها وزاوج بين إيقاعات النغم الشرقي والنغم الشعبي‏,‏ أدخل الالات الموسيقية حتي ما لم يستخدمه الشيخ أبو عبية‏,‏ الكمان والناس والقانون والاكورديون‏,‏ قدم من التوحيد‏,‏ والمديح‏,‏ والتوسل‏,‏ والأوراد‏,‏ والأحزاب‏,‏ ما لم نكن قرأناه ولا استمعنا اليه من قبل‏,‏ وأنشد قصص الكرامات‏,‏ وقصائد ابن الفارض وابن عربي‏,‏ ترافقه آلات الطرب من الناي والربابة والعيدان والدف والطنابير‏.‏
امتد إنشاده إلي المدائح النبوية والابتهالات والتسابيح والتواشيح والأذكار والتخمير والقصائد والأدوار‏,‏ ورواية معجزات النبي والرسل ومناقب الأولياء‏,‏ أنشد للجيلي والجيلاني وابن عربي والحلاج والغوث وابن الفارض وعلي محمود‏.‏
فن الإنشاد له أصوله‏,‏ وقواعده‏,‏ وقوالبه‏,‏ وإيقاعاته‏,‏ حفظ ما لم يكن يعرفه بقية المنشدين‏:‏ المدد‏,‏ التوسلات‏,‏ الأغنيات الشعبية‏.‏
حتي ما لم يعبر عن العقيدة الدينية‏,‏ حتي الأدوار المحملة بالايحاءات والإرشادات الجنسية‏.‏ يحرض من في ساحة الحضرة أن يرددوا الإنشاد وراءه‏,‏ يتحولوا إلي سنيدة ومذهبجية‏.‏
ربما التقط الناي أو المزمار من الطاولة الصغيرة أمامه‏,‏ يصل الأداء الصوتي بفقرات موسيقية‏,‏ فرشة تسبق الإنشاد‏.‏ ادخل علي الألحان ايقاعات غائبة المصدر‏,‏ ليست الايقاعات التي اعتدنا سماعها‏.‏ غير في النصوص كلمة‏,‏ وكلمات‏,‏ ثم حذف‏,‏ وأضاف‏,‏ وبدل‏.‏ يعتمد علي البديهة‏,‏ والقدرة علي الارتجال‏,‏ يضمن إنشاده أسماء رءوس العائلات في القري والأحياء التي تستقبله‏,‏ ينوع في الألحان والإيقاعات والأداء الصوتي‏,‏ يخضع ما ينشده للمعاني التي يريد توصيلها‏.‏ يمد الحروف‏,‏ يطيلها‏,‏ يقصرها‏,‏ ينغم الأبيات‏,‏ يحسن الوقفات‏,‏ والسكنات‏,‏ والترقيق والتفخيم‏.‏ قد يهمل العديد من الأبيات لنبوها عن سياق المعني‏,‏ ربما نوع بين نص وغيره من النصوص‏,‏ ليبلغ هدفه‏.‏
حرص أن يوضح في النصوص ما يبدو غامضا‏,‏ أو يقدم المعاني التي يشغله توصيلها‏,‏ هي غير موجودة في النصوص‏,‏ أو متوارية‏.‏ يوائم بين أذواق الناس‏,‏ يختار لكل جماعة ما يروقها‏:‏ الحب الإلهي والنبوة ومديح الرسول وآل البيت‏,‏ التغني بمناقب أولياء الله‏,‏ ومكاشفاتهم‏,‏ وحوادثهم‏,‏ وخوارق أفعالهم‏,‏ التوسلات ونداءات النصفة والمدد‏,‏ فراق الأحباب والحنين إلي موطن الميلاد والطفولة والنشأة‏.‏
لم يعد يجد حرجا في الإنشاد‏,‏ في حضور الشيخ أبو عبية‏.‏
طريقة الرجل مذهبه‏,‏ ولم يشر العقبي إلي طريقته‏,‏ فغاب المذهب الذي كان يؤمن بتعاليمه‏,‏ وما يدعو إليه‏.‏
جعل لنفسه مجموعة‏,‏ يحيطون به‏,‏ يرافقونه إلي الأماكن التي ينشد فيها‏,‏ الساحات والقاعات الواسعة والسرادقات‏,‏ يرددون ما ينشده‏,‏ تعلو أصواتهم بعبارات الاستحسان والثناء‏,‏ تصفق أيديهم بالإيقاع المصاحب للكلمات‏,‏ الدور نفسه الذي طال قيامه به في صحبة الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ حتي اذن الله فاستقل بنفسه‏.‏
حاول أن يضمن إنشاده آراء وانتقادات وما ينفع الناس‏,‏ يستشهد بسيرة الرسول‏,‏ وسير الأنبياء‏,‏ وقصص آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين‏,‏ تمازجها الكناية والتورية والإضمار‏.‏
لم يتحدث عن تأليف طريقة صوفية‏,‏ وإن زاد عدد المعجبين بصوته‏,‏ فصاروا كالمريدين في حضرات شيوخ الطرق‏,‏ حفلت الساحات بمواكبهم‏,‏ انتشروا في الشوارع الرئيسية والجانبية‏.‏ حتي الساحة الحجرية أمام قلعة قايتباي‏,‏ صنعوا فيها حلقة‏,‏ نشروا الزينات والبيارق والرايات الملونة‏,‏ وتعالت أصواتهم بما حفظوه من الكلمات التي نحسن فهم معانيها‏.‏
جاوز بقصائده جلسات الخواص وحلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق‏,‏ إلي الموالد والسرادقات التي يفد إليها آلاف العوام واللقاءات المفتوحة‏.‏
أرخي العذبة من العمامة الهائلة المستقرة فوق رأسه‏,‏ أهمل شعره‏,‏ فلم يقصه حتي انسدل علي كتفيه‏,‏ يضفي علي هيئته مهابة بالنظرات النافذة‏,‏ واللحية التي أحسن تهذيبها‏,‏ والجلبات الصوف‏,‏ والشال الملتمع حول عنقه‏.‏
جعل العقبي من بيت ذي طابقين‏,‏ يطل علي ناحية خليج الأنفوشي‏,‏ سكنا له‏,‏ يعكف فيه علي العبادة والمراجعة وحفظ الجديد من الإنشاد‏,‏ فلا يداخل نفوس الناس بالمتكرر‏,‏ وما يبعث الأمل‏,‏ يستقبل محبي صوته‏,‏ لا شأن له بوعظ ولا إرشاد‏.‏ ظل علي حاله منشدا‏,‏ يؤدي المدائح والأدوار والأغنيات‏.‏
لجأ إلي الوسائط التي لم يستخدمها جابر أبوعبية‏,‏ ولا أي من المنشدين الآخرين كشريط الكاسيت والأسطوانة الرقمية‏,‏ أضاف إلي إنشاده ما حفظه من الشيخ أبو عبية‏,‏ وإن لم ينسبه إلي نفسه‏,‏ لم ينزع نفسه عن الطريقة الشاذلية التي مثل أبو عبية حلقة في سلسلة منشديها‏,‏ كل الإنشاد يصدر عن العقبي‏,‏ وله حسن الجزاء والمثوبة‏.‏
طال صمت الشيخ دون أن تبدو في تصرفاته نية الرفض‏.‏
روي أنه دعا أفراد فرقته لتدبر ما جري‏:‏
ــ إذا ظل الناس علي سماعهم للعقبي‏,‏ فستكون النتيجة خراب بيوتنا‏!‏
توزع أفراد الفرقة‏,‏ ومن يتبعونهم‏,‏ في القري والأحياء والأسواق والخلاء وداخل الميناء وعلي الشاطئ‏,‏ حتي ورش القزق دخلوها‏,‏ ودخلوا البيوت والسرادقات والموالد‏,‏ زاروا الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة‏,‏ ترددوا علي الساحات والمقاهي وحلقة السمك‏,‏ همسوا بالملاحظات والتحذيرات والتوقعات والخوف من ضياع البركة‏.‏
عرف الناس أن رفض أبوعبية زيارة العقبي في بيته لأنه أساء إلي الإنشاد‏,‏ وشوش أفكار الجماعة‏,‏ أضاف‏,‏ وحذف‏,‏ وبدل‏,‏ بما خرج بالكلمات عن الطريقة الشاذلية‏,‏ وعن أصول المهنة‏,‏ واجتث جذورها‏.‏
شاغل أفراد الفرق ومن يقودونهم‏,‏ أن يقبل الناس علي الصلاة في مواعيدها‏,‏ يسبقونها ويلحقونها بركعات السنة‏,‏ وبالنوافل‏,‏ يجلسون في حلقات الوعظ والإرشاد الديني‏,‏ وقعدات الصوفية‏,‏ وقراءة القرآن وتجويده‏,‏ ينتظمون في حلقات الذكر‏.‏ ثم يمضون إلي سرادقات منشدي الشاذلية‏,‏ وقصائدهم‏,‏ وحكاياتهم‏.‏
ترك جماعة أبو عبية للناس أمر الخلاص من المعاناة‏,‏ أن يتخلصوا من العقبي بطريقتهم‏,‏ اعتبار ما كان كأنه لم يكن‏,‏ وإعادة الأمر إلي صورته الأولي‏.‏
ينشد الشيخ جابر أبوعبية مدائحه المتفردة في سرادقات بحري‏,‏ ظله مساجد الحي وشفاعات أولياء الحي ومددهم‏,‏ تطلعه إلي الذات الإلهية بالتوسل والرجاء‏,‏ صورة الانشاد الديني كما اعتادها الناس‏.‏
.................................................. ..
*الأهرام ـ في 18/9/2009م

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:31 AM
من المحرر:
اللغة في القصة القصيرة

بقلم: محمد جبريل
.....................

قرأت في الفترة الأخيرة عشرات القصص القصيرة. ضمن مسابقات للعديد من هيئاتنا الثقافية.
إذا أهملنا المحاولات الساذجة والفجة التي يحرص أصحابها علي الاشتراك في كل المسابقات. دون إدراك حقيقي لضعف مواهبهم ـ إن وجدت أصلا ـ ولخصائص فن القصة، تصوروا اكتمال الموهبة. فلم يحاولوا القراءة ..
إذا أهملنا تلك المحاولات، فإن الكثير مما قرأته يبين عن مواهب لافتة؛ استكملت مقوماتها بالقراءة والتلمذة واكتساب الخبرات، والسعي إلي الصوت الخاص. قد يفيد من أصوات الآخرين، من الأساتذة في الأدبين العربي والعالمي، لكنه يحرص أن يحقق الخصوصية والتمايز.
القضية التي شغلتني ـ فأنا أخصص لها هذه المساحة ـ هي النظرة الغريبة إلي اللغة. حتى الذين قدموا معطيات جميلة. حفلت محاولاتهم بأخطاء في النحو والإملاء. ظني أن تلميذ المرحلة الإلزامية يبرأ منها قبل نهاية المرحلة!
سألت مدفوعا بالإشفاق عن التشوه الذي حاق بعمل فني جميل، لأن صاحبه أهمل سلامة اللغة. تحول الإشفاق إلي غضب عندما برر كتبة تلك المحاولات أخطاءهم. يرون اللغة جسراً، أداة توصيل، والقيمة الحقيقية في مضمون العمل، وفي فنيته!
اللغة شيء آخر، يرفض هذا المعنى، إنها جزء في صميم الإبداع السردي. جمالياتها بعدٌ مهم، يصعب قبول الإبداع بدونه. إنها جزء من جماليات العمل. تلتحم به. وتضيف إليه.
من الصعب تصور بنية معمارية تخلو من الأرضية والأعمدة والأسقف. قد لا يكون التعبير دقيقاً، لكن المعنى الذي أريد التعبير عنه أن اللغة مما لا يستغني عنه العمل الإبداعي السردي. لا أتصور طبيبا لا يعرف أدوات مهنته. ولا مهندسا يستغني عن المسطرة والمثلث والبرجل، ولا محاسباًً يغيب عنه فهم الرياضيات. إلخ.
أذكر أن أستاذنا الراحل عبد القادر القط كان يطوي القصة التي يقرأها، ويقذف بها في سلة المهملات. إن طالعه خطأ لغوي. كان رأيه أن من يخطئ في لغته لابد أن يخطئ في كتابته جميعا. إنه يشيد بناية علي غير دعامات حقيقية!
القصص التي أتيح لي قراءتها ـ ضمن مسابقات أدبية ـ وللمسابقات تقديراتها التي تمتد من الواحد إلي العشرة. أو من العشرة إلي المائة.. فالمحكم بتشديد الكاف لا يزكي للنشر. لكنه يرصد الدرجات التي تعبر عن رؤيته لمفردات العمل، بما فيها اللغة، يضيف درجة أو اثنتين لسلامة اللغة، ويحذف للعكس.
هذا ما فعلته!
هامش:
تقول سينكلير دومنتيه: الكتابة عن الأشياء المادية قد لا تكون مختلفة عن تلك الكتابة الجارية وفق الاعتبارات الأدبية. فإن أكتب رواية يعني أنني أكتب تاريخ العالم المحتمل وجوده، وإني أوجد من العالم كتابة جارية، كتابة تركض وتتعثر. فالكتابة مثلها مثل الحديث عن حياة شخص ما. لهذا السبب لا وجود لكلمة واجب بالنسبة لي. كما أنه ليس هناك وجود لها بالنسبة للكاتب بعامة. هناك الكتابة فقط التي تدفع الرجل والمرأة لإعطاء الرأي آراء حقيقية.
..........................
*المساء ـ في 13/6/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:32 AM
من المحرر:
يهود الدونمة

بقلم: محمد جبريل
.....................

آدم يحيي جدعان. يهودي يحمل الجنسية الأمريكية. وجده يعيش في إسرائيل. اعتنق الإسلام كما يقول في 1990. ورحل إلي باكستان. حيث انضم إلي تنظيمات القاعدة. يقول عن سيرته الشخصية إن فيها عبرة "فأنا أنحدر من أصل يهودي. فجدي لأبي صهيوني غاصب للأرض. وهو عضو بارز في المنظمة الصهيونية سيئة الصيت. وقد شجعني علي زيارة إسرائيل. وبخاصة تل أبيب حيث يعيش أقاربنا. وأهداني كتابا لنتنياهو بعنوان "مكان بين الأمم" وفي الكتاب مغالطات وافتراءات وأباطيل وتعليل باطل باغتصاب أرض المسلمين الفلسطينيين". وكلمات أخري كثيرة تحمل المناصرة للحق العربي. مقابلا لرفض الاغتصاب والاستيطان.
قد أكون مخطئا. لكن آدم يحيي جدعان. أو عزام أمريكا. والذي يحتل الترتيب الأول في قائمة الإف بي آي. يذكرني بيهود الدونمة. هؤلاء الذين سقطت دولة الخلافة العثمانية بمؤامراتهم.
لقد ادعوا الإسلام. وإن ظلوا علي ديانتهم اليهودية. وعملوا من خلال الديانة المعلنة. والديانة المستترة الحقيقية علي إسقاط دولة الخلافة.
علي الرغم من حصار الغرب لدولة الخلافة. واعتبارها بتوالي المؤامرات والحروب رجلا مريضا يوشك علي الاحتضار. فإن موقف الأستانة المبدئي ظل رافضا لاستيطان اليهود أرض فلسطين. وعهد يهود الدونمة إلي أنفسهم مسئولية تقويض الدولة من الداخل. حتي تحقق لهم ما أرادوا. وتغيرت النظرة التركية إلي الاستيطان اليهودي. فضلا عن أن تركيا لم تعد تملك قرار السماح بهجرة اليهود إلي فلسطين.
تذهلني عمليات القاعدة في العديد من البلدان العربية والإسلامية الصومال آخر المحطات معظم الضحايا بسطاء يلقون الشهادة في البيوت والأسواق والمدارس وأماكن التجمعات البشرية.
إذا كان المقصود محاربة الاستعمار والتدخل الأجنبي في البلدان العربية والإسلامية. فلماذا لا يتجه العداء وعمليات المقاومة ضد القوات المحتلة؟ لماذا يقتصر التدمير والقتل أو يكاد علي من تعلن بيانات القاعدة ليل نهار أن عملياتها تستهدف انتزاع حقهم في الحياة الآمنة؟
كل يوم تطالعنا وسائل الإعلام بأعمال غير مفهومة. ولا مبررة. تستهدف مواطني هذا البلد العربي والمسلم أو ذاك. بينما الخسائر التي تصيب قوات المحتل مبعثها في الأغلب نيران صديقة!
أخشي أن حكاية يهود الدونمة تتكرر من جديد. في امتداد عالمنا العربي والإسلامي. يبين ذلك في مجرد تأمل بانورامية الصورة.
.......................................
*المساء ـ في 27/6/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:33 AM
من المحرر:
جوائز الدولة

بقلم: محمد جبريل
......................

ذات يوم. كنت نائبا لرئيس اتحاد الكتاب. ورشحني زميل عزيز من أعضاء المجلس لنيل جائزة الدولة التقديرية. أردفت عدم قبولي الفكرة بأن من يتولون الترشيح لجائزة ما. يجب أن يحافظوا علي حيدة الجائزة وموضوعيتها. بعدم الترشح لها. أو بالاعتذار عن قبولها. وأذكر أني استصدرت من مجلس الإدارة في تلك الجلسة قرارا. حظي بالاجماع. وثبت في المحضر. بأن يمتنع الترشيح للجوائز عن أعضاء المجلس.
وإذا كان المجلس التالي قد بدل القرار. وزكي ترشيح أعضائه لجوائز الدولة. فإن موقفي ظل معلنا من هذه الجوائز. بحيث لا أخشي اتهاما بغياب الموضوعية.
مع تهنئتي للفائزين بجوائز الدولة. فإن الظاهرة الواضحة أن غالبيتهم ينتسبون إلي عضوية المجلس الأعلي للثقافة. بداية من لجنته العليا. وانتهاء بلجانه المتخصصة. وما أعرفه أن مثقفي مصر مبدعيها ومفكريها لا يقتصرون علي السادة أعضاء لجان المجلس. ولو أردت أن أضرب مثلا. فستطول القائمة.
ذلك هو التقليد الذي تلتزم به لجان الجوائز الحقيقية والمحترمة: نوبل والجونكور واتحاد الناشرين والعويس والفيصل وغيرها. لجان التحكيم تعتذر عن مجرد فكرة الفوز بالجائزة. أو ترشيح أعضائها. بل ان لجان جائزة نوبل لم تلجأ إلي نجيب محفوظ كي يزكي من يراهم جديرين بالجائزة. إلا بعد أن نال الجائزة فعلا. زال الغرض. فصارت الموضوعية متاحة.
قامت الدنيا ولم تقعد حين نال أحمد عبد المعطي حجازي جائزة الشعر. قيل إنه استغل رئاسته للجنة الشعر. فأعطي نفسه الجائزة. ما القول في منح الجوائز لاعضاء المجلس الذي يعد الترشيح للجوائز. ومنحها. من صميم عمله؟!.
أتصور لو أن ذلك المنطق الغريب طبق في الجوائز الحقيقية الكبري. ما حصل العرب ممثلين في نجيب محفوظ علي جائزة نوبل. وما حصل هؤلاء الذين زكوا أنفسهم في المجلس الأعلي للثقافة علي جوائز عربية ودولية مهمة.
لا انتقص من قدر الفائزين. فجميعهم رموز مهمة في حياتنا الثقافية. ويستحقون ما حصلوا عليه من جوائز. وأكثر. إنما أقصد المبدأ. المعني. الآلية. أن يسير كل شيء وفق قواعد واضحة وثابتة. فلا يتحول الحكم إلي لاعب. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه دوما: ما الأسباب التي استند إليها منح الجائزة لهذا الكاتب. وحجبها عن كاتب آخر. قد تكون اسهاماته الإبداعية والفكرية وليس اقترابه من السلطة. أو علاقاته العامة هي المحرض علي منح الجائزة.
إن مجرد تولي مسئولية القراءة والموازنة والتحليل ودراسة مدي التأثير. ومحاولة التوصل إلي الأجدر بالجائزة.. ذلك كله تعبير عن مكانة المسئول وهي مكانة متفوقة بكل المقاييس فإذا أراد أن يحصل علي جائزة ما. فليس أيسر من أن يتنازل عن مسئولية التحكيم.
الموضوعية شاحبة. أو أنها غائبة. ولو اننا لم نفطن. ونراجع أنفسنا. فسيضاف إلي الأذهان معني جديد يردف ما قرأناه عن الغول والعنقاء والخل الوفي.
وليرحمنا الله!
...................................
*المساء ـ في 4/7/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:34 AM
لماذا توقف برنامج "أمسية ثقافية" لفاروق شوشة؟

بقلم: محمــــــــــــــد جبريــــــــــل
........................................

لا شك أن برنامج "لغتنا الجميلة" الذي يقدمه الشاعر الكبير فاروق شوشة هو أحد المعالم المهمة في إذاعة القاهرة لا أذكر بدايته فهي تعود إلي سنوات بعيدة وإذا كانت صفية المهندس تتحدث في مقدمة البرنامج -باسم البحر- عن الدر الكامن الذي يعني الغواص باستخراجه من الأعماق. فإن غوص فاروق شوشة أتاح لنا التعرف إلي ما نعرفه وما لا نعرفه من قسمات اللغة. بداية من المفردة وحتي الجملة ذات الدلالة. مرورا بالخصائص البلاغية للغتنا الجميلة.
وقد مثل برنامج "أمسية ثقافية" الذي قدمته القناة الثانية بالتليفزيون علي مدي سنوات إضافة مهمة من فاروق شوشة إلي برنامجه الإذاعي فقد استضاف رموزا فكرية وثقافية عنوا بمناقشة الإبداعات والقضايا التي تعكس في مراياها جماليات اللغة.
بالطبع فإن إعادة القناة الثقافية تقديم حلقات سابقة من برنامج أمسية ثقافية "يعني جدية الاجتهادات التي يناقشها البرنامج. وتجددها. بحيث لا نملك إلا التعجب من إيقاف هذا البرنامج في قناته الأصلية وكما تري فلم تعد القناة الثانية تقدم برامج جديدة ولا قديمة. وإنما اختفت الأمسيات الثقافية منها تماما!
قيل إن المسئولين عن القناة أخروا موعد تقديم البرنامج إلي ما بعد الثانية صباحا مما اضطر فاروق شوشة إلي طلب إيقافه وعبر الطلب -فيما يبدو- عن هوي المسئولين في القناة فأوقفوا البرنامج بالفعل.
حياتنا متكاملة. أو هكذا يجب أن تكون. الاهتمام ببعد ما يجب ألا يصرفنا عن بقية الأبعاد. والمواد الإعلامية ينبغي ألا تقتصر علي الكرة والأغنيات وأفلام الحب. وقضايا السياسة أحيانا. الثقافة الأدبية. ثقافة الكلمة. قيمة من الخطأ -أيا تكن الأسباب- أن نهملها.
مواد القناة الثانية تمتد بامتداد ساعات الليل والنهار وظني أنه لن يشوه قسماتها برنامج يستهدف تعميق الحس الجمالي في نفوس المشاهدين وبتعبير آخر فإن ساعة من الثقافة الرفيعة ضمن أربع وعشرين ساعة من البرامج الأخري لن يسيء إلي صورة التليفزيون بل إن وجودها يضيف إلي مواد التليفزيون ويؤكد التنوع المطلوب لاكتمال الخدمات الإعلامية.
أخشي أن المسئولين عن القناة يقيسون الأمور من زاوية ميولهم الشخصية ما يحبون وما يكرهون ما يفهمون وما لا يشغلون أنفسهم بمحاولة فهمه فيبحثون من وجهة نظرهم- عما يمتع المشاهد وإهمال ما قد يفيده وهو خطأ إعلامي معيب أثق أن وزير الإعلام أنس الفقي -الذي يجد في العمل الثقافي ضرورة يصعب إغفالها- لن يسمح باستمراره.
أمسية ثقافية.. برنامج يجب علي التليفزيون المصري أن يعتز بتقديمه!
......................................
*المساء ـ في 16/6/2007م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:35 AM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.....................

لست أذكر القائل: ان علي الكاتب مهمتين: الأولي أن يقول شيئا. والثانية ان يروي شيئا. لكنه قول صحيح تماما.
رغم احترامي لقول بيكيت "ليس لدي شيء أقوله. فأنا الوحيد الذي يستطيع ان يقول الي أي حد انني ليس لدي شئ اقوله. او مضطر لان اقوله.. فإن المقولة/ الدلالة واضحة في اعمال بيكيت. قد تتعدد التفسيرات. والتعرف الي مايحمله العمل من دلالات مضمونية. لكنها موجودة "اذكرك يتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية في كتابي نجيب محفوظ صداقة جيلين.
في رسالة من تولستوي الي مواطنه الروائي الروس ليونيد اندرييف. يشير الي انه علي الكاتب إلا يكتب الا اذا استحوذت عليه الفكرة التي يود التعبير عنها بأحسن مافي طاقته. والا يفكر حينئذ في شئ آخر غير اجادة التعبير. فلا ينظر الي ماتضفي عليه الكتابة من شهرة أو مال وكتب تشيخوف في احدي رسائله: "دعني اذكرك بأن الكتاب الخالدين. أو في الاقل ذوي الموهبة. الذين يهزون نفوسنا. لديهم سمة مشتركة بالغة الاهمية. هي أنهم يتجهون الي شئ.. وانهم يدعونك اليه ايضا. وإنك تحس. لابعقلك وانما بكيانك كله. ان لديهم هدفا بعضهم لديه اهداف مباشرة كالقضاء علي الاقطاع وتحرير البلاد. وكالسياسة او الجمال. او مجرد الفودكا واخرون لديهم اهداف بعيدة كالله. وكالحياة بعد الموت. وكسعادة البشرية وهكذا وان افضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هي. ولكن علي الرغم من ان كلا منهم يستغرقه هدف واحد. فإنك تحس في اعمالهم. لامجرد الحياة كما هي. بل تحس الحياة كما ينبغي ان تكون. وان هذا ليأسرك.
للعمل الادبي استقلاليته. لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذي كتبه. من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه. افترض ان العمل كتب نفسه. او هذا في الاقل ما اتحمس له لكنني لا اتصور ان يصدر العمل عن فراغ حتي الثمرة المعينة هي في الاساس بذرة معينة وضعت في تربة معينة ومناخ معين.. والا فما سر زراعة محصول بذاته في بلد ما ولايمكن زراعته في بلدان اخري؟!
واذا كان رأي بوشكين ان الفنان الحقيقي يهب نفسه كلها للفن فإني أجد ان القضايا التي يناقشها الفن ويطرحها وليس الفن كغاية ترفيه. هي ماينبغي علي الفنان ان يخلص لها ولعلي اذكر قول بيرك باك الفنان اليوم لم يعد يكفيه ان يملك اداة رائعة من الصنعة المكتملة بل لابد ان يكون لديه شئ جدير بهذه الاداة يعبر عنه بل ان دعاة الفن للفن يشيرون الي انه علي الكاتب ان يتحدث عن شئ من الاشياء وقد ابدي سارتر اسفه علي لامبالاة بلزاك تجاه احداث عصره. وعلي عدم الفهم. وعلي الخوف ايضا الذي ابداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونه. فضلا عن انه اعتبر فلوبير والاخوين جونكور مسئولين عن القمع الذي اعقب حكومة الكوميونة. لانهما لم يكتبا حرفا واحدا.
المسألة في تقدير بريخت ليست مجرد تفسير العالم. بل تغييره. وعلي حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هي ان يحول كل ماهو معزول ومحكوم عليه بالموت. الي حياة لا نهائية. ان يحول ماهو مجرد مصادفة الي ماهو متفق عليه مع القانون العام "ان رسالة الكاتب نبوية".
...........................
*المساء ـ في 18/7/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:36 AM
من المحرر
محو الهويـــــــــــــــــــــة

بقلم: محمد جبريل
....................

عندما تبدل دولة محتلة أسماء المدن والقري في الأراضي التي تحتلها. ضمن مخطط للقضاء علي هويتها القومية. فهذه جريمة. أما أن تبدل دولة مستقلة بإدارة أبنائها. ويمسك القلم عن تعبير آخر بأسماء معالمها: البنايات والفنادق والحدائق والمحال التجارية وغيرها. أسماء أجنبية. فإن الوصف الذي ينتسب إليه هذا التصرف. يبدأ بالمهزلة. وينتهي بالمأساة!
ظني أن هذا هو الفارق بين ماتحاوله إسرائيل في فلسطين. وبين مانحرص عليه في بلادنا.
أعلنت اسرائيل عن خطة لاستبدال الأسماء العبرية بالأسماء العربية في مدن وقري فلسطين. وهي تسمية لاتقتصر علي مجرد كتابة الاسم العربي بالعبرية. وإنما باستبدال الاسم جميعا. فالقدس تصبح اورشاليم. والقدس والضفة الغربية يهوذا والسامرة إلخ.
من حقنا كعرب أن نرفض هذا التصرف. وندينه. باعتباره محاولة لمحو الهوية الفلسطينية "بالمناسبة. فأنا أصر علي تسمية الشرق العربي. أو الوطن العربي. تسمية صحيحة في مواجهة تسمية الشرق الأوسط" لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن المحاولات المستخفة والسخيفة من بعض المحسوبين علينا. لمحو الهوية القومية من خلال استبدال اللغات الاجنبية بلغتنا العربية. والقول باللغات مقصود. فلم تعد الانجليزية وحدها ما يطالعنا علي لافتات المحال والبنايات. ففي مدن السواحل مسميات اخري بالروسية والالمانية والايطالية وغيرها. الهدف المعلن هو اجتذاب السياح من مواطني البلاد التي تتكلم تلك اللغات. لكن النتيجة التي لانفطن اليها هي انعكاس ذلك التصرف سلبا علي هويتنا القومية.
لم تعد الحرب ضد اللغة العربية خافية .. ذلك في الأقل ما أعلنه قادة الكيان الصهيوني عن نجاحهم في تحويل لغتهم الميتة "كانت لغة ميتة بالفعل قبل أن تنشأ الدولة. بل إن معظم مسئوليها فضلا عن المواطنين العاديين لم يكونوا يعرفون حرفا واحدا منها" الي لغة حية. مقابلا لمحاولاتهم المستمرة باضعاف العربية. وتحويلها علي المدي البعيد. أو القريب. الي لغة ميتة!
إذا كان من حقنا ان ندين إسرائيل علي محاولاتها إضفاء الصبغة الصهيونية علي أراض عربية محتلة. فإن من واجبنا أن ندين التصرفات اللامسئولة التي تصدر من الداخل في اساءة متعمدة لهويتنا القومية. لمجرد الابهار وادعاء ماليس حقيقيا. ومن واجبنا ان نتجه بالادانة نفسها الي مسئولي الادارة المحلية. فالقانون يهبهم الحق. ويلزمهم. باقتصار الاسماء علي اللغة العربية. وتقديم المخالفين الي المحاكمة.
أخشي أن يكون الصمت عن تلك التصرفات المجرمة. مبعثه الحرص علي مكاسب شخصية. ولو علي حساب هويتنا القومية!
هامش : سأل الخليفة العباسي أحد مواليه عن نسبه من العرب. فأجاب الموالي : إن كانت العربية لسانا. فقد نطقنا بها. وإن كانت دينا فقد دخلنا فيه.
...................................
*المساء ـ في 25/7/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:37 AM
من المحرر
توظيف التراث

بقلم: محمد جبريل
.....................

لما تكونت المدرسة الحديثة في عام 1917. وافرادها شباب الادباء آنذاك: أحمد خيري سعيد وحسين فوزي ومحمود عزي ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وغيرهم.. كان أول مادعت اليه. رفض التراث العربي كمصدر للالهام. واعتبار النموذج الاوروبي هو المثل الذي يجب ان يتجه اليه الادباء حين يبدعون اعمالهم.
وقد يبدو غريبا ان تلك الدعوة رفعت شعارا هو: "فلتحيا الاصالة. فليحيا الابداع. فليحيا التجديد والاصلاح".. فالقسمان الاخيران من الشعار مفهومان ومطلوبان في كل حين أما القسم الأول وهو التأكيد علي إحياء الاصالة فإنه يبدو غريبا. وغير مفهوم. في ظل المناداة برفض التراث العربي. وان كان مما يغفر لذلك الشعار انه ظهر في وقت لم تكن الشخصية المصرية قد تعرفت الي هويتها الحقيقية بعد.. فقد كانت موزعة بين عشرات التيارات والاجتهادات. مابين اسلامية وفرعونية وبحر اوسطية وشرقية وعربية وغيرها. فهي لم تسفر عن ملامحها العربية الواضحة الا في الاربعينيات من هذا القرن.
ومع ان يوسف ادريس لم يستلهم التراث في قصصه القصيرة. فإنه كان تعبيرا فعليا عن الاصالة. بمعني ان اعماله كانت قصصا مصرية خالصة. دون اللجوء الي التقليد. وربما الاقتباس من الاعمال الادبية الاوروبية.. وهو ماكان يفعله كتاب الفترة. بدءا بمحمود كامل. مرورا بالبدوي وجوهر والورداني وغراب وعبدالقدوس وغيرهم.. ولعله من هنا جاء قول ادريس. انه اعتبر مهمته الاولي خلق ادب مصري حقيقي. بدلا من التقليد الباهت للادب الاوروبي المتأنق الذي افترش الساحة الادبية المصرية في اواخر الاربعينيات.
والحق انه اذا كانت دعوة المدرسة الحديثة في الاتجاه الي المثل الاوروبي. بهدف تدمير الفاسد والرجعي واقامة المفيد والضروري فإن الرفض المطلق للتراث العربي. قد عكس تأثيراته السلبية القاسية فيما بعد. من حيث التبعية للاتجاهات الاوروبية. وفقدان الشخصية الفنية المتميزة. بل والنظر الي اعمالنا مهما تفوقت باعتبارها الادني بالقياس الي الاعمال الفنية في الغرب.
ثمة رأي انه ليس للرواية العربية تراث. وعلي كل كاتب روائي عربي ان يختار لنفسه وسيلة للتعبير. دون ان يأنس الي من يرشده في ذلك. ولابد والحال كذلك من ان يعتور عمله النقص. ويشوبه الخطأ لذلك فإن الدعوة الي الارتباط بالتراث. الي احيائه وتحقيق التواصل معه في اعمالنا الفنية المعاصرة. هي دعوة صحيحة وايجابية. لأنها تمثل خطوة مؤكدة في سبيل استرداد الذات. واعادة اكتشافها فالاديب المصري ليس مجرد مقلد للأعمال الادبية الغربية مع بدهية الافادة المحسوبة من فنياتها. واذكرك في المقابل. بإفادة الادب الغربي من فنيات الف ليلة وليلة لكنه يجد ارهاصات أعماله. وبداياته الفعلية. في تراث العرب. وفي تراث المصريين القدامي كذلك.. ومن هنا تأتي اعادة النظر في التراث الادبي المصري والعربي. حتي ذلك التراث الذي تصورناه خاليا من الفنون الادبية المعاصرة. كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة. اما المحاولات التي شغلت بالتأكيد علي وجود تلك الاجناس في ادبنا القديم. فإننا يجب ان نوليها ماتستحقه بالفعل من اهتمام وتقدير.
وبالتأكيد. فإن استلهام التراث هو اعادة اكتشاف للطاقات الفاعلة فيه. العودة الي التراث لاتعني الانكفاء علي الماضي. ولا اعتباره النموذج الامثل الذي يصلح لكل زمان ومكان. لكنها تعني تمثل هذا التراث. الاعتزاز به كثقافة قومية اصيلة. بهدف الانطلاق الي المستقبل.
.....................................
*المساء ـ في 11/7/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:39 AM
محمد جبريل.. ومعنى الحرية

بقلم: زينب العسال
.....................

