المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نافذة ...على غرفة الوطن المُتْعَب



راسم محمد اسماعيل
19/09/2008, 03:50 AM
نافذة في غرفة الوطن المُتعَب



http://www.alnoor.se/images/authors/small/others/others_8/raseem_almarwani_1.jpg (http://www.alnoor.se/author.asp?id=162)






وطني !!!
أستطيع أن أقرأ آخر الخطوط بين أصابعك ...
أستطيع أن أتبين القديم منها والجديد ...
أستطيع أن أفهم أن الزمن الآسن قد رسم تجاعيده على باطن كفيك
منذ عشرة آلاف عام من التاريخ المكتوب


عجيب أمرك يا هذا الوطن ...
لم أرَ - من قبل - وطناً ليس فيه فراشات ..
ليس فيه عصافير ..
ليس فيه غروب ..
ليس فيه صباح
ليس فيه غير كركرة مخنوقة تتدلّى على أبواب المنازل
في لحظات انقلاب الظهيرة الى ليل
أو انقلاب الليل الى ظهيرة
وطن لا يعرف أغنيات الحقول ..
لا يشرب من مياهه ...
لا يأكل ما تطبخه الأمهات ...
لم يألف أناشيد الطفولة ...
قال لي خائفاً من البوح :-
كيف يغني الفلاحون
وهم يحرثون أرضاً تنبت عليها شقائق النعمان الحمراء فوق المقابر ؟
كيف أشرب من ماء نهر تفوح منه رائحة الجثث الغرقى ؟
كيف آكل طعاماً مبتلاً بدموع الثواكل ؟
كيف أسمح للأطفال أن يرددوا أغنيات القسوة والألم
والتراتيل المكتنزة بلغة الموت ؟
ألقمني - هذا الوطن المتشدق - حجراً ..
ولكني أكاد أرى في عينيه دمعة محزونة
يمنعها الحياء والكبرياء من الإنبعاث ..
أكاد أتحسس في شفتيه ارتجافات العبرة المختفية وراء الصمت الرجولي ...
أكاد أتنفس في صدره شهيق من يغرق بين التوابيت ..
أكاد أشم في جسده رائحة نجيع الدم المتجمد منذ آلاف الأعوام ...
أكاد أتذوق ملوحة العرق المتصبب من جبينه
الذي لم تعد ترتسم عليه سيماء السجود


يقف وطني - متعباً - على قارعة الطريق ..
يتكئ على أحد جدران الليل الموحشة ..
يتابع بصمت خجول عربدة فرسان الرب الخارجين من أبواب الحانات المقدسة
متأبطين أذرع المومسات ..
متحاشين الطين الممزوج بالحصى الهارب من الإسفلت القديم ..
متجنبين قطرات المطر السديمي
الذي تكاد أن تهوي لرتابة أنغامه سقوف الصرائف
ويضحكون كأنهم عراة ..

وطني يقف هناك ..
لوحده ..
يدخن لفافة تبغ رخيصة كدماء أبناءه الجياع ..
ويبصق لعابه الممزوج بعصارة التبغ وبقايا الشاي المحترق ..
يبحث عن مقهى بزاوية التثاؤب ليقضي بها لياليه المتكاسلة ...
يتمتم بكلمات لا يسمعها المارّة ..
وجهه مكفهر كآخر يوم من أيام الخليقة ..
أصابعه ترتجف كأصابع شيخ يتوسل عصاه ...
وعيناه متعبتان من ثقل حاجبيه المتورمين ..
يمتص أسنانه بين لحظة ولحظة ..
كي يعيد مضغ ما تبقى من عشاء أمس الأول ...
يبتسم بوجه العابرين ..
ويشتم ظهورهم العارية .


وطني ينتظر (جنود الرب) كي يلقوا عليه حقوقه ..
ويدفعوا برأسه في عربة من عربات قطار الرحيل ..
يقتادونه - بكل احترام واضطهاد - الى أبعد دار من دور العجزة ..
يمنحونه فرصة للتأمل ..
ومتسعاً ليستبدل ثيابه الرثة ..
ووقتاً كي يستعيد الى ذاكرته أسماء أبناءه المدللين الذين باعوه ...
ليشتمهم بكل لغات الأرض .


حسناً ..
أراه يجلس لوحده في غرفة من غرف دار المسنين ..
يحدق بالنافذة التي أمامه ..
ينقر بأصابعه الرفيعة المرتجفة على حافة الكرسي المتحرك ..
يريد أن يبتسم للأطفال الذين يلوّحون له عبر زجاج النافذة ..
ولكنه لا يستطيع ..
مشلولة فرحته ..
مقتولة ضحكته ...
يكاد يعجز عن رسم ابتسامة مصطنعة تخفي آلامه ..
منشغل عن العالم بأولاده (المدللين) الذين تبين أنهم من أولاد الزنا ..
يلعن الرفاق ...
ويشتم فرعون الذي آمن برب موسى بعد فوات الأوان ..
ويبصق - عبر النافذة -
بوجه السكارى الذين خدعتهم أخبار قرار إلغاء يوم القيامة فخلعوا ما تبقى من ملابسهم
ومزقوا صور الأولياء ..


منشغل هذا الوطن الأب ...
يفكر بخسة أبناءه المدلّلين ..
وبمحنة أولاده الجائعين ...
ينظر - وطني - عبر النافذة ..
يحدق بالأفق البعيد ..
ينتظر وفاء أولاده الذين تركهم منذ عرسه الأول جياعاً يتسولون الخلاص
ويفترشون الطرقات ،
ولم يعبأ بهم ..
لم ينتبه إليهم وهم يكبرون ..
ولم يحرق ورقة من أوراق التوت المتناثرة فوق أرض جنته ليضئ ليلهم المكتظ بالألم
لقد غادرهم - سامحه الله -
لاهياً عنهم
بأولاده الآخرين ..
بأولاده المدللين الذين لا يعرفون موعد دواءه ..
بأولاده الخائنين الذين باعوه وأنفقوا ثمنه في بلاد آبائهم الجدد ..
بأولاده الهاربين الى نفس المقهى الذي ولدتهم فيه أمهم المومس
وانشغل عن أولاده الجياع
بأخوته من فرسان المخادع والنوادي الليلية الذين خانوه على فراش العروبة
وضاجعوا أعداءه في خيمة من خيام الغجر
وشربوا نخب احتضاره
من كؤوس النفط المتدفق من زق (الكوبونات) المضرجة بدم الأبرياء .
فقط أبناءه الذين تركهم في العراء ..
يقفون الآن على باب غرفته ..
يحملون له الزهور والأمنيات والوفاء ،
ويربتون على كتفه الأهدل ..
ويبتسمون بوجهه المتعب ..
يهمسون بأذنه التمكتظة بأصوات غناء الغرباء الهجينة ..
يقولون له :-
لا تثريب عليك ...
أنت أبانا ....
ويرددون معاً ...
أبانا الذي في الأرض ..(ليتقدس اسمك ..ليأت ملكوتك)
يشعلون له الشموع
ويقنتون في محرابه المقدس
متناسين كم أطعمهم من حنضل الجوع
وكم سقاهم من حميم العطش
وكم طاردهم في ليالي العتمة
وكم أشعل النيران في بيوتهم المكتظة بالنعاس والخوف
يسامحونه ..
ويقبلون يديه المرتجفتين
ويعصرون أصابعه الباردة بدفء الحب
ويبتسمون بوجهه كي لا يشعر أنهم منه غاضبون .


أولاده الذين لم يبرَّهم ...
آتون من نافذة الحب ...
يحملون أزهار محبتهم الشاخصة على فوهات البنادق ...
يقفون على باب غرفته ...
يرددون بصوت واحد
(موطني ....موطني) .



راسم المرواني (http://www.alnoor.se/author.asp?id=162)
العراق الجريح
marwanyauthor@yahoo.com (marwanyauthor@yahoo.com)