المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترجمتي لكتاب تاريخ الشرق الأوسط ج2



أدهم مطر
06/10/2008, 06:47 PM
الجزء الثاني من ترجمتي للفصل الأول من كتاب تاريخ الشرق الأوسط
بعد مرور حوالي مائة عام على استيطان الفينيقيين، هرب " اليهود Jews "من مصر وغزوا أرض كنعان من الشرق حيث استولوا على مدينة"جرش" وشيئاً فشيئاً أخضعوا سكان التلال الُمحيطة لسيطرتهم، إلاّ أنّهم كانوا في صراعٍ دائم مع موجات الغزاة المتلاحقة عبر منطقة الشرق الأوسط وخاصة"الفلسطينيون Philistines"الذين كانوا السكان الأصليين للمنطقة ويستوطنون على طول السهل الساحلي، حيث كانت فلسطين تضم كل المناطق الساحلية و الداخلية، وقد استمرّ الصراع المتكرّر، يقوى تارة ويهدأ طورا، إلى أن قام النبي داوودDavid "عليه السلام"بتوحيد القبائل العبرية وفتح مدينة القدس وجعلها عاصمةً له، ثم بنى ابنه النبي سليمانSuleiman بن داوود "عليهما السلام"أول معبد يهودي، وقد دامت مملكة إسرائيل حوالي قرنين من الزمن قبل أن تنقسم إلى مملكتين هما " مملكة إسرائيلIsrael Kingdom ومملكة يهوذا* Judah ".
في عام 720 ق.م اجتاح"الآشوريّون Assyrians " الأقوياء القادمون من شمالي العراق هاتين المملكتين الصغيرتين وأبادتهما عن الوجود، ومنذ ذلك الحين، لم تعد المناطق اليهودية تتمتع بالاستقلال أو الاستقرار، مع أن مملكة"المكّابيين Maccabeans"التي ازدهرت بين عامي 166 ق.م – 163 ق.م قد اعترفت بهم من خلال مجلسهم التشريعي، وعندما ثار اليهود بوجه الإمبراطورية الرومانية عام 70، قامم الإمبراطور " تيتوس Titus " بتدمير مدينة القدس ثانية، وأُخمدت بذلك ثورتهم الأخيرة عام 135 م وتبعثر اليهود بعدها، بيد أنّ بضعة آلاف منهم تمكّنوا من العودة إلى ما تبقّى من أطلال مُصلّى كنيسهم المُدمّر.
لقد كان اليهود بمعزل عن الشعوب التي غزت و استوطنت سوريا وفلسطين ويعود ذلك لسببين:
• إن هؤلاء اليهود لم يختلطوا أو يتعايشوا أو يتزاوجوا مع بقية شعوب المنطقة وظلوّا مُتقوقعين على أنفسهم.
• الشِّرعة الدينية والتي كانت أول رسالة سماوية دينية توحيدية وقد اعتبروها خاصة بهم وتعتبر
1- "الوصايا العشر"والأسفار اليهودية والمبادئ التي اشتُقّت منها ولوقت طويل أسمى مبادئ للنظم الأخلاقية الفاضلة التي طوّرها البشر في تلك الحقبة، وظلت كذلك حتى ظهور"السيد المسيح (ع).
كان اليهود يعتبرون أنفسهم على أنهم" شعب الله المختار" وقد احتفظوا بتعاليمهم ومقدساتهم ولم يسمحوا بنشرها لتكون دين هداية، ولذلك فإنّ التجمّعات البشرية الهائلة المعاصرة لهالم تكن ترغب باتباع العهد اليهودي مقارنةً مع ما حدث إبّان ظهور الديانتين المسيحية و الإسلامية.
مع نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، تغيرّت النظرة حيال سوريا و فلسطين وأصبح الناس يفضّلون الهجرة إليهما التماساً للاستقرار في بلد"المنّ والسلوى" على البقاء ضمن قوى لاهمّ لها سوى الغزووالتوسّع وفرض قوانينها الصارمة على السكان الموجودين.