فى شهادته المنشورة فى مجلة فصول يقول محمد جبريل: "أنا مبدع مهموم سياسيا.. إنها سدى اهتماماتى الشخصية والإبداعية فى الوقت نفسه."
جبريل المهموم سياسيا والمعنى بتحقيق الحرية السياسية التى هى حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة.. يوسع من مفهوم الحرية، فالأهم عنده من الكتابة عن الحرية.. هو "أن أكتب فى حرية، وأن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه، أو أعلن المعاداة، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى..
هذا الهم السياسى يبين عن نفسه فى غالبية كتابات جبريل الإبداعية منذ كتابه الأول "الملاك" والذى نشره ولم يتجاوز سن الكاتب آنذاك خمسة عشر عاما بعبارة.. "أشياء ثلاثة كرست حياتى للدفاع عنها: الحق والخير والحرية.. وأرى أن التمتع بالحرية كفيل بأن يحقق الخير والحق.. هل يمكن للإنسان أن يشعر بإنسانيته إلا إذا كان حرا!.. وهل يمكن للإنسان أن يتمتع بالحرية إذا لم يتمتع بها الآخرون؟! إن مبدأ الحرية يلازمه بالضرورة علاقة الفرد الإنسان بالسلطة أيا كانت هذه السلطة.. سواء أكانت سلطة الحاكم أو سلطة الجماعة/المجتمع أو السلطة الأبوية.. البعض لا يرى وجود تعريف محدد للسلطة فإعطاء مفهوم للسلطة سيكون الأمر أكثر سلطوية.. فالسلطة متعددة الوجوه خافية وظاهرة.. من الممكن أن تكون سلطة مركبة.. متعددة.. ومتغيرة الوجوه.. "يمكن أن تعرف نفسها بكونها ذات أسماء عديدة، وتوجد فى كل الأمكنة والخطابات من الأسرة إلى الدولة، من التابو إلى الليبيدو، من العلم إلى الإيديولوجيا، من المستشفى إلى السجن، من العقل إلى الجنون، ومن المدرسة إلى الكنيسة.(1)
السلطة إجمالا قائمة فى كل خطاب نقوم به حتى ولو كان يصدر من موقع خارج السلطة وهى لها آلياتها المتعددة.
كان الحديث عن السلطة فى عصور ماضية لا يتم إلا عن طريق الرمز.. فيكون الخطاب على لسان الطير أو الحيوان أو يلجأ الكاتب إلى استخدام البلاغة. إن السلطة هنا تتعلق بالسياسة، لا تتعلق بمن يحكم بقدر تعلقها بكيف يحكم؟ (2)0
هذا المفهوم تشير إليه روايات "الأسوار" و"إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبى الطيب المتنبى" و"قاضى البهار ينزل البحر" و"الصهبة" و"قلعة الجبل" و"الخليج" و"المينا الشرقية".
من الخطأ البالغ أن نقول إن العلاقة بين المصرى والسلطة سارت دائما فى خط واحد ثابت.. القهر من جانب السلطة والخنوع المطلق من جانب المصرى.. فقد حدثت على مدار التاريخ عدة ثورات شعبية فى مواجهة السلطة الغاشمة..
أعلن الإمام فى "إمام آخر الزمان" أن الإمامة منصب إلهى كالنبوة، فالأئمة عليهم نفس مسئوليات الأنبياء، وإن كان لا يوحى إليهم.. محمد جبريل يرصد بذكاء فكر الإمام الطاغية، فهو يصادر كل صوت سيعلو بالرفض لسياسته بأن هذه السياسة هى إلهام من عند الله فلا يحق للمسلم رفضه أو حتى مناقشته!.. تطلع الشعب إلى ظهور الإمام الحق "المهدى المنتظر" فكان أول ما فعله هو القضاء على المباذل "أغلقت دور السينما والملاهى الليلية أبوابها.. اقتصرت مواد الإذاعة والتليفزيون على البرامج الدينية والجادة وتلاوات القرآن الكريم.. أوقفت البنوك معاملاتها بالفائدة، ألغيت المدارس المختلطة، شجع على إنشاء الأسبلة والكتاتيب والمساجد.. خصص للعده يومين كل أسبوع فى مجلس عام.." هكذا كانت البداية وهى فى الغالب هكذا.. فإذا أمعنا النظر وجدنا أن بذور السلطة والتفرد بالحكم بادية لكل لبيب.. فهو الذي يقرر بالإغلاق وتحويل مسار البرامج.. التوجه للدعاية الدينية للنظام.. أى اصطباغ النظام بصيغة دينية واضحة. إعادة نظام قديم للتعليم أمام غلق المدارس المختلطة إيذانا بأن على المرأة أن تختفى ويتراجع دورها فى صنع المجتمع، ومن ثم لم نفاجأ بأنه يعيد النساء إلى بيوتهن وإلزامهن بالتزيى بالزى الإسلامى.. وفى خطوة أخرى للتفرد بالسلطة وإحكام قبضة النظام على مقاليد الأمور "اتخذ رجال أمن الإمام أماكنهم بين المصلين، فلا يصلون ولا يغادرون المسجد إلا وهو يغلق أبوابه.." فقد صار الوطن سجنا كبيرا للجميع. سلطة كهذه نجدها تهمل شئون الناس وأمور حياتهم.. يتفاقم الوضع على قسوة الحاكم الذى يهدد شعبه بالتنكيل والقتل لكل من يفكر فى المقاومة.. ورغم ذلك ترددت الألسنة وتساءل الناس: لماذا لا نقاوم؟!
يدين محمد جبريل أصحاب الرأى الذين يكتفون بالمناقشة ومتابعة أفعال الإمام بالاستهجان والاستنكار.. ولكن لا يتحول الموقف إلى فعل إيجابى ممثلا فى الثورة.. فهم ينتظرون أن يأتى إمام جديد بالحل.. ثم ترجع ريما لعادتها القديمة.. فيعم الفساد والمظالم.
ظهرت فكرة جماعية القيادة التى طالب بها صفوة العلماء والفقهاء المفكرين.. لم تحظ بقبول..
-أية جماعية وأية قيادة؟ النبوة ليست بالشورى.. فلماذا نطلب ذلك فى الإمامة، لقد أعطونى طاعتهم حين أعطونى إيمانهم بى.
انتقل الإمام من خلوته إلى قهوة السيالة.. مكانا شعبيا يلتقى فيه بعامة الناس.. لا يتحدث عن الدين والآخرة –فقط- بل يتحدث عن حياة الناس ومعاشهم.
ولكن هذا الرجل الذى أمل الناس فى إمامته يقتل ذات يوم.. ليظل السؤال قائما. هل لابد من الفرد الذى يقود الجماعة؟! ولماذا لا يحكم الناس أنفسهم؟!
يظل الشعب يعانى وتبدأ الثورة بالهمس.. ثم تعلو النبرة، ليعلو صوت الثورة هادرا فى كافة العواصم العربية والإسلامية، لقد دفع الحفناوى حياته ثمنا لتحرك الناس نحو حريتهم، كان موته هو المحرك الأول لتأخذ الجماعة المبادرة وتتحرك لاختيار من يقودها بينهم.
فى رواية قلعة الجبل تأخذ الجماعة دورها فى الوقوف ضد بطش وقهر السلطان خليل الحاج أحمد.. فالسلطان الذى اختلف النص فى الحديث عنه.. وتعددت الأصوات، وإن ظل الكاتب متعاطفا مع عائشة القفاص، متحدثا عن قضيتها بنوع من التعاطف الذى جمع أهل حدرة الحنة والمناطق المحيطة بها لتقف فى ثورة عارمة أمام بطش السلطان.. ما الحكاية إذن؟
-تعجب السلطان من امرأة مصرية من عامة الشعب.. يشرد زوجها أو يتخلص منه ومن والدها وخالها وكل من يتعاطف مع عائشة.. تبدو المسألة أنها خلافات بين الرواة فيما ذكروه فى شأن السلطان وحكايته مع عائشة.
"فاعلم أن السلطان خليل بن الحاج أحمد كان متدينا وعالما وفاضلا، عنى برفع التهارج، ورد الثوابت، وقمع المظالم ونصرة المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. وكان له فى عقاب المفسدين اختراعات مهلكات وإن استمد أحكامه من مصادر التشريع الإسلامى..
هل يختلف السلطان خليل عن أى إمام ورع صالح.. غير أن حقيقة الأمر تضعنا أمام صورة أخرى رسمها الكاتب لهذا الرجل.. فقهره لم يعلن عنه مباشرة.. فقد استخدم سلطته فى اجتذاب عائشة للصعود إلى القلعة.. ثم التأثير على زوجها خالد عمار.. ووالدها.. فشلت المحاولة.. فكان البطش.. والتخلص من الخصوم بتلفيق التهم.. والتفنن فى العقاب الرادع!
لم يقف الأمر عند أهل عائشة بل امتد إلى كل شخص حاول أن يقف بجوارها أو لجأت إليه.. بدأ القمع بأناس عاديين واتجه إلى رموز فى السلطة ذاتها.. الخليفة لفقت له تهمة الخيانة، تحدث السلطان عن رسائل بعث بها الخليفة إلى أمراء البلاد يدعوهم فيها إلى مخالفة السلطان.. ثم تخلص من زوجته الأولى.. خرج الناس فى الأسواق والشوارع والعطوف ومضوا إلى قلعة الجبل، تجمعوا حول القلعة يدعون ويطالبون بعودة عائشة ونزولها من القلعة..
استجاب السلطان لثورة الشعب، عادت عائشة إلى منزلها فى حدرة الحنة، وفتح التجار حوانيتهم، وفتحت أبواب جامع الأزهر.. سكنت الفتنة..
إن المهادنة هى الطريق الذى سلكه السلطان خليل أمام ثورة الشعب.. لقد أوهم الرعية بأنه يستجيب لطلبهم.. تقرب إليهم.. خرج إليهم حيث كانوا.. يسأل عن أحوالهم ومعاشهم.. يتفقد المساجد ودور العلم ويتأمل بعناية تسوية الشوارع ونظافتها.
أختلف مع د.ماهر شفيق فريد فيما وصل إليه من أن هناك صوتين متجاورين فى رسم شخصية السلطان.. وقد أدى هذا إلى التباس القارئ.. والحقيقة أن القارئ مع مضيه فى قراءة الرواية سوف يكتشف بل يرسم صورة صادقة للسلطان خليل، وهى الصورة التى أرادها محمد جبريل وبث ملامحها، وهى صورة الحاكم الطاغية، فما صوت الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا تأكيدا على تلك الملامح التى رسمها جبريل لهذا الحاكم الطاغية. فيقول الراوى "أشفقت على سيرته من تشويه الموتورين لها، ومؤاخذتهم المعيبة عليها، وإلباسها ثوب الفجاجة.. فبدا الكذب حقيقة" فسيرة الرجل بداية مليئة بالمظالم والأخطاء، وما كان على الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا أن ينفى هذه الصورة. إن وظيفته تشير إلى وظيفة وسائل الإعلام التى تقوم بتجميل صور الحكام الطغاة.. فتقدمهم فى صورة مخالفة لما يعرفه الناس عنهم.
يصف إريك نبتلى الكاتب –أى كاتب- بأنه "متسائل، منشق، خارجى،متحرر، صانع للمشكلات فى حرب على زمنه، مأخوذ بذلك دائما، يقف إلى جانب الأفضل فى عصره، مساعدا إياه على فهم ذاته.
ويقول جبريل: "إن لى موقفا –أتصوره واضحا- من القضايا الإنسانية والاجتماعية، وهذا الموقف يبين ن نفسه فى أكثر من عمل قصصى وروائى، ثمة وشيجة تربط روايتى "الأسوار" مثلا بقضية التحقيق برواية "قاضى البهار ينزل البحر"، ربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته فى أكثر من عمل."
يحمل إبداع محمد جبريل ملامح المفكر القلق الذى يبحث دوما عن كل ما هو حقيقى وإنسانى فى هذا العالم، وهذه التيمة التى تفرض نفسها فرضا، فالأدب مهما اختلف النقاد فى تعريفه، هو إفراز فنى للأفكار التى تعتمل داخل أحشاء المجتمع المعاصر"! (3)
فى روايته "الأسوار".. يفتدى البطل الملقب بالأستاذ هؤلاء المعتقلين والذين نسيتهم السلطة، أو تناستهم التعبير الأدق. فالأسوار من بعيد –مدينة أسطورية.. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجى، أبراج الحراسة من الأركان الأربعة، الممنوعات –ما عدا التقاط الأنفاس، تشمل كل شئ: الأفلام، والأوراق والصحف والراديو والمناقشات. فهى بقعة فى جزيرة رملية يحدها.. الأفق.. لا خطوط تليفون ولا قضبان قطارات ولا طرق رملية.
الأستاذ هو رجل انغمس بالتطورات السياسية فى بلده.. وهو يتمتع بذات مناضلة تحيا واقع الجماعة وتخلص لقضاياها.. أحبه الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية فمنهم الوفدى والسعدى والإخوانى والشيوعى، والنشال والقواد وطالب الثأر والقاتل وبائع المخدرات".(4)
فى المعتقل ثمة مواجهة مباشرة للسلطة وآليات قهرها يتعرض لها كل المعتقلين.. قامت الثورة وأسفرت عن إرسال تلغرافين للحكومة لم يرض الأستاذ ولا الجماعة بتحسن الأوضاع، فالحرية لا تتجزأ (5)
شعرت إدارة المعتقل/ السلطة بأن هناك عقلا مدبراً يقود المعتقلين، عملت على التخلص منه، جندت العملاء من ذوى النفوس الضعيفة.. وجدوا فى حلمى عزت ضالتهم المنشودة، هددوه بافتضاح أمره.. نقل حلمى عزت الفكرة إلى الجماعة "بدت الفكرة اقتراحا مجنونا فى بادئ الأمر، لكن الليل البارد والأسوار والصحراء التى لا يحدها الأفق ولدغات العقارب والعذاب والغربة والحراس والوحشة والشوق والملل، ذلك كله جعل من الاقتراح المجنون –فى أقل من يوم- حلا مقبولا".(6)
إن القائد هنا هو واحد من الجماعة.. قدم نفسه فداء لأفكاره ومعتقداته، إنه يعلم بالمؤامرة منذ البداية، فقد دبر أمر الأوراق التى طويت على اسم واحد هو اسمه.. كان على الأستاذ منذ البداية أن يبث الوعى فى نفوس المعتقلين بأهمية الثورة.. والإعلان عن رفض واقعهم المهين داخل المعتقل.. ضحى الأستاذ بنفسه فى سبيل تحقيق مبادئه بالدفاع عن المظلومين حتى لو كانوا من القتلة والقوادين وتجار المخدرات.
إن المواجهة مع السلطة كانت شرسة وعنيدة دفع ثمنها المعتقلون، فإحرق الأستاذ المحرك الفعلى لهم فى مناهضة الظلم والقهر، وكان دافعا لهم لمواصلة النضال ورفضهم الاستسلام لإدارة المعتقل.. سمع صوتهم لأول مرة فكان انتصارهم وهزيمة السلطة أمام عزمهم.. إن الإشارات الدالة التى بثها محمد جبريل فى نسيج روايته وعلى لسان أبطاله، وعبر اقتباسات متعددة تؤكد على قيمة الفداء والتضحية وهى صلب علاقة المثقف بجماعته ومجتمعه.. "ألا تعلمون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يوحنا 11/50).
كانت العلاقة بين السلطة والمثقف علاقة يشوبها –دائما- التوتر، بدأت السلطة تعى مع العقد الثالث من القرن العشرين دور المثقف فى المجتمع، يكفى أن نشير إلى ترسانة هائلة من التشريعات المقيدة للحريات مثل قوانين المطبوعات، التشريعات المقيدة لحقوق الاجتماع والتجمهر والتظاهر، بل وتقييد التقاضى أحيانا واستحداث أنواع من القضاء الاستثنائى، بالإضافة إلى اللجوء –بصفة شبه مستمرة- إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية".(7)
إذا كان الحال هكذا مع المثقف، هل ينتمى محمد إبراهيم مصطفى العطار إلى "قافلة المثقفين الذين عانوا من صلف السلطة، أمثال: على عبد الرازق وبيرم التونسى وسيد قطب وشهدى عطية.. ومجموعة المثقفين التى تم اعتقالها فى خريف1980.. بالطبع لا.. "فقاضى البهار" إنسان بسيط يعمل فى إدارة التخليص الجمركى لا يتعاطى السياسة وليس له أى نشاطات سياسية من أى نوع!.. فلماذا تطارده السلطة؟ وتوجه إليه التهم وحين تفشل فى إثبات تلك التهم تدس عليه "بقلوظة" الراقصة لتلفق له التهم وتراقب جيرانه وأصدقاءه وتسأل عن جميع من يحيطون به فى هجمة شرسة لتبحث عما يشينه ويدينه".(8)
تتكدس التقارير ونتائج الملاحقات، وتقوم أجهزة الشرطة بمطاردة كل من له صلة بقاضى البهار سواء فى الماضى أم الحاضر، فهل وجدت السلطة فى صمت أو لنقل تجاهل الإنسان المصرى العادى حيال آليات قهرها وملاحقتها للفرد فى صور شتى من العنف والاضطهاد نوعا من المقاومة؟ هل انتهت السلطة من ملاحقة كل من له نشاط سياسى وقهره بزجه داخل السجون والمعتقلات فلم تجد أمامها إلا الإنسان البسيط المهموم بلقمة عيشه تكيل له كل الاتهامات وتوقع به فى حبائلها..
كان لقاضى البهار سمعة طيبة بين جيرانه وأهله، هل حنق أجهزة الأمن ضده جاء من حرصه على اقتناء الكتب السياسية والدينية والتاريخية، فقد تحسبت أن يقوم بدور ما.. أليس فى نظرها مثقفاً؟!
الحقيقة أن سيرة محمد قاضى البهار لا تشى بالمرة بوجود ما يعكر صفو العلاقة بينه وبين السلطة التى بطشت به وبأسرته ومعارفه وجيرانه.. تحولت حياة قاضى البهار بسبب ملاحقة أجهزة الأمن له إلى جحيم لا يطاق!
تنتهى الرواية بلغز اختفاء قاضى البهار.. لا يعنى الاختفاء الموت.. هل اختفاء محمد قاضى البهار يساوى اختفاء الإمام المنتظر إلى حين ظهوره؟ هل كان اختفاء قاضى البهار احتجاجا على كل هذا العنت ممثلا فى المطاردات وإدانة أجهزة الأمن للأبرياء أو المعارضين لها؟
إذا كان قاضى البهار لم يشعر بالدهشة لما يعانيه من مضايقات أجهزة الأمن له ولكل المقربين إليه.. فإن عادل مهدى يفاجأ باعتراف مساعد فى مباحث أمن الدولة أنه راقب الندوة لمدة ثلاث سنوات.. هذا ما حدث الضبط فى رواية "المينا الشرقية" التى تتناول خفايا الحياة الثقافية عبر الحديث عن ندوة أدبية يعانى من يتردد عليها من مشكلات متعددة، حيث تتشابك العلاقات وتتعقد فيما بينهم وبين أفراد المجتمع.
كان السؤال الهاجس الذى ظل يردده عادل مهدى.. ما دخل الندوة بالمباحث؟ وماذا فيها لتراقب؟ عانى عادل مهدى من الإحساس بالخوف، ظل يبحث عن هوية هذا المجهول الذى ظل سنوات ينقل التقارير عما يدور فى الندوة، وهل كانت التقارير صادقة، أم أضاف إليها.. من هذا "الشبح الذى ظل يرصد الكلمات والأفعال والإيماءات، لقد زرع الشك داخل نفس الرجل، فشرع فى تمزيق أوراقه وصوره.. وأجندة التليفونات!
لم تبطش السلطة/المباحث بالندوة، وإن ظل الهاجس قائما، من يكون المدسوس عليها؟
-إن ما قاله الرجل عمل روتينى.. فهذه مهمة المباحث أنها تراقب الكلمة والنص، فعلاقة السلطة بالكلام وثيقة جدا، ولذلك كانت السلطة تسعى دوما إلى حماية الكلمة بشتى الطرق، وفرض السكوت إما بالقمع المادى الذى يكشف عن عجز هذا الخطاب على التلاؤم مع النص.. ومن ثم تأتى المراقبة والعرقلة والمصادرة، والحبس وترديد مفهومات مضادة لخطاب النص تقوم بعملية التشويش والتضليل!(9)
هل كان ما تعرض له محمد الأبيض من معاناة سببا فى تعاونه مع أجهزة الأمن؟
-"تقدم الرجلان، ثنيا ذراعيه وراء ظهره، وسدد الثالث الواقف أمامه لكمات متوالية فى بطنه.. علق قدميه فى حبل مبروم متدل من السقف ورأسه فى أسفل.. توالت الضربات على القدمين المعلقتين. لم يشعر محمد الأبيض باليأس ولم يعن بتلك الممارسات وألوان التعذيب كى يعترف على جريمة لم يرتكبها..
-أعترف محمد الأبيض لعادل بأن القراءة وراء عدم شعوره باليأس حتى عندما منعوه من القراءة.. "كنت أستعيد ما أحفظه من قصائد وكنت أغنى أحيانا"!
ظل محمد الأبيض مطاردا.. يشعر بهذه المطاردة.. فكل تصرف مرصود.. هل يرصد تحركات كل من يعرفه.. هل كان محمد الأبيض الشخص الذى جاءوا بسببه إلى الندوة؟
اعترف محمد الأبيض أن الحادثة القديمة تشكل جثة هامدة يجرها.. "عاد محمد الأبيض إلى المينا الشرقية، والندوة والعمل والبيت، لكنه لم يعد إلى الحياة، حياته"!(10)
تظل للسلطة هيمنتها على حياة من اصطدم بها.. وعانى من آلياتها المتفننة فى الاستجواب والتحقيق والتعذيب.. فالإنسان قبل الملاحقة ومواجهة السلطة وقهرها يختلف حتى بعد مواجهتها.. يظل هناك شئ ما انكسر فى نفس هذا الإنسان الذى يحاول جاهدا لملمة شتات نفسه وخاصة إذا كان بريئا لا يعرف ما ارتكب من تهم أو جرائم.. لكن السلطة أبدا لا تعترف بخطئها وعجزها.. تظل تلاحقه إلى أن يعترف بما تريد له أن يعترف به.
فى نهاية رواية "المينا الشرقية" يوصى عادل مهدى أمه بنفسها.. ثم ينزل إلى هؤلاء الذين سألوا عنه منذ ساعتين! عادل هو واحد ممن تعرضوا لاضطهاد السلطة أيا كانت هذه السلطة، فهو يقف بجوار الأستاذ وبكر رضوان فى "الأسوار" ومحمد الأبيض فى "المينا الشرقية" وعائشة القفاص وخالد عمار زوجها فى "قلعة الجبل"، وقاضى البهار فى "قاضى البهار ينزل البحر".
......................................
هوامش:
1- راجع بارت
2- راجع عمر أوكان.. مدخل لدراسة النص والسلطة.. الناشر أفريقيا الشرق
3- د.نبيل راغب، مصر فى قصص كتابها المعاصرين، كتاب أصوات معاصرة، العدد24 إعداد د.حسين على محمد
4- رواية الأسوار
5- من حديث إذاعى أجرى مع الكاتب 15/1/1974
6- رواية الأسوار
7- راجع على فهمى، المصرى والسلطة، مجلة فكر فبراير 1985
8- د.حسين على محمد، صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل، دار الوفاء1999
9- راجع جولد شيلفر، نحو سيمياء الخطاب السلطوى، ترجمة مصطفى كمال، العدد الخامس، السنة الثانية، دار البيضاء 1987
10- رواية المينا الشرقية.
....................................
*عن مجلة "أمواج".

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:40 AM
"البحر أمامها".. جديد "محمد جبريل"
............................................

"البحر أمامها" أحدث رواية للكاتب المبدع محمد جبريل صدرت عن "دار الهلال" وأهداها إلي جدته "أنيسة".. وبهذه الرواية يستكمل محمد جبريل منظومته الروائية عن اسكندرية والبحر بمفرداتهما الخالدة: الكورنيش وزنقة الستات وسوق السمك والفنار.. وبحري واولياء الله الصالحين.. الخ
تتحدث الرواية عن "نجاة" التي فقدت زوجها وتواجه الحياة بلا تجارب ثم تصطدم بعقوق ابنتها وجشع زوجها الذي يريد الاستيلاء علي شقتها لكنها تصمم علي الدفاع عن وطنها "شقتها" وذكرياتها "هويتها" وتستمد القوة شيئاً فشيئاَ وتعلن المواجهة.. حتي تفاجأ بها في النهاية ممسكة بالسلاح "النشابة" كي تدافع عن حقها.
وكما عودنا جبريل في صياغاته الفنية المحكمة جاءت "البحر امامها" لتحمل معاني ودلالات إنسانية كبري تربط بين الحاضر والماضي والذكري والواقع والحقوق والوفاء والقوة والضعف.
يقول د.ماهر شفيق فريد -هذه علي ايجازها- رواية أجيال يأخذ كل جيل منها برقاب سابقه ويمهد للاحقه وكأنما هي أمواج البحر المتعاقبة التي تطل علي "نجاة" من نافذة شقتها وصنعة الروائي هنا محكمة رهيفة وكأنما ينسج قطعة من المخرم بأنامل صناع بارعة ثمة قصد كامل في التعبير دون زوائد أو فضول وتوازن في رصد المشهد الخارجي والعالم الداخلي للشخوص وحنان إنساني غامر يحيط به الروائي بطلته التي عرفت الوحدة بعد صحبة والوحشة بعد أنس ونذر الشيخوخة بعد فتاء.
...........................................
*المساء ـ في 2/11/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:41 AM
من المحرر:
المفتون

بقلم: محمد جبريل
......................

عبدالمنعم تليمة قيمة ثقافية كبيرة. بالإضافة الي كتاباته التي تضيف لحياتنا الثقافية. أو تثير فيها ما ينبغي اثارته من الآراء. فإني أجد في د.تليمة محدثاً بارعاً. يجيد تبسيط الملغز والصعب من القضايا. والاحاطة بموضوع العمل الذي يناقشه من خلال حصيلة معرفية وافية.
تحدث د.تليمة في ندوة بنادي القصة عن المجموعة القصصية "نصف سرير ووسادة" للدكتورة سامية الساعاتي. لاحظ المزج الواضح بين فن القص والسيرة الذاتية. وأشار الي قلة السير الذاتية في أدبنا. حتي أنه عد ستة كتب فقط. أذكر منها السير الذاتية لسلامة موسي وطه حسين والحكيم وشكري عياد ولويس عوض.
لا أدري لماذا قصر د.تليمة معني السيرة الذاتية علي الكتب الستة. ثمة سير ذاتية أخري صريحة إن جاز التعبير للطفي السيد وعبدالعزيز فهمي وأحمد أمين ووسيم خالد ولطيفة الزيات ونوال السعداوي وأحمد عباس صالح وغيرهم ممن لا تسعفني بهم الذاكرة. ما يهمني تأكيده أن السيرة الذاتية بعد مهم في السرد العربي الحديث. ولعلي أسمح لنفسي بأن أشير الي كتابي "حكايات عن جزيرة فاروس".
كتاب فؤاد قنديل الجديد "المفتون" إضافة ممتازة الي السيرة الذاتية في سردنا المعاصر. أذهلتني صراحة الكاتب المطلقة. ورفض نظرية قتل الأب التي يؤمن بها الكثير من مبدعي الجيل الحالي. فهو ينسب الفضل لكل من أفاده بنصيحة أو توجيه. أو ناقشه في أحد أعماله. وفي المقابل. فإن ملاحظاته السلبية أهملت الانحياز أو المجاملة. كتب ما حدث في طفولته ونشأته وعلاقاته بالآخرين. لم يكذب هذا هو الانطباع الذي أفلح في توصيله لي ولم يتجمل. استعاد ما جري بالفعل. وكتبه كما حفظته الذاكرة!
الجوانب الحسية رغم أهميتها مشكلة تواجه غالبية كتاب السيرة الذاتية. فهم يتجاوزونها. أو يكتفون بالايماءة المضمرة. اقتحم فؤاد ما يعد لا أدري لم؟ محظوراً. لكنه لم يفتعل الاثارة. وتجنب العبارات التي قد تنزع عن السرد صفته الجمالية.
السؤال الذي شغلني وأنا أطوي صفحات هذا الكتاب. المفيد والممتع في آن: هل كان فؤاد قنديل يكتب بكل هذه الصراحة عن فتاته التي لم يتزوجها. لو أنهما واصلا المشوار الي نهايته؟
لكن هذه ملاحظة ثانوية
.................................................. .
*المساء ـ في 14/6/2008م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:42 AM
قراءات في أدب محمد جبريل

بقلم: نهال قاسم
...................

