المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خالد - قصة قصيرة ، بقلم : د . محمد أيوب



د . محمد أيوب
15/12/2006, 02:13 PM
خـــــــــــــالد
قصة قصيرة
بقلم : د . محمد أيوب
هزت الجدة سرير حفيدها بيدها اليمني ، وتسللت من بين شفتيها كلمات أغنية قديمة طالما غنتها لوليدها :
ـ طرومبيل المتطوع ماشي الشط الشط .. موكول المتطوع زغاليل وبط .
انسابت دمعة حرى على خدها ، كأنها لا تزال تهز سرير وليدها الذي تخيلته أمامها لم يزل .. تكاد تداعبه .. تناغي له .. تنسى أحيانا نفسها فتناديه باسمه ، ثم تصحو وتتذكر أنها تهز سرير حفيدها .. ابن ابنها الذي كانت منذ لحظة تتصوره طفلا لا يزال ، وتمد سبابتها إلى شفة الوليد الذي لا يلبث أن يبتسم ببراءة تترك في نفسها أثراً لا تستطيع أن تعبر عنه بالكلمات .
- يا حليمة .. يا حليمة .
- نعم يمه .
- الله يرضى عليك يا بنتي ..تعالي لابنك .. أنا رايحة أجيب التموين .
- أنا دارية .. هيك الله كتب علينا .
وتلملم العجوز ثوبها ... تنهض وتضع شاشتها على رأسها .. تتمتم ببضع كلمات .. الله يرحم أيام زمان .. صحيح كان الإنجليز منشفين ريقنا ، لكن كل واحد منا كان في أرضه وبيته ، وتسرح العجوز بخيالها .. تأخذ نفساً عميقاً .. تصورت أنها تشم رائحة الطابون .. تتلمظ ويشدها من أحلامها صوت حليمة :
- الأكياس جاهزين يمه .
تأخذ الأكياس بصمت .. تخرج بعد أن تلقي نظرة حانية على الوليد ، تسير بين الشوارع الموحلة بين البيوت القرميدية في المعسكر كان عليها أن تمر فوق القنوات التي ازرق ترابها من كثرة انسياب المياه القذرة فيها ، بصقت باشمئزاز وتساءلت بينها وبين نفسها : وين حياتنا اليوم من حياتنا في الكرم والأرض؟ صحيح كان عنا بايكة الدواب ، وكنت كل يوم أنظفها ، لكن الدار والشوارع كانت نظيفة .. أنا عارفة هو القدر ما بقدر إلا علينا ، وإلا إحنا اللي مقصرين وبنلزقها في القدر ، والله ما حدا عارف الظالم من المظلوم ! إحنا ولا القدر .
وفي هذه الأثناء اقترب منها رجل يلبس قنبازا مقلما ويغطي رأسه بكوفية اختلط سوادها ببياضها ، لم تعره أدنى اهتمام :
-صباح الخير يمه .
- يصبحك بالرزق والسلامة يا نور عيني .
- خالد بيسلم عليكي .
هو فين.. أنت مين ؟
- مش مهم .. المهم هو بخير وبيطلب منك تديري بالك على حليمة وماهر . اقترب منها أكثر .. ترك في يدها مظروفا واختفى عند أول عطفة ، تحسست المظروف بأصابع يدها التي امتدت لتضعه في المكان المعتاد تحت ثديها ، وتتلفت حولها لتتأكد من أن أحداً لم يلحظ ما حدث وتمتمت :
لازم واحد من رفاقته ..زي كل مرة ! لأ وهالمرة بيطلب مني أدير بالي على حليمة وماهر .. طيب هو مين باقي لي غيرهم ؟ الزلمة مات ، والولد اللي في الجامعة الله أخذ وداعته .. مات غريب يا حسرتي .. يا ترى لقيت حد يبل ريقك بالميه يا عين أمك ، وأنت يمه يا خالد ... الحيلة والفتيلة .. من يوم ما شفناهم كثرت حركتك ، وبعدين صرت تنام بره ، ويوم ما كبسوا علي البيت - لولا ستر ربنا - كان رحت فيها ، ومن يومها لليوم مش طايلة أشوفك.. سلامات على الطاير ! وبتوصيني على حليمة وماهر ... حليمة مش كنتي .. هاي بتطلع أكثر من بنتي .. هي في العين اليمين وماهر في العين الشمال .
