المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة بعنوان "المزهرية"



أدهم مطر
06/10/2008, 03:46 PM
" المزهرية"

أدهم وهيب مطر

تسلّلت شعاعات الشمس الأولى بخجل على أروقة دمشق القديمة مخترقةً أغصان شجر الصفصاف
والنارنج المحُيطة و مُعلنة انبلاج فجرٍ جديد .
بدأت المآذن في أرجاء المدينة النائمة تدعوا الناس للقيام ، للصلاة ، للسعي ، لذكر الخالق و اختلطت أصوات المؤذنين بتغريد طيور السنونو التي افتتحت صباحها بتحليقٍ استعراضيٍ ، سريعٍ ، و نشيط .
إنه يوم جديد ، كل فرد يَعُدُّ العُدَّة لاستقباله على طريقته ، روائح الخبز الشهية المنبعثة من الأفران القريبة تعلن بدء إنتاجها،وغناء فيروز القادم من إحدى الدكاكين ينعش في النفس أريحيّةٍ محُبّبة. أصحاب المطاعم القريبة من"باب الجابية"يتبادلون تحيات الصباح بذات الطقس الروتيني اليومي وبعواطف بلا حرارة ، باعة الألبسة المستعملة بدؤوا بنشر بضاعتهم والمُقعدون الذين يبيعون الدخان المُهرَّب احتّلوا أماكنهم المعهودة و قد سجّل كل واحدٍ منهم اسمه تحت كرسيه المتحرك وراسما مربعا على الإ سفلت مُعلناً بذلك أنَ هذا المربع مملكته ، عالمه ، مصدر رزقه ، حدوده التي يدافع عنها بكل تحدٍّ و قوة ضد أي متطفل،وأي كرسي متحركٍ آخر يحاول احتلال المكان،وعلى الرصيف المقابل المتُسخ ، كانوا هناك ، ُثلّة من أشباه الرجال ، الأكثرية كانوا من الجنود المتقاعدين وكبار السن يفترشون الرصيف،وإلى جانبهم معاولهم الصدئة و أدوات أخرى،يسترقون السمع لصوت فيروز الذي يرسل طمأنينة خادعة و مؤلمة في نفوسهم .
الجميع يحدقون بالإسفلت البارد فتنعكس النظرات التائهة الضائعة بحبيبات الرمل إلى وجوههم المصفرة الجائعة .
إنه يوم جديد ، و هؤلاء الناس يأملون بالحصول على عمل يسدُ رمقهم ورمق عيالهم.
تعدَّت الساعة التاسعة صباحاً،وإذاعة لندن تبدأ ببثّ أخبار العالم العربي،معظمها أخبار عن القتل والذّبح و الاغتيالات، والانشقاقات العربية العربية .
بدأ الضجر يتسلل إلى النفوس ، والعيون التي فقدت بريقها ، و فقدت الدهشة .
لحظات تمرُ ، وفجأة ، تنعطف سيارةٌ سوداء بسرعة كبيرة ثم تتجمّد في مكانها بعد أن صدر صوت حادّ من دواليبها الجديدة،كان بداخلها رجل بدينٌ،بارد النظرات،مزركش الثياب،وما ان أنزل زجاج النافذة حتى تجمهر الجمع حولها،وبدأ الكفاح من أجل الوصول إلى نافذة الرزق لإنجاز العمل الشاق مهما كان نوعه.
ثوانٍ معدودة اتفق خلالها صاحب السيارة مع أنيس ، الرجل المُسنّ الأشيب الشعر،وحين همَّ بركوب السيارة الفخمة،ناوله الرجل كيساً من النايلون ليفترشه تحته خوفاً على مقعد السيارة المخملي من أن يتسخ،كانت ثياب أنيس مهترئة رغم محاولاته الكثيرة لمعالجتها بالرقع الملونة .
لم يستغرق الطريق طويلاً للوصول ، كان المنزل قصراً مبنياً من الرخام الأبيض ومسقوفاً بقرميد أحمر على الطراز الفرنسي ، والحديقة المحيطة بدت وكأنها قطعة من الجنة ،و أفهم أنيس أن مهمته هي إصلاح بعض التمديدات الصحية في المطبخ .
دلف الرجلان من الباب الخلفي للمطبخ ، تأمل أنيس ما حوله ، تساءل في قرارة ذاته أمطبخٌ هذا أم جزء من متحف ، ما هذه الأجهزة الموزعة في كل مكان يا ترى ؟ إلا أنه كثيراً ما تعجّب عندما وقع بصره على جهاز تلفاز كبير الحجم،هل يعقل أن يوجد تلفاز في المطبخ ؟وتذكر كم يتوسّل له أطفاله يومياً لشراء جهاز ولو صغيراً،امتقع وجه أنيس حين تذكر أطفاله ، تحسَّر، بلع ريقه ثم استغفر ربه وبدأ العمل بصمت .
ثماني ساعات أمضاها في عمل دؤوب ، لم يُقدَّم له خلالها شيء من الطعام ، ولا حتى كوب شاي إلاّأن الخادمة حنَّت عليه أخيراً وجلبت له طبقاً فيه أرز من يوم فائت ثم قالت له بشيء من الخوف: "- كله بسرعة يا أخ،لأن ستي إذا رأتك تأكل في المطبخ ستطردني ، أرجوك ، كله بسرعة ".
احتار أنيس بادئ الأمر ، فكَر ، حاول أن يعيد الطبق للخادمة ، شعر ولسبب ما أنه يُهان ، كيف يأكل خلسة ، هل يسرق حين يأكل ثمن تعبه ؟ لكن لا بد من الاختيار الآن بين المشاعر النبيلة وبين المعدة الفارغة ،ثم شرع بتناول الطعام رغم صعوبة ابتلاع الأرز الناشف و البارد .
انتهى أنيس من عمله في الساعة الثامنة مساء،و بينما كان ينظف المكان،حدثت الكارثة ، فقد سقطت إحدى المزهريات القريبة بدون قصد منه، فتحطمت، وتناثرت أجزاؤها على البلاط الفاخر هرعت صاحبة المنزل ، شاهدت المنظر ، جُنَّ جنونها، نعتته بصفات كثيرة ، أهانته ، بصقت في وجهه ، لحق بها زوجها ، ارتجفت مفاصل أنيس لما رأى الزوج السمين الذي وبَخه بدوره ، صفعه لم يحترم سنه ، ثم التفت إلى زوجته وطمأنها بكلماتٍ رقيقة مؤكدا لها أنَ أنيسا سيدفع قيمة التحفة و أن لا تقلق بشأن ذلك ، ثم توجَه إلى هاتفه الخليوي و اتصل بقسم الشرطة .
اقتيد أنيس إلى مخفر الشرطة،كانت هناك توصيات كثيرةلتأديبه،وتعليمه كيف يتعامل ويحافظ على الأشياء عند الناس الأكابر،طلب رئيس المخفرمن أنيس أن يدفع قيمةالتحفة،ارتبك أنيس،تلعثم،صمت وقد لفَّهُ الذهول. دوَّنَ الشرطي في محضر التحقيق أن أنيسا امتنع عن دفع قيمة الأضرار التي سببها فأمر بحبسه .
بعد يومين ، جاء الرجل السمين إلى المخفر ، دخل مكتب رئيس المخفر الذي صافحه بحرارةٍ داعياً إياه للتفضل بالجلوس ، لكن الرجل اعتذر لانشغاله وكذلك لأنه لم يتسنَّ له الاتصال من أجل الإفراج عن العامل الموقوف،قال مازحا:
" – لقد أردت أن أُلقِّنَه درساً صغيراً ، و أردتُ أيضا أن أُهدّئ من عصبية زوجتي فقد كانت التحفة نادرة لكنني نسيت الموضوع لذا أرجو أن تخرجوه من النظارة فوراً وأن تعطيه هذه المائة ليرة إنه رجل مسكين على أية حال ، أبلغ الشباب تحياتي "، ثم رمى قطعة النقود على الطاولة و انصرف.
خرج أنيس من التوقيف ، كان منهاراً ، يائساً ، مقهوراً ، و علامات الحز ن واضحة على سحنة وجهه المُصفرّ ، أخذ المائة ليرة و مشى باتجاه المطعم المجاور، اشترىدجاجةً مشويةً ، ثم دخل إلى الصيدلية ، و حين خرج ، استقلّ الباص إلى بيته .
كان أنيس مُنهكاً لدرجة الإعياء ، وكان واقفاً وسط الزحام ، يحمل في يده كيساًويتحسّس في جيبه قارورةً صغيرةً فيها سُمُّ فئران ..!!