ظهر الآشوريون عام 1100 ق.م في سوريا أولاً، وكانت مدينة " نينوىNineva " عاصمةً لهم وتقع بالقرب من مدينة الموصل العراقية حالياً وقد أسسّ الملك"شالمنصّرالثالثShalamanaserIII"
( 859 – 824 ) ق.م إمبراطوريته الآشورية التي دامت لأكثر من قرنين، وأخضعت مصر في نهاية عهدها، حيث غَرُبت بذلك شمس الإمبراطورية الفرعونية في عهد "رمسيس الثالثRamssesIII والذي كان من آخر السلالات الفرعونية العشرين التي حكمت منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد وكان أيضا آخر الفراعنة الذين أظهروا عبقريةً واضحةً في ساحات المعارك على حساب أعمال الريّ الهامة التي أُهملت تماماً في ذلك الوقت، وفسُدت التجارة في الوقت الذي كانت به مصر محكومةً من قبل حُكاّم مُدن دلتا النيل المستبدّون الطّغاة إلى أن هُزموا أخيراً أمام الآشوريّين الذين هُزموا بدورهم من قبل السلالة"الكلدانيةchaldean "البابلية، وفي عام 597 ق.م احتلّ الملك الكلداني" نبوخذّنصَّر Nebuchad nezzar"مدينة القدس، إلاّ أنّ عمر الإمبراطورية الكلدانية كان قصيراً نسبياً.
كانت إيران في تلك الأثناء عبارة عن مقاطعات ديناميكية جديدة على شكل وحدة بين "الميدييّن*Medes"و"الفرسPersians"وقدحكم ملكهم"سايروس الثانيCyrusII"بين عامي(559- 530ق.م) وأسّس خلال حكمه إمبراطوريةً واسعةً شملت الغرب الآسيوي في الشرق الأوسط الحديث ومن نهر "إندوز Indus"حتى بحر إيجة وصولاً للأراضي المتُاخمة لمصر في الجنوب .
في عام 525 ق.م فتح خلفاء الملك سيروس مصر دون مصاعب تذكر، ومنذ ذلك التاريخ بالتحديد
بدأ عهد خضوع المصريين للحُكم الأجنبي ولفترةٍ زمنيةٍ لاحقةٍ استمرّت ألفي عام .
أحكم الفرس قبضتهم بلا مُنازع، وطوّروا حضاراتهم بحيث أصبحوا أسياد المنطقة وازدهرت أقاليمهم بحيث لم يكن يضاهيها في ذلك سوى حضارة الصين *.
كانت اللغة الآرامية هي اللغة الرسمية في الأقاليم الغربية لسورية وفلسطين، وتخضع في حُكمها لإدارة نشيطةٍ وفاعلة، فقد تمّ فتح الطُرق وجُمعت الضرائب بانتظام، وتمتّعت المنطقة بسلام وازدهار ورخاء
اقتصادي دام أكثر من مائتي عام، وكما رأينا، فإنّ السكان الأهليون المحليين، على اختلاف أعراقهم
غير السامية الذين قدموا بشكل عام من الشرق والشمال، والسّاميين الذين قدموا من شبه الجزيرة العربية قد انصهروا جميعا في بوتقةٍ متجانسةٍ واحدة.
إنّ كلمة السّامية"Semite "مُشتقّةً من"سامShem " الابن الأكبر للنبي "نوح Noah " (عليه السلام) والذي من المفُترض أن يكون الشّعب السّامي قد انحدر من سلالته، لكنه تم استخدام هذه التسمية كمصطلح لغوي وليس عرقياً وقد أوجده المؤرّخ الألماني "شو لتزر Scholzer " في نهايات القرن الثامن عشر للدلالة على اللغات التي كانت محكيّة في بلاد ما بين النهرين وسوريا والجزيرة العربية وانتشارها في شمال إفريقيا في بداية الألف الأولى قبل الميلاد.