وتفيق من ذهولها . لقد وصلت مركز التموين . يقرأ الموظف الأسماء : حسين المجدلاوي .. محمد أبو خليل .. إبراهيم الصابر .. آه مازال زوجها يعيش ولو على بطاقة التموين .. نحن نعيش حتى بعد أن نموت ! كانت تتمتم بينما تناول الموظف البطاقة الزرقاء من يدها ... انسابت في الممر الضيق وصورة زوجها والدماء تنزف من صدره تلاحقها .. تحركت يدها وكأنها تريد تضميد الجراح من جديد ! ويصل أذنيها صوت انفجار رهيب لتغيب عن الوعي وعندما أفاقت وجدت نفسها في سرير أبيض وقدمها معلقة إلى حامل معدني ! أحست بألم قاتل وتذكرت أنها كانت تضمد جراح زوجها .. صاحت :
- وين أبو خليل ؟
قال الممرض بحذر : ليس الآن .. ستعرفين فيما بعد ، نظرت حولها ، رأت رجالا بملابس غريبة .
- مين هدول ؟ سألت الممرض .
- جيش لقد احتلوا البلدة بالأمس .
تحركت شفتاها لتبصق ... لم يطاوعها اللعاب ؛ فقد كان فمها جافا .
تنبهت على يد تمتد إلى الأكياس في يدها .. رز.. سكر .. فين تنكة السيرج .. الطحين هناك .. تحركت بطريقة آلية فقد كانت تعرف أين تذهب دون تركيز .
* * *
ألقت العجوز نفسها بتهالك على الأرض إلى جانب سرير الطفل .. أدخل العتال كيس الدقيق وبقية الأشياء إلى حوش المنزل .. نقدته الأجر :
- الله يعطيك العافية .
رد من خلال فكين برزت عظامهما : الله يعافيك .
خرج الرجل لتخرج حليمة من الغرفة التي كانت قد دخلتها قبل لحظات .. جلست إلى جانب حماتها وفي عينيها تساؤل ولهفة .. ترى أين أنت يا خالد ؟ وشعرت بحاجتها إلى أن يكون بجانبها ، إلا أن شعوراً بالاعتزاز غمرها حين تذكرت أن نسوة المعسكر ينظرن إليها بحسد ! وكيف يبدو أنهن ينظرن إليها باحترام .. إن زوجها يعمل شيئاً كبيراً .
ألقت الأم بظرف مقفل في حجر كنتها :
- اقري يا بنتي ..اقري .. بلي ريقي بكلامه الحلو .
وتقرأ حليمة.. تقفز بعينيها متلهفة فوق الكلمات :
أمي الحنونة .. زوجتي العزيزة .. ابني ماهر.. أنا مشتاق ، خذوا بالكم من حالكم .. أنا بخير .. لازم نتلاقى بعد ما أحقق أملكم .. لازم ابني ماهر يرفع رأسه فوق .. فوق . وتعلق الأم : يا مين درى يا رب
ويختلط الأمل بالقلق في نفس حليمة ، وتتحسس بطنها الذي ازداد تكوراً براحة يدها . يا ترى راح تشوف أبوك ويشوفك ؟ همست من بين شفتيها حتى لا تسمعها حماتها .
كان النهار قد انتصف ... بدأت الشمس تميل نحو الغرب ... بعد العصر سنأكل ... الغداء والعشاء مرة واحدة .. لازم نوفر وجبة .. وقتنا بدو هيك ، وتؤمن حليمة على كلام حماتها :
- كل واحد بقدر على شيء لازم يعمله .
تقول ذلك وتتحرك لإعداد طعام الغداء العشاء والعجوز تهز سرير الطفل الذي يناغي بينما كانت تردد :
طرومبيل المتطوع ماشي الشط الشط .. موكول المتطوع زغاليل وبط . وتعود حليمة بعد قليل .. تحمل طبقا صنع من القش والجريد وقد وضعت عليه رغيفين وبضع حبات من الزيتون والبندورة وصحن صغير فيه قليل من الزعتر الجبلي .
بسم الله ... وتمتد يد الأم إلى الرغيف ، وتتبعها حليمة ، تتناول بضع لقيمات ، ثم تشعر بالشبع لعلها الرسالة !.. النقود التي بها ليست مهمة .. كلمات الرسالة أهم .. الحمد لله .. اللهم ديمها نعمة واحفظها من الزوال تمتمت حليمة بهذه الكلمات بينما تسللت في صمت لتشعل مصباح الكيروسين ، فقد غربت الشمس وبدأ الظلام يهبط على الكون :
ـ مش جاي على بالي النوم هالليلة . قالت العجوز .
ابتسمت حليمة فقد كان لديها الشعور نفسه :
- على كل حال عنا شغل يسلينا .
نظرت العجوز إلى عيدان الملوخية نظرة ذات مغزى دون أن تعلق على كلام كنتها ومدت يدها وجذبت حزمة من عيدان الملوخية في الوقت الذي كانت فيه حليمة قد أفرغت الطبق وعادت به ، بدأتا معا عملية نتف أوراق الملوخية فقد اعتادت العجوز تجفيف أوراق الملوخية وخزنها كل عام ، بدأ صياح الديكة يشق سكون الليل .. تململت العجوز وقد لفتت نظرها حركة فستان حليمة عند البطن :
- والله أنت مصابحة مماسية يا حليمة .
- الله يطعمنا يمه .
واختلطت أصوات الديكة بأصوات غريبة مزقت هدوء الليل .. أنصتت العجوز بقلق ...أحست بمخالب متوحشة تغوص في قلبها :
- يا لطيف .. يا سابل الستر يا رب .. من يومين وعيني بترف .
همست حليمة بقلق : الكاين كاين .. العين ما إلها علاقة بحياتنا .
***
استمر إطلاق الرصاص أكثر من ساعة ... كان الرصاص يتوزع بين جبهتين .. يشتد ويخفت ، وينتقل من مكان لآخر .. تذكرت العجوز شاعر القرية وكيف كان يصور عمليات الكر والفر ، وكيف كان ينغم ربابته ليحدث الأثر المطلوب في نفوس السامعين ، ثم يقفز مع ضربات الفرسان المختلفة .. تذكرت كل ذلك وأصوات الرصاص تنتقل من مكان لآخر .
* * *
بدأت خيوط الفجر تلوح في الأفق .. طرقات شديدة على الباب .. صمتت الاثنتان .. عاد الطرق شديدا وتلاه صوت أجش : افتح باب .
قامت العجوز .. فتحت الباب لتجد أمامها عدداً من الجنود .
تساءل الطارق : فين خالد ؟
- والله ما أنا عارفة .
- كل واحد فيكم مش عارف .. ما سمعش ... ما شافش . . يللا معانا .
- على فين الله يهديك .
- اسكتي يللا بسرعة .. لازم تروحي معانا المستشفى .
انخلع قلب العجوز .. طلبت غطاء لرأسها وخرجت من باب المنزل وقلق غريب ينشب أظافره في جمجمتها .. لابد أن شيئا غريبا قد حدث .. خالد يا نور عيني .. إيش جرى لك يمه ؟
- هسه بتشوفي إيش جرى له . قالها صوت غريب ووضعوها في سيارة تحركت علي عجل .
وقفت السيارة أمام مستشفى المدينة . نزل الضابط من السيارة قابله أحد الجنود.. تساءل الضابط :
- هل تعرفتم عليه ؟
رد الجندي من بين أسنانه كأنما ليؤكد الكلمات :
- إنه خالد إبراهيم الصابر .
لطمت الأم الضابط في صدره وصاحت :
- إيش عملتوا فيه ؟. مات خالد ؟ قتلوك يمه ؟ لحقت أبوك يا حبيبي ؟
اندفعت العجوز ، حاول جندي اعتراضها : خلاص عرفناه . ممنوع يا ست ممنوع .
دفعته : ممنوع في عينك وعين اللي خلفوك .. ابني لازم أشوفه .
ممنوع .. لازم أشوفه .. ممنوع .. لازم أشوفه .. لازم أشوفه .. لازم أشوفه
وحملتها أيد بلا رحمة وألقت بها في السيارة ..أعادوها إلى البيت .. قال الضابط في هدوء وقد علا وجهه اصفرار باهت :