أجمع المشاركون في الندوة التي أقيمت في مكتبة القاهرة الكبرى، وكانت تحت عنوان ( قراءات في أدب محمد جبريل ) على خصوصية تجربة جبريل الذي يعد أحد أبرز الكتاب الذين يتميزون بتفرد خاص في الإبداع القصصي والروائي، و دوره في تجديد الرواية التاريخية من خلال إدخال أقنعة، وعناصر جديدة تضمن استمرارها في نسيج الفن الإبداعي ، فضلا عن وفائه للإبداع القصصي الواقعي من خلال استلهام الواقع السكندري الذي ولد ونشأ فيه.
تداعى الذاكرة !
و قد قام د . هيثم الحاج علي – أستاذ النقد العربي ـ بإلقاء الضوء على بعض سمات الكتابة القصصية في إبداع "جبريل " من خلال مجموعته القصصية «ما لا نراه» التي تنطلق من الذاكرة و تدور حول السلطان ورؤية الشعب له، و الصراع على السلطة ، و التي تشكل المتوالية المترابطة المنفصلة في جانب ما ، باستخدام العوالم غير المرئية – الميتافيزيقية و البارافيزيقية – و التعبير عن كوامن النفس البشرية ، من خلال عدة مستويات سردية حاول التوفيق ما بينها على مدار تلك المجموعة : الأولى – مستوى الحلم سواء الرؤيا في المنام أو حلم اليقظة ، والذي تقوم النفس عن طريقه بالتعبير عن رغباتها المكبوتة ، و تطلعاتها ، ومخاوفها ، وفي هذه المجموعة نجد البطل يعمد إلى حلم اليقظة في محاولة للنفاذ إلى عمق الواقع الذي يعيشه ورؤية ما لا يراه، بينما يأتي الحلم في النوم لدى ( الجدة رقية ) كمحاولة لمواجهة الأزمة الشخصية التي تعانى منها ، و التنبؤ بمستقبلها عبر الحلم ، أما الرؤيا وهى العلم اليقيني الذي يستخدمه السارد كي يجعل منه وسيلة للنفاذ إلى أعماق المرئي من خلال قصة ( حقائق الجدار ) حيث تتشكل الصور على الجدار بعد نشوع الرطوبة فيه ، ووقوع أجزاء من الدهان ، لتخلق حياة أخرى موازية لحياة السارد أو البطل ، ويتماس هذين الخطان السرديان ، وتتداخل الحقيقة بالخيال ، و تنتهي القصة بمواجهة ما بين البطل وبين ذلك الذي جاء يستلبه جداره ، وإطلاق البطل الرصاص بمسدس متخيل في يده عليه ، كرمز لرفض البطل الوجود في هذا الواقع الزائف الذي لا يعبر عن الحقيقة التي وجدها عبر صور الجدار!
المستوى السردي الثانى- في القصة هو الذاكرة التي يستخدمها السارد لاستكمال واقعه أو منظومته السردية من خلال شخصية ( الجدة رقية ) التي دأبت على الذهاب إلى شاطئ البحر في محاولة لتذكر الموقف الذي لم تتمكن فيه من إنقاذ ركاب المركب الذي أوشك على الغرق نتيجة احتباس صوتها ، و هو الأمر الذي ظل يؤرق ضميرها ، و الذي اضطرت معه إلى اللجوء إلى المشعوذين ، لاستلهام المعونة ، والمدد منهم ، ومحاولة التنبؤ بما سوف يحدث بعد موتها ، و إن كانت سوف تحاسب على ذلك الذنب الكبير!
في قصة ( لماذا يتحدون ضدي ) يستخدم " جبريل " المستوى السردي الثالث - التاريخ ، عبر شجرة العائلة حيث قام أحد الأشخاص وفي غفلة من الحارس ، بإضافة اسمه على هامش أحد المصاحف إلى جوار أسمائهم، للاستيلاء على نصيب من الوقف المخصص لهذه العائلة !
و في قصة (في حضرة الديوان) يستعين "جبريل" بالمستوى السردي الرابع - الموروثات الغيبية للتعبير عن حركة النفس البسيطة جدا في ظاهرها ، المعقدة جدا في باطنها ، و علاقاتها بتلك الموروثات المحيطة بها على المستوى الشعبي، وهو المنطلق الذي سار عليه "جبريل" في محاولة الارتكاز على أرض الواقع عبر استخدام البطل الحلم حتى يتمكن من مقابلة رئيس الديوان والأولياء الأربعة ، بعد أن فشل في مقابلتهم على المستوى الواقعي ، ليعرض عليهم شكواه التي لا نعرف محتواها تحديدا على مدار القصة .
اغتيال !
أما الناقد د. محمد زيدان ، فقد عرض لأحد كتبه الذي تناول فيه ( المنظور الحكائي في روايات محمد جبريل ) و الذي قام فيه بالتفريق ما بين نوعين : الأول – المنظورات السردية الخاصة بالحدث ، والمنظورات الحكائية والفعل الغائب ، مستشهدا برواية ( قاضى النهار) و التي استند فيها "جبريل" على فعل حكائى واحد كان غائبا طوال أحداث القصة، التي تبدأ بمجموعة من التقارير قام بوضعها مجموعة من أصدقاء "محمد قاضى البهار" الذي انصبت عليه كل تداعيات الرواية ، حيث وصلت هذه التقارير إلى أمن الدولة حول سيرة هذا الرجل، وكيف كان يعيش ، و يتعامل مع الآخرين ، ثم شعوره الدائم بأنه مطارد من قبل أشخاص لا يعرفهم، بل و لا يعرف سبب مطاردتهم له ، حتى تنتهي حياته بطريقة مأسوية غرقا في البحر دون أن يتمكن أحد من إنقاذه ، أو حتى التعرف عليه إلا من خلال ملابسه !
كما رصد " د. محمد " الصور المختلفة التي رسمها " جبريل " عن الحياة العامة في مدينة الإسكندرية ، والواقع الجديد الذي دخل فيه المجتمع السكندري ، و التي حاول من خلالها أن يؤسس فلسفة معاصرة تتفاعل فيها الحكاية بشكل مؤثر مع الواقع المغرق في المحلية في الإسكندرية ، و شوارعها ، و عالم الصيادين ، واستخدام "جبريل" التقارير التي وضعها أصدقاء البطل باعتبار أن كل منها موجة من أمواج البحر كنوع من تحقيق الانسجام الدلالي ما بين الشكل و المعاني التي استخدمها"
و في رواية ( قلعة الجبل ) التي استخدم فيها " جبريل " فعلا حكائيا واحدا ثابتا ، والذي يتمثل في مطاردة السلطان خليل لعائشة في قلعة الجبل ، رغبة منه في الحصول عليها بأي ثمن ، بينما تحاول هي مقاومته بكل ما أوتيت من قوة نفسية، ومادية ، و جعل كل الشخصيات ، والعناصر الحكائية ، و المشاهد المصورة ، تشتبك مع التراث بهذا الفعل الحكائي ، حتى إن " عائشة " كلما حاول أحد إغاثتها كان عقابه الموت الممنطق حكائيا سواء على يد السلطان أو أحد معاونيه!
و في رواية ( نجم وحيد في الأفق ) استخدم " جبريل " الحركة الواحدة وكأنها قطعة موسيقية ما أن يبدأ العازف بعزفها دون توقف حتى ينتهي منها تماما ، وهكذا ما أن يبدأ روايته لا يتوقف عن الكتابة إلا مع انتهاء الأحداث التي يتداخل فيها الحلم مع الأسطورة ، و القدر بالجبر و الاختيار ، حيث تدور الأحداث حول شخص مريض يخرج في رحلة مع بعض البحارة بحثا عن علاجه في نجم يظهر في وقت و مكان محدد، وارتباط قدره به، و يستخدم "جبريل" ثلاثة أزمنة ، الزمن الحالي الذي يبدأ فيه الاستعداد للرحلة ، و زمن استرجاع الماضي مع بداية مرضه ، وصولا إلى ما سينتهي إليه مصيره ، و ذلك من خلال لغة و مشاهد حية ، و متدفقة تتشابه مع القصيدة الملحمية الشعرية الطويلة.
المسكوت عنه!
و يؤكد الناقد رمضان بسطاويسي على خصوصية تجربة " جبريل " الإبداعية التي تتعانق مع تجربته النقدية ، و الحضور القوى للجانب المعرفي الذي استطاع من خلاله أن يؤسس عليه معظم أعماله الإبداعية التي لا تخلو من الإشارات الثقافية، والتراث، والوافد الغربي بمكوناته، وتحدى الواقع، وقضاياه، وأحداثه، مشيرا إلى أن الكتابة عند "جبريل" تبدأ بعد انتهاء الحدث الرئيسي، مستعيدا مجموعة من الخبرات الحياتية، والذهنية التي يمكن أن تفيدنا ، لاستمرارها و لكن بأشكال مختلفة ، مشيدا برواية (رجال الظل) وما اتسمت به من جسارة، وجرأة في إثارة عددا من القضايا الحساسة ، و الهامة التي لم يسبق تناولها من قبل، وتدور أحداثها حول تجربة إمارة خليجية، وطبيعة السلطة فيها، كما يقدم لنا نموذج للمثقف الخليجي الموزع ما بين نوعين من الحياة قبل ظهور النفط وبعده، ودوره في التغيير والازدواجية التي يعيشها المثقف، ودور الثقافة الخليجية، وعلاقتها بالغرب بوصفه الملاذ، والمخرج من هذا الاضطراب الذي يعانى منه المثقف، وتنتهي الرواية بحالة من الموت كمحاولة للخلاص الفردي، و التحرر من سلطة الأمير "فضل" العاجز عن التغيير!
و قد تناول د. عبد المنعم تليمة- أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة ، رواية ( زمان الوصل ) التي تدور أحداثها في العشرة أيام الأولى ، التي أمضاها بطل الرواية والشخصية المحورية فيها " هاشم السكندري " - الذي يتشابه مع جبريل من حيث النشأة - في الإسكندرية بعد غيبة استمرت 18عاماً ، نتيجة الظروف التاريخية ، و الاجتماعية ، التي استجدت على المجتمع المصري، ودفعت البطل إلى الهجرة المؤقتة عن موطنه إلى اليونان بحثا عن فرصة عمل أفضل، ثم زواجه من "كرستينا" اليونانية التي رفضت العودة معه ، و فضلت البقاء في موطنها، وقد جاء السرد الذاتي على لسان البطل الذي يحاول أن يصل زمن الماضي الجميل بالزمن الذي يحياه متطلعا إلى مستقبل أفضل ، مستخدما الجملة الاسمية القصيرة جدا، والحس اللغوي الذي ينزع إلى الجملة الفعلية، وافتقاد أدوات الربط، والوصل، والفصل، وهو الأمر الذي نجده في العديد من الكتابات الحديثة، نظرا إلى إننا لا نزال في طور الاستلهام، والتجديد، والتشكيل اللغوي في الرواية العربية، مشيدا "بجبريل" الذي اعتبره "تليمة" من أصحاب الأساليب الفنية الروائية المتميزة ، و نجاحه في احتلال مكانة رفيعة في أفقنا الروائي الراهن!
زمن الماضي الجميل!
الكاتبة د. زينب العسال – رئيس قصر ثقافة الطفل بجاردن سيتى ـ أشارت إلى سكونية المكان وحركته في رواية ( مواسم الحنين) والنقلات الزمنية فيها، والإيقاع النغمي الذي يسير عليه السرد الروائي، حيث يتفحص السارد أحوال البشر وتحركاتهم مع ثبات المكان، وجغرافية حي بحري الذي شهد بعض التغييرات الاجتماعية الملموسة في حياة وسلوك البشر، كما قامت "د. زينب" بالدمج ما بين زمن الحكاية والمرتبط أساسا بحركة السرد ودور الشخصيات في تخليق هذا الزمن الإطار الذي يشيد النص الروائي الذي يقوم على الاسترجاع، محددا نقطة الانطلاق، ويقوم في الوقت نفسه بالإيهام بواقعية الأحداث مما يضفى الحيوية علي الشخصيات الروائية، وعبر العنوان الدال على الزمن وهو حنين البطل لما مضى من سنوات العمر المفقودة، مستعيدا مرحلة طفولته وشبابه في مدينته الإسكندرية، وحي بحري خاصة، والذي كثيرا ما صرح "جبريل" نفسه بحنينه الشديد إليها، مستعرضا ما مر بالوطن من انتكاسات، وهزائم، وانتصارات، وعادات البطل التي لم تتغير بعد عودته من الخارج واستقراره في الإسكندرية، ورفضه لنمط الحياة التي أصبح أسيرها، ويختتم "جبريل" روايته بالتساؤل عن جدوى حياة الإنسان الذي يمضى عمره ، وهو يعيد و يرتب وينظم ويجمل ويضيف ويحذف، ثم يترك كل هذا ويرحل!

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:43 AM
الرواية والسينما

بقلم: محمد جبريل
.....................

سألت نجيب محفوظ هل تكتب الرواية وعينك علي السينما؟
قال وهو يرنو إلي النيل من نافذة مكتبه بقصر عائشة فهمي: لو أن ذلك كذلك ما كتبت "الشحاذ"!
لم يكن نجيب محفوظ يتصور أن "الشحاذ" تصلح عملا سينمائيا. عبر عن الشخصيات والأحداث بفنية مضمرة. ولغة موحية. بعكس ما طالعناه في القاهرة الجديدة وخان الخليلي والثلاثية والسمان والخريف واللص والكلاب وغيرها.
لكن الشحاذ تحولت ببراعة كاتب سيناريو يجيد أصول فنه إلى إضافة مهمة للسينما المصرية.
لا صلة للرواية الجيدة بالسيناريو الجيد. والعكس صحيح. قد تتحول الرواية الجيدة إلى سيناريو رديء. وقد يحيل السيناريو الجيد قصة عادية إلى فيلم سينمائي جميل. وربما تتضافر الرواية الجيدة والسيناريو الجيد في تقديم عمل يذكره تاريخ السينما.
لا اعني افتقاد الصلة بين الرواية السردية والسيناريو السينمائي. فالأفلام الكبيرة تدين بنجاحها لأعمال روائية وقصصية، أبدعها مؤلفوها دون أن يضعوا حسابا إلا للقيمة الفنية السردية. ثم وجدت السينما في الرواية أو القصة من القيمة الدرامية ما يتيح تماهيا دراميا مطلوبا بين القصة والسيناريو.
ثمة من يجدون في الرواج الذي تحققه أفلام السينما. والعائد الذي تدره القصص المكتوبة دافعا لان يتجهوا بأعمالهم إلى مشاهد السينما بأكثر من أن تتجه إلى قارئ العمل الأدبي. فهم يذكروننا بمثل الغراب الذي أراد أن يقلد في سيره مشية الطاووس!
لا بأس أن يفيد العمل الأدبي من تقنية السيناريو السينمائي: الفلاش باك. التقطيع. المزج. وغيرها وبديهي أن تعتمد السينما علي قصة. أو حكاية تكون محورا لأحداثها. فلا نبتلي بأفلام يدخل فنانوها وفنيوها الأستديوهات كما يحدث الآن ليصنعوا أي شيء بلا فكرة ولا رابط مجرد صور متتالية تعاني السذاجة والسخف!
لكي تجاوز السينما المصرية مأزقا مستمرا. تعانيه منذ سنوات. فإنها لابد أن تنتج أفلاما في مستوي دعاء الكروان وبداية ونهاية وفي بيتنا رجل والبوسطجي والسقا مات والحرام واللص والكلاب والحفيد والطوق والإسورة وغيرها. وهي أفلام مأخوذة كما نعرف من أعمال أدبية وفي المقابل فان علي الروائيين وكتاب القصة أن يخلصوا للعمل الأدبي وحده. بعيدا عن مغريات السينما المادية والدعائية. وألا تكررت مأساة الغراب الذي لم يحسن مشيته الحقيقية. ولا أحسن التقليد!

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:44 AM
من المحرر:
لنقرأ أولاً

بقلم: محمد جبريل
..................

بعد أن صدر كتابا قاسم أمين تحرير المرأة والمرأة الجديدة. طرق شاب بيت قاسم أمين. وطلب أن يلتقي سيدة البيت.
سأل قاسم أمين: هل تعرفها؟ أجاب الشاب: لا. لكنك دعوت في كتابيك لأن يلتقي الرجال والنساء.
لم يخف قاسم أمين دهشته: هل قرأت الكتابين؟ قال الشاب ببساطة: لست كافراً فأقرأ كتباً ملحدة!
تذكرت تلك الحكاية وأنا أتابع معركة الفضائيات بين الدكتور سيد القمني وعدد من منتقدي فوزه بجائزة الدولة التقديرية. واعتبر البعض هذا الفوز مزايدة من فاروق حسني وزير الثقافة علي أهم قيمنا. ليظفر بالمنصب الرفيع. وكانت حجة المنتقدين أن القمني يسيء في كتاباته إلي الإسلام. فهو لا يستحق التقدير!
سأل المذيع شيخاً فاضلاً تصدي لآراء القمني: هل قرأت كتاباته؟ أجاب بالبساطة التي أجاب بها الشاب عن سؤال قاسم أمين: لن أقرأ كلاما ملحداً!
الطريف - والغريب - أن الاجابة نفسها قالها ضيوف علي برنامج التليفزيون.. أدانوا كتابات القمني دون أن يحاولوا قراءتها. لأنها - كما قيل لهم - كتابات ملحدة!
لا أتخذ موقف المناصر للقمني. بل ان زياراتي المتأملة لموقعه علي الانترنت تضعني في الضفة الاخري لاجتهاداته . ثمة ملاحظات لابد ان نناقش في ضوئها تلك الاجتهادات. فنلاحظ حيل التصيد والأسلوب الانتقائي لمسار الدعوة الإسلامية. وللتاريخ الإسلامي. سلسلة لا تنتهي - يشغله تأكيدها - من المظالم والمخالفة لأبسط حقوق الإنسان. فضلا عن التجني المعيب علي آل البيت والصحابة والخلفاء الراشدين "راجع - علي سبيل المثال - دراسته عن ثورة الزنج".
من حق منتقدي القمني أن يناقشوا اجتهاداته. شريطة ان تصدر آراؤهم عن قراءة واعية لتلك الاجتهادات. لا يكتفون بالنقلية التي تعد من أخطر ما عانته الثقافة العربية في توالي عصورها. أنا أجد فلانا كاتبا متفوقا لا لأني وجدت في كتاباته ما يستحق هذه الصفة وإنما لأن هناك من قرن بها تلك الكتابات. في المقابل أجد فلاناً الآخر كاتبا رديئا لأن بعض الآراء وسمته بهذه الصفة!
أن أناقش. وأبدي الرأي. لابد أن يسبق ذلك قراءة حقيقية. أقرأ للكاتب . دون أن أكتفي بالقراءة عنه. فلا نفاجأ - بعد عشرات السنين من واقعة الشاب الذي طرق باب قاسم أمين ليخلو إلي زوجه - بتكرار للموقف الذي أقل ما يوصف به أنه يخلو من الموضوعية.
كما قلت. فإني أختلف مع اجتهادات القمني من خلال قراءاتي لكتاباته علي موقعه في الإنترنت. لكنني أرفض - في الوقت نفسه - محاسبة الآخرين. وإدانتهم. لمجرد المعلومة غير المثبتة. أو الشائعة. أو الوشاية!
فلنقرأ أولاً!
...............................
*المساء ـ في 1/8/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:45 AM
الواقعية السحرية

بقلم: محمد جبريل
.....................

الوجدان المصري والعربي بعامة يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية. مهما مالت موضوعياً إلي الخرافة. إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها. وممارسة سلوكيات حياتنا في ضوء ذلك الاعتبار. الإنسان العربي يمارس ما قد يبدو خرافة. دون أن يضعه في إطار معرفي محدد. بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب. هم الذين يعرفون معني الواقعية السحرية. بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل. أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقي عن مستوي إدراكنا. فلسنا نملك إلا أن نكتفي بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التي كتبتت في إطاره. فهو تحذير يشي للأسف بحرص علي الدونية في النظر إلي معطيات الآخر. حتي لو أفاض ذلك الآخر في التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربي. وبخاصة ألف ليلة وليلة.
نحن لا نحاكي غرائبية الآخر ولا عجائبيته. ولا حتي واقعيته السحرية. لكننا نكتب عن الواقع الذي نحياه بكل ما ينطوي عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة. أوافق إيزابيل الليندي علي أن الغموض السحري ليس وسيلة أدبية. ليس ملحاً ولا بهاراً. لكنه جزء من الحياة نفسها. الواقع هو النبع الذي نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا. نقرأ الإبداع العالمي في إطلاقه. لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التي ننتمي إليها. ونحاول من خلال ذلك أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية. أو فلسفة الحياة. وهو المعني الذي أوردته كثيراً في العديد من مقالاتي. أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية علي سبيل المثال لمجرد الانطلاق في الخيال. لكنني أحرص علي تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية. سواء في اللحظة المعاشة. أم في أحداث تاريخية.
بمعني آخر. فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتنا الموروثة والمكتسبة. ونتمثل ثقافات أخري نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة. ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعني الانكفاء علي الذات. ورفض التراث والموروث العالمي. أو حتي الانعزال عنهما. نحن كإنسانيين ننتمي إلي هذا العالم باختلاف ثقافاته. وتنوع حضاراته. ويجدر بنا أن نفيد من ذلك في اثراء تجاربنا الابداعية. بتعدد المنابع التي ننهل منها.
في كل الأحوال. فإننا لا نتعمد جذب انبهار القاريء ولا ادهاشه. الفن هو البدء والمنتهي. والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو تشويه. لكنه يحاول أن يهبنا دلالة. ما يستحق عناء المبدع في الكتابة. وعناء القاريء في التلقي.
...........................................
*المساء ـ في 10/5/2008م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:46 AM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
....................

قد تبدي توصيفا لمعني أو قضية فيها اختلاف ثم تجد ان توصيفا آخر لمحدثك ربما يكون أميل إلي الدقة إذا كنت مكابرا -لا قدر الله- فأنت تصر علي التوصيف الذي طرحته أما إذا كنت مجتهدا تشغلك الحقيقة في ذاتها فلعلك تقول ببساطة: هذا ما أردت قوله.
أذكر أني وجدت في الواقعية السحرية تعبيرا متماهيا أو موازيا للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات جارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي ويوسا وغيرهم من مبدعي أمريكا اللاتينية.
وجدت في الواقعية الصوفية معني أشد عمقا للإبداعات التي تستند إلي الموروث الشعبي بداية بالميتافيزيقا وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلي الصوفية.
صديقي الدكتور شبل الكومي اقترح تسمية أخري هي الواقعية الروحية بدت لي تسمية أقرب بل هي -في قناعتي- صحيحة تماما.
الواقعية الصوفية تحصر الجو الإبداعي في الممارسات الصوفية وحدها في مكاشفات أولياء الله وكراماتهم ما ينسب إلي السيد البدوي وأبي العباس والشافعي والرفاعي والشاذلي والحجاجي وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات وما ينسب إلي الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس أما الروحية فهي تهب دلالة أكثر رحابة وأشد تحديدا في الوقت نفسه.
النظرة إلي الموت والموتي تكوين مهم في موروثنا الشعبي بكل ما يحفل به من معتقدات وممارسات وعادات وتقاليد.
نحن نؤمن بالخلود وان الموت انتقال من حال إلي حال لذلك يأتي انشغالنا ببيت الآخرة مقابلا لإهمال بيت الدنيا تدلنا الحفائر والتنقيبات علي آثار تتصل بالعالم الآخر: الأهرامات. مصاطب المقابر. الأجساد المحنطة. الأوشابتي. إلخ لكننا لا نجد أي أثر لبيت الدنيا البيوت التي كان يعيش فيها قدامي المصريين.
وبالطبع فإننا نؤمن ان الصلة بموتانا -أو صلتهم بنا- لا تنقطع إن لم نرهم رؤي العين فإنهم يزوروننا في الأحلام أو ما يشببها ويحرصون علي متابعة أحوالنا ويشعرون لتلك الأحوال بالقلق والخوف والفرح والحزن وهم في دار الحق بينما نحن في دار الباطل.
باختصار فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلي الضفة الأخري أو تحاول ان تنتقل إليها إضافة إلي ذلك فإن ما تنبض به حكايات جداتنا من الغرائبية والعجائبية تبين عن مغايرة في حكايات الآخرين انها تنطلق في الخيال إلي آفاق مطلقة أما الحكايات الأخري فإن آفاقها محدودة يتحرك في محدوديتها بينوكيو وسندريللا وذات الرداء الأحمر وغيرها.
ذلك هو سر الافتتان العجيب بالتراث الشعبي العربي كما في ألف ليلة وليلة علي سبيل المثال ما يحرص أدباء أمريكا اللاتينية علي تأكيده في إشاراتهم إلي البدايات ان ألف ليلة وليلة كانت دليلهم إلي عالم الفن الجميل البساط السحري. البلورة المسحورة. طائر الرخ. جزيرة واق الواق. افتح يا سمسم. وغيرها من الصور التي تصدر عن مخيلة لا حدود لانطلاقاتها.
...................................
*المساء ـ في 15/8/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:47 AM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.....................


إذا كان علي مبارك قد كتب خططه ليفيد منها قارئو العربية ودارسو المكان المصري بخاصة.. وإذا كان يوسف الجزايرلي قد وضع خططه للغرض نفسه. وإن قصر جهده علي المكان السكندري.. فإن حسن خليل لم يوضح الهدف من كتابة نوتته الصغيرة. تتضمن شوارع بحري وميادينه وأزقته. وأهم معالم الحي القديم. جمله القصيرة المركزة تشي بأنه قد كتب هذه النوتة ليزجي فراغ رحلة المعاش. أو ليفيد منها في مشروع أعده. وكان هو وحده أعلم بتفصيلاته. لكن الرجل فيما يبدو عدل عن مشروعه. فأهدي النوتة إلي صديقنا المشترك الشاعر الراحل عبدالله أبو رواش. وحين علم أبو رواش بمشروع روايتي "رباعية بحري" التي تعني بالحياة في الحي منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلي قيام ثورة يوليو. وجد في المعلومات التي تحويها النوتة الصغيرة ما قد يفيدني في تذكر أسماء الأماكن. علماً بأن صلتي بالإسكندرية اقتصرت منذ إقامتي في القاهرة علي الزيارات المتقاربة. أو المتباعدة.
حسن خليل هو خليل الفحام في روايتي "أهل البحر". لم تتح لي الظروف لقاءه. لكنني حاولت التعبير عن إنجازه المهم. فجعلته بطلاً لأحدث ما كتبت.
رفض الرجل أن تتحول رحلة المعاش إلي جسر انتظار. حاول أن يصنع شيئاً. يشغل به وقته. ويفيد منه الناس. بدأ رحلة في الزمان والمكان. عبر مساحة محددة ومحدودة. بدايتها ميدان المنشية ونهايتها سراي رأس التين. نبضها رفض الانتظار السخيف. والتغلب علي الملل والوحدة. والتعبير عن الشوق والحنين والمحبة. ومحاولة رسم لوحة بانورامية للزمان والمكان في بحري. تهب المثل لمن يريد أن يصنع شيئاً. حتي لو كان موظفاً بدأ رحلة المعاش.
لا أعرف عن حسن خليل إلا أنه كان موظفاً صغيراً في محافظة الإسكندرية. ظني أنه حاول أن يشغل رحلة المعاش مثلما يفعل الكثيرون برعاية أبنائه وأحفاده. والتردد علي بيوت الله. والجلوس إلي أصدقاء العمر في المقهي القريب.. لكنه أضاف إلي ذلك سعياً لإنجاز مهم. كان هو الدافع لأن أكتب هذه الكلمات. أشير من خلالها إلي أن رحلة المعاش. أو حتي الشيخوخة. لا تعني اجترار الملل وتوقع النهاية. لكنها قد تكون بداية جديدة في حياتنا. نفرغ فيها لما صرفتنا عنه أيام الوظيفة.
ولعلنا نجد المثل أدبياً. في أستاذنا نجيب محفوظ. الذي أضاف إلي المكتبة العربية منذ أحيل إلي المعاش كما متميزاً من الأعمال الإبداعية. يفوق ما صدر له قبل أن يبلغ الستين!
وسع محفوظ من دائرة صداقاته وعلاقاته الإنسانية. وزاد من وقت حياته الأسرية. لكنه لم يهمل نشاطه الإبداعي. فكتب الكثير من الأعمال التي اتصلت بما سبقها. فشكلت في مجموعها مشهداً روائياً متكاملاً. بلغ غايته في أصداء السيرة الذاتية. وأحلام فترة النقاهة. هذان العملان اللذان يذكراني بمن يعصر الليمونة. وحين تقل قطراتها. فإنه يضعها حول سكين يعتصر القطرات المتبقية!
......................................
*المساء ـ في 22/8/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:48 AM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.....................

إذا كنت قدألزمت نفسي- ذات صباح خريفي في مطالع الستينيات- ان أقرأ كل ما تصادفه يداي من أعمال ابداعية- روايات وقصص قصيرة علي وجه الخصوص- فان النتيجة التي أعانيها الآن هي ان الجديد في الابداع الروائي والقصصي- هذا ما يشغلني- وفي فنيات الابداع تحديداً. مطلب في غاية الصعوبة. ويحتاج إلي موهبة من حقها ان تنتسب إلي العبقريات. العادة في الندوات الأدبية ان يجامل آخر المتحدثين من سبقوه. فيشير- بتواضع غير حقيقي- إلي انه لم يعد لديه ما يضيفه.وان قرر- بينه وبين نفسه- ان يقذف بعصا موسي لتبتلع أفاعيل السحرة. ولأني لا أمتلك ما يهبني الثقة في تقديم "الاضافة" فإني أكتفي بالغيرة الفنية- هل هذا هو التعبير الأنسب؟ - وان أقرأ تلك الاضافات الجميلة في فنية القصة القصيرة والرواية.
الإضافة لا تعني الالغاء. وإلا لألغينا أعمالا روائية وقصصية مهمة في تاريخ أدبنا المعاصر. في ضوء أعمال نجيب محفوظ علي سبيل المثال الاضافة التي أقصدها. هي التي يحاول التجريب تقديمها. لا اضافة بدون تجريب. أو ان التجريب المتفوق يقدم اضافة. لا يوجد مبدع حقيقي لم يحاول ان يقدم ابداعاً غير مسبوق في مقولته وفنيته قرأت لمحمد النويهي في أواخر الخمسينيات ان الأديب لا يمكن ان يكون عظيما الا اذا ابتكر شكلاً فنياً جديداً. وشق طريقاً غيرمعروف ولا مألوف. وأضاف النويهي انه مستعد لان يسامح أدباءنا علي كل ما يرتكبون في سعيهم نحو تحقيق هذه الصورة الملحة من خطأ وشطط. فهم يأملون ان ينتهوا من تلك التجارب إلي استكشاف سواء السبيل. وكانت قراءتي للنويهي مساوية من حيث التفاتي إلي ضرورة أن يضيف المبدع جديداً. لما قرأته لمحمد مندور عن ضرورة ان تكون للمبدع فلسفة حياة.
الابداع هو اضافة شيء جديد إلي الوجود. لكن لابروبيير يذهب إلي القول: "كل شيء قد قيل. وقد أتينا بعد فوات الأوان. ويقول الكاتب الايرلندي أوفلارتي: "إن أشد ما يؤلم الكاتب هو معرفة ان كل ما يقدمه قد قيل من قبل". أصعب الأمور- أو أقصاها- ان تبدع عملاً يتصور انه غير مسبوق. ثم يبين توارد الخواطر- هذا هو التعبير الذي تفضله النصيحة المشفقة- عن الأعمال التي تلقي علي عملك- غير المسبوق- ظل التأثر. وقد بدأ اهتمام جابرييل جارثيا ماركيث بفن القصة. حين قرأ قصة "المسخ" لكافكا. قرأ في أولها هذه الجملة "عندما صحا جريجور سامسا ذات صباح. بعد أحلام مقلقة. وجد نفسه قد تحول إلي خنفساء" وأغلق جارثيا الكتاب فزعاً.وهو يهمس لنفسه: هل يمكن ان يحدث هذا؟ وكتب- في اليوم التالي- أول قصة له. وللكاتب الأمريكي اللاتيني الفريدو كاردينا بنيا قصة بعنوان "اثار النمل علي الرمل". يعتذر لقرائه - بداية- عن اخفاقه في العثور علي قصة جديدة لم يسبق ان قرأ مثلها. وعلي حد تعبيره. فان ألف ليلة وليلة مخزن لأكبر عدد من القصص الانسانية. لقد أصبح هذا الكتاب نبعاً ثرياً متعدد الروافد للعديد من القصص والحكايات التي تروي في كل أنحاء العالم. وجعل الكثير من الكتابات التالية لصدوره مجرد تقليد أو نقل غير مبدع. وتنقل الراوي/ الكاتب بين العديد من موضوعات الأحلام والحب. وحكايات الجنيات والعفاريت. وقصص الفزع والاشباح والأرواح الشريرة ثم توصل- أخيراً- إلي قصة وجد فيها تفرداً عن كل ما سبق تأليفه من قصص: "كان ذات مرة" وقرأ القصة علي متلقين كثر في أنحاء العالم. ثم أسلم عينيه لاغماضة الموت. وهو يبتسم في هناءة!
..................................
*المساء ـ في 29/8/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:50 AM
المينا الشرقية

بقلم: حسني سيد لبيب
.........................

حين بدأ محمد جبريل كتابة روايته ( المينا الشرقية )(1) ، أحب أن يضمنها شيئا من واقعه كأديب ـ وهي سمة بارزة في معظم كتاباته ـ فشاء أن يجعل من الندوات واللقاءات الأدبية موضوعا لروايته، وجعل من مقهى المينا الشرقية مقرا لها، مما جعل الكاتب أقرب إلى عالمه وهو ينسج خيوط الرواية ويرسم شخصياتها. وإن انتقل بالندوة ـ في روايته ـ إلى مكان آخر غير القاهرة ، إلى المكان الذي عاش فيه طفولته وصباه ، إلى المكان الذي أحبه وعشقه وشده الحنين إليه ، حتى أنك إذا سألت عنه وجدته قد سافر بجناح الشوق إليه ، إلى المكان الذي كتب عنه العديد من الروايات ، إلى الإسكندرية ، وبالتحديد منطقة ( بحري ) .. والمقهى في المكان نفسه .. وهذه الواقعية الممزوجة بالحنين إلى المكان خلقت جوا يأنس إليه الكاتب فيأنس معه قارئه ، لما فيها من مصداقية القول وجيشان الأحاسيس . واستتبع ذلك صياغة لغوية متفردة . وقد ضمن الرواية شخصيات من الواقع ومن الخيال،في مزج دقيق لا يواتي إلا الفنان ذا الطبيعة المرهفة ، والريشة المبدعة في رسم الشخصية المتوائمة مع النسيج الروائي .. الذي يستوحي أحداثه ويستلهمها من بيئة شعبية اتتمى إليها فكتب عنها ما يشكل (رحلة إلى العالم القديم ) (2)، وهي رحلة ذات طبيعة خاصة، لما فيها من حنين إلى الماضي و( حلاوة زمان ) (3) .
والرواية إضاءة لأحوال الأدباء ، سواء في معاناتهم فيما يكتبون ، أو ما يعانيه البعض منهم من أجل الحصول على عمل . ولم يبدُ على أيٍّ من رواد الندوة مظهرا من مظاهر الغنى ، فهم إلى الطبقة الفقيرة ينتمون .
و ( البطل المطارد ) الذي ركز عليه الدكتور حسين علي محمد في دراسته القيمة عن أدب محمد جبريل(4) ، ما زال مطاردا ـ أيضا ـ في ( المينا الشرقية ) . فالبطل إما مطارد من السلطة دون ذنب جناه، أ و مطارد من الأب أو الأم، كما في روايات : ( الأسوار )، و ( الصهبة )، و ( قاضي البهار ينزل البحر.وفي رواية ( النظر إلى أسفل ) نجد شاكر المغربي مطاردا من أزمته النفسية، يستمرئ لعبة الاستمناء التي تعني عدم المشاركة في الحياة، وكأنه يشير إلى الرأسمالية المصرية الجديدة بعد الانفتاح، التي تنمي ثرواتها دون اهتمام بإنماء مجتمعها وتطويره.. وفي رواية ( الخليج ) نجد البطل مطاردا من الحياة جميعها، من الأسرة بمطالبها، ومن رئيس التحرير في صحيفته، ومن الكويت التي احتلتها العراق، ومن جنود الحدود في السعودية.. وقد نجح الدكتور حسين علي محمد في إلقاء الضوء على هذا الجانب المهم في إبداعات جبريل، ناهيك عن قضية الحرية، التي تشغل بال كاتبنا ويعتبرها قضيته الأولى. وهو لا يصرح بها، لكنه في الشخوص التي رسمها، وفي تناوله لقضايا التعذيب وقهر الفكر، إنما يشي بذلك إلى المطلب الحيوي للإنسان، حريته التي لا تقل أهمية عن توفير الملبس والمأكل والمأوى.. من هذه الزاوية، نقرأ رواية ( المينا الشرقية )، ونصب أعيننا حكاية البطل المطارد، وأهمية الحرية للإنسان.. وقبل الاسترسال في الحديث عن ( المينا الشرقية ) نلاحظ أن معظم أبطال رواياته انطوائيون أو انعزاليون، أو قل إن علاقاتهم الاجتماعية محدودة. وبطل ( المينا الشرقية ) أديب، ومن ثم فالعزلة ديدنه حتى يتمكن من القراءة والكتابة، وقد دلل جبريل على ذلك بمقولة أرنست هيمنجواي : " كلما ازداد الكاتب انغماسا في عمله، بعد عن أصدقائه، وأصبح وحيدا ".. وما قاله جابرييل جارثيا ماركيز عن الكتابة، التي هي في تقديره أكثر المهن عزلة في العالم، فلا أحد بإمكانه مساعدة الكاتب في كتابة ما يكتب ( 5 ) . فالراوي هنا هو الأديب عادل مهدي يترأس ندوة أدبية، وهو المسئول عن إدارتها وما يثار فيها من آراء . فنتعايش معه.. ذلك الكاتب الذي دق حسّه وتحول انتباهه إلى شخص ما يظن أنه يراقب تصرفاتهم ، واتجهت به الظنون إلى كل شخص ينطوي على نفسه ، أو ينزوي في ركن ، أو يواظب على حضور الندوات . ويجدّ في البحث عنه ، حتى أن الراوي صار عينا حساسة ، تبحث في كل الاتجاهات عن العين الأخرى المراقبة ‍‍.. وتدل تصرفات عادل مهدي على فقدان الثقة بين الكاتب والدولة ، أو هي أزمة متبادلة بينهما ، بمقدار ضيق مساحة الحرية التي تمكّن الكاتب من أداء رسالته .
والراوي أو رئيس الندوة ، لم يُبدِ تعاطفا مع رأي أو إبداع ، مكتفيا بعرض وجهات النظر ، وتقديم الأدباء .. وقلما نجد كاتبا اهتم بكتابة رواية عن هموم الأدباء وأحوالهم . لذا تميزت ( المينا الشرقية ) في موضوعها ، بل إنها كسرت أيضا الحاجز المصطنع بما قدمته عن حياة الأدباء .
إن تضييق الخناق على أعمال الندوة ، من قبل رجال المباحث ، أثّر بالسلب على عملية الإبداع ذاتها . فالمطاردة والشك ينغصان عيشة الكاتب ، ويجعلانه في مواجهة أحد أمرين : إما ألا يحفل بمن يراقب ، ويصر على الجهر بما يراه من رأي ، وإما يتحفظ فيما يقول ويكتب ، إيثارا للسلامة .. ويبدو لنا الراوي متخوفا من العين الراصدة ، لكن الكاتب لم يطلعنا على آراء الراوي التي يخاف من الجهر بها ، وإن أطلعنا على آراء رواد الندوة . وبات الخوف من المطاردة أسلوب حياة تعكر مزاج الكاتب وتوقعه في اضطراب ، سواء جهر بقول أو التزم الصمت .. فالمراقبة قاعدة أساسية سواء شكلت الندوة خطرا ما أو لم تشكل، فالمراقبة أمر لازم ، أو هي نظام اتبع مع أي تجمع ، فيندس من يراقب دون أن يشعر به أحد . في ضوء هذا ، أدار الكاتب أحداث الرواية ، حول العين الجاسوسة التي لا يعرفها أحد ، ولا تكشف عن نفسها , فبدأ الراوي يشك في كل عين ويرتاب من كل قول.
وها هو رجل لا يخفي أن عمله حضور الندوات والتجمعات ليراقب ما يقال فيها ..وتشكك من مسئول بمكتب الجريدة التي يعمل بها محررا ، بسبب قراءته لكل شيء يرد إلى المكتب ، حتى الرسائل التي تخص موظفي المكتب كان يطلع عليها (6) . وبعد خروج محمد الأبيض من المعتقل ، زاره في بيته ، فحذره من أن يراقب بسبب هذه الزيارة ! (7) . وتحدث عادل مهدي عن بسيوني الذي أعطاه أوراقا جرى فيها بالشطب والإزالة ، فقرأ إسمه ضمن أسماء المترددين على الندوة . وأفهمه رأفت الجارم أنه عين على الندوة ، فاعتقد الراوي أنه هو الذي يراقب الندوة وأعضاءها ! (8). وتطرق شك عادل مهدي إلى محمد الأبيض ، وإلى آخرين ..
وضرب الكاتب مثلا بأحد الممالئين للسلطة، المنافقين لها بذلك الكاتب الذي يحث الحكومة على الإسراع في الخصخصة، بينما كان الكاتب نفسه يتحدث في عهد عبد الناصر عن حتمية الحل الاشتراكي ‍‍1
الحديث عن الرجل الذي يراقبه حديث متكرر ، وتتجمع عنده بؤرة الحدث الرئيسي للرواية ، أو أنه العمود الفقري للبنية الروائية .. من ذلك حديثه في الفصل الثامن عن رجل لمحه في المرآة ، كان يجلس على طاولة ويتظاهر بقراءة جريدة . وقد ظن ـ ذات مرة ـ أن محسن سالم هو الذي يراقب الندوة ، لكنه بعد ما اقترب منه ، عدل عن اتهامه له .. وقد ظن أن صاحب مخزن يراقبه ، لكنه أهمل هذا الظن ، وتشكك في الضابط مجدي الأسيوطي (9) .
تنطبع صورة عادل مهدي في الذهن لرجل خائف متوجس ، الخوف يلازمه كظله ، إنه خائف من شيء يتوقع حدوثه ، وإن كان لا يدري التفاصيل . وعاش بهذه الشخصية من بداية الرواية حتى نهايتها . وتركزت الرواية عند هذه البؤرة . وهكذا كان عادل مهدي في كل ظنونه ، ما إن يرمي ظلال الشك في شخص ، حتى تتلاشى ويتولد الشك في آخر , ولما اقترح فض الندوة ليستريح من المراقبة ، حذره محمد الأبيض ، حيث يمكن الظن بأنه انتقل بنشاطه إلى تنظيم سري . ونصحه باستمرار الندوة مع عدم الخوض في مواضيع سياسية . ومادام لا ينتمي إلى تنظيم ما ، فإنهم لا يقتربون منه ‍‍‍‍.
وثمة لقطات سريعة موحية ، حين يبتعد الراوي عن عالمه المأزوم ، ومثال ذلك ، حين انتابه أرق حرمه من النوم ، فتطلع إلى العالم الخارجي ، فلم يجد إلا الصمت والهدوء .. ووقعت عيناه على " عجوز وحيدة ، التف جسمها ببالطو من التيل الباهت اللون . جلست على المقعد الحجري ، قبالة الكورنيش ، تطعم ثلاث قطط فتات خبز مغموسا في اللبن " .. وهي لقطة حانية ، توحي بحنان رومانسي نفتقده في الواقع ‍.. ولقطة ثانية من هذا العالم الخارجي ، حين عبرت عربة زرقاء مغلقة ، وبداخلها تتردد أصوات الرجال بالهتاف : إسلامية .. إسلامية .. في إشارة واضحة للواقع المأزوم الذي عاشته البلاد في الثمانينيات (10).
وتنتهي الرواية بالأزمة ، المتمثلة في موت عيد جزيري ، وهي أزمة نفسية أصابت عادل مهدي ألما من مصير الإنسان ، وتضاءل ـ أمام قدر الموت ـ خوفه وقلقه من المراقبة والمطاردة , وفي هذا يقول : " ما الحياة ؟ وما الموت ؟ وما معنى أن ينتهي المر في لحظة ، يتلاشى ، كأنه لم يكن . تغيب الأحلام والرغبات والأشواق والتطلعات ؟ لماذا القراءة والكتابة والندوة والمناقشات والمراقبة والخوف ، ما دامت الملامح الثابتة ماثلة في مدى الأفق ؟ لماذا نولد إن كان العدم حتمية النهاية ؟ " (11). ثم لقي مصيره الذي كان يطارده، فقد أخبرته أمه أن ثلاثة رجال سألوا عنه ، ثم " ذهبوا إلى سيارة سوداء بلا أرقام في ناصية الشارع ، وجلسوا داخلها " (12) .. فنـزل إليهم مسلما نفسه إلى مصيره المحتوم ‍‍.‍. وتنتهي الرواية بهذه الصورة الرمزية ، ولا أدري هل قصدها الكاتب ، أم جاء الرمز عفو الخاطر؟ فالرمز يستشفه القاريء في المزج بين الاعتقال ، أو الخوف منه ، مع الموت .. الأجل .. لم يعد يحفل بالمراقبة أو يخاف منها ، إنه وصل إلى نقطة النهاية .. وترمز السيارة السوداء إلى المصير المحتوم ، وأن السيارة بلا أرقام ، لأن الإنسان يجهل ساعة أجله . أما الرجال الثلاثة الذين كانوا ينتظرونه ، فإشارة إلى القضاء والقدر ‍. واختلط معنى الموت بالاعتقال ، والخوف من المراقبة يتوازى مع خوف الإنسان من الموت . والمراقبة قد تعني هنا أن الإنسان مسئول عن كل تصرف وسلوك ، وسيحاسب على كل أفعاله . هنا ، تأخذ المراقبة معنى أكثر شمولا من اقتصارها على البعد السياسي فحسب. وبهذا ترتقي الرواية وتتثبت معانيها ومراميها في النفوس ، أكثر ثراء وغنى ، وأبعد غورا وعمقا ، من غير شرح أو طنطنة أو إسهاب ، وتلك عظمة الفن ...
وحين طالعتُ ( رباعية بحري ) ، جال تساؤل في خاطري عن أهمية ازدحام الرواية بالشخصيات ، ثم ترددت في الإجابة على أساس أن الرباعية البالغ عدد صفحاتها 1084 صفحة تحتمل هذا . وأن ما يبدون شخصيات ثانوية ، قد تجيء أدوارهم في فصول تالية ، ما دامت هذه الشخصيات تحقق في مجموعها ترابط أحداث الرواية ، وتلاحمها وتفاعلها ، يؤثرون في الواقع بقدر ما يتأثرون به ، ويكونون بؤرة الحدث بوسيلة أو بأخرى .. ولما أنهيت الرباعية وجدت شخصيات غفل الكاتب عن دورها ، فبدت هامشية وثانوية .. وخاصة عندما تثار مناقشات فيما بينها ـ غالبا في المقهى ـ وحين تتصدر النقاش ، نظن أن لها أدوارا رئيسية أو أن لها دورا في تفعيل الحدث ، إلا أن دور بعضها يظل محدودا ، أقحمها الكاتب بقصد إثراء المناقشة حول قضية أو موضوع سياسي ، فكانوا أشبه بـ ( كومبارس ) الأفلام السينمائية .. وها هي رواية ( المينا الشرقية ) تزدحم بالشخصيات كأختها ( رباعية بحري )، والقضية التي تعنيني هنا، هو مدى ما حققه الكاتب من ( لذة النص ) على حد قول رولان بارت، أو فلنقل مدى ما حققه النص الروائي من متعة للقارئ.
وقد أجاد الكاتب رسم الشخصيات النسائية أسامة صابر وسنية عبد المحسن وإيناس عبود .. وكثرة الشخصيات يقتصر على عالم الذكور ، أما الإناث فلهنّ أدوار محددة مرسومة بإتقان .
وشخصيات ( المينا الشرقية ) تبدو مراوغة ، مثل شخصيات ( رباعية بحري ) ، ما إن يتعايش القاريء مع إحدى الشخصيات ، وقبل أن نصل إلى حد التعايش معها ، أو الإشباع ، حتى يسحب الكاتب البساط من تحت أقدامنا ، وينقلنا قسرا إلى شخصية أخرى ، ويفعل الشيء نفسه مع الشخصية الثانية ، حيث ينقلنا إلى الثالثة ، وقد يرجع إلى حديث سبق أن قطعه عن إحدى الشخصيات ، فتنفتح مغاليق العمل بالتدريج ، ويتم التعرف على معالمه وأحداثه وشخصياته . وهو بهذه الطريقة ينقل قارئه بآلة تصوير سينمائية تلتقط مقاطع ، أو تصور مشاهد من هذا العالم الروائي ، وقد تلتقط الآلة المصورة لقطات عشوائية ، تشبه إلى حد ما عشوائية حياتنا وعبثية مشاهدها التراجيدية .
على أن كثرة الشخصيات ليست سلبية، إذا نظرنا إليها من منظور العالم الحي الذي نعيشه ، وتشابك العلاقات وتداخلها ، بما يكون شبكة متلاحمة يصعب تبين بدايات ونهايات خطوطها وخيوطها .. وما دام الكاتب يقترب من هذا العالم الحي ـ أو الواقع ـ الذي نعيشه ، انعقدت الصلة بينه وبين المتلقي . وحلا لهذه الإشكالية ، إشكالية كثرة الشخصيات وكونها تشكل ـ في الوقت نفسه ـ نسيج العالم الموار ، فيما قد يعدّ ضرورة فنية أمينة عن هذا العالم ، يتعايش معها القاريء ، فإن مزيدا من الغوص في أعماق هذه الشخصيات ، ومزيدا من التعريف بها ، يكون ضروريا لاقتراب القاريء أكثر من النص الروائي ، وتعايشه واندماجه بطريقة يسيرة هينة، تجعل القراءة أكثر متعة وأقل عناء .
إلا أن الكاتب حقق مزجا بين شخصيات واقعية وشخصيات الرواية التي هي من ابتداعه ، وإن كانت الشخصيات المبتدعة تلتحم بالواقع ، وإن غيّر الأسماء وبدّل الأحداث .. وفي هذا ، اقتطع جزءا من قصيدة لحسين علي محمد وأنطقها على لسان يحيى عباس (13). كما أشار إلى ثلاث شخصيات أخرى من الواقع : الأولى للشاعر السكندري أحمد فضل شبلول ، حيث عرض نموذجا من شعره عن الإسكندرية ، عشقه وهواه ، كأن الكاتب يشي بأنه ليس الوحيد المتيم بعشقها .. أما الشخصية الثانية فهي الشيخ المحلاوي الذي حرض الناس على التظاهر ضد العدوان على المصلين في الحرم الإبراهيمي (14) .. والشخصية الثالثة لبيرم التونسي حين استشهد نادر البقال بما قاله بيرم متفاخرا بالمكان الذي نشأ وتربّى فيه : " وانا اللي جيت م السيالة .. فيها العيال والرجالة .. شجعان ولكن بهباله .. يا ننتصر .. يأكلناها .. " (15) .. والملاحظ أن ( السيالة ) ربما صادفت هوى في نفس الكاتب، حيث ذكر في الفصل الأخير من رواية ( إمام آخر الزمان ) أن المهدي المنتظر اغتيل على رصيف مقهى السيالة، طبقا لما تؤكده معظم الروايات. وهذا التعاطف والحنين إلى مكان معين أمر طبيعي للكاتب، سواء قصد ذلك أو جاء عفوا، مثلما قرأنا لفريد محمد معوض في دراسته عن ( رباعية بحري ) حبه لشخصية إبراهيم سيف النصر، لكونه من قريته ( سامول ). إنه تعاطف فطري وجنين إلى المكان الذي عشنا فيه، وخاصة فترة الصبا والشباب. وذلك علاوة على ذكره لشخصيات سياسية في معرض سرده للأحداث عن الواقع السياسي ، وهي عادته في معظم رواياته ، مزج الواقع الروائي بالواقع السياسي المتزامن مع الأحداث . علاوة على ما ذكره عن أعلام الصوفية في الثغر في الرباعية وفي غيرها من الروايات .
وينقلنا قلم الكاتب اللماح في سطور وجيزة إلى ثقافة العصر من خلال الكتب المعروضة لدي باعة الكتب القديمة .. " كتب بأحجام متباينة ، وملونة ، عن عذاب القبر ، وحساب الملكين ، وهول يوم القيامة ، والسحر ، والتنجيم ، والفلك ، والأبراج ، والتصرف السليم في ليلة الزفاف ، وأغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، وكيف تقرأ الإنجليزية في أربع وعشرين ساعة " (16).. وهي ثقافة تضم الشتات والأضداد . يختلط فيها الجيد بالتافه ، والثمين بالغث. وتجمع بين الدين والسحر والفن وتعلم اللغات والغيبيات . لكنها ثقافة تفتقر إلى التعريف بالهوية والانتماء للوطن ، تفتقر إلى التاريخ ، ذاكرة الأمة في استيعاب دروس الماضي لبناء لبنات المستقبل .
........................................
الهوامش :
======
1. محمد جبريل : المينا الشرقية ـ رواية ـ مركز الحضارة العربية ـ القاهرة 2000
2. جاءت العبارة ( رحلة إلى العالم القديم ) عنوانا لقصة للكاتب حسني سيد لبيب نشرها في مجلة (الأديب) اللبنانية.
3. اسم مسرحية لرشاد رشدي
4. د. حسين علي محمد : البطل المطارد في روايات محمد جبريل ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999
5. مقال محمد جبريل ( ماذا يريد الكاتب ؟ ) ـ مجلة ( الفيصل ) ـ عدد 233 ـ مارس / أبريل 1996م ـ ص 77
6. المصدر السابق ـ الفصل الثالث عشر
7. المصدر السابق ـ الفصل التاسع عشر
8. المصدر السابق ـ الفصل العشرون ( الأخير )
9. المصدر السابق ـ الفصل الثاني عشر
10. المصدر السابق ـ الفصل الثالث
11. المصدر السابق ـ ص 106
12. المصدر السابق ـ ص 107
13. المصدر السابق ـ الفصل الأول
14. المصدر السابق ـ الفصل التاسع
15. المصدر السابق ـ الفصل الرابع عشر
16. المصدر السابق ـ ص 101

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:51 AM
من المحرر:
النقد والإبداع

بقلم: محمد جبريل
.....................

إذا كان تولستوي يذهب الي ضرورة ان يتقمص الاديب شخصين. هما الكاتب ذاته والناقد. فإني أفضل ان يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الابداعية.
القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة. فالنقد الحقيقي. المطلوب. هو مايمارسه الأديب علي فنه. وما يرتفع بمستوي أديب عن سواه.. بالإ ضافة إلي الموهبة- هو ارتفاع حسه النقدي. المبدع الذي يفتقر الي ملكة النقد والرأي للروائية الانجليزية اليزابيث بوين لا وجود له . بل إن مهنته كروائي لاتتحمل مثل هذا النقص. طبيعي ان الفنان لا يرضي تماما عن نفسه. ولا عن عالمه. لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التي تنطلق فيها جياد ابداعاته.
مع ذلك. فأن يكون الفنان صاحب عمل ما. فذلك لايعني أنه هو أجدر الناس بفهم عمله . ربما كان الناقد أكثر فهما للعمل من الفنان نفسه. أكثر استنباطا لمعانيه ودلالاته. استمعت في البرنامج الثقافي الاذاعي الي حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور. بدأ نعمان في تلخيص مسرحيته عيلة الدوغري.. قاطعه مندور بعد لحظات في بساطة: أخشي أنك لن تحسن تلخيص عملك. أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التي فهمتها. ولخص مندور المسرحية. واذكر أنه كان أكثر قدرة علي تسليط الضوء علي مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان.
وكان أبوالطيب المتنبي يحيل السائلين عن شعره الي شارح ديوانه وناقد شعره. أبي الفتح عثمان بن جني. ويقول: عليك بابن جني فإنه اعرف بشعري مني.
تقول بيرل باك: "لكي تكون كاتبا جيدا. فعليك ان تكد. بمعني أن تنهض في الصباح. وتبدأ في الكتابة مبكرا. والذهن صاف ورائق. فضلا عن أن تبدأ الكتابة حتي لو لم يكن الذهن رائقا وصافيا.
عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هي ضرورية للعامل. وربما اكثر. لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب علي العمل. وليس هناك من يساعده في أداء عمله. إنه رئيس نفسه. وهذا الرئيس هو عامل في الوقت نفسه.
وتقديري أنه علي الفنان ألا يرجئ عمل اليوم الي الغد. بحجة أنه مشغول. فالوقت لن يكون في حوزته ذات يوم بصورة مطلقة. وعلي الرغم من حرصي علي عادة الكتابة اليومية. فإني أتذكر دوما قول روبرت هنري "ان كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة" وأثق ان هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة ابداعه ولعلي اتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا: لا تكتب وانت تحت تأثير الانفعال.. اتركه يزول. استدعه مرة أخري.
علي الفنان ان اعتبر الابداع قضية حياة أن يحاول الافادة من كل مايسمح به الوقت. حتي لو كان مجرد دقائق قليلة. أنا أطمئن الي ماكتبته في تلك الاوقات العابرة إن جاز التعبير أوقات مابين عملين. أوقات الانشغال في عمل لايتصل بالابداع. وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوي. أجري بالقلم علي الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن. وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد اهملت الحاحه منذ فترة طويلة.
.....................................
*المساء ـ في 5/9/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:53 AM
من المحرر:
عن قصص السادات طه

بقلم: محمد جبريل
.....................

إذا لم تكن جماعة الرواد الأدبية بدمياط هي أولي الجماعات الأدبية في أقاليم مصر. فإنها من أولي تلك الجماعات. يضيف إلي تميزها إسهامات مهمة في الساحة الثقافية المصرية. ظلت دمياط. وبالتحديد فترة تولي محمد عبد المنعم مسئولية الإشراف علي أنشطة قصر الثقافة. وتولي الدكتور جويلي منصب المحافظ. مثلا للمدينة المبدعة التي تمتد تأثيراتها إلي خارج الحدود. وتستقطب في الوقت نفسه كل الأصوات المبدعة والناقدة.
السادات طه. صاحب المجموعة القصصية "الممر" حلقة في سلسلة مبدعي دمياط الذين جعلوا من الإبداع الفني مرادفا لإبداعهم في العديد من الحرف والصناعات.
لعل أول ما يجب التأكيد عليه في هذه المجموعة. هو فهم الكاتب الواعي لخصائص القصة القصيرة. قراءات الكاتب واضحة في الإبداعات القصصية والروائية. علي المستويين العربي والعالمي. قراءاته واضحة كذلك في الاتجاهات الفنية المعاصرة. والحديثة. ثم في تلمسه تجارب شخصية. وتجارب للغير. ومتابعته لأحوال البيئة والعالم. وتلمسه الهم الإنساني بعامة.. ذلك كله يبين بصورة لافتة في قصص المجموعة.
يجيد الفنان تصوير المجموعات. وهي في غالبيتها تنتمي إلي الطبقة الوسطي الصغيرة. أو إلي الطبقات الدنيا. والمشكلات الاجتماعية واضحة. وان افلح الفنان في مجاوزة الجهارة والمباشرة. فالقصص تعتمد الإيحاء والإيماء والدلالة المضمرة.
وثمة قدرة لافتة علي التأمل والتقاط ما يغزله في نسيج إبداعه "اذكرك برجة القطار للبيت. يجد فيها الراوي ما يشعره انه يعيش بين الناس". وهو يرصد التفصيلات بكلمات قليلة. تنبو عن الترهل والاستطراد المنساق لغواية السرد. وربما الثرثرة الكلامية التي لا تستدعيها ضرورة. ولا تؤطرها حدود.
والجنس بعد مهم في قصص المجموعة. قد يتسم بالطرافة. وقد يكشف قسوة المعاناة. لكنه يبين عن الاحتياج الإنساني في كل الأحوال.
العلاقة دائما بين امرأة ورجل. ربما دخل حياتهما رجل ثالث. نستعيد قصص البدوي والسحار وعبد الحليم عبدالله. تتسم قصص السادات طه بالملامح الإنسانية التي ترفض الالحاح علي قضايا جنسية أو اجتماعية. وترفض الانتصار لجنس علي آخر تعبيرا عن تجربة شخصية. أو نظرة مسبقة. بينما يطالعنا شك الراوي في روايات عبد الحليم عبدالله. والمرأة ناقصة العقل والدين في إبداع السحار. وانعكاس نظرة البدوي إلي المرأة في انها المحرض علي الفعل ليدفع الرجل ربما حياته ثمنا لما يفعله.
أما الحوار. فلنتفق علي ان له دوره الدرامي الذي يضيف إلي السرد القصصي. وقد تخلص الحوار في قصص هذه المجموعة من العيب الذي يسم الكثير من إبداعاتنا القصصية. وهو الإطالة إلي حد رفض التصور تصور القارئ ان ينتسب ما يقرؤه إلي الحوار بأي معني. يغيظني من ينطق احدي شخصياته ببيان مطول. يتناسي ان الحوار هو بين اثنين أو اكثر. قد يتكلم شخص ما بمفرده. وينصت الآخرون في حال الشرح والتوضيح. أما في حالة الحوار. فأنا آخذ وأعطي. تمتد مساحة الاسئلة والتعقيبات والملاحظات. بما يصنع درامية الحوار. ويسمها بمغايرة عن فنية السرد.
..........................................
*المساء ـ في 10/10/2009م.

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 08:54 AM
في ساحة الإنشاد

قصة قصيرة، بقلم‏:‏ محمد جبريل
.....................................

لم يصدق الشيخ جابر أبو عبية أن سيد العقبي يرفض أداء كل ما تعلمه منه‏,‏ يصر أن يقرأ مدائح لايدري من وضعها له‏,‏ ولا إلي من يتجه بها‏,‏ هي الكلمات نفسها عن الله والمصير والرغبة في الفرار من العقاب ودخول الجنة‏.‏ يرددها المنشدون والمداحون والمولوية والصييتة في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ لكنها تختلف في أداء العقبي بنقل المعني‏,‏ يتأمل الناس تعبيراته‏,‏ يجتذبهم صوت العقبي المحمل بالعذوبة‏,‏ ينفذ إلي الأعماق‏,‏ يصعد بالنفوس إلي آفاق علوية‏.‏
أول رؤيتنا لسيد العقبي حين ردد وراء الشيخ جابر أبو عبية منشد الطريقة الشاذلية‏,‏ علا صوته بين الذاكرين‏,‏ يردد ما يقولون من المدائح والأشعار وبردة البوصيري‏,‏ لم يلفت اهتمامنا‏,‏ وإن اجتذبنا في صوته بحة‏,‏ لا تخلو من أنوثة‏.‏
تعرفنا إلي ملامحه الظاهرة‏,‏ عند ظهوره في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ يردد ما حفظه عن الشيخ أبو عبية من المدائح في النبي وآل بيته‏,‏ وفي التنبيه إلي أحوال الدنيا وأحداث الأيام‏.‏
تكررت مشاركاته في الحضرات المرتبة للطريقة الشاذلية‏,‏ موضعها السرادق الملاصق لجامع المرسي من ناحية السيالة‏.‏
قيل إنه عمل صبيا للأسطي سعيد قطا نجار السواقي بعزبة خورشيد‏,‏ وتحدثت روايات عن إفادته من فترة عمله في قهوة المعلم البابلي المطلة علي الأنفوشي‏,‏ وأكدت روايات أنه مجهول النسب‏,‏ ما كتبه في شهادة ميلاده يختلف عن اسمي الوالد والجد مما سربه إلي السفلية في الرواية والحكي‏,‏ وقيل إنه طال اشتغاله ببيع البضائع الصغيرة‏:‏ ساعات يد‏,‏ وميداليات ونظارات شمسية‏,‏ وسبح‏,‏ وأمشاط‏,‏ ومقصات‏,‏ وسكاكين‏,‏ وأقلام رصاص‏,‏ وأقلام حبر‏,‏ وكوتشينة‏,‏ وميداليات‏,‏ وألعاب للأطفال‏,‏ وعطور‏,‏ وأدوات تجميل‏,‏ يحملها في حقيبة مفتوحة‏,‏ علي صدره وساعده‏,‏ يتنقل بين المقاهي والدكاكين والميادين والشوارع المزدحمة‏,‏ وقال الشيخ حجازي رضوان قارئ التلاوة في جامعة البوصيري إنه التقي بالعقبي ـ للمرة الأولي ـ في مقابل العامود‏,‏ تسابقا للحصول علي الأقراص والكعك والفطائر والمنين‏,‏ رحمة ونورا علي الموتي‏.‏ تكررت لقاءاتهما في المقابر‏,‏ قبل أن يطالعه العقبي مساعدا للشيخ أبو عبية في إنشاده‏.‏
روي أنه سمع إنشادا لم يسبق له التعرف إلي صاحبه ـ في سرادق بمولد سيدي نصر الدين‏,‏ اجتذبه الصوت‏,‏ والكلمات‏,‏ وطريقة الأداء‏,‏ لا إيقاعات إلا صوت الشيخ والمستفتح‏,‏ وتصفيق الأيدي‏.‏ يبدأ الشيخ إنشاده خفيضا‏,‏ هامسا‏,‏ يعلو ويعلو حتي يبلغ الذروة‏.‏
أزمع أن يعد نفسه لهذا العمل‏.‏ أخذ العهد في الطريقة الشاذلية علي يد الشيخ مكرم رسلان إمام الطريقة‏,‏ تبعه بقراءة دلائل الخيرات‏,‏ وكتب التوسل للذات العلية‏,‏ وقصائد المديح‏,‏ والتغزل بالنبي‏,‏ والتوسل بخير البرية‏,‏ وطلب شفاعته‏,‏ وشفاعة آل البيت‏,‏ والصحابة‏,‏ والأولياء‏,‏ حفظ قصائد للمسلوب والمنيلاوي وأبو العلا محمد والبنا وسلامة حجازي وصبح وعلي محمود‏.‏
أخذ عن الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ تصرفاته‏,‏ حركاته وسكناته‏.‏ تدريب علي طريقة الإلقاء‏,‏ متي يضع يديه تحت ذقنه‏,‏ متي يلصقهما بالأذنين‏,‏ متي يعلو صوته ويهبط‏,‏ كيف يفيد من آخر قراراته‏,‏ يلجأ إلي التعبير بالإيماءات والإشارات وحركات اليدين وتعبيرات الوجه المصاحبة للأداء‏,‏ يتغني بالصبابة والوجد والشوق إلي الوصال‏,‏ وإن أخذ العقبي علي الشيخ ـ بينه وبين نفسه ـ أنه ينشد ما يوضع في فمه‏,‏ لا يتأمل الكلمات‏,‏ ولا يتدبر معانيها‏,‏ لا يشغله حتي نوعيات المستمعين‏,‏ وتأثيرها‏,‏ وهل يحسنون الفهم‏,‏ أو أنهم يكتفون بسماع ألحان تمتدح الرسول‏.‏
عهد إليه الشيخ ـ في البداية ـ بدور المجاوبة الغنائية‏,‏ أقرب إلي المبلغ في صلاة الجماعة‏.‏
طالت رفقته للشيخ حتي شال عنه كل ما يرويه‏,‏ يعيد ما يستمع إليه‏,‏ يلجأ إلي الارتجال والتأليف والتوليف والصنعة‏,‏ ينظم الأبيات لحظة نطقها‏,‏ يستغني عن الحفظ إلا في المعاني‏,‏ يضيف ما يمليه خياله وموهبته‏.‏ ربما علا صوته بما لم يكن له أصل‏,‏ ولا استند إلي وقائع حقيقية‏.‏
حين طلب منه الشيخ أن ينشد معه جزءا من الأداء‏,‏ حاول أن يبدع بما يقارب أداء الشيخ‏,‏ أو يفوقه‏,‏ يتأمل انعكاس أدائه في أعين الناس‏,‏ يفرق بين مريدي الشيخ وبين من قدموا للاستماع‏.‏
هؤلاء هم الجمهور الذي يبحث عنه‏,‏ وعليه إعداده حين ينشد ـ منفردا ـ في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏.‏
يستجيب للأصوات الرافضة‏,‏ والمعترضة‏,‏ والتي تعلو بالملاحظات‏.‏ يوقف النغمة‏,‏ يستبدل بها نغمة‏,‏ ونغمات‏,‏ أخري‏,‏ يتأمل صداها في أعين الناس‏,‏ وإيقاع تصفيقهم‏,‏ يتبين ـ بنظرة متفحصة ـ استجابات الناس‏,‏ ما بين طالب للإعادة أو الاستزادة‏,‏ ورافض‏,‏ يظل علي النغمة التي اختارها لإنشاده‏,‏ أو يبدلها‏,‏ يسند خده الي يده‏,‏ يغمض عينيه‏,‏ يعلو صوته بآخر طبقاته‏.‏
قبل ان يقتصر علي نفسه‏,‏ كان قد أنشد في كل الموالد‏,‏ ليس في بحري وحده‏,‏ وإنما في الاسكندرية والمدن الأخري‏,‏ موالد الشاذلي والدسوقي وأبو حجاج الاقصري‏,‏ والمولد الأحمدي‏,‏ وموالد الطاهرين من آل البيت‏:‏ السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة وزين العابدين وفاطمة النبوية والسيدة عائشة‏.‏
ردد قصائد أبو عبية في البداية‏,‏ ثم تحول الي قصائد‏,‏ ضفر أبياتها من قصائد مختلفة‏,‏ مزج بين اسلوب الشيخ في الآداء‏,‏ وبين أساليب تعرف إليها في إنصاته لشيوخ آخرين‏.‏ لم يتردد في الحذف والإضافة والتوشية‏,‏ وإن لم ينسب النبع الي نفسه‏,‏ ما فعله انه استوحي‏,‏ وألف‏,‏ ولحن‏,‏ اداؤه يكفل له توالي الموجات في بحر الإنشاد‏.‏
لم يقصر ما يقول علي ما أخذه من الشيخ‏,‏ ومن المشايخ الآخرين‏,‏ عني بزيادة حصيلته من النصوص‏,‏ بما يشمل كل الأغراض‏,‏ وما يتفق مع أذواق الناس‏,‏ وما يريدون سماعه‏.‏
اختار ما لم يسبق إنشاده في الموالد والليالي وحضرات الساحة‏,‏ تنقل بين المقامات‏,‏ زاوج بينها وزاوج بين إيقاعات النغم الشرقي والنغم الشعبي‏,‏ أدخل الالات الموسيقية حتي ما لم يستخدمه الشيخ أبو عبية‏,‏ الكمان والناس والقانون والاكورديون‏,‏ قدم من التوحيد‏,‏ والمديح‏,‏ والتوسل‏,‏ والأوراد‏,‏ والأحزاب‏,‏ ما لم نكن قرأناه ولا استمعنا اليه من قبل‏,‏ وأنشد قصص الكرامات‏,‏ وقصائد ابن الفارض وابن عربي‏,‏ ترافقه آلات الطرب من الناي والربابة والعيدان والدف والطنابير‏.‏
امتد إنشاده إلي المدائح النبوية والابتهالات والتسابيح والتواشيح والأذكار والتخمير والقصائد والأدوار‏,‏ ورواية معجزات النبي والرسل ومناقب الأولياء‏,‏ أنشد للجيلي والجيلاني وابن عربي والحلاج والغوث وابن الفارض وعلي محمود‏.‏
فن الإنشاد له أصوله‏,‏ وقواعده‏,‏ وقوالبه‏,‏ وإيقاعاته‏,‏ حفظ ما لم يكن يعرفه بقية المنشدين‏:‏ المدد‏,‏ التوسلات‏,‏ الأغنيات الشعبية‏.‏
حتي ما لم يعبر عن العقيدة الدينية‏,‏ حتي الأدوار المحملة بالايحاءات والإرشادات الجنسية‏.‏ يحرض من في ساحة الحضرة أن يرددوا الإنشاد وراءه‏,‏ يتحولوا إلي سنيدة ومذهبجية‏.‏
ربما التقط الناي أو المزمار من الطاولة الصغيرة أمامه‏,‏ يصل الأداء الصوتي بفقرات موسيقية‏,‏ فرشة تسبق الإنشاد‏.‏ ادخل علي الألحان ايقاعات غائبة المصدر‏,‏ ليست الايقاعات التي اعتدنا سماعها‏.‏ غير في النصوص كلمة‏,‏ وكلمات‏,‏ ثم حذف‏,‏ وأضاف‏,‏ وبدل‏.‏ يعتمد علي البديهة‏,‏ والقدرة علي الارتجال‏,‏ يضمن إنشاده أسماء رءوس العائلات في القري والأحياء التي تستقبله‏,‏ ينوع في الألحان والإيقاعات والأداء الصوتي‏,‏ يخضع ما ينشده للمعاني التي يريد توصيلها‏.‏ يمد الحروف‏,‏ يطيلها‏,‏ يقصرها‏,‏ ينغم الأبيات‏,‏ يحسن الوقفات‏,‏ والسكنات‏,‏ والترقيق والتفخيم‏.‏ قد يهمل العديد من الأبيات لنبوها عن سياق المعني‏,‏ ربما نوع بين نص وغيره من النصوص‏,‏ ليبلغ هدفه‏.‏
حرص أن يوضح في النصوص ما يبدو غامضا‏,‏ أو يقدم المعاني التي يشغله توصيلها‏,‏ هي غير موجودة في النصوص‏,‏ أو متوارية‏.‏ يوائم بين أذواق الناس‏,‏ يختار لكل جماعة ما يروقها‏:‏ الحب الإلهي والنبوة ومديح الرسول وآل البيت‏,‏ التغني بمناقب أولياء الله‏,‏ ومكاشفاتهم‏,‏ وحوادثهم‏,‏ وخوارق أفعالهم‏,‏ التوسلات ونداءات النصفة والمدد‏,‏ فراق الأحباب والحنين إلي موطن الميلاد والطفولة والنشأة‏.‏
لم يعد يجد حرجا في الإنشاد‏,‏ في حضور الشيخ أبو عبية‏.‏
طريقة الرجل مذهبه‏,‏ ولم يشر العقبي إلي طريقته‏,‏ فغاب المذهب الذي كان يؤمن بتعاليمه‏,‏ وما يدعو إليه‏.‏
جعل لنفسه مجموعة‏,‏ يحيطون به‏,‏ يرافقونه إلي الأماكن التي ينشد فيها‏,‏ الساحات والقاعات الواسعة والسرادقات‏,‏ يرددون ما ينشده‏,‏ تعلو أصواتهم بعبارات الاستحسان والثناء‏,‏ تصفق أيديهم بالإيقاع المصاحب للكلمات‏,‏ الدور نفسه الذي طال قيامه به في صحبة الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ حتي اذن الله فاستقل بنفسه‏.‏
حاول أن يضمن إنشاده آراء وانتقادات وما ينفع الناس‏,‏ يستشهد بسيرة الرسول‏,‏ وسير الأنبياء‏,‏ وقصص آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين‏,‏ تمازجها الكناية والتورية والإضمار‏.‏
لم يتحدث عن تأليف طريقة صوفية‏,‏ وإن زاد عدد المعجبين بصوته‏,‏ فصاروا كالمريدين في حضرات شيوخ الطرق‏,‏ حفلت الساحات بمواكبهم‏,‏ انتشروا في الشوارع الرئيسية والجانبية‏.‏ حتي الساحة الحجرية أمام قلعة قايتباي‏,‏ صنعوا فيها حلقة‏,‏ نشروا الزينات والبيارق والرايات الملونة‏,‏ وتعالت أصواتهم بما حفظوه من الكلمات التي نحسن فهم معانيها‏.‏
جاوز بقصائده جلسات الخواص وحلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق‏,‏ إلي الموالد والسرادقات التي يفد إليها آلاف العوام واللقاءات المفتوحة‏.‏
أرخي العذبة من العمامة الهائلة المستقرة فوق رأسه‏,‏ أهمل شعره‏,‏ فلم يقصه حتي انسدل علي كتفيه‏,‏ يضفي علي هيئته مهابة بالنظرات النافذة‏,‏ واللحية التي أحسن تهذيبها‏,‏ والجلبات الصوف‏,‏ والشال الملتمع حول عنقه‏.‏
جعل العقبي من بيت ذي طابقين‏,‏ يطل علي ناحية خليج الأنفوشي‏,‏ سكنا له‏,‏ يعكف فيه علي العبادة والمراجعة وحفظ الجديد من الإنشاد‏,‏ فلا يداخل نفوس الناس بالمتكرر‏,‏ وما يبعث الأمل‏,‏ يستقبل محبي صوته‏,‏ لا شأن له بوعظ ولا إرشاد‏.‏ ظل علي حاله منشدا‏,‏ يؤدي المدائح والأدوار والأغنيات‏.‏
لجأ إلي الوسائط التي لم يستخدمها جابر أبوعبية‏,‏ ولا أي من المنشدين الآخرين كشريط الكاسيت والأسطوانة الرقمية‏,‏ أضاف إلي إنشاده ما حفظه من الشيخ أبو عبية‏,‏ وإن لم ينسبه إلي نفسه‏,‏ لم ينزع نفسه عن الطريقة الشاذلية التي مثل أبو عبية حلقة في سلسلة منشديها‏,‏ كل الإنشاد يصدر عن العقبي‏,‏ وله حسن الجزاء والمثوبة‏.‏
طال صمت الشيخ دون أن تبدو في تصرفاته نية الرفض‏.‏
روي أنه دعا أفراد فرقته لتدبر ما جري‏:‏
ــ إذا ظل الناس علي سماعهم للعقبي‏,‏ فستكون النتيجة خراب بيوتنا‏!‏
توزع أفراد الفرقة‏,‏ ومن يتبعونهم‏,‏ في القري والأحياء والأسواق والخلاء وداخل الميناء وعلي الشاطئ‏,‏ حتي ورش القزق دخلوها‏,‏ ودخلوا البيوت والسرادقات والموالد‏,‏ زاروا الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة‏,‏ ترددوا علي الساحات والمقاهي وحلقة السمك‏,‏ همسوا بالملاحظات والتحذيرات والتوقعات والخوف من ضياع البركة‏.‏
عرف الناس أن رفض أبوعبية زيارة العقبي في بيته لأنه أساء إلي الإنشاد‏,‏ وشوش أفكار الجماعة‏,‏ أضاف‏,‏ وحذف‏,‏ وبدل‏,‏ بما خرج بالكلمات عن الطريقة الشاذلية‏,‏ وعن أصول المهنة‏,‏ واجتث جذورها‏.‏
شاغل أفراد الفرق ومن يقودونهم‏,‏ أن يقبل الناس علي الصلاة في مواعيدها‏,‏ يسبقونها ويلحقونها بركعات السنة‏,‏ وبالنوافل‏,‏ يجلسون في حلقات الوعظ والإرشاد الديني‏,‏ وقعدات الصوفية‏,‏ وقراءة القرآن وتجويده‏,‏ ينتظمون في حلقات الذكر‏.‏ ثم يمضون إلي سرادقات منشدي الشاذلية‏,‏ وقصائدهم‏,‏ وحكاياتهم‏.‏
ترك جماعة أبو عبية للناس أمر الخلاص من المعاناة‏,‏ أن يتخلصوا من العقبي بطريقتهم‏,‏ اعتبار ما كان كأنه لم يكن‏,‏ وإعادة الأمر إلي صورته الأولي‏.‏
ينشد الشيخ جابر أبوعبية مدائحه المتفردة في سرادقات بحري‏,‏ ظله مساجد الحي وشفاعات أولياء الحي ومددهم‏,‏ تطلعه إلي الذات الإلهية بالتوسل والرجاء‏,‏ صورة الانشاد الديني كما اعتادها الناس‏.‏
.................................................. ..
*الأهرام ـ في 18/9/2009م

