فاطمه بنت السراة
09/08/2008, 05:16 PM
:
لا يرى
◙◙◙◙◙◙◙
◙ ذهب إلى دوامه الرسمي مبكراً على غير عادة,
أوقف عربته في الموقف المعتاد, وببرود معروفٍ عنه نظر إلى ساعته الفضيّة مستنكراً حضوره المُبكر للدوام بحاجب كسول..
لم يحضر أحد بعد..
أزاح مقعد العربة الجلدي قليلا الى الخلف مريحاً ظهره عليه .. تمطّى بكسل وعيناه تجولان في مبنى المدرسة المقابل لدائرته الحكومية وحركة المرور الخانقة عندها ..
أمامه ساعتان بالتمام والكمال حتى يبدأ دوامه.
قرّر أن يغادر جلسته المريحة في العربة لإحضار بعض الإفطار من مطعم الوجبات السريعة القريب منه .. لم تهضم معدته بعد ما أكله في البيت لكن، لا بأس بالتغيير..
كان يُحاذر الاصطدام بكثير من الصغار في طريقه..
عند باب المدرسة الحديدي سمع توبيخ أب ونشيج طفل .. أرسل نظراً حاراً إلى الأب الذي دفع بابنه داخل المدرسة وذهب..
توقف أمام الباب يرقب نشيج الطفل في حيرة، وروائح الأطفال تتسلل إلى خياشيمه، بعضها طبيعية وبعضها صناعية فرنسية فائقة التركيز ... وأمام نظرات البواب التي خالها مُنصبّة عليه وحده، تركه وذهب مستشعرا لنفسه العذر..
( قد يظن بي الظنون هذا المخبول ).
ابتاع رغيفيّ جبن وبيضا ومشروبا باردا ازدردهم على عجل ماسحاً يديه وفمه بالمنديل المُعطّر الذي يهديه أصحاب الوجبات السريعة لزبائنهم..
عاد من نفس المكان الذي قدم منه، كانت المدرسة قد أغلقت بابها الحديدي الكبير على من فيه من الصغار، وعربات الأساتذة المختلفة الأشكال والألوان والأحجام قد اصطفت بترتيب في الخارج.
وهو يتجشأ... ملأ سمعه فجأة نشيج الطفل الصغير..
تلصص بنظره حيث الباب الأخضر الحديدي: لا أحد.
تذكره بوضوح كأنه ماثلٌ أمامه، بملامحه الدقيقة الباكية، شعره المُنسّق في فرقة جانبيّة جميلة وأنيقة، سِنته الأمامية المكسورة.
قطّب ما بين حاجبيه.. هذه هي.. السِنّة الأمامية المكسورة..
كأنه لمح في فم طفلهِ ذي السنوات الثمانية بالأمس نفس السِنّة المكسورة؛ لم يسأله عنها وقتها، بل هو متأكد أنه لم يرها وقتها من الأساس..
هل كان هذا بالأمس أم قبل الأمس، أم في يومٍ من الأسبوع الفائت؟
حقيقة لم يلحظها وقتها، لكن رؤية الطفل الباكي بسِنّته المكسورة أعادت إلى ذاكرته المشهد بوضوح..
كأنها كاميرا تحميض غير فورية التقطت المشهد بالأمس، قبل الأمس، الأسـبوع الفائت.. وقامت الآن فقط بتحميضه!
وبوضوح يتذكر وجه ابنه الخائف بسنّته المكسورة.. لم يلحظه وقتها، لكن صوت التلفاز بالمغامرة الكرتونية المُدبلجة جعله يخرج من غرفة مكتبه كإعصار منادياً على زوجته بأن تأخذ الطفل إلى غرفة نومه، ويعود هو بضيق إلى قراءة الجريدة التي شتت حضور الطفل انتباهه عنها.. وقتها لمح السِنّ المكسورة في الوجه الخائف الصغير.
حاول استحضار وجه طفله الوحيد،
ملامحه الدقيقة أظنها لأمه..
لون بشرته لي أو لها؟
لون شعره؟
عجز عن التذكر.
( معقولة! )
سار بذاكرته مُتتبعاً خط زواجه منذ تسع سنوات.. تزوج وأنجب سريعاً، تذكر فرحته الغامرة بمولوده الذكَرْ، الوليمة الكبيرة التي أقامها في اليوم السابع، ومعزوفة الصغار من الأقارب وبعض الجيران ( يا ربّ يا رحمان، بارك لنا في الغلام ) .. بشموعهم وعلب الحلوى الملونة التي تفنّنت أم زوجته وشـقيقاتها الكثيرات فـي إعدادهـا، ثم… , ثم…
انقطع خيط الذاكرة .. كأن لاشيء حدث منذ ذلك الوقت!
كيف كبر الولد حتى بلغ الثامنة؟!
مَنْ ختم شهادة تطعيمه الصفراء بكل تلك الأختام؟
ومتى؟!
انزعج من الجواب: ( أهل زوجتي) .
أحس بالحقد تجاههم..
تذكر أن عمله الجديد أتى بعد مجيء طفله بشهر واحد.. عمل دقيق في الحاسب الآلي، لكنه معذور؛ فطبيعة عمل مثل عمله تستوجب الهدوء وعدم الإزعاج، وبيت به طفل يَعني دائماً: لا هدوء.
