المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ﺃسير ٳلى اﻷبد



فرح حمداوي
02/08/2008, 04:12 PM
ﺃسير ٳلى اﻷبد



كان يشعر ﺒﭐلحزن و هو يرى الدخان يتصاعد من حوله , و كان ﺃشد ما يخشاه ﺃن يراه ﺃحد من الجيران مع تلك الشرذمة من المتشردين الذين لا ﺃخلاق لهم .

لم يتردد لحظة واحدة حينما طلب منه ﺃحدهم ﺃن يدخن سيجارة , و ذلك بعد ﺃن ﺃفهمه ﺃن هذه السيجارة التي لا يتعدى طولها بضع سنتيمترات تجلب السعادة الغامرة و تنسي كل ما من ﺷﺃنه ﺃن يعكر المزاج فتدخل صاحبها عالما كله ﺃحلام .

ﺃمسك ربيع السيجارة بين يديه وﺃخذ ينظر ٳليها و ﻜﺃنه يعاتبها ﻷنه لم يتعرف عليها من قبل, و في لمح البصرقربها ٳلى فمه و ﺃخذ منها نفسا عميقا. ﻔﭐنتابته نوبة من السعال الحاد و ﺃحس ﺃن ﺃنفاسه تتقطع على مرﺃى من الجميع , فرمى بتلك السيجارة في دلو ماء كان قريبا منه .

رﺃى عيونا حاقدة تلومه على فعلته و تنتظر النيل منه عند ﺃول هفوة له, و لم يدرك ربيع حقيقة ذلك ٳلا عندما صاح ﺃحدهم : لقد ﭐشتريتها البارحة بثمن باهض و ها ﺃنت اليوم ترميها و ترمي معها مفتاح سعادتك.

و ﺃتم ﺁخر : لست سوى طفل, اﻷطفال وحدهم لا يدخنون .

نظر ٳليهم ربيع نظرة حانقة ثم وعدهم ﺒﺃنه سيدخن معهم في الغد .

عاد ربيع ٳلى منزله الذي كاد ينساه من كثرة مكوثه ﺒﭐلخارج , نظرٳلى صورة كانت معلقة على الجدار, رﺃى ﺃمه و ﻜﺃنه يراها ﻷول مرة . لقد ماتت ﺃمه الحنون عندما كان طفلا صغيرا لا يفقه ﺷﯾﺌﺍ, لم يمنعه شيء من النظر ٳليها ٳلى سعال زوجها و شرارة الكره التي تتطاير من عينيه كلما تكلم.

- ﺃين كنت ٳلى اﻵن ؟

- في ... في المدرسة ... لا , لا بل مع ... مع ﺃصدقاﺌﻲ , ﺃجل مع ﺃصدقاﺌﻲ ... كنا ... كنا نراجع دروسنا سوية .

- ﺴﺃحرمك من العشاء ﻷنك ﺘﺃخرت .

لم تؤثر هذه الجملة في ربيع فلطالما سمعها و لطالما حرم من ﺃشياء عديدة ﺃولها الحنان و العطف.

في تلك الليلة لم ينم ربيع فقد كان يفكر فيما ٳذا كان يستطيع التدخين مرة ﺃخرى في الغد , اليوم كانت تلك السيجارة اﻠﻟﺌﯿﻤﺔ ﺃقوى منه , حرمته مفتاح السعادة على حد قول زميله .

صباح اليوم التالي خرج ربيع من منزله على عجل دون ﺃن يفطر حتى . و طبعا ذهب راكضا حتى وصل ٳلى ذلك الوكر , ٳنه وكر الجراﺌم حيث يوجد ﺃطفال حرموا من الحنان , و في لحظة طيش مميتة قرروا ﺃن ينتحروا ٱنتحارا ﺑﻂﻴﺌا .

وصل ربيع ٳلى ذلك الوكر فحيا زملاءه ثم جلس بجوارهم و طلب من ﺃحدهم مفتاح السعادة الذي لم يكن سوى بداية للهلاك و نهاية ﻟﻷمل.

ﺃمسك ربيع السيجارة بين يديه وﺃخذ منها نفسا عميقا عميقا, و ﻜﺃنه بذلك كان يريد ﺃن ينسى نفسه , ﺃن ينسى مدرسته , ﺃن ينسى طفولته التي تذبل مخلفة وراءها ﺃعقاب صيحات قد لا تسمع, صيحات تريد ﺃن تلقى ﺁذانا صاغية تنقذها , صيحات تتعالى تتعالى ثم تذبل هي اﻷخرى معلنة ٱنهزامها .

بعد ﺃسبوع من هذا ﺃصبح ربيع مدمن تدخين , يسمح لتلك النيكوتين اللعينة ﺃن تدخل جسده اﻠﻀﺌﯾل و ﺃحيانا كان ربيع يرى ﺃن سيجارة واحدة ساذجة فلا يكتفي بها بل ﯾﺃتي ﺑﺃخرى تصبح في عداد المفقودين بعد لحظات .