- لازم تدفعي خمسمية ليرة علشان تاخدي ابنك .
- الله ياخدكوا عنا .. كمان عايزين مصاري ؟
أدار الضابط ظهره دون أن يجيب ، وهدر محرك السيارة لتقل الجنود بعيداً عن المنزل .
* * *
تجمع عددُ غفيرُ من الناس حول المنزل .. رجال .. نساء أطفال .. صبايا .. شيوخ مسنون عجائز .. تجمعت النسوة حول أم خليل يواسينها بمصابها. همست إحداهن :
- قتلوه .. قتلوه تحت الشجرة الله يقتلهم ، بدمه روى الشجرة .
رنت هذه الكلمات في أذنيها كالمطارق بينما أردف أخرى :
- والله ما إلو أخو .. رويان من بز أمه .. بيقولوا إنه عمل الهوايل فيهم !
علقت أخرى : والله ما تزحزح من مطرحه ، سمعته بداني اللي بدو ياكلها الدود بيقول لرفاقته :
- انتوا انسحبوا وأنا بحميكم .
والله ما في زي همنا .. اللي جيزاننا ماهم عارفين يعملوا لهم نفيلة.. أنا عارفة على إيش متمسكين بها الحياة .. حياة مغمسة بالهوان .. لوقتيش بدهم يتحركوا .. الناس الطيبين بروحوا واحد ورا واحد .
- والله ما بينول هالشرف إلا اللي بستحقه . أجابت الأخرى همساً .
صاح أحد الرجال في الخارج :
- الشهيد ما بتغسل .. حطوا فرشه على النعش و يللا ندفنه قبل الليل .
قال آخر محتجا : يا ناس حرام عليكم ! خلي أمه وعياله يشوفوه ، وانتحب الرجل بصوت مرتفع .
قال الرجل الأول : يا عيبك يا حج حسين ! والله النسوان ما عملتها .
خرجت أم خليل برباطة جأش ، وحاولت أن تهدئ الحاج حسين : يللا يا حاج .. اليوم عرس خالد الحقاني .. أبوه وأخوته بستنوه . وأردفت : حضروا العشا لأخوكم يمه .
انتحبت النسوة بينما رفعت أم خليل شرشفاً أبيض عن وجهه. كانت عيناه لا تزالان مفتوحتان وفمه يفتر عن ابتسامة ! رفعت الشرشف أكثر .. انكشف صدره عن فتحة لا يزال الدم ينزف منها فوق القلب .. زي أبوه تمام ، همست أمه لنفسها .
حمل الرجال النعش بعد أن غطوا وجه خالد للمرة الأخيرة ، قال أحدهم : - اللي خلف ما مات ، كلنا أولادك يا أم خليل .
أطلقت أم خليل زغرودة مجلجلة وفتحت زجاجة عطر .
بدأت ترش منها على السائرين في الجنازة التي بدأت تتحرك ، أخرجت من جيبها ملحاً ونثرته فوق الرؤوس ، أمسك غلام بطرف كمها وهمس : كنتك أجاها الطلق ، قالت العجوز :
- شوفولها الداية . يا أختي يا أم حسن اقعدي جنبها ، ديري بالك من حليمة ، وإن أجاها ولد سموه خالد .

عبلة محمد زقزوق
15/12/2006, 02:29 PM
د . محمد أيوب



الصمت في محراب الجمال جمال وإحترام وتقديس


رررررررررررررائع

صبيحة شبر
16/12/2006, 05:47 PM
د. محمد ايوب
ويمضي الشهداء واحدا تلو الاخر
وهم يروون الارض الطاهرة بالدماء الزكية
قصة ممتعة
تحية لقلمك الجميل
ايها الاخ العزيز

د . محمد أيوب
18/12/2006, 11:11 AM
العزيزة عبلة
غالبا ما تكون لغة الصمت أبلغ من الكلام ، شكرا لك من القلب
مودتي وتقديري
د . محمد أيوب

د . محمد أيوب
18/12/2006, 11:16 AM
العزيزة شبر
وسيظل هذا الشعب يعمد أرضه بدماء الشهداء حتى تتحرر ويتحرر من الظلم الخارجي والداخلي ، لأن الظلم إلى زوال مهما اشتد عوده
شكرا لك من القلب وبارك الله فيك
مودتي وتقديري
د . محمد أيوب