المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حنا مينة،كنورس بين السحاب يراقب أخبار البحر المتألق



عاطف محمد
15/08/2008, 12:38 AM
حـنــا مينــــة
كنورس بين السحاب يراقب أخبار البحر المـتألق .

بقلم / محمد عاطف .ب.

" لقد حاولت ،بصرف النظر عن مدى التوفيق ،ان انحت للإنسان تمثالا،وقد وكانت واقعيتي و رومانتيكيتي ،وكلماتي كلها،مكرسة على اسم هذا الماجد الذي يمشي على الليل ،ويغزل الضوء ويجعل من السماء مظلة كبيرة ،ويموت ليحيا ليعود في الصيرورة المستمرة التي بها تدوم مسيرة الإنسان" حــنـا.

لايزال الروائي السوري حنا مينة بيننا يشغل الزمان والمكان معا ، من لاشيء يخلق عوالمه اللذيذة أقصد رواياته و طبعا لاشيء يخرج من لاشيء كما تقول الحكمة اليونانية القديمة ويرددها حنا مينة كذلك في جل رواياته.

يظهر حنا مينة ، كبحر بأمواجه التي تضرب صفحة الشطآن، مفتوح على عينيه في بساطته ووضوحه وعمقه وحتى في هياج زبده الفائر.

لا يمكنني ان اكتب على حنا دون ان الج الى طفولته ، ذلك الأثر البائن في معظم رواياته ، الغائر في تفاصيل حكيه ولهذا نجد ان الكاتب كان دوّن كثيرا من وقائع حياته الأولى في روايتاه " بقايا صور" و " المستنقع" وترك بصمات طفولته فيهما ... فهو لم يحفّظه ابوه قصائد ييتس وشللر او حكى له مرويات : آخيل والسلحفاة" و" السهم الذي لايطير" وغيرهامن القصص المثيرة التي يحب الأطفال ان يسمعونها وهم في فراش النوم الدافئة أو عندما يفاجئم النعاس فيغلق الوالد او الوالدة كتاب الحكاية ويطبع قبلة أخيرة على خد الصبي مثلما كان يفعل السيد بورخيس مع ابنه الصبي خورخي لويس في طفولته.

ففي عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي لم يكن أحد يقرأ او يكتب في القرى و الأحياء الفقيرة في سوريا .و يتكلم حنا عن هذا الوضع مصرحا :" كان لي أعمام في اللاذقية وكنا نمرح في السويداء ثم ريف ارسوز وبعد ذلك في اسكندرونة و مضت احدى عشر عاما ووالدي لا يجد من يكتب له رسالة لأخويه ، وذات يوم وقع على "كاتب" فجاء به الى البيت وأولم له وليمة و طلب مني ذلك "الكاتب" ورقة وقلما ، وزعم انه يكتب ديباجة الرسالة، وبعد المائدة وعد بأن يعود لتبييض رسالته ولكنه ذهب و لم يعد ،و يقيت تلك الرسالة لغزا برموز غير مفهومة لم يقدر احدا ان يجد مفتاحا لحلها "

[color=red]شــيــطــان اســـمــه الــكتــــابــــــة .
لم يكن حنا كما يصرح شخصيا يكتب بتجربته بل كان يكتب بحظه لأنه كما يقول لم يقرر في بداية حياته ولا بأية صورة اوداعي ان يكون أديبا او روائيا ، لم يكن الرجل مقتنعا بنفسه على ما يبدو وكثيرا ما يقول " إنني من الهواة أكثر من كوني من المحترفين" . أعدتّه أمه لأن يكون كاهنا ، فأصبح أديبا . ذات يوم جاءهم رجل يدعىالكوزي ،وكان مصابا بالوسواس القهري و قد كتب قاصدا حنا على قفا باكيتة سيجارات عبارة من كتاب "المدارج" ، فلما قرأها حنا صرخ الكوزي ملوحا بيديه الىالسماء بوجه والد حنا قائلا :"يلعن ابوك يامينة ،ابنك كلّم الورقة" ،ومنذ ذلك المساء الذي بكت فيه أمي من الفرح – يقول الكاتب – صرت اكلّم الورقة وما زلت اقترف هذه الخطيئة الى يومنا هذا .
كانت هذه فصوص من طفولة الروائي المفعمة بالتجارب المفرحة احيانا والمؤلمة احيانا أخرى ومهما كانت وقائع طفولته يظل حنا يحترمها بل يقدسها لأنه ببساطة عاشها بكل تفاصيلها المثيرة .وفي رأيه ان اول ما يكتبه المرء او ما يجب ان يعتني به ابتداءا في كتاباته هو تجاربه الخاصة اوكما عبر عنها بمقولة " التجربة والجذور" ،و لا غرو ان يخلق حنا من نفسه بطلا في أولى أقاصيصه والعجيب ان هذا البطل الفقير والنحيل كغصن زيزفون كان عنجهيا في القصص،يريد ان يناطح كالبعبع في أول مواجهة ،يصارع و يتحدى الغير ... يريد ان يغييّر الدنيا بغير ما سبب.

رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة فاشلة .

كان حنا دائما يكتب لنفسه ولكن لفترة فقط ومرة كتب مسرحية من ثلاثة فصول و أول قصة نشرت للكاتب عنوانها "طفلة للبيع " وبعد انتقاله الى بيروت احتك بالمرحوم "وصفي البني" وعرض عليه مسودة اول رواية يكتبها حنا وكان شديد العناية بها وكانت الرواية تدور وقائع احداثها في حي تربى فيه الروائي يقع باللاذقية كانت فرصة احتكاكه بوصفي البني مواتية لشحذ ملاكاته الروائية لكن فرحة حنا تراجعت مباشرة بعد سماعه رأي الأستاذ البني في مخطوط روايته بعدما أطربه مديحه ثم ما فتئ ان انهى كلامه بالعبارة التالية:" جيد يا حنا قصة جيدة بلا فلسفة.." وبقيت ملاحظة الأستاذ عالقة ترن بأذن حنا فأدرك ان روايته فاشلة لأنها بلا طعم .

لكن مافتئ فجر حنا ينبلج ساطعا عندما أنار "المصابيح الزرق" التي أعتبرها النقاد عهدا جديد ومدخلا للواقعية الرومانتيكية .
أحب حنا روايات نجيب محفوظ و الحكيم و ديكنز وبلزاك وتأثر أيما تأثر بمكسيم غوركي وهيمنغواي .. ولكن لم يقلدهما ،مع انه تأثر بهما، شأنه شأن كل مبدع ، فلا شيء يخرج من العدم .
الا ان ما يميز روايات حنا هو لغته الروائية " اللذيذة" ، حتى ان البعض راح يسأله عن مصدرها ومن أي الكتب أخذها وعن اي استاذ فيجيب حنا جادا :" لا أدري ،أنا لم ابذل جهدا ، لم أتعب، لم أتلق دروسا عند استاذ، .. لغتي مثل حظي،مكافأة من السماء."



الروائــــــي أكــبــر من الفــيـلــســوف و القــديـــس . لأنه خالق حياة،ولأن مادة روايته هي الحياة.، فعالم حنا يبدأ بالخلق و ينتهي به ،والخلق الذي يمارسه الروائي ليس في استحضار الشخصيات فحسب بل في نسج وتتبع مصائرهم من خلال ما يخالجهم من هموم وما يعانونه في حياتهم ، فرحهم ،حزنهم وتفاعلهم فيما بينهم بالإيجاب او بالسلب ، كيف يتحابون وكيف يحييون و يكافحون.
لغة حنا تتحرر من الإنشائية بعد اصداره روايته الألذ " الشراع و العاصفة" ثم تكرس هذا الخط في روايته الأشهى " حكاية بحار " الملحمة البحرية و تتحقق لغته المثالية بتحقق الفعل و الممارسة ، و مع تراجع انشائيته بقيت نفحات عارمة وشفافة كحلم تسرى في حكاياته و يمكن الإحساس بها في روايته المعشوقة " المرفأ البعيد" عندما وضّف لغة مجنونة ،بسيطة وعميقة في نفس الوقت في تحريك شخصياته والمضي بها الى قدرها المحتوم فعرف كيف يجذب القراء اليه من دون ان يتنازل عن لغته ، صوره واحيانا تجريده ،كساحر هو حنا ويظل الى ان يرث الله الأرض وما فيها .

بقلم / محمد عاطف

عاطف محمد
15/08/2008, 12:40 AM
و هكذا تعمل الأبدية أخيرا على تغيير ذاته
و يرفع الشاعر خنجرا مجردا
في هذا العصر المفوع الذي لم يعرف
ان الموت منتصر في هذا الصوت الغريب – مالارميه-

في أفق قصائده المجنونة كان فردوس الشاعر يكبر في لدن معاناته محاطا بهالة من القدسية يصنعها صراع عظيم يتولد عن الذات .هذه الأنا المشوشة بأحلام الطفولة تقوده بلا شعور الى تحقيق احد الأمرين الحب او الموت .و على هذا النسق المحمول فوق عوالم مجهولة تلد قصائده كبريق متفان يسقط فوق بركة غير مسماة . تلك التي تعكس صفحتها ظلالا بهية لفردوسه الذي دعاه «شبيبة"، تنحدر من ذاته لكي تصير عالمية التجلي.

فلا غرو ان تتجدد الأسماء النوبلية في بلد كإسبانيا بحصول الشاعر بيثنتي الكسندري على الجائزة العالمية و كانت نوبل للآداب لسنة 1977 جائزة أندلسية بامتياز و كان قبله الشاعر" خوان رامون خيمينيث" حصل عليها سنة 1956 و امام هذين العملاقين لا تقل شهرة شاعر مثل فديريكو غارسيا لوركا و لا مانويل دي فايا الرسام و لا حتى رافائيل البيرتي ... و كورس آخر أسس ذات يوم لجيل أدبي أرخت له الآداب الإسبانية خاصة و الآداب العالمية عامة و حفظت له امتنانا و تقديرا عظيمين .

كان بيثينتي الكسندري واحد من جيل 1927 و ظل منفردا بطريقته الشعرية ، فإذا كان لوركا يقول عن نفسه" إنني الظل المديد لدموعي" فألكسندري يقول هو الأخر عن نفسه " انني بريق لا يعرف التفاني ، كالغبار على الشفاه".

اسمه الكامل فاينست بيثنتي الكسندري – بنطق مخارج اللغة الإسبانية – واحد من أعظم شعراء اسبانيا بعد فديريكو غارسيا لوركا ولد سنة 1900 بمدينة اشبيليا و يقودنا المقال الى البحث عن طفولة الشاعر المثخنة بالطبيعة و تباريحها هنالك في اشبيليا حيث سهولها الفاتنة تعانق صخب البحر المزبد ، الأمواج تتلاطم في عالم الشاعر الداخلي الذي أخذ يتكون شيئا فشيئا في زخم هذه الإرتطامات التي تمخضت عنها رومانسية هادئة في شكلها و حادة في عطاءها ستتحول مع مرور الزمن الى رموز سريالية بعيدة الغور في الروح و الذاكرة ، هناك حيث الظلال ، كان الشاعر مستلقيا ، يحلم بنهر جار و بأسل خضراء الدماء تولد في اللحظة ، و بحلم متكئ على قلبه و حياته ، كان هذا حلم الطفولة ذاك الذي اقترن بمدرسة الراهبات – بمالقة- التي دخلها في طفولته حيث تلقى فيها قواعد الإنسان الملتزم ... و خرج منها بعد مدة شابا يافعا يلفه هدوء الراهبات فانطبع بطبعهن و شب رزينا رزانة مصبوغة بوقار و قد أثرت كل هذه الصفات على شخصيته فانطلق الرجل في رحلة الشبيبة منغلقا على نفسه ، فكان قلما يبوح بأشيائه الخاصة للآخرين فتراكم صمته و ما انفك ينبئ بعظمة فذة ، لكن لا يلبث و ان تتدهور صحته في أوائل سنوات مراهقته فقصد مصحة – ميرافلورنس- للاستشفاء أين وجد هناك الجبال عاليات مكسوة بثلوج بيضاء ناصعة .

جــيــــل 1927 من الرومانسية السوداء الى ميلاد السريالـــيــــة المجنونــــــة:

كان جيل 1927 انقلابا حقيقيا على الملل الذي أصاب الحياة الأدبية في اسبانيا حيث رافق هذه الثورة أحداث تغيير واضح لضرورة اعادة النظر في لغة الشعر المألوفة آنذاك الملفوفة في رومانسية – بيكّـــر- الغارقة في حنينيات ذائبة ، وكان لا بد من مراجعة المفهوم العملي المتعارف عليه للمذاهب الأدبية السائدة في تلك الفترة فبعيد الأثر الذي تركه المذهب الرومانسي و الكلاسيكي و قفت النخبة الأدبية في اسبانيا على اكتشاف لا تحده حدود نحّى عن كواهلهم معاناة سنوات من الركود لا سيما بعد خفوت الصوت المنقطع النظير لجيل 1898 بقيادة الأديب الفيلسوف – ميغال دي اونامونو – و السائر الشهير – آثوريـــــن-و أنطونيو ماتشادو- صاحب ديوان " أغاني قشتالـــة" ... و غيرهم .حيث حضر الشاعر الفرنسي الكبير "لويس آراغون" الى جامعة اسبانيا و في حقيبته أوراق محاضرة عن السريالية ، القاءها يوم 18 أفريل1925 على مسامع طلاب جامعة الأدب و الفلسفة بمدريد و كان فيهم الشاعر الكسندري رفقة طلاب أخرون أمثال : لوركا ’ و دالي، و دامسو النسو و لويس ثرنودا... حيث كانت المرة الأولى التي يستمعون فيها الى بحث ثري و منظم عن السريالية كمذهب أدبي متميز و نابض بأشياء خارقة رمت الدهشة في نفوسهم و كانت المحاضرة مناسبة مواتية أصبح يؤرخ بها الى دخول المذهب السريالي الى اسبانيا و قد ترك هذا الإكتشاف انطباعا خاصا لدى جموع الأدباء الإسبان ، ففي سنة 1931 كتب لوركا ديوانه المشهور " شاعر في نيويورك" المفعم بالسريالية و في السنة التالية 1932 كتب الكسندري ديوانه الموسوم " ســيــوف كشــفــاه" أما دالـــــــي فاتجهت موهبته الى الرسم مع انفتاق شبيبته المبكرة و ادى احتكاكه بالسريالية الى نيل لقب رائد السريالية بامتياز اذ اعتبرها فضاء مفتوح للتعبير عن مخزون اللاشعور في الذات .

مــعـــادلـــــة " الحــــب أو التحطيــــــم في شعر بيثنتي الكسندري :

في هذا الخضم المتألق انفرد بثينتي الكسندري بنمطية تبني السريالية كمذهب على نحو يفك به الغازه الدفينة ، النابعة من تجربته المضنية مع الحب و الموت و هو بتالي يصور معاناته الشخصية المرصعة بآلالام غامضة " لا مفهومة أحيانا" ليس لها من تفسير سوى احتراق الإنسان في داخله المجهول ، لكنه على الأقل استجاب لداع الحب الذي أدى به الى اعلان مسيرته لتكسير لغزه المحيّير الساكن في ثنايا الروح و في أقصى نقطة منها ، لكنه في كل مرة كان يعود كسيرا مهزوما لأنه اكتشف ان الطريق مسدود ... مسدود .
أحس انني يدا من فولاذ تمسح على السندس
أني ، قلب خفّاق ، أني لعبة منسية
أحس أني خفقات ، مبرد ، قبلة او زجاج
او زهرة من معدن عديمة الإحساس
تمتص من الأرض السكون و الذاكرة .
كان الكاتب الفرنسي " اندري جيد" يردد مقولته المعروفة في كل مرة يبقى محتارا بين نفسه القائلة : " اني لا احب الإنسان بل احب ما ينهشه من الداخل " و في سياق البحث عن المجهول في انساب الروح التوّاقة ابدا للحظات الحب بتلقائية مجنونة أحيانا و غامضة أحيانا أخرى ، كان الكسندري دائم الترحال يبحث عن ذلك الشيء الذي أضاعه في يوم من أيام حياته الهادئة و هاهو يعود اليوم لينغّص عليه وجوده ... كان حبا كبيرا لم يعرفه انسان قط :
لقد كان زمن الزفرات الطوال
الذي لم تعرف فيه الأطيار فقد أرياشها
عهد النعومة و الأزلية
عهد لم يعرف الصدر فيه غيظ

تتكون الرؤى في مخييلة الشاعر و تتمايل الذكريات مخلفّة ظلالا بهية و يؤول الحلم القديم الى ألم يتسرب في الذات المعيشة و بشيء من التيهان ، يفقد البحث نكهته و يذوب المطلوب ، يتلاشى مع اول خيط أسود يغزو روح الشاعر المرهفة التوّاقة دوما الى حياة هادئة ثم لا يلبث ان يأخذ الصوت ذاته في التلاشي الى حد الموت .

ان المرض الذي باغت جسد الشاعر في بداية شبيبته حطم كل آماله و من صدره الندي طارت فراشات السعادة ، سوداء . طارت الى مكامن دفينة في اللاشعور ... رحلت " هناك حيث لا يعرف البحر لغة التهديد ، هناك ... بعيدا غودر ذاك السكون ، كغمغمات غرقت في صفعة" ديون "سيوف كشفاه"
و يظل الحلم يغرق و طير البراري ينزف ألما برحابة صدر، و هو يغمغم سعيدا ، كان يريد لشيء ما بداخله ان ينتصر ، ان يرفرف محلقا نحو سماء ، الحب او الموت !

