المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثاني من الباب الثالث عشر والأخير من كتاب (تلاش)لممتاز مفتي مع هوامشه



إبراهيم محمد إبراهيم
20/08/2008, 08:29 AM
الجزء الثاني من الباب الثالث عشر والأخير من كتاب(تلاش) لممتاز مفتي
العقدة :
فلمـا رآنا هذا الرجل توقف وأنزل الدلو على الأرض ، بادرنا بالسلام ، ورحب بنا قائلاً : ما أسعدنا أن تكونوا بيننا اليوم . وصافحنا الرجل واحداً واحداً ، وسألنا عن أحوالنا ثم قال : بماذا نستطيع خدمتكم !. وبعدها تقدم إلى دلو اللبن قائلاً : تفضلوا ، اشربوا اللبن . ولما أصرّ على أن نشرب اللبن قال له مرافقونا من العاملين بالمستشفى : سيقوم الضيوف بجولة بسيطة هنا ثم يشربون اللبن ، فانتظرنا حتى نعود . واطمأن الرجل لما سمع ، وواصلنا نحن جولتنا . ولما مرّ آخر فرد من مجموعتنا أمامه قفز الرجل قفزة اختطف فيها قبعة زميلنا وجرى بها بعيداً . أدهشنا ما رأيناه ، فقد كنا نظن أنه من العاملين في المستشفى ، وضحك المشرف على المستشفى قائلاً : إنه مريض . فسألناه : لكن تصرفه …. وقاطعنا المشرف قائلاً : تصرفه طبيعي جداً ، إلا أن لديه عقدة واحدة ، وهي أنه تعتريه حالة من الجنون كلما رأى شخصاً يلبس قبعة ، فيسرع إليه مختطفاً القبعة ويجري .
الإرادة واللا إرادة :
سادتي ، هذا هو حالنا جميعاً ، فنحن نبدو لأول وهلة طبيعيين جداً ، لكن هناك عقدة في ذهن كل واحد منا ، تعتريه حالة من الجنون إذا استثيرت هذه العقدة ، وعندها يرتكب الفرد منا أشياء دون إرادة منه . هذه العقدة عندما تستثار تطرأ على الفرد حالة من الوحشة ، ويفقد السيطرة على نفسه ، إذ لا سيطرة لنا على نظام التحكم في النفس .
ونحن نرث هذه العقد ، البعض منها من جهة الأم ، والبعض الآخر من جهة الأب ، والبعض من الأجداد . سادتي ، إنني ببساطة أعتقد أن الأمور التي تصدر رغماً عنا لا يمكن أن تقع مسئوليتها على عاتقنا ، ولهذا لا يجب أن نحاسب عليها ، ولا يمكن أن نقيم أسساً محددة للثواب والعقاب ، إذ لا يمكن أن يبنى العدل على أسس محددة ، فهو مسألة فردية ، وسيكون هناك عدل وإنصاف خاص بكل فرد على حدة .
يقول الحكماء إننا مصيّرون في حوالي تسعين بالمائة من أمور حياتنا ، لا يسألنا أحد قبل أن نولد عن البيت الذي نحب أن نولد فيه ؛ بيت من بيوت الأثرياء ، أم الفقراء ، أم الطبقة المتوسطة . في بيت مسلم أم مسيحي أم دهري . ولا نعرف شيئاً عن موتنا ، ولا عن زواجنا ، ولا عن أولادنا .
إننا مصيّرون في أكثر أحداث الحياة ، ولا اختيار لنا إلا في أمور قليلة . حتى هذه الأمور القليلة التي ندعي أنها تقع في دائرة اختيارنا لا نستطيع أن نجزم بأنها كذلك فعلاً !. فمن الممكن أن نكون مصيّرين فيها أيضاً على الرغم من محاولات التأكيد لنا بأنها اختيارية .
إيشور لال :
منذ فترة بعيدة ، حين كنت أدرس بالكلية ، كان لي صديق هندوسي يدعى " إيشور لال " . كان والد " إيشور لال " هذا بقالاً ، ثرياً ، لكنه لم يكن يرسل إلى ابنـه بما يكفيه من مال ، ولهذا كان " إيشور لال " يعاني دائماً من مشاكل ماليـة . وذات يوم سألت " إيشور لال " قائلاً : ألا يستطيع والدك تحمّل مصاريف تعليمـك ، ولهذا لا يرسـل إليك المصاريف كاملة ؟!.
