المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صراع الحضارات والحضارة الإسلامية



نظام الدين إبراهيم أوغلو
18/07/2008, 12:52 PM
صراع الحضارات والحضارة الإسلامية

نظام الدين إبراهيم أوغلو
المحاضر في جامعة هيتيت بتركيا
مقدمة

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
لكل أمة حضارتها تتفاخر بها وتسعى من أجل رعاية أسباب تطويرها وإستمرار بقائها، بعد مجيء الرسول (ص) وتكوينه حضارة إسلامية راقية ومتطورة ووضع لها مبادئ سامية من أجل ديموتها ولكونها حضارة عالمية إستمرت قرون عديدة ما يقارب 13 قرناً لأنها كانت تخاطب كل العالم فقبلتها كافة الشعوب بأن يعيشوا تحت حمايته لأنهم كانوا يطبقون العدالة والمساواة والحرية مع كل أديانها وطوائفها، ولكن لأسباب كثيرة إبتعدت أكثر الحكومات الإسلامية وشعوبها عن هذه المبادئ السامية فأيدوا الدول التي سيطرت علينا بعد سقوط الخلافة العثمانية، ثمّ اختاروا حكومات من أمثالهم. ولهذه الشعوب الضعيفة عقائدياً لم يكنوا قادرين على مواصلة راية الحضارة الإسلامية فبقينا أشلاء لا نستطيع تحريك الساكن، لأننا بحركتنا البسيطة كنا نحوف العالم وهكذا فقدنا سيادتنا الحضارية على الكون وحتى فقدنا هويتنا الشخصية، ولأجل إرجاع سيادتنا وحضاراتنا من جديد علينا بالرجوع إلى المباديء الإسلامية السامية كما رسمه لنا سيدنا محمد (ص).
والحضارات على شكلين: الأولى الحضارة التي تهدف المباديء السامية وتخدم البشرية فتنشر العدالة والمساواة والحرية والرفاه والسعادة ولأخلاق الحسنة والأمن والطمأنينة والعلوم والصناعة والتكنولوجية بين كافة المواطنين. والثانية الحضارة التي تهدف إلى هدم الحضارات البشرية وثقافتها وعلومها وصناعتها وتكنولوجيتها وتمنعهم من الرفاه والسعادة والأمن والطمأنينة بالإضافة إلى تشويق الفساد والأخلاق السيئة والظلم والطغيان ومنع الحريات بين الناس.
وصراع الأمم الكبيرة عبارة من هذين الشكلين الأولى يبني وينشر الرسالة الإلهية إلى الأمم المظلومة، والمتدينون عموماً هم رافعوا راية هذه الحضارة.
والثانية يهدم الدين والثقافة والعلوم ويمنع الحريات ويظلم الشعوب، وحتى أنهم يجبرون الشعوب على تبديل أديانهم ولغتهم أو إجبارهم على الهجرة والقتل والتشّريد ومحاربتهم في كافة النواحي الطعاة والمنافقون هم رافعوا راية هذه الحضارة. ونرى هذا في كتب التاريخ عند البيزنطنيين والرومانيين والفارسيين والمغوليين والفرنسيين والإيطاليين والأمريكيين والإيطاليين والإنكليز والرّوس والألمان وغيرهم. وكيف أنهم أبادوا الصناعة والبنية التحتية للبلد التي سيطروها، وفي الوقت الحاضر نجد هذا في الأندلس والجزائر وتونس والمغرب والعراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وبوسنة هرسك وشيشانستان ..