_ انتهت _

بهائي راغب شراب
25/10/2008, 08:45 AM
أخي الكاتب المبدع الأستاذ ادهم
شكرا على هذا النص الطيب
فقد جعلتنا من خلاله نعيش يوما حيا من أيام دمشق العزيزة .. لم أر دمشق قبلا لأنني ببساطة لم ازر سوريا ابدا .. رغم ذلك فقدد تملكني الاحساس بانني احد سكان هذه الميدنة التي .. تشبه بآمالها وبأحوالها أي مدينة او عاصمة عربية اخرى
فالصباح المفعم بالأمل وبالنشاط هو ذاته صباح المدن العربية الأخرى

صوت المؤذن فجرا ، زقزقة الطيور .. صوت العجلات وهي تبدا هديرها .. وطوابير الباعة المتجولين او من أصحاب البسطات .. وطوابير العمال المأخوذين الذاهلين من الجوع والفقر والتعاسة وحصار الأفواه التي تستعجلهم لقمة الحياة
انه نفس الترتيب الروتيني للحياة العربية حتى بالطبقة الراقية مالا وغنا وليس اخلاقا .. هم هم لا يتغيرون من مكان إلى مكان نفس الصفات ونفس السلوك ونفس الاستغلال والتصلف في المعاملة

القصة جميلة ... وكان بالإمكان ان تصل إلى مستوى الإبداع العالي لو فعلت عنصر التشويق الداخلي الذي يتاثر بموجات الحالة النفسية للعامل وللخادمة وللسيد وو.. للحدث نفسه
وهنا أريد التنبيه إلى أن اختيارك للخاتمة كان يمكن ان يأتي أفضل من ذلك بكثير .. فالموت انتحارا ليس خيارا مشرفا ولا شرعيا ولا أخلاقيا .. إنه ببساطة خيار الضعفاء .. والعمال الساعين إلى كسب لقمة الخبز بعرقهم وكد أيديهم لا يفكرون بهذه الطريقة .. فهم برغم كل شيء يعيشون بالأمل ...

ودمت
بهائي راغب شراب

:fl: