المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : °°--** هموم الأرض في الشعر الإسلامي المعاصر **--°°



عبدالرزاق المساوي
06/08/2008, 11:14 PM
من الأدب الإسلامي المعاصر
نحو نقد إسلامي تطبيقي :

هموم الأرض في الشعر الإسلامي المعاصر (*)
وقفة عند العتبة الأولى لديوان الدكتور عبد الغني التميمي
قراءة في أبجديات " رسالة من المسجد الأقصى "


الأستاذ عبد الرزاق المساوي
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية


على سبيل التقديم:


لقد قيد الله سبحانه وتعالى للأدب عامة وللشعر خاصة رجالا ونساء لهم قلوب وأفئدة تفقه فقه اليقين قوله تعالى من أواخر سورة الشعراء:)(( .. إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا.. ))) (الآية:226).. ولهم عقول ووجدانات تضبط وتعقل أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "("إن من البيان لسحرا")"(البخاري وأبو داود والترمذي ومالك) و"(" وإن من الشعر حكمة")"(البخاري وأبو داود والترمذي والدارمي وابن حبان).. ولهم أنفس وأرواح تدرك أحسن الإدراك قوله صلى الله عليه وسلم : "(" إن الله كتب الإحسان على كل شيء")"(مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ).. ولهم ألسنة وقرائح تصدق وتعيش في أكناف قوله صلى الله عليه وسلم: "(" إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده فكأنما ترمونهم نضح النبل")"(صحيح ابن حبان ومسند أحمد والبيهقي والترمذي والنسائي وغيرهم بألفاظ متقاربة).. فأفرغ هؤلاء البواسل على هذا الأدب من فقه قلوبهم وأفئدتهم، وأطروه بمدركات عقولهم ووجداناتهم، وأفرغوا عليه عبقا من أنفاسهم وأرواحهم، وأطلقوه مدويا من صدق ألسنتهم وقرائحهم، وأصبغوا عليه تصورهم للكون والحياة والإنسان والوجود والأشياء ما ظهر وما بطن، ما خفي وما تجلى، ذلك التصور المنبثق عن دين الله عز وجل تحت شعار "(" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ")" (البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة ومالك وغيرهم)، والمنطلق في أساسه وعمقه من قوله تعالى:)(( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ))) (الأنعام:165).. ليصل في ركبه المبارك إلى قوله تعالى: ((( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ))) (آل عمران:110)
من هنا وانطلاقا من قوله تعالى :((( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها))) (إبراهيم:27).. جعل هؤلاء الرجال والنساء أصحاب الكلمة الأدبية الطيبة ذلك النشاط الإنساني المتميز الذي هو الأدب/الإبداع يتصف بصفة من أعلى الصفات وأسماها، وينعت بأفضل النعوت وأعلاها، ويتزين بأحلى الكلمات وأرقاها، ويسكن بجانب أغلى الألفاظ وأغناها.. فقيل له "الأدب الإسلامي"(1)..
كما قيد عز وجل لهذا الأدب الإسلامي فرسانا أشاوس في كل زمان وفي كل مكان يذودون عن حماه، ويحفظونه من الملمات، ويدفعون عنه النائبات، وينفضون عنه غبار الزمن كلما طال وتحقق منه النسيان، فلا تكاد تجد فترة من فترات التاريخ بدون أدب إسلامي.. منذ إشراقة الشمس الربانية بالرسالة المحمدية، ومن يوم أن نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم للشاعر العظيم حسان بن ثابت رضي الله عنه منبرا في المسجد الشريف(2) إلى يومنا هذا.. حيث فتح هؤلاء الفرسان باب الاجتهاد والجهاد بالسنان واللسان والأقلام، شفهيا وورقيا وبصريا وإلكترونيا، أو في كلمة موجزة فتحوا الأبواب على مستوى إعلامي عالمي متنوع.. وإن سعى كثير من الناقمين أو المغرضين – قدامى ومحدثين مستشرقين أو مستغربين أو مقلدين أو منفتحين...- إلى محاولة طمس معالم هذا الأدب العظيم، وإزاحته عن الواقع المعيش، وطرده من عالم الأدب والفن والثقافة، إما بالتحريض على مقته وذمه تحت ذريعة الفهم غير السوي لقوله تعالى :)(( .. والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ))) (الشعراء:226).. وقوله صلى الله عليه وسلم"(" لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا")"(مسلم والترمذي وابن ماجة وابن حبان وأحمد والبيهقي والبخاري في الأدب المفرد).. وإما بالتركيز على الهفوات الأدبية التي انتشرت على أرضيته وطغت على ساحته لفترة من التاريخ، وإبرازها بشكل مثير وتسليط الأضواء عليها واعتبارها هي المعبر الحقيقي والوحيد على الحقيقة الأدبية لفترة أو فترات من حياة المسلمين، والترويج لهذا السم الشعوبي قديمه وحديثه بشكل غريب في الكتابات والندوات.. وإما بالغض من قيمة ما جادت به القرائح المسلمة عبر التاريخ، أو التهوين من شأنها تحت شعار قديم اكتسب مشروعيته من ترويجه والدفاع عنه بفهم معتم "أعذب الشعر أكذبه".. وكذلك خلف اللافتة العريضة التي كتب عليها ظلما وعدوانا إن:" الشعر نكد بابه الشر"(3) " إذا أدخلته في باب الخير لان "(4).. وإما باستئصاله وادعاء أنه بدون جذور وأنه لا علاقة للدين بالأدب، وأنى لهذه العلاقة أن تتحقق ولكل منهما عالمه الخاص به مصدرا وأسلوبا وطريقة ومنهجا وأهدافا.. (5)..
لقد جاء زمان هؤلاء الفرسان الذين نلحظهم على الساحة المعاصرة.. فهاهم يصولون ويجولون ويتقنون ويتفننون ويحسنون إبداعا ونقدا وتنظيرا.. برابطة عالمية ولجن إقليمية وأندية ومطبوعات ورقية وإلكترونية ومجلات وصحف وملحقات وندوات وأبحاث جامعية.. إنهم يدفعون بسواعد الشعر والقصة والرواية والمسرحية والأنشودة والنقد والتنظير والتسطير.. وبكل الأجناس والأنواع الفنية السمعية والمرئية والمقروءة.. يدفعون مركبة الأدب الإسلامي نحو العالمية التي خطها الإسلام الحنيف منذ بداية الدعوة لأهله على خلفية قوله عز وجل:)(( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))) (الأنبياء:106) .. يدفعون المركبة المباركة في زمن أصبح فيه الأدب بضاعة مزجاة تستغل على جميع الجبهات وتحتكر في كل المجالات..
ومن هؤلاء الفرسان الذين ملأت الدنيا أسماؤهم بأدبهم وشعرهم الذي تبنى قضاياهم : قضايا الإسلام والمسلمين.. وقضايا الإنسانية والمستضعفين.. وقضايا الأرض والمشردين.. نجد شاعرنا الدكتور عبد الغني بن أحمد جبر التميمي الذي جمع بين ثقل الإبداع الذي لذعه، وغم الأمة الذي أرقه، وهمّ الأرض الذي لدغه.. يقول فارسنا الذي جعل أدبه رديفا للقضية بل جعل شعره يرقى إلى مستوى وحجم القضية، وكيف لا وهو نفسه من أهل القضية.. يعيش معاناته الذاتية والجماعية، ويقوم بتسجيل تلك المعاناة في جمالية إبداعية شعرية بعفوية وتلقائية تامتين، لا تكلف فيها لأنها معاناة معيشة.. وبذلك فهو يعبر عن الالتزام بمفهومه الإسلامي وينأى بنفسه عما يسمى الإلزام، ويعبر بلا طلاسم ولا غموض يحجبها عن متلقيها لأنها بكل بساطة معاناة تصور القضية التي يحياها على أنها قضية فرد وشعب وأمة وإنسانية.. وبذلك يقف بكل ثقة أدبية شاعرية أمام ما يستجد على الساحة الأدبية من حداثات منحرفة موغلة في "اللامفهوم"..
إذن يقول فارسنا راسما أهم الأدوار التي يجب أن تناط بالأدب الإسلامي عموما والشعر منه على الخصوص بل والتي قام بها فعلا كما سبقت الإشارة وبكل امتياز: "((للأدب الإسلامي - وأعني الشعر بالذات لأنه سيف الأدب الأمضى- دور جيد وحضور لا بأس به في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها وخاصة قضية فلسطين))" كما يعتبر شاعرنا الفارس - وهو يتحدث عن موهبته وكيف تتفتق ومتى تتفجر - أن "((من مفجرات الشعر عنده آلام الأمة ومعاناتها التي تفجر الصخر ألما))"(6)..


