المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " الأرز الإيراني " من القصص الأردي



إبراهيم محمد إبراهيم
27/08/2008, 06:13 AM
الأرز الإيراني




كرشن جندر (1)



كانت هذه الليلة لي ، لأنه لم يكن في جيبي أية نقود ، إذ عندما تكون معي بعض النقود أشعـر أن الليل ليس لي ، ويبـدو عندها كأنه ليل السيارات التي تتمايل في شارع " ميرين درايف " ... ليل الشقق الساهرة ، والراقصات في فندق " سفير " ... لكن هذه الليلة لي أنا فقط ، كل النجوم في السماء ملكي أنا ... شوارع " بومباي " كلها ملكي أنا ...
عندما تكون معي بعض النقود أشعر وكأن المدينة كلها مسلطة على رأسي ... كل شيء يحملق فيّ ... ينهرني ، ويجبرني على الجلوس بعيداً عن نفسي ... كل شيء من البنطلون الصوفي إلى برامج الراديو يقول لي : ابتعد عني !!!. لكن عندما لا يكون في جيبي فلس واحد أشعر حينئذ وكأن المدينة كلها بنيت من أجلي أنا ... وكأن كل حجر من أحجارها ، وكل منعطف من منعطفاتها ، وكل عمود من أعمدة النور بها مكتوب عليه : تمّ إنشاؤه من أجل " بشن المؤلف المفلس " . في مثل ذلك اليوم لا يكون لديّ خوف من الحجز في أقسام الشرطة ، ولا خوف من أن تدهسني سيارة ، ولا تفكير في تناول طعام في المطاعم ، وتعتريني حالة من نشوة الإفلاس اللامحدود ، وراحة البال اللانهائية تمتد لأميال عديدة ...
في تلك الليلة لم أمش بنفسي ، وإنما كانت شوارع " بومباي " هي التي تحملني وتسير بي ، ونواصي الشوارع والأسواق والأماكن المظلمـة بين العمارات هي التي تناديني قائلة : تعالى هنا ... أنظر إلينا أيضاً ، والتق بنا ، فأنت صديق لنا ، وتعيش في هذه المدينة منذ ثماني سنوات ... فلماذا تسير هكذا كالغريب ؟!!!. تعالى هنا وصافحنا ...
الليلة ليلتي ... الليلة لا أخشى أحداً ، فإنه لا يخاف إلاّ من ثقل جيبه ، ويجب أن يخاف أصحاب الجيوب الثقيلة في هذا البلد الذي يمتلئ بأصحاب الجيوب الخاوية !!!. أما أنا فما الذي أملكه وأخاف أن يسلبه أحد مني !!!.
سمعت أن الحكومة قد أصدرت قانوناً يمنع بمقتضاه التجول بعد الثانيـة عشـرة ليلاً ، لماذا ؟ ، ما الذي حدث ؟. ما الذي يحدث في " بومباي " بعد الثانية عشرة ليلاً ويريدون إخفاءه عني ؟!. سوف أرى بالتأكيد ، وليحدث ما يحدث ... فأنا الليلة لا أخشى أحداً .. لا أخشى وزيراً ، ولا حجزاً في قسم الشرطة ... ليحدث ما يحدث ... لا بد أن أتجول اليوم وأصافح أصدقائي !!!.
فكرت في ذلك كله ، ثم تسللت إلى ساحة الجامعة ، وكانت نيتي أن أمرّ من الميدان إلى الناجية الأخرى حيث مبنى التلغراف الرئيسي ، ومن هناك إلى ميدان " فلورا فاونتين " ... ولكن بينما كنت أمرّ من الميدان لمحت بعض الأولاد يجلسون في أحد الأركان في شكل دائرة ، يصفقون ويغنون :
· حبينا بعضنا ... بعضنا ... بعضنا ... حبينا بعضنا .