إنّ كل اللغات السامية تتشابه في قواعدية تركيب وبناء الجملة الإعرابية، ومن حيث معجميّة المفردات اللغوية، والتي كانت تعتبر العروة الوثقى بين المؤسسات الاجتماعية المختلفة ( التي تعدّ الجزء الأساسي من بناء الحضارة والثقافة)وبين المعتقدات الديّنية والميزات السيّكولوجية للجماعات الناطقة بها ومن المؤكّد أنّه كانت هناك لغة سامية بدائية وحيدة تكلّم بها العرب القدماء بلهجات مختلفة.
استمرّ الساميون بالهجرة من شبه الجزيرة العربية، وكانوا ينزعون إلى الوصول لذروة هجرتهم خلال الألف عام الأولى، وكان الآشوريون أول من ذكر العرب في ألواحهم المنقوشة عام 850 ق.م على أنهّم قبائل بدويّة أتوا من شمال الصحراء العربية، وقدّموا الولاء للملوك الآشورييّن وجلبوا الهدايا وقدّموا الجزية على شكل جمال تم ّ تهجينها في شبه الجزيرة العربية قبل أكثر من خمسمائة عام من ذلك التاريخ.
إنّ الأصل العرقي للعرب عموماً ضارب في القدم، وقد توارثوا معتقداتهم جيلاً بعد جيل بأنهم ينحدرون من سلالتين رئيسيتين هما "القحطانيونQahtanis والعدنانيونAdnanis"وقد نشأت السلالة الأولى " القحطانيون" في النجود الجنوبية الغربية للجزيرة العربية وينتسبون إلى جدّهم الأول "قحطان"، أما سلالة العدنانيون فقد انحدرت من شمال ووسط الجزيرة، وعموماً، فإنّ كل قبيلة عربية لها الحقّ بالانتساب لهذه السلالة أو تلك، إلاّ أنّ سكان اليمن الجنوبي الذين يُشكلّون نصف سكان الجزيرة تقريباً يلقّبون بالعرب"الأقحاح"وأبناء عدنان"بالمستعربين"، واليوم نجد أنه لا يوجد أي
تنافس عرقي بينهم، لكننا نستطيع تمييز الأقوام الذين قدموا من الشمال من خلال ملامحهم المختلفة وقاماتهم الطويلة وقسمات وجوههم الدقيقة، بينما الجنوبيون هم أقصر قامةً ووجوههم دائرية، وقد تكون لهم صلة أو نسب مع الأثيوبيين، ولهذا، فإنه من المُستغرب أن يعتقد الجنوبيون بأنهم العرب الحقيقيون في حين أعطى الشماليون انطباعا مُبسّطاً وحيوياً عن العرب،كما كانت اللغة العربية لسان الجزيرة العربية وشمالها ،وفيها نشأت وتطوّرت الحضارة العربية الإسلامية.
تعاقبت عدّة قرون قبل أن يصبح كامل الشرق الأوسط والشمال الإفريقي، وجزء من تركيا وبلاد فارس مناطق عربية، ففي عام 336 ق.م قام الملك "فيليبPhillip " ملك مقدونيا بتوحيد الأقاليم والمدن الإغريقية وخلفه ابنه "الإسكندرAlexander " الذي شنّ سلسلة من الغزوات المنظمّة ودمّر الإمبراطورية الفارسية التي كانت قد أصبحت هزيلة آنذاك.
ومن هنا، فقد بدأت المعتقدات والثقافات الغنية المتنوعة للحضارة الإغريقية تغزو سوريا وفلسطين ومصر، حتى قبل وصول الإسكندر المقدوني الذي افتتح عصر الحضارة الرومانية الذي تجاوز الألف عام، والتي امتدت على طول السواحل الشرقية الجنوبية للشرق الأوسط بعد أن ضمّ الإسكندر الخليج بفرعيه العربي والفارسي لحدود امبراطوريته.
