المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراء السراب ... قليلا / رواية لابراهيم درغوثي / الفصل العاشر ( أ )



ابراهيم درغوثي
27/08/2008, 08:49 PM
وراء السراب ... قليلا




رواية





ابراهيم درغوثي






الباب العاشر ( أ )






وفيه تفاصيل عن مغارة " علي بابا " و غرائب عن الأرواح الهائمة في أنفاق الجبل و أعاجيب عن رجال برؤوس بغال و بغال برؤوس آدمية ، و هلم جرا .






(1)





بعد وصولي بأربعة أيام إلى " المتلوي " انتدبتني شركة الفسفاط عامل أنفاق. أيامها كانت الشركة تمر بأزمة خانقة إذ قل الإقبال على العمل داخل الأنفاق بعد حدوث انهيارات كبيرة في دواميس هضبة جبل " الوصيف " . ورغم أن الشركة أذاعت أنباء تقلل من الخسائر البشرية و تصل بها إلى حدودها الدنيا فإن العمال الذين بقوا خارج الأنفاق يؤكدون أن عدد المفقودين فاق الخمسمائة . و هم الهلع و الذعر المكان فغادر كثير من العمال المنطقة و عادوا من حيث أتوا . و انتحر المهندس الذي تسبب في الحادث . أكلته عجلات القطار الرابط بين " المتلوي " و " صفاقس " و ظلت بقايا لحمه معلقة على سكة الحديد لعدة أيام . و هدد الإفلاس الشركة الكبيرة وهي في بداياتها إذ تعطل الإنتاج لمدة كبيرة حتى كاد مديرو الشركة في " باريس " يصفون حساباتها و يعلنون التوبة عن هذه المغامرة.



و فاحت كراهية الفرنسيين في المكان فقد كان المهندسون يرفضون نصب أعمدة الخشب في الأماكن التي يخلونها من الفسفاط و يدعون أن جدران الأنفاق شديدة الصلابة و تستطيع تحمل ضغط ملايين الأطنان من الحجارة دون أن تتصدع و تنهار. و لكن تقديراتهم ذهبت سدى إذ انفجر الجبل في لحظة واحدة و دك الأنفاق دقا ، فسدت الصخور المتساقطة على طول عدة كيلومترات الأبواب و تعذر تقديم المساعدة للعمال الذين أسرهم سلطان الجبل. و بين غمضة عين و انفتاحتها تحول المنجم الذي كان يعج بالحياة ليلا نهارا إلى جبانة كبيرة تطير في أنفاقه مئات الأرواح الهائمة



و هي تدق على جدران الجبل باحثة لها عن منفذ للخلاص.



حين استظهرت لدى الإدارة ببطاقة الانتداب ، مكنوني من أدوات العمل : فانوس و فأس و مجرفة وجعلوني أوقع على " وصل تسليم " يلزمني بدفع هذه المقتنيات بالتقسيط بعد حصولي على أجرتي ، على أن أتركها في موقع العمل إذا عن لي الرجوع عن التزاماتي نحو الشركة.



صباح الغد ، وقفت مذهولا أمام باب النفق الذي سأجتازه للوصول إلى أعماق الجبل . و تذكرت ما مر بي من وقائع فقلت في نفسي ستكون مغامرتك في الحياة في هذا الجب الذي قال فيه أحد أولياء الله الصالحين حين مر من أمامه : " الداخل فيه مفقود ، و الخارج منه مولود ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العظيم ".



و تسلمني " مرزاق القبائلي " من رئيس الحضيرة التي عينت فيها ليعلمني كيف أحفر بالمثقاب حفرا في لحم الجبل . و كيف أدس الديناميت في تلك الحفر . و كيف أفجر تلك الأصابع الرقيقة التي تحدث دويا كدوي الرعد . و علمني كيف أكون شجاعا دون تهور لأن أحابيل سلطان الجبل لا تحصى و لا تعد و سف ملك الموت معلق فوق رؤوسنا لا ندري متى ينزل فيقص الرقاب و يفشخ الهامات.