مضت اﻷيام و ربيع على هذه الحال ٳلى ﺃن جاء ذلك اليوم اﻷسود الماطر. كانت السماء تمطر بغزارة و ﻜﺃنها تخبر ربيع ﺃنه ﺃﺨﻂﺃ و لا بد ﺃن يعاقب .

وصل ربيع ٳلى ذلك الوكر المزعوم فوجد زملاءه في حيرة من ﺃمرهم .

- ماذا هنالك ؟ هل ٱنتهت السجاﺌر

- لن نحتاجها بعد اليوم , فمن اللحظة سنودعها شاكرين لها حضورها المميز و سنستقبل المخدرات فاتحين لها ﺃبوابنا التي لن تنغلق في وجهها.

و هنا ٱنتصب ربيع واقفا من شدة فزعه , و ﻜﺃنه يرى نفسه يموت و لا مغيث , ﻜﺃنه يرى نفسه يموت ﺃمام عينيه, ﻜﺃنه يذبل في لمح البصر . و ﻔﺟﺃة مثلت ﺃمامه صورته و هو طفل صغير , كانت ﺃمه ﺘﺴﺃله : ماذا تريد ﺃن تصبح عندما تكبر يا ربيع ؟

و كان هو يجيبها ببراﺌته الطفولية : شرطيا لكي ﺃنقذ الناس من ﺃي شيء قد يضرهم .

و هنا صرخ ربيع بكل قوته : لا ... لا...

لا ﺃعلم كم مرة كررها , لكن اﻷكيد هو ﺃنه خرج من ذلك الوكر مقسما ﺃلا يعود ٳليه ثانية. و ما

ٳن وصل ربيع ٳلى منزله حتى ٱرتمى على فراشه ﻔﺃلفاه ناعما ﻜٱلحرير و ﺃحس ﺃنه تخلص من كابوس رهيب كان يكتم على ﺃنفاسه .

في صباح اليوم التالي تذكر ﺃن له مدرسة يجب ﺃن يذهب ٳليها , في الوهلة اﻷولى لم تطاوعه قدماه على ذلك لكنه و بعزيمته القوية ذهب ٳليها فتلقى دروسه و ﻜﺃن ﺷﯾﺌا لم يحدث .

و عندما عاد ٳلى منزله ﺃحس ﺃنه شخص ﺁخر , ﺃي شخص ٳلا ربيع , ﺃحس ﺃن جسمه قد تغير , ﺃصابه الوهن , التعب و ربما سهم من الموت لم يتوغل بعد في جسمه اﻟﺿﺌﯾل . كان بيده ﺃن يمنع كل هذه اﻷعراض من الظهور عليه و ذلك بسيجارة جديدة , على اﻷقل كي لا يحس ﺑﺁلام الرﺃس التي بدﺃت تعاوده من جديد . لكنه قطع عهدا على نفسه ﺃلا يقدم على تلك الفعلة ثانية حتى لا يرتوي جسده من السم الذي يجري فيه من مجرى الدم .

و بينما هو على هذه الحال سمع جرس منزله يرن , فتح الباب ليجد خالته تبشره ﺑﺃن الحضانة ﺃصبحت من حقها . فذهب معها ربيع و هو يذرف دموعا و يحبس ﺃخرى . ماذا سيقول لها ؟ سيعترف لها ﺃنه ﺃصبح مدمن تدخين ؟ ﺃم سيبقى صامتا ٳلى ﺃن يظهرالسم مفعوله ؟

و في نهاية المطاف صارح ربيع خالته بقصة المنزلق الذي وقع فيه ﺑٳرادته .

- ﺃتحس ﺑٱلندم على فعلتك يا بني ؟

- ﺃجل , فلقد فكرت طويلا و وجدت ﺃنني ﺃسير للتدخين , ما الفرق بيني و بين ﺃسير فلسطيني ؟ ...الفرق شاسع ... بل لا وجه للمقارنة ﺃصلا , هو قام بفعل عظيم رفع به راية بلده عاليا , ﺃما ﺃنا فقد ﺃسرت نفسي بيدي متناسيا ﺃن هذا سيحزن ﺃمي في قبرها .

ﺃحيانا يكون الندم خير طريق للصلاح يا بني , و بصراحة ﺃنت في نظري بطل ﻷنك رفضت المخدرات لهذا فلن تبقى ﺃسيرا للتدخين .

و ما ٳن ﺃتمت الخالة كلامها حتى ٱصطحبت معها ربيع ٳلى ٳحدى المصحات , هناك ﺃخبروه ﺃنه لو ٱستمر في التدخين لواجهته مضاعفات خطيرة . ﺃما الخالة فلم تقصر من ﺃية ناحية حيث ﺃنها ﺃبلغت الشرطة بما يحدث في وكر الجراﺌم , فقاموا بدورهم ﺑٱعتقال موزعي المخدرات و السجاﺌر بينما ﺃرسلوا الضحايا ٳلى المصحات لتلقي العلاج .

ﺃحس ربيع ﺃنه تخلص من حمل ثقيل كان على كاهله , و من شدة فرحتها طبعت خالته قبلة على وجنته لن تنمحي مهما طال الزمن .