المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في قصة"جفاء" للقاص: الحاج بونيف



باسين بلعباس
20/09/2008, 02:50 PM
جفـــــــــاء

وهبته لي الأرض هنالك.. وقعت عليه عيناي ممددا على جنبه الأيمن فاغرا فاه عن ابتسامة خجولة.. مر الكثير من قبلي لكنهم لم يحنوا رؤوسهم لالتقاطه، لعلني الوحيد الذي انتبهت إليه لصغر حجمه، ولاختياره مكانا على حافة الرصيف بعيدا عن مواقع الأرجل..
أحسست برقته وأناقته وأنا أقلبه بين أناملي، وشعرت بمسؤولية كبيرة تلقى على كاهلي، فلعل الذي تخلص منه أدرك مدى عجزه عن تحمل ثقل أمانته..
سولت لي نفسي إعادته لمكانه، وتركه يلاقي مصيره المحتوم، ودفعني شجعي للاحتفاظ به، لعلني أجد فيه عونا على تذليل الكثير من الصعاب..
سلخت جلده فتراءت لي معدته الصغيرة ملأى، فحمدت الله أنني لن أتحمل إشباعه، وأسديت الشكر الجزيل لصاحبه الذي يكون قد تخلى عنه متعمدا، أو سقط منه في ساعة غفلة..
أظهر لي وداعة ولطافة، ولم يبد امتعاضا أو نفورا، فرحت أقلبه بين أناملي حتى تأكدت من انصياعه التام لإرادتي، فأودعته الصدارة من قميصي الصيفي ورصعته به كنيشان..
للتو شعرت أنني لم أعد غريبا، وبدأت أجد متعة خاصة في امتداد أناملي تمسح على قبعته اللزجة بين الفينة والأخرى..
استأنست بصحبته، ورأيت فيه الخليل الذي أرسله الله إلي ليسري عني في ساعات الفراغ .. غير أنني أدركت عدم استئناسه هو؛ إذ لاحظت تغيرا في مزاجه، وتثاقلا في استجابته حين مداعبته ..
انعطفت لأحد مقاعد حديقة عمومية، وانصرفت إليه بكلي أفضفض بكل ما يختلج في صدري من مشاغل، فابتسم لي، ووجدته يعيرني سمعه، ويصغي إلي بكل جوارحه.. دغدغت رأسه فأبان لي لسانه الأزرق، معلنا لي استعداده وتأهبه، فسارعت للجمه، ولم أتركه يفضي بمكنوناته، تغيرت سحنته، واضطرب في يدي محتجا عن قسوة المعاملة:
- أتريد منعي من التعبير؟!
استغربت لانتفاضته غير المبررة، ورمقته بنظرات فيها عتب، وزججت به في غيهب جيبي أستغل احترام النظرات التي تقع على محياه، فتنتقل تلقائيا لاحترام حامله..
مددت يدي أتحسسه فتهرّب، وأصخت سمعي لمناجاته؛ فإذا هي زفرات مختنقة:
- هذا قمع!!..ما لمثل هذه الجفاء وجدت؟
تجاهلت فوضاه التي كان يستفزني بها، ووجدت يدي تمتد من حين إلى آخر تلجم لسانه من الاسترسال..
ومرت أيام حبسته فيها في الغرفة التي حجزتها في نزل لقضاء إجازتي، فهزل جسمه، وزال لمعان وجهه، وعلاه غبار ..
عدت متعبا هذا المساء، ومددت يدي أخلصه من قفصه، فتثاءب، ورأيت لسانه الأزرق قد فقد لعابه، فمسحت على رأسه أستنهضه من سباته العميق، فابتسم ابتسامه هادئة، وحملق في عيني فتراءت لي صفرة معاناته، وعرفت أنه يعاني الوحدة والاغتراب.. ووصلني من أعماقه صوت يكاد لا يسمع:
- لو عرفت قيمتي ما كنت لتهينني في عقر داري..!!..
اكتفيت بملامسة جسمه الأملس الناعم، والسماح له بالفضفضة ، والتسلية بالكلمات المتقاطعة على صفحات جريدة مستهلكة.. وما كاد ينهيها حتى دب في جفني نعاس فتثاءب فكري.. ونمت.
