المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراء السراب ... قليلا / رواية لابراهيم درغوثي / الفصل التاسع



ابراهيم درغوثي
05/08/2008, 05:35 PM
وراء السراب قليلا

رواية

ابراهيم درغوثي




الفصل الثالث


تغريبة السودان في
" عهد الأمان "




يا لالا يا يمة المشينة*
بعد لمشت ولت دارت
بطلنا و النفحة طارت

شعر شعبي من بلاد " الجريد "




*المشينة : القطار في لهجة الجنوب الغربي التونسي






الباب التاسع



و فيه تفاصيل عن برج بابل الجديد وذكر للوباء الذي ضرب أواني الفخار في " تافلالت " * فهج أهلها إلى بلاد الهمامة في الجنوب التونسي . و تفصيل حال أهل طرابلس الذين وصلوا إلى المتلوي في بداية هذا القرن.



( 1 )

تمتد " القرية الحديثة " أمامك وسيعة مترامية الأطراف تملأ منازلها السهل الكبير . تحدها من الجهات الأربع جبال جرداء رمادية فاتمة ترتع بين شقوقها العقارب ة الأفاعي و بنات آوى . ووديانها سحيقة تنبت في مستنقعاتها أشجار الطرفاء و الطلح و العرعار . و يجري ماؤها آسنا يطن فوقه البعوض و الناموس.
في هذا الخلاء زرع الفرنسيون مدينة تعج بالحياة . فما كان بالأمس قفرا تحول بلمسة ساحر إلى " برج بابل " يرطن فيه الخلق بلغات شرقية و غربية : فرنسية و إيطالية و مالطية و أسبانية وروسية و بربرية و عربية بلهجاتها المختلفة تختلط فيها قلقلة أهل الشمال و الساحل بنطق القاف الثقيلة لأهل الجنوب . و الكل في غليان محموم.
أول من وصل إلى الموقع ، الفرنسيون ، بنوا الجسور و القناطر فوق الوديان و فجروا الوديان التي اعترضت طريقهم و مدوا سكة الحديد من ميناء " صفاقس " حتى محطة " المتلوي " بطول تجاوز مائتي كيلومتر . ثم حملوا القطارات أدباشهم وحطوا الرحال في ساحة المحطة.
استقبل مدير الشركة القادمين و أشار بيده إلى جهة الغرب قائلا :
- هذه مدينتكم فادخلوها بسلام آمنين.
و مشى أمامهم يتقدمهم بخطى واثقة.


( 2 )