بعدما بلغ الاسكندر الحدّ الأقصى لفتوحاته في المناطق االبرّ، ووصل على الهند عام 326 ق.م، قرر الالتفاف والعودة إلى بلاد فارس" إيران"عن طريق البرّ، واضعاً في مخيّلته إنشاء تجارةٍ بحريةٍ تربط بين بابل- عاصمة الإمبراطورية في الشرق – وبين الهند، فأعطى أوامره للأدميرال"نيرشوسNearchos " للعودة إلى منطقة الفرات عن طريق الخليج على رأس أسطوله البحري الضخم، وقد نوّه القائد نيرشوس في تقريره إلى وجود جزيرتين استراتيجيتين على رأس الخليج وتضم الجزيرة الكبيرة قطعان من الماعز البرّي والظباء _ التي كانت مكرّسة للآلهة "آرتميس Artemis"حسب الميثولوجيا الرومانية– وقد أمر الاسكندر بإطلاق اسم " إيكاروسIkaros " عليها، بعد الجزيرة المكتشفة في بحر إيجة- والتي كانت شبيهة بها- وبُنيت فيها قلعة راسخة تحوّلت إلى قاعدةٍ عسكريةٍ أماميةٍ حصينةٍ دامت لأكثر من مئتي عام، وتُعرف جزيرة " إيكاروس " اليوم ب"فيلكةFailka " وتعتبر جزءاً من الكويت في الوقت الحاضر.
لم يتحقق حلم الاسكندر بتوحيد الإمبراطورية"الهلنستيةHellenisticEmpire " حيث داهمه الموت مبكراً، وأصبحت فتوحاته- من بعده- مدار جدل ونقاش بين جنرالاته، إلاّ أنّ الحضارة الهلنستية ظلّت مسيطرة على الإمبراطوريات الوراثية اللاحقة والتي امتدّت من بلاد فارس وحتى مصر، كما تابعت المدن التي بناها الاسكندر لاحقاً تطوّرها و ازدهارها محققةً نجاحاتٍ اقتصادية باهرة في ظلّ
" البطالمة الأوائلPtolemys " وأصبحت مدينة "الإسكندريةAlexandria" بمكتبتها ومتحفها من أهم المراكز الفكرية في العالم، كما احتلّ "سلوقسSeleucus "الذي كان حاكماً لمدينة الإسكندرية خلال نفوذ الإمبراطورية الشرقية السابقة كلاً من فلسطين وسوريا ووسط آسيا(تركيا في الزمن الحاضر) مُعلناً سيطرة المصريين ثانيةً على تلك الأقاليم، كما أسس مدينة "إنطاكيةAntioch " والتي أصبحت عاصمة سوريا لتسعة قرون لاحقة.
بدأت الحضارة الهلنيستية تتقهقر تدريجياًّ في الأقاليم الإيرانية، رغم أنّها كانت تتقدم ببطء في الأقاليم الشرقية، فبعد مائتي عام على وفاة الإسكندر، هُزم السلوقيّون على يد"البارانثييّنParanthians" الذين كانوا قبائل هائمة وهمجية، ورحّالة، يمتهنون السلب والنهّب، وقد جاءوا من المناطق المحاذية لبحر قزوين، وسرعان ما تأقلموا مع طريقة ممارسة السلطات الإغريقية لعملها، فأبقوا على اللغة الإغريقية المتُداولة- بالإضافة للغتهم الخاصة- كما بقيت عدة مدن "إغريقية سلوقية" تعيش حالة ازدهار، ولم يضعف تأثير الحضارة الهلنيستية إلا ّمع حلول القرن الأول بعد الميلاد.