صاحب الديوان: (7)


هو الدكتور الشاعر عبد الغني بن أحمد جبر التميمي.
- من مواليد قرية "دير نظام" قرب "رام الله" بفلسطين.
- ولد سنة 1368هـ 1947م.
- درس الابتدائية وما بعدها من مراحل بفلسطين.
- دراسته الجامعية كانت في المملكة العربية السعودية بالمدينة النبوية: الجامعة الإسلامية، ومكة المكرمة: جامعة أم القرى.
- عمل في جامعة أم القرى، وكليات التربية للبنات بالرياض، وبجامعة القدس - كلية الدعوة وأصول الدين.
هذا ما تيسر لنا عن حياة شاعرنا الذي يقول في مقدمة ديوانه مبرزا دور الشعر ووظيفته ومهمته : "((للشعر دور لا يخفى في إغاظة أعداء الله وفي إنهاض همم المسلمين وإرواء غليلهم، وإذا لم ينطلق من قاعدة التوحيد وأساس الإيمان بالله والانتصار لدينه فهم غواية يفتعلها الغاوون. قال جل وعلا:)(( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )))
إن هذا الديوان تجريد لسيف من سيوف الحق أريد إغماده ، وصوت من أصوات الدعوة أريد إخماده ليخلو الجو لقبرات الحداثة تبيض وتصفر، إنه لون من ألوان الشعر الإسلامي يتجه بقوة لتأصيل كثير من المفاهيم الإسلامية تأصيلا شرعيا بلسان شعري جلي.))"(8)


استراتيجية العـنوان:


قبل ولوج العتبة الأولى البرانية في بناء هذا الأثر الأدبي وقبل الوقوف عليها لاستشراف مكونات وطبقات ومشاهد ومحتويات ذلك البناء الشعري وطبيعته وعلاقته وفواصله وهندسته ومميزاته ومظاهره وجماليته.. نرى أنه لابد من الحديث عن استراتيجيته بشكل عام ومن خلال البناء الشعري الذي بين أيدينا بشكل خاص ولو بنوع من التركيز وشيء من الاختزال..
إن العنوان من حيث هو علامة له استراتيجيته الخاصة به، والمنبثقة من طبيعته التكوينية أولا: في دلالاته اللغوية وإيحاءاته النفسية وتأثيراته الاجتماعية وترسباته الثقافية.. وثانيا كمؤشر على ما يخفي خلفه وعلى امتداداته وتفرعاته وعلاقاته، وعلى ارتباطاته بباقي المكونات التي تتجاور وإياه، أو تتضافر معه لإكمال الصورة التي يرغب المرسل في إعطائها للمتلقي..
إنه العتبة الأولى التي قد تصدم المتلقي أو تفجأه أو تثيره سلبا أو إيجابا، وهذه هي أولى عملياته الاستراتيجية، ومن خلالها أو عبرها وفي عملية معقدة وخاطفة يتم انتقال المتلقي من عالم الواقع المشهود الذي يلحظه أمامه إلى عالم الخيال الذي يسرع العنوان في حمله إليه بقوة.. بمعنى آخر إن العنوان هو العتبة الأولى التي تقود أو تجر أو تولج – حسب مستوى الإثارة التي تتمتع بها تلك العتبة – نحو عالم الفهم والتفسير وحتى التأويل والتدبير.. فهو العتبة التي قد تثير في المتلقي فضوله المعرفي وركاماته الثقافية، وتحرك فيه شهية التعاطي مع البناء الإبداعي ككل، وتجذبه بما تملك من مثيرات لولوج أو اقتحام عالمه الذي هو عنوان له..
إن العنوان عتبة تفضي إلى داخل البناء كما أنه بمثابة المفتاح الأول والأهم ضمن - بطبيعة الحال- مجموعة من المفاتيح الأساس التي تساعد على فتح مغاليق جميع مكونات وبيوتات ومرافق ذلك البناء الذي هو في الأصل بناء نصي مغلق قابل للفتح، أو قل يحث المتلقي على استفتاحه.. لذلك وجب أن نوليه اهتماما بالغا وعناية كبيرة.. فلا ينسى وهو أول المداخل إلى صرح النص.. ولا يغض عنه الطرف وهو أول علامة تنتصب أمام المتلقي، وقد جمعت خيوط ومكونات وامتدادات ذلك البناء/الإبداع المعنون.. كما يمكن القول بأنه يختزل جملة من الإضمارات التي قد يفصح عنها البناء النصي ككل أو يومئ إليها..
ولهذا نلحظ اهتماما واسعا ومتزايدا في عصرنا الحديث بقضية العنونة في عالم الدراسات النقدية من جميع الاتجاهات حتى إن بعضهم وضع له علما خاصا ذا موضوع ومنهاج، وعلى رأسها الاتجاه السميولوجي..
إن العنوان هو أول بارقة تصور طبيعة الأثر المعنون، وتقدم للمتلقي بطاقة تعريفية عنه.. لذلك قلنا إنه يجمع خيوطه ومكوناته، وعليه فلا يمكن أن نحصر العنوان استراتيجيا في فضاء معين محدود على مستوى جغرافية الأثر.. كالرأس من الجسد/الأثر أو الوجه من الرأس كما يحلو لبعضهم القول.. أو على إحدى جوانبه عن اليمين أو عن اليسار أو في الوسط أو التحت.. سواء على الغلاف الرئيس أو الغلاف الثانوي.. أو كعنوان داخلي إذا كان يتواجد على الغلاف من جهة وينتصب على رأس عمل فرعي من جهة أخرى.. أو يتصدره هو بعينه ضمن أعمال أخرى تتحالف فيما بينها لتكوين الأثر ككل بين دفتين..
لذلك فهو يفرض علينا القيام بمجموعة من المناورات كي نتمكن من ضبط –أو على الأقل معرفة– مدى توغله في الأثر المعنون به، وإلى أي حد ينشر لمساته كعنوان فقط على عمل أو أعمال مختلفة أو متكاملة، وأين يمكن أن يظهر منها أو يختفي، وكيف يكون ذلك التجلي والخفاء.. وكيف يتناغم مع ما حوله من رسوم أو ألوان أو صور أو كتابات أو خربشات أو ما شابه ذلك..؟؟؟؟ خاصة وأن العنوان قد يكون وحيدا منثورة حباته في صحراء الغلاف.. وقد تحيط به كل أو بعض تلك المكونات الأخرى السالفة الذكر مما يضفي عليه دلالات وإيحاءات إضافية تسهم في إضاءته وتفكيكه وإعادة تركيبه بالشكل الذي يخول له تمرير رسالته وضبط علاقاته بمتلقيه انطلاقا من التأثير إلى التفاعل إلى القراءة إلى التحليل إلى التخييل إلى التأويل إلى التفعيل..
إن عنوان الديوان الذي بين أيدينا والذي نقترح قراءته، له استراتيجيته الخاصة إذ يبدو جليا في إطار الفضاء الذي يحدده الغلاف، يبدو أنه عنوان مضيء يتحرك في ظلام دامس.. ويناور بضوء مكوناته الفونيمية فيما يشبه جنح الظلام.. وقد يكون مستمدا لهذا الضوء من النور الساري بين القبة المباركة والمجموعة من السواري المكونة للأقواس التي تعد بالنصر المضيء لكل جنباتها.. ويكتسب العنوان قدسيته من قدسية المسجد الأقصى، والتي يحملها من الدال والمرجع معا، وتصبح تلك العتبة عتبة مقدسة فيما تدلي به أثناء التعاطي معها.. كما يعمل هذا العنوان المعبر والمثير على الوصول إلى كل يد مسلمة مؤمنة بقضيته من خلال القاسم المشترك الذي يرمز إليه الضوء أو النور.. واختيار هذه الاستراتيجية لا يمكن أن يكون اعتباطيا أو بمحض الصدفة.. أو قام دون دراية ولا إحاطة، ولا ربط علاقات =(دبلومانصية)= بينه هو باعتباره مرسلةً وبين المرسل باعتباره مرسلا ومتلقيا في الوقت نفسه من جهة، وبينه أي العنوان وبين المتلقي الآخر من جهة ثانية.. وكل هذه الأقطاب الثلاث فاعلة وبشكل كبير في وضع هذه الاستراتيجية التي قبلت بها جميع الأطراف لأنها تلبي ولو في الحد الأدنى رؤية جمالية متفق عليها سلفا بحكم الطبيعة والسليقة وبحكم التعارف الأدبي..