أجمل ما في " القرية الحديثة " حيها الأوروبي الذي خط أساساته معماريون فرنسيون على شاكلة مدن المناجم في شمال فرنسا. و قام بالبناء عملة إيطاليون و أسبان فجاء الحي على شكل رقعة شطرنج بشوارعه المتوازية المتقاطعة فيما بينها بنظام بديع.
يتوسط هذا الحي المدينة و يتربع في أجمل أمكنتها و يشرف من بعيد على بقية الأحياء التي استحدثتها الشركة للعملة الذين جلبتهم من الريف المغربي ، من " السوس " و " تافلالت " و من بلاد " القبائل " من الجزائر و من " وادي سوف " و من داخل صحاري ليبيا و مدنها الساحلية . على جنبات شوارعه قامت المباني البهيجة " فيلا " مدير الشركة الفخمة بقرميدها الأحمر العنابي و بجنتها مترامية الأطراف . و قصور المهندسين ودور العملة المهرة . و قريبا من قصر المدير تزدهي بناية الإدارة بفخامتها : عواميد منقوشة و أقواس بديعة و شرفات تطل على الجهات الأربع . يقابلها في الجهة الأخرى المقتصدية و مركز الجندرمة و المستشفى ثم مدرسة لتعليم أطفال الموظفين ، فقاعة السينما . و ينفتح الفضاء على ساحة واسعة في وسطها بستان به أشجار غريبة جلبها الفرنسيون من الغابات البعيدة يطل عليها منزل فخم لإقامة الضيوف ثم ملعب لكرة القدم و آخر لكرة المضرب و ثالث للكرة الحديدية . و في طرف الحي قامت الأبرشية يعلوها الصلبان الكبيرة و ترن النواقيس في برجها العالي. و يقصدها في أيام الآحاد و الأعياد رجال و نساء أجمل من ملائكة الرحمان . في الطرف الآخر ، في الحي ، بعيدا عن المساكن ارتفعت مداخن الورشات.
يقف على عتبات الشوارع رجال غلاظ شداد يمنعون العرب من عبورها . رجال يتكلمون لغة كالعربية و ما هي بالعربية . عرفت فيما بعد أنها لغة البربر سكان جبال الأطلس الذين وفدوا من المغرب للعمل داخل أنفاق المنجم ثم اختار منهم الفرنسيون ضخام الجثث للعمل حراسا لشوارع " باريس الصغيرة "بعد أن سلحوهم بعصي غليظة و بالكلام النابي.
كان هؤلاء البربر أول من وصل على " القرية الحديثة " بعد أن قتلت منهم أوبئة نهاية القرن الماضي خلقا كثيرا حتى ظنوا أنه الفناء . و لم يعد بمقدورهم دفن الموتى في المقابر فحولوا ساحات البيوت إلى مدافن جماعية رصوا فيها الآباء مع الأبناء و الخالات مع العمات و الجدود مع الجدات . و تجرأت الطيور الجوارح فأكلت من أطراف المرضى قبل أن يموتوا. و لم تجد من يزجرها فصارت تخطف الرضع من فوق أثداء الأمهات و تطير بهم في الجو لتقدمهم وجبة لصغارها. و يصل صراخ هؤلاء الأطفال مسامع الآباء من فوق سابع السماوات و لا من يجيب. و لما أنهى الوباء الفتك بالأحياء التفت إلى أواني الفخار المعلقة على الجدران . كانت المسامير المدقوقة في قلب الجدران تتقلقل و تميل يمنة و يسرة و تنحل الخيوط الماسكة بالصور و تتفتت قطعا صغيرة فتسقط المعلقات على الأرض محدثة دويا و فرقعة . و تتناثر شظايا الأواني على الأرض الموبوءة.
كانت جثث الحمير و الكلاب و الفئران و المعيز تملأ الشوارع حين نفخ في الصور فقامت قيامتهم . جاء متعهدون إلى المداشر و القرى ينتدبون عمالا لشركة فسقاط قفصة فتفاءلوا بخيرات تونس" الخضراء" على مر العصور و قرروا الرحيل.
التقط الفرنسيون الرجال من كل محطة يصلها القطار. عائلات بأكملها أو بقايا عائلات غادرت البلاد إلى حيث لا يعلم إلا الله ملؤوا العربات المعدة للبشر ثم انداحوا يملؤون بقية العربات : عربات البضائع و عربات نقل الدواب . و قطعوا الفيافي يقتلهم الطوى. ووهبهم حراس القطار الخبز ، واحدة لكل كهل و نصف خبزة لكل صغير طيلة اليوم و أغلقوا وراءهم أبواب الحديد.
كان القطار يقف في المحطات النائية فيتفقد الحراس العربات . يراقبون الركاب و يتخلصون من الموتى ثم تعود عربات القطار إلى الانتحاب فوق السكة إلى أن وصلوا إلى المحطة الأخيرة فنزل هؤلاء البشر ذوو الملامح الصفراء الذابلة في الساحة الكبيرة . باتوا ليلتهم الأولى في العراء ثم طلب منهم المترجم أن يختاروا مكان إقامتهم فيمموا شطر الجبل.
قالوا هنا سنبني حينا ، فلم يعترض أحد.


( 3 )


وقفت قرب محطة القطار مع المترجم و جماعة من المسؤولين عن الشركة نراقب رجال البدو القاطنين قريبا من المحطة وقد جاءوا في صحبة النساء اللاتي كن يملأن القرب و القلال من الماء الذي وفرته الشركة في خزانات معدنية كبيرة لفائدة أعوانها.
و ساد الترقب الموقف ، فعدد العملة الذين وصلوا من الغرب مازال غير كاف لبداية الأشغال في المنجم . و الأهالي يرفضون الدخول إلى الأنفاق و يفضلون رعي الأغنام و فلاحة الأرض على نبش التراب بين الصخور في أعماق الأرض.
عاد المتعهدون الذين بعثت بهم فرمسا لاستقدام عملة من ليبيا منذ شهر بعد أن وعدوا بحضور الرجال واراءهم. و لكن الأيام مرت و لم يصل أحد. و بدأ الملل يسري بين المترقبين حين ثار غبار كبير سد ما بين السماء و الأرض . و بدأ يقترب قادما من جهة الشرق. رأيت الابتهاج يغمر وجوه الفرنسيين و كثرت رطانتهم مع المترجم . و جرى أطفال إلى سطوح المباني القريبة فاعتلوها واضعين أيديهم الصغيرة فوق حواجبهم مدققين النظر نحو الأفق. و انجلى الغبار عن جيش جرار من الخلق . رجال و نساء و أطفال ودواب و بغال وحمير و خيول و خيام على عربات مدفوعة باليد أو مجرورة بالدواب . و امتلأ المكان بالصياح و الهرج و ببكاء الأطفال و عربدة الرجال و بنظرات النسوة المنكسرة. و انتشر هذا الخلق في الساحة الكبيرة المحاذية لمحطة القطار . فأشار مدير الشركة إلى المترجم طالبا منه الحديث مع سيد القوم . بعد دقائق تقدم نحو المدير رجل وقور في السبعين من عمره يرتدي برنسا من الصوف مشدود إلى صدره بحلق فضي و يضع على رأسه شاشية و يلف الشاشية بعمامة صفراء من الحرير . قدم نفسه على أنه " مفتاح الهوني " و أنه سيد هذا الفصيل من الطرابلسية و أنه يريد الاستيطان في هذه الأرض و لا يبغي سوى العمل وراحة البال.
و بدأت أفواج الطرابلسية تصل إلى المحطة فوجا وراء فوج فيشير إليهم الشيخ مفتاح بالجهة التي يقفون فيها إلى أن اكتمل نصابهم فهنأهم الفرنسي بالسلامة و أوصى المترجم بالإحسان إليهم و غادر المكان.
قضى الطرابلسية ليلتهم الأولى بساحة المحطة بينما راح الشيخ مفتاح و رجال من خلصائه يبحثون عن المكان الذي سيستقرون فيه . بحثوا طويلا إلى أن وقع اختيارهم على فسحة من الأرض منبسطة و قريبة من سفح الجبل فقال الشيخ : هنا سيكون المستقر . و في الصباح الباكر صلى بأهله صلاة الصبح و جمعوا أدباشهم و يمموا شطر الجبل .
قال الشيخ " مفتاح الهوني " بعد أن عاد يطوف بالمكان عدة مرات :
- أعينوني على اختيار مكان قبر الحياة يا أولاد العم.
فرد الجماعة :
- أنت سيدنا ، وقد تركنا لك أمرنا منذ خروجنا الأول من الوطن، فاختر لنا ما يعجبك.
قال الشيخ :
- و لكنني أريد أن تشاركوني في الأمر . فأنا لا أود أن تقولوا بعد سنين ، شيخنا غرر بنا .
فأشار أحدهم إلى رأس من الأرض المبسوطة تحيط به الوديان الجافة من ثلاث جهات و يحاذيه الجبل من الجهة الرابعة و يربطة ببقية الأرض مسرب صغير .
قال :
- ما رأي سيدنا في هذا الموقع ؟
التفت الشيخ " مفتاح الهوني " إلى حيث يشير الرجل وابتسم :
-نعم الاختيار يا أخي . هنا فقط يمكنني أن أطمئن على بنات عمومتكم . سيسترنا هذا المكان حتى نعود إلى الديار.
وانهمك الجميع في العمل . حفر جماعة مغاور داخل جنبات الوادي و بنى آخرون أكواخا بالحجارة و الطين ووضعوا فوقها أسقفا من أغصان الطرفاء و العرعار و الطلح و الأعشاب الصحراوية اليابسة. ونصب المترفون منهم خياما غطوها بجلود الأغنام و الجمال.
و بدأت الحياة تدم في المخيم الجديد . قاقت دجاجات وارتفع الدخان من تحت قدور الكسكسي و العصيدة الطرابلسية .

فايزة شرف الدين
06/08/2008, 11:48 PM
أكاد هنا أشم التأريخ .. لكنه تأريخ سطر بيد أديب مقتدر .. لونه بأنامل فنان مرهف الحس .
كل فصل قرأته من الفصول كان له مذاق مختلف عن الآخر .. سواء في طريقة السرد أو الوصف .. كأني أقرأ لعدة أدباء في أديب واحد ..
فإلي الفصل العاشر


http://www.10neen.com/up/uploads/a38627eae0.jpg (http://www.10neen.com/up/)

ابراهيم درغوثي
08/08/2008, 10:42 AM
أختنا فائزة شرف الدين

لك مني فائق التقدير
على المتابعة الرائعة لروايتي

دومي في ألق الابداع