وقد تسألون لماذا أكثر الحروب على الدّول الإسلامية؟ جواب هذا السؤال معروف لدى المسلمين، بسبب كونه دين عالمي إعتنقه كثير من غير المسلمين فخافت الأعداء من إنتشار أكثر فدبروا لهم كافة أنواع الحروب ثم عدم قبول المسلمين الخضوع والولاء لغير الله تعالى والذّل للأشخاص، وكل الخلافات والصدامات بين الحضارات الإسلامية وغير الإسلامية قائمة على هذين السببين. ويمكن القول أنّ أساس الصراعات الحضارية دينية وثقافية بالدّرجة الأولى. أنظروا إلى أحوال الدول لغير المسلمة وأكثر الحكومات الإسلامية كيف أنهم خضعوا لأوامر الدول العظمى أذلوا أنفسهم فخسروا الدّنيا والأخرة. وحكام الدول المستعمرة يخدعون شعوبهم بشعرات جذابة منها أنهم أحرار ومستقلون وأنهم يطبقون الدّيمقراطية والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان والمرأة أو غير ذلك.
أمام كل هذه الخدع تتزايد وعي الشعوب أكثر فأكثر ويدرك حقائق مكر السياسيين والحكام الطاغين. فقال تعالى (ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يُطاع) ،(ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) . والصحوة الإسلامية في كل البلدان تنشتشر وتتزايد فيردون الإستعمار والتعصب المذهبي والقومي والعرقي، ويتعاونون ويوحدون صوفهم ضد هؤلاء، فالمسلمون بخير ونحن متفائلون لمستقبل الأمة الإسلامية المشرقة وتكوين حضارة قوية، فالوقت آت فيقول أيضاً ( إنّ موعدهم الصّبح أليس الصبح بقريب) والمثل يقول: "بين المغرب والعشاء يفعل الله ما يشاء"

وعند تكوين حضارات الدول الإستعمارية الظالمة، يكون كلّ عملٍ مشين ومحرم مباح عندهم فيدمرون المبادئ والعقاد والأديان التي يدينونهُ ماداموا هم على غير دينهم، إلاّ أنّ المسلمين لم يفعلوا هذا أبداً لأنهم يحملون مباديء سامية والإنسان مكرم عندهم فلم يبيحوا الظلم وقتل العزل والنساء والشيوخ وحتى هدم المعابد والأشجار في الحروب.
وقد نسمع ونقرأ قول القلّة من الملحدين والمفترين والمنافقين الذين لايُحبون الإسلام يدّعون أنّ الإسلام إنتشر بحدّ السّيف، والآيات الكريمة والوثائق التاريخية تثبت عكس ذلك وحتى أن مؤرّخي وعلماء هؤلاء ثبتوا بكشوفاتهم وأبحاثهم على أن المسلمين هم أصحاب بناء الحضارات بدليل ظهور العلماء والأبحاث والمصادر القيمة التي أنارت العلوم، والمساجد والمدارس العلمية التي معها ومكتباتها ومعالمها خير شاهد على ذلك.
وبالمقابل تاريخ الإستعمار حافل بالأحداث الدموية ضد شعبم وكيف أنهم نشروا حضارتهم بالسيف من أجل الكسب الكثير من الأموال على حساب شعوبهم ثم توسيع سلطتهم وأراضيهم بحروب دامية للمدن التي إستولوها فحرقوا الكُتب والسّجلات والمتاحف والمكتبات والأرشيفات المهمة وحتى مؤسسات الدّولة، وكذلك دمروا المدراس والمصانع والمعابد الدّينيّة، ثمّ قتلوا العُلماء والمثّقفين وحتى الناس المظلومة، وأخيراً بدأوا بكتابة تاريخ الدّول المستولية من جديد وكيفما يشاؤون. والتّاريخ يُعيد نفسهُ مادامت السموات والأرض والمنافقون والظّالمون قائمون على هذا الأرض.