ضحك " إيشور لال " . ضحك إلى درجة القهقهة وقال : إن أبي مليونير ، وهو أغنى من في المنطقة كلها . قلت : فلماذا لا يرسل إليك بمصروفاتك كلها دفعة واحدة إذن !. قال : نفسه لا تطاوعه أن يرسل إليّ المصاريف كاملة دفعة واحدة ، ولهذا يرسلها على ثلاث دفعات . قلت : إنك تقول إنه مليونير!. قال : نعم ، ولهذا لا تطاوعه نفسه . قلت : لا بد أنك تتألم لذلك كثيراً . قال : جداً . قلت : ولا بد أنك غاضب منه . قال : كنت كذلك في البداية ، لكن ليس الآن !. قلت : كيف !. ضحك " إيشور لال " قائلاً : في البداية لم أستوعب موقفه ، لكني الآن استوعبه . سألته : كيف تستوعبه الآن ؟. قال : يأتي إلى مبنى المدينة الجامعية الذي أسكن فيه متسولون كثيرون ، عدد منهم ينتمي إلى عائلات كبيرة ، بعضهم محتاج بالفعل ، ما أن تنظر إليه حتى تشفق عليه ، والطلاب في المدينة الجامعية يتصدقون على هؤلاء ، وكثيراً ما يود قلبي لو أتصدق أنا الآخر ، ولديّ بالفعل من المال ما أتصدق به ، ولكن لا أدري لماذا كلما هممت بوضع يدي في جيبي لأخرج الفلوس تسمرت في مكانها ، يتسمر ذراعي كله ، ولا يمتد إلى جيبي ، وعندئذ يصبح من المستحيل أن أتصدق على أحد ، وهذه مشكلة أبي ، وقد فهمتها ، ولهذا لا أعتب عليه الآن .
خذ وهات :
لم أستطع أن أستوعب كلام " إيشور لال " حينذاك بشكل واضح ، فلم أكن أعلم شيئاً عن هذا الاضطرار الذي حكى عنه . ولي صديق آخر يدعى " شيخ محمد علي " ، وهو من قبيلة " شيخ " ، وهؤلاء حديثو إسلام ، ظلوا يعملون بالتجارة لقرون ، ثم أسلموا ، ولا تزال التجارة متأصلة فيهم ، تجري في دمائهم ، وقد أتاح لهم تقسيم البلاد (7) فرصة إشباع شهوتهم التجارية هذه ، ومواهبهم في هذا المجال كثيرة ، ولهذا أصبحوا في سنوات قلائل من أصحاب الملايين .
ويمتلك " شيخ محمد علي " هذا حساً فكاهياً . في مرة من المرات ثار بيننا حديث عن موضوع التجارة هذا فقال : ذات يوم سقط أحد أفراد قبيلة " شيخ " في حفرة . كانت الحفرة عميقة إلى حد كبير ، ولهذا لم يكن في استطاعة الرجل أن يخرج منها دون مساعدة . ورآه أحد المارة فمدّ إليه يده ليخرجه قائـلاً : اعطني يدك . لكن الرجل لم يعطه يده . وجاء ثان وثالث ورابع ، وكل منهم يمدّ يده للرجل ليخرجه قائلاً : اعطني يدك ، ولكنه لم يفعل . وتحير الناس في أمره . فقال الرجل : لا يقل أحدكم اعطني يدك ، ولكن ليقل : خذ يدي !!. وعندئذ مدّ رجل يده وقال : خذ يدي . وعلى الفور أمسك ابن قبيلة " شيخ " بيده ، فأخرجه من الحفرة ، ثم سأله الناس : ما الفرق بالنسبة لك بين " خذ يدي " و " اعطني يدك " !. ما السر في ذلك !. فقال العجوز : ليس في الأمر سر ، فالتاجر يتردد في الإعطاء ، ويوافق فوراً على الأخذ .
الدكتور أمانت مفتي :
الدكتور " أمانت مفتي " ابن خالي ، ومع أنه أصغر مني عمراً إلا أنه صديقي ، ولم يكن هناك قاسم مشترك بيننا ، فهو لا يفعل إلا ما تجيزه الشريعة ، وكنت أنا رجلاً متحرراً قليلاً ، وبالرغم من ذلك فقد كان يعدني صديقاً له . كنت كلما واجهت مشكلة في حياتي لجأت إلى الدكتور " أمانت " . قابلته منذ وقت قريب . قال : أريد أن أسألك شيئاً . قلت : اسأل ، ليس شيئاً واحداً ، بل عشرة . قال : أنت رجل في ميدان الأدب ، كانت كتاباتك كلها في موضوعات أدبية ، فكيف بدأت الكتابة في الدين بعد ذلك!.فأنا أتابع مقالاتك المسلسلة بعنوان " البحث " ، ولا أدري لماذا تكتب عن هذا الموضوع !.
قلت : يا دكتور ، لقد تورطت في هذا الأمر ، تورطت بشدة . قال : انظر ، لا تماطلني في الإجابة ، أخبرني ، ماذا حدث لك . قلت : توهمت بشدة أنني لن أرحل عن هذه الدنيا ما لم أكتب في هذا الموضوع . والآن أريد أن أرحل يا دكتور . ثم تابعت حديثي معه قائلاً : لقد بلغت من العمر تسعين عاماً ، وأصبح جسدي منهكاً ، وكما يقولون : هذا يكفي ، فقد زاد الأمر عن حده ، لقد بدأت أتلاشى من كثرة ما عشت ، وهم صادقون فيما يقولون ، فالحياة بالنسبة لي يا دكتور تسير من صعب إلى أصعب كل يوم .
قال : لم أفهم ماذا تقصد . ما علاقة هذا الذي تقول بالكتابة عن الدين . قلت له : صدقت فيما تقول ، أنا أشرح لك .
الكشف والوهم :
حدث منذ سبع سنوات تقريباً أن مرضت ، ودخلت المستشفى . كنت في تلك الأيام أكتب كتابي " ألكهـ نكرى : دنيا الله " . شعرت عندها أنني لن أستطيع أن أكمله . في تلك الأيام وصلني خطاب من سيدة طيبة تدعى " صغيرة شيرين " من " لاهور " . تحدثت السيدة " صغيرة شيرين " في خطابها عرضاً عن مرشدها الصوفي " السيد شاه " . كتبت تقول إنه صاحب كشف وكرامات .
قلت للسيدة " صغيرة شيرين " في ردي على خطابها إن كان شيخك صاحب كشف وكرامات فعلاً فاسأليه هل سأتمكن من إكمال كتاب " ألكهـ نكرى " قبل أن أموت أم لا ، ثم أخبريني بما يقول . وجاء رد الشيخ عليّ بخط يده يقول : لقد رأينا كتابك " ألكهـ نكري " مكتملاً ، والآن عليك أن تكتب كتاباً عن التصوف .
ثم اكتمل كتاب " ألكهـ نكري " ، وذهبت إلى " لاهور " بعد عام ، وهناك التقيت بالشيخ . قلت له : يا شيخ ، لقد قلت لي إنه لا يزال عليّ أن أكتب كتاباً عن التصوف ، وأنا يا سيدي مجرد مسلم فقط ، ولا أعرف شيئاً عن الإسلام . أنا نصف مثقف دنيوياً ، لكني أميّ فيما يخص الإسلام ، فماذا يمكن أن أكتب عن التصوف ؟!.
وأخذ الشيخ يشرح لي كيف أن الإنسان لا يستطيع أن يجزم بشيء ما ، فالأحوال تتغير ، وكذا الآراء والمفاهيم . وكررت عليه ما قلت سابقاً . ولما ضاقت به الحيلة قال : انظر يا سيدي ، لقد أخبرناك بما رأينا ، والأمر لك الآن ، توافق أو لا توافق ، تكتب أو لا تكتب .
وبعد لقائي بالشيخ أخذت أطمئن نفسي . قلت لنفسي : لا اعتراض على الكشف ، ولكن الأمر في النهاية لله ، وما الكشف إلا لمحة ناقصة عن المستقبل ، ولهذا ليس من المناسب التركيز عليه إلى هذا الحد . على أية حال تخلصت من التفكير في هذا الأمر بصعوبة شديدة ، وأخرجته من ذهني ، وانهمكت في عملي .
المفكر الإسلامي :
ومضت ثلاث سنوات ، وذات يوم زارتني سيدة من معارفنا بإسلام آباد بصحبة السيـد " امتياز بخاري " هي السيدة " سرفراز إقبال " . وما أن دخلت السيدة " سرفراز إقبال " البيت حتى قالت : هيا يا مفتي ، تعال معي . قلت : إلى أين . قالت : تقابل شخصاً ما . قلت : هكذا !. بلا سبب !. أنا لا أقابل أحداً بغير سبب .
والسيدة " سرفراز إقبال " صديقة قديمة ، ومعتادة على إصدار الأوامر لي . قالت : كلا ، يجب أن تقابله . لقد وعدته أن أذهب بك إليه ، وهذا السيد " بخاري " ، وهو مسئول كبير ، وقد جاء بسيارة من " لاهور " ليأخذك إليه . سألتها : من ذلك الذي يجب أن أقابله . قال السيد " بخاري " : إنه رجل كان يعمل مدرساً للأدب الإنجليزي من قبل ، وهو من أصدقائي . وقالت السيدة " سرفراز " : إنه رجل صالح للغاية .
وما أن سمعت كلمة " صالح للغاية " حتى أصابني نوع من الخوف ، وعليه أعددت نفسي للقائه .
لقد كان رجلاً عالماً فعلاً ، يتحدث الأردية والإنجليزية بطلاقة ، يقرأ القرآن كأنه نزل بلغته ، ويشرح معنى الآيات التي يقرأها . كان مفكراً ، وتفكيره مبني على العقل ، وحديثه مؤثر للغاية ، وقد تأثرت كثيراً من حديثه المنطقي وأسلوبه السهل البسيط . وفجأة توقف عن الحديث ، والتفت إليّ قائلاً بصوت خفيض : عليك أن تكتب كتاباً عن الدين !. وما أن سمعت قوله هذا حتى اهتزت الأرض تحت قدميّ .
العقيدة والاعتقاد :
وبعد عدة أيام شرفني بالزيارة رجل صالح ، كان يضع عمامة كبيرة على رأسه ، ويلبس جبة طويلة . طريقته في الحديث هي طريقة الطيبين ، وأسلوبه أسلوب العلماء ، وفي يده كتابان . وبمجرد أن جلس قال : انظر ، لا بد أن تتحدث عني في الكتاب الذي تكتبه . وترك الكتابين اللذان كانا معه ورحل .
أحدثت هذه الواقعة ثورة بداخلي . قلت لنفسي : أيكون هذا الأمر خدعـة من السيد " قدرت الله شهاب " . لقد ظل " شهاب " طيـلة حياته يقول لي إن الاعتقاد ليس أمراً جيداً ، وعليك أن تنمي العقيدة . وكنت أرد عليه قائلاً : يا سيد شهاب ، إن ما لديّ هو الاعتقاد وليس العقيدة ، فكيف أنمي أمراً لا وجود له بداخلي أصلاً .
وهكذا كان يراودني أنه ربما أراد السيد " شهاب " بهذه الطريقة الغامضة استمالتي إلى التعرف على العقيدة .
محمد طفيل :
ثم حدث أمر آخر ، فقد علمت بعد عودتي إلى البيت ذات يوم أن رجلاً ما جاءني بعدة نسخ من القرآن الكريم ، وكانت نسخاً فاخرة ، واحدة منها مطبوعة في أمريكا ، وأخرى في إنجلترا . سألت زوجتي : من جاء بهذه المصاحف !. قالت : لم يذكر اسمه . وبعد شهر تقريباً جاءني مرة أخرى . اسمه " محمد طفيل " ، وهو رجل متعلم ، ويعمل في ميدان الصناعة ، ويعشق القرآن الكريم . يوزع المصاحف والكتب الدينية على الناس ، وأمدّني بمجموعة منها ، فأخذت أطالعها ، ثم قلت لنفسي : لم لا أنشر عدة مقالات في إحدى الصحف أو المجلات . وقد وافقني على ذلك السيد " أنور سديد " (8) مدير مجلة " اردو دايجست " وأيدني في نشر مقالاتي . قلت للدكتور " أمانت علي " : إنني أطالع ما كتب عن الإسلام منذ ثلاث سنوات ، ولاحظت أن الكتّاب يقولون كلاماً أعلى من مستوى الفهم ، يؤكدون بما يكتبون مقدرتهم العلمية ، وتمكنهم الفكري ، يكتبون للعلمـاء وليس للمبتدئين أمثالي ، وليس في مقدوري الكتابة عن الإسلام ، والمطلوب هو أن أكتب كتاباً وفقط ، دون تقيد بكيف يكون هذا الكتاب وما هو موضوعه ، وما إذا كان صحيحاً أم خطأ ، وسطحياً أم متعمقاً .
قتلتني بشد وثاقي :
ما أشبه حالتي يا دكتور بحالة ذلك الحكيم الذي ورد ذكره في كتاب " التذكرة الغوثية " :
" يحكى أنه كان هناك رجلاً فقيراً للغاية ، يظل طيلة النهار يحاول أن يكسب شيئاً ، ولكن بلا جدوى ، وإن كسب شيئاً كان قليلاً جداً بحيث لم يستطع أن ينعم ذات مرة بأن يملأ بطنه طعاماً . وظل على هذا الحال إلى أن يئس من العمل والحياة ، فقال لنفسه : إن الموت أرحم من مثل هذه الحياة .
وذات يوم خرج من بيته إلى الغابة بقصد الانتحار ، ولفّ حبلاً حول رقبته ، ولما همّ بشنق نفسه جاءه " عزرائيل " وقال له : ماذا تفعل يا سيدي . ألا تعلم أن الانتحار حرام . قال الفقير : ماذا أفعل يا سيدي ، إنني لا أجد ما أطعمه ، والانتحار أفضل من الموت جوعاً . قال عزرائيل : وهل تتخلى عن فكرة الانتحار هذه إن وجدت طعاماً . قال الفقير : وهل أنا مجنون حتى أفكر في الانتحار مع وجود الطعام !. فقال عزرائيل : حسناً ، اجعل من نفسك معالجاً ، وسوف آتيك كلما ذهبت لعلاج مريض ، فإذا وجدتني أجلس عند رأسه فاعلم أنه سيشفى ، وعندئذ إعط المريض أية وصفة ، وسوف يسترد صحته . وإذا وجدتني أجلس عند قدميه فاعلم أن عمره قد انتهى .
وبناءاً على نصيحة عزرائيل جعل الرجل من نفسه طبيباً ، ونجح علاجه واشتهر في المدينة كلها . ولما وصل خبره إلى السلطان اختبر مهارته ، ولما ثبت له أنه طبيب ماهر عينه طبيباً للقصر الملكي .
وذات يوم مرض الطبيب هذا . نظر أمامه فإذا بعزرائيل يجلس عند قدميه . خاف الطبيب وارتبـك ، واستدار حتى جعل رأسه مكان قدميه ، ولكن عزرائيل انتقل ليجلس عند قدميه ، فبدل الرجل مكانه مرة أخرى . ولما رأى أهل البيت الطبيب يبدل مكانه مرة بعد مرة أشفقوا عليه ، واستدعوا طبيباً لعلاجه . وما أن رأى الرجل الطبيب حتى أصابته نوبة من الهياج الشديد ، فقاموا بناءاً على نصيحة الطبيب المعالج بشد وثاقه إلى السرير حتى لا يظل يبدل من وضعه عليه بهذه الطريقـة الجنونية . وعندئذ مرّ الرجل بيده على وجهه ثم قال لعزرائيل : يا سيدي ، لم أكن لأمت أبداً ، لكن أهل بيتي قتلوني حين شدوا وثاقي " .
وهكذا أنا أيضاً يا دكتور ، لم أكن لأجرؤ على الكتابة في هذا الموضوع ، لكن مشايخي شدوا به وثاقي فقتلوني .
اتساع لا نهائي :
قال الدكتور " أمانت " عظيم ، أنت تدرس الإسلام منذ ثلاث سنوات ، فهل عرفت شيئاً ؟!. أجبته : لا شيء . فقد كنت أعرف قليلاً حين لم أكن أعرف الإسلام ، والآن تداخلت الأمور تماماً لديّ . سألني : ماذا كنت تعرف من قبل على سبيل المثال !. قلت : مثلاً كان الإسلام في نظري عبارة عن حوض صغير جميل من حجر المرمر ، لكن الآن يبدو وكأنه بحر لا شاطئ له ، اتساع لا نهاية له . يا دكتور ، يبدو لي وكأن الإسلام مثل حدائق " شالامار " (9) ، به عدة استراحات ، في إحداها أشجار جميلة ، وأضواء ومصابيح . وفي الأخرى مقاعد ذات محاريب ، وأحواض ونوافير ، والثالثة تبدو كأنها غابة من كثافة أشجارها . الحقيقة يا دكتور أنني لا أستطيع أن أشرح لك الأمر . المهم أن أمثالي ممن ينطقون الشهادتين مسلمون أيضاً ، والذين يقيمون الصلاة ويصومون رمضان مسلمون أيضاً ، والذين يزهدون في الدنيا وينصرفون إلى العبادات مسلمون أيضاً ، والذين يعيشون حياتهم الدنيوية طبقاً للمبادئ الإسلامية مسلمون أيضاً ، والذين يهيمون في عشق الله مسلمون أيضاً ... مهرجان عجيب يا دكتور .