كانت تستأذنه لتذهب بالطفل مع سائق أهلها إلى المستشفى.
وتستأذنه لتذهب هي نفسها الى المستشفى.
وهو كمثقف وديمقراطي أصيل كان يستمع إلى طلبها بصبر، ثم يقرر الموافقة بعد أن يطمئن على ذهابها مع أهلها وتحت بصرهم.
وتستأذنه لتذهب بابنه إلى حلاّق الأطفال الفلبيني,
وتستأذنه لتبتاع له ملابس العيد,
( كـم عيدا قدم علينا منذ أن أتى؟ ثمانية أعياد! ).
وتستأذنه لتسجيله في المدرسة الأهلية القريبة منهم: حضانة، روضة، تمهيدي، ثلاثة سنوات وهي تستأذنه.. يا لِصبرها!
تذكر شِجَاره العاصف معها حين اقتحمت صرحه طالبة تسجيله في المدرسة الابتدائية..
جُرأة!
لقد تفاهما مسبقا على هذا الأمر!
ومِنْ أجل مَنْ؟!
كان وقتها مستغرقاً في جدولة بيانات عمله الدقيق في برنامج ( الأكسل ) حينما دخلت عليه طالبة هذا الطلب، من سوء حظها أنّ الكمبيوتر أخرج لسانه لزوجها بعبارة غامضة: ( قام هذا البرنامج بعملية غير مشروعة..الخ ) وبالطبع لم يحتفظ البرنامج بالبيانات التي شقي مساءه كله في إدخالها إليه.. طارت البيانات، وطار جهده وعقله معها.
التفت لزوجته مُتهماً ايّاها بما حدث للجهاز، رافضاً طلبها، ومغلقاً عليه باب غرفة مكتبه الى الفجر حيث أنجز العمل بعد جهد جهيد..
بعد شهر واحد شاهد ابنه يلعب في الحديقة مرتدياً زيّ المدرسة، لم ينتبه لحرارة الظهيرة التي ألهبت رأس ابنه ووجهه، كل الذي لفت نظره بطاقة التعريف التي على صدره بجانب صورته..
قطّب جبينه قارئاً البطاقة بتفكير: ( الصف الأول الابتدائي.أ )
مَنْ سجّله فيها؟
خشي أن تقول: أنا .. عباءة سوداء وسط كل تلك الثياب والغتر..
أجابت ببرود: خاله.
أحس براحة وامتعاض معاً!
قال وهو يبلع لقمته ليلتحق بعمله في غرفة المكتب: الخال والِدْ.
ألقى بعلبة المشروب في صفيحة القمامة القريبة من المدرسة، استند بظهره على إحدى سـيارات الأساتذة المصطفة هناك.. لمح عيني البواب تدققان النظر فيه، وعلى الفور تناهى الى مسمعه ذلك النشيج.
منذ متى لم يَرَ ابنه؟
مؤكد أن الطفل كالعادة في البيت، ومؤكد أنه كالعادة رآه، وربما وبّخه على الإزعاج..
ابتسم بإشفاق متذكراً محاولات زوجته في أيام سنواته الأولى عندما كانت تجرّه من يده مُقلدة قصص الأفلام الأجنبية: ( قل لبابا تصبح على خير )، وابتسم بإشفاق أكثر على نفسه، إذ كانت تلك اللحظات المُصطنعة من أثقل اللحظات على قلبه..
بعدها بفترة بسيطة أحدهما فهمْ: إمّـا الزوجة، وإمـّا الطفل، فانقطعت تلك العادة التي لم تـدم.
كل عطلاتهم الصيفية قضوها بالخارج، بالطبع بدون الطفل!
في البداية عارضتْ وبكتْ، مُلحّة في اصطحابه، وفي النهاية رضختْ .. وأصبح للطفل برضاء الأب ومباركته بيت ثان.. بيت أهلها.. يقضي فيه أشهر العطلات الطويلة والقصيرة، وكل إجازات آخر الأسبوع بحجة: عدم الإزعاج.
العجيب أنّ عدم تذكره لوجه ابنه الآن بوضوح يُربكه!
فقط تلك السِنّة المكسور نصفها والمنحرفة قليلا للأعلى...
حاول أن يتذكر موقفاً واحداً ( له ) معه غير إصدار الأوامر دون فائدة..
في أحد الأيام ذهب الى بيت أهل زوجته ليأخذها للعشاء في مطعم جديد، كانت الإقامة بالصلاة قد أذنت وقتها..
رأى بين المهرولين إلى المسجد طفله مُمسكاً بيد خاله كث اللحية، استغرب الفِعْل! لِم يُوجع رأسه هذا الفارغ باصطحاب الطفل وتشتيت بال المصلين؟!!
وعند الباب؛ شاهد ابنه يرفع رأسه الى حيث خاله في حب ويُقبّل يده، ورأى الخال الذي انحنى بجذعه الطويل طابعاً قبلة حانية على رأس الصغير.. بعد ذلك شاهد الخال وهو يخلع حذاء الطفل ذي الأربطة ويضعه بجانب باب المسجد، بجانب حذائه الكبير.