ولأجل الحِفاظ على قوّة وتقدم وإزدهار حضارة الأمة الإسلامية يجب علينا أن نجتهد ونسعى لأجل التعليم بكافة علومها وخاصة العلوم الإسلامية وأن نسير على خطى الرسول (ص) ومبادئها السامية التي خلفها لنا وأن نجتهد ونسعى أيضاً لأجل الكسب الكثير من الأموال والثروات لكي تكون وسيلة للعيش السعيد وتكوين قوة إقتصادية وعسكرية وتكنولوجية قوية، وأن نكون من أصحاب اليد العليا، وأن نجتهد ونسعى كثيراً من أجل رفاه وسعادة وأمن العالم لأننا أولى بأن نكون أصحاب الحضارة وخليفة الله في الأرض، لأنّ دستورنا عالمي ونظامنا عالمي يدافع عن المظلومين والعاملين والفقراء وحتى أنه يدافع ويحفظ سعادة وأمن الأغنياء وأصحاب الثروات الطائلة، وكذلك يضمن حقوق كافة الناس من الرّجل والمرأة والأطفال والشّياب ويضمن العدالة والمساواة والحرية والأمن والأستقرار لهم فقال تعالى( وأنِ احكمْ بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) .

تقسيم الحضارات إلى قسمين:
يمكن تقسيم الحضارات بشكل عام إلى قطبين مختالفين.

1ـ الحضارة الغربيّة : (تشمل القارة الأوروبيّة والأمريكيّة)، وهي حضارة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، ومن ناحية أخرى، تقوم على تمجيد العقل توحلت إلى حضارة استكبارية باطشة، تركت الجدال بالحسنى، وجاءت للناس على متن المقاتلات ـ والمدرعات، تمشي بينهم بالتقتيل، والتشريد، والاضطهاد، والإبادة، ويشهد لذلك الحرب العالمية الأولى، والثانية، وأخيراً، النظام العالمي الجديد.
وهؤلاء إستفادوا من علوم وثقافة وحضارة الأمة الإسلامية أخذوا منهم دواعي التقدم والتطور فإهتموا بحرية وحقوق الإنسان وجلبوا العدالة والمساواة وراعوا بعض المبادىء السامية من الصدق والسعي والنظافة في كل مكان وإحترام رأي الأخرين واللّين ونحو ذلك. وفي نهاية القرن الثامن العشر إستطاعوا من المنافسة للحضارة الإسلامية والخوض معهم في صراع حضاري فإتّفقوا وإتّحدوا على أحذ راية الحضارة من يد المسلمين وتحققت ذلك وإلى الآن .
2ـ الحضارة الشّرقيّة:( تشمل القارة الأفريقيّة والأسيويّة: فيها الصّين واليابان والهند والرّوس ومن ضمن هذه الحضارة أيضاً الدول الإسلاميّة والتي فيها الحضارة العربية والفارسية والتّركية والأورديّة والبربرية الأفريقية ونحو ذلك) إنهزموا كلهم أمام الحضارة الغربية.
علماً أن الحضارة الإسلامية قامت على الجمع بين التقوى والتقنية، دون تعارض أو تنافر. وتأسست على السلام العالمي، والأمن الداخلي، وقامت على التوفيق بين العقل والوحي، فليس فيها خصام، أو فصام بين الدين، والعلم كما في قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) . (لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) .
الحضارت المهمة القائمة بشكل عام :
1ـ الحضارة العربيّة، بلاد الرّافدين التي كانت فيها المبادىء الإسلامية السامية (الرسول محمد (ص) والصحابة والدولة الأموية). 2ـ الحضارة التّركية، أسيا الوسطى وأناضول التي كانت فيها المبادىء الإسلامية السامية (السلجوقية والعثمانية..). 3ـ الحضارة الإيرانية، بلاد الخليج التي كانت فيها المبادىء الإسلامية السامية (الفترة العباسية). 4ـ الحضارة المصريّة بلاد وادي النيّل، الأفريقيّة التي كانت فيها المبادىء الإسلامية السامية (المماليك). 5ـ الحضارة الرّومانيّة (أوروبا الشّرقيّة). 6ـ الحضارة الهنديّة البوذيّة (أسيا). 7ـ الحضارة الصّينيّة واليابانيّة البوذيّة (أسيا). 8ـ الحضارة الرّوسيّة الصّليبيّة الإباحية (أسيا). 9ـ الحضارة الإنكليزيّة الصّليبيّة التي فيها القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة.(لاتزال قائمة). 10ـ الحضارة الأمريكية اليهودية الذين يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. (لاتزال قائمة).
