المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أربع منمنمات



محمد صباح الحواصلي
13/12/2006, 05:24 AM
أربع منمنمات

محمد صباح الحواصلي

أبو فارس
كان أبو فارس ينظر إلى صورته المعلقة على جدار غرفة نومه, ويتذكر أيام الفتوة والزكرتية. كان حينها في عز شبابه, كلمته لها وقع الصخر عندما يحط من أعالي الجبال, وكان شارباه زينة شوارب الحي.
أسند أبو فارس رأسه إلى كرسي وأغمض عينين هدتهما الشيخوخة. أخذ نفساً عميقا وتناهى إليه صوته آتياً من صلب الشباب مثل هزيم الرعد:
"ها قد مضت السنون يا أبا فارس, راح العز, وراحت الصحة والهيبة, والآن ماذا بقي منك؟ أنت لا تكاد تستطيع أن تحرك قدميك وتسير, وإن استلقيت على كرسي وأغمضت عينيك لتغفو قليلاً فربما لا تقوم ثانية وتغفو إلى الأبد."
ودوت في بيته صرخة امرأة ملتاعة:
- "أبو فارس!"
وتقادم الزمن على الصورة فشاخت هي الأخرى واصبح لها إطار أسود.

اليمامة

كان الطفل ينظر إلى حافة السطح ويبكي بمرارة. تناديه أمه من أرض الديار:
"اصطبر قليلا يا حبيبي.. سأنتهي بعد قليل وأصعد إليك."
وتتابع الأم شطف الأرض. لم يكف الطفل عن البكاء بل استمر أكثر حدَّة وهو ينظر إلى حافة السطح. وعندما استحال بكاؤه إلى استغاثة صرخت أمه حانقة:
"قلت لك اصطبر قليلا وسأصعد إليك."
وتابعت الأم شطف الأرض. ثم أخذت تسقي أصص الورد, وترش أسياخ الزنبق البلدي المحاطة بالبحرة وعينا طفلها لم تبرحا حافة السطح وهو يبكي بحرقة.
وعندما أدرك الطفل أن أمه لن تستجيب لبكائه, حمل رضاعة الحليب الزجاجية وألقى بها إلى أرض الديار فانكسرت وتناثرت أجزاؤها. عندها انتفضت أمه غاضبة وصعدت إليه مسرعة وهي تتوعد بحنق. أمسكت بولدها وجعلت تضربه فيما هو يشير إلى حافة السطح ويبكي. ثم أخذته إلى سريره وألزمته أن ينام.
عادت الأم إلى أرض الديار لتزيل نثار الزجاج. وفيما هي تكنس سقطت قربها بقايا يمامة.. شهقت الأم جزعاً ورفعت راسها صارخة:
"العش.."
في تلك الأثناء قفزت قطة من حافة السطح ولاذت بالفرار. وكان الطفل قد جف بكاؤه في مقلتيه واستسلم لنوم عميق.


الدنيا بخير

رفع الشيخ رسلان رأسه من قبره وأطل على مدينته دمشق فرأى عجباً. فالمدينه أصبحت عجولة مزدحمة, وهواؤها ملوث, وأشجارها اقتلعت وأنشيء فوق ارضها الطيبة الأبنية الإسمنتية, ودخان السيارات قد شكل هالة رمادية فوق المدينة.
ظن الشيخ رسلان أنه قد أخطأ مدينته فسأل رجلا يسير مسرعا:
"يا بني.. هل لي أن أسألك سؤالا؟"
قال الرجل:
"تفضل.. ولكن بسرعة فأنا على عجل من أمري."
"هل هذه مدينة دمشق؟"
نظر إليه الرجل مستغربا وقال:
"طبعا هي. ألا ترى القلعة على يمينك والجامع الأموي على شمالك."
قال الشيخ للرجل:
"هذا صحيح جزاك الله خيرا. ولكن قل لي ماذا دهى المدينة الطيبة؟ لقد أصبحت مقبضة للنفس."
هزَّ الرجل رأسه أسفا وقال للشيخ:
"أنت لم ترَ شيئا بعد. عُد إلى قبرك وارتح فوالله لقد قرفنا حياتنا."
تألم الشيخ رسلان لما آلت إليه مدينته الجميلة الطيبة وود ألا يفيق من رقدته ثانية. وفيما كان الشيخ على وشك أن يرقد في قبره رأى عجوزا يركب حمارا في زقاق قديم وقد أصابه الإعياء فسقط من على حماره مغميا عليه. هرعت الناس إلى العجوز وقد أختلج في صدرها احساس مبهم عبق بطيب هذه المدينة القديمة. فراح أحدهم يرش الماء على وجه العجوز, وهمَّ آخر بحمله إلى المستشفى, وأمسك ثالث بحماره كيلا يسرح.
حينها ابتسم الشيخ رسلان راضيا وقال في سره:
"الحمد لله ما تزال الدنيا بخير."