لحظتها تحركت أحاسيس من الغيْرة في صدره، وشيء من الكُره تجاه الخال، وأعادت ذاكرته أكثر من مرة منظر طفله وهو يُقبل يد خاله، وابتسامته الحُلوة المُتجهة له وحده.. كان حُبّاً ممتزجاً بفخر.. هنا رأى السنّ المكسور.. نعم في هذا الموقف لمحه بوضوح، أعطى وجه ابنه براءة طفولية مُحبّبة.. ثم قبلة الخال على رأسه، ومعاونته في خلع الحذاء..
نظر إلى ساعته نافخاً هواء من فمه.
ما بال العقرب لا يدور؟ والوقت لا يجري؟ ولا أحد من الموظفين حضر باكـرا؟!!!
قرّر حين عودته اليوم في الظهيرة أن يرى ابنه.. يجالسه.. يتحدث معه، يذاكر له ما استعصى من درسه.. يأكل معه.. لماذا لا يأكل معه؟
وعند النوم سيحمله الى حجرته.. يجلس على حافة سريره.. قبلة عـلى جبينه، وجملة "تصبح على خير" لا بد أن يقولها له..
ارتاحت نفسه لهذه القرارات، فأحس بشوق لرؤيته، وبتسامح كبير تجاه الخال..
بانتهاء الدوام، وربكة العمل التي لا تنتهي، وسخافات المدير وغطرسته، وزحام المرور بجانب المدرسة الابتدائية، وحرارة الظهيرة... كانت أغلب القرارات قد انمحت من ذهنه المكدود بتصميم..
( فقط يتغدّى معنا، وعند النوم سأقول له بحب: تصبح على خير ).
ارتاح لقراره الأخير.. ( لن أكون أميناً مع نفسي إن فعلت كل تلك الأشياء، باختصار؛ لن أكون: أنا )..
أول ما أدار مقبض الباب الداخلي لبيته؛ طالعته ضجّة القطار الكهربائي في الصالة، وصوت التلفاز العالي، أشار بإصبعه إشارة آمرة حيث حجرة النوم، فانسحب الصغير مطيعاً للأمر، تاركاً للخادمة إغلاق التلفاز وإحضار ألعابه..
عند النوم، تذكر أنه لم يُقبّل طفله كما قرّر لنفسه، ولم يتمنّ له ليلة طيّبة..
( ربما غداً .. مؤكد غداً ).
حاول أن ينام، لكن وجه الطفل الذي رآه اليوم بسِنّته المنحرفة للأعلى ألح في الحضور أمامه..
حاول أن يستحضر وجه طفله بدلاً عنه، لكنه لم يفلح .. كل الذي رآه منه اليوم حين أمره بالذهاب الى حجرته، قفاه، وقميصاً قطنيّاً طبع عليه في الظهر رسم كبير لطبق طائر وسماء في لون البحر..
( غداً إنشاء الله ).
مرّ أسبوع كامل على ذلك الغد، وكل تلك القرارات التي لم يُنفذها بشأن ابنه، واقتربت عطلة الرجل.. سـيأخذها من اليوم.. في هذه المرة وبعدها وإلى آخر العمر... سيكون ابنه معه، أينما ذهب سيكون معه، من اليوم سيكون معه..
( من حق الطفل أن يكون معي )!
فكر أن يزفّ البشرى الى زوجته التي طالما تمنّتها، لكم أحرقت ليالي سعادتهما في السفر بهذا الأمر، ابني وابني.. لكن دخول أحد الموظفين أنساه الاتصال..
طوال دوامه وهو في ابتسام وتفكير وتخطيط.. أنعشته الفكرة الجديدة التي ستقلب ساعته الداخلية الرتيبة.
لا بأس،
قالها لنفسه بتسامح شديد، وأمامه وجهان شعر أنهما تعذبا كثيرا..
بعد انصرافه استغرب صمت المدرسة المقابلة لعمله، وقلة الزحام المعتاد..
عَرج على محل ألعاب في طريقه، لو لم يكن في طريقه لما عرف من أين يأتي بها.. ابتاع دراجة هوائية لابنه.. أجاب على سؤال البائع بثقة من يعرف الجواب: عمره ثمانية سنوات..
أنام الدراجة برفق وأناقة مع البائع في حقيبة السيارة الخلفية..
بقيت الملابس .. سنبتاعها في المساء أنا، وهو، وأمه..
أحتار.. ( أين سأذهب بهم؟ ما المكان المناسب؟ )
كل الملابس تبتاعها زوجته دائما مع أهلها وسائق أهلها، حتى ملابسه هو.. مناماته، قمصانه الداخلية، أحذيته، فقط الثياب الخارجية تتركها له حسب رغبته.
أخيراً أطلت أريحيته وديمقراطيته لتطفي تلك الحيرة:
( سأترك لزوجتي القرار، ثم نتجه الى هناك.. إن قالت البلد ذهبنا، وإن قالت التحلية فعلنا، وإن قالت حِرَاءْ أو الحمراء أو المساعدية وافقنا )..
ارتاح لتسامحه الذي أطل كثيرا هذا اليوم..
وحالما وصل؛ أخرج الدراجة من حقيبة السيارة، أوقفها بشموخ في الحديقة بجانب كرة طفله الصغيرة،
لا، هنا أفضل .. أوقفها بجانب سيارته هو،
ثم تسللت نظراته الى الباب الداخلي للبيت.. بل هنا أفضل..