لكن أي نوع من الحب ذاك الذي يصارع لأجله شاعرنا ، أي حب هذا الذي يسيح في عوالم لا تعرف الراحة برغم الغمة و المرض ، حب يختلط فيه الأمل بالإحباط ، الحياة بالموت . لكن الجواب عند الشاعر نفسه لما نسمعه يقول " حــب الكسندري ، هو ذاك القيثارالغجري الذي طالما تشوق للتعبير عن زفراته ، انه حب كلما غامرت فيه بالكلمات الا و تعطلت المساحات عن قبض روحه"

... الا ايها الحب ، الا أيها الحب ان كآبتك العمياء و رفعة مجدك ، يحطماني .
الا ايها البريق المتوحد ، أيها الجسد المسجى في الأعالي .و في غمرة الإعتراف المنفتح على تداعيات أصيلة ، يتحول الحب عند الكسندري الى حالة إغماء :
خبرني ، خبرني من أنت ؟
من يناديني ؟
من يحدثني ؟ من الصارخ ؟
خبرني من هذا المبعوث البعيد الذي يستغيث ،
أي نحيب اسمعه أحيانا لما نصير دمعة ؟الى هنا يطرح الشاعر كل التساؤلات ليصنع احتمالاته اللانهائية في غمرة بحثه المضني :
هل يمكن ان نقول ان الحب تحوّل عنده الى مشكلة ميتافيزيقية؟ كيق و قد عرفت قصائده في هذا اللهب الذي دعاه " الحـــب" و احترق في ناره بل تجاوزه الى طريق غامض تمثل في " المــــوت" او كما عبر عنه الكسندري في أشعاره بعبارة " التحطيــــــم" و اراد ان يجعل من قفزاته الغرائبية تمائم يعلقها على أياويم الزمن المر ،و كما هو معروف نجد في أغلب الشعر عنصر " التميمة" و في الشعر الرومانسي قدر كبير منه لكن الكسندري مثله مثل " ادغار الان بو" يستخدم هذا العنصر بطريقة خاصة و يشتركان في خصوصية التداعي و الإثارة ، فالكلمات لها من الأهمية أكثر مما تحمله من معاني فإدغار الان بو عرف هو الآخر " الحب" و حاول ان يكشف سره و لكي يصل الى مراده .. يبدأ في التحدث عن معنى الراحة المطلقة الكاملة و الخلاص من متاعب الحياة ، لقد كان يتمنى الموت من أعماقه :
شكرا لله ان انتهت الأزمة
ان انتهى الخطر
و ان انتهى المرض
المزمن أخيرا
و ان هزمت أخيرا
الحمى التي كانت تدعى بـ "الحياة" قصيدة الى آنــي لإدغارالان بو.
لقد وجدت الروح سكينتها و " بـــو" يصور ما يعنيه تماما ، فمثله الأعلى في الحب لا يتحقق الا بعد الموت ، لكن لماذا الهروب من الحياة بهذه الحماسة و الإندفاع؟

ان أغلب الشعراء الرومانسيين تناولوا فكرة الموت باعتباره تجسيدا لحياة جديدة ، الموت بالنسبة لهم ليس نهاية بل بداية و لطالما بلغت زفرات " ييتس" على " الموت المـــريح" او رغبة "شيــــلي" في ان يتسرب الموت اليه كالنوم ... لقد اراد الكسندري ان يتجاوز الحياة الى حياة أخرى تجعله يتطلع الى الحب بأتم معانيه ، حب يجعله يشك :
...لما تكون الشفتان على الشفتين أشك و لا أفرق
هل الحياة نسيم ام دماء ، شفتاي على شفتيك
و أنا استنشق لهيبك الذي حطمني ،
شفتيّ على شفتيك تجعلني ضياء يتلاشى
او شعلة تتقد في الضياء.

ان المثل الأعلى الذي يكسب الواقع التافه المؤلم معن لم يكن ليوجد في هذه الحياة فكان عليه ان يبحث عنه من وراء القبر :
تعال ، تعال ايها الموت ، تعال ايها الحب تعال
باكرا ... تعال لأحطمك
تعال انني اريد الموت او العشق
أريد الموت كي أمنحك كل شيء
و من بعيد سنسمع أجراس الشاعر ترن شجية ، ثم تأخذ في التضاؤل مع حلول العشية الباردة تحاول بلوغ آفاق مسكونة ، لتستنشق الفجر و لو من تحت التراب !