بعد فوات الأوان

كان الشاب يهم بالرحيل عن مدينته عندما استوقفته شجرة الزيتون وقالت له:
"إلى أين أنت راحل يا بني؟"
قال الشاب بنفاذ صبر:
"إنني مهاجر.. فلم أعد أطيق البقاء في مدينتي."
تألمت شجرة الزيتون من كلامه وقالت:
"ولكنك ستكون غريبا أينما حللت."
"أن أكون غريبا في بلاد غريبة أهون عندي من العيش في وطن لم أعد أطيقه."
هنا أطرقت شجرة الزيتون قليلا ثم قالت:
"يا بني.. هل لك أن تسمع حكايتي قبل أن ترحل؟"
هز الشاب رأسه على مضض وجلس على حقيبته مصغيا إلى الشجرة.
"منذ زمن بعيد بُذرتُ في هذه الأرض ومن ذلك الحين إلى يومنا هذا مرت علينا – أنا واخواتي الأشجار – أيام عصيبة تضني الرجال. فقد قاومنا غزوات الغزاة وحاربنا مع المجاهدين وتحملنا مشقة الجفاف والعطش, وكاد الجراد يبيدنا, بيد أننا على الرغم من ذلك كله, بقينا صامدات. أتدري لماذا يا بني, لأن الأشجار جذورها عميقة في أوطانها."
قال الشاب للشجرة باستخفاف:
"هل أنتهيت من حكايتك؟"
أطرقت الزيتونة بإنكسار وقالت:
"نعم لقد انتهيت."
همَّ الشاب بالرحيل. رفعت الزيتونة رأسها ونادته:
"يا بني.."
التفت الشاب إليها.
فقالت شجرة الزيتون:
"إذا عُدتَّ يا بني تذكرني."
ورحل الشاب, وانطفأت نجمة أخرى في سماء الوطن.

مضت السنون, وإذا الشاب عائد إلى وطنه. عائد ليبقى, ليعانق شجرة الزيتون الطيبة, ليقول لها لم أنسك في غربتي, وها قد عدت لأتعلم منك الصمود.
ولكن عندما بلغ الشاب مشارف المدينة لم يجد أثرا لشجرة الزيتون ولا لأخواتها الأشجار. بل رأى على مد البصر طريقا اسفلتيا يلتمع ببريق الشمس الوهاجة.

الرياض 1985 - 1986

حسام الدين نوالي
13/12/2006, 06:01 PM
المبدع محمد صباح الحواصلي..
قرأت منمنماتك كالعادة بكثير من متعة الحكي، راقني بشكل أكبر نص "بعد فوات الأوان".. فيها الكثير من سمات وطننا، هذا الذي إما نهرب عنه ليظل وحيدا أو نقتل الذين تشبثوا به.. هل المدنية هي التي تقتل "كما فعل الطريق الاسفلتي"؟ أم رؤوسنا المشرئبة نحو عالم آخر وأوطان أخرى بحيث صارت أجسادنا تنفصل عن رؤوسنا؟ "وهي في كل حال شكل من أشكال القتل".
أيها الحواصلي دمت مبدعا.
أعانقك

محمد صباح الحواصلي
14/12/2006, 05:33 AM
المبدع محمد صباح الحواصلي..
قرأت منمنماتك كالعادة بكثير من متعة الحكي، راقني بشكل أكبر نص "بعد فوات الأوان".. فيها الكثير من سمات وطننا، هذا الذي إما نهرب عنه ليظل وحيدا أو نقتل الذين تشبثوا به.. هل المدنية هي التي تقتل "كما فعل الطريق الاسفلتي"؟ أم رؤوسنا المشرئبة نحو عالم آخر وأوطان أخرى بحيث صارت أجسادنا تنفصل عن رؤوسنا؟ "وهي في كل حال شكل من أشكال القتل".
أيها الحواصلي دمت مبدعا.
أعانقك

عزيزي حسام
أولا سُعدت بإطلالتك, التي من إلفها أن تظهر بعد غياب طويل, وسُعدت ثانيا للمساتك النقدية التي لا تكف عن السبر والإكتشاف..
مع تقديري
صباح

نزار ب. الزين
14/12/2006, 07:42 AM
أربع أقاصيص أسماها الأستاذ محمد صباح الحواصلي المنمنمات ، تحمل ذكرياته الدمشقية و حنينه لمدينته و حواريها الضيقة و بيوتها القديمة و غوطتها اليانعة و ( قبضاياتها ) من أمثال أبو فارس
ففي الأقصوصة الأولى يبدو أبو فارس و هو أحد ( القبضايات و الزكرتية ) يبدو على شفا هاوية الموت ، ينظر إلى صورته أيام الشباب و إلى شاربيه المعكوفين و يتذكر كيف أنه تعنتر ما شاءت له العنترة ، و اليوم لم يبق لديه غير التحسر و الأسى و انتظار يومه ، مؤكدا قول من قال :
ما طار طير و ارتفع ====إلا كما طار وقع
و في الأقصوصة الثانية بعنوان ( اليمامة ) ، يحدثنا الكاتب عن طفل ذي رضاعة يهزه افتراس القطة لليمامة المسكينة فلا يتمكن من التعبير عن أساه إلا بالصياح و النحيب ، محاولا لفت انتباه أمه إلى المأساة التي تحدث على السطح المقابل له ، و أمه لاهية عنه و عنها ؛ ذلك أن بعض الأمهات و حتى بعض الآباء لا يحاولون النزول من عليائهم إلى مستوى أطفالهم ليتمكنوا من فهمهم ، و يرفضون تصديق ما قد يقولونه حتى لو كان صدقا ، لا لشيء إلا لأنهم أطفال عديمو الإدراك كما يزعمون .

أما الأقصوصة الثالثة فتمثل حنين الكاتب لمدينته التي يكتشف فيها الطيبة الراسخة رغم كل التحولات التي طرأت عليها ، فرغم الإزدحام و الضجيج و العجلة ، و رغم الدخان العابق و تآكل الغوطة هبة دمشق ، فلا زال ناسها طيبون كما عهدهم .
و الأقصوصة الرابعة يمكن اعتبارها مكملة للأقصوصة الثالثة ، فالكاتب هنا يبدي حزنه على المساحات الخضراء التي ابتلعتها الطرق السريعة و الأبنية البرجية ، و يقول بلسان شجرة زيتون " لقد تمكنت من الصمود أمام الجفاف و غزو الإستعمار ، و اجتياحات الجراد ، و لكنني لم أتمكن من الصمود أمام عجلة التغيير "
أربعة أقاصيص رسمها الأستاذ محمد صباح بقلمه فبدت لوحات معبرة ، جذابة ، تشد القارئ حتى الحرف الأخير ,
إبداع آخر للأستاذ الحواصلي أهنئه عليه من صميم الفؤاد
نزار

محمد صباح الحواصلي
15/12/2006, 01:17 AM
عزيزي الأستاذ نزار
تحية كلها حب وتقدير
وهكذا نجد أنفسنا في غربتنا أسرى التوق إلى الماضي.. الماضي الذي لا نزال نحسب أنه ما يزال هناك, وأننا بعيدون عنه بعد المكان فقط. الحقيقة الصعبة أننا نعيش ونمارس غربتنا في كل أبعادها: غربة الزمان, فتوقنا لما مضى لا يتجسد فقط في أن الماضي لا يعود, بل يتجسد أيضا بما مضى معه من عمرنا. ثم هناك غربة المكان, أقصد هنا المكان الذي نتوق إليه, المكان الذي تشكلت طفولتنا ببيوته وحوارية ومعالمه, المكان الذي تفتحت حواسنا على مكوناته, وترعرعنا فيه في كنف أهلنا وناسنا, هذا المكان وإن قصدناه بزياره فإننا نزور حاضره الذي لا يفي بغرض شدة التوق. ثم هناك أخيرا غربة الذات التي تجد نفسها بعيدة حتى عن ذاتها, تتابع عملية الإستمرار في غير مناخها الزماني والمكاني.
علني قصدت من هذه المقدمة أن يلتمس لنا بعض الأدباء والقراء الشباب رغبتنا في استحضار معالم ماضينا كما كان وكما كنا نريده أن يكون. لقد كتبت ما ينوف عن ست وستين قصة قصيرة مستلهمة من طفولتي وزماني ومكاني الذي انصرم وما أظن أنني قد استلهمت من ماضي الا القليل.
هذه كلمات استلهمتها أيضا من نقداتك العابرة والقيمة لمنمنماتي.. فأنت لست فقد أديبا قديرا, بل أيضا ابنا لدمشق العظيمة التي كتب على أبنائها شقاء الشوق, وغربة النفس بعدا عنها وقربا!
مع محبتي
محمد صباح الحواصلي