د. حسين علي محمد
11/11/2009, 09:00 AM
من المحرر:
المكتبات الخاصة

بقلم: محمد جبريل
....................

السؤال الذي كان يشغلني - عندما كنت أتردد. بصورة يومية. أعوام الستينيات - علي سور الأزبكية. بحثا عن مصادر ومراجع لكتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين": لمن يهدي أصحاب المكتبات الخاصة مكتباتهم؟
باعث السؤال ما كنت أعثر عليه من كتب مهمة مهداة من مؤلفين ذوي مكانة لقراء يحظون بمكانة مماثلة. كيف انتقلت الكتب من نظام أرفف المكتبات الخاصة. إلي فوضي مكتبات الأزبكية.. والثمن - في الأغلب - من خمسة قروش إلي جنيه. باعتبار الوقت الذي أتحدث عنه!
أفردت للشاعر الراحل عبدالله أبورواش فصلاً في روايتي "أهل البحر". أشرت فيه إلي المصير المؤلم الذي آلت إليه مكتبته - وكانت مكتبة هائلة. أنفق عليها معظم دخله - فقد باعتها ابنته لباعة الروبابكيا.
تبينت - فيما بعد - أن روايتي لم تكن صحيحة. قال لي الصديق الناقد محمد رضوان إن الابنة حملت كل الكتب - بعد أيام العزاء الثلاثة - وأتاحتها لمن يريد في شارع الزواوي. حيث كان يقيم أبورواش. اعتبرت المكتبة مجرد زبالة. لا تحتاج إلي أن تقذف بها في الطريق!
الأمر نفسه واجهته مكتبة الصديق الأديب الكبير الراحل محمد صدقي. ألغي وحيده كل ما يتصل بحياة أبيه الأدبية. الكتب والأوراق. حتي مذكراته الشخصية التي تمني أن تنشر بعد رحيله. تكفل الابن الغالي بتبديدها!
وإذا كان المثل يقول إن الكتاب الذي يهدي لا يقرأ. فإني أتصور أن الكتاب الذي يهدي يباع في الأزبكية. وبخاصة لأن في مكتبتي الآن كتباً كثيرة من مكتبات خاصة علي أصحابها بنسبتها إليهم. سواء بالخط العادي المنمق. أوبكليشيه يتناثر في صفحات الكتب تأكيداً للملكية. وعرفت من باعة السوق أن هذه المكتبات بعض الميراث الذي تخلص منه الورثة ببيعه لسوق الأزبكية!
أذكر أن ورثة عدد من كبار مثقفينا حاولوا أن يجنبوا مكتباتهم مصير التلاشي. فأهدوها إلي مكتبات عامة في جامعات أو مؤسسات ثقافية. ذلك ما فعلته - علي سبيل المثال - أرملة الراحل العظيم محمد عبدالله عنان. أهم من أرخ للأندلس. تبرعت بمكتبته النادرة لإحدي كلياتنا. وضعت الكتب في 18 صندوقا. وفي أثناء عملية النقل من بيت عنان إلي الكلية. نقص عدد الصناديق إلي أقل من عشرة!
المساحة تضيق عن أمثلة أخري. كثيرة.. لكن السؤال يظل قائماً: كيف يطمئن أصحاب المكتبات الخاصة إلي مصير مكتباتهم؟ هل يقذف بها الورثة إلي الطريق. أو يهدونها لجهات. يتصور القائمون عليها أنها أصبحت ملكية خاصة لهم؟!
هامش:
سئل أو. هنري وهو يجلس في مطعم: من أين تستمد أفكار إبداعك؟
قال: من كل مكان. أنت دائماً تحصل علي فكرة قصة "وحرك قائمة الطعام في يده" هذه القائمة: تستطيع أن تستنطق حروفها الخرساء فكرة قصة!
......................................
*المساء ـ في 31/10/2009م.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:25 PM
كتب مهداة.. للبيع!

بقلم: محمد جبريل
.....................

طالعنا الصديق الشاعر شعبان يوسف في قناة دريم بقضية مثيرة حول الكتب المهداة إلي كبار الأدباء والنقاد.. ووجدت طريقها إلي باعة الكتب القديمة.
كلام شعبان يوسف يحمل اتهاماً للأدباء الذين أهديت إليهم. أنهم تنازلوا عنها - بمقابل طبعاً - لباعة الأزبكية. بدلاً من أن يحتفظوا بها في مكتباتهم.
ظني أن طرافة القضية هي التي أملت علي شعبان يوسف كلماته. فهو يشرف علي ندوة حققت مكانة متفوقة بين ندواتنا الأدبية. وطبيعي أن يهدي إليه صاحب كل مؤلف يريد مناقشته. نسخة مما كتب. فضلاً عن النقاد الذين يرشحهم لمناقشته. طبيعي أيضاً أن تزيد الكتب التي يحصل عليها شعبان يوسف. فيضيق بها بيته. بحيث لابد أنه فكر في وسيلة لتخزينها. أو التخلص منها.. بعد قراءتها بالطبع.
هذه المشكلة عاني الكثيرون نتائجها السلبية. وبخاصة هؤلاء الذين يحصلون علي الكثير مما تصدره المطابع. لمناقشته. أو للتنويه عنه في أقل تقدير. الأرفف المتجاورة تتحول إلي تلال. تجعل الحياة في الشقة متعذرة. فتصبح مثل السفينة التي ينبغي التخلص من بعض ما بها لتواصل الإبحار.
صديقي الدكتور عبدالمنعم تليمة أراد أن يفيد تلاميذه من الكتب المهداة. قرأها وضاق بها المكان. فصفها قرب باب الشقة ليأخذ منها الأصدقاء ما يلبي احتياجاتهم المعرفية. وللأسف تعددت شكاوي الأصدقاء من أن الكتب انتقلت إلي سوق الأزبكية.
فضلت شخصياً أن أهدي بعض ما في مكتبتي إلي أصدقاء من الأدباء الشباب. قرأتها فلا بأس من أن يقرأها الآخرون. وفي مكتبتي الكثير من الكتب حصلت عليها من لويس عوض ويحيي حقي ونجيب محفوظ. تنازلوا عنها بطيب خاطر كي أفيد منها. لم يتصوروا أني سأبيعها! لكن المفاجأة أن العديد من أصدقائي وجدوا ما أهديته من كتب عند باعة الكتب القديمة. عابوا تصرفي. وخاصمتني الشاعرة المبدعة نجاة علي لأني أهديت أول دواوينها إلي من لم تذكر اسمه. أملت عليه نفسه الشريرة قوله: إن فلاناً أعطاني هذا الديوان لتفاهته!
نظرتي إلي نجاة علي. وإلي إبداعها - في المقابل من ذلك المعني السخيف. لكن الشخص - الذي لا أعرفه - أراد أن يعبر عما في نفسه من الشر. فلفق كلاماً أو من بنقيضه تماماً!.
نجاة علي زميلة في ندوة المساء منذ بداياتها. وقدمت - من خلالها - عشرات المعطيات الجميلة. وهو ما وجد امتداداته في دواوينها التي تضعها في المقدمة بين شاعرات جيلها.
لمجاوزة هذا التصرف الإجرامي - هل لديك تسمية أخري؟ - فأنا أحرص الآن علي تمزيق صفحة الإهداء من كل كتاب أهداه لي صاحبه. أقرأه. وأحاول تعميم فائدته. فأهديه إلي صديق. بصرف النظر عن ثقتي في هذا الصديق من عدمه. ألم يحدثنا المثل عن أولاد الحرام الذين لم يتركوا شيئاً لأولاد الحلال؟!
يا صديقي شعبان يوسف. ما يعانيه الكتاب علي أيدي بعض السخفاء. لا يغيب عنك. لكن طرافة القضية استهوتك - فيما يبدو - فكانت هذه الفضيحة بجلاجل التي أساءت - بحسن نية - إلي رموز مهمة في حياتنا الثقافية. ذكرتهم بالاسم وكان الشكر هو ما يجب أن ترفعه إلي مقامهم السامي.
......................................
*المساء ـ في 3/4/2010م.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:26 PM
الدين .. والشخصية المصرية

بقلم: محمد جبريل
.....................

الثابت - تاريخياً - أن الشعور القومي لمصر أي الشعور بالانتماء الوثيق إلي هذا الوطن ذي المقومات المعروفة المحددة بكل أبعاد هذا الانتماء ظل ممتزجاً امتزاجاً قوياً بالشعور الديني أي بالانتماء إلي دار الإسلام الواسعة بكل ما يفرضه هذا الانتماء من التزامات وهو انتماء بمعني المواطنة دون أن يفرق بين مسلم وقبطي عاني المصريون حكم العثمانيين علي امتداد أربعة قرون ولم يخرجوا عليهم بثورات جماعية لا لتقاعس ولا لغياب إرادة المقاومة وإنما لأن مصر كانت جزءاً من الدولة العثمانية وفي المقابل فقد تلاحقت ثورات المصريين - لاعتبارات معلنة! - ضد الاحتلال الفرنسي ثم الاحتلال الانجليزي.
أنت تجد الدين في كل مكان في الأذان الذي يصلك - في مواعيد الصلوات الخمس - في أي مكان تصادف وجودك فيه مدينة أو قرية أو حتي الصحراء في الآيات القرآنية والتعبيرات المأخوذة من الكتاب المقدس والدعوات الملصقة في وسائل المواصلات بدءاً بالسيارة الملاكي وانتهاء بالعربة الكارو في المصحف الذي يتصدر واجهات المحال والمكاتب والسيارات الأمر نفسه بالنسبة لصور العذراء وفي بدء الحديث أو الكتابة أو المشوار باسم الله الرحمن الرحيم.
ولجوء الإنسان المصري إلي الله بالقسم وبالدعاء وبالاتكال علي الله والإيمان بالغيب وبالأمل في حل ما يطرأ علي حياته من مشكلات.. هذا اللجوء يعكس عجز الإنسان المصري عن مواجهة ما لا قبل له بمواجهته فهو يرجع إلي الله كل تلك المشكلات هو العليم الخبير ومالك القدرة علي تحقيق النصفة.
واللافت أن الكثير من الأمثال ذات مصدر ديني مثل: اسع يا عبد وأنا أسعي معاك ملك منظمة سيدة اللي يجيبه ربنا كويس. كلنا ولاد آدم وحوا. الخيرة فيما اختاره الله. دع الملك للمالك. ربنا بيرزق الدودة في الحجر. ربنا خلق الدنيا في سبع تيام. ربنا عرفوه بالعقل. ربنا يطعمه خيرهم ويكفيه شرهم. شفاعة النبي تبلع الذنوب. الشكوي لغير الله مذلة. شربة الميه للعطشان تتحسب بقيراط في الجنة. الشيطان شاطر. عين المؤمن تشرف قبة السلطان.
مع ذلك فإن السماحة في مقدمة السمات الأصلية التي تميز الشخصية المصرية وهي سمة حضارية تستمد مقوماتها من الديانات التي اعتنقها الشعب المصري في امتداد تاريخه وأذكر أنه كان من بين جيراننا في شارع إسماعيل صبري بحي بحري بالاسكندرية: أسر قبطية. وأسرة يهودية وكان الصغار يلعبون في الشارع الخلفي أمام جامع سيدي علي تمراز. لا تشغلنا ديانة أي منا وإن كان المسلمون يترددون علي الجامع لأداء الصلاة أو لاستخدام دورة المياه أحياناً أما الأقباط فكانوا يتحدثون إلينا عن زيارات القساوسة إلي بيوتهم والصلاة التي تقيمها الكنيسة المرقسية صباح كل أحد.
يتصل بظاهرة الاستغراق الديني ظاهرة أخري مناقضة هي ظاهرة الانفصام الديني التي تعد في مقدمة سلبيات الشخصية بذلك الانفصام ما تنسحب عليه التسمية في أمور حياتنا نحن نرفع الشعارات ونمارس نقيضها نتحدث عن النظام ونتصرف في فوضي وعن العدالة ونمارس التفرقة وعن رفض الفساد والشللية والمحسوبيات ونغض الطرف عن ذلك كله ربما مسايرة لمقولة جحا الشهيرة عن العيب الذي لا يشغله مادام بعيداً عن بيته!
من المهم أن نمارس ما نؤمن به. ما نعلنه. وندعو الأخرين إلي ضرورة تطبيقه.
..................................
*المساء ـ في 20/3/2010م.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:27 PM
الواقــع .. والخيال (1 ـ 2)

بقلم: محمد جبريل
.....................

" الخيال .. ياله من شئ عجيب "
بركن فى رواية " الطريق الملكى " لمالرو
" إن أعظم مايمتلكه الإنسان هو الخيال "
بورخس

تعد مشكلة الفن والواقع قديمة متجددة ، سبق إلى تناولها ليسنج وديدرو وبيلينسكى وغيرهم ، وما تزال تجد اهتماماً لافتاً عند النقاد المعاصرين ..
يجيب جيورجى جاتشيف على السؤال : ما الفن ؟ أهو تفكير فنى ، أو معرفة ، أم هو نشاط وإنتاج ؟.. يجيب بالقول : " إن جوهر المسألة كلها يكمن فى أن الفن يحوى فى ذاته هذين الشكلين من أشكال الوجود الإنسانى فى وقت واحد ، ولكن من البديهى أن الفن ـ فى مختلف مراحل تطوره ، وفى شتى أنواعه وأجناسه ـ يعطى المقام الأول لجانبه التربوى التغييرى تارة ، ولجانبه المعرفى الانعكاسى تارة أخرى " .. الفن يقدم للناس مرآة يستطيعون بواسطتها أن يروا أنفسهم فى الآخرين ، والآخرين فى أنفسهم ( ت . نوفل نيوف ) . ويقول أرنولد كيتل : " إن لب أية رواية هو ما تقوله عن الحياة " ، أو أنه " خلاصة رؤيته لما يحاول معالجته من الحياة " ( ت . لطيفة عاشور )
مع أن الفن ـ على حد تعبير جاتشيف ـ لا يحتاج للاعتراف بمواده على أنها واقع ، فإن القارئ ـ فى العمل الإبداعى ـ يتوقع صورة للحياة ، أن يكون العمل مطابقاً للواقع ، والمبدع ـ فى المقابل ـ مطالب بأن يهب القارئ ما يمكن تسميته بالإيهام بالواقع . وكما يقول الأسبانى ثونثو نيغى فلكى تكون روائياً ، فإن عليك امتلاك القدرة على التخيل " . ويضيف كونراد إن حرية الخيال يجب أن تكون أقرب ما يملكه الفنان إلى نفسه . واللافت أن جائزة بلانتيا الأسبانية تعنى بالجانب الخيالى فى الإبداع ..
إن الصدق الفنى لا يعنى النقل من الواقع ، فالخيال يضيف ويحذف ويقتطع ويشوه ، ليهبنا فى النهاية ما وراء الحقائق الظاهرة . الإبداع يهبنا الواقع ، لكنه ـ بقدر تميزه ـ يشعرنا أن ما قرأناه هو الواقع . وبتعبير آخر ، فإن الإبداع يضاهى الواقع ، وإن لم يكن هو الواقع . عناصر الخيال ليست ـ بالتأكيد ـ عناصر الواقع ، وعالم الفن ـ مهما يسرف فى استلهام الواقع ـ ينتمى ـ فى الدرجة الأولى ـ إلى الخيال . ثمة فارق بين الحقيقى فى الحياة ، والحقيقى فى الأدب . الكتابة لا تنقل الواقع بحذافيره ، بقدر ما تنقل اختيارها ، القسمات والملامح والأماكن والشخصيات والأحداث التى تجسد العمل الإبداعى وتثريه وتضيف عليه ، واقعها الخاص بها . الواقع الحياتى تصنعه الأقدار ، أو المصادفة . أما الواقع الفنى فهو ينتقى ويختار ما يتطلبه العمل الإبداعى ، دون زيادات ولا نتوءات ولا إضافة غير مبررة ، أو حذف غير مبرر . العمل الأدبى ليس هو الواقع ، ليس تقليداً ولا محاكاة للواقع ، وإنما هو إعادة صياغة للواقع ، وبتعبير أشد تحديداً هو خلق واقع جديد . أوافق جمال الدين بن الشيخ على أن " الواقعية لا تعنى أن يحاكى أثر أدبى ما ، الواقعى ، بل تعنى أن يصيّره " ( ت : محمد برادة وآخرين ) . الفنان الفنان هو الذى يستطيع تحويل الأشياء العادية ، الأحداث اليومية التافهة ، المشاهد التى نعبرها ، الثرثرات الحياتية البسيطة .. الفنان الفنان هو الذى يستطيع أن يخلق من ذلك كله إبداعاً حقيقياً . الفنان الفنان هو الذى يعتمد على موهبته ، وليس على المادة التى يطوعّها لعمله الإبداعى ، هو الذى يحيل الواقعة التافهة عملاً ينبض بالحيوية والفنية العالية . الفنان الفنان هو الذى يلتقط أية مادة ـ مهما تكن تافهة ـ فيحيلها إبداعاً يستحق القراءة ..
مع ذلك ، فإنى أرفض أن يعتمد الفنان على موهبته ليغطى مادة تافهة . وكما يقول جوجول " كلما كان الشئ عاديا ، تطلّب من الكاتب موهبة أكبر ليستخرج منه غير العادى . أما باتوه Batteux [ 1713 ـ 1780 ] فهو يذهب إلى أن ما يجب محاكاته ليس حقيقة ما هو موجود ، بل حقيقة ما يمكن أن يوجد . أذكر أيضاً قول موريس باريس إن الفن هو " أن تنصت إلى ذاتك ، وأن تعبر بالتصوير ، أو القلم ، أو الموسيقا ، عما يضوع فى أعماقك . أما القديم والجديد فلا أدرى ماذا يعنيان " ..
***
قيمة الخيال أنه حر . يحلق ، ويهبط ، ويسير ، ويقيم العلاقات ، ويصادق الإنس والجان والحيوان والطير ومخلوقات البحر ، ويتحدى المستحيل . إن حركته بلا آفاق ، بلا سدود من أى نوع . ما يبدو مناقضاً للواقع هو فى الخيال غير ذلك . هو واقع يتقبله المتلقى ، ويتفاعل معه ، ويحاوره ، ويستكنه منه الدلالات . بل إن التكنولوجيا ـ مهما تتقدم معطياتها ـ لن تجعل من كل خيال حقيقة ، ولا جميع أشكال اليوتوبيا ممكنة الحدوث . معنى ذلك ـ كما يقول الأسبانى كونكيرو ـ أن العالم سيوصد أمام صوت الخيال ، مما يفقده إلهامه ، فيظل جاهلاً بسحر الأشياء . حتى أينشتاين يؤكد فى كلمات حاسمة إن الخيال أهم من العلم .
ظللت أحلم ـ وأتمنى ـ أن أكتب حكايات مشابهة لما كنت أستمع إليه من جدى وأمى ، ولا زلت أذكر معجزة الإسراء والمعراج كما قرأتها فى مجلة " الإسلام " التى كانت تضمها مكتبة أبى ، وأغنية أم كلثوم عن النيل ، من شعر شوقى وموسيقا السنباطى . كان الخيال يذهب بى إلى جزر بعيدة ، مأهولة بالسحر والفانتازيا والأسطورة . العفاريت والساحرات والجنيات والمعجزات والشياطين والنفوس التى تسعى لتبين عالم الغيب وطلاسم الآفاق التى تغلفها الضبابية . ولازلت أذكر حكايات جدى وأمى عن الرجل الذى " حمل " فى سمانة رجله ، والست ستنا اللى قصرها أعلى من قصرنا ، ومطالبتها بعنقود عنب لشفاء مريضنا الذى يعانى داء عضالاً ، وحكايات صندوق الدنيا المرافقة لتوالى الصور الثابتة .. ثم أطلقت العنان للخيال فى إمام آخر الزمان وما تلاها من إبداعات وظفت التراث ..
***
كان يقين أينشتين أن الخيال أهم من العلم ، ومن قبله قال فيكتور هوجو إن الخيال هو العبقرية . ويعتبر إنريكى أندرسون إمبرت الأدب " أحد أنماط الخيال الإبداعى " ( ت . على إبراهيم منوفى ) . وثمة من يعتبر الرواية " قصة خيالية ، نثرية ، ذات اتساع معين " . بل إن الأدب هو الخيال فى تقدير البعض ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية 9 ) . وكما يقول المفكر الأسبانى خوسيه أورتيجا جاسيت Jose OrtegaYgasset : " إننا مهما بذلنا من جهد مضن فى معرفة الواقع بشكل موضوعى . لم نفعل شيئاً إلاّ أننا تخيلناه " . ويقول ألفونسو رييس Alfonso Reyes : " الأمر هو خيال لغوى يعبر عنه خيال عقلى ، خيال فى خيال : ذلك هو الأدب " . لكن الأعمال التى أستلهمها من الخيال يصعب إلا أن أضمّنها وقائع من سيرتى الذاتية ، ومن خبرات الآخرين ، ومن العصر الذى أحياه . العالم الإبداعى ـ قصة أو رواية أو أجناس أدبية أخرى ـ فيه الكثير من الخيال ، والكثير من الواقع أيضاً . يصعب أن يكون العمل الإبداعى خيالاً مطلقاً ، ويصعب كذلك أن يكون واقعاً مطلقاً . قد يتغلب الخيال ، أو يكتفى الفنان برصد الواقع . لكن الخيال يتدخل بصورة وبأخرى ، ربما لاعتبارات الفن فى ذاتها . ولعلى أضيف أن النظر إلى السيرة الذاتية باعتبارها كذلك ، لا يخلو من مثالية ، فالخيال قد يكون واضحاً ، أو مستتراً ، لكنه هناك ، وهو موجود فى كل الأحوال . وعلى حد تعبير همنجواى فإنه من الطبيعى أن يكون أفضل الكتاب كذابين ، جزء كبير من حرفتهم أن يكذبوا ، أن يخترعوا . إنه كثيراً ما يكذبون دون وعى ، ثم ـ فيما بعد ـ يتذكرون كذبهم بندم شديد . لكن الخطأ ـ فى تقديرى ـ فى تصور أن الخطأ هو الزيف ، أو الاختلاق ، أو انعدام الحقيقة ..
العمل الأدبى عمل محاكاة بالمعنى الموسع . إنه يحاكى فعلاً ، وأيضاً يحاكى موقعاً متخيلاً . عالم الخيال الأدبى ـ كما يقول إنريكى أندرسون ـ هو العالم الوحيد الذى يمكن أن نقول عن الراوى فيه إنه قادر على معرفة كل شئ " ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 80 ) . ويقول هنرى جيمس : " إن بيت العمل الخيالى ليس له نافذة واحدة ، بل مليون نافذة ، وعدد لا حصر له من النوافذ الممكنة " ( ت . حامد أبو احمد ) . يضيف كيتس : " إننى أشعر كل يوم أكثر فأكثر ، عندما يقوى خيالى ، أننى لا أعيش فى هذا العالم وحده ، وإنما فى ألوف من العوالم " . ويقول ميشيل فوكو : " إن العملية الإبداعية تولّد الخيال ، وترتبط به بطريقة مركّبة ، فهى تنتظر منه دعماً ودحضاً على السواء . إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة " ( محمد على الكردى : ألوان من النقد الفرنسى المعاصر ص 78 ) . وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتى ، فإن الأدب يجد إمكانيته فى التخييل ..
واذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء الى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة ، فإن دانتى وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة .
يقول بورخيس : " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال " . وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين ، الشعراء وكتاب المسرح والرواية والقصة القصيرة ، بأنهم " صانعو العوالم الخيالية من كل نوع ، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى للحياة والتجربة البشرية " . وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية . فضّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها ، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أى نوع . الفيلم السينمائى يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان ، من آفاق الحركة
الراوى العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه . من الصعب على الراوى أن يكون عليماً بكل شىء ، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه . فهو إذن لابد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها .
إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب ، لكنها تقول شيئاً عن الحياة ، فهى تكشف عن نمط أو مغزى معين فى الحياة . إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد فى المائة من الناس والأحداث حوله ، وهو لا يعى ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة ، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبر عما وعى وفهم ، وأحس بأكثر من واحد فى المائة ..
بديهى أن الخيال يبدأ من الواقع ، أو أن الواقع هو البداية فى أى عمل فنى . أختلف مع الرأى فى أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه ، وهو ما يذهب إليه وليم بليك فى قوله : " نحن نجد فى الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقى " العكس ـ فى تقديرى ـ صحيح . إن الواقع أشد واقعية من الفن ، مهما يخلص الفنان فى تصوير الواقع . وعلى حد تعبير أندريه موروا ، فإن أكثر شخصيات العمل الروائى تعقيداً ، هو ـ فى المحصلة النهائية ـ أقل تعقيداً من أبسط شخصية إنسانية .
الواقعية ليست نقلاً عن الواقع ، لكنها اختيار فنى من الواقع . يبدأ من الزاوية التى يلتقط منها الفنان " الكادر " ، قيمة الصورة الفوتوغرافية فى الانتخاب ، الاختيار ، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة ، الواقع ، وليس الخيال ، هو النبع الذى يستمد منه الفنان إبداعه ، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تماماً . يقول ماركيث : " ينبغى أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعاً ، فقدرنا ـ وربما مجدنا كذلك ـ هو أن نقلده بتواضع ، وبشكل أفضل ، فى إطار المتاح لنا " ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 145 ) . إحدى ميزات الرواية ـ والقول لروجر ب هينكل ـ إنها تتفوق على الحياة الحقيقية فى القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعى الناس الذين قد لا نجد سبيلاً آخر لفهمهم فهماً كاملاً . وإذا كانت مثالية ديستويفسكى ـ على حسب تعبيره ـ أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين ، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكى فى آن . أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث : " هناك شئ غالباً ما ننساه نحن الروائيين ، وهو أن الحقيقة ما تزال حتى الآن أبرع قالب أدبى " . المعنى نفسه ـ تقريباً ـ يذهب إليه ميشيل بوتور فى قوله : " إن الرواية تقرير علمى عن شئ أهم من مجرد الأدب . إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة " ..
إن الصدق فى التاريخ ، وفى العلم ، هو الصدق فى الواقع . أما الصدق الفنى فهو الصدق فى الإمكان ، بمعنى أن الصدق فى العمل الفنى هو انعكاس لما يمكن أن يحدث فى حياة الإنسان ، والصدق فى الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز فى العواطف الإنسانية ، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات . بل إنه ليس كل ما يجرى فى الواقع يحتمله العمل الفنى ، أو يبدو صادقاً فى مرآته . أذكّر بقول سومرست موم : " إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة ، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه . ملامح معينة استرعت انتباهه ، أو عبارة أثارت خياله ، فهو يبدأ من ثم فى تشكيل شخصيته ـ أو شخصياته ـ دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة ، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة ، محتملة الوجود ، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة . وكما يقول هنرى جيمس ، فإن العمل الفنى وحدة مترابطة حية ، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب . إنها شئ حى ، متكامل ، متصل ، مثل أى كائن حى ، وبالقدر الذى تكون حية ، بالقدر الذى نجد فى أى جزء من أجزائها شيئاً من كل الأجزاء الأخرى " .
أوافق أرسطو أن المحتمل فى الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالاً فى السياق الفنى من الواقع نفسه ، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال . مع ذلك فإنى أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة ، الواقع ، يموتون ـ أحياناً ـ فجأة ، ربما بلا تبرير ، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها . أما أبطال الفن فإن وفاتهم لابد أن تكون خيوطاً فى نسيج العمل ككل ، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة ، وإلاّ تقوض العمل من أساسه ، وفقد استمراره وتواصله ، وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية بداية ونهاية بوفاة العائل ، فقد يرفض الواقع الفنى وفاة الأب لو أنه مات فى تنامى الرواية . حتى بطل قصة تشيكوف العطسة القاتلة لم يمت فجأة . ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك : " إننا نجد فى الخيال حياة حقيقية ، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقى " فبماذا نفسر رفض المتلقى تقبل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وضع الحبل فى العنق فعلاً ، مع أن الواقعة ـ بنصها وفصها ـ حدثت فى الحياة المعاشة ؟! . أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن حب وإعدام الذى رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة فى اللحظة الأخيرة ، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه ، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة ، وكان بطلها مواطناً من شبرا ، استشكل محاميه ـ واسمه ، فيما أذكر ، فاروق صادق ـ وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم ، وهو ما أفلح فيه المحامى قبل أن يجذب عشماوى يد المشنقة !؟
الواقع فى العمل الإبداعى ليس إلاّ واقعاً افتراضياً ، واقعاً نتصور حدوثه ، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل . من هنا يأتى تحفظى على قول الأسبانى خوان مارسيه " يهمنى الواقع قليلاً ، وعلى نحو نسبى . أهدف إلى واقع متقن الصنع . إننى لا أستنكر نظرية ستندال فى الرواية ، لكننى لست مستنسخاً للحكايات . إننى أخلقها . أعشق الحقيقة المخترعة " ( الرواية الأسبانية المعاصرة ص 218 ) .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:29 PM
الواقــع .. والخيال (2 ـ 2)

بقلم: محمد جبريل
.....................