الدول الإسلامية تحت الإحتلال الإستعماري
(فلسطين، كشمير، الحبشة، دول القفقاس، دولة شيشانستان، أريتريا، صوماليا، أرناووط، مناطق تركية في اليونان"تراكيا الغرب، والجزر التركية"، مقدونيا، مناطق تركية في بلغارية "إسكوبيا، قرجالي"، جبل جولان السورية المحتل من قبل إسرائيل، فليبين، الأندلس، تركستان الغرب في الأراض الصينية، وقرة باغ الإذرية المحتل من قبل الأرمن، العراق، أفغانستان) وباقي الدول الإسلامية محتلة بصورة غير مباشرة.
الدول المنتصرة والمنهزمة في الحرب العالمية الأولى
المنتصرة: (إنكلترا، فرنسا، إيطاليا، روسيا، النمسا، هولندا، اليونان، بلجيكا). ولكنهم تضرروا هم أيضاً في هذا الحرب والتي دامت 4 سنوات ما بين 1914 ـ 1918عدا دولة أمريكا لأنها إشتركت عام 1917 لا بالجيش بل في العدة والطائرات وبعدها بسنة إنتهت الحرب.
المنهزمة: (المانيا، تركيا (بقيادة دولة عثمانية)، بلغاريا ، نمسا.....).
الدول المنتصرة والمنهزمة في الحرب العالمية الثانية
الدول المنتصرة: (إنكلترا، فرنسا، روسيا، أمريكا، الصين، بولونيا).
الدول المنهزمة: (المانيا، إيطاليا، يابان، أندونيسيا، بلجيكا، هولندا، الدول العربية قاطبة، أفريقيا، إيران، روما، المجر، بولونيا، يونان، الجمهوريات التركية الخمسة عدا جمهورية تركيا لأنها بقت دولة محايدة ثم إتفقت مع الإنكليز). والتي إستمرت ست سنوات ما بين عام 1939 ـ1945.
لقد إستمر حروب دولة أمريكا إلى ما بعد الحرب، فوجه جيشه للحرب مع المانيا واليابان والفليبين وكوريا وفيتنام فهزمهم وعقد معهم معاهدات.
لماذا المسلمون لايستطيعون تكوين الحضارة الجديدة بعد هزيمة حضارتهم؟
كما نعلم بعد هزيمة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية من قبل الدول الغربية وبمساعدة المسلمين المنافقين إنهزمت حضارت المسلمين العريقة وأصبحت لا شيء أمام الحضارات الأخرى، وإلى يومنا هذا بقوا تحت حكم الدول الإستعمارية والسبب معروف كما ذكرت أعلاه إبتعادهم عن الدين الإسلامي والمباديء السامية وظلم الحكام الطاغين الأذلاء على شعوبهم، وهم سكتوا عليهم فأستحقوا أمر الله كما في قول الرسول (ص) (كيفما تكونوا يولّى عليكم). (إعمل ما شئت كما تدين تدان).

ومن أسباب هزيمة الحضارة الإسلامية هي كالأتي:
1ـ عدم وجود سياسين فطاحل مؤمنين وعادلين: لأنّ أكثرهم إمّا أُعدموا أو ماتوا أو في طريقهم إلى الإعدام أو هجروا من بلادهم، ويمكن القول هنا أن لإيران وتركيا حضارات عديدة ولهم تجاربهم السياسيّة العريقة لتكوين دولة ذات سيادة. أمّا للدول العربية وبقية دول المسلمين (أرجو أن لايؤاخذوني على الكلام الواقعي) لم يكن لديهم تجارب تاريخية في تكوين الدولة فيلاقون نوعاً ما صعوبة وأزمة سياسية أكثر من الدولتين المذكورتين.
2ـ إنحراف الأمة الإسلامية عن دينها ومبادئها السامية: فالله تعالى يأمرنا ويطلب منا أن نكون خُلفاء في هذا الأرض، بإلتزامنا لأوامره والعدد والعدة لايفي أمام الإيمان لأن الله تعالى يقول (كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة) .
3ـ عدم وعي الشّعب عموماً في المواضيع العامة وبالأخص السّياسيّة:
وإن لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على اللجوء إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لإمتلاك السيف الناصر. ركوب الشعوب الإسلامية لفترة زمنية قد يكون لسنة إلهية على الأرض وشموخها مثل ذلك، بعد أن فارقوا الدين والعلوم والأخلاق الفاضلة وإبتعدوا عن السعي والفداء والتفقه في الدين والأمور الحياتية، ولكن بفضل الله تعالى بدأ الوعي الديني والسياسي يرجع إلى الشعوب المسلمة بعد الثمانينات وأمور المسلمون بدأت في تحسن وبخير. وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية.
هيمنة الحضارة الغربية
" إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ـ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا. فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا،
هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم،
وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة" .
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين: أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة. وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية .
الخلاصة
إن التحديات الحضارية، هي الخطر الحقيقي، الذي يواجهنا نحن المسلمين اليوم، غير أن هذا الخطر كائناً ما بلغ، قد ردنا إلى الإيمان، وأحيا فينا آمال العودة، حتى ولو كان بعضنا أمياً، فيؤتيه الله علما.. والإيمان بالله، هو أصل العلم.
المستقبل للإسلام، ليس هو مجرد شعار نتبناه، محوطاً بالأمل والرجاء، إنما هو دين، وعقيدة..نؤمن يقيناً، ونوقن بجزم، أن المستقبل للإسلام، لأن المسلم بحكم إسلاميته، وتدينه، يؤمن بالمستقبل، وأن لكل مشكلة حلاً، ولكل مسألة جواباً، ولكل داء دواءاً، وقد قرر هذه الحقيقة كتابنا المحفوظ، وسنة نبينا المعصوم.
ومهما كان ضعفنا، وتفرقنا، اليوم، فإن الله يعيننا، ويؤلف بيننا، إذا استمسكنا بعروته الوثقى، وعدنا إلى الإيمان العاصم، فنملك بهذا العلم الإيماني، إمكانية أن نهدي العالمين إلى الصراط المستقيم. ثم إننا من أجل إقامة نهضة حضارية، وتفوق ثقافي، وتقدم علمي، لنكون قوة المستقبل، التي تحمي الحق، وتدافع عنه، لابد من عمل دائب، وجهاد في هذا السبيل، وإقامة للدين، بمعانيه الشاملة والكاملة، من أنه اعتقاد، وعمل، وعبادة، وأخلاق، وآداب، وسلوك، ومعاملات، وقوانين مدنية، وجنائية.. أو شعائر وشرائع، وأسلمة لشؤون الحياة كلها، في الفرد، والمجتمع، والدولة.
أن حضارة الغرب العلمانية الإنسانية السائدة رغم ثرائها المادي وجبروتها العسكري تعاني من آلام مبرّحة، إذ فقدت القوى التي أدّت إلى سيطرة هذه الحضارة قدرتَها على الاستقطاب، وها هي قوى التفكك والاضمحلال تتجاوز قوى التعاضد والتماسك، والمراسي التي ثبّتت السفينة آخذةٌ في التداعي، والقيم التي جمعت الناس معاً تعاني من الاضطراب، ولم تعد العلل مقصورة على قطاع واحد أو عدد قليل من القطاعات، بل أصبح نهر الحياة برمته ملوّثاً.

والله ولي التّوفيق