المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صلاح الدين في بيت المقدس



حسان محمد السيد
03/10/2008, 01:50 AM
بسم الله الرحمن الرحيم



بعد عقود عجاف على سقوط بيت المقدس وأجزاء كبيرة من الأرض المباركة وما حولها في أيدي الصليبيين,برز القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي,مدركا ان اقتلاع حملة استيطانية فاشية جرارة من الأرض المغتصبة,لا يمكن أن يتم إلا برص الصفوف والوحدة وتكافل العرب وتعاضدهم.كان ضروريا قبل أي عمل تجاه الغزو,أن يمكن أقدامه في مصر ويعيدها الى سابق عهدها في محيطها العربي,بعد قمع فلول التمرد والفوضى,كفتنة (أسوان) و(عمارة اليمني) ,والنشور في ترتيب أمور الدولة الإدارية,مدنيا وعسكريا,منشئا الوزارات التي عرفت بالدواوين,كديوان (الإنشاء) الذي كان بمثابة وزارة الخارجية والبريد والثقافة,إضافة الى دواوين (النظر) للشؤون المالية,ديوان (الجيش) المختص بتحديث القوات وتدريبها وتلبية حاجياتها,وديوان (الأسطول) وهو بمثابة وزارة البحرية,أشرف عليه صلاح الدين مباشرة,مخصصا له ميزانية منفردة لأهميته في مواجهة الغزاة الذين استخدموا البحر طيلة عهدهم في الإعتداء على البلاد,ولهذا الأسطول الذي صد حملات عدة ضد مصر والشام,الدور الفاصل في هزيمة الحملة على مكة المكرمة والمدينة المنورة,التي عرفت بحملة (أرناط, رينو دي شاتيون).وكي يحافظ على تماسك المجتمع وتهيئته لتحمل أعباء التحرير,كان عليه النظر الى الأمور الإجتماعية,بانيا المؤسسات التي ساهمت في التخفيف من صعوبات المعيشة,ملغيا من الضرائب ما كان جائرا ومبقيا على ما كان محقا,وحث على طلب العلم والتوزيع العادل لخراج الدولة على الناس بقدر ما تطيقه وتراه مناسبا,بوسائل حديثة وعملية,وعرفت مصر في عهده عودة نظام - الضمان الإجتماعي – الذي أول ما أقره الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه,متوليا الإنفاق على الفقراء والمعوقين ومساعدة أهل العسرة.

قطعت الترتيبات الإدارية شوطا كبيرا في دولة الناصر صلاح الدين,الأمر الذي سمح له بالإلتفات الى الضفة الأخرى من الأمة,تحديدا بلاد الشام,متيقنا أنه لا إمكانية في إقتلاع أوروبا بعديدها وعتيدها وجبروتها,إلا بوحدة الجناحين,وشاءت الأقدار أن ينجح في ضم دمشق وحماة وحمص وبعلبك وحلب وغيرها من بلاد المشرق العربي,وصولا الى الموصل التي عاهده أميرها على العون والنصرة,ليكون بذلك قد أمضى أكثر من إثني عشر عاما على تدعيم الجبهة العربية وتعزيزها,بالوعي والنظام والإنتاج والوحدة,وليكون درسا لأولي الألباب.

كانت بداية المأساة المفجعة يوم حطت أولى الحملات الصليبية جحافلها الباغية في تراب الطهر والعفة سنة 1099 ميلادية – 492 هجرية,متبرقعة بثوب الدين والمقدسات,غير آبهة ولا مشفقة على العربي أيا كان معتقده,لإعتبارهم أن مسيحيي الشرق والمسلمين شركاء في (الكفر والهمجية),طقوسهم الهرطقة والجحود,لدرجة أن بطريرك القدس فر الى مصر ليعيش في حماية الفاطميين ومن معه,عوضا عن منعهم الأقباط من الحج,وفرضهم على المسيحيين الأرثوذكس ضريبة العشر,بعد أن جردوهم من كنائسهم وحلوا مكانها الكنائس اللاتينية.هذا حالهم مع المسيحيين,فكيف إذن مع المسلمين؟.