ومن ثمة فإن العنوان وقع في شكله الذي بدا عليه كعتبة أولى وفي ارتباطه بما يشغل معه المساحة أو الفضاء الخارجي الذي هو الغلاف.. بدا العنوان العتبة الأولى - كما قلت- دالا على أنه اختيار مدروس ومقصود وهادف أيضا ومثير.. بحيث استطاع أن يعبر بكل قصدية عما يمكن أن يستشرفه المتلقي أو أن يستحضره بل وأن يتأوله حتى قبل أن يتصفح مداخل ومخارج الأثر الأدبي، لأنه كما يقال في المثل المغربي " الأخبار تؤخذ من باب الدار "..


هندسة العـنوان:


(انظر صورة غلاف الديوان)












نقصد بهندسة العنوان كيفية بروز العنوان في إطار استراتيجيته التي تم اختيارها، وكيف يتحقق وجوده بها، وكيف استطاع أن يعطي للمتلقي مظهره ومنظره وشكله وتركيبته، وكيف استطاع أن يكشف له عن قناعه.. هندسة العنوان تتحدث عن تصميمه وصناعته وطريقة صياغته وكيف هي تركيبته، ومدى انسجامه مع نفسه ومع ما يحيط به.. هندسة العنوان هو ذلك الشكل الذي يتمظهر من خلاله رمزا دالا ويتجلى به..
هل يمكن للعنوان أن يتحقق من فراغ مكاني؟ هل يستطيع أن يظهر كهيولى أم أنه يحتاج إلى شكل واقعي لغويا وبصريا يمكنه أن يحمل نبض النص المعنون وأن يرسم تجاعيده وأن يصور ترسباته البنيوية أو يشخص تضاريسه التركيبية وذلك على كل المستويات الدلالية والرمزية..؟
إن هندسة العنوان بشكل عام في حقيقة الأمر ليست ثابتة وليست مستقرة على حال، ولا تنبني على هيكلة واحدة، ولا تأخذ إطارا معينا يوحده.. ولا يمكن بأي حال من الأحوال رصدها في شكل واحد راسخ العلامة، أو حتى في أشكال محددة اللهم إلا على المستوى التجريدي بالاعتماد على بعض علوم اللسانيات..
إن هندسة العنوان تتجلى حسب الرؤية الجمالية والصيغة الهندسية والتركيبة التقنية والطريقة الفنية التي يرغب في الوصول إليها كل من المرسل - على اعتبار أنه هو المهندس الأساس والأول بشكل مباشر- من خلال وضعه أو صياغته لكل مكونات الغلاف دون تأثير الآخر أي دون حدوث بصمات مؤثر خارج الذات المبدعة في هذه الهندسة، وهذا لا يتم إلا في حالات ناذرة أن يقوم المرسل المبدع بكل ما يتعلق بالعنوان وما حوله.. هذا من جهة ومن جهة ثانية يمكن أن تتم عملية هندسة العنوان بتواطئ المرسل الأساس مع غيره ممن له الكفاءة على أن يساهم في ذلك كالخطاط والرسام والمخرج ومستلزمات الطباعة، وهذا هو الغالب والمشهور.. وكذلك –وهذا هو الأهم - بتواطئه مع غائب حاضر بالضرورة، يدفع بكل ثقله كي تكون هندسة العنوان في مستوى التطلعات وفي مستوى التعبير عن جمالية البناء داخليا وخارجيا.. أي أن العنوان تتم هندسته من خلال تمريره عبر قناة رضا المرسل/ المبدع على نظر المتلقي المفترض والذي يساهم بطريقة غير مباشرة في العنونة، لأنه يجثم بكل كلكله على كل عملية إبداعية.. لأنه في الحقيقة وفي آخر المطاف هو الذي يضغط بشكل خفي – أراد من أراد وأبى من أبى - على مهندس العنوان ويمارس عليه وهو غائب جسديا حاضر فكريا أنواعا كثيرة من التأثير..
فالمرسل يهندس العنوان ويؤثته ويجمع خيوطه انطلاقا من البناء نفسه وتحت تأثيره وهو يشيده، وتحت التأثير أو الضغط أو الحضور الذهني للمتلقي المفترض، وبذلك يحاول تحت التأثير المباشر وغير المباشر أن يحرك كل أدواته الإجرائية والمرجعية والإفهامية كي يقدم هندسة متوازنة للعنوان تكون من الناحية الفنية والجمالية مقبولة، ومن الناحية التركيبية منسجمة ومترابطة إسناديا، كما يتمتع بتوازن منطقي يساهم في تفكيك النص/النصوص وتركيبه/تركيبها من خلال استكناه بنياته/بنياتها الدلالية والرمزية مما يسهم منذ البداية بل ومنذ الوهلة الأولى في إضاءة النص/النصوص ككل..
ما يفهم مما سبق بكل وضوح هو أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار العنوان بالمرتبة الأولى حلية تزيينية يرصع بها أعلى النص أو ينمق بها غلاف الكتاب، أو أداة ووسيلة لجذب انتباه المتلقي وكسب رغبته في الاقتناء أو على أقل تقدير التصفح.. وإن كنا في الحقيقة لا ننفي وجود مثل هذه القضية فكم من مقروء ليس له غير العنوان الخادع.. وإنما الواجب أن يعتبر العنوان بالأساس أفقا واسعا من التعبير وعالما كبيرا من الكلم، وإن قلت عباراته وألفاظه، وأن يعتبر اكتناها للدلالة، وتساوقا تكوينيا مع النص ومنجزه الجمالي والقيمي..
لذا يمكن القول بأن الشاعر عبد الغني التميمي في هندسته للديوان عمل على جعل عتبته الأولى ترتكز على عدد من المكونات اللفظية البسيطة التي جاءت على شكل جملة اسمية تفتتح بمبتدأ نكرة وخبره المعرف شبه جملة من الجار والمجرور ويأتي المجرور منعوتا.. وتتوفر هذه التشكيلة اللفظية على مجموعة من المقومات الدلالية العميقة غير الخاضعة للزمنية.. وتتمتع بعناصر تصويرية وإيحائية تجعل المكان رمزا سيميولوجيا وليس رمزا جغرافيا أو طبوغرافيا.. وتتحلى هذه التشكيلة الاسمية بخصائص رمزية طافحة وأخرى كامنة يمكن استشفافها على المستوى النفسي والاجتماعي والثقافي والحضاري..
إن العتبة الأولى لهذا البناء التميمي جاءت هندستها على الشكل التالي: ("( رسالة من المسجد الأقصى)") تركيبة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، ودالة ومعبرة وحاملة لأفق شاسع، تضع المتلقي في غمرة الواقع المعاصر بأحداثه ووقائعه.. وتأخذه إلى الماضي القريب والبعيد لاستحضار أصول وجذور هذا الواقع.. كما تحرك فيه ذكريات ضاربة جذورها في التاريخ البشري عن طبيعة الأداة المشهور عملها ووظيفتها والتي هي "الرسالة"، وتثير فيه ذكريات موغلة في القدم عن طبيعة المكان في عمقه القدسي وبعده الإنساني وكينونته التاريخية..
