المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صورة المرأة في الرواية في قطاع غزة - دراسة نقدية ، بقلم : د . محمد أيوب



د . محمد أيوب
15/12/2006, 02:04 PM
1 - صورة المرأة في الرواية في قطاع غزة
دراسة نقدية
بقلم : د . محمد أيوب
المقدمـة :
تلعب الأوضاع السياسية والاقتصادية دوراً هاماً في تشكيل وعي المجتمع ، ولعل أحداث مأساة عام 1948 شكلت منعطفاً حاداً وحاسماً في إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية بين أبناء الشعب الفلسطيني ، بحيث تحول هذا الشعب في غالبيته العظمى إلى مجتمع من المشردين الذين فقدوا معظم مقومات الحياة المادية و المعنوية ، فقد وقفت الدول العربية موقف المتفرج ــ لا بل موقف المتواطئ ــ حين شجعت الفلسطينيين على مغادرة ديارهم ، و بدخول الجيوش العربية فلسطين اكتملت حلقات المؤامرة ، و تكرس التشريد واقعاً مريراً لأولئك الذين غادروا ديارهم ، و أصبحوا يعرفون باللاجئين الفلسطينيين .
بهذا النزوح الكبير انهارت علاقات و تطورت علاقات ، ذابت الفروق الطبقية وأصبح الجميع يشكلون ما يمكن اعتباره طبقة مسحوقة تعتمد على هبات الأمم المتحدة ، وقد تأثرت المرأة ــ كجزء أساسي من المجتمع ــ بهذا التطور الجديد فأصبحت تقف في طوابير أمام أكشاك التموين ، كما عملت خادمة في بعض بيوت الموسرين الذين لم يغادروا ما تبقى من فلسطين سواء في الضفة الغربية أو غزة، كما قامت بعض النسوة ببيع الخضار والفواكه، وغيرذلك من الأعمال،مساهمةفي توفير أسباب الرزق مع الرجل،ولايعني ذلك أن المرأة قبل النزوح لم تلعب دوراًاقتصادياً ، فقدكانت المرأةالقروية تقوم بأعمال الفلاحة في الأرض ،إلا أن دورها الأساسي انحصر في كونها ربة بيت مهمتها الأساسية رعاية الأسرة و تربية الأولاد.
وقد كان قطاع غزة هو المنطقة الأكثر بؤساً و تخلفاً من مناطق الشتات الفلسطيني ، فقد ازدحم هذا الشريط الساحلي الضيق بأعداد ضخمة من اللاجئين إضافة إلى سكانه الأصليين . مما زاد من مساحة الضائقة التي يعاني منه جميع سكان القطاع بلا استثناء . ورغم ذلك شكل سكان القطاع رأس الحربة في كافة التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية . فقبل عام 1955 تظاهر اللاجئون مطالبون بالسلاح بعد أن شعروا أنهم ضحية خدعة كبرى و أن من يمنونهم بالعودة إنما يضحكون على ذقونهم . ثم انفجرت مظاهرات عام 1955 ضد مشروع التوطين في سيناء ، حيث تحالف الشيوعيون مع الإخوان المسلمين، و خرجوا في مظاهرات عارمة ضد السلطات المصرية و سقط بعض القتلى و الجرحى ، و اعتقل العديد من المتظاهرين، مما حدا بالحكومة المصرية إلى عقد أول صفقة أسلحة مع الكتلة الشرقية . وبعد ذلك بقليل قامت قوة اسرائيلية باقتحام مدينة خان يونس و نسف مركز الشرطة مما أدى إلى مقتل (38) ثمانية وثلاثين شخصاً وجرح آخرين، وانسحبت القوة دون مقاومة تذكر ، وكانت قوة أخرى قد قامت بمهاجمة موقع عسكري في غزة ، وقام أفراد القوة ـ عبر أسلاك التلفون ـ بطلب نجدة باسم الموقع المهاجَم، وكمنوا للنجدات و أوقعوا بها خسائر فادحة.
ثم وقع قطاع غزة وسيناء تحت الاحتلال الاسرائيلي على أثرحرب السويس بعد أن أمم عبد الناصر قناة السويس ، وقتل حوالي ألف إنسان في مدينةخان يونس وحدها،مماحرم الكثيرمن الأسرمن عائلها الوحيد، فزاد الناس بؤساً على بؤسهم . و بعد الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة في 7مارس سنة 1957،تظاهرالناس بعودةالادارةالمصرية إلى القطاع ، وذلك على أثرإحساسهم الفطري بوجود مؤامرةلتدويل القطاع .استمرت المظاهرات أسبوعا كاملاً حتىعادت الإدارة المصرية في 14مارس سنة 1957، تم بعد ذلك تشكيل أول مجلس تشريعي عرف باسم الاتحاد القومي علىغرارالاتحاد القومي في مصر،ثم عرف بعد ذلك باسم المجلس التشريعي ، حيث كان من واجباته صياغة بعض القوانين التي تنظم حياة سكان القطاع على اعتبار أنه الجزء الوحيد الذي بقي يحمل اسم فلسطين ،ويحمل سكانه الجنسية الفلسطينية.
وبوجود القوات الدولية في غزة و سيناء انفتحت أبواب عمل جديدة أمام سكان القطاع ، فمنهم من عمل موظفاًعند القوات الدولية (كتبة، عمال ، طباخين) كما قامت مجموعات أخرى بتبادل السلع مع القوات الدولية يشترون منهم و يبيعون إليهم ،كما أن وكالة الغوث بدأت بالتوسع في مجال خدماتها فدخلت المرأة ميدان العمل كمدرسة وممرضة ، الا أن شريحة كبيرة من سكان القطاع كانت ترى في عمل المرأة عيباً كبيراً ، خصوصاً عملها كممرضة، ولكن عمل المرأة بدأ ينتشر تدريجيا ً، وتقبله المجتمع شيئاً فشيئاً، كما انفتحت أبواب العمل في السعودية ودول الخليج مما ساهم في بدء حركة إعمارفي القطاع، كل ذلك ساهم في تطور الوضع الاقتصادي، و في تكون ما يمكن اعتباره شريحة برجوازيةفي المجتمع الغزي ، وهذا أدى بدوره إلى بداية ظهورالأعمال الأدبية من شعر وقصة، ولعل الشعر كان صاحب الحظ الأوفر في القطاع ، فظهر معين بسيسو ومحمد حسيب القاضي ومحمد آل رضوان وسعيد فلفل والهشيم وغيرهم، كما ظهرت مقالات أدبية بقلم أحمد عمر شاهين في جريدة أخبار فلسطين التي تولى إدارتها وتحريرها زهير الريس في غزة . و قد تبلورت في القطاع فكرة إنشاء مجلة أدبية سياسية ؛ إلا أن حرب حزيران اقتطفت الحلم قبل أن ينضج ، و قذفت معظم المهتمين بالأدب خارج القطاع ، فاستقر أحمد شاهين في مصر ، ومارس كتابة الرواية أما محمد آل رضوان فقد بقي في غزة وحصر نشاطاته في الملتقىالفكري العربي في القدس وغزة ، بينما توقف سعيد فلفل عن كتابة الشعر والنشر، وذهبت أخبار فلسطين قبل اكتمال نموها .