لعل أكثر ما يفزع هو ما رواه غوستاف ليبون في كتابه (الحضارة العربية),أن الصليبيين ذبحوا في بيت المقدس وحده ما يزيد عن ستين ألفا,وقبله ابن الأثير ذكر انه (لبث الإفرنجة في المدينة اسبوعا يقتلون المسلمين,حتى أنهم قتلوا في المسجد ما يزيد عن سبعين ألفا),وسجل مجير الدين الحنبلي في كتابه (الأنس الجليل في تاريخ القدس و الخليل),أن الصليبيين أنذروا من تبقى من المسلمين وحاصروهم في الحرم الشريف مدة ثلاثة أيام للخروج من المدينة,وجمعوا من اليهود من طالته أيديهم في الكنيسة وأحرقوها عليهم,وهذا ما جاء في (تاريخ دمشق) للقلانسي,وفي (النجوم الزاهرة) لإبن تغري بردى.

نعود لليبون,نقلا عن الرهبان والمؤرخين الذين تابعوا وحضروا الحملات الصليبية,تحديدا الحملة على القدس,وكانوا شهودا على المذبحة,على لسان الراهب (روبرت),واصفا ما حدث في بيت المقدس...,( كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل,كاللبؤات التي خطفت صغـارها,كانوا يذبحـون الأولاد والشباب,ويقطعونهم إربا إربا,ويشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغيـة السرعة,وكان قومنا يقبضـون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية,فيا للشره وحب الذهب,كانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث).

وتحدث الكاهن ( ريموند أجيل) مفاخرا...

(حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القـدس وبروجها,فقـد قطعت رؤوس بعضهم,كان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم,وبقرت بطون بعضهم,فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار,وحرق بعضهم في النـار,فكان ذلك بعد عذاب طويل,وكـان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم,فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم,ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا).

ثم وصف مذبحة مسجد عمر رضي الله عنه قائلا...

(لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في- هيكل سليمان-,وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك,وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها.ثم عقد الفرسان الأتقياء مؤتمرا أقروا فيه إبادة سكان القدس,فأفنوهم في ثمانية أيام,ولم يتركوا شيخا ولا امرأة ولا ولدا).

ويذكر ستيفن رنسيمان صاحب كتاب ( تاريخ الحروب الصليبية)...

(وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين,فأجهزت على جميع اللاجئين اليه,وحينما توجه قائد القوة,ريموند أجيل,في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه,وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم,وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها,غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود,بل إن كثيرا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث).

هذه صورة وجيزة عما حدث حينها,وقد أجمعت كتب التاريخ على أن الصليبيين كانوا يتباهون بغوص خيولهم في دماء المسلمين,وشويهم للأطفال والتمثيل بالرضع (وهذا ما يحدث في العراق اليوم),مغتصبين ومدمرين كل ما طالته أيديهم الآثمة.

وفي فجر الثاني من تشرين الأول / اكتوبر سنة 1187,الموافق 27 من رجب سنة 583 هجرية,أشرقت الأرض المقدسة بنور ربها وتنفس التراب الطاهر الصعداء,دخلت الجيوش العربية قاطعة دابر الذين ظلموا واعتدوا,وربت ارض الرباط واهتزت,بغيث الرحمة ونسيم الحرية وجلاء الرجس عن ارض الأنبياء,وهنا وقف التاريخ إحتراما وإجلالا ساعة عطر العرب صفحاته بالياسمين,حين شهد كيف عاملوا تحت قيادة صلاح الدين الغزاة بعد الهزيمة.

ومما ذكر أن الناصر صلاح الدين ضرب على الرجال من الصليبيين مبلغ عشرة دنانير لقاء إخلاء سبيلهم وخروجهم من المدينة,خمسة للمرأة,ديناران للطفل,معفيا المعووز والشيخ والعاجز,سامحا لهم بحمل كل ما كنزوه من ثروة وأموال المسلمين سلبا وبطشا,ممهلهم مدة 40 يوما,حتى يتسنى لهم ترتيب أمورهم بروية,ثم تعهد بتأمين نساء الملوك والأمراء وحاشيتهم الى مقصدهم في مدينة صور على الشاطئ اللبناني,مرسلا سرايا من الجيش الإسلامي العربي معهم خوفا من السلب وقطاع الطرق والإنتقام,بل إن المؤرخين ذكروا بدهشة وتفخيم قوافل الكنوز التي حملها معه بطريرك القدس الأكبر حينها,وقد أثارت انتباه الجنود مطالبين الفاتح صلاح الدين بالإستيلاء عليها,فرفض قائلا اننا قوم لا نغدر ولا ننكث,ولم يتعرض لنصارى القدس ولا لكنائسهم,وها هي شاهدة الى اليوم على عدل العرب وحضارتهم المجيدة,بل سير الدوريات بكرة وعشيا,لتحميهم من اية ردة فعل ممكنة,ثم صرف للأرامل واليتامى من الصليبيين ما صرفه للمسلمين,وسمح بعد ثلاثة أيام للإفرنجة بالحج الى بيت المقدس بلا وجل ولا حرج,كذلك الأمر مع اليهود,وقد بعث يهود القدس بكتاب الى يهود العالم يخبرونهم عما آلت اليه أوضاعهم بعد الفتح الصلاحي كما نقل المؤرخ بن زيون دينور..(لقد رفع الله روح ملك الإسماعيليين,في سنة أربعة آلاف وتسعمائة وخمسة من الخلق (وفق التأريخ العبري),لتنزل فيه روح الحكمة والشجاعة,وهكذا جاء هو وجيشه من مصر,وحاصروا أورشليم,فسلمهم الله المدينة بين أيديهم,وأمر الملك أن ينادى بصوت عال في المدينة للكبار والصغار,معلما أهل القدس أن أي واحد يرغب من أبناء أفرايم,من الذين بقوا بعد المنفى الأشوري,والذين توزعوا في أنحاء الأرض,يمكنهم العودة إلى المدينة).

لذلك,لم يقل غوستاف ليبون قوله المأثورعبثا,(لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب),فنحن لم نحرق ولم نقتل ولم نقيم معسكرات الموت الجماعي والإبادة العرقية,نحن ما قتلنا في الحرب العالمية الأولى 20 مليونا,ولا في الحرب العالمية الثانية 50 مليونا,نحن أصحاب تاريخ لم يعرف إلا الى الخير والطهارة والإستقامة والشرف سبيلا.

إن تحرير الأرض العربية لم يكن يوما إلا بإتحاد العرب تحت راية واحدة وقائد واحد,ما نهضوا إلا يوم كانوا بنيانا واحدا,وما هزموا إلا حين تفرقوا شيعا وأحزابا متناحرة,وقد سجل الدهر أن مصر كانت وستبقى القاعدة العربية الصلبة لأي ثورة عربية نهضوية موحدة,وأن جناحها الآخر هو بلاد الشام,وفي التحام الجناحين,تصبح وحدة أمة الضاد,قريبة وأكيدة,ويتسنى للنسر العربي من المحيط الى الخليج أن يحلق حرا طليقا في عزة وشموخ.إن حضارة وثقافة العرب هي التي ربت صلاح الدين وغيره من القادة العظام,وإن الدم العربي هو الذي سال,والمال العربي هو الذي تكفل بالسلاح والنفقات في ساحات الجهاد والفتوحات,والتاريخ أمامكم هدى لمن أراد أن يرى.

]سيدي يا صلاح الدين[/b],

براء أنت من الذين تلطخت أيديهم النجسة بدماء أمتك وسلب أرضها وثرواتها تحت حراب الصليبيين الصهاينة,لست منهم وليسوا منك, براءة إبراهيم الخليل من آزر وقومه.

براء أنت من الذين كانوا للفاسقين والفاسدين ظهيرا,ورضوا بفيئ بساطير المارينز مستقرا ومكانا,فتلك سنة من لم يعرف للشرف طعما ولا للوقوف مرفوع الرأس أسوة ومسيرة.


عدو لك ولأمتك كل من وقف بوجه وحدة أبناء التاريخ والمصير والدم الواحد.

عدو لك ولأمتك كل من ظن ان النفط يخرج من صلب أبيه وترائق أمه,ثم منّ على الناس إستعبادهم كما منّ فرعون على موسى.

عدو لك ولأمتك من رمى بالكفر من نادى بتأميم ثروات هذه الأمة لصالح أصحابها الشرعيين,تأميما سليما غير محتكر على قبيلة حزبية أو عشيرة سياسية.

عدو لك ولأمتك كل طائفي مذهبي رجيم,وكل من نكر عظيم صنعك ومقامك.

سيدي يا صلاح الدين,

إن ثقتي بانبعاث هذه الأمة ونهوضها كثقتي بوجود الله ووحدانيته,مستردة حقوقها المسلوبة باترة أيادي السارقين,فاسمع بهم وأنظر يوم نستعيد كل بقعة عربية مغتصبة,ويوم ندخل المسجد كما دخلوه أول مرة متبرين ما علا الباطل تتبيرا,إن الباطل كان زهوقا,وعد الله الذي لا يخلف عهده,فلسوف يخرصون,ويدحرون,وينكسون,ولسوف يدعون ثبورا.