كانت الهلنيستية في سوريا و فلسطين أكثر ثباتاً وتنوعاً- وكماكان متوقعاً فقد كان التأثير الحضاري أعظميّاً على سواحل المتوسط، خصوصاً، في مدينتي "اللاذقية LaodiceaوبيروتBerytus" اللتان تُعتبران نماذج مثالية للمدن الإغريقية، وبالمقابل، فقد بدأ تأثير الهلنيستية بالزوال في المناطق الشرقية لجبل لبنان وصولاً للصحراء السورية، وفي حقيقة الأمر، نجد بأنّ المنطقة بالكامل كانت مزيجاً من الحضارات الهلنيستية و الآرامية و السامية المتفاوتة في انسجامها فيما بينها، وفي كلا الإمبراطوريتين
( البطلمية و السلوقية) كان رؤساء الخدم والمُرشدين ورجال الأعمال والتلاميذ الموهوبين والمفكرين هم من الإغريق حصراً.
شجّعت الإمبراطوريتان الهجرة من اليونان، وقد شكّل المهاجرون- رغم قلة عددهم- الجزء المركزي لجيوشهم حيث انضمّوا في كتائب حملة الرماح، بينما كان رماة السهام والمقالع من العرب والأكراد و الفرس.
بعد أكثر من قرن على وفاة الإسكندر بدأت قوة الإمبراطورية الرومانية بالظهور، وبعد إيقاع الهزيمة بمدينة قرطاج عام211 ق.م أحرزت روما تقدماً كبيراً، وسيطرت على غربي المتوسط، الأمر الذي جعلها توجّه أنظارها نحو الشرق، فشنّت الغزوات المتلاحقة على اليونان، وتبع ذلك مائة و خمسين عاماًمن الحروب و الفوضى في منطقة الشرق الأوسط.
بدأ التناحر والتنافس في الإمبراطوريتين- البطلمية و السلوقية- يظهر في ظلّ إمبراطورية روما مفتتحتين بذلك عصر انهيارهما تدريجياً، وكما هو دائماً، فقد سارعت القوى المحلية في المبادرة لاستعادة مكانتها ومحاولة إثبات وجودها من جديد.
كانت جماعات اليهود في فلسطين- في تلك المرحلة – تتمتّع بقليل من الحرية في شؤونها التجارية في التلال المحيطة بالقدس، وكان الشعب اليهودي آنذاك ينقسم إلى طبقتين، الطبقة الأولى المثقفة بالثقافة الهيلينية، والتي تتّبع قوانين السلوقيين ودساتيرهم، وطبقة الفلاحين الذي تمسّكوا بعقيدتهم اليهودية.
في عام 168 ق.م أُصيب اليهود بصدمةٍ تاريخيةٍ سرعان ما تحولت إلى يأس واكتئاب وغضبٍ شديد بين صفوفهم وذلك عندما أمر الملك السلوقي"أنطونيوAntonio " بإقامة مذبح كبير للآلهة "زيوسZeus " في المعبد المقدس بالقدس، الأمر الذي دفع " يهوذا المكّابي"- الذي كان ابناً لأحد الكهنة- لإلهاب حماس وغضب اليهود من أجل التمرّد على الملك، وعلى الرغم من قتل يهوذا فإنّ عائلته أسسّت من بعده سلالة حاكمة من الأمراء الكهنة الذين بدءوا بنشر تعاليمهم و قوانينهم تدريجياً لتشمل معظم فلسطين، وقد نجحوا في ذلك نسبياً إبّان حكم الرومان وذلك عن طريق مجالسهم الدينية السرية، في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية السلوقية في طريقها للانحلال.
أنشأ "الأنباط Nabotaeans" مملكتهم في المناطق الشرقية المحاذية لفلسطين وجعلوا مدينة "البتراءPetra" عاصمة لهم في جنوب الأردن و"مدائن صالح" في الجزيرة العربية، وخلال القرن الثاني قبل الميلاد أصبحت مملكتهم مركزاً تجارياً مزدهراً وقوياً، ووصلت قوافلهم إلى عمق شبه الجزيرة العربية، كما سيطرت على طريق القوافل التي كانت تجلب التوابل من الصين والهند وتلك التي تنقل المزخرفات والعطور الثمينة من شبه الجزيرة إلى كل من سوريا ومصر.