وقد شهد القطاع في بداية الاحتلال حملة قمع شرسة على أثر تحول التنظيمات السياسية التي كانت في القطاع إلى العمل المسلح مثل حركة القوميين العرب ، في حين نشأت حركةفتح أساساًعلىالدعوةإلىالعمل المسلح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين ، وجر الدول العربية إلى الصدام مع إسرائيل ، و قد انطلقت أولى عملياتها سنة 1965 ، أما القوميون العرب فقد شكلوا منظمة أبطال العودة التي قامت بعملية عسكرية في داخل إسرائيل في 14 أكتوبر سنة 1964 (1) ، فقد أسر فيها كل من محمود الهيب وسكران سكران، و قد أطلق سراح الأخير في عملية تبادل أسرى سنة 1985 .
وفي بداية السبعينات فتحت أبواب العمل داخل إسرائيل ، و بذلك تحول معظم سكان القطاع إلىعمال 1لتراحيل ، يتركون أماكن سكناهم للعمل في أماكن تبعد كثيراً عنهم،مماسبب لهم إرهاقاً شديداً ، كما كان لذلك أثر كبير على بنية الأسرة الفلسطينية، فقد نشأ كثير من الأطفال بعيداً عن رعاية الأب المباشرة ، فقد كان عدد كبير من الآباء يتغيبون عن بيوتهم طيلة الأسبوع تقريباً و ذلك توفيراً للجهد و الوقت و أجرة المواصلات ، و لكنهم خسروا بالمقابل أبناءهم فقد تربى هؤلاء الأبناء في الشوارع ، ونقلوا عن أقرانهم الصواب والخطأ على حد سواء، وبالمقابل فقد تحول المجتمع الاسرائيلي إلى مجتمع شبه روماني،مجتمع أسياد يترفع عن الأعمال الحقيرة التي تركوها للعرب، واقتصرواعلىالأعمال الراقيةوالجندية ، هذاالاضطهادالمزدوج الذي عانىمنه العمال العرب وأسرهم انعكس على شكل توتر يومي وقلق دائم وبتبلور الشعور بالظلم انفجرت الانتفاضة في قطاع غزة وشارك فيها المجتمع بكل فئاته وعناصره، وقددخلت المرأةالفلسطينيةحيزالفعل الثوري بشكل يلفت النظر،فبعدأن كانت تقوم بزجر أبنائها محاولة إبعادهم عن الخطر، اندفعت هي إلىأتون الخطردفاعاً عن أبنائها وإخوتها ووقفت جنباً إلى جنب مع الرجل، لم تتخلف عنه إن لم تتقدم عليه في بعض المواقع.
ولكن هل واكب الأدب حركة المرأة و جسدها مما يعطي المرأة حقها دون إجحاف ؟ هذاالسؤال يحتاج إلىدراسةواعية مستفيضة لا تفي بها هذه الدراسة المحدودة ، ولا يغطي كل جوانبها، ولذاارتأيت أن تقتصرهذه الدراسةعلىتناول صورة المرأة في الروايةفي قطاع غزة في فترةالاحتلال الاسرائيلي الأخيرللقطاع.وبعدالبحث حصلت على ست روايات هي :
رواية" الطوق" لغريب عسقلاني (ابراهيم الزنط) وروايات : " العربة والليل " ، و" الذين يبحثون عن الشمس "، و" التين الشوكي ينضج قريباً " لعبدالله تايه ، ورواية"الخروج من القمقم " لعمرحمش ، ورواية "الكف تناطح المخرز" و هاتان الروايتان نشرتا إبان الانتفاضة.
وسأتناول في هذه الدراسة صورة المرأة كما صورها هؤلاء الكتاب في رواياتهم، سأتناول صورتها باعتبارها أماً ومناضلة و ربة بيت ، كما سأعرض قضية الجنس كما تناولها هؤلاء الكتاب ، وإلى أي مدى وفق هؤلاء الكتاب في عرض هذه القضية من خلال شخوص رواياتهم ، خصوصاًوأن مشكلات الناس في الروايةهي انعكاس صادق لرؤيةالفنان للواقع ، بل إن أزمةالبطل في الروايةهي أزمةالأديب في الغالب (2) ، وبرغم كون كتاب الرواية في قطاع غزة رجالاً فقد حاولوا التعبير عن أزماتهم ومواقفهم الفكرية من حركة الواقع من خلال صورة المرأة ، ذلك أن مشاغل أبطال الروايةـ كما يذكر فان تيجم ـ لهم نفس مشاغل المؤلف (3) .



أولاً : صورة الأم والزوجة :
الأم التقليدية :
الأم هي زوجةأولاً و قبل كل شيء ، ثم تأتي الأمومة بعد ذلك ، والأم في الروايات الغزية تحتل مساحة لا بأس بها ، إلا أن الصورة التي قدمها كتاب الروايات هي صورة تقليدية ، أو رومانسية مثالية ، و في أحوال قليلة مس هؤلاء الكتاب الدور الجديد والمتنامي للمرأة الفلسطينية بوجه عام و الأم على وجه الخصوص ،و لعل معظم الصور التي قدمها الكتاب للأم أو المرأة هي صورة جاهزة مكتملة ، قدموها دفعة واحدة غير متطورة ، وإن كان هنالك تطور؛ كان أشبه بالطفرة ،أو الانقلاب المفاجئ الحاد بما يساوي مائة و ثمانين درجة .
الصورة التقليدية للزوجة و الأم :
في الروايات التي استعرضتهافي هذه الدراسةنجدالصورةالتقليدية للزوجة،فهي تنتظرفي البيت عودةالرجل، و تقوم بالتخفيف عنه و تقديم الخدمات له.يقول أبوعزيز : "زوجتي تتفحصني بألم .. إذ لا بد من خروجي للعمل. "(4)
إن هذه العبارة توحي لناأن الزوجة تودأن يبقى الزوج إلى جانبها في المنزل.وعند عودةالزوج من العمل تستقبله زوجته:"الله يعطيك العافيةياأبوعزيز... صمت طويل . تطلعت في وجهي ، أم عزيز معتادة أن تسمع رد تحيتها بأحسن منها ، كلما عدت من عملي .. تطلعت بنظرات متسائلة ، صحوت من همومي ، و شرودي : ــ الله يعافيك يا أم عزيز " (5)
ولا تكتفي الزوجة باستقبال الزوج العائد من العمل بهذه الطريقة ، بل إنها تقوم بتدليك ظهره بزيت الزيتون ، يقول أبو عزيز : " استرحت أكثر ، وأخذت أم عزيز تدلك ظهري بزيت الزيتون . " (6) وهناك صورة تقليدية أخرى قدمها عبد الله تايه للأم " كانت أم ابراهيم جالسة على حصيرة مهترئة ، و ابنتها رحاب تجلس في مواجهة فرن حديدي يهدر صوته بقوة ، و هي تخبز " (7)
فالأم هنا تعد ابنتها لتكون أما ًوربة بيت في المستقبل ، تخدم زوجها وأطفالها، تعجن وتخبز وتعد الطعام ، وتغسل الملابس وما شابه ذلك من الأعمال المنزلية للمرأة .