و مات " مرزاق القبائلي " بعد أن التقيته بستة شهور . سلبه شق * أمواله ثم قتله قتلة شنيعة . أكل نصفه و ترك لنا النصف الآخر.



و تسلمت رسالة الشق بعد أن تسلمت قيادة فريق العمل .



* روى أبو عمرو عثمان الجاحظ في كتاب الحيوان قال :
" ومن الجن جنس صورة الواحد منهم على نصف سورة الإنسان . له نصف رأس و عين و كذلك جميع أعضائه . و هو يقفز برجله قفزا شديدا و يعدو عدوا منكرا ."

كتاب الحيوان / الجزء السادس
طبعة دار الكتاب/ بيروت 1969




( 2 )





في السوق ، اكتريت حانوتا جعلت منه مقر إقامتي . أثثته بما تيسر من الأدوات الضرورية للحياة و أحكمت إغلاق بابه بقفل اشتريته من مقتصدية الشركة . و علقت المفتاح في حزامي فلا أمان في هذه الأرض التي جمعت فيها الأجناس و الأديان و الملل و النحل و اختلط فيها المؤمن بالكافر و العربي بالأعجمي.



كانت السوق يعج بخلق كثير . وكان معظم الرجال يمضون وقتهم جالسين تحت حيطان الدكاكين التي بناها منذ مدة قريبة تجار طرابلس .



وجوه الرجال كئيبة تطل منها عيون ذليلة أكلها الرمد و أبدانهم منهكة تغطيها أسمال بالية : بقايا برانس و جياب من الصوف الخشن . و اللحاف التي تغطي رؤوسهم حال لونها الأبيض و تحول إلى الرمادي.



و كانت السوق تغلي بالأصوات التي ترتفع من كل الجهات ، تنادي صديقا أو تطلب صدقة او تلعن أو تسب أو تعدد حسنات سلعة أو تطلب عفو الرب و غفرانه أو تعلن ميعاد دفن أحد الموتى ... و الكل في هرج و مرج.



كنت خلال إقامتي بالحانوت في الأيام الأولى أقضي الوقت مراقبا هؤلاء الرجال القادمين من كل مكان . من أقاصي جبال الريف في المغرب إلى صحاري " فزان " بليبيا . كل هذا الخلق سمع بالأعجوبة التي أحدثها " الكفار " في تونس فتركوا ما في أيديهم و جاءوا. وشوش الأصدقاء إلى بعضهم بعضا و هجوا دون أن يعلم بهم الأهل.



و باع البدو قطعانهم الهزيلة و قصدوا المدينة الجديدة التي بناها الروم .



و أكل الجراد صابة القمح في ضواحي " إفريقية " فترك له أهلها المكان و جاءوا إلى هنا.



و شحت المياه في واحات الجريد فهرب " الخماسة " من تحت ظل النخلة التي لم تعد تعطي تمرا سمينا فعوضوه بخبز المنجم.



و أحرقت الضرائب ملاك الأراضي فباعوها للمعمرين الفرنسيين و عوضوا المنجل بالفأس و المجرفة، و الأفق الرحب بدواميس الجبل و أنفاقه.



لم يكن أحد من هؤلاء الرجال يدري قبل أعوام قليلة أنه سيدفع ثمن الخبز الذي سيأكله من العرق الذي سيسيل فوق تراب أنفاق جبال الثالجة.



كان جميع الرجال يرهبون لحظة مواجهة الجبل للمرة الأولى . كنت أراهم يقفون لساعات ساهمين أمام باب النفق . تمر سحابة حزن على الوجوه . ترعد و تمطر . و تعزف رياح . و تزمجر عواصف و يحرق الجوع الأكباد فيغامر الجبان قبل الصنديد و يخترق حواجز الخوف و يمضي يقطع من لحم الجبل ليطعم الفراخ الجائعة .



البارحة ، انتدبت الشركة عاملا جديدا ضمن فريقي .



جاء الرجل يعوض العم " سالم الطرودي " الذي ودعنا بالأمس ورجع إلى " وادي سوف " . قال إنه يعمل بالمنجم ستة أشهر و بالواحة ستة أشهر و إنه يعود في كل سنة خلال شهور الخريف و الشتاء لجني التمر و لدفء البيت .



بعد أن قطعنا نصف كيلومتر داخل النفق ، اقترب مني الرجل و بدأ يحدثني مستعطفا:



- كرامة لله. أخرجني من هنا أيها الرجل .لقد بلغني أن شقا قتل البارحة " مرزاق القبائلي " ، فضحك أصحابي ووبخه أحدهم :



- اصمت يا أخي ودعنا نستهل هذا اليوم على خير.



فصمت الرجل و مشى وراءنا خطوات أخرى. كان كلما توغل داخل النفق ازدادت الظلمة حلكة و شحت أضواء الفوانيس . و كانت مشية الرجل تتثاقل، فيعود إلى الاستعطاف:



- يرحم الله والديكم ، أخرجني من هنا.



و لا مجيب...



كنا نسرع في النزول . و تزداد الخطى خفة. فالمنحدر حاد و الحيطان المسندة بالخشب صارت وراءنا. و النفق يفتح فما كفم الغول. يبتلع الرجال و البغال و العربات الصغيرة ة الضوء الشحيح و نداءات الأصدقاء.



و يتفرق الجمع في كل الاتجاهات.



يترك العمال الشارع الرئيسي الواسع و يشرقون و يغربون . يدخلون أزقة النفق الصغيرة و ينقسمون أفواجا تذهب بدورها في اتجاهات شتى إلى أن بقينا وحدنا : خمسة رجال . كنت رئيس الحضيرة . و كان معي عاملان و معاونان . كنا قد تعودنا على النزول داخل النفق ماعدا هذا العامل الجديد الذي مازال يخطو بحذر وراءنا.



قال لي ونحن ننزل من القطار الذي حملنا حتى باب النفق إنه قدم رشوة كبيرة إلى مستكتب فرنسي يعمل بالإدارة حتى تسارع الشركة بانتدابه .



فقلت له : كم دفعت ؟



قال : خمسمائة فرنك



قلت : يلزمك نصف سنة من الكد المتواصل حتى تسترجع هذا المبلغ .



ففغر فاه ولم يعد لمبادلتي الحديث . و امتلأ المكان بالصمت إلى أن همهم:



- بعد أن بعت غنماتي ندمت. ولكن هل ينفع الندم ؟



و غطت وجهه الكآبة و الحزن ، فعاد يحدث نفسه :



- لقد غرر بي ابن عمي . جاءنا كالعريس . رأسه حليق و ثيابه نظيفو و جيبه ممتلئ بالفرنكات . و قال لنا : إن الفلوس في منجم الفسفاط ملقاة على قارعة الطريق. فصدقته أنا الغبي و فرطت في رزقي و جئت إلى هنا.



و تسمر الرجل في مكانه وبدأ يصيح صياحا هستيريا :



- أخرجوني من هذا الجحيم يا أولاد الكلب.



هم رجل بالعودة إليه وهو يقول :



- سأذهب لأؤدبه:



فلم أتركه يذهب ، و قلت له :



- أتركه يصيح با أخي سيؤدبه ظلام المنجم.



فجرى الرجل وراء خطانا حين رآنا لا نلتفت إليه .



رفعت الفانوس فرأيت وجهه قد ابيض من الرعب . ورأيت الشرر يتطاير من عينيه ـ فابتسمت له لكنه لم يعر ابتسامتي انتباها. و عاد إلى العويل :



- هل سأعمل تحت هذا الجبل ؟ هل سأظل نصف يوم تحت هذه الأكوام من الحجارة ؟ أبدا . لن يكون هذا . سأضرب رأسي بهذه الفأس إن لم تخرجوني من هنا .



ووجه نصل الفأس إلى جبهته وهم بشدخ رأسه لكنني اختطفت الفأس من يده وضربته بجمع يدي على وجهه فسقط يتمرغ في التراب . و أجهش باكيا :



- خذ فأسي و معولي و جرابي هدية مني ورافقني إلى باب النفق يا سيدي.



و اختطف يدي التي ضربته بها وراح يلثمها بقوة.



و حاصرني الندم و شدد علي الخناق فقلت له برقة:



- وحد الله يا رجل و توكل عليه فهل نفسك أغلى من نفوس كل هؤلاء الرجال؟؟



قال : لا و الله و لكنني مستغرب . فكيف تقبلون العمل هنا و لا تخافون الموت؟



فرددت على حديثه متفهما:



- الموت لا ينجيك من آفاته ، حصن ، و لو شيدته بالجندل.



قال : كف عن حديث العلماء و كلمني بالعربي.



فضحكت و أشرت إلى الباب الذي دخلنا منه منذ نصف ساعة و قلت له :



- وراءك الصراط المستقيم . عد من حيث أتيت ، فستجد رحمة الرب .



التفت فلم ير سوى كتلة من الظلام الدامس فهر كالجرو المضروب و ناح:



- أرني الطريق إلى رحمة الرب يا أخي . أنتم تعملون داخل قبر. و الموت قريب منكم . و أنا لا أريد أن أموت الآن . مازالت لي مهام كثيرة أريد أن أقضيها.



فعدت أطمئنه و أعده خيرا إلى أن وصلنا إلى مكان العمل فطلبت منه أن يستريح فوق كدس أدباشنا و أن يراقبنا من بعيد.



حفرت داخل جدران الجبل حفرا عميقة بواسطة المثقاب ثم حشوتها بأصابع الديناميت وربطت الأصابع بخيوط جهزناها بصواعق . وطلبت من رفاقي أن يبتعدوا قدر الإمكان . و بدأت أعد الانفجارات: واحد ... اثنان ... سبعة ... . و كان البدوي يراقب المكان مشدوها. هرب من فوق كدس ثيابنا حين سمع الانفجار الأول و لكنه عاد إلى مخبئه لأن أصوات الانفجارات كانت تأتي من كل الأمكنة فرؤساء الحضائر يستعدون للعمل في نفس الوقت حتى أن الجبل يتحول إلى ساحة معركة لا تهدأ إلا حين تبقر الجدران و يسيل من بين شقوق الصخور دم الجبل ة قد تحول إلى تراب تفوح منه رائحة الحيتان و الحيوانات البحرية الأخرى التي ماتت منذ ملايين السنين.



و أزعجت الانفجارات الشق و فريقه فاختبأوا في زوايا الأنفاق متربصين بالرجال . بحثوا عن الغافل فأكلوه وعن الشاب فشربوا دمه . و تفرقوا في الأمكنة البعيدة في أعماق الجبل يسلبون و ينهبون . فتكدست أنصاف الجثث في كل مكان . و ملأ الهلع القلوب الواجفة.



ظل هذا القتل مريبا. لم يجد له عملة المناجم تفسيرا إلى أن اكتشف عزيز السلطاني شقا* . ذهب ليتفقد العامل الجديد فرأى الشق باركا فوق صدره يمص الدم من عرق فصده في عنقه . و الرجل يخبط برجليه و يخور خوار الثيران القتيلة. التقط عزيز بلطة ورمى بها ظهر الشق فطنت على الصخر و لكنها أخطأت الهدف . التفت " سيد الجبل " بعين حمراء تقدح شررا و قفز برجل واحدة وعدا كالريح تاركا وراءه رائحة كريهة. رائحة الجيف النتنة.




* كثيرا ما يعرض الشق للرجل المسافر إذا كان وحده . فربما أهلكه فزعا ، وربما أهلكه ضربا و قتلا .



أورده الجاحظ في كتاب الحيوان المذكور سابقا .

فايزة شرف الدين
28/08/2008, 10:01 PM
في هذا الفصل أشعر أن الأحداث حية وحقيقة واقعة.. أكاد أشعر بجو الأنفاق والاختناق المميت .. وقد أبدعت في تصوير جوف الجبل الرهيب والعمل في المناجم الشاق جدا .. كما ألمس الخرافة عندما تتمكن من بني آدم فيتصور عدوا وهميا .


http://www.up1up2.com/up3/uploads/24a2bd32a5.gif (http://www.up1up2.com/up3/index.php?do=2347)

ابراهيم درغوثي
29/08/2008, 01:55 PM
أختنا فائزة

أشكر لك المتابعة و التقدير

دام لك الود