البشرية والألوهية :
تقول المسيحية : إن لطمك أحد على أحد خديك فأدر له الخد الثاني ، وهذا الأمر يتنافى مع مقتضيات البشرية ، أما الإسلام فلا يتنافى مع هذه المقتضيات . الإسلام يقول : إن اعتدى عليك أحد فخذ بحقك منه بقدر ما اعتدى عليك لا أكثر (10) ، ولكن العفو أفضل (11) . إن أسلوب الإسلام في كل أمر هو أن لك الحق في أن تأخذ بحقك بشرط أن لا تزيد عليه ، لكن العفو أفضل . الإسلام يعترف بمقتضيات البشرية ويسلّم بها ، لكنه مع ذلك يعلمنا أن نسمو فوق هذه البشريـة : عين على البشرية ، وعين على الألوهية . في الإسلام اتساع لا حد له . قل لي يا دكتور ، لقد عشت أنت الإسلام طيلة عمرك ، فهل استطعت أن تعرف ما هو الإسلام ؟!. ابتسم الدكتور " أمانت " وقال : يا مفتي ، إنني لم أعرف سوى شيئاً واحـداً ، وهو أن الإسـلام يعني " محمداً صلى الله عليه وسلم " .


تمت الترجمة الكتاب كاملاً بحمد الله تعالى يوم الاثنين الموافق 11 يوليو 2005م .
هوامش
7 - تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947م إلى دولتين هما الهند وباكستان .
8 - أنور سديد من مؤرخي الأدب الأردي ونقاده المعروفين في القرن العشرين ، ومن أشهر كتبه " اردو أدب كى تحريكين : الحركات الأدبية في الأدب الأردي " .
9 - حدائق شالامار من الحدائق المغولية الشهيرة ، وتوجد بمدينة لاهور بباكستان ، وقد بناها السلطان المغولي شاهجهان في القرن السابع عشر الميلادي ، وتقع على مساحة كبيرة جداً من الأرض ، وهي ذات طرز معماري خاص ، إذ تسير النوافير في وسطها ، وبها عدة استراحات ذات محاريب على الطرز المغولي .
10 - الإشارة إلى الآية القرآنية " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين " – سورة البقرة – آية رقم 194 .
11 - الإشارة إلى الآية القرآنية " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " – البقرة – آية رقم 178 .

د محسن سليمان النادي
23/08/2008, 11:28 PM
د ابراهيم محمد ابراهيم
لقد ابدعت في الترجمه
منذ يومين وانا اتابع فصول هذا الكتاب
فيه الكثير ليقال
اتسعت مداركي معه
وهنالك الكثير ايضا من الاسئله التي اثارها في نفسي
علىّ ان ابحث عن اجاباتها الان
حبذا لو وضعت الكتاب مرتب في سياق واحد
او ان تجعله ملف يمكن تنزيله
وهل لكم نية في طبعه
اخيرا
جهدكم مبارك
ولا اقول الا عيننا تكون على كتابك الثاني اعانك الله عليه
ودمتم سالمين

راسخ كشميري
25/08/2008, 07:19 PM
جهد واضح

بارك الرحمن في مسعاك دكتور

إبراهيم محمد إبراهيم
27/08/2008, 06:19 AM
الأستاذ الدكتور محسن سليمان النادي
أشكركم شكراً جزيلاً على اهتمامكم بقراءة هذا الكتاب ، وأدعو الله لسيادتكم بكل خير ، وأنا مع سيادتكم بأن في الكتاب أشياء كثيرة تستحق التعليق ، وكان السبب الرئيس في اختياري ترجمته هو أني وجدته كتاب يشحذ الذهن لترد على بعض مافيه ، وتعيد النظر في البعض الآخر ، وربما تلقي به بعيداً في نهاية الأمر ، أو يلقي المؤلف من خلال هذا الكتاب بحجر في المياه الراكدة .
أشكركم ثانية ، وأتمنى طبع الكتاب ونشره .

إبراهيم محمد إبراهيم
27/08/2008, 06:20 AM
أخي العزيز راسخ كشميري .
أشكركم على مروركم وعلى تشجيعكم الدائم ، وجهدكم في المنتدى واضح ، ولكم مني كل تحية وتقدير .