استيقظت قبيل شروق الشمس فوجدته قد لفظ أنفاسه منتحرا بعد أن سال كل لعابه فملأ صفحات الجريدة بلعابه الأزرق..ولكن صدى صوته بقي يتردد في أرجاء الغرفة: ضيعتني يا من تدعي أنك من أمة "ن والقلم.."
فلعل الذي تخلص منه أدرك مدى عجزه عن تحمل ثقل أمانته..
================================================== ================================
..ولعلي أنا أن أدخل من هذه الجملة المفتاح..لأتنقل بين شوارع نصك الجميل..إن المجتمع الذي يتفنن في تشكيل الأقلام..ويتباهى أهله باكتسابهم لأغلاها..وأكثرها جاذبية..ويجعلونها للإمضاء فقط..هو بالفعل مجتمع لا يستحق أن يعيش القلم بين ظهرانيه..إن هذه الجملة المفتاح بينت أن الفرد عجز عن حمل أمانة العلم..مفتاح الحضارة..أنزل مستواه من التفكير في إنتاج المعرفة لبناء الحضارة، الى إنتاج الكلام لاستيراد الطعام .. سلخت جلده فتراءت لي معدته الصغيرة ملأى،.. حتى المثقف يخاطب القلم بلغة الطعام ..وقد أفلح الكاتب في هذا الجانب ..إذ اعتمد السخرية المرة من الحقيقة العلقم: فحمدت الله أنني لن أتحمل إشباعه، وأسديت الشكر الجزيل لصاحبه الذي يكون قد تخلى عنه متعمدا، أو سقط منه في ساعة غفلة..
وقد استنطق الكاتب القلم..وحاول أن يعرف موقفه من الراهن الثقافي ..الذي كنا نسمع قهقهاتهما معا ..حول الكتابة ..الثقافة..لاحظ مثلا هذه العبارة: عدت متعبا هذا المساء، ومددت يدي أخلصه من قفصه، فتثاءب، ورأيت لسانه الأزرق قد فقد لعابه، فمسحت على رأسه أستنهضه من سباته العميق، فابتسم ابتسامه هادئة، وحملق في عيني فتراءت لي صفرة معاناته، وعرفت أنه يعاني الوحدة والاغتراب.. ووصلني من أعماقه صوت يكاد لا يسمع:
- لو عرفت قيمتي ما كنت لتهينني في عقر داري..!!..كان الفعل الثقافي لا يكون إلا متعة وإزالة للتعب الذي يشعره المثقف..وما كان له أن يداعب القلم لولا إحساسه بالوحدة..ومن يستعمله..؟ فعلا هي الوحدة القاتلة لا احد يجرؤ على الكتابة والإنتاج ..ولا احد يمكنه أن يفعّل القلم ويخلق عوالم الإبداع في زمن يسجن فيه القلم..وتكمم الأفواه ..ويحرم التعبير الحر..فما يكون من القلم إلا أن يهرق دمه..وينتحر..
إن اللغة التي كتب بها القاص المبدع الحاج بونيف نصه..خرجت عن المألوف وفضحت الثقافة في زيّها المزيف ..وجملة المثقفين..الذين لا ينتجون إلا بمراسيم سلطانية..وان الكتابة بالنسبة لهم..شهادات ونياشين تزين الصدر وترفع القدر.. فأودعته الصدارة من قميصي الصيفي ورصعته به كنيشان..
ومن العبارات التي تحمل الدلالة على السخط الكبير عن الوضع الثقافي.. هذا قمع!!..ما لمثل هذه الجفاء وجدت؟وقوله: ووجدت يدي تمتد من حين إلى آخر تلجم لسانه من الاسترسال..وقوله: فهزل جسمه، وزال لمعان وجهه، وعلاه غبار ..وقوله: وحملق في عيني فتراءت لي صفرة معاناته، وعرفت أنه يعاني الوحدة والاغتراب..ولأن أشباه المثقفين ـ لا يعرفون قيمة القلم. لو عرفت قيمتي ما كنت لتهينني في عقر داري..!!..فإن القلم لا بد أن يعتذر وينسحب بهدوء من مسرح الأحداث ..ليترك أشباه المثقفين..ينتجون تفاهتهم بما يشاءون إلا أن يكون القلم أداة لهذا الإسهال البعيد تماما عن الثقافة..وحتى يعبر الكاتب عن ذلك في لمحة إبداعية غاية في الإتقان.:. استيقظت قبيل شروق الشمس فوجدته قد لفظ أنفاسه منتحرا بعد أن سال كل لعابه فملأ صفحات الجريدة بلعابه الأزرق..ولكن صدى صوته بقي يتردد في أرجاء الغرفة: ضيعتني يا من تدعي أنك من أمة "ن والقلم.."
هكذا أراد الكاتب لقلمه أن ينتهي..وهكذا أراد الكاتب أن يقول لنا: يا امة " اقرأ"..القلم لم يعد له مكان بينكم..وقد شرفه الله في القرآن..بالقسم به وتسمية سورة به..
ولو عدنا الى الحركة داخل النص لوجدناها أشبه بالسكون المطبق..وهو مناسب لأجواء النص..البطل قلم..وليس المثقف الذي ليس له من غاية بالقلم إلا للجم الأفواه..او حل الكلمات المتقاطعة في أحسن الأحوال..فأين الحركة؟؟.إنها تأخذ المستوى الأفقي المستمر وببطء شديد...
لنتتبع هذا المسار:
رجل خرج من بيته ..وجد على حافة الرصيف قلما..مسحه وزيّن به قميصه الصيفي ودخل حديقة عمومية ..ليمارس الكبت على القلم..ليس من إنتاج إلا حل الكلمات المتقاطعة والقلم يرفض الوضع..ما لهذا خلق..عاد به الى الغرفة في الفندق وتركه..بعد أيام وجده..منتحرا..
الحركة ناسبتها جملة الأفعال الماضية التى طغت على النص..لأن الفعل انتهى ..ولم يعد قابلا للحراك الآن أو في الآتي.. استيقظت.. وجدت.. لفظ.. سال.. ملأ.. بقي يتردد.. ضيع..هذا أنموذج من الفقرة الاخيرة فقط..وقد تجاوز في غيرها الستين فعلا للزمن الماضي ..وهو عدد ـ بحجم القصة ـ كثير ومرتفع..
اللغة السردية ناسبت مستوى المتلقي حيث كان.. ومن البلاغة أن تخاطب الناس بما يفهمون..ومستوياتها:
1/ يعتقد أن : الكاتب وجد قلما فاستعمله للكلمات المتقاطعة ..ثم سال حبره ..فلم يعد صالحا للكتابة
2/ الكاتب وجد قلما ..فأعجبه ..ووضعه في جيب قميصه..ليزين به صدره ويتباهى به..وهو رمز للمثقف
3/الحاج بونيف كان في عطلة مقيما في نزل ..ووجد في الطريق قلما ..أخذه إلى الحديقة ليجربه..إن كان صالحا للاستعمال أو لا..
5/ رجل مثقف..وجد قلما..أراد استعماله..كانت الكلمات المتقاطعة هي السبيل لممارسة هوايته..القلم يرمز إلى الثقافة يحتج ويقول : ما لهذا خلقت..: ويفرز كل لعابه على صفحات الجريدة..التي ترمز إلى المثقف كذلك..
وهناك من يفسر على غير ما ذكرت..
القصة فعلا رائعة ..ولغتها الإيحائية لا تسلمك نفسها منذ البداية ..بل يجرك الكاتب بأسلوبه الممتاز حتى النهاية ليعطيك أجوبة عن بعض الأسئلة ..لا كلها..ويتركك تتفاعل مع النص لكأنك جزء منه..
وميلنا في الختام الى دلالة العنوان(جفاء)..رسالة صارخة..في وجه أمة القلم..وأمة "اقرأ" التي لا تقرأ..
في الأخير ..نقول إن أخطاء في رقن بعض الكلمات ..قد حدث لا تخفى على القارئ الفطن..: مثل.. ودفعني شجعي للاحتفاظ به،وهي جشعي..وكذلك في الفقرة الاخيرة:لفظ سال كل لعابه فسالملأ صفحات الجريدة بلعابه الأزرق..إما: لفظ..او سال.. و:فملأ صفحات الجريدة..
تقبل تحياتي وتقديري

الحاج بونيف
21/09/2008, 01:28 PM
الأخ الفاضل/ باسين بلعباس
السلام عليكم ورحمة الله
كنت قد اطلعت على هذه الدراسة النقدية منشورة على صفحات جريدة صوت الأحرار منذ ايام قليلة، وأشكرك على تناول هذا النص وغيره من النصوص الذي حظيت بتناولك لها سابقا.. فلك مني كل الشكر على هذه الالتفاتة الكريمة..
ودمت لنا مبدعا متميزا وناقدا نستنير بتحليله وتوجيهه النقدي السليم.
تحيتي.

باسين بلعباس
09/10/2008, 11:31 PM
في انتظار أن أقرأ لك المجموعة القصصية..
بعمق وتحليل أدق
تقبل تح يتي وتقديري لقلمك المتميز:fl:

البتول العلوي
24/10/2008, 03:02 AM
الناقد الأدبي أستاذ

يا سين بلعباس

شكر لاغنائنا بهذه الدراسة النقدية المميزة

لقصة "جفاء" للأخ الفاضل القاص الكبير

الحاج بونيف

تقلبوا مروري البسيط و اعجابي الكبير

لكما مني أزكى التحايا

http://www.arabswata.org/forums/imgcache/632.imgcache.gif

الحاج بونيف
24/10/2008, 09:13 AM
الأخت الفضلى/ البتول العلوي
أهلا وسهلا ومرحبا ..
سعيد بتواجدك هنا.
خالص الود والتقدير :fl:

عبد العزيز غوردو
25/10/2008, 12:35 AM
الغالي باسين..

أنت مكسب كبير لواتا في جانب الدراسات الأدبية والنقدية...

ما شاء الله عليك، تنقلت بين العديد من "رفوف" الإبداع الواتاوي،

محللا، ودارسا، وناقدا...

وحيثما نزلت كفيت ووفيت...

فبارك الله لك.. وبارك فيك...

ومن خلالك أحيي الغالي الحاج، فكتاباته تستحق التوقف فعلا...

هنيئا لنا بكما...

أيها الرائعان...

:good:

باسين بلعباس
25/10/2008, 04:40 PM
الغالي باسين..

أنت مكسب كبير لواتا في جانب الدراسات الأدبية والنقدية...

ما شاء الله عليك، تنقلت بين العديد من "رفوف" الإبداع الواتاوي،

محللا، ودارسا، وناقدا...

وحيثما نزلت كفيت ووفيت...

فبارك الله لك.. وبارك فيك...

ومن خلالك أحيي الغالي الحاج، فكتاباته تستحق التوقف فعلا...

هنيئا لنا بكما...

أيها الرائعان...

:good:
بل المكسب أمثالكم أيها المبدع المهذب..المؤدب
ما أنا الا متذوق حين أشم رائحة الابداع أتوقف لأقول ما يجب وأعتقد..
ومادام أمثالكم هنا فنحن هنا..
ولكم جميعا نقرأ ..ولو كانت النقاط متتابعة ، لكانت نصوصا..للهمس..والفك..والاختراق..
فلكم التقدير والبهاء..
ولكم المجد ..