كان الأنباط يتكلمون اللغة العربية، لكن كتاباتهم كانت بالآرامية، وثقافتهم وآدابهم هيلينية، ولا يزال الأردنيون إلى اليوم يعتقدون بأن الأنباط هم أجدادهم الأوائل.
بدأت القوات الرومانية – في تلك الآونة – تفقد تماسكها بسبب الحرب الأهلية والفوضى السياسية العارمة في روما، وفي عام 71 ق.م سيطرت حكومة الجنرالات الثلاثة"بومبايPompey وقيصرCaesar وكراسوسCrassous" على القيادة المركزية لتلك القوات، كما بدأ الجنرال "بومباي" بترسيخ القوة الرومانية في آسيا وسواحل المتوسط الشرقية، فقام بغزو سوريا و سيطر على القدس لكنه لم يستطع بسط القوانين الرومانية التي لم تكن قد استقرّت في تلك المرحلة بعد، مما أدّى لقيام "البارانثيين"بشنّ غارات عشوائية وهمجيّة على الفيالق الرومانية وهزموها فاستطاعوا بذلك من احتلال سوريا لفترة من الزمن.
بعد اغتيال القائدين" بومباي وقيصر"، تولّى خليفةالأخيرالإمبرطور"أوكتافيونOctavian"، والذي عُرف بالإمبراطور"أغسطسAugustus"، الحكم في الفترة الممتدّة بين عامي 29ق.م - 14 ق.م وقام بدمج منطقة الشرق الأوسط بالكامل تحت لواء الإمبراطورية الرومانية بدءا ًمن مصر وحتى حدود آسيا الوسطى _ ما عدا إيران و العراق اللتان بقيتا تحت سيطرة البارانثيين – وقد تجاهل الإمبراطور"أغسطس"مطالبة جنرالاته له من أجل الانتقام للفيالق الرومانية التي هُزمت على يد البارانثيين، وفضّل العيش بسلام من أجل تأسيس أقاليم شرقية جديدة للإمبراطورية الرومانية.
تمتّعت بعد ذلك منطقة السواحل الشرقية للمتوسط ووسط آسيا وسوريا ومصر بحياة هادئة ومستقرّة ولعدّة قرون في ظلّ حُكم الأيقونة المسيحية الرومانية، حيث ساد العدل والانسجام مع القوانين الرومانية، وفُرض نظام جباية الضرائب، وأصبحت مصر مركزاً غذائيّاً هامّاً للعاصمة الإمبراطورية، وقاعدةٍ عسكريةٍ للجيوش الرومانية، واستطاع الرومان تطهير البحر الأحمر من القراصنة، كما انتعشت أعمال التجارة إلى الهند.
كانت مصر المستعمرة الرومانية الأكثر إحساساً بالظلم لكونها تخضع لحُكم القبضة الحديدية للحكومة الرومانية وتدفع ضرائب باهظة، وقد تمكّنت الطبقة اليونانية الحاكمة – وبالتعاون مع القوى المستعمرة – من الحصول على امتيازات خاصة في تلك المنطقة، لكن أهالي وادي النيل والدلتا احتشدوا بكثافة، في ظل تلك الظروف القاسية، واضعين أنفسهم تحت إمرة الحكومةالمركزية آنذاك.
أمّا في سوريا، فقد كانت القوانين الرومانية أكثر مرونةً و راحةً، وبخاصةٍ، في القسم الشرقي وبالتحديد"النصف السامي للمنطقة"حيث سمح الرومان بنفاذ القوانين المحلية وذلك من أجل احتفاظهم بالحكم الذاتي المستقل شريطة أن لا يمتّد طموحهم ليهدّد المناطق المأهولة في الغرب، وتشبه القوانين التي طبّقها الرومان بشكل غير مباشر، وإلى حد بعيد، القوانين التي نفّذتها الإمبراطورية البريطانية حين سيطرت على آسيا و إفريقيا بعد ثمانية عشر قرناً على ذلك.