أوقفها أخيراً أمام الباب الداخلي للبيت..
( حالما يخرج لـ لهوه المعتاد سيُصادفها أمامها.. ليت هنا كاميرا تصور المشهد ).
فتح الباب الداخلي بالمفتاح.. فاجأه الخَوَاءْ، وصوت خفيض لجهاز التلفاز..
ابتسم لما رأى زوجته مكوّرة في ركن أحد المقاعد يتمايل رأسها من النعاس..
- أين الطفل؟
هزّت رأسها بخمول:
- أجهز الغداء.
أكل في صمت، وفكرة سفر ابنهما معهما لأول مرة، والدراجة المُنتظرة عند الباب تحفزانه على الكلام:
- بدأت إجازتي من اليوم.
ابتسمت بفتور:
- متى أجهز الحقائب؟
- سنسافر بعد غد.
كلّلت سحابة حزن وجهها
- لَمْ تفرحي!
شخصتْ ببصرها الى الأرض دون كلام.
- لن تكون تذكرتان فقط.
سألتْ دون أن تسمع :
- بعد غد صباحا أو مساء؟
أزاح طبقه الذي قضى على نصفه من أمامه بانفعال:
- أما سمعتني. لن تكون تذكرتان فقط.
انتظر أي تعبير على وجهها !
أكمل:
- ستكون ثلاثة.
قام الى حجرة الصغير:
- أين الولد؟
طالعته عيناها في اندهاش:
- لِم تسأل؟
- عجيب أمرك! ولدي لِم لا أسأل عنه!! أين الولد؟
تبلدت الملامح المندهشة:
- أول مرة تسأل عنه.
ابتسم بخجل، لم يجب! أجابت هي:
- سافر مع أهلي منذ يومين.
عاد الى مكانه بقهر:
- سـَافرْ!
- كالعادة. وإن أردت الحق, هو الذي طلبها قبل أن تطرده.
- أطرده!
- سفرنا أنت وأنا بدونه كل صيف؛ أليست طرداً له؟!
ابتلع ريقه، لم يحرّ جواب:
- لِمَ لَمْ تخبريني بسفره؟
قطّبت حاجبيها في حيرة:
- سألتك بالله، منذ متى تهتم؟
حضر الوجه الباكي بقوة بينه وبين زوجته، بالسِنّة المنحرفة للأعلى.
تذكر في دهشة أن ملامح الطفل التي رآها ذلك الصباح هي نفسها ملامح ابنه .. الوجه الدقيق الناعم، الشعر المُنسق في فرقة جانبية، والسِنّة المُنحرفة للأعلى.
- لَمْ يودعني.
انسابت على وجنتيها دموع صامتة:
- هل تعلم أنه قبل أربعة أشهر أجريت له جراحة الزائدة؟
اعتصر بحرج ذاكرته الملأى بالحسابات الدقيقة بالعمل، والفارغة نهائياً من طفله:
- نعم, نعم.
وانسابت الدموع أكثر:
- كـان خاله ينام معه هناك أحيانا, وأحيانا أمي تفعل، ومرة شقيقتي .. وأنا هنا.
لأنني يجب أن أكون هنا.
أرعى مواعيد أكلك، وراحتك، وتلفونات عملك...
ولمّا خرج من المشفى، كانت نقاهته في بيت أهلي حتى لا يزعجك بصوته وطلباته ومناداته علي..
لِم كنت تبعده عن البيت؟
لِم كنت ترفضه؟
أحس بمرارتها منه..
لم يجب.
- أجِبْ؟
ذاق احتقارها له، وفجيعتها فيه..
بعد صمت باهت قال:
- يبدو جميلا بتلك السِنّة المُنحرفة للأعلى.
حدجته بهلع.. التقطت عيناه تلك النظرة التي لم يفهمها..
تحدثت بعد أن تماسكت دموعها:
- كان في الخامسة من عمره عندما سقط على وجهه وانكسرت سِنّته، بعدها بأسبوع سقطت تلك السِنّة، وحلّ محلها سِنّ جديد..
هل تعرف كم عمر ابنك الآن؟
لم يجب..
- ثمان سنوات.
ثمان سنوات وهو محروم منّا لأجلك.
محروم من حقه الطبيعي في بيته بحجة عدم الإزعاج.
محروم من…
قاطع لوعتها بهدوء كاظماً ترتيبات أساسية تخبّطت فجأة داخله:
- هل له صورة حديثة عندنا؟
رفعت رأسها إليه في حيرة..
- لا تنظرين إليّ هكذا، هل تحتفظين بصورة له هنا.. صورة حديثة؟
انقطعت أمام بصرهِ صفحة وجهها المقروءة.. لم يعد يُميّز.. أهي الحيرة ما يرى, أم التفكير، أم هي بداية غضب!
- أريد صورة له .. أريد أن أراه .. ألم يتصل بنا؟
بعد صمت تحدثت بعد أن ابتلعت من الهواء ما يُعينها على الكلام:
- في غرفة مكتبك، بجانب جهاز الحاسوب الذي تعمل عليه كل مساء توجد صورة كبيرة له، التقطها له خاله قبل شهر واحد في حفل المدرسة الذي حضره بدلا عنك، وابنك هو الذي وضعها هناك..
كان يريد أن تراه حتى ولو في صورة، لكنك لا ترى.
◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙
لا يرى
◙◙◙◙◙◙◙
◙ ذهب إلى دوامه الرسمي مبكراً على غير عادة,
أوقف عربته في الموقف المعتاد, وببرود معروفٍ عنه نظر إلى ساعته الفضيّة مستنكراً حضوره المُبكر للدوام بحاجب كسول..
لم يحضر أحد بعد..
أزاح مقعد العربة الجلدي قليلا الى الخلف مريحاً ظهره عليه .. تمطّى بكسل وعيناه تجولان في مبنى المدرسة المقابل لدائرته الحكومية وحركة المرور الخانقة عندها ..
أمامه ساعتان بالتمام والكمال حتى يبدأ دوامه.
قرّر أن يغادر جلسته المريحة في العربة لإحضار بعض الإفطار من مطعم الوجبات السريعة القريب منه .. لم تهضم معدته بعد ما أكله في البيت لكن، لا بأس بالتغيير..
كان يُحاذر الاصطدام بكثير من الصغار في طريقه..
عند باب المدرسة الحديدي سمع توبيخ أب ونشيج طفل .. أرسل نظراً حاراً إلى الأب الذي دفع بابنه داخل المدرسة وذهب..
توقف أمام الباب يرقب نشيج الطفل في حيرة، وروائح الأطفال تتسلل إلى خياشيمه، بعضها طبيعية وبعضها صناعية فرنسية فائقة التركيز ... وأمام نظرات البواب التي خالها مُنصبّة عليه وحده، تركه وذهب مستشعرا لنفسه العذر..
( قد يظن بي الظنون هذا المخبول ).
ابتاع رغيفيّ جبن وبيضا ومشروبا باردا ازدردهم على عجل ماسحاً يديه وفمه بالمنديل المُعطّر الذي يهديه أصحاب الوجبات السريعة لزبائنهم..
عاد من نفس المكان الذي قدم منه، كانت المدرسة قد أغلقت بابها الحديدي الكبير على من فيه من الصغار، وعربات الأساتذة المختلفة الأشكال والألوان والأحجام قد اصطفت بترتيب في الخارج.
وهو يتجشأ... ملأ سمعه فجأة نشيج الطفل الصغير..
تلصص بنظره حيث الباب الأخضر الحديدي: لا أحد.
تذكره بوضوح كأنه ماثلٌ أمامه، بملامحه الدقيقة الباكية، شعره المُنسّق في فرقة جانبيّة جميلة وأنيقة، سِنته الأمامية المكسورة.
قطّب ما بين حاجبيه.. هذه هي.. السِنّة الأمامية المكسورة..
كأنه لمح في فم طفلهِ ذي السنوات الثمانية بالأمس نفس السِنّة المكسورة؛ لم يسأله عنها وقتها، بل هو متأكد أنه لم يرها وقتها من الأساس..
هل كان هذا بالأمس أم قبل الأمس، أم في يومٍ من الأسبوع الفائت؟
حقيقة لم يلحظها وقتها، لكن رؤية الطفل الباكي بسِنّته المكسورة أعادت إلى ذاكرته المشهد بوضوح..
كأنها كاميرا تحميض غير فورية التقطت المشهد بالأمس، قبل الأمس، الأسـبوع الفائت.. وقامت الآن فقط بتحميضه!
وبوضوح يتذكر وجه ابنه الخائف بسنّته المكسورة.. لم يلحظه وقتها، لكن صوت التلفاز بالمغامرة الكرتونية المُدبلجة جعله يخرج من غرفة مكتبه كإعصار منادياً على زوجته بأن تأخذ الطفل إلى غرفة نومه، ويعود هو بضيق إلى قراءة الجريدة التي شتت حضور الطفل انتباهه عنها.. وقتها لمح السِنّ المكسورة في الوجه الخائف الصغير.
حاول استحضار وجه طفله الوحيد،
ملامحه الدقيقة أظنها لأمه..
لون بشرته لي أو لها؟
لون شعره؟
عجز عن التذكر.
( معقولة! )
سار بذاكرته مُتتبعاً خط زواجه منذ تسع سنوات.. تزوج وأنجب سريعاً، تذكر فرحته الغامرة بمولوده الذكَرْ، الوليمة الكبيرة التي أقامها في اليوم السابع، ومعزوفة الصغار من الأقارب وبعض الجيران ( يا ربّ يا رحمان، بارك لنا في الغلام ) .. بشموعهم وعلب الحلوى الملونة التي تفنّنت أم زوجته وشـقيقاتها الكثيرات فـي إعدادهـا، ثم… , ثم…
انقطع خيط الذاكرة .. كأن لاشيء حدث منذ ذلك الوقت!
كيف كبر الولد حتى بلغ الثامنة؟!
مَنْ ختم شهادة تطعيمه الصفراء بكل تلك الأختام؟
ومتى؟!
انزعج من الجواب: ( أهل زوجتي) .
أحس بالحقد تجاههم..
تذكر أن عمله الجديد أتى بعد مجيء طفله بشهر واحد.. عمل دقيق في الحاسب الآلي، لكنه معذور؛ فطبيعة عمل مثل عمله تستوجب الهدوء وعدم الإزعاج، وبيت به طفل يَعني دائماً: لا هدوء.