يقول ماركيث : " لا يوجد فى رواياتى سطر واحد ليس له أساس من الواقع " ( فى الواقعية السحرية ص 146 ) ، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته ، لا ينقله كما هو ، وإنما هو ـ على حد تعبير توفيق الحكيم ـ يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع . الواقع يخلو من البنية الفنية ، ولكى تتشكل تلك البنية ، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية . وكما يقول لوكاش : " العمل الإبداعى ليس الواقع نفسه ، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه . الإبداع لا يقوحين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات : " عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه ، بعد أحلام مزعجة ، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة " ، قرر ماركيث أن يصبح كاتباً .
للعمل الإبداعى منطقه الخاص الذى يختلف عن منطق الواقع . إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقاً . يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعى . ما يهمنى هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة ، زمن الرواية لا زمن الحياة ، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التى يفرزها الواقع . الفن ـ على حد تعبير تشارلس مورجان ـ ليس دواء لشفاء عصر ما ، لكنه نبأ عن الواقع ، متمثلاً فى رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة .. والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتى بغير منطقه ، منطق الفن نفسه . هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ـ والقول لكونديرا ـ خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، لمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ص 241 ) . وبالنسبة لى فأنا لا أنقل الشخصية كما هى فى الواقع ، وإنما أحذف منها ، وأضيف إليها ، وأدمجها ـ أحياناً ـ فى شخصيات أخرى ، بحيث تتخلق الشخصية الفنية . وقد أوزع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة . يغيظنى من يتصور أن الشخصية الروائية ـ أو فلنقل القصصية ـ هى شخصية المبدع نفسه . قد يكون فى الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع ، لكنها تظل شخصية روائية ، شخصية فنية ، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة ، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه . أذكر بعد أن قرأ ابن عم لى قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون اتصل بى محتجاً : كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة ؟.. والصورة التى احتج عليها ابن العم هى الأب الذى يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول . وبالطبع ، فلم تكن شخصية الأب فى القصة تقترب من شخصية أبى فى قليل ولا كثير ، لكنها شخصية قصصية ، فنية ، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية ، وتأخذ من الخيال أيضاً ! من هنا ، يأتى تحفظى على قول إنريكى أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيل ، وأنها تعرض حدثاً لم يقع أبداً ، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية ، وإن ركزت بصفة أساسية على البعد الجمالى أكثر من الحقيقة ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 6 ) .

***
كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أى حظ من الخيال ، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل ، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أياً من المظاهر الفنية التى أغدق بها على غيرهم من الشعوب ، كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال ، وهو ما يراه أيضاً أحمد أمين ، وإن قصر رأيه على البدو . ثمة رأى ـ فى المقابل ـ يرى فى رسالة الغفران وحى ابن يقظان إطلاقاً للخيال فى آماد بعيدة ، وأن " ألف ليلة وليلة عكس كل الأحكام التى قيلت عن العقلية العربية ، فهى تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفنى الكامل ، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلق ، وعلى إعادة الخلق من جديد " . وكان حرص الراوى فى حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه ـ الحكايات ـ موصولاً بسماع المتلقين ، ومتابعتهم له ، دافعاً لأن يلجأ إلى الخيال ، يضفّر منه وقائع وأحداث وأصناف من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيلة والجماد ، عالم من الأسطورة والسحر والفانتازيا ، كان هو الأرضية التى تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية ..
الغريب أن الإبداع عندما يلامس ـ أو يقتحم ـ مناطق الخيال ، الأسطورة ، الفانتازيا ، الخرافة ، الغرائبية ، العجائبية ، إلخ .. التسميات كثيرة ، فإننا نحيله إلى أدب الطفل ، نعتبره نصاً يقرأه الطفل . تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال ، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة ـ المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية ـ مجرد حكايات للأطفال ، مع أنها ليست كذلك ..
الخيال ـ خيالى وخيال كل قارئ للنص ـ هو الذى يعتق النص من ماديته وجموده ، هو الذى يجسّده . يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ص 52 ) .
أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..

***
يقول روجر ب . هنكل إن أتم تصوير روائى للمجتمع ، هو ذلك التصوير الذى يشعرنا أننا نوشك أن نكون جزءا ًَمن بناء ذلك المجتمع ( قراءة الرواية ص 106 ) ،
ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكتاب ـ كما يقول سترندبرج ـ فى أنه هو الذى يبحث فى معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التى يعتبرها الكاتب الواقعى شذوذاً ، تلك المثيرات التى تتوارى وراء حجب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية ( الأدب ومذاهبه ص 131 ) . أذكر قول إيزابيل الليندى إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى . لكن الواقع الفوتوغرافى ، الواقع الكربونى ، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع فى تصوير التحول الذى يطرأ على الأشياء . إنه يحمل الواقع ، ويحيله إلى شئ ثابت لا يتحرك ، فهو يسلبه حريته ، ويعمل على قتله . وكما تقول إيزابيل الليندى فإن الصورة هى خلاصة الواقع مضافاً إليها حساسية المصور . زقاق المدق ـ مثلاً ـ تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية فى أدب نجيب محفوظ . السراب تتناول مشكلة فردية ، وخان الخليلى كذلك ، وبداية ونهاية تعنى بمشكلة أسرة ، والثلاثية تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه . أما الزقاق فهى لا تتناول مشكلة فردية محددة ، ولا صورة اجتماعية بانورامية ، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة ، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها فى طريق الحياة . ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفاً فى ذاته ، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصرى : المحبط ، والشاذ ، والمعقد ، والمشوه ، والمتصوف ، والمجذوب إلخ .. كانوا صورة مختزلة ، وربما متشائمة ، للمجتمع المصرى آنذاك .. ولكن : ألم تكن هذه صورة المجتمع المصرى فعلاً ؟!
المبدع يختلف عن الآخرين ، حتى فى أوقات الصمت ، فى أوقات السكينة . فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكف عن الفعل ، بينما العمل الإبداعى ، أو الشخصية ، أو الحدث ، يتخلق فى داخله ، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن . ويقول ميلان كونديرا : " هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ، خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، ولمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحول أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ) ، وكما يقول سارتر ، فإن الخيال هو الأداة السحرية التى يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعى . انه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمى ، ويصنع العالم الخاص ، المتميز ، والمتفرد . إن واجبه ـ والتعبير لبرسى لبوك ـ هو أن يبدع الحياة .
أنا أخضع خيالى لخيال العمل الإبداعى . أخضع قراءاتى وخبراتى ورؤيتى للفضاء الذى تتحرك فيه القصة طولاً وعرضاً وعمقاً . الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال ، أشبه بالمزاوجة بين العلم والفن . الحقيقة ليست مطلقة ، والخيال يمكن أن يرتدى ثوب الحقيقة . العالم الذى يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة ، يذكرنا بالفنان الذى كاد أن يحطم تمثاله لأنه لم ينطق ، والفنان الذى يعتقد أنه يعيش فى الخيال فحسب ، يعانى وهماً باعثه التبلد .
2002م.
...........................................
من كتاب «للشمس سبعة ألوان» للروائي محمد جبريل.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:30 PM
الواقعية السحرية

بقلم: محمد جبريل
.....................

الواقعية السحرية ؟
سبقت السوريالية اتجاهات إبداعية كثيرة ، تبدأ بالواقعية التى أفرزت العديد من الروافد المهمة . وثمة الابتداعية والمستقبلية والماورائية والدادية وغيرها . وكانت الدادية ـ تحديداً ـ هى الاتجاه السابق على السوريالية ، بل إن بعض الاجتهادات النقدية وجدت فيها وجهين لعملة واحدة . وثمة من يجد فى السوريالية والواقعية السحرية اتجاهاً واحداً ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 34 )
ظهر مصطلح الواقعية السحرية ـ للمرة الأولى ـ فى عام 1925 . أطلقه الناقد الألمانى فرانتز روه على الاتجاه الذى توضح فى أعمال جماعة من الفنانين الألمان ، اتسمت بالصور الساكنة ، الواضحة ، الحادة التفصيلات والخطوط ، لكنها ـ فى الوقت نفسه ـ تعنى بالتخييل ، الفانتازيا ، المستحيل ، بصورة تناقضية ، كأنها الواقع ، أو هى الواقع تحديداً . ثم اتسع إطلاق المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية . أطلق على أعمال روائيى أمريكا اللاتينية ، مثل خورخى لويس بورجيس وأليخو كاربنتير وجبرييل جارثيا ماركيث . السرد فى أعمالهم يمازج بين الواقع والخيال ، بين المألوف وغير المتوقع ، بين المدرك والخارق ، بين الأنماط والنماذج والأحداث اليومية ، وما يعد من الأحلام ، أو أقرب إلى الأسطورة ، والخرافة .. ذلك كله ، فى لغة تغلب عليها الشعرية بصورة لافتة . وثمة رأى يحدد الفارق بين الواقعية السحرية والفانتازيا ، فى أن الفائق للطبيعة فى الواقعية السحرية لا يربك القارئ .
يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ـ 52 ) .
وفى ذكرياتها " بلدى المخترع " تؤكد إيزابيل الليندى أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس ، أدخلتها فى الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمى بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير ( بلدى المخترع ـ 72 ) . ويقول ماريو بينيدتى إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ، ليس مرده الواقع العجائبى ، وإنما الواقع المروع . وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذى يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال ، والعبد الذى يظل داخل الزجاجة مائتى عام ، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم .
***
كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
حين أتحدث عن الخيال ، فأنا لا أعنى بالخيال ما يحتفى به السورياليون ، إنما أعنى الخيال الفنى فى كل مستوياته . وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلى حدوده القصوى ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 18 ) فإن الواقعية السحرية ـ والسوريالية كذلك ـ تفجر الخيال إلى أقصى مداه ، تأذن بتحرر اللاوعى إطلاقاً من الرقابة التى قد يمارسها العقل .
أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
أستاذنا نجيب محفوظ يحرص على أن يؤطر الخيال بالمنطق . الحلم عند نجيب محفوظ بديل لمنطق الفن ، للامنطق ، للواقعية السحرية [ إقرأ " الطريق " صفحات 60 ، 63 ، 64 ، 67 ، 107 الخ .... ] . أما الواقعية السحرية ، فإن أشد تعرفنا إليها فى أعمال جابرييل جارثيا ماركيث ( كولومبيا ) وميجيل أنجل أستورياس ( جواتيمالا ) وأليجو كاربانتييه ( كوبا ) . وتختلف الواقعية السحرية فى أنها جانب فوق طبيعى للأشياء ، ضرب من الواقعية يتجاهل قوانين السبب ، تماماً مثل الحال فى الأحلام ، والتعبير لماركيث . أن الفن ـ كما يقول إرنستو ساباتو ـ لا يطالب بفصل المنطقى عن اللامنطقى ، والإحساس عن الفكر ، والحلم عن الواقع . إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة فى اللاوعى ، بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى ـ ما هذا البيان المشترك ؟ ـ 139 ) . لم يعد للواقعية الطبيعية أو التسجيلية ـ على سبيل المثال ـ وجود فى أدب الفانتازيا . إنه أدب لا يعرف المستحيل . لقد كسر مبدعو الواقعية السحرية حاجز المعقول ، لا للهروب ، ولا لمجاوزة العالم الحقيقة ، وإنما لفهم العالم بطريقة أفضل . أما الواقعية السحرية ـ فى الموروث العربى ـ فهى الأعمال التى تحيا على الأسطورة والخرافة والغرائبية . إنها لا تجعل من ذلك كله مجرد وسيلة ، ولا تجعل منه ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ملاذاً أخيراً تلجأ إليه الحكاية عندما يتم استنفاد المصادر العادية ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 100 ) .
الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعى ، تشكل جزءاً فى نسيجه . وحين استطاع الرجل الغريب فى قصتى فلما صحونا أن يخضع ـ بسكين ـ أفراد الأسرة المضيفة ، أظهر بعض الأصدقاء من المبدعين والنقاد عجبهم : كيف لجماعة أن تشل إرادتها أمام شخص ، فرد ، يحمل سكيناً ؟ . وفى قصتى المستحيل تعددت الأسئلة حول إقدام الرجل على لزوم بيته لا يغادره ، وهو قد اكتفى بتكويم قطع الأثاث خلف الباب والنوافذ . أما الراوى فى قصة " هل " فهو ميت ، وأهملت السؤال : ألم يكن من الأوفق أن يجرى الحدث فى الحلم ؟ . وكانت الملاحظة التى أبداها البعض حول قصتى أبناء السيد الصافى ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات ، هى الملاحظة نفسها التى أبداها البعض من خارج القصة : كيف لميت أن يعود إلى الحياة ؟
والأمثلة ـ كما تعرف ـ كثيرة . وهى قد أملت منطق الواقع ، وأهملت منطق الفن ، المنطق الذى يصدر عن الفن . ولعلك تتعرف إلى ما أريد توضيحه فى إمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ونجم وحيد فى الأفق و ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها من الروايات التى تحركت شخصياتها وأحداثها فى إطار الفن .
***
أوافق على الرأى بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتينى أمريكى لظاهرة عالمية قديمة ( فى الواقعية السحرية ـ 43 ) . الواقعية السحرية ـ أداتها قوة الخيال ـ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش . يقول ماريو بارجاس يوسا : " لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها ، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكى لاتينى . لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية ، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة فى محراب الواقع المعيش ، وأصبحت ـ فى الوقت الراهن ـ تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام . وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم "
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة فى الأساطير والملاحم والحكايات العربية ، منذ أسطورة إيزيس ، وقصة الأخوين ، تواصلاً مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية : الهلالية وعنترة وبيبرس وحى بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم
أنا لا أخترع عالماً غير موجود ، وإنما أقدم عالماً أحياه ، وأتذكره ، وأتفهم ما ينبض به من معتقدات وعادات وتقاليد . همى أن أنقل هذا الواقع بلغة تضيف جمالياتها إلى جماليات العمل الفنى . وكما أشرت من قبل ، فأنا أرفض أن أعتبر اللغة أداة توصيل . إنها جزء مهم فى العمل الإبداعى ، تلتحم به ، ومعه .
وإذا كان كل شىء فى أمريكا اللاتينية ـ كما يقول ماركيث ـ ممكناً ، وواقعياً ، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا ..
عبد المحسن صالح ـ كما تعلم ـ واحد من كبار علمائنا فى مجال البكترولوجيا ، بالإضافة إلى إسهامه المتفوق فى مجال تبسيط العلم . ناقش فى كتبه قضايا مهمة ، تبدأ بالحياة اليومية ل،سان وتنتهى بالموت .
زارنى عبد المحسن صالح ذات مساء . كانت العادة أن يطول نقاشنا فيما يفد إلى خواطرنا من قضايا ، دون أن نعطى حساباً للوقت . لكنه استأذن ـ بعد أقل من نصف ساعة ـ : لماذا ؟ . سأحضر جلسة تحضير أرواح !.
شردت عن كل الحجج ، وغير العلمية ، التى ساقها عبد المحسن تبريراً للانفصام الواضح بين ثقافته العلمية وثقافته الموروثة .
وفؤاد ب . ليس طبيباً كبيراً فحسب ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ مثقف كبير ، له آراؤه الموضوعية والجادة فى مختلف قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها . وكان إيمان الرجل بالتقدم مطلقاً ، حتى أنه لم يكتف بما وصل إليه من مكانة علمية ، فهو يجلس فى المدرجات أثناء مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه للتعرف على الجديد فى مجالات الطب .
ما لا يعرفه إلا القلة من أصدقاء الدكتور فؤاد ب . ـ وأنا واحد منهم ـ أنه كان يغيب عن القاهرة فى بعض الأمسيات . يمضى بسيارته إلى قرية فى عمق الدلتا . يجلس فى حضرة شيخ يعمل بالسحر والتنجيم وقراءة الطالع !
هذا الانفصام ، أو التقابل ، يعنى سيادة الموروث الشعبى ، بصرف النظر عن تباين المستويات الاجتماعية والثقافية ، فهى جزء أصيل فى تكوين الإنسان المصرى . ليس ثمة ما يرفضه العقل : السحر مذكور فى القرآن الكريم . الأرواح والجن مذكورة كذلك فى القرآن الكريم . العفاريت والغيلان والمردة ، ما أكثر ما يرويه الأجداد والأبناء عنها للأبناء والحفدة
نحن ننشأ على حكايات " السماوى " و " أبو رجل مسلوخة " والعفاريت التى قد تركبنا ، أو تفعل بنا ما تفعله العفاريت . تتوالى التحذيرات والنصائح ومحاولات التخويف . تستقر فى أدمغتنا ، لا يلغيها تقدم السن ، ولا اكتشاف الحقائق ، بل إننا ـ تواصلاً مع الموروث ـ نروى ذلك كله ـ وربما نضيف إليه ـ لأولادنا .
وإذا كانت عادة المصريين هى الاحتفال بذكرى وفاة الراحلين من أحبائنا ، فإننا نحتفل بذكرى أولياء الله . مبعث المفارقة أن أولياء الله يظلون أحياء ، فنحن نلجأ إليهم فى الملمات ، نطلب النجدة والغوث والنصفة والمدد ..
نحن نلجأ إلى أولياء الله ، نقسم بهم ، نزور مقاماتهم ، نتشفع بهم ، نعدهم بالنذور ، نناجيهم ، نلتمس النصفة والمدد . نحن إذن لا نعتبرهم موتى . إنهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الأولياء الموتى ـ فى يقيننا ـ ليسوا كذلك . نلجأ إليهم لمساعدتنا فى تحقيق ما عجزنا عنه ، ما قد يدخل فى دائرة المستحيل .
وإذا لم يكن اللقاء المباشر بالراحلين متاحاً ، فإنه يتم فى أثناء النوم ، فى رؤى المنام .
نحن ننتظر من الأولياء الراحلين أن يؤدوا لنا ما يجدر بنا أن نؤديه . حين ندس رسالة فى صندوق النذور بمقصورة أحد الأئمة ، نضمنها شكوى ، فإننا نترقب قراءة الولى للرسالة ، واستجابته لها ، بحيث تنعكس الاستجابة فى نتائج إيجابية تعيد لنا حقوقنا المهضومة . السيدة زينب ترأس المحكمة الباطنية التى تفصل فى أمور المسلمين ، السيد البدوى هو الذى أتى لنا بأسرى الحروب الصليبية ، سيدى العدوى يستعيد الأطفال التائهين ، إلخ .
أصارحك بأنى عبرت عما شهدته ، وعشته ، فى طفولتى ، دون أن أحاول تصنيف كتاباتى ، وما إذا كانت واقعية بالمعنى الذى نعرفه ، أم واقعية سحرية كما قرأنا عنها فى الإبداعات العالمية . كتبت ما نهل من التراث ، ومن الموروث ، من المعتقدات والتقاليد والعادات وغيرها من الخصائص التى يمكن أن تشكل فى مجموعها ـ ولو من قبيل التجاوز ـ الشخصية المصرية
كانت مسامرات كل مساء ـ هل تصح هذه التسمية ؟ ـ تكاد تقتصر على الجن والعفاريت والست المزيرة والقرين ، أو الأخت التى تسكن تحت الأرض " اسم الله على أختك " والبغلة التى تزين للمرء ركوبها ، فإذا ركبها علت به وعلت ، ثم قذفت به إلى الأرض فى مصير مؤلم .
لا تشغلنى المقارنة ، ولا أوجه الاتفاق والاختلاف ، لكن السؤال الذى يفرض نفسه : ما الخصائص التى تتميز بها الواقعية السحرية ، فلا نجدها فى العجائبية العربية ، كما نجدها فى ألف ليلة وليلة ، والسير ، والحكايات القديمة ؟
الوجدان المصرى ـ والعربى بعامة ـ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية ، مهما مالت ـ موضوعياً ـ إلى الخرافة . إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها ، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار . الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة ، دون أن يضعه فى إطار معرفى محدد ، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب ، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية ، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل .
أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقى عن مستوى إدراكنا ، فلسنا نملك إلا أن نكتفى بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التى كتبت فى إطاره ، فهو تحذير يشى ـ للأسف ـ بحرص على الدونية فى النظر إلى معطيات الآخر ، حتى لو أفاض ذلك الآخر فى التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربى ، وبخاصة ألف ليلة وليلة .
نحن لا نحاكى غرائبية الآخر ولا عجائبيته ، ولا حتى واقعيته السحرية ، لكننا نكتب عن الواقع الذى نحياه بكل ما ينطوى عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة . أوافق إيزابيل الليندى على أن الغموض السحرى ليس وسيلة أدبية ، ليس ملحاً ولا بهاراً ، لكنه جزء من الحياة نفسها . الواقع هو النبع الذى نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا ، نقرأ الإبداع العالمى فى إطلاقه ، لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التى ننتمى إليها ، ونحاول ـ من خلال ذلك ـ أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية ، أو فلسفة الحياة ، وهو المعنى الذى أوردته كثيراً فى العديد من مقالاتى . أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية ـ على سبيل المثال ـ لمجرد الانطلاق فى الخيال ، لكننى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية ، سواء فى اللحظة المعاشة ، أم فى أحداث تاريخية .
بمعنى آخر ، فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتتنا الموروثة والمكتسبة ، ونتمثل ثقافات أخرى نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة . ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعنى الانكفاء على الذات ، ورفض التراث والموروث العالمى ، أو حتى الانعزال عنهما . نحن ـ كإنسانيين ـ ننتمى إلى هذا العالم باختلاف ثقافاته ، وتنوع حضاراته ، ويجدر بنا أن نفيد من ذلك فى إثراء تجاربنا الإبداعية ، بتعدد المنابع التى تنهل منها .
فى كل الأحوال ، فإننا لا نتعمد جذب انبهار القارئ ولا إدهاشه ، الفن هو البدء والمنتهى ، والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو توشية ، لكنه يحاول أن يهبنا دلالة ، ما يستحق عناء المبدع فى الكتابة ، وعناء القارئ فى التلقى .
2003م
.................................................. ........
من كتاب «للشمس سبعة ألوان» للروائي محمد جبريل.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:31 PM
الفن .. هل هو للتسلية ؟ (1 ـ 2)

بقلم: محمد جبريل
.....................

" كانت الكتب العلمية فى مكتبة أبى تقف ، جنباً إلى جنب ، مع الأعمال الشعرية والروائية ، ولم يخطر ببالى مطلقاً أن أفكر أن أحدهما يقل ، فى قيمته وانسانيته ، عن الآخر "
أودين
منذ العشرينيات من القرن العشرين ، تلاحقت الثورات العلمية فى عالمنا المعاصر : ثورة المعلومات .. ثورة الاتصالات .. ثورة التكنولوجيا .. ثورة الهندسة الوراثية ، وغيرها .. وثمة اجتهاد أن المعلومات التى أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ، يفوق ما حصلته خلال تاريخها كله . وكما يقول أستاذنا زكى نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه .
العلم ضرورة لبقاء الجنس البشرى ، لأنه هو الذى يمكّن البشر من السيطرة على الطبيعة ، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم ( أدب ونقد ـ أكتوبر 1985 )
من هذا المنطلق ، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادى والعشرين فى مجال ما ، يبدو غاية فى الصعوبة .. لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة ..
ولعله يجدر بنا ـ ابتداء ـ أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن :
يناقش المازنى فى حصاد الهشيم قضية الفن ، وأنه لن يشغل إلا مكاناً ضئيلاً جداً فى الحياة العقلية للقرون البعيدة ، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة ، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم ، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر ، فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة ، وتأخذ الإرادة ـ يهديها العقل ـ مكان الهوى ، وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية ( حصاد الهشيم ص 52 ) .
ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت . ويقول فلاديمير مايكوفسكى : " جرّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية " . وكان رأى مصطفى المنياوى فى رواية نجيب محفوظ الشحاذ أن الفن كان له معنى فى الماضى ، فلما أزاحه العلم عن موضعه ، أفقده كل المعانى . مصطفى يكتب فى اللب والفشار ، إيماناً بقضاء العلم على كل ماعداه . وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يبق شيئاً للفن ، وأن العلم ينبض بلذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ، ولم يبق الفن إلاّ للتسلية ، بل إنه سينتهى ـ يوماً ـ بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل . يقول : لقد تبوأ العلم العرش ، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة . وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى ، ولكن أعياه العجز والجهل ، وحز فى نفسه فقدان عرشه .. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة ، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب ، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة ، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق ، الطويل ، فقد تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً ، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها ، وهو أن أكون مسلياً . ويقول : يجب أن أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين ، عدا السيرك !
ولعل مبدأ فصل العلم والفن فى حد ذاته ، يحتاج إلى مراجعة شديدة ، فلا شك فى أن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضى بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
***
أنا أومن بالترابط الحتمى بين مختلف فروع المعرفة ، وأوافق على الرأى بأن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . أعجبنى القول إن " أحلام المبدعين جميعاً هى فى الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، انسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن " ( إدريس الحسن ـ العربى ابريل 1985 ) ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السىء ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا فى استخداماتها الإيجابية ، لكنها أضيرت منها فى استخداماتها السلبية ، وهى استخدامات تحيق بالعلم دماراً محققاً ..
العلم ـ فى تقدير الكثيرين من كتاب الغرب ـ أشبه باللعنة التى صنعتها البشرية بأيدى أبنائها . انتصاراته المتوالية لها وجهان : إيجابى وسلبى . والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر . وعندما خصص نوبل قسماً كبيراً من أمواله لجوائز عالمية ، أعلن ـ صراحة ـ أنه قد بادر إلى ذلك تكفيراً عن اختراعه للديناميت . أراده للسلم ، فاستخدم فى الدمار . وكانت بدايات التفكير فى انشطار الذرة لاستخدامات السلام ، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرّى مدمّر . وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكى مؤشراً بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التى قد تتحقق من التقدم التكنولوجى ، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية ، فإن له إفرازاته السلبية أيضاً ، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية فى يد التقدم التكنولوجى وحده ..
إن تقدم العلم ليس مطلقاً . إنه متصل بالإنسان ، بقيمه ومثله ولحظات قوته وضعفه . التقدم العلمى فى إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء ، وحب الأرض ، والاستفزاز ضد العدوان ، والتعاطف مع الآخرين ، وغيرها من المشاعر التى تتصل بالنفس الإنسانية ، مايشغلها وما تنبض به وتعبّر عنه . الأدب يفهم الطبيعة ، وخبرة الحياة اليومية ، بما لا يرقى إليه فهم العلم ، أو تصويره له . والفن ـ فى مقولة ـ يتجاوز العلم فى أنه لا يفهم من خلال التحليل ، ولكن من خلال العرض . الفن يخاطب العاطفة ، وهو ما يعجز عنه العلم ، مهما يسرف فى التفوق . العلم مجاله العقل . أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحياناً ، ويخاطب العاطفة فى كل الأحيان ، والعاطفة التى أعنيها هى وجدان الإنسان ، مشاعره ، أحاسيسه ، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره . لقد كان هناك اعتقاد ـ والقول لأندريه مالرو ـ ان العلم حين يصل إلى أهدافه ، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسّراً ، لكننا بدأنا نكتشف ـ مع التقدم ـ أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه ، أكثر مما تعتمد على أى تقدم علمى . وكما تقول سهير القلماوى فإن تحدى العلم للإنسان ، تحدى أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له . الفن يحاول أن يقوّى الإنسان فى الإنسان . يحاول بطريقته أن يقوى الاختيار ، وممارسة الاختيار فى الإنسان المعاصر ( الهلال ـ مارس 1971 )
تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه ، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أى شئ إلاّ أن يشكّله ، فما يشكل الإنسان هو الاعتقاد فى نوع من الشخصية المثالية . ولعل مهمة الإنسانية اليوم فى إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان . ونحن نعلم مقدماً أن العلم لن يحقق لنا ذلك . وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية . وطالما بقيت أزمة الإنسان بلا حل ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة ..
***
ثمة تعريف للفن يضعه فى موازاة العلم والأخلاق . فالفن عمل إرادى واع للإنسان ، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال ، والعلم عمل إرادى واع للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة . أما الأخلاق فهى عمل إرادى وع للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة . وبتعبير آخر ، فإن الفن بعد من ثلاثة : العلم وهدفه الحقيقة ، والأخلاق وهدفها الخير ، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال ، وتلازم الأبعاد الثلاثة مهم ، من الصعب أن نتعامل مع أحدها فى معزل عن البعدين الأخيرين . وهو ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى الرواية النفسية التى لا يشغلها تشابك العلاقات فى المجتمع ، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية ، ولا حتى القضايا الأخلاقية ، بقدر ما يركز على مشكلة الفرد ، فرد واحد محدد ، له نفسيته الخاصة ، المستقلة . وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفن وبين علم النفس كعلم تنظيرى وتطبيقى ، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى فى عقدة أوديب التى صاغها سوفوكليس فى درامته ، وأفاد منها فرويد فى تشكيل نظريته فى علم النفس ، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية فى روايته السراب . والواقع أن ظهور النظريات الحديثة فى علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر ، يعد عاملاً مؤكداً فى إفادة الرواية وعلم النفس ، كل منهما من الآخر . بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءاً بإبداعات الإغريق ، وانتهاء بروايات ديستويفسكى . كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس فى رسم شخصياتها . وقد أفدت من عقدة " الفتشية " Fetishism فى روايتى النظر إلى أسفل ..
(يتبع)

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:33 PM
الفن .. هل هو للتسلية ؟ (2 ـ 2)

بقلم: محمد جبريل
.....................

الفن ـ فى تعريف أستاذنا حسين فوزى ـ نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ـ فى تقدير حسين فوزى ـ ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ ( الكاتب ـ مارس 1966 ) . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " . إن أول عمل فنى ـ على حد تعبير مالرو ـ كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون ، وأول تحد للموت . ويقول نيدو شيفين : " من الخطأ أن نحصر الفن فى دائرة الإحساس ، أو أن نزعم أن الإدراك الحسى البدائى للعالم ، هو المنبع الوحيد للفن ، والتفرقة بين الفن والعلم على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده ، ومحتوى الثانى هو الفكر وحده ، تفرقة خاطئة ، والنقد الصورى الرجعى لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحال إلى المحتوى الفكرى ، والهدف من ذلك واضح ، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة ، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتى " ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب الثورى عبر التاريخ ـ كتاب الهلال ص 31 )
والحق أن نجيب محفوظ قد خفف ـ فيما بعد ـ من غلواء مناصرة العلم إلى حد كبير ، فهو لم يعد يجد الفن فشاراً فى عصر العلم ، وإنما هو عصر العلم فعلاً ، وعصر التكنولوجيا والروبوت . أما دور الفن اليوم ، فهو ـ والقول لمحفوظ ـ الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية . إن المجتمع العلمى لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلاّ بالفن . " الرسالة التى ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلى للفنان . الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعانى التى يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد ، لا تشاركه إيّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير " ( فؤاد زكريا ـ الفكر المعاصر ـ العدد الأول )
وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها ، فإن الإنسانيات ـ بصرف النظر عن تفوقها ـ يصعب أن تجد إجماعاً فى تقبّلها أو الموافقة عليها . وكما يقول أستاذنا سيد عويس ، فإن الناس فى محيط العلوم المادية ، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم ، على وفاق ، ولا يكون الفراغ الفكرى إلاّ فى محيط العلوم الإنسانية ( التاريخ الذى أحمله على ظهرى جـ2 ص 64 ) . وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم فى أن الجديد لا يلغى القديم ، لا يلغى ما سبق ، لكنه يضيف إلى الفن فى عمومه إذا كان متميزاً . أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح " إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعباً لعمل ثورة ، لكنها قد تكون سبباً فى ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينيغى التنبيه إليها بواسطة الفن ، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن " ( الكاتب ـ مارس 1966 ) .
***
فإذا حاولنا التعرف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية ، فى ضوء بديهية أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة ، وأن العقلية العالمية الرحبة هى ما نحتاجه فى مواجهة القرن القادم بدلائله التى تشى بتطورات مذهلة ، فإن اللافت أن البنيوية ـ على سبيل المثال ـ قد ظهرت فى العشرينيات من القرن العشرين ، والواقعية السحرية ظهرت فى الثلاثينيات من القرن نفسه .. لكننا ـ للأسف ـ ظللنا لأعوام طويلة ، قريبة ، نناقش أعمالنا الإبداعية فى ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدى الأكثر تطوراً . وللأسف أيضاً ، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التى تحلق فى أجواء الواقعية السحرية ، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث ، مع أن مصادر الواقعية السحرية ـ كما قال ماركيث ـ نفسه ، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية ـ توجد فى الأعمال الإبداعية العربية القديمة ، وفى مقدمتها ألف ليلة وليلة ..
نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتجة فى عمومها ، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم ، فنتقبله بالصورة التى أتى بها ، أو نحاول المحاكاة والتقليد ، دون أن ننشغل كثيراً بظروفنا الخاصة ، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر ، فضلاً عن افتقاد الجدية فى التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية ..
يقول عالم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر : " ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم ، إذ كلاهما فى القوة سواء . إن سرعة الإدراك هى فى صميم الإبداع ، علمياً وفنياً " . ويضيف البروفسور جيليو أرجان : " بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا . وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا ، ومرهونة بها ، فقد تحولت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع ، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا ، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة ـ التى مضى عهدها ـ بين الفن والمذاهب الأيديولوجية " ( الأدب المعاصر ـ فبراير 1988 ) .
***
إن أدب الخيال العلمى هو الأكثر ازدهاراً ـ الآن ـ فى الغرب ، يرتكز فى ذلك إلى منجزات علمية حقيقية ، فهو يحاول أن يستشرف آفاقا أخرى لمستقبل الإنسان . وهذا هو السر ـ فى تقديرى ـ لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمى . إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمى قليلون للغاية ـ وفى مقدمتهم ـ بالطبع ـ صديقى نهاد شريف ـ لأن المجتمعات التى ينتمون إليها مجتمعات مستهلكة لا منتجة ، مجتمعات لم تحيا العلم فى تطوره المذهل بصورة حقيقية . بالإضافة إلى ذلك ، وربما اتساقاً معه ـ فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمى فى دائرة أدب الطفل ، وهى نظرة قاصرة لابد أن تزول بالضرورة فى قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة ..
وكما يقول نور ثروب فراى ، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالم عقلانى ، لاتحركه عاطفة ، وأن الفنان ملقى فى دوامة العواطف الهائجة . إن العلم والفن يستخدمان مزيجاً من الحس العام والحس الداخلى . العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معاً التقاء حميماً من الناحية النفسية وغير النفسية .
إن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضها بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
انطلاقات الخيال تحدها تطبيقات العلم . أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيوداً من أى نوع .
الفن نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " ..
***
إذا كان الترابط حتمياً بين مختلف فروع المعرفة ، فإن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . المطلوب فى العلم أن يهبنا المعرفة ، وهو ما ليس مطلوباً فى الفن ، أو أنه ليس من أولوياته ، والمعرفة ، أو الفائدة ، التى تتحقق فى النتيجة العلمية ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن الدلالة ـ أو المتعة بالطبع ـ التى يهبها لنا العمل الإبداعى . وتقول راشيل كارسن R.Carsen " هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجلوها ، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب ، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخاً أو قصصاً وروايات . لذا يبدو لى أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم " ( ت . يمنى طريف الخولى )
الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . ولعل أحلام المبدعين جميعاً مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، إنسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السيئ ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
الهلال ـ 1992م.
.............................
*من كتاب «للشمس سبعة ألوان» للروائي محمد جبريل.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:34 PM
من المحرر:
الدين .. والشخصية المصرية

بقلم: محمد جبريل
.....................

الثابت - تاريخياً - أن الشعور القومي لمصر أي الشعور بالانتماء الوثيق إلي هذا الوطن ذي المقومات المعروفة المحددة بكل أبعاد هذا الانتماء ظل ممتزجاً امتزاجاً قوياً بالشعور الديني أي بالانتماء إلي دار الإسلام الواسعة بكل ما يفرضه هذا الانتماء من التزامات وهو انتماء بمعني المواطنة دون أن يفرق بين مسلم وقبطي عاني المصريون حكم العثمانيين علي امتداد أربعة قرون ولم يخرجوا عليهم بثورات جماعية لا لتقاعس ولا لغياب إرادة المقاومة وإنما لأن مصر كانت جزءاً من الدولة العثمانية وفي المقابل فقد تلاحقت ثورات المصريين - لاعتبارات معلنة! - ضد الاحتلال الفرنسي ثم الاحتلال الانجليزي.
أنت تجد الدين في كل مكان في الأذان الذي يصلك - في مواعيد الصلوات الخمس - في أي مكان تصادف وجودك فيه مدينة أو قرية أو حتي الصحراء في الآيات القرآنية والتعبيرات المأخوذة من الكتاب المقدس والدعوات الملصقة في وسائل المواصلات بدءاً بالسيارة الملاكي وانتهاء بالعربة الكارو في المصحف الذي يتصدر واجهات المحال والمكاتب والسيارات الأمر نفسه بالنسبة لصور العذراء وفي بدء الحديث أو الكتابة أو المشوار باسم الله الرحمن الرحيم.
ولجوء الإنسان المصري إلي الله بالقسم وبالدعاء وبالاتكال علي الله والإيمان بالغيب وبالأمل في حل ما يطرأ علي حياته من مشكلات.. هذا اللجوء يعكس عجز الإنسان المصري عن مواجهة ما لا قبل له بمواجهته فهو يرجع إلي الله كل تلك المشكلات هو العليم الخبير ومالك القدرة علي تحقيق النصفة.
واللافت أن الكثير من الأمثال ذات مصدر ديني مثل: اسع يا عبد وأنا أسعي معاك ملك منظمة سيدة اللي يجيبه ربنا كويس. كلنا ولاد آدم وحوا. الخيرة فيما اختاره الله. دع الملك للمالك. ربنا بيرزق الدودة في الحجر. ربنا خلق الدنيا في سبع تيام. ربنا عرفوه بالعقل. ربنا يطعمه خيرهم ويكفيه شرهم. شفاعة النبي تبلع الذنوب. الشكوي لغير الله مذلة. شربة الميه للعطشان تتحسب بقيراط في الجنة. الشيطان شاطر. عين المؤمن تشرف قبة السلطان.
مع ذلك فإن السماحة في مقدمة السمات الأصلية التي تميز الشخصية المصرية وهي سمة حضارية تستمد مقوماتها من الديانات التي اعتنقها الشعب المصري في امتداد تاريخه وأذكر أنه كان من بين جيراننا في شارع إسماعيل صبري بحي بحري بالاسكندرية: أسر قبطية. وأسرة يهودية وكان الصغار يلعبون في الشارع الخلفي أمام جامع سيدي علي تمراز. لا تشغلنا ديانة أي منا وإن كان المسلمون يترددون علي الجامع لأداء الصلاة أو لاستخدام دورة المياه أحياناً أما الأقباط فكانوا يتحدثون إلينا عن زيارات القساوسة إلي بيوتهم والصلاة التي تقيمها الكنيسة المرقسية صباح كل أحد.
يتصل بظاهرة الاستغراق الديني ظاهرة أخري مناقضة هي ظاهرة الانفصام الديني التي تعد في مقدمة سلبيات الشخصية بذلك الانفصام ما تنسحب عليه التسمية في أمور حياتنا نحن نرفع الشعارات ونمارس نقيضها نتحدث عن النظام ونتصرف في فوضي وعن العدالة ونمارس التفرقة وعن رفض الفساد والشللية والمحسوبيات ونغض الطرف عن ذلك كله ربما مسايرة لمقولة جحا الشهيرة عن العيب الذي لا يشغله مادام بعيداً عن بيته!
من المهم أن نمارس ما نؤمن به. ما نعلنه. وندعو الأخرين إلي ضرورة تطبيقه.
..................................
*المساء ـ في 20/3/2010م.

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:35 PM
دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح (1 ـ 3)

بقلم: محمد جبريل
.....................

" احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "
أوجست رودان
" السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "
تودوروف
" قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "
جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل

ـ 1 ـ
يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..
***
ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )
***
إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..
***
واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !
***
إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..
***
يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..
***
ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:36 PM
دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح (2 ـ 3)

بقلم: محمد جبريل
.....................

نحن نخلط كثيراً بين المدنية والحضارة ، فالمدنية هى المكتسبات العلمية والتكنولوجية . أما الحضارة فهى نحن : موروثاتنا وقيمنا وجذورنا الثقافية ، وارتكازاً إلى هذا المعنى ، فإن مجرد التساؤل عن دور التراث فى صياغة ثقافة ما ، أمر غير وارد ، ومستبعد ، لأن التراث هو معطيات الأمس ، ومعطيات اليوم هى تراث الغد ، والحلقات متصلة ..
وإذا كان البعض يحرص على ربط التراث بالتخلف ، فإن ذلك الرأى ـ الذى يصعب أن نفترض فيه حسن النية ـ يجد الرد عليه فى أن التراث لا يستعاد ، بل إنه من المستحيل أن يحدث ذلك ، لأن الآتى حتى فيما قد يرين إليه من استاتيكية ، يحمل الإضافة والجديد دوماً . ولكن المطلوب هو تمثل التراث ، وإدراجه فى جدلية التجربة المعاصرة ، الثقافة المعاصرة ، بحيث يصبح هذا التمثل تطويراً للتراث ، موقفاً نقدياً وتجاوزاً فى آن معاً ، وبحيث يصبح دور التراث فى صناعة ثقافتنا المعاصرة قضية غير مطروحة ولا واردة ، لأن التراث أصل أصيل فى أية ثقافة قائمة أو مرجوة . بل إن الأدب العربى المعاصر لم يكتسب ملامحه إلاّ بتوثيق صلاته بالتراث منذ عصر النهضة ، والأدبين الإغريقى والرومانى تحديداً . إن الثقافة الجديدة التى يمكن التحدث فيها ، هى تلك التى تصل بين الأصالة والمعاصرة ، بين القديم والجديد ، بين الموروث والآنى ، فيصبح المستقبل بكل زخمه هو اتجاهنا الأوحد ..
أوافق ألان روب جرييه فى أن عظمة الروائى تكمن فى أنه يبحث ويخترع دون أن يتقيد بنموذج ثابت ( 17 ) ، ولكن من الصعب ـ فى تقديرى ـ أن ينفصل المبدع تماماً عن تاريخه الروائى ، خاصة إذا مثّل هذا التاريخ ارهاصات تمتد بمئات الأعوام ، كما فى التراث العربى القديم ، مثل ألف ليلة وليلة ، وكتابات الجاحظ ، وابن طفيل ، وأغانى الأصفهانى ، ومقامات الهمذانى ، وحكايات أشعب ، ورسالة أبى العلاء ، وكتب التصوف الإسلامى ، وتمتد بعشرات الأعوام ، كما فى الأعمال التى ربما تجد بدايتها فى " علم الدين " أو " حديث عيسى بن هشام " أو " عذراء دنشواى " أو " زينب " إلى آخر القائمة . وعلى حد تعبير بول فاليرى فإن الأسد عبارة عن خراف مهضومة ! .
إن المبدع العربى لن يستطيع تطوير أشكال فنية عربية معبرة عن الواقع العربى ، دون تلمّس لجوهر التراث لا حرفيته ، ودون محاولة جادة للإدراك النوعى للحساسية العربية فى عمقها واكتمالها ( 18 ) . الهوية القومية لا تقتصر على المضمون ، على الأحداث والشخصيات ، لكنها تشمل الشكل ، أو التقنية . إن لم يكن لها اختلافها وتميزها ، فإنها لن تكون سوى مسخ مشوه لإبداعات الآخرين . أشير ـ بتعجب ـ إلى إفادة جارثيا ماركيث من ألف ليلة وليلة ، حين جعل المرأة تطير فى رائعته " مائة عام من العزلة " . وطارت ـ فور ترجمة الرواية إلى العربية ـ نساء كثيرات ، فى إبداعات عربية ، بصرف النظر إن كانت تحتاج إلى ذلك بالفعل . إن مبدعى أمريكا اللاتينية يتمايزون فى أعمالهم بصورة لافتة ، لكنهم يعبّرون عن بانورامية لها خصوصيتها وتفردها ، عنوانها : الرواية فى أمريكا اللاتينية . وأذكّر بقول إدوارد سعيد " نحن ـ فى الوطن العربى ـ نقوم بالنسخ المباشر . ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو جرامشو حتى يرغب فى التحول إلى فوكوى أو جرامشى
***
مع محاولاتى فى توظيف التراث ، فإنى كنت أحاول ـ فى المقابل ـ أن أتمثل الثقافات الجديدة . إن رواية اليوم ـ والقول لروب جرييه ـ " هى ما سنضعه هذا اليوم ، وإن علينا ألاّ ننحى التشابه بينها وبين ماكانت عليه الرواية بالأمس . علينا أن نتقدم إلى أبعد " . وفى رأيى أن الإضافات التى قدمها الإبداع الغربى إلى فن القصة والرواية بما يجاوز معطيات الإبداع العربى القديم ، لا يعنى اعتبار الفن الروئى والقصصى فى الغرب بداية مطلقة لهما ، وإلاّ فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة فى كل زمان ومكان بداية غير مسبوقة للفن الذى تنتمى اليه ، أى أننا نلغى ماسبق ، ونعتبر البداية فى الإضافة والتطوير ..
والسؤال : هل نعتبر التراث العربى بداية القصة الأوروبية ـ على سبيل المثال ـ فى ضوء اعتراف المستشرق الإنجليزى ا . ر . جب H . A . R . Gibb بأن أوروبا قد تأثرت ـ أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة ـ بالمأثورات الشعبية العربية ، وهى التى منحتها السمات القومية فى الأدب ، وأن القصة الإيطالية فى عصر النهضة انما هى وليدة القصص الشعبى العربى ، وأن شوسر ـ أبا الأدب الإنجليزى ـ قد تأثر ـ بدرجة وبأخرى ـ بالنهج العربى فى السرد والوصف والتصوير .. ومع ذلك فإن الكثير مما نظنه من تراثنا ـ على حد تعبير رانيلا ـ لا نكاد نقبل أنه أتى إلينا من الشرق " ( 19 )
***
من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث اطلاقاً ، كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية اطلاقاً . واللافت أن الدعوة إلى الانكفاء على الماضى ، والتعامل معه باعتباره " المنقذ من الضلال " ، الحل لمشكلات العصر والأزمات التى نواجهها ، تلك الدعوة تقابلها دعوة إلى ملاحقة المنجزات الإبداعية والعلمية التى حققها الغرب . توظيف التراث لا يعنى الانكفاء على الماضى ، لكننا نفيد منه فى الإضافة ، أن يكون فاعلاً فى المستقبل . نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة . الصواب أن نفيد من التراث ، ومن الثقافة الغربية المعاصرة فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة عموماً . أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، أو النقل عن الغرب . الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن ، لا نكتفى بالتلقى ، بالنقل أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وانما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صوت حياتنا المعاصرة . إن التجديد موصول بالتراث . إنه الجذور التى تحفظ عليها الحياة والاستمرار . ثمة تفاعل خلاق يجب أن ينشأ بين الآنى والتراث ، ليس بمجرد التقليد أو المحاكاة أو الاستلهام ، وإنما الإفادة من عناصره لتكوين رؤية إبداعية جديدة ، قد تسمى توظيف التراث ، أو استلهامه ، أو استيحائه إلخ .. لكنها تظل ـ فى المحصلة النهائية ـ إفادة من التراث ، اتصالاً به ، تفاعلاًً خلاقاً معه . والعمل الذى يوظف التراث قد يهب المتلقى تفسيرات ومدلولات ورؤى جديدة ..
***
إذا كان لكل شعب بيئته المغايرة التى تتوضح ـ بدرجة أوبأخرى ـ فى إبداعاته ، فإن ذلك ما يجدر بإبداعاتنا أن تحرص عليه ..
إن الكثير من أعمالنا الإبداعية مجرد تقليد لإبداعات غربية ، فهى قد فقدت هويتها ، وما ينبغى أن تكون عليه من تفرد . إن المذاهب الأدبية والفنية المختلفة فى الغرب ، تعبر عن واقع معاش . إنها مدارس وليدة البيئات التى أثمرتها لأنها بيئات مثقفة فى عمومها ، ومتأملة ، ومنتجة ، ومستشرفة . أما نحن ، فنبدع ، لكن هوية إبداعنا قد تأخذ عن مدارس الغرب ، دون أن تكون لنا هويتنا الإبداعية الخاصة التى تتواصل بالتراث ، وتلاحق العصر ، وتستشرف المستقبل فى آن . إن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين ، لا يعنى أننا نحاكيها ، وإنما نذيبها فى تجاربنا الإبداعية ، تصبح نحن ، ولا نصبح الآخرين . ولعلنا نجد مثلاً متفوقاً فى التكنيك ، أو البناء الفنى ، فى سيرة عنترة ، عندما قسم الراوى سيرة عنترة إلى ماسماه اثنين وسبعين كتاباً ، وحرص فى نهاية كل كتاب أن يقطع الكلام بما يثير شوق القارئ الى المتابعة ، حتى يظل على إنصاته أو قراءته . وكما يقول الموسيقار الألمانى يوهانس برامز ( 1833 ـ 1897 ) فإن " الثورة على القوالب الفنية لمجرد الثورة ، لا يمكنها أبداً أن تخلق فناً جديداً " . والأصوب ـ كما يقول فردريك شليجل ، أن يوحد الفنانون ـ عبر عصورهم ـ العالم الماضى مع العالم القادم .
***
فى كتابه " تجديد الفكر العربى " تحدث زكى نجيب محمود عن التراث وثقافة الغرب ، فوجد أن البعض ـ مثل العقاد ـ وجد أن الجمع بينهما ممكن ، بينما قبل طه حسين وآخرون التراث كله وبعض الغرب دون بعض ، وثمة آخرون ـ مثل أحمد أمين والحكيم ـ أجروا تعديلاً فى التراث وفى الغرب معاً . أما الأجيال التالية فهى لا تعرف شيئاً من التراث العربى ، ولا ترضى ـ فى الوقت نفسه ـ بقبول الثقافة الغربية " خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين " ( 20 ) . ويزيد زكى نجيب محمود فيتهم معطيات الأدباء بأنها سطحية ( 21 )
وفيما يتصل بالملاحظة الأخيرة تحديداً ـ وهى غلبة السطحية على إبداعات أدباء الأجيال الحالية ـ فإنها تحتاج إلى مراجعة ..
لقد بدأت حركة احياء التراث العربى منذ أواسط القرن التاسع عشر ، انسلاخاً من السكونية التى فرضها الحكم العثمانى . كان توظيف التراث بداية المسرح المصرى كما يتبدى فى أعمال مارون النقاش ( 1817 ـ 1855 ) وأبو خليل القبانى ( 1833 ـ 1903 ) ثم فى الأعمال المسرحية التالية ، وصولاً إلى زماننا الحالى فى أعمال أحمد شوقى وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور والفريد فرج وسعد الله ونوس وزكريا تامر وعز الدين المدنى . أما توظيف التراث فى الرواية فيجد بدايته فى روايات جورجى زيدان التى عرض فيها لتاريخ العرب ومصر منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أخريات القرن الثامن عشر . ثم توالت الروايات التى تحاول توظيف التراث ، مثل أعمال فريد أبو حديد وسعيد العريان وسعد مكاوى ونجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعادل كامل وأحمد شمس الدين الحجاجى ومجيد طوبيا وجمال الغيطانى وخيرى عبد الجواد ومنير عتيبة وغيرهم .. وثمة رموز وشخصيات يحفل بها تراثنا ـ وموروثنا ـ الشعبى المصرى ، تصلح قواماً لأعمال أدبية معاصرة : الخضر وأبو زيد والسيد البدوى وأشعب والشاطر حسن وعلى الزيبق وأحمد الدنف وشيحة والسفيرة عزيزة وأبو الريش وحسن المغنواتى وهبنقة وجحا وسيبويه المصرى وذو النون وأبو الحسن الشاذلى وشحادى أبو حطب وحسن الذوق والسيدة أم الأنوار حارسة مصر إلخ ..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
05/04/2010, 10:37 PM
دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح (3 ـ 3)

بقلم: محمد جبريل
.....................

يعجبنى التعبير : " إن ولادة اليوم الإبداعية هى حصاد إخصاب تم فى فترات سابقة " ..
وقد حاولت أن أفيد مما تزخر به الملاحم والسير والحكايات الشعبية العربية من إمكانات ، مضمونية وشكلية ، فكتبت الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل واعترافات سيد القرية ، وغيرها ..
لم ألجأ الى التراث مثلما يفعل علماء الآثار فى حفرياتهم . بل ان تلك الحفريات تصل الماضى بالحاضر على نحو ما ، تجعل السلسلة متصلة الحلقات . التراث اشتباك فنى ـ ودلالى ـ بين موتيفات الماضى والواقع المعاش . توظيف التراث لا يعنى ابتعاد المبدع عن الواقع المعاش ، عن الأوضاع الآنية لمجتمعه . أذكّرك بقول نجيب محفوظ إن موقفه فى ألف ليلة وليلة كمن يستوحى عملاً قديماً لاستغلاله عصرياً ، أى أن عينه كانت دائماً على الحاضر ( 22 )
إن توظيف التراث يجد قيمته فى التفسير المعاصر ، وليس مجرد إعادة تقديم ما كان فى صورة الماضى ، فهى خالية من الروح . وبتعبير آخر ، فإن توظيف التراث وسيلة فنية للتعامل مع الواقع الذى نحياه [ أرفض كلمة " الإسقاط " ، وأرفض تسمية الأدب السياحى ] ( 23 ) ، وعادة ، فإن التراث ـ الشفاهى بخاصة ـ يتعرض لعمليات انتقاء ، قد تكون إلى الأفضل أو الى الأسوأ ، لكنها عمليات اختيار يعبّر عن العصر ، والفترة ، ومايستهدف الراوى توصيله . بل إن الرواية المعاصرة لم تقتصر على توظيف الأحداث التاريخية ، والأبطال التاريخيين ، وإنما تجاوزت ذلك الى توظيف لغة التراث التاريخى نفسه ، لغة المقريزى وابن اياس والسيوطى وغيرهم ، وان كنت أتحفظ على ذلك لسبب مهم هو أن لغة هؤلاء المؤرخين أقرب الى لغة الصحافة فى زماننا الحالى . أوافق على أن اللغة التراثية تعيدنا إلى الوراء ، على الرغم من كل ما يشاع ويقال ويكتب من أن ذلك يتم باسم الخصوصية والأصالة " إذ لاشئ من هذا فيها " ( 24 ) . على المبدع العربى أن يستخلص البنيات التراثية ويستوعبها ، ثم يعيد صياغتها فى قالب جديد ، بحيث يصبح التراث مصدراً للاستعارات والرموز والنماذج العليا التى تعبر عن الحساسية العربية الحديثة ، وتشكلها فى آن واحد ( 25 ) . وفى تقديرى أن الحرافيش لأستاذنا نجيب محفوظ هى أهم الروايات العربية إطلاقاً ، لأنها رواية عربية بالفعل . لم تحاول المحاكاة ولا التقليد فى أى من مقوماتها . أفاد نجيب محفوظ فى روايته من الفنون العربية فى الزخرفة والعمارة ، ومن الحكايات الشعبية والنوادر وسير الأبطال ، ومن التاريخ . " الحرافيش " توظيف للتراث بمستوياته الدينية والتاريخية والشعبية ، ولكن اللغة التى صيغت بها عصرية تنتمى إلى زماننا الحالى ، لغة صوفية ، أو أفادت من الشعر ..
أنا لا أحاكى النص التاريخى ، لا أحاكى مفرداته ولا جمله ولا تركيباته اللغوية عموماً . لا أنتقل بنصى الإبداعى الخاص إلى عصور سابقة ، وإنما أحاول ـ ما أتاحت لى موهبتى ـ أن أصوغ الوقائع ، وأصور الشخصيات فى لغة العصر الذى أنتمى إليه ..
من المهم أن تعبّر اللغة عن العصر الذى كتبت فيه ، وليس العصر الذى صورته ..

ـ 2 ـ
إذا كنت أرفض محاولة الاستعلاء من خلال استعادة الماضى ، والتشبث به ، فإنى أرفض ـ فى الوقت نفسه ـ شعور النقص أو الدونية . أشير إلى تأثر الأدباء الأوروبيين بالإبداع العربى من سيرة وحكاية ورواية وغيرها ، مثل سير عنترة وسيف بن ذى يزن والهلالية وحكايات ألف ليلة وقصص الحب العذرى وروايات المعرى وابن طفيل وابن شهيد وابن المقفع إلخ . أذكرك بقول كرتشكوتسكى " إن القرآن وألف ليلة وليلة كانا بمثابة الآثار العظيمة للأدب العربى التى استطاع أجدادنا التعرف عليها فى القرن الثامن عشر " ( 26 ) . وقد تحولت قصة ابن طفيل " حى بن يقظان " إلى قصة أوروبية كتبها دانييل ديفو ، وإن حذف منها كل الدلالات الفلسفية ، وسماّها " روبنسون كروزو " ، فصارت من كلاسيكيات الرواية الأوروبية ، وأفاد منها الفلاسفة وعلماء النفس الأوروبيون ـ وفى مكتبتى مؤلف عن التاريخ الجنسى لروبنسون كروزو ـ وأنتج الغرب العديد من الأفلام التى تتناول قصة روبنسون كروزو فى قالب المغامرة ، وتناست الأقلام ـ وبعضها ، للأسف ، تكتب بالعربية ـ الأصل العربى لقصة ديفو ، وهو نص ينبض بدلالات عميقة ، وليس مجرد تعبير عن أزمات جنسية ونفسية مبعثها الشعور بالوحدة !
***
راج عن ألف ليلة وليلة معتقد مشابه لمعتقد لعنة الفراعنة . إنه لعنة ألف ليلة وليلة . من يقرأ الكتاب يحل عليه ـ فى نهاية عام القراءة ـ مصيبة تدمر حياته . وربما لهذا السبب ظل الكتاب مخطوطاً لمئات السنين ..
لم يعرف لحكايات ألف ليلة مؤلف محدد ، ولا جامع للحكايات ، ولا مترجم ، أو مترجمون ، إلى اللغة العربية . إنها أشبه بمجموعة من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر . تقول مقدمة الطبعة الرابعة التى صدرت عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت إنه " ليس لهذا الكتاب من كاتب " . وثمة من أكد أن المؤلف سورى " وضعه بلغة مبسطة سهلة ، متوخياً تعليم اللغة العربية إلى الراغبين فيها أكثر من توخى الاقتراب إلى أفهام الناس " ( 27 ) ، ورأى بأن أصل الكتاب هندى ( 28 ) ، ورأى ثالث بأن الكتاب هندى مطعّم بقصص فارسية وللعرب فيه بعض الفضل ( 29 ) . وجمع البعض بين اختلاف تلك الآراء جميعها ، فقال إن واضع الكتاب أكثر من مؤلف واحد ( 30 ) . إنها لم تتجمد فى صيغة ثابتة ، لأنه لم يكتبها شخص واحد . تعاقب على الإضافة فيها ، وعلى الحذف والتعديل والتبديل ، رواة متعددون بالشفاهة والكتابة . ويرجح أستاذنا أحمد حسن الزيات أن حكايات ألف ليلة وليلة قد جمعت ما بين عامى 1517 ـ 1526 م . ويستند فى اجتهاده إلى أنه قد ورد فى الكتاب ذكر القهوة والباب العالى ودواوين الحكومة فى الدولة العثمانية وغيرها مما لم يكن معروفاً قبل تلك الفترة ، فضلاً عن أن القهوة لم تكن قد عرفت فى الشرق قبل ذلك التاريخ . ولعله يمكن القول إن ألف ليلة وليلة أصبحت ـ فى الأعوام التالية لترجمتها ـ جزءاً أساسياً من الثقافات الغربية ، وأضافت إلى الإبداع الأوروبى ما لم يحققه عمل آخر ، فيما عدا التوراة والأساطير الإغريقية . أقدر قول فاروق خورشيد : " إذا كان العالم قد ظل ـ منذ ترجمة جالان لألف ليلة وحتى الآن ، يعيش فى أحلام الإنسان وأشواقه ومخاوفه من خلال قصصها وخيالها وحبكتها الفنية ، فهذا دين كبير على هذا العالم الجديد ، ولهذه الحضارة العربية الحديثة ، يجب أن يؤديه حباً واحتراماً لأصحاب الفضل فيه " . لقد أثرت ألف ليلة على الأدب الأوروبى تأثيرات متنوعة وكثيرة فى المسرحيات والقصص ، والشعر الغنائى والمسرحيات الغنائية . وقد ربطت الدراسات بين ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية ، وبين ظهور الرواية الأوروبية الحديثة ، واعتبرت حكاية " التفاحات الثلاث " ـ ألف ليلة ـ هى الأصل فى نشأة الرواية البوليسية . وعظم تأثير ألف ليلة وليلة فى أواخر القرن الثامن عشر ، ثم طوال العهد الرومانتيكى [ دعك من الصور المشوهة التى حاول الغرب استيحائها ، أو الصاقها ، بحياة العرب من خلال الأعمال المأخوذة عن حكايات ألف ليلة ] فثمة مسرحيتان ليوجين سكريب هما " على بابا " و " المصباح الصغير العجيب " ، وثمة التأثير المؤكد على روايتى بلزاك الجلد المسحور وزنبقة الوادى " ومسرحية فونتين ألف مسرح ومسرح . كما قدم شارل ايتين مسرحية علاء الدين والمصباح العجيب ، وقدم موران دى بومبينى المصباح الرائع ، وكتب بيير كارموش المصباح العجيب ، وألف تيودور كونيار مسرحية على بابا ومسرحية ألف ليلة . وهناك ألف ساعة وربع ساعة و قصص صينية لجيوليت ، وقصص شرقية " لكايلوس ، وحب أنس الوجود لكلود ايتين سافارى .. ونحن نجد ظلاً لحكاية العبد الدميم ، القذر ، القاسى ، فى حكايات ألف ليلة وليلة ، فى رواية إميل زولا نانا . وفى تقدير جبرا ابراهيم جبرا أن " استخدام التكنيك المتعدد الطبقات ، وتفتيت الزمن ، والاهتمام بحياة الفرد فى المجتمع ـ وهى كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة ـ كل هذه موجودة فى ألف ليلة وليلة " ( 31 ) . أما السينما العالمية ، فقد قدمت العديد من الأفلام علاء الدين والفانوس السحرى ، على بابا ، السندباد البحرى المأخوذة عن حكايات ألف ليلة : لص بغداد ، حكايات ، إلخ
***
كم يؤلم النفس أن نجد الإعجاب بتراثنا فى مرايا الآخرين ، فتنقل إلينا عدوى الإعجاب . وكانت ألف ليلة وليلة مهملة فى حياتنا ، لا نكاد نجد فيها أكثر من كتاب للتسلية . فلما تعددت استلهامات الأدب الأوروبى منها ، حاكيناه فى استلهاماته ، وأعلنا نفس الإعجاب الذى خص به كتاب الغرب " ألف ليلة وليلة " ..
ولعلى أوافق على القول بإنه إذا كنا لا نعرف ـ تحديداً ـ من هو مؤلف ألف ليلة وليلة ، ومن حوّرها وأضاف إليها ، فإن المهم هو أنها كتبت بالعربية ، عن المجتمع العربى ، والمواطن العربى . حتى لو استقت أصولها من مصادر أمم أخرى . والمثل شكسبير الذى استقى خطوط معظم مسرحياته من مصادر غير انجليزية ، وإن ظل فنه ـ فى النهاية ـ إنجليزياً صرفاً ، بقدر ما كان الفن فى ألف ليلة عربياً صرفاً ..
لقد أكد بايرون أنه قرأ ألف ليلة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره . وأعلن فولتير أنه لم يبدأ فى كتابة القصة إلاّ بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة ، وتمنى استندال أن يفقد الذاكرة ليستعيد ـ ثانية ـ لذة قراءة ألف ليلة . واعترف أناتول فرانس أن حكايات ألف ليلة كانت فى مقدمة ما قرأه قبل أن يكتب الأدب . كما اعترف هيرمين ميلفيل ان ألف ليلة وليلة هى التى أطلقت خياله ، وأصدرت العالمة الألمانية كاترينا مومزن كتاباً بعنوان " جوتة وألف ليلة وليلة " أكدت فيه تأثر جوتة بألف ليلة وليلة فى أعماله المختلفة ، ومن بينها فاوست . ويقول " لى هانت " : " تعد الليالى العربية بالنسبة لنا واحدة من أجمل الكتب فى العالم ، لا لسبب أن المتعة فيها فقط ، ولكن لأن الألم فيها يمتلك فرص تغيّر وتقلّب لا نهاية لها ، ولأن المتعة فى متناول كل من لديه الجسد والروح والخيال " . ويعترف والتر سكوت : " إنى أعرف القليل عن الشرق إذا لم أضع فى الحسبان ذكريات طفولتى عن قصص ألف ليلة وليلة . أما بورخيس فيعزو تأثره بألف ليلة وتوظيفه لحكاياته فى أعماله إلى أنه قرأهامن أولها إلى آخرها " احتشدت بالسحر . كنت مأخوذاً به " . ( 32 ) . أما جابرييل جارثيا ماركيث فهو يجيب عن السؤال : ما أهم الكتب التى قرأها ؟. يقول : ألف ليلة وليلة ، الملك أوديب لسوفلوكليس ، موبى ديك لملفيل . هكذا بالترتيب . ألف ليلة وليلة ـ القول لماركيث ـ هى الكتاب الأول الذى قرأه فى حياته ، وقد أثر ـ فيما بعد ـ تأثيراً مباشراً على كل كتاباته " " أنا بدأت من الأدب العربى ، من ألف ليلة وليلة بالذات . لقد بدأت من هناك ، ولم أنته بعد . ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته فى حياتى . وجدته فى البيت الذى نشأت فيه ، ولا أعرف أية ترجمة كانت تلك ، لكنى أذكر أنها حوت الأحداث فقط دون تعليقات أو قصائد . وقد كانت أحداثها مثيرة لدرجة ربطتنى بالأدب منذ ذلك الحين " ( 33 ) . لقد وقفت مذهولاً أمام تلك القدرة العربية الهائلة على مقاربة الخيال الأوروبى بكثير من الحس الطبيعى المطلق الذى ربما لا يوجد ـ فى تقديرى ـ من يملك أسراره غير العرب ( 34 ) . ويقول اليوغوسلافى رادى يوجوفتش إن " أهمية قصص ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى الآداب الفولكورية اليوغوسلافية قد دفعت بعض العلماء اليوغوسلاف إلى أن يوجهوا أنظارهم بدقة علمية إلى إمكان تأثير هذه المجموعة القصصية فى آدابنا الشعبية قبل كل شئ " ( 35 ) . وهو ما توصلت إليه اليوغوسلافية " نيفنا كرستيتش " فى دراسة مطولة لها عن الموتيفات المشتركة فى ألف ليلة وليلة ومجموعة الملاحم والقصص الشعبية اليوغوسلافية : وجود 57 موتيفاً مشتركاً تعكس تأثير القصص العربى على القصص الشعبى اليوغوسلافى . وإذا كانت الموسوعة الإسلامية ترى فى العلاقة بالعجائب إحدى الإضافات المهمة التى قدمتها العبقرية الإسلامية للأدب الكونى فى شكل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة ( 36 ) . فلعلى أذكر ـ أخيراً ـ قول شوفان : " من المستحيل إعداد قائمة كاملة بالآداب التى تأثرت قليلاً أو كثيراً بألف ليلة وليلة "
***
من البديهى أن نعيد إلى ألف ليلة وليلة ما تستحقه من مكانة . إنها معلم مهم ومؤثر فى فننا الروائى والقصصى ، فضلاً عن تأثيرها المؤكد فى فن القصة فى العالم جميعاً [ يشير جبرا ابراهيم جبرا إلى أن أسلافنا ـ رحمهم الله ! ـ لم يعدوا ألف ليلة أدباً ـ مجلة " الأديب ـ يناير 1954 ، ويضيف ا . ل . رانيلا أن العرب لم يحتفلوا بألف ليلة وليلة ، باعتبارها نمطاً من الكتابة يشذ عن الكتابة العربية ، وغير جديرة بالاحترام ، لأنها عامية وسوقية ، وليست أدباً بأى حال من الأحوال ، إنما هى خليط من فولكلور الشارع صيغ بلغة سوقية ] ( 37 ) . وحسب اجتهادى الشخصى ، فإن ما سمّى بمحاولات تهذيب ألف ليلة وليلة ، أساء إليها ، أفقدها الكثير من المقومات الفنية والجمالية ، ومن عفوية الفن وبساطته . تحول الكثير من حكاياتها إلى حكايات تعليمية ، وعظية . وقد ظلت الحكايات موضعاً للرقابة والحذف والتبديل ، بدعوى المراعاة الأخلاقية ، وحورت فأصبحت غالبية حكاياتها أدباً للأطفال ـ مع إنها ليست كذلك ! ـ وظلت النظرة إلى النص الأصلى عموماً تنطوى على عدم الاحترام . وكما يرى جمال الدين بن الشيخ ، فإنه حتى فى زمننا الحالى ، فإن نصوص الليالى الألف لا ينظر إليها فى الجامعات العربية على أنها جديرة بالتحليل والدراسة ( 38 ) . بل إن موريس بلانشو يجد فى الليالى الألف ما يخاطب القارئ الأوروبى ابتداء . فهو يتساءل : كيف أمكن لليالى أن تتحدث إلى العرب ؟.. فى باله ـ بالطبع ـ آلاف المحظورات والنواهى ومحاولات وأد التخيل . يضيف بلانشو " إنها تتحدث إلينا " ( 39 )
والحق أن تأكيدى على وجوب احتفائنا بألف ليلة وليلة ، لا يعنى أن نظرتنا إليها قاصرة فى إطلاقها . ثمة من يجدون فيها أثراً أدبياً يستحق الكثير من الدرس والاهتمام . أستاذتنا سهير القلماوى فى رسالتها للدكتوراه عن ألف ليلة ، تذهب إلى أن الكتاب كان حافزاً مهماً لعناية الغرب بالشرق ، عناية تتعدى النواحى الاستعمارية والتجارية والسياسية " بل لسنا نغالى إذا أرجعنا كثيراً من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر قليلاً ومن بعده كثيراً إلى زيارة هذه البلاد الشرقية " . وأشير إلى أن الروائى ودارس التراث الشعبى فاروق خورشيد يخصص فى مكتبه ـ منذ فترة طويلة ـ جلسة أسبوعية لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة ، يحضرها مجموعة ممتازة من الأساتذة والدارسين ، يناقشون الحكايات ، ويحللونها ، ويعرضون لجوانب الإبداع الفنى فيها ، والقراءة الواعية الفاهمة لألف ليلة وليلة فى اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا أنها " مزيج غنى من الواقع والرمز ، فهى تصور حضارة عصر معين ، وفى الوقت نفسه تكشف عن النزعات البشرية إطلاقاً ، فالكتاب بجملته بحث عن السعادة ، والكثير مما فيه ضرب من الحوادث الحلمية ، تتحقق فيها الرغبات كما تتحقق فى أحلام اليقظة . ومع ذلك ، فإن ذلك المجهول الذى جمع الحكايات بين دفتى كتاب واحد ، أدرك العلاقة الخفية بين ما هو من خلق الخيال وبين ما هو من مقومات الشخصية ، فجعل من شهريار ـ بعد أن فرغت شهرزاد من أحاديثها إليه ـ ملكاً أحكم وأعدل من ذى قبل ، وبذلك دلل على حقيقة رددها فى الغرب نقاد كثيرون ، وهى أن الأدب ينشط المخيلة ، والمخيلة النشيطة تيسّر على المرء إدراك حالات الغير ، وبالتالى فهمهم وحبهم " ( 40 ) .
***
يقول ليتمان : إن النواة الأصلية لكتاب " ألف ليلة وليلة " مأخوذة عن كتاب قصصى فارسى يعرف بكتاب هزاز أفسانه [ ألف خرافة ] ربما نقل إلى العربية فى القرن الثالث الهجرى ، وإن مادة هذه القصص معظمها من أصل هندى . ويضيف : " على هذا فإن هذه القصص التى أخذت من كتاب هزاز أفسانه هى التى تكونت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة ، ثم تجمعت حول هذه النواة فى أرض عربية ، طبقات مختلفة من الحكايات " . أما الألمانى فالتر فيبكه فيذهب إلى أن " حواديت ألف ليلة وليلة " لم يكن مهبطها فقط بلاد فارس ، إنما هى أساطير جالت وصالت فى دول المشرق العربى والشرق الأقصى " . ويتساءل ماكدونالد : " من هو ذلك الفنان ، أو الفنانون المصريون ـ حدد الرجل الجنسية ! ـ الذين كتبوا قصص معروف وجودر وأبو قير ؟ ومن الذى ابتكر حكايات الأحدب ، وحكاية مزين بغداد ؟ ومن هو الذى كتب قصة علاء الدين بالعربية ؟ . إن هذه الحكايات جميعاً فيها من الواقعية المباشرة الإنسانية ما يرى القراء الغربيون أنه يباين كل المباينة ما فى القصص الفارسى أو الهندى من بعد عن الواقع " ( 41 )
وتخلصاً من مشكلة مؤلف الحكايات : هل هو كاتب واحد أو مجموعة كتاب ، وهل الحكايات ذات أصل فارسى أو هندى عربى أو مصرى .. فقد ذهب العديد من الدارسين إلى أنها ذات أصل فارسى ـ هندى ـ بغدادى ـ مصرى . ربما لأن أحداث الحكايات دارت فى هذه البلدان . لذلك فإنه من الصعب نسبة الحكايات إلى مؤلف واحد ، لكنها جهد مجموعة من المؤلفين ، أضافوا إليها الكثير من الوقائع والأحداث . وبصرف النظر عن الاجتهادات التى تختلففى أصول ألف ليلة : هل هى مقتبسة من الهندية أو الفارسية أو الرومية ، أم هى مؤلف عربى مجهول ، فإن الليالى ـ بالصورة التى تطالع بها قارئها منذ استكملت ملامحها النهائية ـ عربية المكان والزمان والقسمات ، فيما عدا بعض الهوامش التى لا تبدّل من الملامح الأساسية . إن للثقافات العالمية دورها الذى يصعب إغفاله فى رواية الليالى الألف ، ولكن يظل للثقافة العربية دورها الأول والأساس فى " إبداع " ذلك الإنجاز العالمى المهم . وكما يقول الباحث العراقى عبد الغنى الملاح فإن كتاب ألف ليلة وليلة ، بالإضافة إلى كونه نابعاً من مخيلة الشعوب الشرقية بصورة خاصة ، والحضارات العالمية القديمة بصورة عامة ، فإن للعرب الدور الأكبر فى تسجيله ، وإخراجه بشكله النهائى ، وإيصاله إلينا بصيغته الأخيرة ( 42 )
والحق أن ألف ليلة وليلة تحمل ـ بالفعل ـ بصمات هندية وفارسية ويونانية وفرعونية وعربية قديمة ، فضلاً عن المجتمعات العربية التى تخلقت بعد ظهور الإسلام ، وهو ما سمى بالأجزاء البغدادية ، أو المصرية . لكن ألف ليلة تظل أثراً اسلامياً ، ينتصر للدين الإسلامى ، وللشخصيات الإسلامية ، ويحفل بالكثير من قيم الدين الإسلامى : المعتقدات والعادات والتقاليد والأمثال والألغاز ، وانطلاقات المكان فى بلاد ومدن اسلامية ، هى القاهرة والبصرة والبغداد والشام وغيرها ، وشخصيات تحيا فى تلك البلاد والمدن ، فثمة السلطان والوزير وعالم الدين والقاضى والصياد والحمّال والحشاش واللص والجندى والصيرفى والنخاس والجندى والدلاّلة والصانع ، وثمة الأسواق وساحات بيع الرقيق والخانات والمساجد والصحراء إلخ . فضلاً عن الكثير من الأمثال والنوادر وقصص الرحلات المنقولة من كتب العرب . لقد وضعت ألف ليلة ـ للمرة الأولى ـ فى مدينة إسلامية ، ثم انتقلت إلى مدينة اسلامية أخرى ، فجرى فيها تبديل وتحوير وحذف واضافة ، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى ، فى عصور تالية ، وأدخلت عليها حكايات جديدة ، فجاءت الليالى الألف تعبيراً عن الحياة فى امتداد العالم الإسلامى . ويلاحظ قاسم عبده قاسم ان فارس وأجزاء كبيرة من الهند ، كانت ـ ولا تزال ـ ضمن دار الإسلام . وكانت الثقافة العربية هى ثقافة المسلمين فى تلك المناطق ( 43 )
لذلك فإنه من الصعب أن تنسلخ ألف ليلة من صفتها العربية ، أو تنسلخ صفتها العربية منها . " إن ألف ليلة " حكايات عربية ، كانت تلبى حاجة ثقافية اجتماعية لجماهير الناس فى العالم العربى آنذاك ، كما كانت تعبيراً عن جوانب هامة من حياة الفرد العربى فى تلك الفترة " ( 44 ) . ويقول فانس رادولف إن ألف ليلة وليلة " تشكلت وصقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهى . فقد أضيفت مواد ، إما عن طريق المصادفة ، أو توافق الظروف ، ولكن لكى تعيش الحكاية لابد أن تلقى قبولاً من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها . وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد ساهموا فى تشكيل الحكايات ، فى حين صقلها الرواة " ( 45 ) [ ثمة قصتان أصليتان من قصص ألف ليلة وليلة كانتا معروفتين من القرن الثانى الهجرى ـ هلال ناجى ـ المورد جـ45 العدد 2 المجلد 2 ]
لقد جمعت ألف ليلة موروثاُ هائلاً من الحكايات والخرافات والحواديت . وقد جاء ذلك إما من العصر الجاهلى ، وما سبق ، وإما من الشعوب التى عرفها العرب ، واحتكوا بها ، مثل فارس والهند واليونان وغيرها . لكن الموهبة العربية ـ والمصرية بخاصة ـ تظل غالبة ، ذلك " لأن الهندى يحكى ويبالغ ويكدس مايرويه ، أما العربى فإنه يرسم ويتأنى ، ولا يستطيع أن ينفصل بنفسه عن حكايته الخرافية " . ويقول حسين فوزى : " أنا واحد من الناس أعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب مصرى فى الكثير من قصصه " ( 46 ) . ويذهب المستشرق " نولد كافه " إلى أن حكايات الصعاليك فى ألف ليلة وليلة فيها عنصر مصرى خالص . بل إن الكاتب الراحل محمد فهمى عبد اللطيف ـ وإسهاماته فى دراسة الأدب الشعبى رائدة ومتفردة وثرية ، وإن تجاهلتها دراسات تالية لأسباب غير مفهومة ! ـ يؤكد أن القاهرة هى موطن ألف ليلة وليلة ، وفيها صنعت قصص هذا الكتاب وصيغت فى سردها القصصى المعروف . ويقول " جالان " فى مقدمة الجزء الأول من ترجمته لألف ليلة ، إن " ألف ليلة وليلة هى الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى العامة ، وانها الصورة الصادقة له ، فمن قرأها فكأنه رحل إلى الشرق ، ورآه ، ولمسه لمس اليد " . ويقول فون ديرلاين : " هذه المجموعة من الحكايات الخرافية ترسم صورة للحياة العربية خلال قرون ستة " ، فهى حكايات عربية إذن .

ـ 3 ـ
استلهم الكثير من أدبائنا ألف ليلة وليلة . أذكّرك بأحلام شهرزاد لطه حسين ، وشهرزاد للحكيم ، وشهرزاد لباكثير ، والقصر المسحور لطه حسين والحكيم ، ورحلات السندباد لخليل حاوى ، وشهريار لعمر النص ، ورحلات السندباد السبع لأحمد هاشم الشريف وغيرها . ومع إن توظيف نجيب محفوظ لليالى الألف لم يظفر بالحفاوة النقدية التى ظفر بها معظم أعمال محفوظ ، فإن الفنان يعتبرها من أفضل ما كتب ( 47 ) . يقول : " ألف ليلة تحولت معى ، فيما يتعلق بالمضمون والاهتمامات ، إلى الحاضر . ويشبه ذلك ما فعله بعض الكتاب حين تناولوا أسطورة أوديب ، وعالجوا عن طريقها المشكلات المعاصرة " ( 48 )
وإذا كانت معظم الإبداعات التى حاولت توظيف ألف ليلة وليلة قد اختارت ـ بداية لأحداثها ـ الليلة الثانية بعد الألف ، فإن روايتى زهرة الصباح تبدأ فى الليلة الأولى بعد الألف ، ثم تمضى أحداث زهرة الصباح فى موازاة أحداث ألف ليلة وليلة . تروى الأولى حكاية زهرة الصباح وسعد الداخلى ، مثلما تروى الثانية حكاية شهرزاد وشهريار ..
رواية زهرة الصباح محاولة لتوظيف تراث ألف ليلة وليلة فى عمل معاصر ، وإن ظلت ليالى ألف ليلة إطاراً له . زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار ، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد ، تنتظر دورها ، إما أن يمل شهريار الحكى ، أو تخفق شهرزاد . وتسعى زهرة الصباح بواسطة أبيها إلى الإفادة من كل مايقرأه ويستمع اليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسير الشعبية المصرية ، تحفظها حتى تبقى على حياتها لو حل عليها الدور . وأثناء ذلك أيضاً ينبض قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلى الملوانى ، الشاب المقيم فى البيت المقابل . ويرضخ الأب لإرادة ابنته بالزواج من الشاب ، ويتم زواجهما فى السر ، ويحيا الشاب فى قصر أبيها باعتباره خادماً ، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله أبوها ، مما يقرأه ويسمعه ، فى الوقت الذى تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار ، مقابلاً لإصراره على قتل بنات الناس . ويواجه شهريار ـ فى النهاية ـ بغضبة الناس المعلنة ، كما يفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء . وهو ماحدث فى ألف ليلة وليلة بالفعل . ويعود شهريار عن غيه ، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء ، والسؤال يشغل الجميع : هل جرى ما جرى خوفاً من غضبة الناس ، أو أن الكلمة قد أثرت فيه من خلال حكايات الليالى الألف ، فتبدلت أحواله . أما زهرة الصباح فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته . وبينما كان شهريار يعفو عن شهرزاد ، ويعترف بأبنائه الثلاثة ، تكون هى حاملاً من زوجها سعد الداخلى
***
كانت دنيا زاد هى الفتاة التالية لشهرزاد فى ألف ليلة . أما زهرة الصباح فقد كانت الفتاة هى التالية لشهرزاد فى روايتى . ليس ثمة دنيا زاد فى الرواية ، وهذا ـ كما تعرف ـ حق الفنان . الفن اختيار ومخيّلة . وقد حاول كل من والد شهرزاد ووالد زهرة الصباح أن يمنع التضحية بابنته ، أو يرجئ ـ فى الأقل ـ وصولها إلى بقعة الدم ، ولكن الوسائل اختلفت ، فقد حاول الوزير أن يثبّط عزيمة ابنته فلا توافق على الذهاب إلى قصر الملك . وهى ـ كما ترى ـ كانت محاولة يائسة ، وإن يفسّرها أنها صادرة من أب يخشى على حياة ابنته . أما عبد النبى المتبولى فقد لجأ إلى المتاح ، وهو أن تحفظ زهرة الصباح الكثير الكثير من الحكايات لتواصل الحكى ، فتطيل حياتها إن سيقت شهرزاد إلى بقعة الدم ، فى الليلة التى لا تجد فيه ما ترويه ، أو يشعر شهريار بالملل . وفى الليالى الألف تتداخل الحكايات : شهرزاد هى الراوية لحكايات متوالية ، ننسى بعضها ، ونتذكر بعضها . أما رواية زهرة الصباح فهى تروى لنا حكاية واحدة ، هى التى تهمنا ، وليست الحكايات التى ترافق أيامها ، سواء نسبت إلى شهرزاد ، أو إلى قضايا الناس ، أو سير الرواة [ بالنسبة للشكل ، فإنى أتأمل ملاحظة صديقى أحمد درويش ، وأوافق عليها ، بامتزاج الحاكى والراوى فى " زهرة الصباح " ، وباستفادة التقنيات الحديثة من الموروث القديم ـ تقنيات الفن القصصى عبر الحاكى والراوى ص 258 ]
***
ثمة وصف لشهرزاد بأنها " فتاة فدائية ، لأنها تعرضت لسيف شهريار الذى فتك ببنات المدينة ، أرادت أن تغويهن ، فوضعت نفسها أمام النطع والسيف ، متحدية بعزيمة صادقة وقلب شجاع " ( 49 ) . أما توفيق الحكيم فيجد فى شهرزاد استمراراً لإيزيس . بعثت زوجها شهريار بعد موت نفسه ، وأعادت الحياة إلى انسانيته ، تعلم من أحاديثها وقصصها ، وعادت إليه نفسه ( 50 ) . ولعل ذلك بعض ماعبرت عنه زهرة الصباح ، لكنه لم يكن كل ما حملته .
ألحت حكايات شهرزاد على طبيعة النساء المنحرفة ، اتساقاً مع الثقافة العربية التى يرى جمال الدين بن شيخ انها تحمل مسئولية التعاسة للمرأة ( 51 ) . أما حكايات زهرة الصباح ، فقد قدمت المرأة فى صورة مغايرة ، همها البيت والأسرة والحياة التى تخلو من المعايب ، ومن الخوف ..
إن زهرة الصباح تحيا فى الرواية . تسأل ، وتجيب ، وتنظر من الشرفة ، وتخرج إلى السوق ، وإلى الحمام ، وتحب ، وتتزوج . وشهرزاد فى روايتى لها كذلك ملامحها الواضحة التى يتعرف القارئ اليها ، بعكس شهرزاد فى الليالى ، فإنها مجرد صوت يروى . حتى تنتهى الليلة الواحدة بعد الألف ، وان تخفَّت شهرزاد وراء الأقنعة التى كانت ترتديها فى كل ليلة لنماذج النساء اللائى كانت تقدمهن فى كل ليلة ( 52 )
أفادت شهرزاد من الحكايات التى جمعتها من الكتب ، وهى كتب فى التاريخ والشعر والطب وأقوال الحكماء والملوك ، أفادت من الذاكرة المكتوبة . أما زهرة الصباح فقد تنوعت عناصر الإفادة ـ والفضل لأبيها عبد النبى المتبولى ـ فبالإضافة إلى حكايات شهرزاد لشهريار ، والتى كانت تنقلها له القهرمانة نجوى لينقلها إلى زهرة الصباح ، فإنه نقل حكايات الرواية فى الأسواق والطريف من القضايا التى عرضت عليه ..
جعل عبد النبى المتبولى نفسه فى موضع ابنته زهرة الصباح ، فأدرك أن الراوى الماهر ـ ترقباً لما سيحدث ، أو قد يحدث ـ " من يعرف أكبر عدد ممكن من الحكايات ، ويعرف كيف يرويها . الراوى الماهر كذلك هو الذى يعرف من أين يتزود بالحكايات ، ويعرف بالتالى من يقصده فى حالة الخصاصة بغية الحصول على حكايات جديدة " ( 53 ) . وكما يقول رولان بارت فإن " حكايات العالم لا حصر لها . تلك حقيقة أولى مدهشة حول جنس الحكاية ذاته ، الذى يتفرق فى كيانات مختلفة ، كما لو أن كل مادة فى الكون صالحة لأن يودع الإنسان فيها حكاياته . فالحكاية يمكن أن تحملها اللغة المحدودة ، شفوية أو كتابية ، أو تحمله الإشارة ، أو يحملها الخليط الممزوج من كل هذه الكيانات ( 54 )
***
شفى شهريار من مرض الحقد والرغبة فى الانتقام ، وشفى المتبولى من أمراض كثيرة كانت هى التى تسيّر حياته ، وتملى عليه أقواله وتصرفاته . وكانت الحكايات ، الكلمات ، هى الدواء الناجع لكلا الرجلين . وتبين أهمية الكلمة فى حياة كل من شهرزاد وشهريار ، عندما روت الحكاية عن الملك الذى أراد أن يضاجع جارية وزيره ، فقالت له الجارية : هذا الأمر لا يفوتنا ، ولكن صبراً أيها الملك ، وأقم عندى هذا اليوم كله ، حتى أصنع لك شيئاً تأكله . وأتت الجارية للملك بكتاب نبضه المواعظ والحكم التى تنهى عن الزنا ، وتكسر الهمة عن ارتكاب المعاصى . لذلك كان حرص شهريار على الكتاب ، فهو يعنى بالكتب ، ويسرف فى اقتنائها واقتناء المخطوطات ، ويمضى نهاره فى المكتبة ، يختلى بنفسه ، يطلب دواة وأوراقاً ، وينشغل فى الكتابة والتأليف فى نظم الشعر والزجل والموشحات والبلاليق وتدوين الحوادث . وصار يعقد الكثير من جلساته فى قاعة المكتبة ، بعد إعادة تأثيثها ، يجالسه العلماء والأدباء والشعراء ، يطرحون الموضوعات كيفما اتفق ، ينصت كثيراً ، ولا يتكلم إلاّ قليلاً ، يزيل الرهبة من نفوس المحيطين بتواضع ظاهر ، يبين عن حبه للعلم والعلماء فى هداياه الوفيرة وخلعه وعطاياه . ورجا شهرزاد أن تعيد رواية حكاياتها على النساخين ، ينقلونها وهم جلوس وراء ستار ، ويكتبونها بماء الذهب ، فتحفظ فى خزائن الدولة ..
إن معجزة الإسلام هى القرآن الكريم . لكل نبى معجزاته التى أقنعت المؤمنين به أنه نبى من الله . أما رسول الإسلام ( ص ) فقد كان القرآن الكريم هو المعجزة التى تحدت من يستطيع أن يأتى بمثلها . والقرآن الكريم قوامه الكلمة ، ففى الكلمة إذن تكمن هذه المعجزة السماوية الخالدة ، وفى الكلمة أيضاً تكمن رسالات وأفكار ومبادئ وحكم وعبر وعظات " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " ..
لم تكن شهرزاد قد ضمنت حياتها بما ترويه من حكايات ، لكنها كانت تحاول ـ بتلك الحكايات ـ أن تضيف إلى كل يوم فى حياتها يوماً جديداً ، ولعلها كانت تثق فى داخلها أنها ستموت ، وأن كل ما كانت تحاوله هو تأجيل اللحظة الحتمية . وقد فقدت شهرزاد فى الليلة الأولى بعد الألف قدرتها على الحكى ، أو الرغبة فيه ، أو لأنها لم تعتد تحتمل أن تعيش يوماً بيوم ، وترغب فى أن تتعرف على مصيرها نهائياً ، وخلال ليلة تكون هى الليلة الحاسمة ( 56 ) . وإذا كانت الطبعة التى قال فيها شهريار لشهرزاد فى الليلة الحادية بعد الألف : كفى ، بمعنى أن حكاية تلك الليلة أحدثت ما كانت شهرزاد تحاول إلغاءه ، وتتوقعه فى الوقت نفسه ، وهو تسرب الملل إلى نفس شهريار .. إذا كانت تلك الطبعة هى الصحيحة ، فإن زهرة الصباح كانت ستحل بدلاً من شهرزاد ، لولا أنه عفا عن شهرزاد لأنها كانت قد أنجبت أطفالها الذكور الثلاثة .
كان الهدف من حكاية القصص فى ألف ليلة وليلة ـ كما يقول يوسف الشارونى ـ هو التغلب على الوقت والزمن . وقد أتاحت الحكايات / الكلمات لشهرزاد أن تطيل حياتها بالفعل ، حتى كسبتها فى النهاية ، نتيجة لانشغال شهريار بالاستماع إلى الحكايات والاستمتاع بها . أما الهدف من حكاية القصص فى زهرة الصباح فهو تأجيل الموت . لقد تغلب الإنسان على الخوف ، وتغلبت الحياة على الموت . أتذكر قول رامان سلدن : " إن بقاء الراوى ـ شهرزاد ـ فى ألف ليلة كان يعتمد على الانتباه المستمر للمروى عليه ـ شهريار ـ ذلك لأنه كان سيقتلها إذا فقد اهتمامه بما ترويه ( 57 )
أفلحت شهرزاد فى تخليص شهريار من جنونه ، بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها ، بحيث وضعته فى حالة تنبّه طيلة ثلاث سنوات تقريباً حتى تمكنت من شفاء حقده وضغينته ، وتمكنت بالتالى من إنقاذ البشرية ( 58 ) . أما زهرة الصباح فقد أعطت المعنى للحياة فى ظل الخوف . تأجل ـ بحكايات شهرزاد ـ ما كان ينتظر زهرة الصباح من مصير ، لكن الحكايات ـ فى الحقيقة ـ لم تستطع أن تزيل الخوف الذى ظل فى نفس زهرة الصباح حتى أعلن شهريار عفوه عن شهرزاد ..
واللافت أننا نفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت من شهريار أبناءها الثلاثة . أما زهرة الصباح ، فنحن نتابع تطورات حياتها منذ أحبت وتزوجت ، واستعدت للإنجاب ..
***
أما شخصيات ألف ليلة وليلة بعامة ، فهى تختلف ـ فى مجموعها ـ عن شخصيات التاريخ العربى المكتوب . إنها شخصيات تنتسب إلى الناس العاديين ، هؤلاء الذين نلتقى بهم فى البيوت والأسواق والشوارع والوكايل والخانات . من يشقيهم البحث عن قوت أيامهم . ثمة الشيالون والإسكافية والصيادون والحلاقون والمزارعون الصغار والحرافيش والذين بلا مهنة . إنهم التعبير عن التاريخ الحقيقى للفترات التى عاشوا فيها ، وليس الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والوزراء والولاة والقضاة والمحتسبين إلخ ..
إن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لرواية زهرة الصباح " ، وكانوا ـ من قبل ـ الأبطال الحقيقيين لروايات الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل ، تخفت ـ أمام جهارة أصواتهم ـ أصوات المقيمين فى القصور .
الكاتب العربى أغسطس 1999 ـ فكر وإبداع مارس 2000
ــــــــــ
الهوامش :
1 ـ ت . عاصم إسماعيل ـ آفاق عربية مارس 1985
2 ـ الهوية والتراث ص 103
3 ـ العربى مارس 1975
4 ـ ثقافتنا فى مواجهة العصر ص 54
5 ـ الأهرام 3/3/1994
6 ـ زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ص 6
7 ـ المجلة 2/3/1988
8 ـ فؤاد حسنين على : قصصنا الشعبى ص 65
9 ـ رفعت سلام : بحثاً عن التراث العربى ص 20
10 ـ صبرى العسكرى ـ الأهرام 29/5/1988
11 ـ ميلان كونديرا : الطفل المنبوذ ـ ت . رانيا خلاف ص 400
12 ـ البلاغ اليومى 12 يناير 1932
13 ـ مجلة " الأديب " فبراير 1950
14 ـ قصصنا الشعبى ص 31
15 ـ الأعمال الكاملة لشوقى عبد الحكيم ـ جـ 2 ص 65
16 ـ المتواليات ص 72
17 ـ ألان روب جرييه : لقطات ـ ت . عبد الحميد إبراهيم ص 65
18 ـ سامية محرز : روايات عربية ، قراءة مقارنة ص 65
19 ـ أ . ل . رانيلا : الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 258
20 ـ تجديد الفكر العربى ـ ص 292
21 ـ المرجع السابق ص 292
22 ـ الرأى الأردنية 22/3/1983
23 ـ الأهرام 29/5/1988
24 ـ عبد الرحمن مجيد الربيعى : الخروج من بيت الطاعة ص 105
25 ـ روايات عربية ص 17
26 ـ لعل ألف ليلة وليلة أكثر الكتابات الأدبية الشعبية ذيوعاً ، منذ نشر أنطوان جالان Galland ترجمته لها عام 1704 . كما ترجمت حى بن يقظان إلى الإنجليزية أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ثم ظهرت إحدى عشرة طبعة بلغات مختلفة بين عامى 1671 : 1783
27 ـ الشيراوى ـ مقدمة الطبعة الفارسية
28 ـ هوم وشيكل ـ الطبعة الكاثوليكية عن النسخة الإنجليزية
29 ـ المصدر السابق
30 ـ المسعودى : مروج الذهب جـ 4 ص 90
31 ـ العربى مايو 1984
32 ـ حوار مع بورخيس ـ الثقافة الأجنبية 2/1984
33 ـ الوطن العربى العدد 277
34 ـ المرجع السابق
35 ـ آفاق عربية مارس 1985
36 ـ الموسوعة الإسلامية طـ 2 جـ 1 ص 209 : 210
37 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 302
38 ـ جمال الدين بن الشيخ : ألف ليلة وليلة ، أو القول الأسير ـ ت . محمد برادة ـ المجلس الأعلى للثقافة ص 28
39 ـ المرجع السابق ص 20
40 ـ مجلة " الأديب " يناير 1954
41 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 94
42 ـ رحلة فى ألف ليلة وليلة ص 8
43 ـ قاسم عبده قاسم : الرؤية الشعبية للحروب الصليبية ـ المأثورات الشعبية إبريل 1987
44 ـ المرجع السابق
45 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 315
46 ـ سندباد مصرى ص 269
47 ـ الأهرام 20/10/1988
48 ـ الرأى الأردنية 22/3/1982
49 ـ الدوحة نوفمبر 1985
50 ـ تحت المصباح الأخضر ص 131
51 ـ ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ص 34
52 ـ نبيلة إبراهيم : المرأة ذات الألف وجه فى ألف ليلة وليلة ـ أدب ونقد مايو 1966
53 ـ عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة ـ ت . مصطفى النحال ص 32
54 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 21
55 ـ الإسراء ـ 88
56 ـ العين والإبرة ص 31
57 ـ رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ـ ت جابر عصفور ص 204
58 ـ العين والإبرة ص 16