كان بعضهم يصفق ، وشاب من بينهم كان يحاول تقليد صوت الناي بفمه ، وآخر يطبّل على صندوق خشبي ... والجميع يتمايلون في سعادة ، ويغنون بأصوات مرتفعة متباينة . اقتربت منهم وسألتهم :
· هه يا أخي ، من الذي أحببتموه ؟!!.
توقفت المجموعة عن الغناء للحظة ، وأخذوا يحملقون فيّ ... لا أدري كيف أبدو للناس عندما ينظرون إليّ ، لكني أعرف على أية حال أن الناس يألفونني بسرعة كبيرة بعد أن ينظرون إليّ لحظة ، ويأنسون إليّ ، لدرجة أنهم يتحدثون إليّ عن أسرار حياتهم ، وعن صور دنياهم المحدودة ، وآلام قلوبهم وآمالها ، وليس هذا لقـدر من العظمة يبدو على وجهي مثلاً ... فليس فيّ أي أمر غير عادي ... لا هيبة ، ولا وقار ... كما أن ملابسي ليس بها شيء يميزها ، وليس بها ذلك الزهو الذي يكون في الوردة المعلقة على جانب من جاكيت البذلة من نوع " شارك اسكن " ... مجرد شبشب عادي في قدمي ، يعلوه بنطلون بيجامة ، يعلوه قميص يظل في أغلب الأحيان متسخاً من الخلف ، إذ أنني في سكني اعتدت النوم على الأرض ، ومن جانب آخر هناك عادة سيئة اعتدتها ، وهي أنني حيث أجلس أستند بظهري على الجدار ... صحيح أن حياتي تملؤها الجدران المتسخة ، وتقلّ فيها الجدران النظيفة ، وقميصي المنحوس يتهالك سريعاً عند كتفي ، ولذا فإنك ستلمح عدداً من غرز الخياطة والترقيع في هذا المكان ، حيث تتم عدة محاولات لترقيع الملابس القديمة الممزقة ، لأنه ليس بمقدور كل إنسان أن يعلق وردة حمراء في زرار الجاكيت ، ولا أدري لماذا كل هذا الفـرق بين هذه الغرزة وتلك الغرزة !!! . صحيح أنه لا يوجد اثنان متساويان شكلاً أو صورة ، فأنا أرى وجوهاً مختلفة ليل نهار في " بومباي " ، مئات الألوف من الوجوه المختلفة ، لكن لماذا تكون على أكتافهم نفس هذه الغرز ؟!. إن مئات الغرز تحاول بلا جدوى أن تصل شواطئ الحياة الممزقة ببعضها البعض . أحد النقاد قال لي بعد أن قرأ إحدى قصصي أنه لا يبدو له فيها وجه إنسان . ومصيبتي أنني لا أصف وجوه شخصياتي ، وإنما أرى الغرز على أكتافهم ، وهذه الغرز تكشف لي عن الوجه الخفي للإنسان ، وتدلني على صراعه الدائم ، وكفاحه ليل نهار والذي لا تكتمل بدونه أية رواية من روايات الحياة أو قصة من قصص المجتمع ، ولهذا فأنا سعيد أن الذين يرون وجهي يعتبرني بعضهم موظفاً ، والبعض الآخر يظنني " بائع روبابيكيا " ، والبعض الثالث يعتبرني بائع أمشاط ، أو حلاق ، ولم يحدث إلى اليوم أن ظنني أحد وزيراً ، أو لصاً ، وأنا سعيد لأنني واحد من مئات الألوف من صغار البشـر الذين يألف بعضهم بعضاً بسرعة وبغير أدنى تكلف .
وهنا أيضاً ، وبعد لحظة من التردد الذي لا يكون إلاّ في الامتحانات ، نظر إليّ هؤلاء الشباب مبتسمين . قال أحدهم :
· تعال يا أخي ، اجلس هنا ، وإن كنت تريد الغناء فغني .