أما عمر حمش فيرسم لنا صورة جديدة للزوجة الفلسطينية تكرس تلك الصورة التي رسمها عبدالله تايه في العربة و الليل ، يحدثنا عمر حمش عما تفعله حنان عندما يعود زوجها من العمل ، يصف لنا تلك العودة وما تنقله حنان بقوله : " يأتي بيديه الخشنتين ، يحمل الصرة ، تخرج ثياب العمل ، تخرج علبة الطعام الفارغة ، تجلسه ، تسنده على وسادة ، و تضعها خلف ظهره على الجدار ، تسرع بالماء الساخن ، تسكبه على القدمين في الطشت ، تفركهما، تنشفهما، ترمح إلى المطبخ، تحضرالطعام الجاهز، المطهو منذ دقائق ، المطهو على الميعاد، و يأكل سعيد ، يأكل و ترقبه .
- الله يعطيك العافية .
يبتسم :
- اليوم أتممنا العمارة ، أصبحت جاهزة لإسكان الجدد" (8)
هذه الصورة التقليدية التي يقدمها عمر حمش ، هي صورة غير مقبولة من كاتب يُصنَف على أنه تقدمي ، فالمرأة انسان ، وعادة غسل أرجل الزوج لا تليق بكرامة الزوجة كإنسان ، أذكر في بداية زواجي قبل حولي نصف قرن أن زوجتي حاولت أن تفعل ذلك إلاأنني منعتها بشدة ، لأن باستطاعتي القيام بذلك دون أن ينقص من كرامتي شيء ،كما أن الصورة التي قدمها لنا عمر حمش ، تبين أن الزوجة حنان كانت تعامل زوجها معاملتها لطفلها الذي لا يستطيع الجلوس دون مساعدة . بغض النظر عن كون الابتسام لا ينسجم مع العبارة التي قالها الزوج لزوجته ، فهل في توفير مسكن للقادمين الجدد ما يثير الابتسام أو السرور في النفس .
ثم يستطرد عمر حمش في رسم صورة الزوجة الأم فيقول : " في الداخل خطت حنان إلى الدولاب ، وقفت بجواره ترقبه ، لامسته و زفرت ، أخرجت من داخله ثوباً للزعبي، هرولتإلى الفناء، جلست قرب العتبة . وأدارت بأناملها مزقاً بالثوب ثم استغرقت في ترقيعه .
- كم كم مرة رقَّعت هذا الثوب
سألت أم سعيد ، و لم تنتظر جواباً ، غادرت البيت و هي تقول :
- بعد قليل يأتي و يلبسه؛ يباطح ولداً و يشقه من جديد. (9)
ثم يعرض لنا بعد ذلك بسطر واحد صورة لحنانها أقحمها إقحاماً دون أي مبرر يقول : "كانت حنان تبدو تفاحة لم تؤكل ، زرعاً لم ينضج و لم يحصد ، نهراً متقلباً حجزته السدود ، بئر شباب متدفق وقفت ببابه الوحوش ، كانت حلية لا يتزين بها أحد ، نبض قلب مؤجل ، فيض جسد ممنوع، أنامل ترقع أثواب الزعبي، صدراًباهراً يغلي، يتقلب فيه جمر الدنيا، عينين بلون ليل المخيم خلقت لتذرفاالدموع، ترقبان الساحة، تتهيآن لخطو سعيد الآتي، تتوقعان شيئاً سيحدث، شيئاً سيتحرك، يهز الأرض يقلب المعهود، يكسر هذه اليوميات الممقوتة."(10)
في الفقرة السابقة نشاهد مجموعة أوصاف متناقضة لا يربط بينها شيء.. ترى كيف يمكن للزرع أن يحصد ما لم ينضج ، و كيف يتقلب النهر المحجوز ، و ما هو الشيء الذي تتوقع حدوثه،فهل يريدالكاتب أن يشير إلى بداية الانتفاضة ، وكيف تكون حنان تفاحة لم تؤكل وهي قد تزوجت وأنجبت الزعبي ، وإن كان زوجها سعيد قد مات في حادثة عمل ، فإن هذا لا يعني أنها زرع لم ينضج و لم يحصد، فقد نضج الزرع و حصد ، و لكن الظروف حالت دون اكتمال سعادتها، ففرق الموت بينها و بين زوجها ، و المعروف أن أي انسان يموت في حادثة عمل يتلقى ذووه تعويضاً مالياً مناسباً ، كما أن بإمكانها أن تتزوج ، كما فعلت الأرملة في رواية الطوق ل "إبراهيم الزنط "، فقد تزوجت ، قاطعها ابنها يونس في البداية ، إلا أنه عاد إليها وشعر بالدفء بجانبها . ومن الغريب أن أم سعيد حماة حنان تعمل قابلة،تماماًمثل أم صابر، تلك الحماة التي وافقت أن تتزوج كنتها، بل إنهاشجعت حفيدهايونس علىالاتصال بأمه ومساعدتهاعنداللزوم.يقول غريب عسقلاني:" تبقي صبية دون زوج، جسد فوارمع عجوزوطفل، ولا رجل في البيت،والناس لاترحم، والأهل والطامعون في العرض أجبرواالصبية،والرجال جاهزون، والوقت أقوى من عنادها.. الله يرحمك يا صابر .. " (11)
وعلى الرغم من أن الصورة التي يعرضها غريب عسقلاني هي صورة تقليدية؛ فالزواج ستر للمرأة،وظل راجل ولاظل حيط ، فالمرأة التقليدية لا تجد نفسها إلا في حماية زوجها ، وها هو
يعرض لنا صورة أخرى للمرأة التقليدية ، حين تطالب زوجهاأن يلبي حاجاتهاو حاجات الأولاد رغم ادراكهاأن العين بصيرة واليدقصيرة،وأن الطوق كبل قدرات الزوج مما فجر غضب الزوج ، يقول عن الغاوي : "هاج الرجل .. ارتعدت المرأة ، وطفرت الدموع من عينيها:
- هو أنا كفرت .. قاعد تغني و أولادك عايزين .
- فاضي يا بنت الفاضي .. يعني أطلع أنطخ .. على الأقل أرجع بطني مليانة مشط رصاص .. على المقابر إن شاء اله و البيت خالي بعد بصحيح .
أما أم خليل فتعيش حياة الوحدة ، بعد أن أبعد زوجها إلى ما وراء النهر ،ترعى أطفالها
و تحاول أن تعوضهم عن غياب الأب " وعلى أطراف أصابعها دخلت الغرفة . ألقت نظرة على الأولاد ، كانوا يغطون في نوم عميق، كتل من اللحم الطري تكورها برودة الشتاء تحت الأغطية ، تلتف الأجساد الطفلة تطوق الدفء. "(12)
و الأم أو الجدة التقليدية تخاف على ابنها أو حفيدها ، تزجره و تمنعه من الخروج إلى الشارع لأنها تخشى عليه من الغضب الذي يتجول في الشوارع . يقول غريب عسقلاني في رواية الطوق : أفلت الصبي إلى الشارع .