كانت تستأذنه لتذهب بالطفل مع سائق أهلها إلى المستشفى.
وتستأذنه لتذهب هي نفسها الى المستشفى.
وهو كمثقف وديمقراطي أصيل كان يستمع إلى طلبها بصبر، ثم يقرر الموافقة بعد أن يطمئن على ذهابها مع أهلها وتحت بصرهم.
وتستأذنه لتذهب بابنه إلى حلاّق الأطفال الفلبيني,
وتستأذنه لتبتاع له ملابس العيد,
( كـم عيدا قدم علينا منذ أن أتى؟ ثمانية أعياد! ).
وتستأذنه لتسجيله في المدرسة الأهلية القريبة منهم: حضانة، روضة، تمهيدي، ثلاثة سنوات وهي تستأذنه.. يا لِصبرها!
تذكر شِجَاره العاصف معها حين اقتحمت صرحه طالبة تسجيله في المدرسة الابتدائية..
جُرأة!
لقد تفاهما مسبقا على هذا الأمر!
ومِنْ أجل مَنْ؟!
كان وقتها مستغرقاً في جدولة بيانات عمله الدقيق في برنامج ( الأكسل ) حينما دخلت عليه طالبة هذا الطلب، من سوء حظها أنّ الكمبيوتر أخرج لسانه لزوجها بعبارة غامضة: ( قام هذا البرنامج بعملية غير مشروعة..الخ ) وبالطبع لم يحتفظ البرنامج بالبيانات التي شقي مساءه كله في إدخالها إليه.. طارت البيانات، وطار جهده وعقله معها.
التفت لزوجته مُتهماً ايّاها بما حدث للجهاز، رافضاً طلبها، ومغلقاً عليه باب غرفة مكتبه الى الفجر حيث أنجز العمل بعد جهد جهيد..
بعد شهر واحد شاهد ابنه يلعب في الحديقة مرتدياً زيّ المدرسة، لم ينتبه لحرارة الظهيرة التي ألهبت رأس ابنه ووجهه، كل الذي لفت نظره بطاقة التعريف التي على صدره بجانب صورته..
قطّب جبينه قارئاً البطاقة بتفكير: ( الصف الأول الابتدائي.أ )
مَنْ سجّله فيها؟
خشي أن تقول: أنا .. عباءة سوداء وسط كل تلك الثياب والغتر..
أجابت ببرود: خاله.
أحس براحة وامتعاض معاً!
قال وهو يبلع لقمته ليلتحق بعمله في غرفة المكتب: الخال والِدْ.
ألقى بعلبة المشروب في صفيحة القمامة القريبة من المدرسة، استند بظهره على إحدى سـيارات الأساتذة المصطفة هناك.. لمح عيني البواب تدققان النظر فيه، وعلى الفور تناهى الى مسمعه ذلك النشيج.
منذ متى لم يَرَ ابنه؟
مؤكد أن الطفل كالعادة في البيت، ومؤكد أنه كالعادة رآه، وربما وبّخه على الإزعاج..
ابتسم بإشفاق متذكراً محاولات زوجته في أيام سنواته الأولى عندما كانت تجرّه من يده مُقلدة قصص الأفلام الأجنبية: ( قل لبابا تصبح على خير )، وابتسم بإشفاق أكثر على نفسه، إذ كانت تلك اللحظات المُصطنعة من أثقل اللحظات على قلبه..
بعدها بفترة بسيطة أحدهما فهمْ: إمّـا الزوجة، وإمـّا الطفل، فانقطعت تلك العادة التي لم تـدم.
كل عطلاتهم الصيفية قضوها بالخارج، بالطبع بدون الطفل!
في البداية عارضتْ وبكتْ، مُلحّة في اصطحابه، وفي النهاية رضختْ .. وأصبح للطفل برضاء الأب ومباركته بيت ثان.. بيت أهلها.. يقضي فيه أشهر العطلات الطويلة والقصيرة، وكل إجازات آخر الأسبوع بحجة: عدم الإزعاج.
العجيب أنّ عدم تذكره لوجه ابنه الآن بوضوح يُربكه!
فقط تلك السِنّة المكسور نصفها والمنحرفة قليلا للأعلى...
حاول أن يتذكر موقفاً واحداً ( له ) معه غير إصدار الأوامر دون فائدة..
في أحد الأيام ذهب الى بيت أهل زوجته ليأخذها للعشاء في مطعم جديد، كانت الإقامة بالصلاة قد أذنت وقتها..
رأى بين المهرولين إلى المسجد طفله مُمسكاً بيد خاله كث اللحية، استغرب الفِعْل! لِم يُوجع رأسه هذا الفارغ باصطحاب الطفل وتشتيت بال المصلين؟!!
وعند الباب؛ شاهد ابنه يرفع رأسه الى حيث خاله في حب ويُقبّل يده، ورأى الخال الذي انحنى بجذعه الطويل طابعاً قبلة حانية على رأس الصغير.. بعد ذلك شاهد الخال وهو يخلع حذاء الطفل ذي الأربطة ويضعه بجانب باب المسجد، بجانب حذائه الكبير.