وبعد أن قال هذا الشاب النحيف قوله هذا دفع بشعر رأسه إلى الخلف بهزة من رأسه ، ثم أخذ يطبّل على صندوقه الخشبي ، وأخذنا نغني سوياً :
· بيني وبينك ... بيني وبينك ... بدأ الحب
وفجأة أوقف هذا الشاب النحيف طبلته ، والتفت إلى أحد أصدقائه الذي كان يجلس القرفصاء واضعاً رأسه بين ساقيه ، ونهره قائلاً :
· لماذا لا تشاركنا الغناء يا " مدهو بالا " .
ورفع " مدهو بالا " رأسه من بين ساقيه بصعـوبة شديدة ، لم يكن وجهـه جميلاً كوجـه الممثلة " مادهو بالا " ، وهناك أثر لحروق يمتد ما بين ذقنه وكوع يده اليمنى ، وعلامات حزن شديد ترتسم على وجهه ، وعيناه الصغيرتان اللتان تبدوان على وجهه كشقين أسودين صغيرين ، يشع منهما قلق شديد . ضغط " مدهو بالا " على شفتيه وهو يقول للشاب الذي كان يطبّل :
· دعني في حالي أيها الخبيث ، فإن بطني يؤلمني .
· لماذا هذا الألم أيها الأحمق ، لا بد أنك أكلت " أرزاً إيرانياً " اليوم ثانية .
هزّ " مدهو بالا " في حزن رأسه بالإيجاب قائلاً :
· نعم ، أكلته .
· لماذا أيها الأحمق ؟!.
· ماذا أفعل ، لم أصلح اليوم سوى ثلاثة أحذية فقط .
حكّ أحد هؤلاء الشباب – والذي بدا أنه أكبرهم عمراً ، ونبتت بعض شعيرات من لحيته ، وبعض هذه الشعيرات كان ينمو باتجاه خديه – أنفه قائلاً :
· يا " مدهو بالا " ، قم واجري في الملعب ، هيا سأجري أنا أيضاً معك ، سوف تشفى بطنك بقليل من الجري .
· لا ، لا ، دعك من هذا .
· كلا ، قم أيها الأحمق ، وإلاّ سألطمك على خدّك .
ضم " مدهو بالا " كفيه إلى بعضهما متوسلاً وقال :
· دعك من هذا يا " ككو " ، أرجوك ، سيشفى ألم بطني من نفسه .
· قم يا أحمق ، لماذا تفسد علينا جلستنا .
ومدّ " ككو " يده ، وحمل " مدهو بالا " ، وبدأ الاثنان يجريان في ملعب الجامعة . في البداية ظللت أنظر إلى هذين الشابين اللذان يجريان ، ثم حكّ الولد الجالس بجانبي رأسه قائلاً :
· ما هذا " الأرز الإيراني " عليه اللعنة ، إن تأكله فهو مشكلة ، وإن لم تأكله فهو مشكلة كذلك .
قلت :
· يا أخي ، إن " الأرز الإيراني " طعام لذيذ ، كيف يؤلم تناوله البطن ؟!.
وضحك الجميع من قولي هذا ، وقال لي أحـد الشبـاب – والذي عرفت فيما بعـد أن اسمـه " كلديب كور " ، وكان يرتدي في ذلك الوقت قميصاً و " شورتاً " ممزّقاً – ضاحكاً :
· يبدو وكأنك لم تتناول " الأرز الإيراني " أبداً .
وواصل " كلديب كور " حديثه وهو يفك أزرار قميصه :
·" الأرز الإيراني " مصطلح خاص بهؤلاء الشباب ، وهم لا يأكلونه يومياً ، لكن في اليوم الذي يلمّع فيه أحدهم قليلاً من الأحذية ، ولا تكون لديه نقود كافية ، يكون عليه أن يأكل في هذا اليوم " الأرز الإيراني " ، وهذا الأرز يمكن الحصول عليه من المطعم الإيراني المقابل بعد الثانية عشرة ليلاً فقط ، بعد أن يكون كل الزبائن قد تناولوا طعامهم وغادروا المطعم ، ولأن الزبائن على مدى اليوم كله يتركون بعض كسرات الخبز ، وبعض العظام الممصوصة ، وبعض حبات الأرز ، وبقايا بيض " الأمليت " ، وبعض قطع البطاطس في أطباقهم ، فإن كل هذا يتم جمعه معاً ، ويخلط كله سوياً ، ويتم إعداد نوع ما من الطعـام يباع الطبق منه بقروش قليلة ، وهم يسمونـه في المطبخ " الأرز الإيراني " ، ولا يأكله حتى فقراء المنطقة ، ومع هذا يباع منه كل يوم على الأقل ثلاثمائة طبق ، وأكثر زبائنه من الذين يعملون بتلميع الأحذية ، والذين ينظفون الأثاث ، والذين يجلبون الزبائن لأصحاب التاكسيات ، أو بعض الخدم في العمارات المجاورة ، وبعض عمال البناء .
سألت " كلديب كور " لماذا اتخذ لنفسه هذا الاسم ؟. خلع " كلديب كور " قميصه تماماً ، واستلقى على ظهره بهدوء ، وراح يدلّك بطنه السوداء ، ولم يتمالك نفسه من الضحك عندما سمع سؤالي ، وبعد أن توقف عن الضحك قال لزميله :
· ناولني صندوقي .
وناوله زميله الصندوق ، ففتحه " كلديب كور " . كانت بداخله أدوات التلميع والورنيش ، وعلى علب الورنيش صورة الممثلة " كلديب كور " ، ثم قال لأحد زملائه :
· افتح صندوقك أنت أيضاً .
ففتح زميله الصندوق ، حيث كانت صورة الممثلة " نرجس " المنزوعة من المجلات والجرائد مثبتة على كل علب الورنيش الكبيرة والصغيرة . قال " كلديب كور " :
· هذا الأحمق يستعمل ورنيش " نرجس " ، وهذا يستعمل ورنيش " نمّي " ، والآخر يستعمل ورنيش " ثريا " ، وكل واحد من ماسحي الأحذية يلصق على علب الورنيش الخاصة به صـورة لإحدى نجمات الأفلام ، ويطلق على الورنيش اسمها .
· لماذا ؟!.
· لأن الزبون الأحمق يحب هذا . نسأله أي ورنيش يحب ، ورنيش " نرجس " ، أم ورنيش " ثريا " ، أم ورنيش " مدهو بالا " . عندئذ يطلب الزبون الورنيش الذي يحمل اسم الممثلة التي يحبها ، ونحن نقوم بتوجيهه إلى الزميل ماسح الأحذية الذي يستعمل ورنيش " نرجس " ، أو " نمّي " ، أو أي ممثلة أخرى ، ونحن ثمانية أولاد ، ونجلس خلف محطة الأتوبيس أمام بوابة الكنيسة ، وكل منا اتخذ لنفسه اسم الممثلة التي يضع صورتها على الورنيش الخاص به ، وبذا تنتعش حرفتنا ، ونستمتع نحن به .
قلت :
· تجلسون خلف محطة الأتوبيس على الرصيف في مقابل المطعم الإيراني ولا يتعرض لكم البوليس ؟!.
كان " كلديب كور " مضطجعاً على بطنه ، فاعتدل ، وضغط بأحد أصابعه على إبهامه ، ثم لوّح في الهواء فجأة كأنه بقذف بقطعة نقود معدنية وقال :
· ماذا يستطيع أن يفعل هؤلاء الحمقى ، نعطيهم نقوداً ، وحتى هؤلاء الذين ينامون في هذا الميدان يعطونهم نقوداً .