- يونس .. يونس .. الله يغضب عليك
وخافت من دعوتها . الغضب يمشي في الشوارع .
كما أن المرأة بوجه عام والأم بوجه خاص ، تتصدى الجنود عند اقتحامهم للمنزل ، ذلك أن الجنود يعتدون على الرجال مباشرة و دون مقدمات إن هم فتحوا الأبواب ، كما أن المرأة تحاول إعاقة الجنود لإتاحة القرصة للشباب كي يغادروا المنزل إلى المنازل المجاورة ، ففي ص69 من رواية الطوق يقول غريب عسقلاني : " عندما اقتحموا بيت الغاوي انهد حيل الرجل ، و التصق في زاوية الغرفة ، ووقفت سعدية وجهاً لوجه في الحوش ، زحفت زوجة الغاوي حتى أصبحت خلف ابنتها .
- ما في رجال هون
- ما في غير أبوي مريض.
أما في نهاية رواية الطوق ، فإننا نجد تحولاً مفاجئاً في موقف زوجة الأستاذ "فهيم" ، فبعد أن كان " حسام يكبر في عقل أمه .. رجلاً عملاقاً ينزلق إلى البيوت في الليل ، يتزود من النساء في الأزقة الأخرى .. " نجد أنها في ص112 من الرواية تتبادل المواقع مع زوجها فبعد أن كانت تتمنى أن ترى ابنها مناضلا يساهم في مقاومة الاحتلال؛ في حين كان زوجها الأستاذ فهيم يحرص عليها و على ابنه، و يمنعهما من الخروج من البيت،نجدها و بدون مبررمقنع
يقدمه لنا الكاتب تحاول منع ابنها من الخروج:الله يغضب عليك ياحسام.بينمايفيق الأستاذ فهيم من ذهوله على دعوات زوجته
- اتركيه يفش خلقه يا مرة !
ترى كيف حدث هذا التطور ، وهل كانت هناك ظروف موضوعية تساعد على حدوث هذا التطور.أعتقدأن الكاتب لم يقدم لناما يقنعنا بمنطقية هذا التحول بما يدفعنا لتقبله و الدفاع عنه .
والزوجة والأم عند عبد الله تايه تعاني الفقد - فقد الزوج - ففي رواية" التين الشوكي" ينضج قريباً نجد أن زوجة شحادة عبد العزيز سعد تحاول أن تحتفظ باسم زوجها ولو على بطاقة التموين ، إلا أن الوكالة تأبى أن تتركها تنعم بذلك ، و يصرون في مركز التموين أن يسجلوا البطاقة باسمها تقول الزوجة الأم : سجلوا بطاقة التموين باسمي.. صرت أنا رب العائلة .. الوكالة كلها .. الأمم المتحدة اعترفت بأني رب العائلة . (13)
أما في رواية الكف تناطح المخرز فالأم أيضاً تقليدية تخاف على أبنائها و هي لا تعدو كونها ظلاً للرجل تأتمر بأمره ، وتتصرف بناءعلى رؤيته هو ، فما يراه مناسباً فهو مناسب ، فعندما حضر الجنود إلى المنزل نجد أن الزوجة تسمرت كأنها أصيبت بصعقة كهربية ، لكنها مالبثت أن تساءلت :
- هل أفتح الباب ؟
- همس انتظري . (14)
فأفعال الزوجة هنا هي مجرد ردة فعل لإرادة الزوج ، نسمع الزوج وهو يحدث زوجته :
- كان يجب أن تزغردي .. انتي بهاليوم ، حكومة بحالها خايفة من أولادنا من أطفالنا .."
كما يقدم محمد أيوب صورة تقليدية أخرى ترتبط بأعمال المنزل من جلي الصحون وغسل وطبخ وكنس .. إلخ ، فعندما عمل حياد في غسل الصحون ، وتصبب العرق من جسده أمام كومة الصحون نجده يهمس بهذه الكلمات :
- كان الله في عونك يمه .
الأم المنـــاضـلـة :
أما الصورة المقابلةللصورةالسابقةفهي صورة الأم التي تستشرس دفاعاً عن أبنائها وزوجها، إلا أن جميع الروايات التي استعرضتها لم تعط الأم المناضلة حقها كاملاً ، و لم ترسم لنا صورة متكاملة للأم ، فالأم الفلسطينية رغم عطائها و تضحياتها لم ترق إلى أم مكسيم
جوركي التي شاركت ابنها وزملاءه المناضلين الشباب كل مهامهم ، بل إنها شكلت عنصراً إيجابياً هاماً في الحركة الثورية الروسية . لقد غمط كتابنا الأم الفلسطينة حقها ، ولم يتجاوز ما قدموه منها مجرد شذرات تبعثرت هنا و هناك بحيث لا نحصل منها على صورة متكامة للأم ضمن إطار العمل الثوري . فالأم عند عبدالله تايه لم تتجاوز الموافقة الضمنية على ما يفعله ابنها ابراهيم الذي صار يخرج في الليل . (15) وبعد استشهاد إبراهيم ، تفتح أم ابراهيم بيتها أمام زملائه؛ يعقدون فيه الاجتماعات؛ بينما تجلس هي على الباب للمراقبة، ولما أدركت أن هناك من يراقب البيت طلبت من الشباب أن يغادروا البيت فوراً.(16)
بينما أعطى عمر حمش لقابلة المعسكر دوراً لا يعقل أن تقوم به ، فقد جعلها تزاحم الناس لتسعف عواجا مع أن المعلوم والملموس أن الشباب كانوا لا يتوانون عن تقديم الإسعاف والمساعدة لأي إنسان يصاب برصاص الجنود .
أما حنان أم الزعبي فإنها تستقبل ابنها بزغرودة تشعل النار والهتاف ، ولكنها تتجاوز الزغاريد ، إلى الفعل ، فتجري في الشارع صانعة من طرف ثوبها وعاء تملؤه بالحجارة تقدمها للأولاد و تصرخ : عليهم يا شباب. (17)
ثم تشجع ابنها على رفع العلم عالياً تقول مخاطبة ابنها: اتركه الآن يرفرف يا مهجة قلبي ، انزل لأقبِّل ساعدك .. قبضتك الجبارة .. أرى في عينيك سعيد (زوجها). (18)
وتصبح الزغرودة عنصر تحدٍ عند غريب عسقلاني ، فحين يصفع الضابط أم خليل ( زوجة المبعد أبو خليل ) ترد عليه بزغرودة ، يركلها ، فترد سميرة بزغرودة أطول .. انطلقت النساء و الصبايا بالزغاريد. (19) وتتحول زوجة الأستاذ فهيمأماً تقليدية تغضب على ابنها لأنه حاول مشاركة الأطفال في مواجهتهم للجنود ، و حين تستشهد سعدية يذهب عقل أمها ، تصرخ :
- سمعتوا..شفتوا زفة سعدية..راحت لعريسهاومعها الوظيفة؛ تسمرت عيناها في وجه زوجها.
- بشروا الغاوي .. سعدية زفوها يا غاوي .(20)
أما محمد أيوب فالأم عنده تنتقل إلى المواجهة بالبصاق والشتم ، وصب الدعوات واللعنات
على وجوه الجنود ، ولكنها تعود بعد ذلك أماً تقليدية تختلط العَبرة الحيرى في عينيها بلون السهر ، و قد غطى وجهها شحوب باهت . (21)
وعند اقتحام الجنود للمدرسة الثانوية في خان يونس تنتقل النسوة إلى مرحلة الفعل الإيجابي ، بحيث ينجحن في فك الحصار عن المدرسة وتخليص معظم الطلاب من بين براثن الجنود فقد " اندفعت النسوة من المعسكر البعيد ، ومن قلب المدينة إلى شارع المدرسة، صرخن في وجه الجنود ، أطلقن الشتائم ، و عفرن التراب عليهم ، تشجع بعض الرجال ... وفي النهاية يقتنع الناس وخصوصاً النساء أن بالإمكان وقف البطش عند حده، فقد بدأت الحناجر تتعلم فن الصراخ من جديد، تمردت الحناجر عل كابوس الصمت الثقيل . (22)
إنه تطور إيجابي في دور المرأة لكنه دور لم يكتمل ، و لم يتمكن من تخليص المرأة من أسر التقاليد والعادات التي تكبلها و تحد من حركتها. على الرغم من أن النساء ،قد اندفعن في مسيرات هادرة في الانتفاضة مما جعل أبا حياد يذكر تلك الأم - وكانت تشكل الاستثناء بالنسبة للقاعدة في السبعينات - التي نثرت الملح و العطور فوق رؤوس المشاركين في جنازة ابنها الشهيد . (23) يعلق أبو حياد و هو يرى المسيرة النسائية بقوله:هاهو التاريخ يعيد نفسه، كل النساء أصبحن أم خليل ، أصبحن أماً للشهيد ، كلهن يزغردن متحديات للرصاص. (24) كما كانت الأمهات يعاملن المصابين كأبنائهن ، كان سلام يشعر أن له أكثرمن أم. (25) إلا أن عبدالله تايه يفاجئنا بصورة نادية التي ترفض أن تصبح أماً لطفل من زوجها محمود، ثم بعد ذلك تقتنع أن تنجب و دون أي منطق يحكم هذه القناعات المتطورة .
ثانياً : المرأة المناضلة:
لم يقتصر النضال الفلسطيني على فئة من فئات المجتمع الفلسطيني ، ولا على شريحة اجتماعية بعينها ، وإنما ساهم الجميع في هذا النضال و إن كانت المساهمة على درجات متفاوتة ، وقد كان للفتاة دورها إلى جانب الشباب ، ونكاد نلمس ذلك في جميع الروايات التي بين أيدينا . فقد كانت سهام في رواية الذين يبحثون عن الشمس تساعد محمود زوج نادية في نضاله في حين كانت تتطلع نادية إلى إشباع غرائزها الجنسية ، و ترفض أن تنجب طفلاً لمناضل مثل محمود .. فقد كانت سهام تطبع المنشورات (26) ثم بعد ذلك تتحول نادية إلى مناضلة تشارك في الاعتصام النسائي دون أن يسوق لنا المؤلف مبررات مقنعة لهذا التطور المفاجئ ، هل مجرد بضع كلمات من سمير عشيق نادية تكفي لتحويلها من داعرة تجري وراء سراب المال وتسلم جسدها لسمير لأنه غني، إلى مناضلة تشارك أخت سهام- بعد اعتقال سهام-في اعتصام البلدية ثم تساهم في توزيع المنشورات.(27)
وتلاقي الفتاة نفس مصير الشباب، عندما تموت و هي تؤدي الواجب ، فقد كانت حليمة في رواية العربة و الليل تعد الطعام للشباب ، و فجأة و أثناء تأديتها لواجبها تنفجر و تنز الدم بهدوء (28) ، وتشارك حنان زوجها سعيد في التصوير ، تجلس معه طول الليل تلقم الورق للماكينة فيخرج مسوداً مسطوراً ، فتقوم بحصر الأعداد و رزم الأوراق.(29)
أما فتاة غريب عسقلاني فتذهب أبعد من ذلك ، فتحمل الماء إلى المقابر ، و تشارك في جنازة الشهيد ، تلقف الموس الكباس من الجعباص ساعة تطويق المقبرة،و عندما تنسل من بين النسوة يكاد يسقط الموس منها. (30) و لا يبدي الوالد( الغاوي) أية معارضة و هو يرى ابنته تشارك في النضال، و تتبع أم خليل دون أن يسألها أين تذهب .(31) لقد أصبحت سعدية بنت الغاوي على علاقة بالشباب .. علاقة من نوع آخر ، و هاهم الشباب يهمسون في أذن خالد أن يعتمد على سعدية بنت الغاوي،كما طلبوا من سعدية أن تظل قريبة من خالد. وكان هذا ما تريده و تتمناه ، فهي تحب خالد ، وهذه العلاقة تجعلهما يقتربان من بعضهما بحجة مشروعة كما يوحي لنا المؤلف. ولكن هل يقبل المجتمع هذه العلاقة ببساطة ، وهل أصبحت الفتاة في مجتمعنا المحافظ متحررة إلى هذه الدرجة بحيث لا تتعرض للمساءلة ؟؟ فها هو الجعباص يكاد يصعق عندما مرت سعدية أمامه راجعة للبيت ، ماذا قدمت سعدية ؟ كشفت لهم الطريق ؟ كل شيء كان يتوقعه من بنت الغاوي إلا الخروج بالليل أمام الشباب ، هذه البنت المتكبرة ، طول عمره يخشى الاحتكاك بها ، بنت المدارس ، غداً تصبح مدرسة، تصل إلى السماء كما تقول أمها دائماً ، ويكتفي هو بعد أن لقفت موس الكباس في المقبرة ، يكتفي برد التحية؛ تحية الجار للجار، و يقف مبهوتاً يسأل نفسه : كيف تصفف شعرها الذهبي وكأنه ذيل فرس أصيل يرتفع من جذوة رأسها حريراً يلمع في ضوء الصباح ، يضحك شعرها ، أم بوزها فلا يضحك لرغيف الخبز الساخن .. هو لم يذكر أنه رآها تضحك إلا يوم أحضرت له طبق العدس .. يوم البساطير .. الآن سعدية تمضي أمام الشباب في الليل وتضحك.. من يضحك هذه الأيام؟!
والناس مثلهم مثل الجعباص لا يرون إلا تلك المنطقة المحدودة .. لا يرون إلا الجنس ، ويفسرون كل عمل تقوم به المرأة استناداً إلى تلك الرؤية،ولكن سعدية مثلها مثل حليمة عند عبدالله تايه تستشهد وهي تؤدي واجب حماية الشباب واستطلاع الطريق أمامهم . ينطلق الرصاص زخات .. صرخة مميزة .. جسد يقع على الأرض .. الرداء الأسود ينفرد على الأرض .. خصلات الشعر الذهبية تلمع في ضوء الشمس .. ذهبياً ينتشر يفرش الساحة السوداء . بينما تأتي تأتي صورة الفتاة عند "محمدأيوب "باهتة مبتورة غير متطورة ، فعلى الرغم من مشاركتها في المظاهرات ، و دعوتها لحياد للمشاركة فيها ، فإن أمل كانت أشبه بومضة تظهر لتختفي كما ظهرت ، (32) ولا تظهر الفتاة عنده إلا ضمن إطار الصورة الجماعية للمسيرات النسائية في بداية الانتفاضة تواكب الشباب و تشجعهم و توازيهم جنباً إلى جنب لتنطلق الزغاريد و الأناشيد:
هبت النار والبارود غنى أطلب شباب يا وطن وتمنى (33)
لقد وظفت الزغرودة و النشيد لإلهاب حماس الشباب، و دفعهم إلى المزيد من العطاء .
لقد تكامل نصفا المجتمع في بداية الانتفاضة ، و من المؤسف أن ذلك لم يستمر طويلاً
فقد عاد الماء إلى الركود ، وانحصر النضال في الرجال ، ثم انحصر أكثر فأكثر في مجموعات خاصة "القوات الضاربة " ، فقد سحبت المبادرة من يد الجماهير التي عادت لتجلس على الرصيف ، أو تطل من النوافذ تشاهد تراقب وكأن الأمر لا يعنيها ، مما أتاح الفرصة لظهور الكثير من السلبيات التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه .
ثالثاً: المرأة و الجنس:
يبرز الجنس فاقعاً في رواية عبدالله تايه " الذين يبحثون عن الشمس " حيث يقدم لنا صورة غريبة عن أذواقنا و مجتمعنا ، إن الصورة التي يقدمها لنا تايه في هذه الرواية تكاد تكون منتزعة من الروايات الرومانسية المصرية ، بحيث يتجسد ذلك الشرخ الإنساني في النفس البشرية التي ترفض واقعها وتتعلق بأذيال الوهم. ففي مجتمع مسحوق مثل مجتمع المخيم ، يصبح الشرف و العرض أثمن ما يتفاخر به الإنسان ، فلا شيء يعادل الشرف و السمعة الطيبة ، و لا شيء يمكن أن يداري على الخروج عن القاعدة . فلا مال و لا جاه يمتلكه سكان المخيم ليخفي عيوبهم و يستر عوراتهم .
يقدم لنا عبدالله تايه أبطالاً محكومون بواقعهم سلفاً ، لا دور لهم في رسم مصيرهم ، و هم منافقون انتهازيون وصوليون ، ماكيافيليون تبرر غايتهم الواسطة التي يلجأون إليها . و ها هو
حمدي يمارس الجنس باستمرار رغم شعوره بالرغبة في القيء و الدوار كلما فرغ من عملية جنسية معها.(34) و نلاحظ أن الكاتب لم يذكر اسم المرأة و كأنها مجرد وعاء لتفريغ الشهوات الجنسية . و من خلال تيار الوعي ندرك أن حمدي يحاول أن يعوض عن عجزه وعُقد الشعور بالنقص عنده بأن يستغل غناه و أمواله في استدراج النساء، يقول: حمدي :
" الحقيرون يتملقونني ، و هم يعلمون أني أنسج في نسائهم نسجاً غير شريف مرات و مرات ، و في الليالي كان يحلوا لي النسج .."(35)
فهل يعقل أن يتحول الرجال إلى قوادين وهل كانت هذه الظاهرة بهذا الوضوح في مجتمع مثل مجتمع قطاع غزة . وهل هذه الصورة هي الصورة اللافتة للنظر في قطاع غزة في زمن وقوع أحداث الرواية .
إن الصورة التي يقدمها لنا عبدالله تايه هي صورة لا يمكن أن تنسب إلى مجتمع كالمجتمع الفلسطيني ، فالحياة الزوجية هي سلسلة من الخيانة المتصلة ، فالزوج يخون زوجته و الزوجة تخون زوجها . ها هو حمدي يتحدث عن زوجته بعد عودنها من عند الكوافير " تسريحة الشعر أنيقة .. لكن الوقت الضائع من أجل التسريحة طويل ، و عذابي في انتظارها كبير .. و ما يدريني أن تسريحة أخري في مكان آخر لم تحدث في هذا الوقت الضائع .. والوقت الضائع طويل "(36) إن حمدي في هذه الصورة لا يعدو كونه خنزيراً، فالحيوانات جميعها
- وليس الإنسان العاقل وحده - تدافع عن إناثها وتحافظ عليها ما عدا الخنزير حيث يتعاون خنزيران جنسياً مع أنثى واحدة .
يصحو حمدي فجأة فيكتشف أن في داخله "طبقة زجاج ملئ بالعفن ، والنتانة والقيء .. أهذه إمرأة ؟!! أهذه زوجه ؟ إنها تمنح جسدها لغيري ، كيف وافقت على خيانتي " (37)
والغريب أن يستنكر إتيان جريمة حين يقترفها غيره بينما يستسيغ نفس الجرية إذا كانت صادرة عنه ، الأولى والأجدى أن يكون الإنكار و الاسنتكار صادر عن شخص آخر غير حمدي . ويصل الأمر بحمدي إلى درجة التفكير في قتل زوجته، وهو مقتنع أن" الموت أسود، لكن الشرف يفوق حواجز الموت بمراحل والشرف دائماً هو القضية " ويحق للقارئ أن يتساءل منذ متى أصبح حمدي مهتماً بالشرف والكاتب يصفعنا من بداية الرواية بصورته القاتمة المنحرفة ، و يقع حمدي أو المؤلف في تناقض واضح ، فحمدي الذي يفكر في الثأر
لشرفه يحاول أن يدنس شرف إنسان آخر و هو محمود زوج نادية ، إنه يحاول إيقاع نادية في شباكه يقول حمدي : " هذه المرأة تمتلك جسداً أنثوياً رائعاً ، إنها فاتنة .. منذ زمن و أنا
أرمي شباكي لصيدها." (38) و يستطرد مخاطباً نفسه :" نادية تدغدغ أوصالي بأنفاسها رغم أنها بعيدة عني ، كيف سولت لي نفسي بأن أموالي تجلب لي من أشاء ، ولا تكاد تجلب نادية، الزوجة المتوسطة الحال والفائقة الجمال، و هي التي تعيش في بيئة كادحة . ما معنى أن يسجن هذا الجمال في كوادر الوظائف و الشركات .(39)
ترى كيف يحق لمن يفكر بهذه الطريقة أن يحاسب غيره على نفس الجرم ؟؟! إن شخصية حمدي تعاني من انفصام حاد أوقعها فيه الكاتب دون مبررمنطقي. ولننظر كيف يقدم لنا المؤلف صورة نادية التي استعصت على حمدي ، إنها ماكافيلية . يتضح ذلك من خلال الحوارالداخلي في ذهن نادية " يكفيني أن يكون حمدي غنياً..سأصطاده.. سأكذب عليه، وسيغدق علي الأموال،فهومغرور."(40)وتستطرد:أمامحمود فهوشخصيةثانية.. أنيق وجذاب ، بل هو مثير ..." نادية هذه تستسلم لسمير وتخون زوجها المناضل بينما تحاول استغلال حمدي و ابتزاز أمواله ، ألا يعتبر التفكير بهذه الطريقة قمة السقوط ،إنهم أبطال ساقطون سلفاً ومنذ بداية الرواية، و رغم سقوطهم فقد أراد المؤلف أن يصنع منهم أبطالاً وطنيين يندمجون في النضال دون تطور طبيعي ، فالشخصية جاهزة، والتحول يتم فجأة دون حدوث الصدمة اللازمة لإحداث مثل هذا التحول، فسمير يقيم علاقة غير شريفة مع أكثر من إمرأة .. مع نادية، مع يسرى زوجة حمدي ها هي نادية تفكر .." سمير سيبقى سراً لا أبوح به لأحد ، سمير له حكاية طريفة ممتعة، إنه كالسيارة التي تحملك أينما تريد بأي سرعة تريد..."(41) ، وها هي يسرى تسكته بقبلة، فتبرز أنياب الشيطان في الأركان الأربعة، وهاهو سمير يركض داخل ملابسه الملقاة بعفوية بعد سماعه رنين جرس التلفون(42)، سمير هذا يتحول بشكل غير متوقع إلى إنسان ، يصحو ضميره فيقول لنادية :" أنت متزوجة من رجل غيري ، ولا بد أن تعودي له بكل كيانك ، كافحي معه ، سانديه تخطي معه الأزمة ، وأنا سأتخطى أزمتي لكن بمفردي."(43) ، إنه البطل الرومانسي الفرد ، بأنانيته وشطحاته ، يتحول من إنسان داعر إلى مناضل يشارك في النضال ، ولعل الكاتب قد مس ولو بغير قصد الأزمة الحقيقية للثورة، فالثورة يصنعها المتحمسون والمغامرون ، و يواصلها المناضلون ، و يجني ثمارها الانتهازيون والمنحرفون ، حيث أن كل منحرف وشاذ يحاول أن ينال من الثورة صك الغفران بعد أن يشتد عودها فينضم إليها ؛ عسى أن يجد فيها الملاذ والملجأ هرباً من عقاب الجماهير .. و بمجرد أن يتفوه سمير بكلماته السابقة تتطهر نادية وتكتشف أنها مذنبة، تقول : انسقت إليك .. أحببتك لأنك وسيم ، لأنك غني . لو كان زوجي غنياً لرضيت بقسمتي معه ، لكن الآن عرفت مدى الأوحال التي تغرقني .. أوحال المخيم أطهرمنها"(44) ترى أية امرأة هذه إنها تعيش حالة انفصام تجعلها تعيش أبعد ما تكون عن واقعنا المعاش ، إمرأة لا يهمها أن تسلم جسدها لإشباع شهواتها ، و تعتقد أن قلبها نقي رغم أن جسدها مدنس ، كما تعتقد أنهم لم يوفروا العمل لزوجها إلا لافتراسها،أية مجموعة متناقضات تشكل هذه المرأة ؟! تصحو نادية وتتذكر وجه زوجها محمود و تتساءل : " إنه طيب فلماذا أخونه ؟ أمن أجل المال ؟ ما أتفه المال أمام قضايا الشرف و الوطن !! أي تناقض هذا، كيف أصبحت نادية - بمجرد أن تفوه سميرببضع كلمات - تتمنىأن يكون لها ابن من محمود بعد أن كانت ترفض ذلك باصرار.(45) ويصل الأمر بسمير إلى حد الزواج من أخت الشهيد إبراهيم رحاب،التي تصمت عندما يخطبها سمير من أمها(أم ابراهيم)، لتهتف الأم السكوت علامة الرضا . إن المؤلف أخرج رحاب من الإطار التقليدي في موقفها النضالي،و لكنه أبقاها أسيرة التقاليد عنما جعلها تصمت و لا تبدي رأياً عندما يتقدم سمير لخطبتها في موقف غير تقليدي. يقول سمير :
- ما أروع أن أتزوج أخت شهيد !.
وهذا يدلنا على أن زواجه من رحاب لم يصدر عن حب ، وإنما نتج عن منطق المصلحة الذي يحرك سمير حتى بعد أن طهره المؤلف و حوله إلى مناضل يشعر بالتقديس لكل إمرأة فلسطينية. (46)
أما الجنس عند عمر حمش فينحصر في إطار المشروع والمقبول اجتماعياً وإن كان أسقط الجدار الرابع ليطلعنا على علاقة الزوج بزوجته، ولكن الكاتب يصور لنا موقفاً غير مألوف من الرجل ، حيث يأتي سعيد لزوجته قوياً سهلاً مرحاً ، يخرج من اللفافة ثوب النوم الأحمر، يخرج زجاجة العطر الفواح، ثم يحضنها، ويدور بها.(47)
أما الزوج عند غريب عسقلاني فلا يملك إلا أن يحتوي ردفي زوجته بنظرة كسيرة. (48) فالردفين في رواية الطوق يشكلان عنصراً جنسياً يوحي بالأنوثة، ها هي أم خليل تتذكر شبابها أمام اهتزاز ردفيها الممتلئين ( يقصد حسنة ابنة أم خليل ) (49) ، و لكن غريب عسقلاني يتجاوز ذلك إلى تصوير حب سعدية لخالد و حب خالد لسعدية بصورة أقرب إلى العذرية ، فها هي سعدية تخبئ الورقة المرسلة لخالد بين ثدييها .وتعيش لذة اكتشاف حبها لخالد، ولكن سعدية مع ذلك تبدو سلبية لم تتحرك عواطفها نحو خالدالابعدأن طلب الشباب من خالد الاعتماد على سعدية، ومن سعدية أن تظل قريبة من خالد.
أما الجنس في رواية الكف تناطح المخرز فيأخذ بعداً آخر ، فالشاب حياد يعتقد أنه يجب أن يحافظ على بكارته وعذريته ، وألا يمنح حق افتضاض بكارته لتلك الشمس الغاربة التي حاولت ابتزازه جنسياً في الأولام . الفتاة تغمزه و تطلب كأساً آخر من الويسكي ، تمسه بجسدها و تبتسم : موتك ( لطيف) ويستقر نهدها الأيسرعلى ساعده الأيمن ، ولكنه لم و لن يستسلم لن يمنحها ما تريد.(50)
رابعاً: المرأة و الرمز
لا تخلو الروايات آنفة الذكر من بعض الترميز ، ففي رواية الذين يبحثون عن الشمس تغتصب نادية قبلة من زوجها و تقول:
- كل مغتصب يظل جميلاً و لذيذاً .
- لا تنس أن لذة الاغتصاب لا تستمر طويلاً. (51)
فهل يرمز الكاتب إلى اغتصاب الوطن ، ربما قصد ذلك ، لكنه قلب الأمور و عكسها ، فالمرأة هي التي تغتصب ، و الرجل هنا مغتصب ، إننا هنا أمام امرأة من الطراز الغربي حيث تمارس الفتيات عمليات اغتصاب الشباب . و يشير غريب عسقلاني إلى زواج امرأة صابر بعد وفاة زوجها ، فالوقت أقوى من عنادها ، " و ها هو الصبي يعود لأمه .. من يفقد أمه برضاه "(52) فالأم هنا ترمز إلى الوطن والصبي يرمز إلى الشعب والعلاقة بينهما واضحة فلا يوجد شعب في الدنيا يفقد وطنه برضاه ، و يوغل غريب عسقلاني إلى أبعد من ذلك فيشير إلى حالة المخاض التي تمر بها المنطقة حين يخرج الطفل يونس باحثاً عن جدته "أم صابر" لتساعد أمه التي سبق لهاأن تزوجت بعد موت زوجها صابر، يقول يونس : أمي عايزاها.. ليش مارجعت . . أمي بتصرخ وتاكل اللحاف .. قاعدة بتولد .. عايزة جدتي.(53)
كما يشير عبدالله تايه إلى حالة العقم الثوري التي تمر به المنطقة وقت كتابة الرواية ، يقدم حواراً بين مجموعة من النسوة يعانين من العقم :
- ذهبت إلى الشيخ كثيراً.
- و أنا أعطاني أكثر من حجاب .
- وأنا أعطاني أدوية ، و جربت وصفات كثيرة .
- لكن العقم باق.
- الوصفات كلها لم تأت بنتيجة.
ومع ذلك تلد زوجة الكاتب فاروق عوض بعد فترة حمل لم تزد عن خمسة أشهر، ترى هل يشير الكاتب إلى العلاقة بين الفكر والعمل و إلى ضرورة المزاوجة بينهما ، خصوصاً وأن الزوجة وضعت طفلها مكتملاً بعد أن تحركت قبور الشهداء الخمسة. (54) إن قصة القبور كما راجت وقتها في غزة إنما كانت إشارة إلى أن الشهداء أحسو بالظلم فتحركوا .
أما محمد أيوب فقد رمز إلى الاحتلال بتلك الفتاة في الأولام والتي تحاول إيقاع حياد في حبائلها؛ فيرفض أن يمارس الجنس معها رافضاً بذلك أن يقيم أية علاقة مع الاحتلال قد ينجم عنها وجود ثمرة ما ، فالعلاقة هي علاقة تنافر و تباعد ، لا مجال فيها لأي تقارب أو مزاوجة ، إنه يشير إلى الاحتلال بالشمس الغاربة والتي مهما طال سطوعها فستأفل وتصير إلى غروب .(55)
كما تظهر أمل في الرواية كحلم أو كومضة خاطفة ، مما يشير إلى أن الأمل لا زال بعيد المنال ، يرى حياد حلماً ، يرى أخاه "سلام" يتأبط عكازين ، و في ذلك إشارة إلى السلام المعوق الذي يريدونه ، وإلى جانبه أمل ، وحين يمد يده لمصافحتها تسحب يدها يدها إلى الوراء ، تراجعت كأنها تريد أن تفر منه. (56) إن الحياد في الحياة لا و لن يصنع أي أمل ايجابي يتجسد للإيجابيين من الناس .






الهوامش :
1 - مجلة آخر ساعة. أكتوبر سنة 1964 تحت عنوان سري جداً.
2 - طه وادي ، صورة المرأة في الرواية المعاصرة . ص 53
3 - فان تيجم ترجمة ، بهيج شعبان ، الرومانتيكية . ص 91 / بيروت
4 - تايه ،عبد الله . العربة والليل . القدس : وكالة أبو عرفة للصحافة ، 1982م.ص9
5 – السابق ، ص17
6 – السابق ، ص23
7 – تايه ، عبد الله . الذين يبحثون عن الشمس . القدس : وكالة أبو عرفة للصحافة ، 1979 م . ص117
8 – حمش ، عمر . الخروج من القمقم . القدس : اتحاد الكتاب ، 1992 . ص13
9 – السابق . ص 29
10 - السابق . ص30
11 – عسقلاني ، غريب . الطوق . القدس : دار الكاتب ، 1979 م . ص15
12 – السابق . ص44
13 – تايه، عبد الله. التين الشوكي ينضج قريباً . القدس : منشورات البيادر ، 1983 م . ص43
14 – أيوب ، محمد . الكف تناطح المخرز . القدس : اتحاد الكتاب ، 1990 م . ص8
15 - الذين يبحثون عن الشمس . السابق . ص63
16 – السابق . ص140
17 - الخروج من القمقم . السابق . ص57
18 – السابق . ص70
19 - الطوق . السابق . ص7
20 – السابق . ص114
21 - الكف تناطح المخرز . السابق . ص25
22 – السابق . ص113
23 – السابق . ص113
24 – السابق . ص59
25 – السابق . ص130
26 - الذين يبحثون عن الشمس . السابق . ص53
27 – السابق . ص114/115
28 - العربة والليل . السابق . ص26
29 - الخروج من القمقم . السابق . ص40
30 – الطوق . السابق . ص8
31 – السابق . ص83
32 - الكف تناطح المخرز . ص56
33 - السابق . ص112
34 - الذين يبحثون عن الشمس . السابق . ص12
35 – السابق . ص14/15
36 – السابق . ص14
37 – السابق . ص17
38 – السابق . ص20
39 – السابق . ص21
40 – السابق . ص 22
41- السابق . ص 26
42- السابق . ص31
43 - السابق. ص60
44 – السابق . ص61
45 – السابق . ص64
46 – السابق . ص116
47 - الخروج من القمقم . السابق . ص13
48 - الطوق . السابق . ص43
49 - السابق . ص46
50 - الكف تناطح المخرز . السابق . ص95
51 - الذين يبحثون عن الشمس . السابق . ص17
52 - الطوق . السابق . ص15
53 – السابق . ص111
54 - التين الشوكي ينضج قريبا . السابق . ًص 71
55 - الكف تناطح المخرز . السابق . ص95
56 – السابق . ص131

يحيي هاشم
15/12/2006, 02:38 PM
د/ محمد أيوب
تحية لك هنا
موضوع مهم لك التحية
أرجو أن تثرينا دوما بجديدك
يحيي هاشم

د . محمد أيوب
18/12/2006, 12:25 PM
أخي يحيى
أشكرك من القلب ، أرجو أن نظل على تواصل من خلال ما نكتبه عن همومنا المشتركة في وطننا العزيز
مودتي وتقديري
د . محمد أيوب