("( رسالة من المسجد الأقصى)") معان سامية ودلالات عميقة وقضايا جليلة وأحداث لا تنسى وأمور تنتظر أن تقضى.. أناس قضوا وأناس ينتظرون.. كل ذلك وغيره كثير نقش على العتبة الأولى لهذا البناء التميمي الشامخ الذي يتكون من طوابق ثمانية.. أولاها تتبنى العتبة نفسها ("( رسالة من المسجد الأقصى)")، وهذه ظاهرة أدبية معروفة بحيث نجد الأديب يستعير العتبة الأولى على الغلاف من بناء آخر يكون طابقا في بنائه الجديد ذي الطوابق العديدة يضمنها إياه.. لذلك نجد هذه العتبة دالة على البناء كله بطوابقه الثمانية وتتصدره أيضا في طابقه الأول.. وثانية هذه الطوابق تأخذ من العتبة الأولى بعضا من ألفاظها وجمالها، وتضيف إلى نور مكوناتها الجمادية جمالا آخر إنسانيا بكل ما تحمل اللفظة من دلالات ومعان.. فتتحول العتبة من التركيبة الاسمية ("( رسالة من المسجد الأقصى)") إلى التركيبة الاسمية ("( رسالة من حراس الأقصى)").. وهذا التغيير في مكونات الجملة لم يطرأ على المستوى السطحي إلا على الاسم المجرور وما ارتبط به، فكان من "المسجد" إلى "حراس" من "معرف" إلى "نكرة" من "منعوت" إلى "مضاف".. وهذا الأمر على المستوى العميق له دلالات بعيدة يرتبط أو يمتزج فيها ما هو ساكن بما هو متحرك، ما هو جامد بما هو حي، ما هو مكاني بما هو إنساني، ما هو مسجد بما هو حراس.. في رمزية معبرة عن القدسية والكرامة والإخلاص والتجذر في التاريخ، والارتباط بين مكان السجود والساجد والتوحد في الإحساس..
ثم تتوالى الطبقات في سماء الإبداع الشعري الإسلامي من خلال هذا البناء الشامخ الواحدة تلو الأخرى من ("( مجزرة)") التي تصور الفظاعة والغلظة والبشاعة والعداء المستحكم في نفس الصهاينة نحو المسجد الأقصى وحراسه:
في ساحة الأقصى
تدور مجزره
مدافع منصوبة
وجثث منتثره
رجالنا نساؤنا
أطفالنا مستنفره
دماؤنا نازفة
نساؤنا محسره
منابر، مآذن
تحت الحراب صابره
في ساحة الأقصى
بكل موضع مجنزره
وحولنا مشجعون
فأدى هذا الوضع المزري إلى غضب المكان وانتفاضته المقدسة، لقد تحرك الجماد الذي أحس بالجفاء "وحولنا مشجعون" فأضحى يمتلك إحساسا إنسانيا لقسوة ما يرتكب على ظهره وفوق ظهره، فأنشد نشيده وهز صوته وانتفض ("( نشيد:القدس غضب)")
القدس تقول تقول
يا سارق شمع الدار
يا مطفئ فيها الأنوار
لا تقطف في الأزهار
لا تلمس في الأحجار
مائي سم
حجري لغم
يا نجسا يا رجسة عار
لن تملك في القدس طريقا
لن تظفر فيها بغبار، أو ريح غبار
يا ذنب استعمار مرجوم
يا نعل استعمار..
فكان هذا النشيد المكاني القدسي الذي يتقاطع عموديا وأفقيا مع النشيد الإنساني القدسي المضمر فيه أصلا.. كان مدعاة لتحرك البراءة ورفع صوتها برفض الواقع المهين.. وحافزا لغضبة الطفولة ورفع سواعدها ترمي العدو بصواريخ من حجارة من سجيل.. محدثة بذلك ربكة عسكرية واضطراب سياسي في صفوف الأعداء.. إنها أيادي صغيرة تقذف ولا تهن ولا تكترث مادام الكبار عن القضية والنشيد القدسي من الغافلين بسبب جبنهم:
اقذف به ولا تهن، لا تكترث بمن جبن
لا تكترث بمن وقف
اقذف به ولا تخف
ألا ترى إلى العدو في سلاحه
ارتجف
اقذف به وذق وذب في حبه
فإن من ذاق عرف
فاستحقت هذه الطفولة البريئة وهي عنفوان الأمة ومستقبلها على شجاعتها وإقدامها وصبرها وصلابتها كالأحجار التي بأيديها.. استحقت جائزة عظيمة هي عتبة الطابق الخامس ("( براءة اختراع)") التي أثارت حفيظة الأعداء ومن خلفهم من دول الاستكبار مما أدى إلى استصدار مرسوم ملؤه الغبن والظلم والجور في شكل منحة صرفت زمانا بقيمة إمهال طويل الأمد.. كي تفضي هذه المنحة الدولية التي منحت للعدو الصهيوني إلى القضاء الكلي على انتفاضة الحجارة، والمشروع الإسلامي الفلسطيني.. وهذا هو الموضوع الذي يؤثث به التميمي طابقه السادس ذي العتبة ("( مرسوم)"):
جاء مرسوم من القمة يقضي:
أمهلوا شارون دهرا
أمهلوه بعد"صبرا" صبرتين أو ثلاثا
وعلى الأكثر عشرا
واصبروا صبرا... فصبرا
لا تقولوا كان –يوما-
واحدا من هؤلاء القتلة
امنحوه بعد هذا العام
عامين ونصفا كي يحل المشكله
امنحوه فرصة –يا قوم- أخرى
ولماذا العجله؟
امنحوه مثل (شاتيلا) شُتيْلات
فشاتيلا وصبرا مهزله
ربما من بعد خمس
بعد سبع.. بعد تسع
سيلاقي فشله
عندها في مجلس الأمن
أثيروا المسأله
هذا المرسوم الدولي أو المهزلة العالمية، حري بمن صدر ضده أن يستفيق من سباته، وأن يراجع حساباته، وأن يعيد ترتيب أوراقه، في علاقاته مع الآخر كيفما كان نوعه وجنسه وموطنه.. وأن لا يجعل البرنامج الوطني الذي يجب أن يخدم الوطن وأن يقف إلى جانبه في محنته وأن يتقدم به نحو التحرر والحرية والكرامة، هو البرنامج نفسه المؤامرة على الوطن أو ضد الأهداف السامية للوطن والمواطنة..
فعلى هذا الذي صدر ضده المرسوم أن يرد الاعتبار لوطنيته وواجبه القومي.. وأن يحافظ على البسمة في شفتي وطنه الذي "شرم يهديه إلى شرم".. وألا يتركه طريد العدو الغاشم المتآمر على الوطن "الجيش الغاصب في صلف / قتل نهبا...هدم اغتصبا / أرض الإسراء غدت سلبا" وألا يدعه تحت نير ظلم القريب النائم الذي "بطنه تملأ المكتب / تبيت تقدس الأرقام / كالأصنام ملفها / تنكب:
أتظل طريدا يا وطني
ظلم يغريك إلى ظلم؟
شرم يهديك إلى شرم؟
أتظل أسير مؤامرة
ومزايدة ومقامرة
وتباح وتباع كمجمرة
الأمس يبيعك لليوم؟
جاء الشارون
فشارون من قوم يهود
وآخر من قومي
أتظل البسمة في شفتيك
للغاصب واجبك القومي؟
فإذا تجوّز هذا الوضع الذي يصوره شعر الشاعر في طابقه السابع ذي العتبة ("( برنامج وطني)").. وأصبح الوطن وطنا رسميا وليس اسميا، حينها وحينها فقط سيعلم الجميع كيف نؤثث طابقنا الأخير الذي يرقى في السماء، وسيعرف العالم كله ("( من نحن؟)")
منا الزمان وخطبه يتعلم
وعلى خطانا للعلا يترسم
وإذا طمى جرح الزمان فإننا
نحن الشفاء لجرحه والبلسم
إن كنت تجهل من نكون فإنما
للعمى هذي الشمس جرم مظلم
عجبا أتجهل من نكون وهذه
الدنيا بكل فعالنا تتكلم؟
من أنت، لا من نحن، يا متجاهلا
أو يجهل البحر الخضم العوم؟
إن كنت تجهلنا فذي آثارنا
في كل الأرض للهداية معلم
وهكذا يمكن الاعتراف (9) بكل تقدير أدبي وإجلال شعري بأن الدكتور عبد الغني التميمي استطاع أن يهندس بناءه الشعري بشكل جميل ورائع ومتناسق يؤدي أوله إلى آخره، ويفضي آخره إلى أوله، وبين الأول والآخر ينتشر إيقاع الغربة والحزن والهموم، وتنبعث ألحان العودة والفرح والسرور.. يتموسق ويتناغم الإيقاع والألحان تموسقا وتناغما داخليين منبعثين من طبيعة التكوين الشخصي المنبثق عن التصور الإسلامي للموضوع والقضية في إطار قول الرسول صلى الله عليه وسلم "((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس..))" (اللفظ للترمذي وهو عند أحمد وابن ماجة والدارمي بروايات وأوله في صحيح مسلم)..
كما استطاع التميمي أن يؤثث بناءه هذا بالطريقة المتموسقة والمتناغمة نفسها التي تترك بصماتها على نفسية المتلقي فتجعله يتفاعل وينفعل بالقضية التي رسم معالمها هنا بكل فنية وجمالية انطلاقا من اللفظ والتعبير والصورة..


مكونات العـنوان:

هذا العنوان الذي يتجلى في عتبتين: العتبة الأولى/الكبرى المفضية إلى البناء جميعه/الديوان بطوابقه الثمانية.. والعتبة المفضية إلى الطابق الأول/القصيدة الأولى في ترتيب الديوان.. هذا العنوان له ارتباطات دلالية كثيرة بمجموع البناء ككل، وعلى مستوى الطابقين الأول والثاني بشكل خاص.. يقول الأستاذ سمير عطية: " وإذا جاز لي أن أتوقف قليلا عند عنوان الديوان الذي بين أيدينا بعد أن جلت في ربوع قوافيه، وجلست بين زهور أشعاره فإنني لا أبالغ حين أقول إن عنوان الديوان يكشف شيئا عن جوهر ما يحتويه، وإذا كان العرب قديما قد قالوا "إن القصائد بمطالعها " فالحال اليوم يكاد يصدق ذلك في عنوان هذا الديوان كما أشرنا... لقد كشف العنوان عن شكل ومضمون العمل إلى حد كبير،من حيث المواضيع التي سيتطرق لها الشاعر ومحاولة استقراء للقالب الفني الذي ستأتي به وهو ما برز من خلال العنوان من أن ثمة رسالة يبعث بها المسجد الأقصى...وذُيِّل الإخراج الفني للغلاف بأن تصل الرسالة ليد "كل مسلم"، كل هذا وغيره جعل العنوان انعكاسا لما فيه. بل إن الوضوح في اللغة الشعرية للديوان أمر لا يتطلب إلى جهد لمعرفة ذلك. فالخطاب العام في النصف الأول من الديوان هو السمة الأوضح خاصة وأن القصيدتين"الأولى والثانية " تشكلان تقريبا النصف الأول من وجه هذا الديوان المضيء.."(10)
فلنعد مرة أخرى إلى العنوان/العتبة الأولى لقراءة مكوناته، ومعرفة دلالاته، وربطه بحقوله، والوقوف عند ارتباطاته وعلاقاته، بعد تفكيكه وإعادة بنائه.. إن هذا العنوان "رسالة من المسجد الأقصى" ليحمل دلالات جلية وواضحة تطفح على سطحه باعتبار أنه عنوان بسيطة ولا يحتمل التعقيد.. كما يتضمن مجموعة أخرى من الدلالات الخفية والمضمرة والمستترة.. فـ"رسالة من" تستوجب بطبيعتها مكونين اثنين لا غنى لها عنهما، وهما المرسل والمتلقي/المرسل إليه.. كما تستدعي موضوعا أو مضمونا أو محمولا مفهوما وإلا لما كانت فعلا رسالة.. كما أنها تتضمن سننا أو شفرة يمكن معرفتها من خلال السياق ككل في البناء كله أو جله..
والمرسل لهذه الرسالة هل هو الذي ارتبط بها تركيبيا، أي ذلك الذي جاء خبرا للمبتدأ في العنوان "رسالة" والذي هو "في المسجد الأقصى"..؟ أم هو الشاعر الإنسان المبدع الذي يمكن أن يعتبر المرسل الأول والواقعي للرسالة..؟ أم هو شيء آخر خفي بين الشاعر والمسجد الأقصى والذي يمكن أن نطلق عليه اسم "المشعر" ويقوم نقديا بالوظيفة نفسها التي يؤديها مصطلح "الراوي" في الرواية..؟ أم أن المرسل هو عبارة عن الدلالات التي تستشف من شبه الجملة في العنوان "من المسجد الأقصى" والذي يحيل على كثير من الدلالات سنقف عند بعضها لاحقا..؟ أم أن المرسل هو كل هذا وبدون استثناء..؟
أما "المسجد الأقصى" فهو دال على المكانية والتاريخية والقدسية وأيضا على الصراع الذي فرض عليه وليس من طبيعته لأنه هو نفسه رمز السلام.. إنه مكان موغل في الزمان، وزمان ضارب بجذوره في المكان، كما أنه مكان يحيل على الحال فيه والموجود به، يحيل على الإنسان الساكن به المرتبط بترابه منذ غابر الأزمنة.. ولقد أحيط بالقداسة الدينية والاحترام البشري منذ بنائه أول مرة، كما تضمن دلالات المعاناة ومعاني الصمود.. فالمكان في حد ذاته ليس مقصودا بالأساس وإنما المقصود أصلا هو ما يدل عليه من معان، أو ما يحيل إليه من رمزية..
"+إن المكان في الإبداع الأدبي عامة وفي الإبداع الشعري على الخصوص ليس صورة (فوتوغرافية) أو شكلا مرسوما هندسيا (طوبوغرافيا) كما أنه ليس موصوفا وصفا علميا أو مشهديا أو تشريحيا، وإنما هو تعبير أو تلفظ لغوي أو دال يحمل في ذاته مدلولا ثم يحيل على مرجع معين، ثم يصير من حيث الرؤية إلى مرجع مفتوح يعطي للدال فرصة كبيرة يتناسل من خلالها الدوال.. كما قد يرتبط بدوال أخرى ضمن تركيب لغوي معين، وفي إطار سياق أسلوبي محدد، بل وضمن نص أو نصوص إبداعية متعددة تتفق في استعمالها اللغوي للمكان نفسه.. وهذا يسعف الدال على توسيع دائرة مدلولاته ومرجعه المفتوح(11).. لذا أصبح لزاما أن تخرج اللفظة المكانية المستعملة في الملفوظ/المتخيل (أي أن يخرج الدال) من المستوى الملموس إلى المستوى المجرد، ومن الإطار المحسوس إلى الإطار المعنوي، ومن المرئي إلى المفهومي أو الرؤيوي، ومن مجرد التذكر إلى التفكر والارتقاء في التخيل..
إن أماكن الإبداع الشعري لغوية بالضرورة وإن أحالت على ما هو مادي في الأصل.. تتحرك في إطار ما تعطيه اللغة وما تزخر به تراكيبها وما تمنحه من معاني ومفاهيم وما تتمتع به من رؤى وما تحويه من رموز وما تكنه من تشكيل خصوصا إذا فجرها الإبداع الشعري تفجيرا شاعريا يُفيض على مفهوم المكان جمالا وسناء وسلاسة وإحالات قد لا تبدو للعيان أو حتى للمتفحص الذي يعتمد على اللغة في منطوقها العادي أو في مفهومها الضيق والقاصر، أو في لعبتها غير الناضجة.. أو يعتمد بعض الأدوات النقدية العتيقة/المتجاوزة، أو التي لم ترق بعد إلى ما آلت إليه الدراسات الحديثة، أو لم تتمتع بنظرة تكاملية توليدية وتفجيرية تعتصر اللغة الإبداعية اعتصارا في أساليبها وتراكيبها وعلائق كل مكوناتها كي تنتهي في ذلك وبذلك إلى الحصول على لب وأسِّ تلك اللغة وجوهرها الذي يحرك الأنفس ويدغدغ الوجدان ويرقى بالفكر ويسحر العقل ويعلو بالروح ويسمو بالفؤاد، ويبرز المادة المدروسة في جوهرها الشفاف، وهي ترقى في معارج الأدبية والشعرية..+"(12)..


