زاهية بنت البحر
30/07/2008, 01:00 PM
لم تغمض لأمِّ عادل عينٌ في هذه الليلة, ظلَّت ساهرة تصلِّي, وتبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يحمي وحيدها، ويرزقه بالمال والولد، صلت ودعت بحرقة، وسقت ذبول خديها دموعًا كثيرة علَّ الأمل ينبت فيهما روضَ سعادةٍ تهدي ثمارها لفلذة كبدها، فتغمض عينيها وهي مطمئنة على ذرية حبيبها الراحل.
وهو يودِّعها عند الفجر, حاولت أن تخفي دموع أمومتها عنه بعد أن أطلقت الباخرة بوقًا تستدعي به جميع البحارة المنتشرين في الجزيرة، بينما لم تستطع سراب حجب دموعها، فبدا القلق جليًا في عيني عادل وحار في أمره.
مع طلوع الشَّمس أطلقت السَّفينة بوق الوداع, فأسرعت سراب بالصُّعود إلى سطح البيت لرؤيتها وهي تمخر في العباب مبتعدة عن الجزيرة، وفوق متنها أغلى الحبايب, اخترقت عيناها مسافة البعد علَّها تلمح مليكها, فتمسح عن جبينه بعض حبات عرق تحتقظ بشذاه لحين رجوعه إليها، وطار قلبها يرفرف فوق السَّفينة نورسَ حبِّ شغوقًا بوليفه حتى غابت في الأفق البعيد، وظل محلقًا في سمائها يرفض العودة وحيدا دون مليكه.
أحسَّت انكسارًا, فنزلت إلى البيت متثاقلة الخطوات، كريمة العبرات، شاردة الفكر. استقبلتها حماتها بوجه بشوش يوحِّدُ خالقه، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ودَعَتْها لمشاركتها بتناول قهوة الصَّباح تحت الياسمينة التي ظلَّلت فسحة الدَّار. لم تكن لديها رغبة في شرب القهوة, لكنَّها مسايرةً لحماتها قبلتها، وفي جوفها نار الفراق تحرق فؤادها دون رحمة.
قالت العجوز وهي تناولها الفنجان: لاأحبَّ أن أراك حزينة, ابتسمي ياابنتي.. لاتكتئبي.. سرعان ماتمرُّ الأيَّام, ويعود إليك.
قالت سراب وهي تمسح دموعها بأنامل يدها: ولكنَّه عام يا امرأة عمي، عام، كثير والله.
ظلت العجوز صامتة، بينما نظرت سراب إلى السَّماء وتابعت: السَّماء ملبَّدة بالغيوم.
فقالت العجوز وهي مطرقة: فقط في الصَّباح, ألا ترينها مقلعة إلى أجواء أخرى؟
- بلى، ولكن..
- اطمئنِّي يا ابنتي مازلنا في أواخر تموز، والرِّيح مازالت في الغربة.
فقالت سراب وقد عاودها البكاء: وتموز القادم مازال بعيداً.
ابتسمت العجوز وهمست: انظري في وجهي، تأمليه جيداً.
سألتها: لماذا؟
أجابت: أتعرفين كم تمُّوز مرَّعلى وجهي هذا؟
سألتها سراب: كم تقدِّرين؟
قالت : كثير.. كثير، ولكنَّها مرت جميعاً كتموزٍ واحد.
كلام العجوز جعل الابتسامة تعود إلى ثغر سراب، فقالت بدهشة: تموز واحد يا امرأة عمي؟
أجابت العجوز: نعم.. نعم، فالعام ينطح العام، ويلقي به في هوَّة الزَّمن.. غداً يأتي تموز الثَّاني, ويعود عادل، فلا تعكِّري صفو أيّاَمك بالحزن والألم، تمتَّعي بشبابك قبل أن يهرب منك ياابنتي.
سألتها سراب: كيف مادام زوجي غائباً؟
أجابت العجوز: وهل المتعة محصورة بوجود الزَّوج ؟
فسألتها سراب باستغراب: مارأيك أنت ؟
أجابت: طبعاً لا.
سألتها سراب بحرج: لم أفهم ماترمين إليه، أريد توضيحاً؟
قالت العجوز: لا أعتقد أنَّك لاتفهمين ماقلت، وقد نلتِ قسطاً من التَّعليم.
ردَّت سراب: ربَّما لم أفهم لأنَّ عقلي مازال متأثِّراً بسفر عادل.
فقالت العجوز: حسناً سأوضح لك الأمر.
- تفضَّلي.
سرحت العجوز بنظرها بعيداً، وكأنها تقرأ في ملفات الزمن، وهي تلقي محاضرة هامة : لقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون، وخلق الإنسان, وخلق كلَّ الموجودات، وسخَّرها له كي يتمتَّع بها، ويجعلها في خدمة عبادته لله عزَّ وجلّ.
سألتها سراب بدهشة: وهل الزَّواج إحدى هذه الموجودات؟
أجابت العجوز: بل من أهمها, لأنَّ الإنسان يتكاثر من خلاله.
قالت سراب بعفوية: وقد يأتي بعض النَّاس عن طريق غير شرعي.
فقالت العجوز: وهذا ما نهى الله عنه، وأنكرته جميع الدِّيانات السَّماوية.
هزَّت سراب برأسها موافقة حماتها التي تابعت قائلة: وبما أنَّ الزَّواج من أهمِّ هذه المتع الجسدية والمعنوية، والاجتماعية، فإنَّ عدم تحققه لايعني انتفاء المتع الأخرى.
سألتها سراب: كيف؟
أجابت: الاستمتاع بالعبادة شيء عظيم، ورؤية الجمال الذي خلقه الله في الأرض والسَّماء, بمساعدة النَّاس, بالقراءة, وحتَّى بالطَّعام.
فسألتها سراب: هل استمتعت بحياتك بعد وفاة عمّي أبي عادل؟
ابتسمت العجوز بحزن وأجابت: نعم، نعم، ولكن أتعرفين كيف كانت متعتي؟
سألتها: أخبريني؟
أجابت: بتربية أولادي تربية صالحة, وبمساعدتي للمحتاجين رغم محدودية حالتي المادية، استمتعت برؤية البحرهادئًا وصاخبا, بالتَّفكير بملكوت الله وعظمته, وبعبادتي له, كلُّ هذا استمتاع مشبـِع للنفس, ومن قال غير ذلك فهو كاذب.
قالت سراب: ربَّما كان كلامك صحيحاً، ولكنَّني أشعر بالألم بسبب غياب عادل.
قالت العجوز: وهذا إحساس عاطفي أيضاً, وهو أمر طبيعي, ولكن لا تجعلي الألم يلبسك، حاولي الخروج منه.. عودي لسعادتك، وتمتَّعي بعاطفة الشَّوق إليه دون أن تحترقي بها.
سألتها سراب: أأنت تقولين لي هذا، وعادل هو ابنك؟
أجابتها ضاحكة: عادل هو ولدي وقرَّة عيني, ولكنَّ سفره هو جزء من قدره, فهل أحارب القدر بعاطفة الأمومة التي قد تقتلني حزناً على فراقه، فأسبّب له الألم؟
قالت سراب: أنا ضعيفة أمام عاطفتي، ليتني كنت مثلك قوية أستطيع التحكم بنفسي عاطفيًا.
قالت العجوز: القوَّة خير من الضَّعف حتَّى في أدقِّ المشاعر.. تعلَّمي هذا ياابنتي، فالحياة لا تحقق لنا دائمًا مانحب.
قالت سراب : سأحاول، ولكن لا أعدك باستطاعتي تحقيق ذلك.
توالت الأيام كحلم لا تخلو أحياناً من بعض شرود، وشيء من الدُّموع.
في تلك الليلة كانت السَّماء ملبَّدة بالغيوم, تلاقى فيها خريف امرأة بخريف عام فكيف كان اللقاء؟
لم تكن أمُّ عادل نشيطة هذا المساء, فقد أحسَّت بوعكة مفاجئة، فأوت إلى فراشها بعد صلاة العشاء, تدثَّرتْ ببطانية سميكة, وألصقت ركبتيها ببطنِّها طلباً للدِّفء، وغطَّت في نومٍ عميق, بينما كانت سراب تسهر في غرفتها وهي تتابع إحدى التَّمثيليات على شاشة التِّلفاز.
بقلم
بنت البحر
وهو يودِّعها عند الفجر, حاولت أن تخفي دموع أمومتها عنه بعد أن أطلقت الباخرة بوقًا تستدعي به جميع البحارة المنتشرين في الجزيرة، بينما لم تستطع سراب حجب دموعها، فبدا القلق جليًا في عيني عادل وحار في أمره.
مع طلوع الشَّمس أطلقت السَّفينة بوق الوداع, فأسرعت سراب بالصُّعود إلى سطح البيت لرؤيتها وهي تمخر في العباب مبتعدة عن الجزيرة، وفوق متنها أغلى الحبايب, اخترقت عيناها مسافة البعد علَّها تلمح مليكها, فتمسح عن جبينه بعض حبات عرق تحتقظ بشذاه لحين رجوعه إليها، وطار قلبها يرفرف فوق السَّفينة نورسَ حبِّ شغوقًا بوليفه حتى غابت في الأفق البعيد، وظل محلقًا في سمائها يرفض العودة وحيدا دون مليكه.
أحسَّت انكسارًا, فنزلت إلى البيت متثاقلة الخطوات، كريمة العبرات، شاردة الفكر. استقبلتها حماتها بوجه بشوش يوحِّدُ خالقه، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ودَعَتْها لمشاركتها بتناول قهوة الصَّباح تحت الياسمينة التي ظلَّلت فسحة الدَّار. لم تكن لديها رغبة في شرب القهوة, لكنَّها مسايرةً لحماتها قبلتها، وفي جوفها نار الفراق تحرق فؤادها دون رحمة.
قالت العجوز وهي تناولها الفنجان: لاأحبَّ أن أراك حزينة, ابتسمي ياابنتي.. لاتكتئبي.. سرعان ماتمرُّ الأيَّام, ويعود إليك.
قالت سراب وهي تمسح دموعها بأنامل يدها: ولكنَّه عام يا امرأة عمي، عام، كثير والله.
ظلت العجوز صامتة، بينما نظرت سراب إلى السَّماء وتابعت: السَّماء ملبَّدة بالغيوم.
فقالت العجوز وهي مطرقة: فقط في الصَّباح, ألا ترينها مقلعة إلى أجواء أخرى؟
- بلى، ولكن..
- اطمئنِّي يا ابنتي مازلنا في أواخر تموز، والرِّيح مازالت في الغربة.
فقالت سراب وقد عاودها البكاء: وتموز القادم مازال بعيداً.
ابتسمت العجوز وهمست: انظري في وجهي، تأمليه جيداً.
سألتها: لماذا؟
أجابت: أتعرفين كم تمُّوز مرَّعلى وجهي هذا؟
سألتها سراب: كم تقدِّرين؟
قالت : كثير.. كثير، ولكنَّها مرت جميعاً كتموزٍ واحد.
كلام العجوز جعل الابتسامة تعود إلى ثغر سراب، فقالت بدهشة: تموز واحد يا امرأة عمي؟
أجابت العجوز: نعم.. نعم، فالعام ينطح العام، ويلقي به في هوَّة الزَّمن.. غداً يأتي تموز الثَّاني, ويعود عادل، فلا تعكِّري صفو أيّاَمك بالحزن والألم، تمتَّعي بشبابك قبل أن يهرب منك ياابنتي.
سألتها سراب: كيف مادام زوجي غائباً؟
أجابت العجوز: وهل المتعة محصورة بوجود الزَّوج ؟
فسألتها سراب باستغراب: مارأيك أنت ؟
أجابت: طبعاً لا.
سألتها سراب بحرج: لم أفهم ماترمين إليه، أريد توضيحاً؟
قالت العجوز: لا أعتقد أنَّك لاتفهمين ماقلت، وقد نلتِ قسطاً من التَّعليم.
ردَّت سراب: ربَّما لم أفهم لأنَّ عقلي مازال متأثِّراً بسفر عادل.