استمر الأنباط في بسط نفوذهم على مناطق شرقي الأردن ودمشق حتى عام 106م بعدما غضب الإمبراطور"تراجانTarjan"من تنامي سيطرتهم واستقلاليتهم، فقام بإجبارهم على الخضوع لروما بالقوة.
أصبحت مملكة تدمر- الواقعة في الصحراء السورية- بعد قرن على ذلك، تضاهي مملكة الأنباط تفوقاً وازدهاراً اقتصاديا، معتمدةً على قوتها في السيطرة على طريق القوافل التجارية المتوجّهة شرقا، وقد شجّع الرخّاء الاقتصادي والقوة التي كانت تتمتّع بها المملكة إلى الحدّ الذي جعل الملكة
" زنوبياZanobia تتحدّى السلطات الرومانية التي سرعان ما كبحت طموح واستقلال تلك الملكة وهزيمتها.
أما في المناطق الساحلية المتوسطية الغربية لسوريا فقد كانت مدنها اليونانية الساحلية المزدهرة، والتي أُنشئت في زمن السلوقيين، أكثر اندماجاً بالإمبراطورية الرومانية، كما كانت الطبقات المثقّفة التي تقطن في هذه المدن تؤلّف فيما بينها تركيبةً خصبةً من الحضارتين السامية و المتوسّطية وتعيش حالة سباق فكري وعقلاني بقصد الوصول لتكوين نخبة مميزة من المفكرين، وقد استطاعوا الاختلاط والاندماج بسهولة مع طبقة الموظفين في مراكز التوظيف الروماني _ التي كانت حكراً على المتعلّمين و المثقّفين – وحصلوا على حق المواطنة الرومانية، كما استطاع العديد من الأطباء والحكماء والمؤرّخين ورجال الأعمال السوريين _ بغضّ النظر عن الشعراء والفنانين _ من تأسيس طبقةٍ مميزةٍ ذات شهرة واسعة، وبالمقابل أنشأ"المصريون الهيلينيون" طبقة مشابهة في مصر، وأصبحت مدينتي إنطاكية والإسكندرية من أضخم و أرقى المدن _ بعد روما _ في الإمبراطورية كلها.
في الوقت الذي كانت فيه اللغة اللاتينية هي اللغة الرسمية للحكومة، فإنّ اللغة الإغريقية كانت هي اللغة المحكية، وقد تعاقب على حكم الإمبراطورية في ذلك العهد أباطرة سوريون- ولابد من الإشارة إلى إمبراطورين مشهورين من مدينة حمص وهما" كاراكلّلاCaracallaوإلاجابولوسElagabolus" وعلى الرغم من أنهما كانا ذي شعبية قليلة، إلاّ أن الإمبراطور"كاراكللاّ" كان يتمتع بحق منح امتياز المواطنة الرومانية في طول الإمبراطورية وعرضها، وفيما بعد، وتحديداً في عام 212 م تولّى عرش الحكم الإمبراطور" فيليب العربيPhillip" الذي امتاز بمرونته ونضاله الطويل من أجل استرداد سمعة سوريا ومكانتها المرموقة خلال فترة حكمه الوجيزة.
من جهة ثانية، وعلى الرغم من الامتزاج العرقي بين المدن، فإنّ التمييز العنصري واللغوي عاد للظهور بين سكانها، وبين أهالي الريف ورجال القبائل، فاللغة في سوريا آرامية، والبدو وأشباه البدو يتكلمون اللغة العربية، كما أن اللغة المصرية القديمة كانت لغة غالبية سكان مصر، أما في فلسطين فإن تضارب الثقافات وتعددها كان أكثر كثافةًً على الصعيدين الفكري والاقتصادي.