محمد الركابي
02/09/2008, 06:41 PM
مضت ثلاثون سنة منذ أن دخلت أنا آرتشيبالد جرين أول مرة مدينة باليموي الصغيرة غرب ايرلنده. فكان من حسن حظي أن تعرفت فيها على أحد أصدق الناس وأفضل المسيحين. ربطتنا صداقة وثيقة عشرين سنة مع أنه يكبرني بكثير. وحيث أنه توفي من عشر سنين ، يمكنني الآن قص قصة أول لقاء بيننا.
إن باليموي مدينة مجازا – أو أنها كانت كذلك في الأيام التي أتكلم عنها. وهي على مقربة من ضفاف بحيرة (كورب) في منطقة (جالواي) ، على طريق لا يؤدي إلى أي مكان. كانت هي نهاية الطريق ، ولا يجد المسافر ما يجذبه إليها. فطبيعة البحيرة الخلابة لا ترى من باليموي : فالبحيرة ضخمة جدا والمناظر الطبيعية في الجهة المقابلة للمدينة – فيصعب الوصول إليها أو حتى رؤيتها. وحتى صيد السالمون بعيد جدا عن باليموي ، فالنهر الصغير يجري مبتعدا عن البحيرة نحو مدينة (جالواي). وكان في باليموي وقتئذ شارع واحد. مغمور في المياه بشكل يلفت نظر المار فيه. وليس سبب ذلك الوحيد مياه الأمطار التي تجري في شوارع بلا بلاليع ، وتنسال في جداول مكدرة بالطين ، مسرعة بتهور ايرلندي تجاه البحيرة – بل أيضا أن كل منزل كان يظهر كأنه مبلل حتى فاحت منه رائحة الرطوبة ، وأن الأسقف طورا حجرية وطورا قشية. وكانت الحجرية منها ضعف طول تلك القشية ، وكل فجوة بينها تبدو كأنها مدخل لمياه الجنة.
أما سكان باليموي فهم أعجوبة المدينة الثانية. لم تكن مجاعة آنذاك ، ولم يكن العفن بين البطاطس ، وكانت الآراض تؤجر بتسع أو عشر أو احدى عشر باوندا للفدان. وفي آناء الليل والنهار ترى في باليموي رجالا معافين يقفون في الشوارع ، يلبسون بناطيل إلى الركب ، غير مزررة ، وجوارب طويلة متدلية على أحذيتهم ، ومعاطف صوفية مفروقة الذنب. وبالرغم من كونهم عاطلين عن العمل ، لا يبدو أنهم يعانون من الفقر. لا شك أن هناك الكثير من الشحاذين في باليموي ، لكني لم ألحظ كثرة الفقراء في تلك الأيام. فكانت الأرض تجود بطاطس ، ولم يحتج لا انسان ولا خنزير إلى أكثر من ذاك.
شاء القدر أن أبقى في باليموي أسبوعا لعمل لا أريد ازعاج القارئ بشأنه الآن. لم أكن في ذلك الوقت أعرف عادات أهل كانوت (اقليم غرب ايرلنده يضم عدة مناطق منها جالواي) – كما عرفتها فيما بعد. وكنت في ريبة من أمرهم وأنا داخل القرية في عربة استأجرتها من تشوام. كنت قد جئت للتو من دبلن ، حيث قيل لي أن ثمة ما يسمى فندقان في باليموي ، أحدهما قد لا تكون فيه بعض وسائل الراحة التي يمكن أن أتطلبها أنا كانجليزي. فهكذا سألت عن (الفندق) الذي يديره بات كروان. وكان حريا بي أن أكون دقيقا ، فالفندق الآخر يديره لاري كروان.
استغرقت الرحلة من دبلن ليلة ونهارها – أسافر كما كنا نسافر حينذاك في ايرلنده ،بالقوارب والعربات. وبعد أن أكلت في تشوام ، وصلت باليموي في ليلة من ابريل ، بردانا جدا . وكنت قد مت من التعب.
فقلت للسائق بشيء من الغضب : ( فندق بات كروان. انتبه ولا تذهب إلى الآخر )
فقال : ( طبعا يا سيدي . ولم لا تذهب إلى فندق لاري؟ فالأب جايلز هناك وقد تستأنس به أكثر مما لو بقيت هنا )
لم أعرف أي شيء عن الأب جايلز ، ولم أرد معرفة أي شيء عنه. كل ما عرفته أن على الذهاب إلى ( فندق ) بات كروان. فأصررت.
كانت الشمس تغرب ، وكانت الرياح تهب في شارع باليموي محملة بالمطر. في غرب ايرلنده يأتي مناخ مارس في ابريل. يأتي بقوة ، لكن ليس كالعواصف الانجليزية الشرقية ، التي لا تعرف الرأفة.
في هذه اللحظة كدت أدق عنقي وأنا أحاول ابقاء رأسي منتصبا في العربة. ودخلت المياه إلى مقعدي ، وتوقف الحصان ست مرات في آخر دقيقتين ، فلم أكن سعيدا أبدا. وفي آخر عشر دقائق كنت أرى الشر في كل شيء ايرلندي وخصوصا كانوت.
أوصلني السائق إلى بيت في آخر الشارع بثلاث زوايا ، غريب الشكل ، مظهره لا يمت بأي صلة بالنزل.
فقلت : ( هل هذا فندق بات كروان؟ ) فقال السائق : ( نعم هذا هو اذا يا سيدي. وان كان الأب جايلز.......)
لكني كنت قد ضربت الجرس ، ففتحت الباب فتاة حافية ، ودخلت في ممر ضيق دون سماع المزيد عن الأب جايلز.
( أيمكنني استئجار غرفة فيها نار مشتعلة فورا؟ ) لم تجبني الفتاة وقادتني إلى غرفة الجلوس ، حيث استقبلتني رائحة غريبة : رائحة بقايا ويسكي ساخن ممزوج بكثير من السكر. وتركتني الفتاة في الغرفة.
فقلت بشيء من الغضب وأنا أقترب من الباب : ( أين بات كروان نفسه؟) ... فليتذكر القارئ أني كنت مرهقا جدا. كما أن الصخب والجلبة مفيدان في غرب ايرلنده.
قلت : ( إن لم تكن لديك غرفة ، ذهبت إلى فندق لاري كروان فورا) فقال السائق ( فندق لاري غير بعيد ياسيدي ، وقد مررنا به من قبل. لكنك يا سيدي بالتأكيد لا تفكر في الرحيل عن البيت لهذا السبب) قال السائق هذه الجملة الأخيرة لأن امرأة بات كروان كانت وراءه. فطمأنتني السيدة كروان أنهم سيضيفونني. كان البيت مزدحما حقا ، لكنها قامت بترتيباتها : فراش جاهز. أما النار التي أردت فلم تنصحني بها وقالت بحماس : ( الرياح تهب في المدخنة. والسيد مك هاكت لا يريد أن يساعد في إصلاح رأس المدخنة فهو يريد العمل في القصر. تبا لكل مفصل في جسده) .. لكن صداقتها هي ومك هاكت البناء كانت حسنة على أي حال.
ثم أفصحت عن رغبتي في الذهاب إلى غرفة النوم فورا – ومن دون نار. فقادوني إلى الطابق الأعلى. وعندما سألت أين أفطر وآكل في الغد ، قالوا لي أن الغرفة التي تفوح منها رائحة الويسكي هي المخصصة للأكل. في السابق كنت مغتاظا بعض الشيء ، لكني لما سمعت ما سمعت صممت أن أكون مبرطما. فأنا لم يضايقني الافطار في تلك الغرفة ، لكني رأيت أمامي سبعة أيام من البؤس – فالغرفة الوحيدة التي يمكن أن ألوذ بها ، تأتي كل باليموي كما هو واضح للشرب والتدخين فيها. على أية حال لم يكن لدي خيار آخر لامضاء الليلة والصباح التالي ، فبلعت غضبي من غير شكوى. ولحقت الفتاة الحافية إلى الأعلى ، وأنا أرى حقيبتي تحمل أمامي.
إن الانجليز الآن لا يعرفون ايرلنده حق المعرفة ، لكن معرفتهم بها تحسنت عما مضى .. في أول رحلة لي إلى كانوت ، كنت خائفا من أن أقع ضحية لهمجية أناسها الذين لا يعرفون القانون. فلقد رأيت في ليل عاصف ماطر حشودا من السكان واقفين أمام أبواب النزل – كنت أكاد أميز سيقانهم وقبعاتهم الممزقة. فتصورت أن باليموي احدى تلك المناطق النائية عن الحضارة والقانون : أي أنها غير آمنة لانجليزي بروتستنتي مثلي. وأنا تكفلت بالعمل الذي يجب القيام به هنا دون أن أعي حقا ما أنا مقبل عليه – وكنت مصمما على اتمامه. لكني أعترف أني عرفت المخاطر المحدقة بي. فلقد قررت سابقا أن لا أغفل عن حقيبتي ولو للحظة. سأعيش بلصقها ، وأتشبث بها ، وإن لزم الأمر أموت في سبيلها. فأمرتهم أن يحملوا الحقيبة إلى الأعلى قدامي ، فاستقرت آمنة في غرفة النوم. وكان الدرج ضيقا ، تقترب زاويته من التعامد مع الأرض ، فكأني وأنا أصعده أتسلق جبلا. بني هذا البيت بطريقة همجية غير حضارية ، فلا يدري المرء أكنيسة يرى أمامه أم فندقا. مبنى مثلث ، كله زوايا. لم أر بناء يزعج العين كهذا قط. نادوني من أعلى الدرج لأدخل الغرفة المنتقاة ، لكني لم ألحظ آخر درجة وفي عيني وميض شمعة صغيرة ، فتكبكبت على وجهي نحو الغرفة وأنا أسب بات كروان وباليموي وكل كانوت.
أرجو أن يتذكر القارئ أني سافرت ثلاثين ساعة متواصلة ، وقضيت خمسة عشر ساعة في قارب غير مريح لا أستطيع المشي فيه. وفي آخر ثلاث ساعات لم ترحمني الرياح وهي تعصف بي. كنت مرهقا جدا، وكنت اكلم الفتاة الحافية بفظاظة.
فقالت الفتاة براحبة صدر : ( بالتأكيد ياسيدي ، هو نظيف كل النظافة ويابس كل اليبس. وقد نام فيه رجل في كل ليلة منذ العاصفة الكبيرة ) ثم بدأت تخبرني عن الأب جايلز. لكني لم أسمع أي كلمة وهي تنحني لترتب لحاف الفراش. وقالت : ( المسه يا سيدي .... يابس كل اليبس )
وكان اللحاف حقا لما لمسته نظيفا يابسا ، والفراش مع أنه صغير جدا إلا أنه كان يبدو مريحا. فلطفت نبرة صوتي معها وطلبت منها إيقاظي في الثامنة صباح الغد.
فقالت : ( طبعا يا سيدي ، وسيوقظك الأب جايلز بنفسه )
فقلت لها ألا تطلب أي شيء من الأب جايلز. لكن الفتاة أصرت أنه سيوقظني ، وتركتني.
هل يعقل أن من مهام قسيس الأبرشية ، في هذا المكان الهمجي ، أن يدور على كل فراش لإيقاظ أي نائم لصلاة الفجر ، أو اي طقس آخر من طقوس الكاثوليك المستنكرة؟ لقد حذرتني أمي ، التي كانت امرأة صارمة ، بشدة من دسائس قساوسة ايرلنده ، وكنت أنا حقيقة أسخر منها دوما. هل مثل هذه الدسائس موجودة حقا ؟ هل يمكن أن يمنعوني بنطالي إلى أن أحضر القداس ؟ أم أنهم سيجبرونني بطريقة كريهة أخرى ؟
بدأت أستعد للنوم متجاهلا ذلك ..... والمخاوف الأخرى – أو ربما من الأفضل القول أني كنت مصمما على مواجهة أي مصيبة تأتي من الليل أو النهار بشجاعة. كان هناك شيء طيب في مغامرة النوم في فندق بات كروان ، بدلا من النوم في غرفتي في شارع كبل في ميدان رسل. فضحكت في نفسي على فكرة بات كروان عن الفنادق ، وأفرغت حقائبي.
كانت هناك طاولة صغيرة مغطاة بقماش نظيف ، لمحت عليها مشطا صغيرا. فحركت المشط بحذر دون مسه ، وجلبت الطاولة إلى جانب فراشي. أخرجت فرشي وملابس نظيفة للصباح ، وقلت صلواتي : متحديا بذلك الأب جايلز هو ودسائسه ، ووثبت إلى الفراش. وكان الفراش وثيرا حقا ، واللحاف طيبا جدا. وما إن مرت خمس دقائق حتى استغرقت في النوم.
لم أدري كم مضى من الوقت ، لكني استيقظت في آخر الليل عندما سمعت خطوات في غرفتي. ولما قفزت رأيت رجلا عجوزا طويلا سمينا يستدبرني ، في منتصف الغرفة ، وينظف ملابسه بفرشاة بكل تفان. لم يزل معطفه على ظهره ، وبنطاله على رجليه – لكنه كان شديد التركيز على كل جزء من جسمه تصل إليه يده.
فجلست على الفراش ، وظللت أحدق به عشر دقائق ، كما ظننت حينها – فلنقل أن المدة كانت في الأغلب أربعون ثانية فقط. لكني تيقنت من شيء واحد : ألا وهو أن الفرشة التي يستخدمها ملكي! وأنا لا أعرف ان كان هذا التصرف وفقا لقوانين ايرلنده أم لا .. لكني شعرت أنه لا بد ملزم ، إن كانت هذه الحال ، أن يستعمل على الأقل فرش الفندق ، أو فرشه الخاصة به ، فهذا تعد واضح على أملاكي!
فقلت له بحدة لأفجعه : ( يا سيد مالذي تفعله هنا في هذه الغرفة ؟ )
فقال السمين : ( أنا فعلا لآسف على ايقاظك يا بني )
( ألا تريد أن تخبرني ما تفعل هنا ؟ )
فقال الرجل مستغربا : ( أنا في هذه الآونة أنظف ثيابي .. إي .. هي متسخة )
( متسخة .. وأنت تنظفها بفرشاتي )
( هذا صحيح أيضا. فما بيد الرجل ان لم يملك فرشة إلا أن يستعمل فرشة غيره )
( أعتقد أنك في حريتك تطغى يا سيدي )
( وأنا أعتقد أني في حدودي. على كل حال نحن نختلف على نطاقها فقط. عذرا. هاك فرشتك. أرجو أن تكون سليمة )
ثم وضع الفرشة ، وجلس على أحد الكرسيين الموجودين في الغرفة. وبدأ في خلع حذاءه ببطء وهو ينظر إلى طوال الوقت. فقلت : ( ما أنت فاعل يا سيد ؟ ) وأنا أخرج قليلا من تحت اللحاف وأستند إلى الطاولة.
( أستعد للنوم )
( أين ؟ )
قال ( هنا ) واستمر في فك رباط الحذاء.
لطالما كانت عندي نظرية ، عن كل البلدان لا عن بلدي خاصة ، وهي أن الحضارة تظهر جلية ناصعة ، عندما يقضى أن لكل امرئ فراشه الخاص به. في الأيام الخوالي ، كان الرجال الإنجليز الموسوري الحال لا يرون بدا في النوم مع بعضهم البعض ، كما يقال لي أن النساء ما زلن يفعلن الآن. ( رجال يفترض حسن مسلكهم وتعلمهم ) . وإلى الآن تسود هذه العادة بين الناس في المناطق النائية. وسيقال لك في أجزاء من أسبانيا أن فراشا واحدا يأوي ويكفي رجلين. ويعتبر متزمتا في البلدان الإسبانية الأمريكية من يزعجه نوم شخصين على جانبيه. ولم تظهر علامات الحضارة تلك عندنا بين الطبقات الفقيرة. ولعل كانوت كلها هي الأخرى خالية تماما من هذه العلامات ، فمن الواضح أنها ليست موجودة في باليموي.
جلست على الفراش فجأة وقلت : ( لا نوم لك هنا ) فقال العجوز : ( ستجدك مخطئا في هذا. بل استرح لن أمسك بسوء. وأنا هادئ النوم كالفئران.)
فتيقنت أن الوقت وقت عمل ما وقت كلام. فأنا ما كنت لأسمح أبدا لهذا الرجل أن ينام في فراشي. فأنا أول الواصلين هنا ، وصاحب ومالك هذه الغرفة لهذه الليلة على الأقل ، وأيا ما كانت عادات البلد في هذه المناطق الوحشية ، لن تبرر معاملة مالك الفندق معي هكذا.
فقفزت من فوق الطاولة إلى الأرض. وقلت وأنا أتصدى للغريب لحظة خلعه حذاءه الأيمن : ( لن تنام هنا يا سيدي .. لن تنام الليلة هنا. فاذهب.)
بعد ذاك التقطت حذاءه ، وذهبت به إلى الباب ، ثم قذفته خارجا. فسمعته يتدردب على الدرج. وسعدت لأنه كان يسقط بكل هذه الجلبة. الآن سيدرك الرجل حتما أني جاد فيما أقول.
وقلت : ( حبذا لو لحقت بحذائك بسرعة )
لم أر الرجل بوضوح بعد ، ومع أني الآن أضع يدي على كتفه إلا أني كنت بالكاد أميزه. كانت الإضاءة ضعيفة من شمعة رخيصة كادت تحترق في أصلها. وأنا نفسي كنت حيرانا قلقا قليل الانتباه. لقد عرفت أن الرجل يكبرني ، لكني لم أدرك أنه عجوز إلى درجة تضمن حسن تصرف الناس معه.
كان طويلا ضخم الكراديس ... هكذا بدا لي عندها. ظل الرجل هادئا دمثا ، إلى أن قذف حذاءه. فلما سمع دبدبة الحذاء بدا وجهه ممتعضا وجعل يتكلم بغضب وبسرعة. لم أناقشه ولم أفهمه ، لكني أصررت وأنا ما زلت أمسك بخناقه على أنه لن ينام هنا. لا بد له من الخروج من هذه الغرفة.
فصاح الرجل عدة مرات : ( لكنها غرفتي. غرفتي. غرفتي أنا )
هذا هو اذا بات كروان شخصيا. لعله سكران أو مجنون.
فقلت : ( قد تكون ملكك لكنك أجرتها لي الليلة ولن تنام فيها )
وبهذا أخذت أدفعه نحو الباب .. وإذ بي أطأ رجله الحافية. فقال : ( كم أنت مزعج أيها الإنجليزي العنيد. لقد خنقتني. أترك عنقي قبل أن تفتك بي )
أسفت لوطئي رجله لكني بقيت ممسكا به. كان بالقرب من الباب الآن وكنت مصمما على إخراجه من الغرفة. وكان وجهه مكورا ، أحمر جدا. ظننت أنه سكران. ولكم تضاعف غضبي منه عندما عرفت أنه مالك الفندق بات كروان.
قلت له وأنا أدفعه نحو الباب : ( لا نوم لك هنا .. فمن الأفضل لك أن تذهب )
ظل الباب مفتوحا مذ رميت حذاءه. وبعد صراع وجيز عند عضادتي الباب تمكنت من إخراجه. لم أتذكر أن الدرج يفاجئ الخارج من الغرفة حتى كأنه بلصقها. لقد كنت في نوم عميق قبلها ، ولم أكن واعيا بالضبط أين أنا. فلما أخرجته من الباب الصغير ، دفعته ، كما كان من الطبيعي في نظري أن أتصرف معه. فسقط الرجل على قفاه. سقط على الدرج مثل الكرة. وسمعته يصطدم بامرأة بات كروان التي كانت لا شك قادمة لتستفسر عن سبب كل هذا اللغط.
برق أمل في ذهني أن المرأة ستكون عونا لزوجها في محنته هذه. لقد سقط الرجل بقوة. سقط على قفاه. وتذكرت كما كان الدرج سحيقا. يا رب! تخيل أنه مات أو حتى أصيب إصابة بالغة في عقر داره، ما قيمة حياتي في هذه الحالة في هذا البلد الموحش ؟ حينذاك بدأت أندم على ما فات من عصبيتي. فقد يحدث أني قتلت رجلا في أول رحلة لي إلى كانوت.
احترت برهة ماذا أفعل. كانت السيدة كروان وخادمتها مشغولتين بجثة الرجل المطرود. تذكرت أني لا أزال ألبس قميص نومي ، فرجعت إلى الغرفة وهممت أن أغلق الباب ، بيد أنه لم يرتح لي بال للعودة إلى الفراش دون التحري عن مصير الرجل. فأخرجت رأسي من الباب ، وتحريت.
( أرجو ألا يكون أصيب إصابة بالغة من السقطة )
( وي! جريمة .. جريمة! بالله عليك تكلم يا عزيزي )
سمعت تلك وولولات أخرى من النساء في أسفل الدرج. فقلت مرة ثانية : ( أرجو ألا يكون أصيب إصابة بالغة ، لكن ما كان عليه أن يتهجم على غرفتي )
فقالت السيدة كروان : ( يقول غرفته الأحمق! أنت أصلك غبي! ) وقالت الخادمة المنحنية على الجثة المنبطحة : ( نعم يا سيدتي والأب جايلز بمثابة رجل ميت )
سمعتها تقول الأب جايلز بوضوح . بعدها أدركت أن الرجل الذي طردت لم يكن مالك الفندق بل قسيس الأبرشية! سقم فؤادي وأنا أفكر في المشكلات التي تحاصرني. وحالت بي الحال من خوفي من أن يكون الرجل أصيب إصابة خطيرة. ولكن لماذا ؟ .. لماذا تهجم على غرفتي ؟ وكيف كان لي التذكر أن درج البيت الملعون بلصق باب الغرفة ؟
سمعت أحدهم بالأسفل يقول : ( يجب أن يشنق إن كان قانون في ايرلنده ) .. وإلى حد علمي احتمال أن أشنق احتمال وارد جدا. فلما سمعت ما قيل بدأت أعتقد أني حقيقة قتلت رجلا. فجعلت أقلق قلقا شديدا ، وبقيت مدة أرجف حيث أقف. ثم تذكرت أنه حقيق بي كرجل النزول إلى أعدائي ، ومعرفة ما حصل فعلا ومن آذيت. ولتكن العواقب كما تكون.
فلبست ثيابي بسرعة : بنطال ومعطف فضفاض ونعال. ثم نزلت. كانوا إذاك قد أخذوا القسيس إلى غرفة رائحة الويسكي ، ومع أن الوقت متأخر إلا أن ستة أوسبعة أشخاص كانوا معه. أحدهم بات كروان نفسه ، الذي لم يكلف نفسه عناء تبديل ثيابه كما فعلت أنا.
وكان الرجل ، الذي طلع أنه فعلا قسيس الأبرشية ، قد أجلس على مقعد ، مسندا رأسه إلى السيدة كروان. عرفت على أية حال من أناته أنه لم يزل أمل في حياته.
وكان بات كروان نصف نائم ، ولا يفهم ما يحصل بالضبط. ثم عرفت بعدها أنه كان منتشيا أيضا ، وهو يقف بحذو الأب جايلز ويهز رأسه يمنة وميسرة. وكانت الفتاة الحافية موجودة أيضا ، ومعها امرأة عجوز ورجلان أتواا جميعا من المطبخ.
قلت : ( هل استدعيتم الطبيب ؟ )
فقالت السيدة كروان : ( أنت أصلك وغد . يا لص العالم! ما كان لمثلك أن يدخل من بابي )
( لست بأندم مني على الدخول من بابك يا سيدة كروان. ولكن ألا يحسن بك استدعاء الطبيب ؟ )
( أجل . وثق أيها الشاب أن الشرطة آتية أيضا. هكذا ترمي الرجل من الغرفة .. ومن غرفته أيضا. ترمي قسيسا عجوزا. الرجل الذي منحك نصف غرفته مع أني طلبت منه ألا يفعل .. ولمن ؟ لرجل لا أحد يعرف شيئا عنه )
جعلت الحقيقة تظهر تدريجيا. لم يكن الرجل الذي طردت الأب جايلز وحسب بل كان أيضا هو مالك الغرفة. على أي حال كان عليهم أن يعلمونني بهذا ، قبل أن أنام في فراش القسيس.
شققت طريقي إلى الرجل المصاب. ووضعت يدي على كتفه ، بزعمي سأستعلم عن مدى خطورة الإصابة. وإذ بالمرأة الغضبى والفتاة تبعداني عنه ، وتثقلان على بالملامات ، وتهددان بمشنقة جالواي.
وكنت أتطلع لمجيء الطبيب في أسرع وقت ممكن ، فلما وجدتهم لا يفعلون شيئا ، اقترحت الذهاب لطلب أحدهم. ولكني فهمت منهم أن لا سبيل لخروجي من الفندق حتى تأتي الشرطة. فكان على البقاء نصف ساعة تقريبا ، إلى أن يأتي رقيب وشرطييان. وفي كل ذلك الوقت بات ذهني في حالة يرثى لها. فأنا لا أعرف أحدا لا في الحي ولا في باليموي كلها.
ومن الطريقة التي كانوا يخاطبوني بها ، ومن تهديدات السيدة كروان ، وكل من دخل أو خرج من الغرفة ، أدركت أنهم سيكونوا جميعا شديدي العداء لي. ولقد سمعت عن جرائم القتل الايرلندية ، وعن حب الناس لقساوستهم ، فبدأت أشك في بقائي على قيد الحياة.
وبينا كذلك إذ بالأب جايلز يعود إلى وعيه. لقد أغمي عليه من السقطة ، ثم صحا ، لكن لم يعد إلى رشده كرة واحدة. ولم يبد عليه خلال الوقت الذي تركت معه وحده أنه يتذكر أحداث الساعة الماضية.
ثم تمكنت من الاكتشاف مما قيل ، أنه استأجر الغرفة منذ شهر ، وأنه كان لما وصلت يشرب الشاي مع السيدة كروان. وكانت الغرفة الوحيدة الأخرى مسكونة. فسمح هو بكل طيب نفس للسيدة كروان أن تسكن الساكسوني الغريب في غرفته. تبدى لي كل ذلك تدريجيا ، فلا جرم أن السيد كروان كانت تراني وضيعا ناكرا للجميل. ولم أجن أي فائدة من ذلي لهم ، واذعاني لكل ما يقال من حولي ، ولا من نقاشي وشرحي الموقف لهم.
قلت : ( لكن يا سيدتي ، لو أنكم على الأقل قلتم لي أنه فراش السيد الموقر ، لما حصل ما حصل )
فقالت السيدة كروان : ( إي! الذي يسمع الرجل يحسب أننا قد نطلب من الأب جايلز النوم في نفس الفراش مع أمثاله ، وفي الغرفة فراشان من أجود ما نام عليه المسيحيون )
كانت تلك معلومة جديدة بالنسبة لي. مع أني كنت أعرف من قبل أن أخلع ثيابي للنوم ، أن في الغرفة فراشين! لقد رأيتهما ، لكني نسيتهما مع الربكة التي حصلت لما استيقظت. فشعرت الآن أني جد كنت غبيا جدا. بيد أني فعلا صدقت أن الرجل الضخم سيدخل فراشي الصغير. بئس ما فعلت : إن القسيس الدمث قبل أن يأوي رجلا لا يعرفه في غرفته ، فكان رد جميله أي يلقى حتفه! وبالرغم من أني كنت أمقت نفسي في تلك اللحظة من كل قلبي ، إلا أني لم أستطع أن أرى الموقف كما رأوه هم. فكانت لي أعذار .. لو أن أحدهم أصغى إلي.
قلت : ( كان يستعمل فرشاتي ، فرشة ثيابي. وليس الأمر أني لا أريده أن يستخدمها ، لكني اعتقدت أنه لص )
فقالت لي امرأة بكل ازدراء : ( ما كل هذا الكرم !؟ )
فقال القسيس : ( أجل استخدمت احدى فرش السيد )
كانت أول كلمات مفهومة ينطق بها ، ولكم سعدت بها. فإن الرجل الذي يتذكر استعماله فرشاة لا يمكن أن يكون مشرفا على الموت ، حتى ولو سقط على درج سحيق كدرج فندق بات كروان.
فقلت للأب جايلز : ( على الرحب والسعة يا سيدي. لا شأن للفرشاة بالأمر .. أبدا. كل ما في الأمر أني ظننت أن ليس في الغرفة إلا فراشا واحدا. وهم أعطوني الغرفة وما قالوا لي أي شيء عنك. تصور أنت في أي حال كنت لما استيقظت في منتصف الليل. )
فقال أحدهم : ( إي ولك كل الوقت الذي تريد لتصوراتك حيث تذهب ... سجن باليموي )
لا أعرف كيف أصف لكم الغضب والكره الذي من حولي. لم يكونوا عنيفين معي ، لكني لا أتحرك حركة إلا أرى منهم تصميما واضحا على عدم السماح لي بالخروج من الغرفة. وتحدجني أعين حمراء ، وكل كلمة أنبس بها تقابل بعبارات استحقار تبدي سوء نية قائليها. فغدوت سعيدا بمجيء الشرطة ، بظني سأحتاج إلى حمايتهم. لقد خجلت مما فعلت خجلا شديدا ، لكني ما وجدت أني أخطأت في شيء معين. فليسأل الرجل منكم نفسه : ماذا يفعل إذا دخل عليه رجل ضخم وأصر أن ينام في فراشه؟ وليس ذنبي أن الدرج بلصق باب الغرفة.
جاء شرطييان ، ثم جاء بعيدهما رقيب ومعه طبيب وقس اسمه كولمب ، عرفت بعدها أنه كان معاونا للأب جايلز. كان هناك جمع من الناس في الفندق ، مع أن الساعة تعدت الواحدة. وكأن كل باليموي عرفت أن قسيسها أسيئ إليه. وكان جليا لي أن ثمة شيء في الديانة الكاثوليكية ، يجعل القساوسة يحظون بحب جم لدى جماهيرهم. فأنا أشك إن حدث مثل ما حدث في قرية انجليزية ، أن يثور من أجله أهلها في منتصف الليل ، ليأخذوا ثأرهم من المجرم. فلقد بدأ الناس هنا يصرخون لأخذ ثأرهم مني ، وحتى قبل مجيء الرقيب كان الشرطييان يقفان بحذوي. وشعرت أنهما لا يحمياني إلا لكي يتمكنا من شنقي!
لم يعجبني الطبيب بتاتا ، لا أول مرة رأيته ولا في بقية رحلتي في باليموي. لما جاء شق طريقه عبر الناس إلى القس ، وظل صامتا لا يقول أي شيء عن حالته ، لا يرضي الناس الشغوفين بالقس ولا يريح أعصابي. بل بات يردد كيف أن المجرم الذي فعل هذا متوحش ، وأن هذه إساءة فظيعة لا تغتفر. وكل كلمة ينطق بها ، تشجعه السيدة كروان على المزيد.
( إي يا طبيب! هذا الكلام. فراشان من أجود ما نام عليه المسيحيون. والغرفة كانت ملك الأب جايلز منذ أن اقتلعت العاصفة سقف بيته )
هكذا كانت القصة تظهر لي شيئا فشيئا. اقتلعت العاصفة سقف بيت القس فذهب ليسكن في الفندق ، ثم وافق أن يقتسم غرفته مع غريب ، فكان هذا جزاؤه!
فقلت بكل وداعة : ( أرجو أن يكون السيد بخير ) فقال الطبيب بغضب : ( أوتظن رجلا مثل هذا يقع من على درج عال ويبقى سليما معافا؟ لقد كدت تكسر عنقه )
فعلا الصخب في الغرفة فاقترب الشرطييان مني ، وكأنهم يريدون فعل شيء لئلا أمزق إربا. فرأيت أنه من واجبي - على الأقل كساكسوني – أن أظهر شجاعا أمام (الكلت). فتكلمت مرة ثانية لكن بصوت عال : ( ليس في الغرفة مغموم بما حدث أكثر مني . أنا قلق جدا على الرجل وأريد معرفة اذا أصيب اصابة خطرة )
فقال الطبيب : ( أجل اصابة خطرة جدا. فمن المحتمل مما عرفته الآن أن يكون عموده الفقري مصاب )
فقال رجل غاضب : ( هل تعتقد يا رجل أنه سيقع على قفاه على سلم صغير كهذا ولا يزعجه الأمر؟ ما مسه سوء إلا لأنه قس ، ولأنه سعيد الحظ ، ولا فضل لك في ذلك )
علمت بعد ذلك أن الرجل ضابط في هيئة الجباية التي كان مقرها في باليموي. ولقد عرفته جيدا فيما بعد : النقيب توم مكديرمت من منطقة ليترم.
فقال الأب جايلز : ( على رسلك يا توم ) ولكم فرحت لأنه تكلم. سكت الجميع لحظة. ثم قال الأب جايلز : ( قل للسيد أن لا بأس علي ) ومن تلك اللحظة شعرت بمودة نحوه ما وهنت بعدها أبدا.
أرجعوه إلى الغرفة التي طرد منها. وأخذوني أنا إلى قسم الشرطة ، حيث أمضيت الليلة. وأي ليلة هذه! لقد جئت من لندن مباشرة ، ونمت نومة واحدة فقط كانت في دبلن ، ووجدت نفسي الآن على لوح – على أساس أنه فراش – في ثكنة شرطة باليموي! وأسوأ ما في الأمر أن عملي هنا يتطلب أن أكون وقورا محترما.
طمأنتني كلمات القس تلك ، وأمكنتني من التفكر في أمري. لماذا أنا في السجن؟ لم يقض علي أي قاض. إن السؤال هو : هل فعلت أي شيئ غير قانوني؟ إن الأمر كما قال النقيب توم : اذا كان الناس يضعون سلالم صغيرة بدلا من الدرج في بيوتهم ، كيف يطرد الرجل المقتحم عليه ولا يكسر عنقه؟ أما فيما يخص القول أن الدخيل ما كان دخيلا فعلا وإنما صاحب الغرفة ، فليس الغلط غلطي بل غلط آل كروان الذين لم يقولوا لي الحقيقة.
وبالرغم من أنهم أعطوني ملاءات في قسم الشرطة إلا أن اللوح الذي أنام عليه كان قاسيا جدا. بدأت أذكر نفسي وأنا مستلق عليه أن لا بد من وجود قانون في ايرلنده. فناديت الشرطي المناوب وسألته بأي حكم أسجن.
فقال : ( لا تزعجنا لقد أزعجت الناس بما فيه الكفاية الليلة )
كانت الشمس تبزغ فانقلبت على جنبي وبيت النية على أن أبدو شجاعا عندما يبدأ اليوم.
كان النقيب توم أول من رأيت في الصباح. جاء إلى ثكنتي يتبعه صبي بحقيبتي. وكان مفتش الشرطة يعيش في أورنامور فما كان لي التشرف برؤيته. لكن النقيب أكد لي أنه رجل طيب. وكان أفراد الشرطة يطيعونه ، فمن الواضح أنهم على علاقة جيدة بضابط الجباية. فقال النقيب : ( سأقول لك إذا ياسيد جرين ما يجب عليك فعله ) فقلت : ( أولا أريد أن أحتج على سجني هكذا مظلوما ) فقال : ( أرح أعصابك ) فقلت : ( عذرا يا سيدي لكني لا أعرف سوى اسمك الأول )
( اسمي توم مكديرمت ويسمونني هنا النقيب ، لكن هذا ليس مهما )
( أظن يا سيد مكديرمت أن ليس من حق الشرطة سجن من تشاء من غير ما تفويض )
( وماذا كان حل بك إن لم يسجنوك؟ لكنا وجدناك في قاع البحيرة الآن )
وقد يكون مصيبا في ذلك. فقررت أن أصفح عن هذه الإهانة ، شرط أن أضمن معاملة عادلة منهم في المستقبل. وقال لي النقيب أن الأب جايلز بخير : ( لو ما كان الأب جايلز قويا كالحصان لكان ميتا الآن. قفاه أسود كسواد قبعتك من الكدمات. أنت تعرف أن رجلا ما عاد يافعا يقع فتكون وقعته أليمة. لكنه مرح مرح ابن الرابعة. عليك أن تفطر معه في غرفته حتى ترى بعينك أن في الغرفة فراشين.) فقلت : ( نعم تذكرت ذلك بعدها ) فقال : ( ضحك الأب جايلز ضحكا عاليا لما سمع أنك حسبته سينام معك في الفراش ، حتى عادت عليه آلامه ، وظننته وهو يصرخ من الألم سيخيف الفندق بأكمله. على أي حال يجب عليك أن تراه. فمن الأحسن أن تلبس ثيابك. )
كانت هذه الدعوة فعلا شيئا جيدا. ليس لدي أي ضغينة نحو الأب جايلز. فلقد أحسن التصرف طوال الوقت. وكنت أعرف أن طلعته البهية ستوفر لي حماية من الناس ، ليس بمقدور أي قانون أن يوفرها لي. فارتديت ثيابي في الثكنة والنقيب خارجها. وأخذت بمشورته فذهبت في زيارة ثانية إلى فندق بات كروان. تفاجأت أن الشرطة أطلقوا سراحي من غير مشكلات ، مع أن النقيب توم لم يأمرهم بأي شيء. ولما لمحت له بذلك قال: ( لا بأس فاسمك لم يسجل عندهم. كنت هناك لحمايتك انت فقط )
بيد أنهم أخذوني إلى السجن بالقوة ، وأسروني بالقوة أيضا. لكن ان كانوا هم على استعداد أن يتغاضوا عما سلف فأنا أيضا مستعد للتغاضي. لم أرجع إلى الثكنة أبدا. ولما كنت أرى في الشارع رجال الشرطة الذين تعرفت عليهم ، كانوا يعاملونني دوما كما لو كنت صديقا قديما. ويسألونني اذا وجدت فراشا أفضل من الفراش الذي تعرفوا علي بسببه. لكني لم ألمح أي ود في أعينهم وهم واقفون فوق رأسي في الفندق.
رأيت باليموي والفندق لأول مرة في النهار. فوجدت الآن أن السيدة كروان كانت تدير بقالة أيضا ، وأن المبنى ذا الثلاث زوايا الذي تعجبت منه كان صغيرا جدا. ولو كنت رأيته قبل أن أدخله ، لما حاولت أن أجد غرفة فيه. لكني بقيت فيه بعد ذلك اسبوعين مرتاحا تماما.
وكان الناس يقفون حول باب الفندق زمرا زمرا . فهمس النقيب في أذني : ( جاءوا كلهم لأنهم سمعوا أن ساكسونيا شنيعا قتل الأب جايلز في الليل. وليس بينهم من لا يعرف أنك ذاك الساكسوني ) فقلت : ( لكنهم يعرفون أن الأب جايلز حي يرزق أليس كذلك ؟ ) فقال : ( إي يعرفون ذلك وإلا ما كنت وجدتني بجانبك يا حبيبي. هيا . لا نريد أن نتأخر على الأب جايلز )
كان بامكاني رؤية الناس يلحظونني بأعينهم ، وما راقت لي رمقات بعضهم وخصوصا النساء منهم. فكان واضحا أنهم يتحدثون عني ، بالجايليكية ( لغة ايرلنده القديمة ) فقال لهم توم : ( إن الأب جايلز الحمد لله في أحسن حال. تعرض لحادث فقط. ألا تفهموا ؟ )
فقال أحدهم : ( حادث عن قصد )
فقال النقيب : ( وما شأنك أنت يا مك هيلي؟ أوليس يكفي أمثالك أن الأب جايلز راض! دع عنك هذا واترك الرجل يمر )
ثم دفعه بعنف فأخلى البقية الطريق.
( لن يدخلوك من الباب حتى يأمروا هكذا ، وإلا قطعوك إربا )
ولعل النقيب يبالغ ، فهو لا شك يريد أن يرفع من مقدار معروفه في عيني. لكني كنت أعرف أني فعلت شيئا خطيرا ، وأني نفذت بجلدي.
وجدت الأب جايلز جالسا على فراشه ، والسيدة كروان مجتهدة في تدليك أكتافه بمرهم. وكانت الفتاة الحافية تمسك دلوا من المرهم بحذوها. ورأيت عنق وأكتاف القس حمراء كحمرة اللحم النيء ، ووجهه يتقبض من شدة الألم ، لكنه كان يتحمله.
فقال الأب جايلز : ( ها هو ذا جاء البطل . كفي يا سيدة كروان حتى نفطر ، فلا بد أن السيد جرين جائع. أرجو أن تكون وجدت فراشا أفضل من الذي وجدتك فيه عندما أيقظتك لسوء الحظ. ها هو هناك جاهز لك. فاسمع مني ونم فيه الليلة ولا تجعل أمرا هينا كهذا يمنعك )
فقالت السيدة كروان : ( وأنا أرجو أن يجد السيد مكانا آخر يأويه ) فقال القس : ( ولم لا يبقى هنا على الرحب والسعة. ولكن كن حذرا إن رأيت رجلا يستعمل فرشاتك . فنحن هنا لا نهتم بهذه الأمور كما تهتمون بها في انجلترا. ولو أنك كسرت عنقي لهذا السبب لكانوا شنقوك شنقا )
ثم جلسنا للافطار أنا والقس والنقيب توم ، وكان الطعام طيبا. وحتى السيدة كروان بدأت شيئا فشيئا ترضى عني. وفي نهاية اليوم كان الجميع يعتبروني صديقا. أما الأب جايلز فكان فعلا يعتبرني صديقه - الآن و لأيام عديدة بعدها. وكان كلما يأتي ليزورني في بيتي في انجلترا كان يحكي حكاية أول لقاء بيننا. ويقول : ( إذا وجدت رجلا نائما ، لا تستعمل فرشة ملابسه إلا إذا أخذت إذنه)
إن باليموي مدينة مجازا – أو أنها كانت كذلك في الأيام التي أتكلم عنها. وهي على مقربة من ضفاف بحيرة (كورب) في منطقة (جالواي) ، على طريق لا يؤدي إلى أي مكان. كانت هي نهاية الطريق ، ولا يجد المسافر ما يجذبه إليها. فطبيعة البحيرة الخلابة لا ترى من باليموي : فالبحيرة ضخمة جدا والمناظر الطبيعية في الجهة المقابلة للمدينة – فيصعب الوصول إليها أو حتى رؤيتها. وحتى صيد السالمون بعيد جدا عن باليموي ، فالنهر الصغير يجري مبتعدا عن البحيرة نحو مدينة (جالواي). وكان في باليموي وقتئذ شارع واحد. مغمور في المياه بشكل يلفت نظر المار فيه. وليس سبب ذلك الوحيد مياه الأمطار التي تجري في شوارع بلا بلاليع ، وتنسال في جداول مكدرة بالطين ، مسرعة بتهور ايرلندي تجاه البحيرة – بل أيضا أن كل منزل كان يظهر كأنه مبلل حتى فاحت منه رائحة الرطوبة ، وأن الأسقف طورا حجرية وطورا قشية. وكانت الحجرية منها ضعف طول تلك القشية ، وكل فجوة بينها تبدو كأنها مدخل لمياه الجنة.
أما سكان باليموي فهم أعجوبة المدينة الثانية. لم تكن مجاعة آنذاك ، ولم يكن العفن بين البطاطس ، وكانت الآراض تؤجر بتسع أو عشر أو احدى عشر باوندا للفدان. وفي آناء الليل والنهار ترى في باليموي رجالا معافين يقفون في الشوارع ، يلبسون بناطيل إلى الركب ، غير مزررة ، وجوارب طويلة متدلية على أحذيتهم ، ومعاطف صوفية مفروقة الذنب. وبالرغم من كونهم عاطلين عن العمل ، لا يبدو أنهم يعانون من الفقر. لا شك أن هناك الكثير من الشحاذين في باليموي ، لكني لم ألحظ كثرة الفقراء في تلك الأيام. فكانت الأرض تجود بطاطس ، ولم يحتج لا انسان ولا خنزير إلى أكثر من ذاك.
شاء القدر أن أبقى في باليموي أسبوعا لعمل لا أريد ازعاج القارئ بشأنه الآن. لم أكن في ذلك الوقت أعرف عادات أهل كانوت (اقليم غرب ايرلنده يضم عدة مناطق منها جالواي) – كما عرفتها فيما بعد. وكنت في ريبة من أمرهم وأنا داخل القرية في عربة استأجرتها من تشوام. كنت قد جئت للتو من دبلن ، حيث قيل لي أن ثمة ما يسمى فندقان في باليموي ، أحدهما قد لا تكون فيه بعض وسائل الراحة التي يمكن أن أتطلبها أنا كانجليزي. فهكذا سألت عن (الفندق) الذي يديره بات كروان. وكان حريا بي أن أكون دقيقا ، فالفندق الآخر يديره لاري كروان.
استغرقت الرحلة من دبلن ليلة ونهارها – أسافر كما كنا نسافر حينذاك في ايرلنده ،بالقوارب والعربات. وبعد أن أكلت في تشوام ، وصلت باليموي في ليلة من ابريل ، بردانا جدا . وكنت قد مت من التعب.
فقلت للسائق بشيء من الغضب : ( فندق بات كروان. انتبه ولا تذهب إلى الآخر )
فقال : ( طبعا يا سيدي . ولم لا تذهب إلى فندق لاري؟ فالأب جايلز هناك وقد تستأنس به أكثر مما لو بقيت هنا )
لم أعرف أي شيء عن الأب جايلز ، ولم أرد معرفة أي شيء عنه. كل ما عرفته أن على الذهاب إلى ( فندق ) بات كروان. فأصررت.
كانت الشمس تغرب ، وكانت الرياح تهب في شارع باليموي محملة بالمطر. في غرب ايرلنده يأتي مناخ مارس في ابريل. يأتي بقوة ، لكن ليس كالعواصف الانجليزية الشرقية ، التي لا تعرف الرأفة.
في هذه اللحظة كدت أدق عنقي وأنا أحاول ابقاء رأسي منتصبا في العربة. ودخلت المياه إلى مقعدي ، وتوقف الحصان ست مرات في آخر دقيقتين ، فلم أكن سعيدا أبدا. وفي آخر عشر دقائق كنت أرى الشر في كل شيء ايرلندي وخصوصا كانوت.
أوصلني السائق إلى بيت في آخر الشارع بثلاث زوايا ، غريب الشكل ، مظهره لا يمت بأي صلة بالنزل.
فقلت : ( هل هذا فندق بات كروان؟ ) فقال السائق : ( نعم هذا هو اذا يا سيدي. وان كان الأب جايلز.......)
لكني كنت قد ضربت الجرس ، ففتحت الباب فتاة حافية ، ودخلت في ممر ضيق دون سماع المزيد عن الأب جايلز.
( أيمكنني استئجار غرفة فيها نار مشتعلة فورا؟ ) لم تجبني الفتاة وقادتني إلى غرفة الجلوس ، حيث استقبلتني رائحة غريبة : رائحة بقايا ويسكي ساخن ممزوج بكثير من السكر. وتركتني الفتاة في الغرفة.
فقلت بشيء من الغضب وأنا أقترب من الباب : ( أين بات كروان نفسه؟) ... فليتذكر القارئ أني كنت مرهقا جدا. كما أن الصخب والجلبة مفيدان في غرب ايرلنده.
قلت : ( إن لم تكن لديك غرفة ، ذهبت إلى فندق لاري كروان فورا) فقال السائق ( فندق لاري غير بعيد ياسيدي ، وقد مررنا به من قبل. لكنك يا سيدي بالتأكيد لا تفكر في الرحيل عن البيت لهذا السبب) قال السائق هذه الجملة الأخيرة لأن امرأة بات كروان كانت وراءه. فطمأنتني السيدة كروان أنهم سيضيفونني. كان البيت مزدحما حقا ، لكنها قامت بترتيباتها : فراش جاهز. أما النار التي أردت فلم تنصحني بها وقالت بحماس : ( الرياح تهب في المدخنة. والسيد مك هاكت لا يريد أن يساعد في إصلاح رأس المدخنة فهو يريد العمل في القصر. تبا لكل مفصل في جسده) .. لكن صداقتها هي ومك هاكت البناء كانت حسنة على أي حال.
ثم أفصحت عن رغبتي في الذهاب إلى غرفة النوم فورا – ومن دون نار. فقادوني إلى الطابق الأعلى. وعندما سألت أين أفطر وآكل في الغد ، قالوا لي أن الغرفة التي تفوح منها رائحة الويسكي هي المخصصة للأكل. في السابق كنت مغتاظا بعض الشيء ، لكني لما سمعت ما سمعت صممت أن أكون مبرطما. فأنا لم يضايقني الافطار في تلك الغرفة ، لكني رأيت أمامي سبعة أيام من البؤس – فالغرفة الوحيدة التي يمكن أن ألوذ بها ، تأتي كل باليموي كما هو واضح للشرب والتدخين فيها. على أية حال لم يكن لدي خيار آخر لامضاء الليلة والصباح التالي ، فبلعت غضبي من غير شكوى. ولحقت الفتاة الحافية إلى الأعلى ، وأنا أرى حقيبتي تحمل أمامي.
إن الانجليز الآن لا يعرفون ايرلنده حق المعرفة ، لكن معرفتهم بها تحسنت عما مضى .. في أول رحلة لي إلى كانوت ، كنت خائفا من أن أقع ضحية لهمجية أناسها الذين لا يعرفون القانون. فلقد رأيت في ليل عاصف ماطر حشودا من السكان واقفين أمام أبواب النزل – كنت أكاد أميز سيقانهم وقبعاتهم الممزقة. فتصورت أن باليموي احدى تلك المناطق النائية عن الحضارة والقانون : أي أنها غير آمنة لانجليزي بروتستنتي مثلي. وأنا تكفلت بالعمل الذي يجب القيام به هنا دون أن أعي حقا ما أنا مقبل عليه – وكنت مصمما على اتمامه. لكني أعترف أني عرفت المخاطر المحدقة بي. فلقد قررت سابقا أن لا أغفل عن حقيبتي ولو للحظة. سأعيش بلصقها ، وأتشبث بها ، وإن لزم الأمر أموت في سبيلها. فأمرتهم أن يحملوا الحقيبة إلى الأعلى قدامي ، فاستقرت آمنة في غرفة النوم. وكان الدرج ضيقا ، تقترب زاويته من التعامد مع الأرض ، فكأني وأنا أصعده أتسلق جبلا. بني هذا البيت بطريقة همجية غير حضارية ، فلا يدري المرء أكنيسة يرى أمامه أم فندقا. مبنى مثلث ، كله زوايا. لم أر بناء يزعج العين كهذا قط. نادوني من أعلى الدرج لأدخل الغرفة المنتقاة ، لكني لم ألحظ آخر درجة وفي عيني وميض شمعة صغيرة ، فتكبكبت على وجهي نحو الغرفة وأنا أسب بات كروان وباليموي وكل كانوت.
أرجو أن يتذكر القارئ أني سافرت ثلاثين ساعة متواصلة ، وقضيت خمسة عشر ساعة في قارب غير مريح لا أستطيع المشي فيه. وفي آخر ثلاث ساعات لم ترحمني الرياح وهي تعصف بي. كنت مرهقا جدا، وكنت اكلم الفتاة الحافية بفظاظة.
فقالت الفتاة براحبة صدر : ( بالتأكيد ياسيدي ، هو نظيف كل النظافة ويابس كل اليبس. وقد نام فيه رجل في كل ليلة منذ العاصفة الكبيرة ) ثم بدأت تخبرني عن الأب جايلز. لكني لم أسمع أي كلمة وهي تنحني لترتب لحاف الفراش. وقالت : ( المسه يا سيدي .... يابس كل اليبس )
وكان اللحاف حقا لما لمسته نظيفا يابسا ، والفراش مع أنه صغير جدا إلا أنه كان يبدو مريحا. فلطفت نبرة صوتي معها وطلبت منها إيقاظي في الثامنة صباح الغد.
فقالت : ( طبعا يا سيدي ، وسيوقظك الأب جايلز بنفسه )
فقلت لها ألا تطلب أي شيء من الأب جايلز. لكن الفتاة أصرت أنه سيوقظني ، وتركتني.
هل يعقل أن من مهام قسيس الأبرشية ، في هذا المكان الهمجي ، أن يدور على كل فراش لإيقاظ أي نائم لصلاة الفجر ، أو اي طقس آخر من طقوس الكاثوليك المستنكرة؟ لقد حذرتني أمي ، التي كانت امرأة صارمة ، بشدة من دسائس قساوسة ايرلنده ، وكنت أنا حقيقة أسخر منها دوما. هل مثل هذه الدسائس موجودة حقا ؟ هل يمكن أن يمنعوني بنطالي إلى أن أحضر القداس ؟ أم أنهم سيجبرونني بطريقة كريهة أخرى ؟
بدأت أستعد للنوم متجاهلا ذلك ..... والمخاوف الأخرى – أو ربما من الأفضل القول أني كنت مصمما على مواجهة أي مصيبة تأتي من الليل أو النهار بشجاعة. كان هناك شيء طيب في مغامرة النوم في فندق بات كروان ، بدلا من النوم في غرفتي في شارع كبل في ميدان رسل. فضحكت في نفسي على فكرة بات كروان عن الفنادق ، وأفرغت حقائبي.
كانت هناك طاولة صغيرة مغطاة بقماش نظيف ، لمحت عليها مشطا صغيرا. فحركت المشط بحذر دون مسه ، وجلبت الطاولة إلى جانب فراشي. أخرجت فرشي وملابس نظيفة للصباح ، وقلت صلواتي : متحديا بذلك الأب جايلز هو ودسائسه ، ووثبت إلى الفراش. وكان الفراش وثيرا حقا ، واللحاف طيبا جدا. وما إن مرت خمس دقائق حتى استغرقت في النوم.
لم أدري كم مضى من الوقت ، لكني استيقظت في آخر الليل عندما سمعت خطوات في غرفتي. ولما قفزت رأيت رجلا عجوزا طويلا سمينا يستدبرني ، في منتصف الغرفة ، وينظف ملابسه بفرشاة بكل تفان. لم يزل معطفه على ظهره ، وبنطاله على رجليه – لكنه كان شديد التركيز على كل جزء من جسمه تصل إليه يده.
فجلست على الفراش ، وظللت أحدق به عشر دقائق ، كما ظننت حينها – فلنقل أن المدة كانت في الأغلب أربعون ثانية فقط. لكني تيقنت من شيء واحد : ألا وهو أن الفرشة التي يستخدمها ملكي! وأنا لا أعرف ان كان هذا التصرف وفقا لقوانين ايرلنده أم لا .. لكني شعرت أنه لا بد ملزم ، إن كانت هذه الحال ، أن يستعمل على الأقل فرش الفندق ، أو فرشه الخاصة به ، فهذا تعد واضح على أملاكي!
فقلت له بحدة لأفجعه : ( يا سيد مالذي تفعله هنا في هذه الغرفة ؟ )
فقال السمين : ( أنا فعلا لآسف على ايقاظك يا بني )
( ألا تريد أن تخبرني ما تفعل هنا ؟ )
فقال الرجل مستغربا : ( أنا في هذه الآونة أنظف ثيابي .. إي .. هي متسخة )
( متسخة .. وأنت تنظفها بفرشاتي )
( هذا صحيح أيضا. فما بيد الرجل ان لم يملك فرشة إلا أن يستعمل فرشة غيره )
( أعتقد أنك في حريتك تطغى يا سيدي )
( وأنا أعتقد أني في حدودي. على كل حال نحن نختلف على نطاقها فقط. عذرا. هاك فرشتك. أرجو أن تكون سليمة )
ثم وضع الفرشة ، وجلس على أحد الكرسيين الموجودين في الغرفة. وبدأ في خلع حذاءه ببطء وهو ينظر إلى طوال الوقت. فقلت : ( ما أنت فاعل يا سيد ؟ ) وأنا أخرج قليلا من تحت اللحاف وأستند إلى الطاولة.
( أستعد للنوم )
( أين ؟ )
قال ( هنا ) واستمر في فك رباط الحذاء.
لطالما كانت عندي نظرية ، عن كل البلدان لا عن بلدي خاصة ، وهي أن الحضارة تظهر جلية ناصعة ، عندما يقضى أن لكل امرئ فراشه الخاص به. في الأيام الخوالي ، كان الرجال الإنجليز الموسوري الحال لا يرون بدا في النوم مع بعضهم البعض ، كما يقال لي أن النساء ما زلن يفعلن الآن. ( رجال يفترض حسن مسلكهم وتعلمهم ) . وإلى الآن تسود هذه العادة بين الناس في المناطق النائية. وسيقال لك في أجزاء من أسبانيا أن فراشا واحدا يأوي ويكفي رجلين. ويعتبر متزمتا في البلدان الإسبانية الأمريكية من يزعجه نوم شخصين على جانبيه. ولم تظهر علامات الحضارة تلك عندنا بين الطبقات الفقيرة. ولعل كانوت كلها هي الأخرى خالية تماما من هذه العلامات ، فمن الواضح أنها ليست موجودة في باليموي.
جلست على الفراش فجأة وقلت : ( لا نوم لك هنا ) فقال العجوز : ( ستجدك مخطئا في هذا. بل استرح لن أمسك بسوء. وأنا هادئ النوم كالفئران.)
فتيقنت أن الوقت وقت عمل ما وقت كلام. فأنا ما كنت لأسمح أبدا لهذا الرجل أن ينام في فراشي. فأنا أول الواصلين هنا ، وصاحب ومالك هذه الغرفة لهذه الليلة على الأقل ، وأيا ما كانت عادات البلد في هذه المناطق الوحشية ، لن تبرر معاملة مالك الفندق معي هكذا.
فقفزت من فوق الطاولة إلى الأرض. وقلت وأنا أتصدى للغريب لحظة خلعه حذاءه الأيمن : ( لن تنام هنا يا سيدي .. لن تنام الليلة هنا. فاذهب.)
بعد ذاك التقطت حذاءه ، وذهبت به إلى الباب ، ثم قذفته خارجا. فسمعته يتدردب على الدرج. وسعدت لأنه كان يسقط بكل هذه الجلبة. الآن سيدرك الرجل حتما أني جاد فيما أقول.
وقلت : ( حبذا لو لحقت بحذائك بسرعة )
لم أر الرجل بوضوح بعد ، ومع أني الآن أضع يدي على كتفه إلا أني كنت بالكاد أميزه. كانت الإضاءة ضعيفة من شمعة رخيصة كادت تحترق في أصلها. وأنا نفسي كنت حيرانا قلقا قليل الانتباه. لقد عرفت أن الرجل يكبرني ، لكني لم أدرك أنه عجوز إلى درجة تضمن حسن تصرف الناس معه.
كان طويلا ضخم الكراديس ... هكذا بدا لي عندها. ظل الرجل هادئا دمثا ، إلى أن قذف حذاءه. فلما سمع دبدبة الحذاء بدا وجهه ممتعضا وجعل يتكلم بغضب وبسرعة. لم أناقشه ولم أفهمه ، لكني أصررت وأنا ما زلت أمسك بخناقه على أنه لن ينام هنا. لا بد له من الخروج من هذه الغرفة.
فصاح الرجل عدة مرات : ( لكنها غرفتي. غرفتي. غرفتي أنا )
هذا هو اذا بات كروان شخصيا. لعله سكران أو مجنون.
فقلت : ( قد تكون ملكك لكنك أجرتها لي الليلة ولن تنام فيها )
وبهذا أخذت أدفعه نحو الباب .. وإذ بي أطأ رجله الحافية. فقال : ( كم أنت مزعج أيها الإنجليزي العنيد. لقد خنقتني. أترك عنقي قبل أن تفتك بي )
أسفت لوطئي رجله لكني بقيت ممسكا به. كان بالقرب من الباب الآن وكنت مصمما على إخراجه من الغرفة. وكان وجهه مكورا ، أحمر جدا. ظننت أنه سكران. ولكم تضاعف غضبي منه عندما عرفت أنه مالك الفندق بات كروان.
قلت له وأنا أدفعه نحو الباب : ( لا نوم لك هنا .. فمن الأفضل لك أن تذهب )
ظل الباب مفتوحا مذ رميت حذاءه. وبعد صراع وجيز عند عضادتي الباب تمكنت من إخراجه. لم أتذكر أن الدرج يفاجئ الخارج من الغرفة حتى كأنه بلصقها. لقد كنت في نوم عميق قبلها ، ولم أكن واعيا بالضبط أين أنا. فلما أخرجته من الباب الصغير ، دفعته ، كما كان من الطبيعي في نظري أن أتصرف معه. فسقط الرجل على قفاه. سقط على الدرج مثل الكرة. وسمعته يصطدم بامرأة بات كروان التي كانت لا شك قادمة لتستفسر عن سبب كل هذا اللغط.
برق أمل في ذهني أن المرأة ستكون عونا لزوجها في محنته هذه. لقد سقط الرجل بقوة. سقط على قفاه. وتذكرت كما كان الدرج سحيقا. يا رب! تخيل أنه مات أو حتى أصيب إصابة بالغة في عقر داره، ما قيمة حياتي في هذه الحالة في هذا البلد الموحش ؟ حينذاك بدأت أندم على ما فات من عصبيتي. فقد يحدث أني قتلت رجلا في أول رحلة لي إلى كانوت.
احترت برهة ماذا أفعل. كانت السيدة كروان وخادمتها مشغولتين بجثة الرجل المطرود. تذكرت أني لا أزال ألبس قميص نومي ، فرجعت إلى الغرفة وهممت أن أغلق الباب ، بيد أنه لم يرتح لي بال للعودة إلى الفراش دون التحري عن مصير الرجل. فأخرجت رأسي من الباب ، وتحريت.
( أرجو ألا يكون أصيب إصابة بالغة من السقطة )
( وي! جريمة .. جريمة! بالله عليك تكلم يا عزيزي )
سمعت تلك وولولات أخرى من النساء في أسفل الدرج. فقلت مرة ثانية : ( أرجو ألا يكون أصيب إصابة بالغة ، لكن ما كان عليه أن يتهجم على غرفتي )
فقالت السيدة كروان : ( يقول غرفته الأحمق! أنت أصلك غبي! ) وقالت الخادمة المنحنية على الجثة المنبطحة : ( نعم يا سيدتي والأب جايلز بمثابة رجل ميت )
سمعتها تقول الأب جايلز بوضوح . بعدها أدركت أن الرجل الذي طردت لم يكن مالك الفندق بل قسيس الأبرشية! سقم فؤادي وأنا أفكر في المشكلات التي تحاصرني. وحالت بي الحال من خوفي من أن يكون الرجل أصيب إصابة خطيرة. ولكن لماذا ؟ .. لماذا تهجم على غرفتي ؟ وكيف كان لي التذكر أن درج البيت الملعون بلصق باب الغرفة ؟
سمعت أحدهم بالأسفل يقول : ( يجب أن يشنق إن كان قانون في ايرلنده ) .. وإلى حد علمي احتمال أن أشنق احتمال وارد جدا. فلما سمعت ما قيل بدأت أعتقد أني حقيقة قتلت رجلا. فجعلت أقلق قلقا شديدا ، وبقيت مدة أرجف حيث أقف. ثم تذكرت أنه حقيق بي كرجل النزول إلى أعدائي ، ومعرفة ما حصل فعلا ومن آذيت. ولتكن العواقب كما تكون.
فلبست ثيابي بسرعة : بنطال ومعطف فضفاض ونعال. ثم نزلت. كانوا إذاك قد أخذوا القسيس إلى غرفة رائحة الويسكي ، ومع أن الوقت متأخر إلا أن ستة أوسبعة أشخاص كانوا معه. أحدهم بات كروان نفسه ، الذي لم يكلف نفسه عناء تبديل ثيابه كما فعلت أنا.
وكان الرجل ، الذي طلع أنه فعلا قسيس الأبرشية ، قد أجلس على مقعد ، مسندا رأسه إلى السيدة كروان. عرفت على أية حال من أناته أنه لم يزل أمل في حياته.
وكان بات كروان نصف نائم ، ولا يفهم ما يحصل بالضبط. ثم عرفت بعدها أنه كان منتشيا أيضا ، وهو يقف بحذو الأب جايلز ويهز رأسه يمنة وميسرة. وكانت الفتاة الحافية موجودة أيضا ، ومعها امرأة عجوز ورجلان أتواا جميعا من المطبخ.
قلت : ( هل استدعيتم الطبيب ؟ )
فقالت السيدة كروان : ( أنت أصلك وغد . يا لص العالم! ما كان لمثلك أن يدخل من بابي )
( لست بأندم مني على الدخول من بابك يا سيدة كروان. ولكن ألا يحسن بك استدعاء الطبيب ؟ )
( أجل . وثق أيها الشاب أن الشرطة آتية أيضا. هكذا ترمي الرجل من الغرفة .. ومن غرفته أيضا. ترمي قسيسا عجوزا. الرجل الذي منحك نصف غرفته مع أني طلبت منه ألا يفعل .. ولمن ؟ لرجل لا أحد يعرف شيئا عنه )
جعلت الحقيقة تظهر تدريجيا. لم يكن الرجل الذي طردت الأب جايلز وحسب بل كان أيضا هو مالك الغرفة. على أي حال كان عليهم أن يعلمونني بهذا ، قبل أن أنام في فراش القسيس.
شققت طريقي إلى الرجل المصاب. ووضعت يدي على كتفه ، بزعمي سأستعلم عن مدى خطورة الإصابة. وإذ بالمرأة الغضبى والفتاة تبعداني عنه ، وتثقلان على بالملامات ، وتهددان بمشنقة جالواي.
وكنت أتطلع لمجيء الطبيب في أسرع وقت ممكن ، فلما وجدتهم لا يفعلون شيئا ، اقترحت الذهاب لطلب أحدهم. ولكني فهمت منهم أن لا سبيل لخروجي من الفندق حتى تأتي الشرطة. فكان على البقاء نصف ساعة تقريبا ، إلى أن يأتي رقيب وشرطييان. وفي كل ذلك الوقت بات ذهني في حالة يرثى لها. فأنا لا أعرف أحدا لا في الحي ولا في باليموي كلها.
ومن الطريقة التي كانوا يخاطبوني بها ، ومن تهديدات السيدة كروان ، وكل من دخل أو خرج من الغرفة ، أدركت أنهم سيكونوا جميعا شديدي العداء لي. ولقد سمعت عن جرائم القتل الايرلندية ، وعن حب الناس لقساوستهم ، فبدأت أشك في بقائي على قيد الحياة.
وبينا كذلك إذ بالأب جايلز يعود إلى وعيه. لقد أغمي عليه من السقطة ، ثم صحا ، لكن لم يعد إلى رشده كرة واحدة. ولم يبد عليه خلال الوقت الذي تركت معه وحده أنه يتذكر أحداث الساعة الماضية.
ثم تمكنت من الاكتشاف مما قيل ، أنه استأجر الغرفة منذ شهر ، وأنه كان لما وصلت يشرب الشاي مع السيدة كروان. وكانت الغرفة الوحيدة الأخرى مسكونة. فسمح هو بكل طيب نفس للسيدة كروان أن تسكن الساكسوني الغريب في غرفته. تبدى لي كل ذلك تدريجيا ، فلا جرم أن السيد كروان كانت تراني وضيعا ناكرا للجميل. ولم أجن أي فائدة من ذلي لهم ، واذعاني لكل ما يقال من حولي ، ولا من نقاشي وشرحي الموقف لهم.
قلت : ( لكن يا سيدتي ، لو أنكم على الأقل قلتم لي أنه فراش السيد الموقر ، لما حصل ما حصل )
فقالت السيدة كروان : ( إي! الذي يسمع الرجل يحسب أننا قد نطلب من الأب جايلز النوم في نفس الفراش مع أمثاله ، وفي الغرفة فراشان من أجود ما نام عليه المسيحيون )
كانت تلك معلومة جديدة بالنسبة لي. مع أني كنت أعرف من قبل أن أخلع ثيابي للنوم ، أن في الغرفة فراشين! لقد رأيتهما ، لكني نسيتهما مع الربكة التي حصلت لما استيقظت. فشعرت الآن أني جد كنت غبيا جدا. بيد أني فعلا صدقت أن الرجل الضخم سيدخل فراشي الصغير. بئس ما فعلت : إن القسيس الدمث قبل أن يأوي رجلا لا يعرفه في غرفته ، فكان رد جميله أي يلقى حتفه! وبالرغم من أني كنت أمقت نفسي في تلك اللحظة من كل قلبي ، إلا أني لم أستطع أن أرى الموقف كما رأوه هم. فكانت لي أعذار .. لو أن أحدهم أصغى إلي.
قلت : ( كان يستعمل فرشاتي ، فرشة ثيابي. وليس الأمر أني لا أريده أن يستخدمها ، لكني اعتقدت أنه لص )
فقالت لي امرأة بكل ازدراء : ( ما كل هذا الكرم !؟ )
فقال القسيس : ( أجل استخدمت احدى فرش السيد )
كانت أول كلمات مفهومة ينطق بها ، ولكم سعدت بها. فإن الرجل الذي يتذكر استعماله فرشاة لا يمكن أن يكون مشرفا على الموت ، حتى ولو سقط على درج سحيق كدرج فندق بات كروان.
فقلت للأب جايلز : ( على الرحب والسعة يا سيدي. لا شأن للفرشاة بالأمر .. أبدا. كل ما في الأمر أني ظننت أن ليس في الغرفة إلا فراشا واحدا. وهم أعطوني الغرفة وما قالوا لي أي شيء عنك. تصور أنت في أي حال كنت لما استيقظت في منتصف الليل. )
فقال أحدهم : ( إي ولك كل الوقت الذي تريد لتصوراتك حيث تذهب ... سجن باليموي )
لا أعرف كيف أصف لكم الغضب والكره الذي من حولي. لم يكونوا عنيفين معي ، لكني لا أتحرك حركة إلا أرى منهم تصميما واضحا على عدم السماح لي بالخروج من الغرفة. وتحدجني أعين حمراء ، وكل كلمة أنبس بها تقابل بعبارات استحقار تبدي سوء نية قائليها. فغدوت سعيدا بمجيء الشرطة ، بظني سأحتاج إلى حمايتهم. لقد خجلت مما فعلت خجلا شديدا ، لكني ما وجدت أني أخطأت في شيء معين. فليسأل الرجل منكم نفسه : ماذا يفعل إذا دخل عليه رجل ضخم وأصر أن ينام في فراشه؟ وليس ذنبي أن الدرج بلصق باب الغرفة.
جاء شرطييان ، ثم جاء بعيدهما رقيب ومعه طبيب وقس اسمه كولمب ، عرفت بعدها أنه كان معاونا للأب جايلز. كان هناك جمع من الناس في الفندق ، مع أن الساعة تعدت الواحدة. وكأن كل باليموي عرفت أن قسيسها أسيئ إليه. وكان جليا لي أن ثمة شيء في الديانة الكاثوليكية ، يجعل القساوسة يحظون بحب جم لدى جماهيرهم. فأنا أشك إن حدث مثل ما حدث في قرية انجليزية ، أن يثور من أجله أهلها في منتصف الليل ، ليأخذوا ثأرهم من المجرم. فلقد بدأ الناس هنا يصرخون لأخذ ثأرهم مني ، وحتى قبل مجيء الرقيب كان الشرطييان يقفان بحذوي. وشعرت أنهما لا يحمياني إلا لكي يتمكنا من شنقي!
لم يعجبني الطبيب بتاتا ، لا أول مرة رأيته ولا في بقية رحلتي في باليموي. لما جاء شق طريقه عبر الناس إلى القس ، وظل صامتا لا يقول أي شيء عن حالته ، لا يرضي الناس الشغوفين بالقس ولا يريح أعصابي. بل بات يردد كيف أن المجرم الذي فعل هذا متوحش ، وأن هذه إساءة فظيعة لا تغتفر. وكل كلمة ينطق بها ، تشجعه السيدة كروان على المزيد.
( إي يا طبيب! هذا الكلام. فراشان من أجود ما نام عليه المسيحيون. والغرفة كانت ملك الأب جايلز منذ أن اقتلعت العاصفة سقف بيته )
هكذا كانت القصة تظهر لي شيئا فشيئا. اقتلعت العاصفة سقف بيت القس فذهب ليسكن في الفندق ، ثم وافق أن يقتسم غرفته مع غريب ، فكان هذا جزاؤه!
فقلت بكل وداعة : ( أرجو أن يكون السيد بخير ) فقال الطبيب بغضب : ( أوتظن رجلا مثل هذا يقع من على درج عال ويبقى سليما معافا؟ لقد كدت تكسر عنقه )
فعلا الصخب في الغرفة فاقترب الشرطييان مني ، وكأنهم يريدون فعل شيء لئلا أمزق إربا. فرأيت أنه من واجبي - على الأقل كساكسوني – أن أظهر شجاعا أمام (الكلت). فتكلمت مرة ثانية لكن بصوت عال : ( ليس في الغرفة مغموم بما حدث أكثر مني . أنا قلق جدا على الرجل وأريد معرفة اذا أصيب اصابة خطرة )
فقال الطبيب : ( أجل اصابة خطرة جدا. فمن المحتمل مما عرفته الآن أن يكون عموده الفقري مصاب )
فقال رجل غاضب : ( هل تعتقد يا رجل أنه سيقع على قفاه على سلم صغير كهذا ولا يزعجه الأمر؟ ما مسه سوء إلا لأنه قس ، ولأنه سعيد الحظ ، ولا فضل لك في ذلك )
علمت بعد ذلك أن الرجل ضابط في هيئة الجباية التي كان مقرها في باليموي. ولقد عرفته جيدا فيما بعد : النقيب توم مكديرمت من منطقة ليترم.
فقال الأب جايلز : ( على رسلك يا توم ) ولكم فرحت لأنه تكلم. سكت الجميع لحظة. ثم قال الأب جايلز : ( قل للسيد أن لا بأس علي ) ومن تلك اللحظة شعرت بمودة نحوه ما وهنت بعدها أبدا.
أرجعوه إلى الغرفة التي طرد منها. وأخذوني أنا إلى قسم الشرطة ، حيث أمضيت الليلة. وأي ليلة هذه! لقد جئت من لندن مباشرة ، ونمت نومة واحدة فقط كانت في دبلن ، ووجدت نفسي الآن على لوح – على أساس أنه فراش – في ثكنة شرطة باليموي! وأسوأ ما في الأمر أن عملي هنا يتطلب أن أكون وقورا محترما.
طمأنتني كلمات القس تلك ، وأمكنتني من التفكر في أمري. لماذا أنا في السجن؟ لم يقض علي أي قاض. إن السؤال هو : هل فعلت أي شيئ غير قانوني؟ إن الأمر كما قال النقيب توم : اذا كان الناس يضعون سلالم صغيرة بدلا من الدرج في بيوتهم ، كيف يطرد الرجل المقتحم عليه ولا يكسر عنقه؟ أما فيما يخص القول أن الدخيل ما كان دخيلا فعلا وإنما صاحب الغرفة ، فليس الغلط غلطي بل غلط آل كروان الذين لم يقولوا لي الحقيقة.
وبالرغم من أنهم أعطوني ملاءات في قسم الشرطة إلا أن اللوح الذي أنام عليه كان قاسيا جدا. بدأت أذكر نفسي وأنا مستلق عليه أن لا بد من وجود قانون في ايرلنده. فناديت الشرطي المناوب وسألته بأي حكم أسجن.
فقال : ( لا تزعجنا لقد أزعجت الناس بما فيه الكفاية الليلة )
كانت الشمس تبزغ فانقلبت على جنبي وبيت النية على أن أبدو شجاعا عندما يبدأ اليوم.
كان النقيب توم أول من رأيت في الصباح. جاء إلى ثكنتي يتبعه صبي بحقيبتي. وكان مفتش الشرطة يعيش في أورنامور فما كان لي التشرف برؤيته. لكن النقيب أكد لي أنه رجل طيب. وكان أفراد الشرطة يطيعونه ، فمن الواضح أنهم على علاقة جيدة بضابط الجباية. فقال النقيب : ( سأقول لك إذا ياسيد جرين ما يجب عليك فعله ) فقلت : ( أولا أريد أن أحتج على سجني هكذا مظلوما ) فقال : ( أرح أعصابك ) فقلت : ( عذرا يا سيدي لكني لا أعرف سوى اسمك الأول )
( اسمي توم مكديرمت ويسمونني هنا النقيب ، لكن هذا ليس مهما )
( أظن يا سيد مكديرمت أن ليس من حق الشرطة سجن من تشاء من غير ما تفويض )
( وماذا كان حل بك إن لم يسجنوك؟ لكنا وجدناك في قاع البحيرة الآن )
وقد يكون مصيبا في ذلك. فقررت أن أصفح عن هذه الإهانة ، شرط أن أضمن معاملة عادلة منهم في المستقبل. وقال لي النقيب أن الأب جايلز بخير : ( لو ما كان الأب جايلز قويا كالحصان لكان ميتا الآن. قفاه أسود كسواد قبعتك من الكدمات. أنت تعرف أن رجلا ما عاد يافعا يقع فتكون وقعته أليمة. لكنه مرح مرح ابن الرابعة. عليك أن تفطر معه في غرفته حتى ترى بعينك أن في الغرفة فراشين.) فقلت : ( نعم تذكرت ذلك بعدها ) فقال : ( ضحك الأب جايلز ضحكا عاليا لما سمع أنك حسبته سينام معك في الفراش ، حتى عادت عليه آلامه ، وظننته وهو يصرخ من الألم سيخيف الفندق بأكمله. على أي حال يجب عليك أن تراه. فمن الأحسن أن تلبس ثيابك. )
كانت هذه الدعوة فعلا شيئا جيدا. ليس لدي أي ضغينة نحو الأب جايلز. فلقد أحسن التصرف طوال الوقت. وكنت أعرف أن طلعته البهية ستوفر لي حماية من الناس ، ليس بمقدور أي قانون أن يوفرها لي. فارتديت ثيابي في الثكنة والنقيب خارجها. وأخذت بمشورته فذهبت في زيارة ثانية إلى فندق بات كروان. تفاجأت أن الشرطة أطلقوا سراحي من غير مشكلات ، مع أن النقيب توم لم يأمرهم بأي شيء. ولما لمحت له بذلك قال: ( لا بأس فاسمك لم يسجل عندهم. كنت هناك لحمايتك انت فقط )
بيد أنهم أخذوني إلى السجن بالقوة ، وأسروني بالقوة أيضا. لكن ان كانوا هم على استعداد أن يتغاضوا عما سلف فأنا أيضا مستعد للتغاضي. لم أرجع إلى الثكنة أبدا. ولما كنت أرى في الشارع رجال الشرطة الذين تعرفت عليهم ، كانوا يعاملونني دوما كما لو كنت صديقا قديما. ويسألونني اذا وجدت فراشا أفضل من الفراش الذي تعرفوا علي بسببه. لكني لم ألمح أي ود في أعينهم وهم واقفون فوق رأسي في الفندق.
رأيت باليموي والفندق لأول مرة في النهار. فوجدت الآن أن السيدة كروان كانت تدير بقالة أيضا ، وأن المبنى ذا الثلاث زوايا الذي تعجبت منه كان صغيرا جدا. ولو كنت رأيته قبل أن أدخله ، لما حاولت أن أجد غرفة فيه. لكني بقيت فيه بعد ذلك اسبوعين مرتاحا تماما.
وكان الناس يقفون حول باب الفندق زمرا زمرا . فهمس النقيب في أذني : ( جاءوا كلهم لأنهم سمعوا أن ساكسونيا شنيعا قتل الأب جايلز في الليل. وليس بينهم من لا يعرف أنك ذاك الساكسوني ) فقلت : ( لكنهم يعرفون أن الأب جايلز حي يرزق أليس كذلك ؟ ) فقال : ( إي يعرفون ذلك وإلا ما كنت وجدتني بجانبك يا حبيبي. هيا . لا نريد أن نتأخر على الأب جايلز )
كان بامكاني رؤية الناس يلحظونني بأعينهم ، وما راقت لي رمقات بعضهم وخصوصا النساء منهم. فكان واضحا أنهم يتحدثون عني ، بالجايليكية ( لغة ايرلنده القديمة ) فقال لهم توم : ( إن الأب جايلز الحمد لله في أحسن حال. تعرض لحادث فقط. ألا تفهموا ؟ )
فقال أحدهم : ( حادث عن قصد )
فقال النقيب : ( وما شأنك أنت يا مك هيلي؟ أوليس يكفي أمثالك أن الأب جايلز راض! دع عنك هذا واترك الرجل يمر )
ثم دفعه بعنف فأخلى البقية الطريق.
( لن يدخلوك من الباب حتى يأمروا هكذا ، وإلا قطعوك إربا )
ولعل النقيب يبالغ ، فهو لا شك يريد أن يرفع من مقدار معروفه في عيني. لكني كنت أعرف أني فعلت شيئا خطيرا ، وأني نفذت بجلدي.
وجدت الأب جايلز جالسا على فراشه ، والسيدة كروان مجتهدة في تدليك أكتافه بمرهم. وكانت الفتاة الحافية تمسك دلوا من المرهم بحذوها. ورأيت عنق وأكتاف القس حمراء كحمرة اللحم النيء ، ووجهه يتقبض من شدة الألم ، لكنه كان يتحمله.
فقال الأب جايلز : ( ها هو ذا جاء البطل . كفي يا سيدة كروان حتى نفطر ، فلا بد أن السيد جرين جائع. أرجو أن تكون وجدت فراشا أفضل من الذي وجدتك فيه عندما أيقظتك لسوء الحظ. ها هو هناك جاهز لك. فاسمع مني ونم فيه الليلة ولا تجعل أمرا هينا كهذا يمنعك )
فقالت السيدة كروان : ( وأنا أرجو أن يجد السيد مكانا آخر يأويه ) فقال القس : ( ولم لا يبقى هنا على الرحب والسعة. ولكن كن حذرا إن رأيت رجلا يستعمل فرشاتك . فنحن هنا لا نهتم بهذه الأمور كما تهتمون بها في انجلترا. ولو أنك كسرت عنقي لهذا السبب لكانوا شنقوك شنقا )
ثم جلسنا للافطار أنا والقس والنقيب توم ، وكان الطعام طيبا. وحتى السيدة كروان بدأت شيئا فشيئا ترضى عني. وفي نهاية اليوم كان الجميع يعتبروني صديقا. أما الأب جايلز فكان فعلا يعتبرني صديقه - الآن و لأيام عديدة بعدها. وكان كلما يأتي ليزورني في بيتي في انجلترا كان يحكي حكاية أول لقاء بيننا. ويقول : ( إذا وجدت رجلا نائما ، لا تستعمل فرشة ملابسه إلا إذا أخذت إذنه)