فقالت العجوز: حسناً سأوضح لك الأمر.
- تفضَّلي.
سرحت العجوز بنظرها بعيداً، وكأنها تقرأ في ملفات الزمن، وهي تلقي محاضرة هامة : لقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون، وخلق الإنسان, وخلق كلَّ الموجودات، وسخَّرها له كي يتمتَّع بها، ويجعلها في خدمة عبادته لله عزَّ وجلّ.
سألتها سراب بدهشة: وهل الزَّواج إحدى هذه الموجودات؟
أجابت العجوز: بل من أهمها, لأنَّ الإنسان يتكاثر من خلاله.
قالت سراب بعفوية: وقد يأتي بعض النَّاس عن طريق غير شرعي.
فقالت العجوز: وهذا ما نهى الله عنه، وأنكرته جميع الدِّيانات السَّماوية.
هزَّت سراب برأسها موافقة حماتها التي تابعت قائلة: وبما أنَّ الزَّواج من أهمِّ هذه المتع الجسدية والمعنوية، والاجتماعية، فإنَّ عدم تحققه لايعني انتفاء المتع الأخرى.
سألتها سراب: كيف؟
أجابت: الاستمتاع بالعبادة شيء عظيم، ورؤية الجمال الذي خلقه الله في الأرض والسَّماء, بمساعدة النَّاس, بالقراءة, وحتَّى بالطَّعام.
فسألتها سراب: هل استمتعت بحياتك بعد وفاة عمّي أبي عادل؟
ابتسمت العجوز بحزن وأجابت: نعم، نعم، ولكن أتعرفين كيف كانت متعتي؟
سألتها: أخبريني؟
أجابت: بتربية أولادي تربية صالحة, وبمساعدتي للمحتاجين رغم محدودية حالتي المادية، استمتعت برؤية البحرهادئًا وصاخبا, بالتَّفكير بملكوت الله وعظمته, وبعبادتي له, كلُّ هذا استمتاع مشبـِع للنفس, ومن قال غير ذلك فهو كاذب.
قالت سراب: ربَّما كان كلامك صحيحاً، ولكنَّني أشعر بالألم بسبب غياب عادل.
قالت العجوز: وهذا إحساس عاطفي أيضاً, وهو أمر طبيعي, ولكن لا تجعلي الألم يلبسك، حاولي الخروج منه.. عودي لسعادتك، وتمتَّعي بعاطفة الشَّوق إليه دون أن تحترقي بها.
سألتها سراب: أأنت تقولين لي هذا، وعادل هو ابنك؟
أجابتها ضاحكة: عادل هو ولدي وقرَّة عيني, ولكنَّ سفره هو جزء من قدره, فهل أحارب القدر بعاطفة الأمومة التي قد تقتلني حزناً على فراقه، فأسبّب له الألم؟
قالت سراب: أنا ضعيفة أمام عاطفتي، ليتني كنت مثلك قوية أستطيع التحكم بنفسي عاطفيًا.
قالت العجوز: القوَّة خير من الضَّعف حتَّى في أدقِّ المشاعر.. تعلَّمي هذا ياابنتي، فالحياة لا تحقق لنا دائمًا مانحب.
قالت سراب : سأحاول، ولكن لا أعدك باستطاعتي تحقيق ذلك.
توالت الأيام كحلم لا تخلو أحياناً من بعض شرود، وشيء من الدُّموع.
في تلك الليلة كانت السَّماء ملبَّدة بالغيوم, تلاقى فيها خريف امرأة بخريف عام فكيف كان اللقاء؟
لم تكن أمُّ عادل نشيطة هذا المساء, فقد أحسَّت بوعكة مفاجئة، فأوت إلى فراشها بعد صلاة العشاء, تدثَّرتْ ببطانية سميكة, وألصقت ركبتيها ببطنِّها طلباً للدِّفء، وغطَّت في نومٍ عميق, بينما كانت سراب تسهر في غرفتها وهي تتابع إحدى التَّمثيليات على شاشة التِّلفاز.
بقلم
بنت البحر