ارتباطات العـنوان:


إن الرسالة التي يبعث بها هذا المكان المقدس جاءت في المتن الشعري على أشكال مختلفة، يمكن صياغتها على النحو التالي:
(1) وردت الرسالة عبارة عن مجموعة من الأسئلة المتفرقة على طول وعرض خريطة البناء الشعري الذي أقامه التميمي(13).. فجاءت هذه الأسئلة صريحة من خلال استعمال بعض مشتقات الفعل "سأل" أو الإتيان بأدوات الاستفهام المعروفة كما في قوله:
واسأل الأمة أو سل بعضها
كيف للموت على الجمر أساقْ ؟
كيف أصبحت مكانا أثريا
بصنوف الفسق ضاقْ ؟
كيف قد بدل طهري
مسرحا للعري يغري
بين ضم واعتناق والتصاقْ ؟
يا بني الإسلام ما حل بكم ؟
هل نسيتم أنني بوابة السبع الطباقْ ؟
من هنا قد واصل الرحلة في الكون البراقْ (من قصيدة رسالة من المسجد الأقصى)
*******

وسل الوقائع و الصنائع هل رأتْ
أحدا يسوس كما يسوس المسلمُ
إنا قوم لا نغش رعية
عند السيادة أو نخون ونظلمُ
وإذا حكمنا فالعدالة منهج
لا ظالم ولا متظلمُ
أطفالنا ولدوا على سرر الردى
أرأيت طفلا بالردى يتنعمُ ؟ ( قصيدة: من نحن؟)
*******
أرضيت القسمة يا وطني
للغاصب والمحتل القتلْ
ولك الدعوات إلى السلمْ
أتظل مريضا يا وطني
تتعاطى التضليل الرسمي
أو تبقى مفتاح قمار
لكنْ وطنا في الاسمْ ( قصيدة: برنامج وطني)
ألم تهززك صورة طفلة
ملأت
مواضع جسمها الحفرُ ؟
ولا أبكاك ذاك الطفل في
هلع
بظهر أبيه يستترُ ؟
فما رحموا استغاثته
ولا اكترثوا ولا شعروا
فخر لوجهه ميتا
وخر أبوه يحتضرُ
متى يستل هذا الجبن من
جبينك والخورُ ؟
متى التوحيد في جنبيك
ينتصرُ ؟
متى بركانك الغضبي
للإسلام ينفجرُ
فلا يبقي ولا يذرُ ؟
متى ترقى... وتعتبرُ ؟
أتبقى –دائما- من أجل
لقمة عيشك
المغموسِ بالإذلال تعتذرُ ؟ (قصيدة رسالة من حراس الأقصى)
*******
وأسئلة أخرى جاءت غير صريحة أو جاءت بشكل غير مباشرة نظرا لغياب تلك الأدوات الاستفهامية، والتي استبدلت بالاعتماد على السياق فحسب لتمرير تلك الأسئلة، والأمثلة على هذا كثيرة لا داعي للإطالة بذكرها..
(2) كما جاءت الرسالة أيضا على شكل نداء هو الآخر بدا ظاهرا بأدواته المعروفة (أ – أيا – يا - أيها...) ومقوماته المشهورة تارة، وخفيا معتمدا على السياق المفعم بأسلوب النداء دون ذكر لأدواته، ومرتكزا على الفعل الأمر الذي يكتسي صبغة أسلوب النداء تارة أخرى..
يا أخي في الله، هذا المسجد الأقصى جريحْ
في سكون الليل –لو تسمع- كالطفل يصيحْ
جرحه الغائر لا تشبهه كل الجروحْ
إنه جرح أليم داخل القلب يقيحْ
إنه جرح بقايا أمة
كان فيها عزة وروحْ (رسالة من المسجد الأقصى)
*******
يا رجال البورصة السوداء في سوق السلامْ
سوقكم ذل على ذل تقامْ
تطرحون القدس للقسمة، هلْ
سخف الأمر إلى هذا المقامْ (رسالة من المسجد الأقصى)
*******
أعيرونا مدافعكم ليوم
لا مدامعكم
أعيرونا وظلوا في
مواقعكم
بني الإسلام
بني الإسلام ما زالت
مواجعَنا
مواجعُكم
مصارعَنا مصارعُكم
إذا ما أغرق الطوفان
شارعنا
سيغرق منه شارعُكم (رسالة من حراس الأقصى)
*******
أيا دعاة ذلنا
كفى بنا متاجرهْ
أي سلام قذر
تروجون قذرهْ
أي اتفاق آثم
ندعى لكي نسطرهْ
نرفضه إن لم تكن
جماجم العدا محابرهْ ( قصيدة: مجزرة)
*******
(3) جاءت الرسالة كذلك في النص الشعري على شكل حديث تارة وبلاغ ثانية وقول ثالثة موجه للأمة كي ترى واقعها الحالي بنظرة فاحصة وما آلت إليه أوضاعها برؤية تمحيصية وناقدة، وتبحث لها عن مخرج من هذه الأزمات انطلاقا مما يمليه عليها إسلامها الحنيف أولا ما دام هو الذي تدين به على العموم.. وما تفرضه عليها واجبات المواطنة وحقوق الوطن والانتماء القومي:
حدث الأمة عني
بلغ الأمة أني
عيل صبري بين أسر واحتراقْ
هتك العهر اليهودي خشوعي
من رواق لرواقْ ( قصيدة: رسالة من المسجد الأقصى )
*******
ثم قال المسجد الأقصى بحزم واقتضابْ:
من – ترى- المسؤول فيكم
ومتى يرسل الرد على هذا الخطابْ ؟
قلت والآلام تشوي أضلعي
وخيالي شارد ليس معي
أعبر الماضي مطعونا بذل الواقع
ثم ألوي سابحا في أدمعي... (رسالة من المسجد الأقصى)
*******
بلغ الأمة –يا عبد- سلامي
من معاني سورة الإسراء قدسي الهيام
أثري الوجد سني العناق
لا سلاما خائن النشأة عبري المذاق ( قصيدة: رسالة من المسجد الأقصى )
*******
(4) جاءت كذلك الرسالة الركن الأول من العتبة الأولى على أنها صيحة أو صوتة أو صرخة واصفة ما صار عليه المسجد الأقصى في غياب الآذان الصاغية والقلوب الواعية والأجساد المتحركة.. جاءت ترسل صرختها حينا بمعنى سلبي حين تكون شعارا أجوف لا يغير من الواقع شيئا وهذه هي صرخة تلك الآذان اللاهية التي لا ترعى للقدس أي اهتمام في حقيقة الأمر وإنما تتباهى بكونها مهتمة به وبقضيته.. فصرخات هؤلاء لا تعبر إلا عن نفسها ولا تتراوح الدوي والنداء الذي لا طائل تحته ولا أهداف منه.. وحينا آخر تحمل الصرخات محاطة بأسلوب اعتذار الذي يفوح سخرية من تلك الآذان المشمئزة.. وحينا ثالثا تأتي الصرخة عبارة عن أنين ولكنه أنين يحمل صوت الحق.. أو تأتي استحثاثا للهمم، وحينا رابعا تكون الصيحة صيحة تحد وصرخة إيمان تملأ الزمان والمكان وإن لم تكن هناك آذان:
نحن لا نملك من نخوتنا
غير صرخات تدوي ونداء
*******
جفَّ هذا الريقُ في أفواهِنا
بُحَّتِ الأصواتُ منّا فارحمونا
وارحموا هذي الحناجِرْ
اُعذُرونا إنْ صَرَخْنا
إنّ في أعماقِنا الموتَ الزُّؤامْ
لا أظُنُّ الصارخَ المذبوحَ – إنْ صاحَ – يُلامْ
اُعذرونا إنْ فَتحْنا مرّةً أفواهَنَا
أَنْتَنَتْ ألفاظُنا في الحَلْقِ من شَدِّ الِّلثامْ
كِلْمَةُ المعروفِ شاخَتْ
وهْيَ تحيا في الظّلامْ
أهْوَ عَيبٌ أنْ نقولَ الحقَّ جَهْراً ؟
أَهْوَ خَرْقٌ للنّظامْ ؟
قبّحَ اللهُ لساناً يألَفُ الصّمْتَ الحرامْ ! ( قصيدة: رسالة من المسجد الأقصى )
*******
يا أخي في الله، هذا المسجد الأقصى جريحْ
في سكون الليل –لو تسمع- كالطفل يصيحْ ( قصيدة: رسالة من المسجد الأقصى )
*******
إنني أصرخ والهيكل يبنى فوق رأسي
أيرجى النصر من أمثالكم
أم ترى أنعي لكم نفسي بنفسي
*******
أخي في اللهِ، قد فتكَتْ بنا عِلَلٌ
وهذي صرخةُ التكبيرِ تَشفي هذه العِلَلا
فأَصْغِ لها تجَلْجِلُ في نواحي الأرضِ ما تركَتْ
لها سهلاً ولا جَبَلا
تجوزُ حدودَنا خَرْقاً
وتعبُرُ عَنْوَةً دُوَلا (رسالة من حراس الأقصى)
*******
(5) كما جاءت الرسالة أيضا في شكل كتابة شاكية الوضع البئيس وما يقوم به العدو من انتهاكات وإن لم تكن جديدة فهي تعود إلى غابر العصور قد تكون حتى من قبل موسى عليه السلام، ومتألمة من المعاناة والقيود المفروضة والاضطهاد الممارس بكل وحشية، ومتحسرة على المواقف المترهلة والاحتجاجات الفارغة والأصوات الجوفاء والصيحات النخبة والتنديدات التي لا معنى لها من القريب ومن البعيد:
كتب الأقصى حزينا يشتكي وضعا بئيسا:
ضجّروا –من قبل- موسى....
كتب الأقصى وفي المحراب نارُ
ويلوك المنبرَ الرمزَ لهيب واستعارُ:
أو هذا كل ما في وسعكمْ ؟....
كتب الأقصى وفي رجليه قيدُ
وعلى أبوابه –من بقايا عُبّد الطاغوت- جندُ:
طال شوقي لصليل السيف يشدو
وصهيل الخيل وسط النقع تعدو
هل صلاح الدين –يوما-في رجال القوم يبدو ؟ ( قصيدة: رسالة من المسجد الأقصى )
*******
(6) وأخيرا تتمثل هذه الرسالة في شكل خطاب أرسله (المسجد الأقصى) إلى الشاعر كي يبلغ الأمة.. أرسل ذلك الخطاب ملؤه اللوم والعتاب، ويحفه الاشتياق إلى رجال بنوا مجد الأمة في سالف الدهر، ويحيطه التلهف على الغد المشرق والمستقبل المضيء.. وملؤه أيضا السؤال الممزوج بالمرارة والمفعم بالاستنكار والمسيج بالصبر على طول الانتظار.. ومع كل هذا تأتي الرسالة خطابا تستولي عليه روح التفاؤل والنصرة، ويعرج به من الغربة إلى العودة..
أرسَلَ الأقصى خِطاباً فيه لومٌ واشتِياقْ
قالَ لي وَهْوَ يعاني
مِنْ هَوانٍ لا يُطاقْ:
حَدِّثِ الأمّةَ عنّي
بَلِّغِ الأمّةَ أنّي
عيلَ صبري بين أسرٍ واحتِراقْ
هَتَكَ العُهْرُ اليهوديُّ خشوعي
مِنْ رُواقٍ لرُواقْ
أشعَلوا ساحاتيَ الأخرى فُجُورا
وصفيراً ودَنَايا وسُفورا
دنَّسوا رُكنيْ ومِحرابي الطَّهورا
فأنا – اليومَ – أُعاني
بل أُعاني منذُ دهرٍ
أَلَمَ القهرِ أسيرا
لَمْ يَزَلْ قيديَ مشدودَ الوَثاقْ
أَوَ ما يَكفي نِفاقا ً؟
ضِقْتُ من هذا النّفاقْ
أرسِلوا ليْ من صلاحِ الدّينِ خيلاً
أرسِلوها من حِمى الشّامِ وَنَجْدٍ
مِنْ سرايا جيشِ مِصرٍ، أوْ عَرانينِ العِراقْ
تنشُرُ الهيبةَ للإسلامِ بالدّمِّ المُراقْ
منذُ دهرٍ لم تزُرنيْ هذِهِ الخيل العتاق
*******
ومتى يرسل الرد على هذا الخطابْ ؟
*******
بعد هذه الجولة في معالم الركن الأول من تلك العتبة الأولى، والتي جمعنا من خلالها مجموعة ألفاظ في شكل حقل دلالي معنون بذلك الركن الأول من العتبة وهو "رسالة"، لنلحظ الخيوط التي نسجتها مع ما يحيط بها من ألفاظ ومفردات أخرى في السياق نفسه مما ساعدنا على تكوين فكرة عن طبيعة تلك الرسالة وعن وظيفتها.. كما أسهم ذلك في التعرف على طبيعة وكينونة المرسل، وتحديد هويته وماهيته، وتشخيص معاناته وآلامه وآماله ومساعيه للحصول على مبتغاه وتحقيق أهدافه، والخروج عن المألوف الممقوت الذي تصنعه الأيادي الأثيمة والعقول المكدرة والأنفس السكرى بحب الفانية..
نعود مرة أخرى لرصد المكون الثاني للعتبة الأولى.. ذلك المكان الذي أصبح بمثابة كائن حي ينفعل ويفعل، يتألم ويأمل، يتوجع ويتوجس، يشكو ويتمنى، يُهدم ويُعدم ثم يحيا وينتقم، يحاور ويصور، يطرح ويناقش، يشتاق ويعاتب، يبين وينصح، يشخص الداء ويقترح الدواء، إنه المكان الكائن الحي.. رمز القداسة والكرامة والتضحية والمقاومة.. رمز التحدي والعنفوان والصمود والممانعة.. ثم هو هنا إضافة لما ذكر رمز الواعظ والمرشد والكاتب الناصح..
ولقد جاء ذكره في المتن الشعري كما هو في العتبة "المسجد الأقصى" مرتبطا بدلالات عديدة وقضايا مختلفة وأمور متشعبة.. وذلك في مثل قول الشاعر:
يبحث القوم عن الهيكل في أوجاعنا
يحفرون المسجد الأقصى على أسماعنا
يستبيحون حمانا ودمانا
*******
يا أخي في الله، هذا المسجد الأقصى جريح
في سكون الليل –لو تسمع- كالطفل يصيح (رسالة من المسجد الأقصى)
*******
أخي في الله، أخبرني:
متى تغضب؟
إذا انتهكت محارمنا
إذا نسفت معالمنا
ولم تغضب
إذا افترست شهامتنا
إذا ديست كرامتنا
إذا قامت قيامتنا
ولم تغضب
فأخبرني: متى تغضب؟
إذا نكبت معاهدنا
إذا هدمت مساجدنا
وظل المسجد الأقصى
وظلت قدسنا تغصب
ولم تغضب
فأخبرني: متى تغضب؟ (رسالة من حراس الأقصى)
*******
أمن السياسة أن تكون قلوبكم
صخرا فلا تحنوا ولا تتألم؟
تتصنعون مع الشهيد تعاطفا
وعلى اليهود قلوبكم تترحم
ولقد علمتم بل رأيتم حالنا
ولهوتم وكأنكم لا تعلموا
أمن السياسة تلك أن تتفرجوا
والمسجد الأقصى يباح ويهدم؟ (قصيدة: من نحن؟)
كما ورد النعت فقط "الأقصى" وذلك في كثير من الأماكن نختار منها ما يلي:
أيها الأقصى لك الله فكم
تطلب النجدة مكلوما وكم
ما تنادي من بقايا جثث
جل من تدعو من الناس رمم
جلهم أسرى فروج وبطون
ولقم.
جُلُّ مَنْ ناديتَ لم يطرُقْهُ هَمْ
غيرُ همِّ الذاتِ لا شيءَ أهَمْ
عايَشَ الخوفَ من الخوفِ فَلَمْ
يستَسِغْ للمَجْدِ و العِزّةِ طَعْمْ
جُلُّنا أصبحَ من ذِلّتِهِ
رقماً يَنْضَمُّ في الطّرحِ إلى جّنْبِ رَقَمْ
جُلُّنا – يا أيها الأقصى – قَزَمْ
قبلَ ان يعرِفَ ما الحربُ وما السِّلْمُ
انهزم. (رسالة من المسجد الأقصى)
*******
أعيرونا وكفوا النصح
بالتسليم
نمقت ذلك النصحا
أعيرونا ولو شبرا نمر
عليه للأقصى
فلا نحتاج لا دمعا ولا
نوحا. (رسالة من حراس الأقصى)
*******
كما جاء تحت اسم "القدس"، وهنا يبرز "نشيد:القدس غضب" لكون هذه القصيدة وهي فعلا عبارة عن نشيد تخضع لمعاييره الأدبية.. تتردد فيها لفظة القدس باستمرار مما يجعلها تتجاوز مستوى اللازمة العادية المعروفة كتقنية في الأنشودة.. كما وردت لفظة القدس في صورة غريبة:
يا رجال البورصة السوداء في سوق السلام
سوقكم ذل على ذل تقام
تطرحون القدس للقسمة، هل
سخف الأمر إلى هذا المقام؟
كما عبر الشاعر عنه ببعض ما يدل عليه من ألفاظ كالبلد والأرض والمقام، وببعض مكوناته كالركن والمحراب، أو ببعض ما يدعى عليه كذبا وزورا كالهيكل، أو بعض ما اشتهر حوله كالخيام، أو ما اشتهر به من كونه بوابة السبع الطباق، منه واصل الرحلة في الكون البراق..فهو عتبة المعراج، وبداية الطريق إلى سدرة المنتهى..
يا بني الإسلام ما حل بكم؟
هل نسيتم أنني بوابة السبع الطباق؟
من هنا قد واصل الرحلة في الكون البراق (رسالة من المسجد الأقصى)
ثم يأتي المسجد الأقصى مقرونا بالبيت الحرام لتتأكد قدسيته ولترتفع في الأمة درجة التأهب القصوى من أجل تحقيق الأمن للمسجد الأقصى كما هو متحقق للبيت العتيق بنص القرآن الكريم (((... ومن دخله كان آمنا..))) (آل عمران:97)..
ربط القرآن بين البيت والأقصى رباطا أبديا
لم يكن ذاك خيارا
أو قرارا عربيا
مستعارا أجنبيا
كل من فرق بين البيت والأقصى فقد
كذب القرآن أو خان النبيا
وهنا نلحظ تأثير النص الغائب في هذه المقطوعة التميمية وهو النص القرآني في قوله تعالى (((سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير))) (الإسراء:1).


جمع تأخير:


كان بودنا أن نناقش قضايا كثيرة جدا يطرحها الديوان الشعري إلا أننا رجحنا التعاطي مع العتبة الأولى وسجلنا مجموعة كبيرة من النصوص الشعرية لكي نترك للمتلقي فرصة التعامل معها واستشرافها نظرا ليسرها وبساطة لغتها ووضوح معانيها وسهولة تراكيبها، وهذا لا يعني أن الشاعر في قصائده –كما يقول سميرة عطية– "قد أخذ منحى "اللغة التقريرية" ولكن الذي أقوله وبكل شفافية إن أشعار الدكتور عبد الغني قد حافظت – في العموم- على جماليات الصور الفنية والمشاهد الشعرية وهي رغم أنها في الغالب صور ماثلة في أذهان المستمعين وحاضرة في ضمائر الناس إلا أن الشاعر قد استطاع أن يوظف هذه البساطة في الخطاب لكي يدخل إلى كثير من القلوب بلا استئذان وبكل حب !" (نقطة ضوء).. ثم إني بالشاعر كأنما يريد أن يبقى ما أبدعه شاهدا على هذا العصر الذي تفاقمت فيه كل المعطيات، وارتبكت فيه كل العلاقات، واختلطت فيه كل الأوراق، وضلت فيه العقول، وقست فيه الأفئدة، وأنكر فيه الصحب صحبه.. يكتبه شعرا للتاريخ ويتركه صرخة تعبر عن صوت الشرفاء في هذه الأمة.. الذين يقولونها بكل صراحة:
أقولها صريحة
في جملة مختصره:
رصاصة واحدة
خير لنا من عشره
قول الرصاص فاصل
وما سواه ثرثره
رصاصة خير لنا
من ألف ألف حنجره (مجزرة)
*******
سأقولها بصراحة وأعيدها
حتى يهب من الفراش النوم:
"وجب الجهاد فيا حدود تمزقي
هذي خيول الفاتحين تحمحم" (من نحن؟)
ولا غرابة أن تكون هذه الصراحة (14) بهذا الشكل هي ختام القصيدتين " مجزرة " و" من نحن؟ " وعلى هذا الغرار وإن اختلفت كانت جل القصائد تنتهي بمفاهيم الجهاد والمقاومة والصمود والممانعة والتفاؤل وكشف الحقائق..
أقولها صريحةً لا تعرف الحدودْ وحرّةً لا تألف القيودْ
أقولها جريئةً بريئةَ الصدور والورودْ
أقولها وأنتم وكل أهل الأرض والسما شهودْ
أقولها صريحة للمرّة الألفِ
إلى متى نظل طعمةً لعقدة الخوفِ
إلى متى نظل أمة أميّة؟
أمّية العقول لا أميّة الحرفِ (من قصيدة: أقولها صريحة)
نختم هذه القراءة البسيطة، ويبقي في النفس من شعر شاعرنا عبد الغني التميمي الكثير أتمنى من العلي القدير أن يفسح لنا في العمر ما يتيسر فيه تقديم قراءات أخرى..



الهوامش والمراجع:


(*) يرجى الاطلاع على مقالنا "هموم الأرض في الشعر الإسلامي المعاصر " من مجلة المسلم المعاصر في عددها 48 السنة 12 شوال 1407هـ الصفحة:91.
(1) هذا المصطلح يطرح مجموعة من المشكلات في تركيبته وفي تاريخيته ومدى تعبيريته.. نتركها لبحث آخر إن شاء الله..
(2) سنن البيهقي الكبرى > كتاب الشهادات > باب شهادة الشعراء : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : اهجهم ، فهجاهم ، فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك رضي عنه ثم أرسل إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه فلما دخل عليه قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه ، ثم قال : و الذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تعجل ، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، و إن لي فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي ، فأتاه حسان ثم رجع فقال : يا رسول الله قد محض لي نسبك ، و الذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ، قالت عائشة رضي الله عنها : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لحسان : إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : هجاهم حسان فشفى و اشتفى ، فقال حسان [ الوافر ] :
هجوت محمدا فأجبت عنه و عند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا حنيفا رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي و والده و عرضي لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأسنة مشرعات على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا و كان الفتح و انكشف الغطاء
و إلا فاصبروا لضراب يوم يعز الله فيه من يشاء
و قال الله قد أرسلت عبدا يقول الحق ليس به خفاء
و قال الله قد أرسلت جندا هم الأنصار عزمتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد سباء أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم و يمدحه و ينصره سواء
و جبريل رسول الله فينا و روح القدس ليس له كفاء
أخرجه مسلم في الصحيح ..
(3) قولة للأصمعي انظر كتاب:"الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري دار الثقافة بيروت الطبعة الثانية 1969 الجزء 1 الصفحة 311.."وانظر "الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء.. للمرزباني تحقيق علي محمد البجاوي دار نهضة مصر الطبعة 2/ 1965 الصفحة:85"
(4) قولة للأصمعي انظر كتاب: "الموشح للمرزباني تحقيق علي محمد البجاوي 1965 الصفحة:85"
(5) هذه نظرة قديمة في النقد العربي القديم إلا أنها اتخذت لها أشكالا جديدة مع مجموعة من الكتاب المعاصرين انظر مجلة "القاهرة" المصرية العدد:10 تاريخ 09/04/1985 والعدد:13 تاريخ 30/04/1985..وقارن " نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي" لسعيد علوش دار أبي رقراق- الرباط /المغرب طبعة 2002.
(6) في حوار للشاعر مع شبكة المشكاة الإسلامية وهذا هو الرابط : http://www.meshkat.net/new/contents.php?catid=12&artid=12005
(7) نشرت هذه النبذة من حياة الشاعر على الشبكة السابقة الذكر: http://www.meshkat.net/new/contents.php?catid=12&artid=12005
قارن بما ورد في " http://www.abdalgani.com/
(8) من مقدمة الشاعر لديوانه.. لم أتمكن من الحصول على الديوان مطبوعا فاعتمدت على النسخة الإلكترونية المنشورة على الموقع الفلسطيني وهذا هو الرابط: http://www.palestine-info.info/arabic/poems/altameme/resalh
(9) على خلاف ما ورد في تقديم الديوان "نقطة ضوء على ديوان رسالة من المسجد الأقصى" لسمير عطية..
(10) التقديم السابق نفسه..
(11) المرجع المفتوح نقصد منه ما يظهر جليا في الترسيمة التالية:







(12) من دراسة تحت عنوان " جمالية المكان الوظيفة الدلالية للبحر قراءة في شعر حسن الأمراني من: "مملكة الرماد".. إلى: "الزمان الجديد".. للأستاذ عبد الرزاق المساوي..
(13) وأخص بالذكر هنا قصيدة "رسالة من حراس الأقصى"فكلها عبارة عن أسئلة..
(14) للشاعر قصيدة طويلة تحت عنوان " أقولها صراحة " أنظر الرابط الإلكتروني ://www.palestine-info.info/arabic/poems/aqolaha.htm