قال " كلديب كور " هذا ، ثم لوّح بإصبعه في الفضاء ثانية ، وفتح يديه الخاويتين ونظر فيهما ، ثم ضحك ضحكة لذيذة ساخرة ، وبعدها لم يفعل شيئاً ، وإنما اضطجع على بطنه ثانية .
سألني " نرجس " :
· ألست أنت أيضاً ماسح أحذية هنا ؟!. أظن أنني رأيتك أمام فندق " يزدان " .
قلت :
· نعم ، اعتبرني بشكل أو بآخر من الذين يلمعون الأحذية .
· ماذا تعني بشكل أو بآخر .
اعتدل " كلديب كور " في جلسته ، وحملق فيّ قائلاً :
· تكلم بوضوح أيها الأحمق ، ماذا تعمل ؟.
لقد سعدت مما قاله ، ولو قال ذلك أحد غيره للكمته ، ولكن عندما قال لي هذا الولد " يا أحمق " سررت كثيراً ، لأن لفظ " الأحمق " هنا لا تعني سبّاً أو شتماً ، وإنما تعني " أبناء الكار الواحد " ، وقد ضمني هؤلاء الشباب إلى " كارهم " ، فقلت :
· يا أخي ، أنا بطريقة ما أمسح ، ألمّع ، لكنني أمسح وألمّع الألفاظ ، وأحياناً أنبش في الجلود القديمة لأرى ماذا في طبقاتها المهترئة .
وفجأة قال " نرجس " :
· مرة أخرى أيها الأحمق تخلط الأمور ، لماذا لا تتكلم بصراحة ، ماذا تعمل ؟.
قلت :
· اسمي " بشن " ، وأكتب القصص ، كما أكتب في الجرائد .
عندئذ قال " نمي " :
· نعم نعم ، تذكرت .
كان " نمي " ولداً صغيراً ، فهو أصغر من كل الأولاد الموجودين حولي ، لكن في عيونه بريق الذكاء ، ولأنه يعمل ببيع الصحف أيضاً ، لذا أعجب بي كثيراً ، فاقترب مني قائلاً :
· في أية جريدة تكتب ؟ ... جريدة " تايمز " ... جريدة " بومباي " ... أنا أعرف كل الجرائد .
ثم اقترب مني أكثر ، فقلت :
· أنا أكتب في جريدة " شاهراه : الطريق الرئيسي " .
·" ساهراه " ؟! (2) أية جريدة هذه ؟.
· إنها تصدر من " دهلي " .
· من مطابع " دهلي " !! أوه .
وانتشرت عينا " نمي " على وجهي . ثم قلت بغرض مزيد من التأثير عليه :
· وأكتب في مجلة " الأدب اللطيف " .
وضحك " كلديب كور " :
· ماذا قال ؟. يكنب في " البدب الخلطيف " ، أيها الأحمق ، كأنه اسم لممثلة إنجليزية ، " البدب الخلطيف " هه ، هه .
ولما فرغ الأولاد م ضحكهم قلت بجدية :
· ليس " البدب الخلطيف " ، " الأدب ... الأدب اللطيف " ، مجلة ممتازة تصدر من " لاهور " .
هزّ " نرجس " رأسه بلا مبالاة قائلاً :
· صحيح أيها الأحمق ، صحيح ، الأدب اللطيف . كم تكسب من ورائها ؟.
· تقريباً مثل ما تكسبون أنتم ليس أكثر ، فعندما ألمّع الألفاظ وأمسحها فإن أصحاب الجريدة يأخذونها بلا مقابل سوى الشكر ، ويلمّعون جريدتهم .
· فلماذا تصدّع رأسك بلا مقابل ؟. لماذا لا تلمّع الأحذية مثلنا ؟. أقول لك بصدق تعالى معنا في " كارنا " ، فنحن لا ينقصنا إلاّ أنت ، وسـوف نطلـق عليك اسـم " البدب الخلطيف " ، مدّ يدك .
ووضعت يدي في يد " كلديب كور " ، فقال :
· لكنك ستعطي الشرطي عدة قروش يومياً !.
· وإن لم أكسب في يوم عدة قروش فماذا يحدث ؟!.
· لا شأن لنا ، تسوّلها من أي شخص ، اسرقها ، انهبها ، لكن لا بد من إعطاء العسكري عدة قروش ، وستبيت في الحجز ليلتين كل شهر .
· ولماذا هذا ؟.
· هذا لا نعرفه ، نحن ندفع للعسكري عدة قروش كل يوم ، كل ماسحي الأحذية يدفعون له ، ومع ذلك فهو يقبض علينا مرتين كل شهر ، هذا هو أسلوبه على حدّ قوله ، فماذا نفعل ؟.
قلت :
· لا بأس ، سنبيت ليلتين أيضاً في الحجز .
ثم قال " كلديب كور " :
· وسوف تذهب إلى المحكمة مرة كل شهر ، ستدفع غرامة يفرضها عليك أعضاء اللجنة ، ستذهب إلى المحكمة ، وستدفع روبيتين أو ثلاث أيضاً .
· ولماذا هذا أيضـاً ، طالما أنني سأدفع للعسكري عدة قروش كل يوم ، فلماذا هذا إذاً ؟ .
· يا صديقي ، ألا تريد أن تعرض على العسكري إنجازاتك أم لا ؟!. ألا تفهم أيها الـ " بدب خلطيف " الأحمق !!
غمزت بعيني وقلت لـ " كلديب كور " :
· أيها الأحمق ، أفهم ....
وضحكنا نحن الاثنين ، وفي تلك الأثناء عاد " مدهو بالا " و " ككو " بعدما فرغا من الجري في الملعب وهما يتصببان عرقاً . سألت " مدهو بالا " :
· هل استراحت بطنك ؟.
قال " مدهو بالا " :
· أما الألم فقد شفيت منه ، لكني أشعر بجوع شديد !! .
قال " نرجس " :
· وأنا أيضاً .
قال " كلديب كور " بلهجة ساخرة :
· أيعني هذا أن " الأرز الإيراني " سيأتي ثانية ، ثم تتألم بطنك ، ثم تجري ثانية في الميدان ، ثم تجوع ؟!!.
قال " نمّي " :
· أستطيع أن أدفع " قرشين " .
قلت :
· ومني أربعة قروش .
فاجتمع لدينا مبلغ ذهب به " نمّي " ليحضر " الأرز الإيراني " باعتبار أنه أصغر المجموعة ، ثم إن طبـاخ المطعم الإيراني يحبه ، ومن الممكن عندما يراه أن يعطيه ثلاثة أطباق بدلاً من طبق واحد ، أو على الأقل يملأ الأطباق .
وعندما ذهب " نمّي " قلت :
· هل تنامون هنا كل يوم ؟.
· الجميع ينامون هنا ما عدا " مدهو بالا " .
فقال " ككو " :
·" مدهو بالا " ينام في بيته ، لكنه لم يذهب إليه اليوم .
سألت " مدهو بالا " :
· ألك بيت ؟.
· نعم لنا عشة في منطقة " ساين " ، وأمي تعيش فيها .
· وأبوك ؟.
قال " مدهو بالا " :
· لا أدري شيئاً عن أبي ، لا بدّ أن هذا الأحمق يمتلك إحدى العمارات المقابلة .
وفجأة سكت الجميع ، وكأن أحداً لطمهم على وجوههم ... هؤلاء الأولاد الذين لا معين لهم ، ولا بيت ، ولا حتى اسم ... هؤلاء الذين حاولوا أن يملأوا حياتهم من أغاني الأفلام بالحب الذي ربما لن يعيشوه أبداً ...
" حبينا بعضنا ... " أين ذهب حبك يا أبي ، ويا أمي ؟. يا أخي ، من تكون ؟!.
من كنت ؟... لماذا جئت بي إلى هذه الدنيا وتركتني أتذوق المرارة على الأرصفة المؤجرة أمام عمارات قاسية ؟... وارتعدت الوجوه المستغيثة لأولئك الأولاد للحظة خوفاً من مجهول ، وأمسك كل منهم بيد الآخـر ، وكأنهم لم يجدوا من يقف بجانبهم أبداً ، وكأنما كل عمارة من عمارات المدينة ، وكل رصيف من أرصفتها ، وكل قدم تسير ، قد ركلتهم ولفظتهم وأجبرتهم على أن يمسك كل منهم بيد الآخر في ظلام الليل . لقد بدوا لي خائفين وبسيطين وسذّج كأطفال معصومين لا ذنب لهم ضلوا في غابة مجهولة لا حدود لها ، ولهذا فإنني أحياناً لا أعترف بالمدينة التي يتحسس فيها أولادها المجهولون طريقهم في الشوارع والأزقّة ، وحين لا يجدون الطريق فإنهم يغمضون أعينهم ، ويجلسون تحت أية شجرة ، ومع ذلك فإنني أقول لنفسي أن المسألة ليست هكذا ، فإن " بومباي " ليست غابة ، إنها مدينة ... الناس يقولون أن لها بلدية ، ولها حكومة ، ولها نظام ، ولها شوارع وأسـواق ومحلات وطرق ومنازل ، وهؤلاء كل منهم ملتصق بالآخر ومتعلق به ، مثلما تكون الأشياء في المدن المتحضرة المتمدينة ملتصقة ومتجاورة ... أنا أعرف كل هذا ، ولكن لماذا بالرغم من هذا الاحترام والتقدير والمحبة ، أرى أنه في مدينة " بومباي " هذه العديد من الشوارع والحارات التي ليس للخروج منها طريق ، والعديد من الطرق التي لا تفضي إلى أي هدف ، والكثير من الأطفال الذين لا بيت لهم .
وفجأة حطم " نمّي " هذا الصمت ، وأقبـل علينـا مهـرولاً ... كانت في يده ثلاثة أطباق من " الأرز الإيراني " يتصاعد منها بخار ساخن ذو رائحة جميلة ، وعندما وضع الأطباق على العشب أمامنا وجدنا دموعاً في عيونه ... سأله " كلديب كور " :
· ماذا حدث ؟.
أجاب " كلديب كور " بلهجة غاضبة :
· لقد قرصني الطباخ بشدة هنا ...
وعرض علينا خدّه الشمال ... ورأينا على خدّه الشمال علامة كبيرة . قال " كلديب كور " وهو يسبّ الطباخ :
· ابن الحرام .
ومع ذلك انقضّ الجميع على " الأرز الإيراني " .
هوامش
1 - من كبار أدباء الأردية الهندوس في القرن العشرين ، ووصف أنه كاتب معتدل ، وكان يرى أن تقسيم البلاد إلى دولتين كان بمثابة اللعبة السياسية .
2 - الأصل في النطق هو " شاهراه " بالشين ، ولك الولد ينطقها بالسين لأنه أمي ، وهذا هو ما يريد الكاتب إظهاره ، إذ غالباً ما يخطئ كثير من عامة الناس في نطق بعض الألفاظ التي يصعب عليهم النطق بها ، فيبدلون بعض حروفها ، وخاصة بإبدال " الشين " إلى " السين " ، وإبدال " الزاي " إلى " الجيم " وغيرها من هذا القبيل ، كما يلاحظ أن غير المسلمين في الهند لا يستطيعون نطق الألفاظ التي تضم حروفاً عربية " كالعين والحاء والخاء والضاد وغيرها " نطقاً صحيحاً ، فيبدلون " الخاء " إلى حرف " كهـ " وهكذا .