المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليتفينينكو.. والقيصر



وحيد فرج
13/12/2006, 06:50 AM
ليتفينينكو.. والقيصر

محمد القدوسى : بتاريخ 12 - 12 - 2006
أسلم «ليتفينينكو» فقتله الروس، كأن التاريخ لم يتحرك خطوة واحدة إلى الأمام، من روسيا القيصرية و«إيفان الرهيب» إلى روسيا الأمريكية و«بوتين» الأكثر إرهاباً، مروراً بالاتحاد السوفييتى و«ستالين» الذى لا يُنسى.

أسلم «ليتفينينكو»، على يد أصدقاء من الشيشان، أحدهم هو الذى أعلن أنه أوصى بأن يصلى عليه بعد وفاته فى المسجد، وأن يدفن فى مقابر المسلمين، ولهذا قتله الروس بأن دسوا فى جسده ـ بطريقة جهنمية ـ كبسولة تحتوى مادة سامة مشعة «بولونيوم 210» يصنعها ويملكها جهاز الاستخبارات الروسى، قتلوه لأنه «يعرف أكثر مما ينبغى» حسب التعبير الشائع فى الأجهزة الأمنية، يعرف الكثير عن السلاح النووى الروسى، عن مواقع الجيش وعن فساده أيضاً، يعرف أن الإدارة الروسية هى التى افتعلت حادث مدرسة «بيسلان» الذى راح ضحيته 200 مواطن روسى واستغله «بوتين» لشن ما عرف بـ«حرب الشيشان الثانية»، يعرف ما يفضح الإدارة ويهز استقرار نظام أقام عرشه على الجماجم والعظام، عظام الشيشان الذين تدار ضدهم واحدة من أقذر الحروب فى التاريخ، وعظام الروس: الجنود الذين يموتون ـ بلا ثمن ـ فى بلاد الشيشان، والمدنيون الذين يروحون ضحية جرائم مفتعلة يدبرها النظام ليلصقها بالشيشان.

نظام يحاول اغتيال «ليتفينينكو» معنوياً، بعد أن اكتشف أنه لم يقتله، بل حوله من شخص إلى معنى، ومن رجل إلى مشعل يحرق النظام وينير الطريق للذاهبين إلى الحرية، والحالمين بالعدل وبكل ما هو إنسانى ونبيل. فبعد يوم واحد من إعلان الشرطة البريطانية أنها ستتعامل مع وفاة «ليتفينينكو» باعتبارها جريمة قتل، مع إيماءات إلى دور واضح للنظام الروسى فى الجريمة، ظهر اثنان من طلاب الدكتوراة، كانا قد التقيا «ليتفينينكو» كجزء من أبحاثهما، ليعلنا أنه كانت لديه ملفات تدين عدداً من «أقرب المسئولين إلى الكرملين» بتهم فساد وانحراف، وأنه كان يستعد لإشهار هذه الملفات والضغط بها، وهو كلام يسيئ إلى صورة «ليتفينينكو»، باعتباره مجرد مبتز، وينفى تهمة الاغتيال ـ التى يعرف النظام الروسى أنها لصيقة به ـ عن قلب النظام لتشيع بين أطرافه ممثلين فى عدد من مسئوليه المنحرفين. حركة «خائبة» أليس كذلك؟ وفى حركة أخرى أكثر خيبة أعلن جهاز الاستخبارات الروسى «إف. سى . بى» أنه عثر على "أرشيف" واحد من عناصر القاعدة ـ هو «أبو حفص» الذى تم اغتياله ـ قتل فى نهاية نوفمبر ـ وأن هذا الأرشيف يثبت أن المقاتلين الشيشان ـ والشيشان كلها مقاتلون ـ كانوا يتلقون تمويلا من الخارج! وهو «تسريب» أو كذبة الغرض منها ربط الشيشان ـ و«ليتفينينكو» معهم ـ بالقاعدة، كأن النظام الروسى يقول للغرب: لا تحاسبونا على اغتياله، فهو مع القاعدة، ونحن ـ معكم ـ ضدها. هذا هو الغرض الوحيد من كذبة مفضوحة لم تظهر إلا بعد أن تورط الدب الروسى حتى شواربه فى جريمة قذرة شهد عليها العالم كله، ولمزيد من «الخيبة الثقيلة» فإن المبالغ التى ادعى الكرملين أن «أبا حفص» نقلها من القاعدة إلى الشيشان لا تتجاوز 700 ألف دولار فى ثلاث سنوات، من 2004 حتى 2006، أى نحو 700 دولار فى اليوم، وهو مبلغ تافه لا يكفى لإدارة مطعم، ناهيك عن إدارة حرب، ثم أين كانت القاعدة قبل 2004؟ وكيف قاتل الشيشان روسيا قبل أن يقبضوا أجرتهم عن القتال وقيمتها 700 دولار يومياً فقط لا غير! كذبة سخيفة، لكن مثل هذه الأكاذيب تروج فى الإعلام الغربى، والروس يعرفون ذلك!

المعركة ـ إذاً ـ مستمرة، وإن كانت إرادة الله شاءت أن يصبح «ليتفينينكو» جزءاً منها، وأن يمضى شهيدا، فإن صلب المسألة هو الصراع التاريخى بين الروس وبين الشيشان، ذلك الشعب الصامد عبر القرون بتعداده القليل ـ مليون ونصف المليون نسمة ـ وعزيمته الجبارة. يقول تاريخهم إن الروس حاولوا طمس هويتهم، فقاموا في حرب القوقاز الأولى بإلقاء كل مخطوطاتهم فى بحيرة «كازن ـ أم»، لكن القائد «شامل» أمر كبار رجالات العشائر بإعادة كتابة التاريخ وما حدث حتى يُورَّث للأجيال، وحاول الروس مرة أخرى إتلاف المخطوطات إبان حملة الإبعاد في عام 1944، لكن الشيشان أنقذوا مخطوطاتهم بأعجوبة. وانظروا إلى مدى «الحقد» الذى يجعل دولة تخوض حرباً عظمى ـ هى الحرب العالمية الثانية التى انتهت 1945 ـ تجد وقتاً وسط هول الحرب لإتلاف مخطوطات أمة أشاد الجميع بصمودها العجيب، هى أمة الشيشان، واقرأوا ما كتبه «جوجول» أهم قاص فى تاريخ روسيا، والذى خرج الكتاب الروس من معطفه حسب المقولة الشائعة، اقرأوا ما كتبه «جوجول» فى رواياته من مديح خالص وإعجاب لا حد له بشجاعة الشيشان وأخلاقهم، اقرأوا وتأملوا تفاصيل جريمة اغتيال «ليتفينينكو» لتعرفوا أن الفكرة أطول عمراً وأبعد أثراً، وأن القياصرة كلهم إلى زوال