لحظتها تحركت أحاسيس من الغيْرة في صدره، وشيء من الكُره تجاه الخال، وأعادت ذاكرته أكثر من مرة منظر طفله وهو يُقبل يد خاله، وابتسامته الحُلوة المُتجهة له وحده.. كان حُبّاً ممتزجاً بفخر.. هنا رأى السنّ المكسور.. نعم في هذا الموقف لمحه بوضوح، أعطى وجه ابنه براءة طفولية مُحبّبة.. ثم قبلة الخال على رأسه، ومعاونته في خلع الحذاء..
نظر إلى ساعته نافخاً هواء من فمه.
ما بال العقرب لا يدور؟ والوقت لا يجري؟ ولا أحد من الموظفين حضر باكـرا؟!!!
قرّر حين عودته اليوم في الظهيرة أن يرى ابنه.. يجالسه.. يتحدث معه، يذاكر له ما استعصى من درسه.. يأكل معه.. لماذا لا يأكل معه؟
وعند النوم سيحمله الى حجرته.. يجلس على حافة سريره.. قبلة عـلى جبينه، وجملة "تصبح على خير" لا بد أن يقولها له..
ارتاحت نفسه لهذه القرارات، فأحس بشوق لرؤيته، وبتسامح كبير تجاه الخال..
بانتهاء الدوام، وربكة العمل التي لا تنتهي، وسخافات المدير وغطرسته، وزحام المرور بجانب المدرسة الابتدائية، وحرارة الظهيرة... كانت أغلب القرارات قد انمحت من ذهنه المكدود بتصميم..
( فقط يتغدّى معنا، وعند النوم سأقول له بحب: تصبح على خير ).
ارتاح لقراره الأخير.. ( لن أكون أميناً مع نفسي إن فعلت كل تلك الأشياء، باختصار؛ لن أكون: أنا )..
أول ما أدار مقبض الباب الداخلي لبيته؛ طالعته ضجّة القطار الكهربائي في الصالة، وصوت التلفاز العالي، أشار بإصبعه إشارة آمرة حيث حجرة النوم، فانسحب الصغير مطيعاً للأمر، تاركاً للخادمة إغلاق التلفاز وإحضار ألعابه..
عند النوم، تذكر أنه لم يُقبّل طفله كما قرّر لنفسه، ولم يتمنّ له ليلة طيّبة..
( ربما غداً .. مؤكد غداً ).
حاول أن ينام، لكن وجه الطفل الذي رآه اليوم بسِنّته المنحرفة للأعلى ألح في الحضور أمامه..
حاول أن يستحضر وجه طفله بدلاً عنه، لكنه لم يفلح .. كل الذي رآه منه اليوم حين أمره بالذهاب الى حجرته، قفاه، وقميصاً قطنيّاً طبع عليه في الظهر رسم كبير لطبق طائر وسماء في لون البحر..
( غداً إنشاء الله ).
مرّ أسبوع كامل على ذلك الغد، وكل تلك القرارات التي لم يُنفذها بشأن ابنه، واقتربت عطلة الرجل.. سـيأخذها من اليوم.. في هذه المرة وبعدها وإلى آخر العمر... سيكون ابنه معه، أينما ذهب سيكون معه، من اليوم سيكون معه..
( من حق الطفل أن يكون معي )!
فكر أن يزفّ البشرى الى زوجته التي طالما تمنّتها، لكم أحرقت ليالي سعادتهما في السفر بهذا الأمر، ابني وابني.. لكن دخول أحد الموظفين أنساه الاتصال..
طوال دوامه وهو في ابتسام وتفكير وتخطيط.. أنعشته الفكرة الجديدة التي ستقلب ساعته الداخلية الرتيبة.
لا بأس،
قالها لنفسه بتسامح شديد، وأمامه وجهان شعر أنهما تعذبا كثيرا..
بعد انصرافه استغرب صمت المدرسة المقابلة لعمله، وقلة الزحام المعتاد..
عَرج على محل ألعاب في طريقه، لو لم يكن في طريقه لما عرف من أين يأتي بها.. ابتاع دراجة هوائية لابنه.. أجاب على سؤال البائع بثقة من يعرف الجواب: عمره ثمانية سنوات..
أنام الدراجة برفق وأناقة مع البائع في حقيبة السيارة الخلفية..
بقيت الملابس .. سنبتاعها في المساء أنا، وهو، وأمه..
أحتار.. ( أين سأذهب بهم؟ ما المكان المناسب؟ )
كل الملابس تبتاعها زوجته دائما مع أهلها وسائق أهلها، حتى ملابسه هو.. مناماته، قمصانه الداخلية، أحذيته، فقط الثياب الخارجية تتركها له حسب رغبته.
أخيراً أطلت أريحيته وديمقراطيته لتطفي تلك الحيرة:
( سأترك لزوجتي القرار، ثم نتجه الى هناك.. إن قالت البلد ذهبنا، وإن قالت التحلية فعلنا، وإن قالت حِرَاءْ أو الحمراء أو المساعدية وافقنا )..
ارتاح لتسامحه الذي أطل كثيرا هذا اليوم..
وحالما وصل؛ أخرج الدراجة من حقيبة السيارة، أوقفها بشموخ في الحديقة بجانب كرة طفله الصغيرة،
لا، هنا أفضل .. أوقفها بجانب سيارته هو،
ثم تسللت نظراته الى الباب الداخلي للبيت.. بل هنا أفضل..
أوقفها أخيراً أمام الباب الداخلي للبيت..
( حالما يخرج لـ لهوه المعتاد سيُصادفها أمامها.. ليت هنا كاميرا تصور المشهد ).
فتح الباب الداخلي بالمفتاح.. فاجأه الخَوَاءْ، وصوت خفيض لجهاز التلفاز..
ابتسم لما رأى زوجته مكوّرة في ركن أحد المقاعد يتمايل رأسها من النعاس..
- أين الطفل؟
هزّت رأسها بخمول:
- أجهز الغداء.
أكل في صمت، وفكرة سفر ابنهما معهما لأول مرة، والدراجة المُنتظرة عند الباب تحفزانه على الكلام:
- بدأت إجازتي من اليوم.
ابتسمت بفتور:
- متى أجهز الحقائب؟
- سنسافر بعد غد.
كلّلت سحابة حزن وجهها
- لَمْ تفرحي!
شخصتْ ببصرها الى الأرض دون كلام.
- لن تكون تذكرتان فقط.
سألتْ دون أن تسمع :
- بعد غد صباحا أو مساء؟
أزاح طبقه الذي قضى على نصفه من أمامه بانفعال:
- أما سمعتني. لن تكون تذكرتان فقط.
انتظر أي تعبير على وجهها !
أكمل:
- ستكون ثلاثة.
قام الى حجرة الصغير:
- أين الولد؟
طالعته عيناها في اندهاش:
- لِم تسأل؟
- عجيب أمرك! ولدي لِم لا أسأل عنه!! أين الولد؟
تبلدت الملامح المندهشة:
- أول مرة تسأل عنه.
ابتسم بخجل، لم يجب! أجابت هي:
- سافر مع أهلي منذ يومين.
عاد الى مكانه بقهر:
- سـَافرْ!
- كالعادة. وإن أردت الحق, هو الذي طلبها قبل أن تطرده.
- أطرده!
- سفرنا أنت وأنا بدونه كل صيف؛ أليست طرداً له؟!
ابتلع ريقه، لم يحرّ جواب:
- لِمَ لَمْ تخبريني بسفره؟
قطّبت حاجبيها في حيرة:
- سألتك بالله، منذ متى تهتم؟
حضر الوجه الباكي بقوة بينه وبين زوجته، بالسِنّة المنحرفة للأعلى.
تذكر في دهشة أن ملامح الطفل التي رآها ذلك الصباح هي نفسها ملامح ابنه .. الوجه الدقيق الناعم، الشعر المُنسق في فرقة جانبية، والسِنّة المُنحرفة للأعلى.
- لَمْ يودعني.
انسابت على وجنتيها دموع صامتة:
- هل تعلم أنه قبل أربعة أشهر أجريت له جراحة الزائدة؟
اعتصر بحرج ذاكرته الملأى بالحسابات الدقيقة بالعمل، والفارغة نهائياً من طفله:
- نعم, نعم.
وانسابت الدموع أكثر:
- كـان خاله ينام معه هناك أحيانا, وأحيانا أمي تفعل، ومرة شقيقتي .. وأنا هنا.
لأنني يجب أن أكون هنا.
أرعى مواعيد أكلك، وراحتك، وتلفونات عملك...
ولمّا خرج من المشفى، كانت نقاهته في بيت أهلي حتى لا يزعجك بصوته وطلباته ومناداته علي..
لِم كنت تبعده عن البيت؟
لِم كنت ترفضه؟
أحس بمرارتها منه..
لم يجب.
- أجِبْ؟
ذاق احتقارها له، وفجيعتها فيه..
بعد صمت باهت قال:
- يبدو جميلا بتلك السِنّة المُنحرفة للأعلى.
حدجته بهلع.. التقطت عيناه تلك النظرة التي لم يفهمها..
تحدثت بعد أن تماسكت دموعها:
- كان في الخامسة من عمره عندما سقط على وجهه وانكسرت سِنّته، بعدها بأسبوع سقطت تلك السِنّة، وحلّ محلها سِنّ جديد..
هل تعرف كم عمر ابنك الآن؟
لم يجب..
- ثمان سنوات.
ثمان سنوات وهو محروم منّا لأجلك.
محروم من حقه الطبيعي في بيته بحجة عدم الإزعاج.
محروم من…
قاطع لوعتها بهدوء كاظماً ترتيبات أساسية تخبّطت فجأة داخله:
- هل له صورة حديثة عندنا؟
رفعت رأسها إليه في حيرة..
- لا تنظرين إليّ هكذا، هل تحتفظين بصورة له هنا.. صورة حديثة؟
انقطعت أمام بصرهِ صفحة وجهها المقروءة.. لم يعد يُميّز.. أهي الحيرة ما يرى, أم التفكير، أم هي بداية غضب!
- أريد صورة له .. أريد أن أراه .. ألم يتصل بنا؟
بعد صمت تحدثت بعد أن ابتلعت من الهواء ما يُعينها على الكلام:
- في غرفة مكتبك، بجانب جهاز الحاسوب الذي تعمل عليه كل مساء توجد صورة كبيرة له، التقطها له خاله قبل شهر واحد في حفل المدرسة الذي حضره بدلا عنك، وابنك هو الذي وضعها هناك..
كان يريد أن تراه حتى ولو في صورة، لكنك لا ترى.
◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙◙